Monday, May 14, 2007

رب الزمان - القمنى(1)ا

رَب الزمَــــــــــــان
ودراسات أخرى












المحتويــــــــــــــــــــات

الإهــــــداء 1
مقدمــــة 2
إسرائيليات 4
الرد على خطاب شامير في مدريد 5
ضمـــير العالـــم 7
العـــلاج النفســـي 9
التزوير في الخطاب 11
الديـــن والعنصـــر 13
الجـــانب الحقـــوقي 16
يهـــود فلســـطين 17
شـــالـوم 18
العصـــر السعـــيد 20
الدين والتطبيع في فيلم المهاجر 22
تلفيق لا يليق 22
صدمــة الذاكـــرة 23
حضارة مـوت 25
روايــة التــوراة 26
ورواية جوزيفيوس 28
أحـبوا إســرائيل 31
المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ 32
الإسرائيليون يدخلون مصر 33
الإسرائيليون يخرجون من مصر 34
ماذا يقول التاريخ؟ 36
نبوءات التوراة لمصر 39
فلســطين وإســرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟ 41
موجـات الهجـوم 42
ماذا تقول التوراة؟ 42
مصداقية التوراة وخلل التاريخ 44
إشكالية تبحث عن حل 46
محاولــة حــل 47
قدماء العرب والإسرائيليين 50
الخط العبري في الجزيرة 51
أصول العرب العدنانية 53
مـعــارك فكريـة 56
هل بنى الفراعنة الكعبة؟! تصحيح مغالطات 57
موجــز الأمــر 58
الآلهة المصرية 59
التوحيد والتعددية 62
مغالطـــات 65
رمسيس يؤمن أخيراً 67
عفاريت التراث .. وتراث العفاريت 70
امرأة بألف رجل 70
زنوبيـــــا والجــــــن 71
لماذا دائماً سليمان؟ 72
تاريخ العجول 73
حكاية المنهج 74
الرد اليسير على توراة عسير 76
أساس الكتاب 78
مشكلة اللغة 80
نماذج لغوية مقارنة 82
المنهج والنظرية 86
وشواهد أثرية أخرى 90
التوحيد العسير 93
حتى لا نفسد تاريخنا ..قليل من العقل وبعض من الضمير 96
وعــــم الرخــــاء 97
بنوا أمية وعثمان 99
المحرضون الحقيقيون 100
محمد الغزالي وسقوط الأقنعة!! 102
حريـــة الاعتقـــاد 102
الجمـــوح 103
التهديد بالقتل 104
يا أبا العزائم نظرة! 106
منهج الخطاب 107
اللواء يلوي الكلام 109
الظـروف الاجتماعية 110
ما بين "القمني" وهذا المترجم! 113
الصاهينة مرة أخرى (؟!) 115
رواية هذا الترجمان 116
زيارة الترجمان للصعيد 117
حقوق الترجمان 119
مقــالات ودراســات 122
حول الحاجة لتحديد المفاهيم 123
القطعية التاريخية والمعرفية 124
تاريخية النص 126
حول مفهوم التراث 128
التاريــــخ العــــبء 129
نحو فهم آخر 130
"النص" بين الأزلية والتاريخية 132
استخدام نفعي 133
ســــر الأزمــــة 134
التناقــــض 135
كشف الخدع فيما جاء به الخطاب الديني من بدع 137
ذبح المفكرين على الطريقة الإسلامية 141
منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية 148
الحج في العقائد القديمة 149
محجات الجاهليين 151
الكعبة المكية 152
الحج في الجاهلية 154
مكانة الكعبة في الجاهلية 156
الحج في الإسلام 158
العرب قبل الإسلام: العقائد ... والتعدد ... والأسلاف 161
التعدد في العبادة 161
عبـــادة الأســـلاف 162
المستــوى المعــرفـي 163
معــارف العصــر 164
المعــارف الـدينيــة 165
المعالــم الأدبيــة 167
النثــر المســجوع 167
المعلــم الشــعري 168
الخطابـــة 169
المسـتضعفون 170
فقــراء العــرب 170
الصـــعاليك 171
العبيــد 172
الأســـاطير 172
أســاطير المــاء 172
أســاطير السمــاء 173
أســاطير البشــر 174
أنمــاط الــزواج 174
النكــاح لأجــل 175
أنكحة في عداد الزنى 175
أنكحـة بالعــرف 176
مكانــة المــرأة 177
الشــكل الأرقــى 177
الشــكل الآنــي 178
التحليــل التاريخــي 179
العامل الموضوعي ووضع المرأة 179
ظاهــرة الــوأد 180
الوضــع الطبقــي 181
الحــب والــزواج 182
اختيــار الــزوج 182
زواج الغـــريب 183
الطـــلاق 183
متى ظهر العرب في التاريخ؟ 184
العرب في نصوص الرافدين 185
العــرب فـي التــوراة 186
العرب في النصوص اليونانية والرمانية 187
البحــر الحمــيري 187
العرب في الهيروغليفية 188
رب الزمـــان 190
(آن) رب السمــاء 190
(آن) رب المكــان 192
من (آن) إلى (فعلان) 193
قصة الخلق بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر 196
تأسيس 196
ســيادة الأنثــى 199
تدعيــم رؤيتنــا 201
الأنثـــى والأرض 204
الخلق في الفهم الذكري 206
المرأة في المأثور الديني والأسطورة 208
حــريم وحــرام 208
إمرأة: الأصل أسطوري 211
الإله من أنثى إلى ذكر 212
ســر الأســماء المقدســة 215
مقدســات البيئــة 215
الرقـــم (7) 216
أصــل الأســبوع 218
الــــرقم 12 219


الإهــــــداء
صديقي:
أحمد صبري إبراهيم أغا
كُنْتَ متشدداً في أمور الدين، وكثيراً ما كُنْتَ تعترض على منهجي في تجديد قراءة التراث، وتتوقع لما أكتب هزمية منكرة، لكنك رحلت قبل أن ترى المنهج يصبح مدرسة، ولو كنت حياً لفرحت من قلبك، فأنا أعرف الناس بك، أعرف كيف كنت تحب الله والزهور وأفلام الكارتون، والنبي وسيدي (أبو العباس) والروايات الكلاسيكية، أعرف كيف كنت تحب طين مصر وشم النسيم ورياح الخماسين والحديقة اليابانية، والمتحف المصري وأم كلثوم وصديقنا التشكيلي (توران) البوذي، كذلك (بيكار).
برحيلك أيها الإنسان رحل صديقي الطفل الرائع، الأبيض الناصع، الذي آمن بالله صدقاً فأحب الأرض والناس، وعاش من أجل الناص، طبق الأصل: مصري حقيقي ممن كنا نعرفهم أيام زمان.
كنت تكره منظر الدماء حتى لو كانت ذبحاً حلالاً، وتفرح من قلبك عندما ترى عاشقين، وتحزن بعمق لخبر عن كارثة أصابت بشراً على الشاطئ الآخر من بحر الظلمات، ثم كنت تنصت بكل جوارحك لمحدثك رغم أنك كنت تخالفه حتى النخاع، ولم ترد على من لا يعلم إساءته، لأنك كنت أعلم بقيمة الإنسان.
أخي يا إنسان: اسمح لي أن أقترب منك بهذا الكتاب كتبت نصفه وأنا بمستشفى القلب بين الموت والحياة أحاول به التماس الدفء بالتّماس مع ذكراك حتى آتيك أنيساً ورفيقاً.
سيد

مقدمــــة
قارئي ..
أيها الصديق الرائع ..
بك أمتلئ وأشعر صادقاً أني كثير وقوي.
لقد قَـدَّر زماننا أن يفرزنا، فنحن فرز حراك واقع تلك الأيام، لذلك كان حتمياً أن نلتقي هذه الحقبة تحديداً، وهو الفرز المطمئن الذي يدفع إلى التفاؤل، رغم الفرز غير المطمئن على الجانب الآخر، لذلك أؤكد لك أنك وراء استمرار هذا المشروع، وبك، وبأصدقائنا –أنا وأنت– من المهمومين بقضايا الأمة والحاضر والمستقبل، الذين يتابعون معك ومعي خطواتنا الثابتة الواثقة، أقول: بكم جميعاً يستمر العمل على دأبه دؤوباً.
أصدقاؤك رفاق تلك السطور، يلتقون بي في كل موطن، في الندوة، في الشارع، في عواصم عربية متعددة، كثيراً ما تحدثنا، واستمعت بالشغف ذاته لما يطرحونه، لكنهم كانوا جميعاً يحملون لي سؤالك: أين كتاب النبي موسى؟ وماذا تم بشأنه؟ بعدما انصرمت سبع سنوات على الإعلان عن بدء البحث فيه، ولما يظهر بعد؟
نعم أيها الصديق، لقد طالت الشقة، لكني أصدقك القول: إن العمل لم يتوقف فيه لحظة، إلا عندما سقط الجسد صريعاً منهوك القلب، ورغم الظروف الصحية التي تلابسني دون رحمة، فقد عدت إلى النبي موسى متابعاً العمل لأوفيك وعداً تواعدناه، ومع تلك المصارحة، يجب أحاطتك علماً أن هناك عدداً من المشاكل لم تحل بعد، ويحتاج كشف آلياتها واكتشاف حلولها بعض الوقت، وبعض الصبر من جانبك.
ومن هنا –وكي أحافظ على حرارة التواصل بيني وبينك– فقد ارتأيت أن أواصلك كتابين، ألهما هو الجزء الثاني من (حروب دولة الرسول)، والكتاب الذي تحمله بين يديك الآن وبحمل عنوان (رب الزمان).
و(رب الزمان) هو عنوان لواحدة من الدراسات التي تضمها دفتا هذا العمل، حيث يحتوي كتابنا هذا على أسام ثلاثة: القسم الأول منها مجموعة دراسات يمكن أن تحمل جميعاً عنوان (إسرائيليات)، لتعاملها مع المنظومة الإسرائيلية وثقافتها وخطابها المعلن، أما القسم الثاني فيضم بعض المعارك الفكرية، ارتأيت أن أجعلها متاحة لك من باب التوثيق ليس إلا، حيث انتهيت مؤخراً إلى قرار بعدم الدخول في ذلك النوع من المعارك الذي يثيره أصحاب الأدلوجة السلفية، مستفيدين في ذلك مما آذى رفاقاً لنا كبار، فاكتمال المشروع أو المحاولة المستمرة في الإضافة إليه، هدف يجب ألا يضيع في صراعات قد تقبر الأمر كله.
وما دمنا بصدد التوثيق، فقد غامرنا بنشر بعض الدراسات الأولى والابتدائية هنا، وهي من محاولاتنا المبكرة التي لاشك تحمل سمات الحالة الأولية، ونماذج لها دراسة (منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية)، ودراسة (رب الزمان)، وغيرهما.
ثم قسم ثالث يضم مقالات ودراسات تتضفر مع منهجنا وخطواتنا التي ارتسمناها وتوافقنا عليها منذ البدء.
وغني عن التنويه، أن بعض ما ستقرأه هنا قد سبق نشره في دوريات عربية متباينة، وبعضه الآخر لم يسبق نشره، وقد كتبته إبان تواجدي في جناح القلب بمستشفى الهرم، واعتمدت في معلوماته على ذاكرتي وحدها، لذلك لن تجد لمثل تلك النماذج هوامش أو مراجع مدونة.
أضع هذا الحشد بين يديك أيها الصديق، من أجل مزيد من التلاحم بيننا، راجياً أن أكون قد عوضتك عن انتظارك –ظهور كتاب (النبي موسى)– بوقت مشحون بالقضايا التي يثيرها هذا الكتاب.

سـيد القمنـي
الهرم في 20/10/1993








إسرائيليات



الرد على خطاب شامير في مدريد *
يعنينا هنا أن نؤكد، أن كلمة (شامير) التي ألقاها على المؤتمرين بمدريد في 31/10/1991، تشكل نموذجا – لا شك – مثاليا تماما للخطاب الصهيوني عامة بمنطقه ومحاوره الأساسية، فرغم الظروف التي القيت فيها كلمة إسرائيل، في ظل ضعف عربي عام وشامل، مهما سار العربان متبخترين، وتحت مظلة من السيطرة الأمريكية شبه الكاملة، ومع الاقتدار الإسرائيلي المتفوق على كافة المستويات، والذي لا يجادل فيه إلا مكابر، فإن كلمة شامير كانت على ذات الخط، وذات الدرجة، وذات القدر الذي كان الخطاب الصهيوني يراعيه دوما، ودون أن يحيد عنه أنملة. فراعت الكلمة بشكل ذكي وليس جديداً، أنها تلقى في ظرف عالمي، يتحدث عن نظام جديد، يزعم للدنيا أنه يسعى لإرساء قواعد السلام والأمن والمحبة على الكوكب الأرضي. وإن شاء فرض ذلك فرضا، وبخاصة في أشد مناطق العالم سخونه، حتى لو ثوى الجمر مؤقتا تحت رماد ظاهري، تصنعه أنظمة تابعة. كما لم يغب عن بال الخطاب أنه يتحدث إلى العالم كله، وأمام كل الشبكات الإعلامية الدولية. فوضع بحسبانه مشاعر الجماهير العريضة على تنوعها واختلاف توجهاتها، فجاءت صياغة الخطاب واضعة باعتبارها أنها كما لوكانت تخاطب كل فرد على حدة. ومن ثم فإننا نفترض أن الخطاب قد أحاط تماماً بكل الاغراض المطلوبة منه، واستخدم كل الممكنات من أساليب متاحه تتناسب مع المقام، وعمد إلى كل طرق الإقناع وعرض قضيته كاملة تامة شاملة مانعة، بهدف كسب أكبر تأييد جماهيري ممكن، حيث أنه حاصل سلفاً على تأييد النظام الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، واتباعها الأوربيين. وعليه، فإننا سنتعامل مع كلمة شامير في مدريد كمعبر صادق عن الخطاب الصهيوني، وسنحاول قراءة طبيعة هذا الخطاب ومكوناته وأغراضه ومناهجه، بعرض سريع قدر ما تسمح به المساحة المتاحة لعرض تلك القراءة.
والمدقق في الخطاب يمكنه أن يلحظه وهو يتحرك على عدة محاور، تم ربطها ببعضها في منظومة شديدة الجودة، ثم تركيبها معا بتقنية ومهارة عالية، فكان المحور الأساسي للحركة جيئة

* نشر بتاريخ 22/12/1991 و30/12/1991، بصحيفة مصر الفتاة.
(من صـ 11- 26 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
وذهابا. ومركز الحركة، هو التركيز على الاستجابة النفسية للجماهير، فقدم افتراضه المسبق لهذه الجماهير بأنه يخاطب كل واحد منهم كشخص متحضر، بلغ من الحضارة قمتها، وهذا وحده لون من تملق المستمع لكن بحيث يترك في نفسه أثراً مطلوباً. هو أن الخطاب يتعامل معه بكل احترام، لأنه شخص متحضر حتى لو لم يكن المستمع يستحق هذا الاحترام، أو يحوز تلك الدرجة الحضارية. لكنها على آية حال الطريقة المثلى لجعل المستمع يتجاوب مع كم الاحترام وكم الحضارة المفترض فيه! وهكذا فقد سلم الخطاب للمستمع أنه رجل متحضر، مسالم، ينفر من الحروب، يريد الرفاة لجميع الأمم وكل الشعوب، بلا استثناء، يرفض التعصب بكافة أشكاله، وينفر من الاضطهاد على أسس عرقية أو دينية، بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة.
وبإيجاز، فالخطاب يفترض في المتلقي ليبرالية ملائكية، ومن هنا كان الكسب الأول المطلوب، على المستوى السيكولوجي، هو أن يقول للمتلقي أنت متحضر، ولهذا نحن نحترمك ونثق في حكمك على ما سنقول، حتى لو كان هذا المتلقي وغداً أمريكياً، استمتع يوما بحرق الأطفال في ملجأ العامرية في بغداد، وتعامل مع أزرار طائرته وقنابله وضحاياه، بحسبانها من ألعاب (الآتاري) التليفزيونية. هذا ما كان عن المحور الأساسي (التأثير النفسي) في طبيعة الخطاب الإسرائيلي، واستثماره أدوات منهجية، أهمها المعاني النظرية البحته للتحضر، بغض النظر عن كون هذه المعاني حقيقة فعلية أم لا. (وهو ما يذكرنا برئيس دولة عربية يجد غاية لذته في السخرية من مستمعيه، ومن سلوك أبناء شعبه!).
أما المحور الثاني، الذي ترتبط حركته بحركة المحور الأول، فهو الذي يركز على الجانب الحقوقي! وهو لا شك أهم أعمدة التعامل بين المتحضرين، ويتم فيه تأكيد الحقوق التاريخية الثابتة لليهود في أرض فلسطين من آلاف السنين. وهنا يتداخل المحور الثالث على نفس الميكانيك، لينقل الأمر الحقوقي المسلم به حضاريا إلى اليد الإلهية، منتقلاً بذلك إلى المحور الديني، فتلك الحقوق قرارات إلهية، وهبه سماوية، واختيار أحكم الحاكمين الذي فضلهم على العالمين (؟!) وهو القرار الذي يؤمن به إلى جانب اليهود، العالم المسيحي الغربي كله، وذلك باحتساب التوراة صاحبة ذلك القرار الحقوقي القدسي، بعهدية (القديم أو التوراة، والعهد الجديد أو الاناجيل) مع البصمة التأكيدية، والقول التوثيقي على الناموس التوراتي، بلسان المسيح (ما جئت لانقض الناموس. ما جئت لأنقض. بل جئت لأكمل) وهنا، وبسرعة يتم إدخال المحورين الحقوقي والتاريخي، مع المحور الإيماني الديني على ميكانيك الحركة المحورية الأساسية (النفساني) لتتشابك الحلقات التي تؤدي إلى راحة ضمير المؤمن المسيحي الغربي تماما. والمتحضر جدا، إزاء مساهمته بالموافقة على تأمين حياة هؤلاء المؤمنين، لتحقيق كلمة الله الصادقة الثابتة، مع ما يفترض في المستمع المتحضر من رغبة في إثبات تحضره، بتأمين كل الحقوق، لكل العقائد والديانات، مهما اختلف معها.
ضمـــير العالـــم
ولإحداث الأثر المطلوب من المحور الأساسي (النفساني) فقد ترك الرجل أثراً طيباً فعلاً؛ فكان رقيق الحاشية، عف اللسان، وديع كالحملان، يمد يده إلى جيرانه يستديهم الصداقة والآمان، رغم أنه الأقدر والأقوى. لكنه من جانب آخر قام يردد (أن الموضوع ليس موضوع أرض، أنه موضوع وجودنا ذاته) فأي لون من التنازل يعني دمار شعب إسرائيل المسالم (!) وإزالته من الوجود. وذلك في ضوء المقارنة التي قدمها لتعداد شعب إسرائيل (4 ملايين)، مع من حولهم من عتاة القتلة المتعطشين للدماء، وعددهم (170 مليون عربي) مع ضآلة مساحة أرض إسرائيل التي تستدعي الشفقة (27 ألف كم)، وسط محيط عربي شرس يبلغ (24 مليون كم). والحجة على المستوى النفسي، مع تغييب الحقائق الأخرى، تبدو غاية في الوجاهة. يبدو فيها شعب إسرائيل بطلا للخير يدافع عن وجوده وسط غابة من البشر، مما يستدعي مشاعر الاشمئزاز من العرب الذين يستأسدون على الدول الوديعة!
وقد عمد الخطاب – بذكاء – إلى استحضار مشاعر أخرى تمتزج مع مشاعر الاشمئزاز، عندما ذكر أن كل عدوان عربي على إسرائيل تم دحره! فتمتزج مع المشاعر الأولى مشاعر الاحتقار أيضاً مع الاستهانة والاستخفاف، من شأن أجلاف البوادي، الذين يتحينون فرصة لا يجيدون حتى صنعها والوصول إليها. رغم ذلك فالرجل يمد يده إلى جيرانه أمام كل العالم ويشرح ما وقع على شعبه من مظالم، وذلك في قوله: (وللأسف فإن الزعماء العرب الذين كنا نود مصادقتهم، رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية .. وانطلاقا من تحدي الشرعية الدولية، فقد حاولت الدول العربية احتلال وهدم الدولة اليهودية).
وهكذا يختفي الفلسطينيون تماماً ويصبح العرب – بلا سبب مفهوم أو واضح – يريدون تدمير إسرائيل المسالمة، التي تسعى لصداقتهم وحسن جيرتهم، لذلك أصبحت المسألة ليست مسألة أرض، إنما مسألة وجود شعب إسرائيل، وسط الحشد العربي الشرير! ومن ثم عمد الخطاب مباشرة إلى الضغط على ضمير العالم، بمأساة الشعب اليهودي، الذي لاقى صنوف الاضطهاد. وأنه قد آن الأوان كي يصحو ضمير العالم، ليرد لهذا الشعب أبسط الحقوق، وهي الأمن. بل ويطلب من اليهود الصفح والمغفرة، (أسنا عالما يدعي التحضر؟) ومن هنا أخذ التاريخ في كل القارات تقريباً .. وتعرض اليهود للاضطهاد والتعذيب والذبح. وشهد هذا القرن خطة إبادة نفذت على أيدي النظام النازي، وهذه الكارثة والإبادة الجماعية المنقطعة النظير، والتي قضت على ثلثا شعبنا، تمت في واقع الأمر، وأمكن تنفيذها، لأن أحد لم يدافع عنا، فقد كنا بلا وطن، ولكن هذه الكارثة هي التي جعلت المجتمع الدولي يعترف بمطالبنا، القائمة على حقنا في أرض (إسرائيل) وهنا تجدنا مضطرين إلى تأجيل تناول المحورين (التاريخي والديني) لنحاول أن نفهم الآن: كيف أمكن للمذابح النازية ضد اليهود، أن تؤدي إلى اعتراف العالم بحق إسرائيل في فلسطين، وقيام الدولة الصهيونية على أرضها؟ ونلاحظ أن الخطاب – بعد تهيئة المستمع نفسياً وعاطفياً – مع إشعال جذوة الضمير الحضاري وعقدة الذنب – ينتقل فورا إلى إعلان إنه رغم ظلم العالم لليهود، فليس لأحد حق الادعاء بقيام دولة إسرائيل، لأن ضحايا اليهود أيام النازي كانوا الثمن المدفوع سلفا، فقدموا أنفسهم قربانا على مذبح قيام الدولة. هذا بالطبع حق اليهود التاريخي الديني المعلوم في تلك الأرض، وكل ما في الأمر أن العالم ربما نسى تلك الحقيقة بعد طول اغتراب اليهود عن فلسطين، وما حدث من النازي كان فقط عامل الإنعاش للضمير العالمي الخاطئ.
الخطاب الصهيوني بذلك يعمد إلى لون فاضح من التزوير والتلفيق، فرغم أن المذنب هو النازي، فهو لا يذكر أبداً أنه ليس من المقبول حضارياً وحقوقياً وإنسانياً أن يدفع الفلسطينيون وزر الجريمة النازية، والمعلوم أنه في فلسطين تحديداً، وعندما وقع اضطهاد على اليهود كان بداية من جانب الرومان الذين دمروا الهيكل الثاني. وشتتوا اليهود في بقاع الدنيا، لأسباب تاريخية معلومة. أما الاضطهاد الثاني فقد جاء على يد الصليبيين، عندما استولوا على القدس عام 1099 وقاموا بحرق اليهود داخل معابدهم، مما أدى إلى هروبهم الجماعي من فلسطين، وهو ما وضح في سقطه لسانية بخطاب شامير عندما قال (إن اليهود كانوا موجودين باستمرار في فلسطين باستثناء فترة المملكة الصليبية القصيرة) لكنه بالطبع لم يذكر السبب، كما لم يذكر أن سبب تواجدهم بعد ذلك في فلسطين، كان نتيجة سماح صلاح الدين لهم بالعودة بعد استعادة العرب لها من يد الصليبيين.
أما إشارة الخطاب إلى أن كل شعوب العالم قد اضطهدت اليهود الذين عاشوا بين ظهرانيهم، فهو أمر يستحق الدهشة والتساؤل؟! لماذا تجمع شعوب مختلفة المواطن، متباينة المشارب والعقائد، على كراهية مواطنين مثلهم، ولكن من ملة اليهود؟! هذه فزورة لا يحلها إلى السيد شامير.
العـــلاج النفســـي
واللافت للنظر هو تركيز الخطاب الصهيوني الدائم، على الجريمة الهتلرية ضد اليهود، ففي كل (حدوته) وفي أي مناسبة (وبدون مناسبة) يتكرر ذكر المذبحة النازية لليهود التي اكتست بطابع ديني. بحيث لا يذكر هتلر، إلا وتذكر كراهيته للدين اليهودي وأتباعه. وأنه ما ذبح هؤلاء إلا لكونهم يهودا! حتى نسى العالم أن ضحايا النازية من غير اليهود قد بلغ ستين مليون إنسان، وأن الضحايا المدنيين فقط وصل عددهم إلى ثلاثة ملايين بولوني، وستة ملايين سلافي، وضاع ذكرهم وسط الضجيج والصخب الصهيوني، والندب والعويل على شهداء البشاعة البشرية من اليهود، والذين اتخذ موتهم طابعا قدسيا، كما لو كانت ضحايا هتلر من اليهود فقط! وأنهم فقط أصحاب حق في القداسة، وأصحاب حق في جلد ضمير الدنيا بالسياط، ووسيلة لكسب التأييد المادي والمعنوي. وإذا كانت هذه الجريمة كما يقول خطاب شامير بسبب صحوة الضمير العالمي لإقامة دولة إسرائيل، فلا شك أن الخطاب العربي الفاشل، كان وراء خمود ذات الضمير أمام إبادة وتشريد الفلسطينيين!! إضافة إلى العوامل الأخرى المتعددة، البعيدة عن موضوعنا هنا بشأن طبيعة الخطاب الصهيوني. لكنها على أية حال توضح لنا لماذا لم تقم دولة إسرائيل على أشلاء المانيا المنهزمة، وقامت في فلسطين؟
ثم يعمد الخطاب الصهيوني مرة أخرى إلى تشغيل المحور السيكولوجي، فبعد أن يعدد خطايا العالم في حق شعب الرب المختار! ويضع الضمير العالمي في حالة أرق، وشعور حاد بالذنب والخطيئة، فإنه يسارع متبرعا بتقديم العلاج النفسي والبلسم الشافي لذلك الضمير المعذب، حتى يكون الجميع ممتنين وشاكرين. فيربط الخطاب بين الاضطهاد النازي وبين الأشرار العرب الذين يكيدون للدولة الوليدة، ليضع النازي والعرب داخل إطار واحد، فيمتزج الشر العربي بالشر النازي، ويصبح العالم مسئولاً تماما المسئولية إزاء الشروع في الجريمة الجديدة، وأن يمنعها قبل أن تقع، وعلى الإنسانية أن تقوم بواجبها إزاء ما يمكن حدوثه، وهو ما يلقى صداه مع العقيدة المسيحية التي تقبل بفكرة الضحية، مقابل الفداء والخلاص. أو بالنص الإنجيلي الذي يضع مشروعية رفع الخطيئة (بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة).
والضحية موجودة والحمد لله، وعلى الفلسطينيين أن يقدموا الفداء لخطايا العالم، ويرفعوا الإصر عن ضميره اليقظ، لأن المسيح نفسه، وهو الإله، قد تمت تضحيته على الصليب من أجل راحة ضمير البشرية ورفع الخطيئة عن بني آدم، فهل الفلسطينيون أحسن من الله؟
وهكذا تجد البشرية الغربية المتحضرة المعذبة، التواقة إلى التكفير عن ذنبها – لكن بعيداً عن جلدها – خروفا يذبح بدلا منها، لتعود لتلك النفس راحتها، واتزانها وتماسكها، وهو ما أجاد الخطاب الصهيوني صناعته على الدوام، وباقتدار. ومن ثمّ تبرز إلى جوار طبيعة الخطاب التي تستهدف الجانب النفسي، مع استثمار المعاني النظرية لمفهوم التحضر، التي لا بد أن تنفر من الاضطهاد بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة، طبيعة أخرى تستثمر البعد الديني. فاليهود لم يضطهدوا إلا لأنهم يهود، ويصبح من المنطقي ألا يطلبوا التعويض ممن اضطهدوهم بأرض في أوروبا، لسبب ديني بسيط معلوم، هو أن أوروبا ليست أرض اليهود، أو كما قال موشى ديان لصحيفة لوموند في 5/10/71 (بما أننا نملك التوراة، وأننا شعب التوراة، فلا بد أن نملك أيضاً أرض التوراة).
وتتم المغالطة الكبرى بالخلط السريع للأوراق، ولا يبقى مكان في العالم يصلح لليهود، ومن حق اليهود، وترضى به النفس الأوربية المعذبة دون أن تخسر أرضا، سوى الوطن اليهودي الذي سلبه الفلسطينيون والأمر مشروع قدسياً بقرار إلهي بالكتاب المقدس المصدق وتلك إرادة الله الذي لا راد لقضائه.
التزوير في الخطاب
والوقوف مع الترنيمة المعذبة لليهود حول الجريمة النازية، يكشف لنا بعداً آخر بالخطاب الصهيوني، وهي وقفه للتذكير بمجموعة حقائق، تساعد على حل اللغز الذي طرحه السيد شامير، في قوله أن المذبحة الهتلرية، كانت السبب الحقيقي وراء قيام دولة إسرائيل!!
ربما مازلنا نذكر ما حدث في بغداد مع بدء الهجرة اليهودية المنظمة إلى إسرائيل، بتخطيط وإشراف الصهاينة، عندما تردد يهود العراق في قيد أسمائهم بكشوف الهجرة، فلجأت العصابات الصهيونية المسلحة إلى إلقاء القنابل على مركز التجمع اليهودي لإشعارهم أنهم في خطر، لدفعهم للهجرة إلى إسرائيل. وهو الحدث الذي تزامن مع حالات أخرى شبيهة في مواقع أخرى من العالم. كما تزامن مع بداية النشاط الفعلي للصهيونية العالمية. وكان أخطر تلك الأساليب هو ما حدث في المانيا النازية، في قضية إنجمان المعروفة. وما كشفت عنه د. حنا أرندت في كتابها (إنجمان في القدس)، وأوردت به مجموعة وثائق تثبت وجود تعاون وثيق بين السلطات النازية، وبين المؤسسة الصهيونية في فلسطين، وأن من بنود ذلك التعاون، أنه كان بإمكان أي يهودي ألماني أن يهاجر إلى إسرائيل، شريطة أن يحول أمواله إلى بضائع ألمانية. وقد قدم إنجمان مساحات من الأرض للصهاينة، كمعسكرات تجمع لليهود ولتهجيرهم بالإكراه إلى فلسطين.
أما ما حدث ليهود تلك المعسكرات، فهو البشاعات التي كشفت عنها قضية كاستنر، الذي باع يهود تلك المعسكرات للنازي، بالتعاون مع إنجمان، وهي من القضايا التي هزت إسرائيل، وكشفت أن زعماء الصهاينة وقيادتهم، قاموا بتجهيز أغنياء اليهود إلى فلسطين للحصول على الأموال، إضافة للعناصر الفعالة كالعلماء والشباب، بينما تركت في المعسكرات بقية اليهود من عناصر غير مرغوب فيها، وهو من تمت أبادتهم على يد النازي، بعلم القيادات الصهيونية وتعاونها، لكسب العطف والتأييد العالمي، وهو ما أدى بعد ذلك وبالفعل، إلى قيام دولة إسرائيل.
وبموجب الاتفاق، قام إنجمان بتأمين قطار خاص لحمل المهاجرين من النخبة المختارة الممتازة، ورافقهم بعض النازيين إلى الحدود لضمان سلامتهم، وقد قال كاستنر أن عددهم كان 1684 شخصا غادروا إلى إسرائيل، مقابل 476.000 تمت التضحية بهم في المجزرة، وهو الأمر الذي يفسر لنا تأكيد شامير على أن تلك المجزرة، كانت السبب وراء قيام إسرائيل.
وقد شهد على تلك المؤامرة الكبرى أحد القلائل الذين تمكنوا من الفرار من معسكر (أوشيتز)، هو (رودلف فربا)، وذلك في جريدة لندن ديلي هيرالد، عام 1961، بقوله (نعم أنا يهودي، لكني أتهم قادة اليهود بأنهم أبشع ممارسي الحروب، فتلك المجموعة كانت على علم مسبق بما سيحدث لإخوانهم في غرف الغاز النازية، ومن بينهم كاستنر رئيس مجلس يهود هنغاريا، وقد استقل عدد كبير من يهود هنغاريا الفقراء قطارات النقل طائعين دون مقاومة، لأنهم كانوا قد أخذوا تطمينات من القادة الصهاينة أنهم في طريقهم إلى الحرية، بينما كانوا يساقون إلى الإعدام). أما جريدة صوت الشعب الإسرائيلية فقد قالت في عام 1955 (إن كل أولئك الأشخاص، الذين ذبح الألمان أقرباءهم في هنغاريا، يعلمون الآن وبوضوح، أن قيادات الصهاينة هي التي دبرت الجريمة مع النازي).
ولما فاحت الفضيحة، وقدم كاستنر للمحاكمة في إسرائيل بضغط الرأي العامل لكشف الحقائق، عقبت صحيفة يديعوت أحرونوت في 1955 بقولها: (إنه إذا تم تقديم كاستنر للمحاكمة فإن الدولة برمتها ستنهار، سياسياً ووطنياً، نتيجة ما ستكشف عنه تلك المحاكمة)، ولم يمض قليل على بدء المحاكمة، حتى سقط كاستنر صريعا رميا بالرصاص من مجهول، وكشف بعد ذلك أن قاتله هو اكشتاين العميل السري في جهاز الموساد.
وكان السؤال هل من المعقول أن تقدم القيادة الصهيونية هذا العدد الهائل من اليهود للذبح؟ يجد إجابته أولاً في قيام الدولة، وثانياً شهادات منها شهادة (موشى شوايفر) مساعد كاستنر الذي قال بهدوء نعم كان يهود هنغاريا عدد كبيراً، لكنهم للأسف لم يكونوا يتمتعون بأي أيديولوجية يهودية.
أما قائد الهاجاناه (فايفل بولكس): فقد التقي بالنجمان في جروبي القاهرة، وأبدى رضاه التام عن سير التعاون اليهودي مع النازي كما هو مرسوم له (أنظر مجموعة وثائق التعاون النازي الصهيوني كالتون، أستراليا).
لكن السؤال الأكثر منطقية هو إذا كانت الجريمة النازية قد حدثت بالفعل، فلماذا تطوع النازي وسمح للنخبة اليهودية بالهجرة؟ والسؤال وجيه، لكن الوقائع تقول ما يفيدنا بإجابة مقنعة، لعلنا نذكر أن منظمة الأورجون اليهودية في فلسطين، قد قامت بإعلان الحرب رسميا ضد حكومة الانتداب البريطانية عام 1944. ونظمت نشاطات إرهابية متتالية ضد القوات البريطانية في فلسطين، وهو ما جاء في سقطة أخرى بخطاب السيد شامير في مدريد، في قوله: (لقد قامت الدولة اليهودية وتكونت، لأن الطائفة اليهودية الصغيرة بفلسطين أيام الانتداب، ثارت على الاحتلال الإمبريالي)؟! وسقطة السيد شامير هنا فاضحة، ففي الوقت المفترض فيه، أن اليهود يحاربون الألمان، وأنخم ضحية المجازر النازية، كان اليهود في فلسطين يقومون بنشاطات إرهابية ضد بريطانيا (؟!!) الأمر واضح تماما، تؤيده العلاقات غير الخفية التي قامت بين عصابة (شيترن) اليهودية بفلسطين، وبين إيطاليا الفاشية، وشنت بموجبها عددا من الهجمات الإرهابية على البريطانيين بفلسطين، أما مناحيم بيجن زعيم عصابة الأورجون، فقد وصل لفلسطين كجندي في الجيش البولوني لمقاتله النازية، ثم فر من الجندية، ونظم عصابته لقتال البريطانيين وقتل الفلسطينيين.
هكذا تمت الخطة الصهيونية على ثلاث محاور: محور يهود أوروبا، ومهمته قتال النازية لكسب تأييد الحلفاء، ومحور ألمانيا للتخلص من نفايات يهودية لا تؤمن باليهودية وحقوقها التاريخية، ليتم بها كسب عطف العالم والضغط على ضميره، في أشد الظروف العالمية توتراً. ومحور ثالث كان فيه صهاينة فلسطين يقدمون للنازي خدماتهم الجليلة، ويقاتلون بريطانيا لصالح دول المحور، تنفيذاً للاتفاق غير المعلن.
وهكذا تنكشف لنا أهم جوانب طبيعة الخطاب الصهيوني، وهو التزوير الفاضح، وتهديد ضمير العالم دوما بدم اليهود المسفوك، لأنه إذا كان (بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة)، فإن ناموس الصهيونية قد أكد (أنه بدون دم وسفك دم لا تقوم لإسرائيل دولة).
الديـــن والعنصـــر
وقد كان مناط احتجاج الخطاب الصهيوني في مدريد، هو أن (الزعماء العرب الذين كنا نود أن نصادقهم رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية). وهنا تحتشد مجموعة من المغالطات والتلفيقات، فالخطاب لا يذكر الأرض باسمها التاريخي الصادق (فلسطين)، إنما يشير إليها بوصفها (أرض إسرائيل)، هو ما يستدعي مجموعة تداعيات تاريخية، مع مداخلات تلفيقية تربط تلك الأرض بشعب واحد فقط، عاش مع مجموعة شعوب أخرى على تلك الأرض على مر العصور التاريخية، لكن بحيث يبدو أنه لم يكن هناك سوى شعب واحد هو الشعب الإسرائيلي.
والخلط مقصود، وينطلق من خلط أساسي في مفهوم الخطاب الصهيوني وأدلوجته، ما بين مفهوم العرق أو الجنس، وبين مفهوم الدين، بحيث يتداخلان ويصبح العرق دينا، والدين عرقا. كما يسمح بتداخل آخر مع التراث الديني للمسيحيين، بإجراء التطابق في الخطاب بمهارة علاقات التطابق الدائري في علم المنطق، أو أنظمة التكافؤ الرياضية. فالخطاب يتحدث عن رفض العرب (للدولة اليهودية)، وادعائهم أن (أرض إسرائيل) عربية فتتطابق هنا الدائرة الكلية لمفهوم (الدين اليهودي)، وتتكافأ مع الدائرة الكلية (لأرض فلسطين). لكن بعد حذف (فلسطين) ووضع (إسرائيل)، لتصبح فلسطين إسرائيل، ويصبح شعبها الوحيد هو الشعب الإسرائيلي، والدين الوحيد الذي تواجد فيها على مر العصور، هو الدين اليهودي وحده دون بقية الأديان.
والمغالطة الثانية تتضح في إشارته إلى من ناصبوا الدولة الإسرائيلية العداء. هم (الزعماء العرب). المسألة هنا طموحات من الزعامات، مع غزل رقيق للشعوب العربية، فنحن أصدقاء كشعبين، وأهل، وبنو عمومة. المشكلة فقط في طموحات الزعماء للتوسع.
أما المغالطة الثالثة فهي إجراء المطابقة السريعة بين مفهوم الدين اليهودي، وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، الذي عاش كقبيلة ضمن عدد كبير من الشعوب الأخرى – التي ذكرتها التوراة – في فلسطين، مثل الكنعانيين (الفلسطينيين)، والحيثيين، والعمونيين والأدوميين، والموابيين، والفرزيين، واليبوسيين ... إلى آخر القائمة المعروفة. ثم تجري المطابقة الدائرية مرة أخرى بين اليهودية كدين بعد أن أصبحت جنسا، وبين يهود اليوم المتناثرين بين جنسيات العالم على تفرقها، بحيث يظهر هذا الشتات غير المؤتلف كما لو كان جنسا واحدا، وعرقا بذاته، لمجرد أنهم يدينون بدين واحد هو اليهودي، بحيث تنطلي الأكذوبة الكبرى على جماهير الدنيا، تأسيسا على مدخل منطقي سافر التزوير، وعلى أساس ديني عقائدي، ينهض على أساس أسطورية، خلقت تتابعا عرقيا عنصريا بالكتاب المقدس لشعب إسرائيل القديم، بحيث يبدو يهود اليوم كما لو كانوا ينحدرون عن الآباء التوراتيين الأوائل، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وربما ساهم في ابتلاع البعض لتلك الفرية، خاصة المتدينين، هو انعزال أصحاب الديانة اليهودية عن غيرهم في كل المواطن التي عاشوا فيها، بحيث بدوا كما لو كانوا محافظين تماما على نقاء البذرة الإبراهيمية منذ ألوف السنين في أصلابهم الطاهرة، وهو افتراض يقوم على التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير، وهو ما لا تنطق به سيرة بنات اليهود، لا اليوم، ولا حتى في العصور التوراتية منذ البدء ... وباعتراف الكتاب المقدس ذاته.
وبنظرة سريعة عجلى على إصحاحات الكتاب المقدس يمكنك أن تجده يموج بالصخب الجنسي. ونموذجاً لذلك ما جاء به مع الرجل الأول في تاريخهم، البطرك إبراهيم، الذي حكى الكتاب عنه.
"فانحدر إبرام إلى مصر ... وقال لساراى امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر .. قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك، وتحيا نفسي من أجلك ... فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وإتن وجمال – سفر التكوين 21".وهكذا نجد البداية لا تبشر بخير، مع هذا الادعاء بالنقاء الجنسي على مر العصور. ولسنا هنا في مقام الدفاع عن نبي جليل، لكن المتابع للأسفار يجد النبي (إرميا) ينوح على تفشي الزنا بين بنات مملكتي يهودا وإسرائيل، ويقول: "هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل، انطلقت إلى كل جبل عال وإلى كل شجرة خضراء، وزنت هناك... ولم تخف الخائنة يهودا أختها، بل مضت وزنت هي أيضاً، سفر إرميا 30". "وصهلوا كل واحد على امرأة صاحبة.. إرميا 50"، بل أن الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه المختار "أرفع ذيلك على وجهك فيرى خزيك، فسقك وصهيلك، ورذالة زناك على الأكام، في الحقل رأيت مكرهاتك، ويل لك أورشليم، لا تطهرين حتى متى؟ إرميا 13". ثم ينادي مملكة يهوذا "زنيت على اسمك وسكبت زناك على كل عابر .. وصنعت لنفسك مرتفعات موشاه وزنيت عليها .. وصنعت لنفسك صور ذكور وزنيت بها ... وفرجت رجليك لكل عابر، وأكثر زناك، وزنيت مع جيرانك بني مصر الغلاظ اللحم الذين منهيم كمني الحمير، وزدت في زناك لإغاظتي ... وأسلمتك لمرام مبغضاتك بنات الفلسطينيين، الائي يخجلن من طريقك الرذيلة، أعطيت كل محبيك هداياك ورشيتهم ليأتوك من كل جانب للزنا بك، وصار فيك عكس عادة النساء في زناك، إذ لم يزن وراءك، بل أنت تعطين أجرة، ولا أجرة تعطى لك، فصرت بالعكس – سفر حزقيال 16".
وهذا قليل من كثير. وربما كان شبق بنات صهيون، الذي كان يدفعهن إلى الصهيل عند الوصال (بتعبير الكتاب المقدس)، وإلى صناعة ذكور صناعية لمزيد من الإشباع، ودفع الأجور للرجال، وهو الذي دفع دولة إسرائيل الحالية، إلى وضع قانون لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديا، إلا إذا كانت أمه يهودية، ومن ثم أصبح النسب اليهودي للأم لا للأب. ولو طبقنا ذلك القانون على (داود) مؤسس المملكة التوراتية القديمة، وعلى ولده (سليمان) أشهر ملوكهم، فسنجد الأول حفيد لامرأة تدعى (راعوث) لم تكن من بني إسرائيل جنسا ولا تدين باليهودية. بل كانت موآبية، أما سليمان فقد رزق به أبوه (داود) من امرأة حيثية، لا يهودية ولا إسرائيلية، وطبقا للقانون، فإن كليهما ليس يهودياً ولا إسرائيلياً، وإنما فلسطينيان، لأن الأمهات فلسطينيات.
الجـــانب الحقـــوقي
أما المغالطة الكبرى في كلمة السيد شامير فكانت في قوله إن الزعم بأن أرض إسرائيل أرض عربية مجرد ادعاء، فينتقل الخطاب إلى المحور التاريخي، أو (الحقوقي الديني التاريخي معا)، ليقول دون أن يرف له جفن: "إننا الشعب الوحيد الذي كانت أورشليم عاصمته، ونحن الشعب الوحيد الذي توجد أماكنه المقدسة فقط في أرض إسرائيل". ورغم ما في مقولة الأربع آلاف سنة من مغالطة تاريخية صارخة، ولا تمت للأمانة بصلة، ولأننا هنا في مقام قراءة طبيعة الخطاب وليس الرد بالوثائق، فإن الخطاب يريد أن يقول للجماهير ببساطة: إن بني إسرائيل (متطابقا معهم يهود اليوم) كانوا أصحاب أرض فلسطين من أقدم العصور التاريخية.
وما دام الرجل يتحدث كمؤمن صادق الإيمان، حريص على عقيدته ومحارم دينه. صادق العلاقة بتوراته إلى الحد الذي دفعه إلى ترك المؤتمرين في مدريد، ليقضي عطلة السبت متهجداً مع بني جلدته، فلا مشاحة في أن اختبار صدق الخطاب بالمطابقة مع الكتاب المقدس، يمكن أن يضع طبيعة ذلك الخطاب على محك المصداقية من عدمها.
وبالعودة إلى الكتاب المقدس نجده يحكي لنا أن إبراهيم أرومة اليهود، وأول رجل ذا شأن في تاريخهم، لم يكن فلسطينيا، إنما جاء فلسطين غريبا من بلد بعيد يدعى (أور الكلدانيين) في رحلة استغرقت خمسة عشر عاما. وعندما وصل فلسطين مع عائلته الصغيرة، يقول – الكتاب المقدس – "كان الكنعانيون جينئذ في الأرض – سفر التكوين 12"، وأن إبراهيم قد هبط ضيفا على ملك مدينة جرار المدعو إبيمالك، ويصف المقدس تلك الأرض بأنها "أرض الفلسطينيين – تكوين 21"، وأن أبيمالك كان "مالك الفلسطينيين – تكوين 26"، وعندما قتل أبناء يعقوب حفيد إبراهيم بعض الفلسطينيين بعد حالة زنى مع شقيقتهم، قال لهم يعقوب المعروف باسم إسرائيل "كدرتماني بتكريهكما أياي عند سكان الأرض الكنعانيين .. وأنا نفر قليل – تكوين 34"، وعليه لو سلمنا للرجل الحريص على محارم دينه يوم سبته. بأن الآباء التوراتيين الأوائل كانوا في فلسطين منذ أربعة آلاف عام، فإن مقدسه يؤكد أنهم دخلوها ضيوفا قليلي العدد على أهلها الكنعانيين (الفلسطينيين) بل كانت، فلسطين عندما وصولها ممالك ذات حضارة ونظام اجتماعي وسياسي، أما مهجر الأب الأول إبراهيم، وموطنه الأصلي، فقد أثبتنا أنه لا يقع ضمن المنطقة بكاملها وعلى الإطلاق، وإنما يقع في جبال أرارات بارمينيا، وذلك في كتابنا (النبي إبراهيم والتاريخ المجهول) وقدمنا بسبيل ذلك مجموعة من القرائن والبراهين، التي ستظل صادقة حتى تجد من يرد عليها ويدحضها، بأدلة أقوى، وقرائن تثقل كفتها، وحتى الآن لم يحدث ذلك، ولا نظنه بحادث في المستقبل المنظور.
يهـــود فلســـطين
وإعمالا لما قلناه، فإن طبيعة الخطاب الصهيوني كما هو واضح جلّي، طبيعة قبلية، لا ترى قبيلة غير قبيلتها، ولا تراثا مقبولا غير تراثها، ولا دينا صحيحا غير دينها، ولا صدقا إلا في توراتها، وكأن تراث الآخرين غير موجود، لشعوب عديدة عاشت في فلسطين، كان لها مقومات الشعب والعنصر والدين والحضارة والنظام الاجتماعي والسياسي، قبل قيام مملكة داود بأكثر من ألفي عام.
ولمجرد التذكرة، ومنعاً للإطالة، يكفينا ذكر أن الملك (داود) المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل التوراتية، حوالي 1000 قبل الميلاد، أقام دولته مستفيداً من توازن القوى بين القوتين العظميين حينذاك (مصر والرافدين)، فكون جيشا من أهل الأرض الفلسطينيين، وأقام لونا من الائتلاف ووحد القبائل في وحدة سياسية، وصهر الممالك الصغيرة معا، بل كان حراس (داود) أيضاً من الفلسطينيين، كذلك قائد جيشه، وسواء هو أو ابنه (سليمان)، فقد أقاما الدولة على أساس تعدد القوميات، ولم تقم أبداً كدولة ذات جنس واحد ودين واحد، والكتاب المقدس شاهد بذلك، وحتى لو أغفلنا كل ما سبق، وسلمنا للخطاب الصهيوني بالصدق التام، فإن مسألة جمع روس وألمان وبلغار وأمريكان وأحباش ... ألخ من مواطنهم، للإقامة في فلسطين بالحق التاريخي، لمجرد أنهم يهود، يجعل الأمر مزحة بشعة، ستظل وصمة، وربما بصقة في جبين هذا العصر إلى ما يشاء الله، لأنه بمقارنة شديدة البساطة، سنجد أن الحقوق التاريخية للهنود الحمر في أمريكا، أوضح من ادعاءات الخطاب الصهيوني في فلسطين لأن الهنود لم يكونوا أول من استوطن أمريكا منذ فجر التاريخ، بل كانوا الشعب الوحيد فيها.
إن طبيعة الخطاب الصهيوني إذن، تعتمد على عدد هائل من المغالطات والتمريرات، التي تبدو في ظاهرها صادقة الحقوقية (مع الخلط لمفهوم العنصر بمفهوم العقيدة)، وحتى لا يتيح الخطاب الفرصة لمقارنة يهود اليوم بآباء العصر التوراتي، فإنه يقفز فورا إلى تأكيد "أننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف نحو أربعة آلاف عام، لتستمر بالمطابقة بين مفهوم الدين والعنصر، لدعم محور الحق التاريخي، ليظهر الأمر كما لو أن اليهود فقط هم من عاشوا في فلسطين على مر العصور، أو على الأقل الجماعة الأكثر عدداً، لكن السائح اليهودي بنيامين الطليطي الذي زار القدس عام 1170 ميلادية، سجل أنه لم يجد في فلسطين بكاملها سوى 1440 يهودياً! كما لم يعثر اليهودي (ناحوم جيروندي) في زيارته لفلسطين عام 1257 إلا على عائلتين يهوديتين. أما الأطرف فعلاً أنه حتى هذا القرن نجد الشهادة في خطاب شامير تقول: "لقد قامت الطائفة اليهودية الصغيرة – ولاحظ الصغيرة – التي كانت تقيم بفلسطين تحت الانتداب، بالثورة على الاستعمار الامبريالي".
شـــالـوم
وأمام عدسات الأعلام العالمي في مدريد، لم ينس الرجل الشهم أن يبدي مروءته وأسفه وأساه على الفلسطينيين المشردين، بينما قنابله الجهنمية تدك مخيماتهم في لبنان، حيث قال بكل تراحم وحنان: "إنه لا يوجد يهودي واحد في هذا الزمان، يستطيع أن يكون غير مبال بمعاناة الفلسطينيين"، هذا رغم سرده لبشاعات العرب مدمجة ببشاعات النازي ضد اليهود، لكنه رأى من واجبه كرجل متحضر أن يعلن ذلك الأسى والحزن مع ندائه لجيرانه البرابرة حتى يظهروا كسبب فيما حدث للفلسطينيين: "أظهروا استعدادكم لقبول إسرائيل، إن التخاطب أفضل بكثير من سفك الدماء، فالحروب لن تحل قضية في منطقتنا، لكنها تسببت في المآسي والمعاناة والقتل والكراهية" – وهكذا فطبيعة الخطاب تشهد العالم: إن العرب يشردون الفلسطينيين بحروبهم، لأنهم يريدون قتلنا لمجرد أننا متدينون، إنهم يريدون أن يقتلوا رجلا يقول: ربي الله.
الخطاب مستمر – كما هو واضح – في التركيز على المحور النفسي والمشاعر الدينية المسيحية الأوروبية، التي تشهد بالحقوق التاريخية على أساس الشهادة المقدسة بالتوراة، هذا بالطبع مع صورة العربي المعلومة لدى الرجل الأوروبي، منذ تزييف تاريخ الأندلس، والحروب الصليبية، حتى صورة العربي الخليجي في حانات ومواخير أوروبا.
ومرة أخرى نعود للكتاب المقدس لنرى مدى المصداقية في الخطاب، وإلى أي حد يتطابق مع المقدس، ومع ما يحدث بالفعل بل بالقول، مسايرة للخطاب المتدين الحريص على محارم الدين، والحريص في الوقت ذاته على إقناع عقل العالم وضميره بحقوقه التاريخية.
يقول الرب (يهوه) في شريعته، مفصحا عن طبيعته وهويته، مفصحا عن طبيعته وهويته، التي لا تلتقي بحال مع طبيعة الخطاب الصهيوني، قدر ما تلتقى مع ما يحدث بالفعل "الرب رجل حرب – سفر الخروج 15"، لذلك كانت شريعة هذا المحارب السماوي تأمر عبيده الأتقياء بالأسلوب الأمثل للتعامل مع شعوب المنطقة، ومن تلك الشرائع إليك المقاطع اللطيفة الآتية:
- أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار – سفر العدد 13.
- اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة – سفر العدد 31.
- احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار – سفر التثنية 12.
أما الخطة المثلي في أوامر الرب، فهي أن يبدأ شعبه بدعوة الشعوب الأخرى إلى السلام والصلح، أو بالنص:
"حين تقترب من مدينة، استدعها للصلح. فإن أجابتك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وأن لم تسالمك بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كلها غنيمة تغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيد منك جداً، التي ليست مدن هؤلاء الأمم هنا – تثنية 20".
هذا عن المدن البعيدة، أما المدن القريبة: "فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها. تجمع أمتعتها إلى وسطها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها – تثنية 13".
أما المدن الفلسطينية فلها شأن آخر، إذ يأمر يهوه قائلاً: "أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبق منه نسمة ما – تثنية 20".
ومن هنا، وبمطابقة المقدس، فهو يتطابق تماما مع الفعل الصهيوني، لكنه لا يطابق الخطاب بحال. لكن الفعل بمطابقة المقدس إنما يصبح فعلا مقدسا ويصبح من تلك المقدسات تدمير وصور وصيدا ومذابح صبرا وشاتيلا وقبية وكفر قاسم ودير ياسين، ومجازر منظمة الأورجون البيجنية، وسفاحي الوحدة 101 التابعة لأريل شارون، فالأمر مقدس، لذلك هو نبيل وسامي، وباسم رسالة إسرائيل التوراتية يتم التعامل مع عرب اليوم، كما تم التعامل مع الكنعانيين بالأمس فقط تغيرت لغة الخطاب أما الفعل فمقدس، والمقدس خير وأبقى.
العصـــر السعـــيد
ثم يختم شامير خطابه وهو يبتسم سعيداً، استطلاعا للعصر السعيد الآتي، عصر الأمان والسلام لكل الشعوب الذي تنبأ به أشعيا وردد شامير نبوءته وهو يقول "فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمه على أمه سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد – أشعيا 2".
هذا فقط ما ذكره الرجل من كتابه المقدس، ليتطابق مع خطاب السلام، كي يبرز التطابق في الخطاب مع العنصر المقدس مع الحق التاريخي، إتباعا لكتاب يأمر بالسلام وينبئ بالسلام، فإشعيا النبي يتحدث عن اليوم الذي سيتم فيه صهر السيوف لتحول إلى محاريث ومناجل، ولا تكون هناك حرب بين الأمم إنما تعاون وسلام وإنتاج ورفاهية، لكن في أي مقام قال إشعيا نبوءته؟ الخطاب يصمت، وهنا فقط يذكر النبوءة منزوعة من سياقها، ليقدم مقدساته للعالم وهي تدعو للسلام، وبحيث يكون الرجل مستمرا على الدرب، ومكررا لدعوة أبطال العهد القديم من أجل السلام.
ومن المستحب في هذا المقام أن نتأسى برغبة شامير في استدعاء نبوءة إشعيا فنجدها تتحدث عن يوم يثبت فيه دين يهوه وحده في قمة جبل صهيون "وتجري إليه كل الأمم إشعيا 2"، لكن ذلك لن يكون قبل أن يحدث الآتي لبلدان المنطقة:
)لسوريا): هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم – إشعيا17.
)لمصر): في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود، وتكون أرض يهودا رعبا لمصر – أشعيا 17 – 19.
)لجزيرة العرب) بلاد العرب ... من أمام السيوف قد هربوا، يفنى كل مجد قيدار.. لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم – اشعيا 21.
)للبنان) وحى من وجهة صور .. ولوّلي يا سفن ترشيس لأنها خربت .. ولولوا يا سكان الساحل .. ورب الجنود قضى به لدنس كبرياء كل مجد .. أرضك كالنيل يا بنت ترشيش .. أيتها العذراء المتهتكة بنت صيدون .. ولبنان ليس كافيا للايقاد وحيوانه ليس كافيا للمحرقة – اشعيا 23، 40.
)للعراق) أنزلي وأجلسي على التراب أيتها العذراء ابنه بابل، اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنه الكلدانيين، لأنك لا تعودين تدعين ناعمة ومترفة .. تنكشف عورتك وترى معاريك .. أجلسي صامته وأدخلي في الظلام يا أبنه الكلدانيين لأنك لا تعودين تدعين سيدة الممالك – اشعيا 47. والآن:
ترى هل حقق الخطاب الصهيوني القديم أغراضه، بفعل أصحاب الخطاب الصهيوني الجديد؟ سؤال لا يجيب عليه إلا الزعماء العرب المؤتمرين في مدريد .. يحلمون بنبوءة إشعيا بالعصر السعيد.

الدين والتطبيع في فيلم المهاجر *
بينما كنت أجري جراحة القلب بأمريكا، بدأ عرض فيلم المهاجر، وبدأت أيضا التداعيات حوله. وصلني بعض ما كتب حول الفيلم، وفاتني الكثير، وتابعت القضية حتى انجلى الأمر وتمكنت من مشاهدة الفيلم بعد إعادة عرضه وآثرا التريث قليلا حتى تهدأ العاصفة لتفسح مكانا للعقل. وإبان متابعتي لما تكبته الصحف السيارة والمجلات، طالعت عدداً من وجهات النظر بعضها كان يهاجم بحجة أن الفيلم عمد إلى تشويه الشخصية المصرية والتاريخ المصري لصالح الصهاينة! والبعض الآخر كان يهاجم، لأن الفيلم في رأيه كان دعوة صريحة للتطبيع مع دولة إسرائيل، هذا ناهيك عن المهاجم الأساسي الذي وقف مؤسسيا وراء فرد رفع دعوى ضد الفيلم. باعتباره يجسد شخصية النبي يوسف، وسط أحداث وحوار لا يليق بشخصية النبي. وتأسيسا على هذا الموقف، تأسس موقف آخر على النقيض تماما، وقف إلى جوار المخرج والفيلم بدون تحفظ، منطلقا من حق الفنان في طرح ما يراه دون أية قيود، وتم إبان ذلك خلط كثير من الأوراق المتناقضة، بحجة أن المسألة هي مستقبل الثقافة في مصر، وأن المبدعين والمثقفين قد أصبحوا في مواجهة تيار سلفي شديد الجمود والنصيّة.
تلفيق لا يليق
وبداية لا يمكن هنا بالطبع أن نلقي بالا إلى الاتجاه الذي أدان الفيلم لمجرد أنه يشخص الأنبياء. كما يجب في هذا الإطار أن نتجاهل أيضا وتماما ردود المخرج وحوارييه ومؤيديه، الذين أخذوا يؤكدون أن الفيلم لم يقصد تصوير قصة النبي يوسف كما وردت في القرآن الكريم، إنما دارت أحداث الفيلم على نحو مشابه لقصة ذلك النبي. لتتخذ من عبرة القصة نموذجا وقدوة ومثلا أعلى للشباب، للثبات أمام المغريات الدنيوية والشهوات البهيمية كما ورد في صحيفة الدفاع. وتجاهنا هنا لتلك الردود يعمد إلى المصداقية بعيداً عن لعب كل من الطرفين لكسب القضية القانونية وقضية الرأي العام بأي أوراق ممكنة حتى لو كانت فاقدة المصداقية.

* نشر بتاريخ 1/5/1995، بصحيفة العربي.
(من صـ 27- 36 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
ومن ثم سيكون من التلفيق غير اللائق بل ومن الغباء، ألا نرى في الفيلم قصة الأب الإسرائيلي التوارتي (يوسف بن يعقوب بن اسحق ابن إبراهيم) التي قدمت بوضوح شديد، مع بعض التحوير الطفيف هنا وهناك لتلافي ما يمكن حدوثه من عواقب إزاء المفاهيم السائدة، ولتلافي ما قد يطرأ من مساءلة قانونية لإيجاد عدد من المخارج الممكنة عندما تبدأ ردود الفعل. ومن نماذج ذلك تقديم عدد إخوة بطل الفيلم (رام)، المفترض أنهم الأسباط إخوة يوسف في عدد مخالف لما قدمته التوراة، أو مثل تحوير موقف إلقاء يوسف في بئر (جب) إلى إلقائه في الحجرة السفلية لسفينة مصرية لكن فتحة الغرفة كانت موحية تماما بالبئر أو الجب، هذا إضافة إلى مخالفة السيناريو والقصة للخاتمة التوراتية، فتتم عودة بطل الفيلم من مصر إلى بلاده البدوية رغم موت بطل القصة التوراتية وتحنيطه ودفنه في مصر على الطريقة لمصرية، حتى يمكن بذلك إيجاد المخرج بالقول: إن الأمر مجرد رؤية فنية تجسد رحلة المخرج وهجرته إلى أمريكا ثم عودته إلى بلاده، وأن الأمر فقط كان استلهاما لبعض المواقف النبوية إزاء المغريات الدنيوية.
وربما جاز للمشتغلين بالنقد افني أن يضعوا لنا مصادرة في شكل مقدمة ثابتة لا تقبل نقاشا، وهي أنه لا يجوز التعامل مع الفيلم إلا بالمعايير الفنية وحدها، فالفيلم فيلم وليس بحثا تاريخيا، أو عملا فقهيا، لكن الحال هنا سيختلف تماما مع فيلم المهاجر لعدد من الأسباب الواضحة والمهمة التي لا يمكن تجاوزها لصالح الموقف الفني وحده حيث اشتبك الفيلم مع عدد من المسائل شديدة الحساسية وتداخل معها إلى الحد الذي لا يسمح بالوقوف عند أدوات النقد الفني وحده ومعاييره في التعامل مع الفيلم وقد جاء اشتباك الفيلم مع غير الفني على ثلاث مستويات.
صدمــة الذاكـــرة
المستوى الأول هو مستوى الحالي – الآني – الراهن .. حيث بدأ التطبيع العربي مع الدولة الإسرائيلية يسير حثيثاً مع متغيرات كبرى بالمنطقة، (واختيار قصة يوسف بن يعقوب) تحديدا في هذا الوقت، وبالصورة التي عولج بها، تحمل أكثر من علامة استفهام حول مقاصد الفيلم الذي تلامس مع ما يريده، في نقاط التقاء كاشفة واضحة، في أكثر من لقطة وأكثر من ترميزة.
فالعجز الجنسي لقائد الجند المصري يكشف عن وجهه الآخر عن القول المآثور بحاجز نفسي، أضافه إلى أنه يعبر عن عجز القوة والقدرة إزاء الشاب المهاجر القوي المليح وعلاقته بالزوجة الشابة. ثم كانت زراعة الصحراء بوضع يد المصري في يد المهاجر الغريب التي تشي ببساطة بنصيحة واضحة: لنضع أيدينا مع بعضها ... نزدهر وننتج ونخضر الصحاري. وهو الأمر الذي لا يمر دون التأكيد عليه في الحوار، فهذا المزارع المصري (أوزير) يتعاون مع (رام) المهاجر في زراعة الصحراء، وعندما يتقدم (رام) ليشكره يجيبه المصري "كلنا محتاجين لبعض"؟! أو في نص آخر بالحوار ينضح بالغرض المفصح في استهجان (رام/يوسف) للمصريين الذين لم يبلوه مواطنا رغم طول إقامته بينهم ويلقي باستنكاره هذا مفصحا عن إجابة السؤال: كيف لا نقبل إسرائيل بيننا بعد جيرتها لنا زمنا؟
على أية حال هذا مستوى من مستويات الاشتباك مع الراهن، يوعز بأنه ربما تأسس بشكل ذكي وخبيث على نص ديني، بحيث يفضح (يوسف شاهين) بقصد أو بدون قصد مدى التناقض الذي يقع فيه (القوموي العروبي) مع نفسه عندما يؤمن بعقائد تسلم بهذه القصة التي تسفه المصريين تماما وتاريخهم لصالح الإسرائيليين، وتجعل من الإسرائيليين الحكمة كلها والطهارة كلها والعفة كلها وتجعل من المصريين رموزاً للحمق والشهوانية والدنيوية الفجة.
إن الفيلم يضع العقل العروبي أمام تناقضه، فهو يؤمن بأديان تدين تاريخ المنطقة القديم لصالح التاريخ الإسرائيلي بينما يرفع شعارات النضال والتحرير من النهر إلى البحر!! إن الفيلم يصنع هنا ما يمكن تسميته (صدمة الذاكرة) أو صدمة الإيمان لأولئك الذين لم يحاولوا حتى الآن فك الاشتباك بين الديني والقومي. وإذا كانوا يرفضون التطبيع يظاهر وعيهم فإنهم يؤسسون القومي لديهم على الديني، والديني أشد تطبيعا وطراوة مع بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين.
ولا أحد يكابر أن المأثور الإسلامي كمثال كان دوما إلى جانب الإسرائيلي ضد كل حضارات المنطقة فكان مع يوسف بن يعقوب وموسى بن عمران وبقية بني إسرائيل ضد مصر وحضارتها وشعبها وحكامها، وكان مع شاؤول/طالوت أول ملك إسرائيلي، ومع داود مؤسس الدولة الإسرائيلية، ضد جالوت/جوليات البطل الفلسطيني الذي مات وهو يدافع عن أرضه ضد الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني لبلاده. وكان مع أبيهم إبراهيم أرومة القبيلة العبرية ضد العراق القديم وحضارته ممثلا في شخ ملكها النمرود. وكان مع البدو العبران جميعا ممثلين في جدهم الأسطوري سام بن نوح ضد كل حضارات المنطقة ممثلة في حام بن نوح وأبنائه كنعان الفلسطيني ومصرايم المصري ونمرود العراقي.
حضارة مـوت
إن الوسيلة التي استخدمها الفيلم كانت شديدة الذكاء، لكن الغرض والهدف كان إلى جانب إجابة واحدة فقط على السؤال الذي يحتمل إجابات أخرى كثيرة. ومن ثم كان الفيلم يتساءل: إذا كان هذا هو ما نؤمن به فلماذا نتناقض معه؟ ... لماذا بصريح العبارة لا نطبع إذن؟ غافلا عن إجابة أخرى أصر عليها كاتب هذا المقال دوما تتمثل في ضرورة فك الاشتباك بين الديني والقومي إذا أردنا الاتساق مع أنفسنا ومع قضيتنا ومع آمالنا الوطنية والقومية.
وهكذا كانت التلمحيات والترميزات الواضحة مدعاة للوقوف مع تلميحات أخرى يمكن أن يرى فيها المشاهد العربي بخاصة المصري في الظرف الراهن لونا من تسفيه الإنسان المصري صاحب الحضارة التي شاخت في – فيلم شاهين – وأخذت في التهاوي إزاء العبراني الطموح المتوثب للمعرفة والعلم. وعليه جاء الفيلم بتركيزه على القول: إن حضارة المصريين قد تم (تكهينها) وأن مصر قد حبست علومها داخل الجدران المسحورة للمعابد، وتحولت من حضارة حياة إلى حضارة موت، لا تهتم إلا بالتحنيط وبما بعد الموت. وكانت مشاهد (حرق الزرع) تصويراً لشعب أنعم الله عليه بالنهر والخصب، لكنه كان شعبا همجيا، يحرق آلاف الأفدنة في صراعاته، بينما رام العبراني يكرس حياته ليزرع سنبلة في الصحراء (؟!) أما تركيز الفيلم على الأقزام وإيداعهم أمانه لدى رام، فكان رمية أخرى موجعة للمصري القزم إزاء العبراني الأمين، هذا ناهيك عن الرمز الواضح في تحويل النهر نحو الصحراء لزراعتها، وكيف أمكن لرام بذلك الفرع الضئيل أن يزرع الصحراء.
وكان على شاهين أن يدرك أن المشاهد العادي لا يعلم أن القزم كان محببا في بيوتات الارستقراطية المصرية، وكانت تلك البيوتات تستجلبهم من أفريقيا للخدمة البيتية والترويح الفكاهي، حتى جعل المصريون للأقزام إلها هو الإله القزم (بس). ونعم كانت العلوم داخل المعابد، وونعم اهتم المصري بالتحنيط وبالموت اهتماما عظيما، وكان يمكن أن يمر ذلك بهدوء، باعتباره تصويراً للحياة المصرية في الزمن القديم، لكن أن يتم ذلك داخل إطار قصة إسرائيلية تتحدث عن تفوق الإسرائيلي الطموح في قصتها الأصلية أو في الفيلم فهو أمر آخر لا يمكن معه افتراض حسن النوايا!
ومن ثم يلقي الفيلم برؤيته (التطبيعية) في عمق التاريخ وفي أصول الدين ليجذرها، فيركن بدهاء إلى القصة الدينية التوراتية التي وزّرت يوسف خزانة المصريين، ويقدم لنا (رام) مكتشفا لأسلوب تخزين الحبوب في سنوات الجفاف التي استبدلها بحرق المحاصيل، ليذهب إلى ما هو أبعد من التطبيع. أنه يلمّح إلى إدارة المنطقة بالعقل الإسرائيلي المتوثب المتفوق! عندما يسلم قائد الجند لرام جنوده وبلاده وأرضه ليكون أمينا على خزائنها ومستثمرا لها وراعيا!
مرة أخرى نعود إلى أسباب التعامل مع الفيلم على مستويات غير المستوى الفني وحده، في اشتباك الفيلم على مستو ثان مع الديني والإيماني، وعندما فعل ذلك خرج من دائرة الفني وحده، حيث جعل مرجعيته ملكية عامة لجماهير المؤمنين في الأديان الشرق أوسطية الكبرى الثلاثة، فشخ يوسف بن يعقوب مقدس في اليهودية باعتباره أحد آباء القبيلة الإسرائيلية الأوائل، وهو مقدس في الإسلام لذات السبب بحسبان المسيح بدوره من ذات النسل الإسرائيلي المبارك. ثم هو مقدس في الإسلام لذات السبب، ثم لسبب آخر هو أنه أضاف ليوسف صفة النبوة، وهي ليست ملكية عامة فقط، بل ملكية مقدسة، ومن ثم فقد خرج الفيلم من دائرة الفني ليخوض في الديني، فوضع نفسه في موقع التعامل معه على هذا الأساس. ليس هذا فقط، بل أن الفيلم اختار لنفسه رؤية دينية دون أخرى، فحدد لنفسه بذلك موقفاً من الروايات الدينية حول يوسف، وهو ما يضعه أما مسئولية اختياره.
روايــة التــوراة
والوضاح تماماً أن المخرج حتى لا يقع في مأزق المحاكمات الإسلامية، فقد ركن إلى الرواية التوراتية حول الأب يوسف، بدليل إيراده المنمنمات وتفاصيل لم يذكرها القرآن إطلاقاً، وإنما ذكرت تفصيلاً في التوراة، وذلك مثل قصة رئيس الشرطة (فوطيفار) الذي اشترى يوسف الموصوف بجمال فاتن، والحب الشديد من (فوطيفار) ليوسف الصبي، ومن ثم لجأت التوراة لتطويش فوطيفار ووصفه بأنه كان خصي فرعون، وهو ما لم يذكره القرآن الكريم إطلاقاً.
وكم كان بإمكان السيد شاهين أن يتلافى كل ما حدث في المحاكم، لو طلع على المشاهدين بتقرير واضح يقول: "هذه قصة يوسف بن يعقوب، أحد الآباء الإسرائيليين الأوائل وعلاقته بمصر – كما جاءت بالتوراة، ولا علاقة للفيلم بقصة يوسف النبي التي وردت بالقرآن الكريم، لكن المخرج ورط نفسه، إن كان قاصداً الإثارة التي حدثت، أم غير قاصد، بوضعه لافتة إعلانية في مقدمة فيلمة باللغة العربية تؤكد أنه لا علاقة للفيلم بالنبي يوسف، وتحتها مباشرة لوحة أخرى باللغة الفرنسية تؤكد أن هذه القصة قصة البطرك يوسف.
ويبدو أن المخرج قد أراد أن يوصل للمشاهد، أن تلك قصة الأب يوسف، لكن بشكل غير مباشر، ولأن أغلب المشاهدين مسلمون بالضرورة، فقد عمد إلى خلط بعض المفاهيم الإسلامية بالراوية التوراتية، مما أثار عليه المتأسلمون وأوجبوا محاسبته، وهو بسبيل ذلك أوقع نفسه في أكثر من ورطة وأكثر من خطأ حقيقي. فبينما قد اختار الرواية التوراتية، نجده يضع على لسان بطل قصته عبارات تعبر عن مفاهيم وعقائد إسلامية، لا علاقة لها بالمفاهيم التوراتية ولا عقائدها. وذلك مثل قول رام المعبر عن الإيمان بإله واحد أحد هو رب العالمين، وهذه سقطة لا تليق بمخرج يراه البعض أهم مخرجينا وكان عليه أن يلجأ في ذلك للمتخصصين كي يعلم، فالمعلوم لدارس التوراة بالمنهج العلمي أن التوراة زمن البطاركة الأوائل: إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحق، وولد إسحق يعقوب، ثم أبناء يعقوب الأسباط الأثنى عشر وضمنهم يوسف، تتحدث عن زمان كانت فيه القبيلة العبرية لم ترتق بعد إلى مفهوم التوحيد الإسلامي الذي ساقه شاهين على لسان بطله رام، حيث كان التقديس والعبادة توجه إلى (إللوهيم) أي الآلهة، وهو اسم الجمع للفظ الجلالة السامي المفرد (إيل) أي الإله. ومن هذه الآلهة ما وردت بأسمائها في سفر التكوين التوراتي، مثل: إيل صبأوت، وإيل يراه، وإيل شداي، والإله القدير، وأدوناي، وغيرها، كما تمثل كبار الآلهة لإبراهيم في ثلاثة شخوص، ثم جاء بعد ذلك إله آخر زمن موسى هو الإله (يهوه) الذي لم ينف الآلهة الأخرى بل أوجب على الإسرائيليين تقديسه وحده دونهم، وكان الخطاب الموسوي في التوراة ليهوه يقول: "من مثلك بين الآلهة يا رب"؟!
وربما لم يقصد شاهين تلبيس الرواية التوراتية، بمفاهيم إسلامية، إنما التبس عليه الأمر، مع التطور المتأخر للمفاهيم الدينية اليهودية، زمن الأنبياء المتأخرين حزقيال ودانيال وإرميا، حيث بدأ هؤلاء ينحون نحو توحيد يهوه وحده وتنزيهه، فظن شاهين أن الأمر كان كذلك منذ البدء.
ومثال آخر على الالتباسات التي وقع فيها السيد شاهين، قوله على لسان رام بطل الفيلم، بما يشي بإيمان يوسف بن يعقوب بعالم آخر تخلد فيه الأرواح، وأن الجسد الذي يعمد المصريون تحنيطه ليس أبداً قيمة في مسألة الخلود، وهنا خلط ما بعده خلط، وخبط ما بعده خبط! لأن الإسرائيليين الأوائل منذ فجر تاريخهم وحتى القرون الأولى للميلاد، لم يعتقدوا إطلاقاً في خلود للروح في عالم آخر، وأن الشعب الأوحد في ذلك الزمان الذي ابتدع فكرة الخلود من بعد الموت، والبعث والحساب أمام موازين العدالة الإلهية، هو الشعب المصري وحده مطلقاً ودون شريك، لذلك عمدوا إلى تحنيط الأجساد حتى تجد فيها الروح سماتها المادية عند البعث، فتعود وتتلبس جسدها المحنط استعداداً للحساب الأخروي، وهو ما ركز عليه الفيلم واعتبره حطة في المصريين!! وقد مرت تلك الفكرة بأطوار عدة شرحناها في كتابنا (أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة) ولم يدخل عليها أي تطور بعد نهاية العصور الفرعونية.
ولما جاءت المسيحية وأخذت بعقيدة الخلود، استبدلت فقط رب الخلود المصري (أوزيريس) بيسوع المسيح، ثم جاء الإسلام فأقر عقيدة الخلود، ولم يخرج عن التصور المصري للبعث والحساب، فقال بضرورة عود الروح لتتلبس بالجسد، وكان الفارق هو أن المصري القديم اهتم بتحنيط الجسد لتجد الروح قسماتها فيه، بينما اعتبر الإسلام أن فناء الجسد ليس مشكلة بعد تطور مفهوم الألوهية في إله كلي القدرة، حيث يصبح بامكانه الكلي أن يحي تلك العظام الرميم مرة أخرى، وهو اعتقاد سبق تطويره والقول به في الزمن السابق للإسلام بجزيرة العرب، وهو ما تفصح عنه أشعار الجاهليين حول الخلود والحشر.
أما التوراة فلم تقل أبداً ببعث أو حساب ثم خلود زمن البطاركة، زمن يوسف، ولا بعد ذلك بقرون طويلة تصل إلى الألف عام، حتى زمن أنبياء التجديد عند انهيار مملكتهم. وقد ظهر الاعتقاد في عالم آخر آنذاك بتأثير العقائد المصرية والفارسية في فلسطين في العصر الهلليني الروماني، المعروف بعصر الآلام، حيث بحث اليهود عن تعويض وسلوان في عالم آخر، ومن هنا يظهر مدى فساد الحوار في فيلم السيد شاهين.
ورواية جوزيفيوس
وعليه فقد التبست كل تلك المتداخلات على السيد شاهين، فخلط وخبط خبطاً عشوائياً. ليوقع نفسه
والآخرين في مأزق كان في غنى عنه لو درس الأمر بشكل أفضل، المهم أنه ساق الأمر كله في ثوب تاريخي أسهمت فيه الكاميرا والديكورات بعامل الإبهار، لنعيش جوا مصريا فرعونيا على مدى زمن الفيلم. هذا بينما التاريخ كعلم لا يعرف في وثائقه المدونة ولا في حفائره الأركيولوجية، على الإطلاق، شخصاً باسم يوسف، ولا جماعة باسم الأسباط ولا صديقاً للإله باسم إبراهيم، ولا نبيا باسم موسى، ولا عظيم باسم داود، ولا حكيما حاز شهرة فلكية مُلّك على مملكة أسطورية باسم سليمان. فكل تلك الأسماء الإسرائيلية لا يعرفها التاريخ كعلم، فقط حكاها لنا كتاب مقدس باسم التوراة في كتاب العهد القديم، وآمن بها المسيحيون من بعد اليهود عبر كتاب مقدس آخر هو العهد الجديد، ثم علمناها إيمانا عبر الكتاب المقدس الأخير القرآن الكريم.
لكن ذلك لم يفت في أعضاد المؤرخين، خاصة من أرادوا أن يجدوا لبني إسرائيل موطئ قدم في التاريخ، وقد بدأت تلك المحاولات مبكراً على يد المؤرخ اليهودي يوسف بن متى المعروف باسم (جوزيفيوس)، الذي ألقى بتاريخ القبيلة البدوية الإسرائيلية في عمق أعرق تاريخ المنطقة، تاريخ الشعب المصري، وهي الرواية التي ركن إليها السيد شاهين واختارها دون روايات أخرى ومحاولات اجتهادية تاريخية أخرى، حاولت البحث التاريخي وراء المأثور الإسرائيلي، وهو الاختيار الذي يجب أن يتحمل مسئوليته لتتم بموجبه محاكمة ما ساقه، ليس على المستوى الفني وحده، ولكن أيضاً على المستوى التاريخي.
وحتى نضع بيد القارئ أصول المسألة، نقف وقفة نحيطه معها علماً أن (جوزيفيوس) كتب عدة مؤلفات تتعلق بتاريخ الإسرائيليين، منها كتاب باسم (ضد آبيون)، وكان آبيون هذا مؤرخاً يكره اليهود كراهية شديدة، ووصفهم بكل ما هو خسيس، وأفاد أنهم دخلوا مصر عبيداً جوعى ثم طردوا منها، بعد أن تفشت بينهم الأوبئة الناشئة عن عدم النظافة والعلاقات الجنسية غير السوية، ولم يتعلموا أي شيء متحضر من المصريين، مما أدى لطردهم خشية تفشي الداء في البلاد.
وهنا قام اليهودي (جوزيفيوس) يرد على (آبيون) ليقول: إن بني جلدته دخلوا مصر ملوكاً لا عبيداً، وأنهم من عرفهم التاريخ باسم الهكسوس، وأنه استقى ذلك الخبر من المؤرخ المصري (مانيتون) الذي عاش حوالي عام 300 قبل الميلاد، وأنه بعد الثورة التي قام بها (أحمس) ضد الهكسوس، أخذ منهم عدداً كبيراً من الأسرى، عاشوا عبيداً في مصر بعد ذلك حتى زمن الفرعون (آمنوفيس / آمنحتب الثالث) وولده (إخناتون). حيث قام هؤلاء العبيد بثورة ضد الفرعون (أمنوفيس) هربوا على إثرها من البلاد، وهو الهروب الذي سجلته التوراة في سفر الخروج وقد اتضح لنا اعتماد يوسف شاهين على تلك الرواية من إشارته في فيلمه إلى دخول (يوسف بن يعقوب/رام) إلى مصر زمن الفرعون (آمنوفيس/آمنحتب) وهذا قول (جوزيفيوس) اليهودي وقد تعمد أن يظهر خلف الفرعون (آمنوفيس) شخصاً يشبه إلى حد بعيد ولي عهده إخناتون، وجعله يتصرف بطراوة جعلته يظهر في حالة ميوعة أو تخنث ألقت في روع البعض آنذاك مزيداً من تشويه المصريين، لكن شاهين كان يريد القول إن ذلك الشخص تحديداً هو (إخناتون)، لأن تلك كانت صفاته الناتجه عن مرضه العضال، إن شاهين كان طوال الوقت يريد التأكيد على وجهة نظر تاريخية بعينها، هي وجهة نظر (جوزيفيوس).
ولكن الأكثر أهمية هنا، هو أن شاهين وهو يأخذ برواية اليهودي (جوزيفيوس) وحدها، ويستبعد ما عداها، وقع في أكثر من خطأ حتى في فهم ما قال (جوزيفيوس) حيث أن (جوزيفيوس) جعل دخول اليهود مصر مع يوسف هو دخول الهكسوس، زمن فرعون باسم (توتيمايوس)، وأن طردهم من مصر تم زمن الفرعون (أموزيس/أحمس)، وأن من بقى منهم أسيراً بمصر تم استعباده حتى خرج زمن الفرعون (آمنحتب الثالث) وولده (إخناتون) ولم يفهم السيد شاهين أن هناك فارقا زمنياً طويلاً بين الدخول والخروج، وأن الدخول عند (جوزيفيوس) جاء في زمن قديم، وأن قصة الدخول إى مصر كانت قصة يوسف، أما الخروج فهو قصة موسى زمن آمنحتب وولده (إخناتون) فيما يزعم (جوزيفيوس)، وكان موسى حفيداً بعيداً للسبط لاوي شقيق يوسف بع زمن بعيد من الدخول.
وهكذا خلط شاهين بين أول القصة وأخرها، وخلط بين يوسف وموسى، وبين الفرعون (توتيمايوس) وبين الفرعون (آمنحتب) وولده (إخناتون) وكان الأولى به ما دام قد قرر أن يخوض غمار التاريخ ويتبنى وجهة نظر دون أخرى، أن يجهد نفسه في المعرفة، أو يرجع لذوي الاختصاص، كما يفعل الفيلم الأوروبي والأمريكي عند التعرض لمسائل من هذا النوع، لكن السيد شاهين احتسب ما لديه من معارف كافيه للتعرض لمثل هذا الأمر الكبير، فطرح ما تصوره حلولاً لاشكاليات عميقة أدت به إلى أخطاء عظيمة، فلم يصل إلى مواقف صحيحة، لا على مستوى الديني، ولا على المستوى التاريخي، بل إنه حتى لم يوفق على عرض وجهات النظر التي انحاز إليها عرضا أمينا كما حدث في تناوله لتاريخ (جوزيفيوس).
أحـبوا إســرائيل
وأثناء ذلك عنّ للسيد شاهين أن يضيف للقصة الدينية ملمحاً تاريخياً تصور أنه يرفع من شأن جماهير الشعب المصري فصور ديانة الإله آمون، وقد أصبحت ديانة دولة متجبرة ظالمة، وأن إرهاصات الثورة الشعبية ضد الفرعون والحكومة قد بدأت، وأن الشعب المصري قد آمن بديانة التوحيد الآتونية، فقام بثورة جماهيرية ضد الحكومة وضد الإله آمون لصالح آتون الواحد، وقدم قمة العمل في مشهد مبهر لجماهير الشعب وهي تكسر تمثال آمون العملاق، متصوراً بذلك أنه يمنح جماهير المصرية مزية معرفة الإلة الأوحد.
وبما أننا نعلم أن إخناتون هو صاحب ديانة التوحيد الآتونية، فالمعنى أنه كان يتآمر على أبيه آمنحتب الثالث مع الجماهير الموحدة، وهكذا يتحول المصريون نحو التوحيد بتولي إخناتون للحكم بعد نجاح الثورة الآتونية ويتحول نظام الحكم المصري من العداء للعبرانيين ممثلين في رام، إلى أحبة وأشقاء في حب الله الواحد، فهذا موحد، وهذا موحد، والشعب موحد، فلماذا لا يكون هناك توحد؟ وفي مشهد مؤثر ينزل الفرعون إخناتون من عرشه ليحي رام وهو عائد إلى أهله بحب شديد، ويزجيه عبارات المودة والتقدير. والمغزى مفهوم والهدف واضح، حيث خالف السيد شاهين كان ما تعارف عليه علم التاريخ لصالح الراهن التطبيعي؟! ولعب فيه لصالح الهدف المرتجى، ليلتقي الموحدان بالوجد والإيمان، إخناتون ويوسف، ليلقي بظله على الحاضر، ووحدوا الله وصلوا على النبي، وأحبوا بعضكم بعضا، ويا موحدي العالم اتحدوا، فبعضكم مسلم موحد، وبعضكم يهودي موحد، وكل من له نبي يصلي عليه.

المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ *
من استهلاك الوقت أن نتحدث عن مصر في التاريخ، والكلام بشأنها من نوافل القول، فشأنها معلوم وأنشر من أي حديث، حتى أصبح من فساد الرأي أن يؤرخ باحث لأي علم من العلوم دون الرجوع إلى أصول تلك العلوم في مصر القديمة، هذا في مجال العلوم، وفي ميدان التاريخ كعلم، أما في ميدان الاعتقاد، وفي الصحائف المقدسة، فلها شأن عظيم أيضا، لكن بوضعها ذلك البلد الضال أهله، الذي تألّه حاكمه، فكفر، فوصم مع شعبه بأنهم من المجرمين، لذلك استحقوا أن يكونوا من المغرقين، بقرار من (يهوه) رب التوراة، وبضربة من عصا إعجازية دمرت الزرع والضرع في وادي النيل، قبل أن تطبق البحر المفلوق على من بقى منهم، أليسوا مجرمين؟
أما إسرائيل فهي عمدة المقدس وعقدته الجامعة، هي المحور منه والقلب الخافق، فهي شعب مقدس فضله الله على العالمين، سلسلة من النجباء الأنبياء المطهرين، فالأب نبي ينجب نبيا، في سلسال توارث النبوة كما توارث أرض فلسطين، خير خلف عن خير سلف، فكانوا في المقدسات هم المقدمين على غيرهم من الأمم الضالة، جدهم البعيد هو إبراهيم الخليل، وآباؤهم إسحق ويعقوب الملقب بإسرائيل، وبنوه بنو إسرائيل الأسباط المكرمون، ومنهم يوسف الصبي الفاتك الجمال الذي توزر على خزانة المصريين، وعلّم خبراء الزارعة ومهندسيها في مصر، كيف يواجهون قحط السنين، ومن بعده جاء (موسى) أعظم أنبياء إسرائيل، ويغصّ التاريخ المقدس بعد ذلك بسيرة أولئك الهداة المطهرين، فهذا (شاؤول) يقيم لهم دولة في فلسطين، ليترك تأسيسها وتعميدها لداود الملك وولده سليمان، بينما أصبح ذلك الأخير سيداً على مملكة عظمى تغنت بها كتب الدين وكتب الأساطير، فتسلط على الوحوش والهوام والجن والعفاريت، وأصبحت إسرائيل في زمانه أغنى الدول، حتى كانت الفضة في الشوارع مثل التراب (بتعبير التوراة)، أما في المأثور الإسلامي فكان أحد أربعة ملوك ملكوا العالم الأرضي من أقصاه إلى أقصاه.
هذا شأن إسرائيل في مأثورات الدين، لكن الغريب والمشكل الحقيقي أمام هذا الرتل العقائدي الهائل، أن التاريخ كعلم، يعلم يقينا تاريخ مصر بحفائره وعلمائه وأركيولوجيته، بأعلامها الآثارية

* نشر بالعدد (5،6) في مجلة Jusoor، نيويورك.
(من صـ 37- 45 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
الشاهدة، كما انتهى ترتيب أوضاعها الزمني عبر أسرات ودول، من مينا موحد القطرين مروراً ببناة الأهرام إلى التحامسة ثم المناتحة فالرعامسة حتى الشناشقة والبطالمة، فأرض مصر تفيض بالحفائر، غنية بالأحداث، لكن ذلك العلم نفسه، علم الحفائر والآثار، علم التاريخ، رغم الهوس الحفائري في إسرائيل الآن، يجد الأرض ضنينة بأي معلومة ذات شأن، فالتاريخ كعلم لا يعرف عظيما أقام لإسرائيل مملكة باسم (شاؤول)، ولا يعلم بشأن محارب ذي بأس أسس لإسرائيل قوميتها باسم (داود)، ولم ترد في وثائقه بالمرة أية إشارة لملك حكيم حاز شهرة فلكية باسم (سليمان)، كما لم يسمع أبداً ولم يسجل في مدونات مصر ولا في مدونات الدول المجاورة، خبر جيش الدولة العظمي وهو يغرق في بحر تفلقه عصا، وإطلاقا لا يدري شيئا عن صبي جميل فتن نساء مصر وأذهلهن بجماله فقطعوا الأيادي وهن في الهيام به ساهمات. كلا لا يعلم
التاريخ من كل ذلك شيئا ولو يسيرا، وكل ما يعلمه عن إسرائيل، حكايات متناثرة عن شوارد قبائل من شذاذ الآفاق باسم (الخابيرو، العابيرو)، وإيمائة هنا ولفته هناك تتحد بإهمال عن جماعة باسم إسرائيل سحقتها كتائب الفرعون (مرنبتاح)، أو ما جاء في نصوص الرافدين عرضا عن مملكة باسم (عمرى)، ربما ويحتمل ويُظن ومن الجائر وقد تكون هي مملكة إسرائيل زمن ملكها (عمرى) وابنه (آخاب). لكن الأسماء المعظمة المبجلة المفخمة في التاريخ الديني، فلا شيء منها البته وقطعا في التاريخ كعلم.
الإسرائيليون يدخلون مصر
تقول التوراة – ولا يقول التاريخ هنا شيئا – إن أول احتكاك للبدو العبرانيين بمصر والمصريين، كان زمن الأب إبراهيم، الذي هبط مصر مع زوجته سارة هربا من القحط الذي حل بأرض كنعان، فحصل هناك على فضل عظيم وخير عميم، يأتي خبره في نص التوراة القائل عن هدية فرعون لإبراهيم: "فصنع إلى إبرام خيراً بسببها – إي بسبب سارة – وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وإتن وجمال .. فصعد إبرام من مصر .. وكان إبرام غنيا جداً في المواشي والفضة والذهب / سفر التكوين 12 و13".
ثم تحدثنا التوراة – ولا يحدثنا التاريخ – عن قصة الصبي الأخاذ في جماله (يوسف) ابن إسرائيل (يعقوب)، وقصة بيعه في مصر، وكيف أثبت مهارة إسرائيلية أوصلته إلى كرسي الوزارة، ليصبح الرجل الثاني في مصر بعد الفرعون، وكيف أرسل يوسف يستدعي أهله لينعموا بخير مصر كملجأ للإسرائيليين كلما قحطت بهم الحياة ولحقت بهم المجاعات.
لكن التوراة لا تخبرنا بالسبب الذي أثار حنق الفرعون التالي على العرش، إلى حد تسخيره ضيوف مصر في الأعمال الشاقة، عقابا لهم على أمر مجهول، ونحن نعلم أن (ماعت/العدالة/القانون الكوني) كانت تاج القانون المصري الدائم، ومن هنا يظن أغلب الباحثين، أن الإسرائيليين لعبوا دوراً مع الهكسوس الغزاة ضد المصريين، وتعاونوا مع أعداء البلاد فحقت عليهم النقمة، وتم أسرهم مع فلول الهكسوس الأسيرة بمصر.
وبدورنا نذهب مع هذا الظن، ونحتمل دخول يوسف وأهله مصر في عهد (أسيس) آخر الحكام الهكسوس على مصر، وهو ما يلتقي مع الاسم (عزيز) الذي جاء بالقرآن الكريم، خاصة أن الآيات كانت تتحدث دوما عن حاكم مصر باسم الفرعون، عدا زمن يوسف، زمن دخول الإسرائيليين إلى مصر، ناهيك عما سجلته التوراة عن سياسة يوسف في مصر أثناء السنين القحط السبع، حيث احتكر (الميرة) جميعا في خزائنه وباعها للمصريين الذي يموتون جوعا مقابل الأستيلاء على أرضهم ثم مواشيهم ثم أنفسهم هم ليتحولوا إلى عبيد، لصالح الحاكم الهكسوسي. أما مشاعر المصريين تجاه هؤلاء الإسرائيليين فقد تبدت بوضوح في اعتبارهم الإسرائيليين نجساً يجب اجتنابه، وهو ما ورد جميعه في نصوص توراتية من قبيل: "اشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون، إذ باع المصريون كل واحد حقله، لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى مصر إلى أقصاها .. فقال يوسف للشعب إني اشتريتكم اليوم وأرضكم للفرعون .. سفر التكوين 48"، وفي نفس السفر كان يوسف يقول لإخوته "جواسيس أنتم، لتروا عورة الأرض جئتم" وكان ينصحهم دوما بالابتعاد عن المصريين "لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين/ سفر التكوين 46".
الإسرائيليون يخرجون من مصر
هذه حكاية التوراة عن الدخول إلى مصر، فماذا عن الخروج؟ تقول التوراة: إن موسى قد ولد في مصر إبان أزمة الإسرائيليين بمصر، والقصة معروفة، فقد ربي في القصر الملكي، وتبنته ابنة الفرعون وأكرمت مثواه، لكن الصبي يكبر فيقتل مصريا تعصبا لبني جلدته، فيطلبه القصاص وتطارده العادلة، فيهرب إلى مديان بسيناء، حيث يلتقي هناك برب سينائي يدعى (يهوه) على هيئة نار في عليقة، ويحمل منه أوامر صريحة لبني إسرائيل، ليخرجوا من مصر تحت قيادة موسى إلى فلسطين، وعاد موسى إلى مصر بتلك الأوامر، وبالعصا الثعبان، مع وعد إلهي يقول: "الآن تنظر ما أنا فاعله بفرعون، فإنه بيد قوية يطلقهم، وبيد قوية يطردهم من أرضه .. أنا أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم / سفر الخروج6".
وتتالي الأحداث فيضرب موسى بعصاته النيل ليتحول دما، وتصير مصر خرابا، ثم يضرب بعصاته ضربات متتالية، فتمتلئ مصر بالضفادع والبعوض والذباب والطاعون والجراد مع برد وظلام، ثم يهبط الرب يهوه بنفسه لتحقيق الضربة الأخيرة بقتل أطفال المصريين، وذلك في النص "وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل، أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، ول بكر بهيمة، ويكون الصراخ عظيم في كل أرض مصر/سفر الخروج11".
وفي تلك الليلة كان صراخ عظيم في مصر، لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت/ خروج 12". ولم ينس الإسرائيليون عادتهم في الخروج من مصر بالخير الوفير، فقد "فعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبا وثيابا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين، فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس /خروج 12".
ثم تأتي الضربة الحقيقية لإفناء المصريين، في رواية التوراة عن قيام ملك مصر وجيوشه بمطاردة الفارين بالذهب، حيث أدركوهم عند البحر، وهنا تحدث المعجزة الكبرى "ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وأنشق الماء فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتعبهم المصريون ودخلوا وراءهم ... فمد موسى يده على البحر، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حالة الدائمة ... فدفع الرب المصريين وسط البحر / خروج14". ويتوجه الخارجون من مصر إلى فلسطين ليغزوها ويحتلوها ويقيموا لهم هناك دولة، تلك الدولة التي قيض لأحد ملوكها (سليمان) أن يحوز في مقدسات المنطقة شهرة لا تضارع، ومع ذلك فقد قال (هـ. ج. ويلز) ونقل عنه الباحثون العرب مثل د. أحمد سوسة ود. أحمد شلبي قوله: "أما الوصف الذي اعتاد الباحثون ترديده عن اتساع وامتداد حدود مملكة سليمان، فيعده أكثر الباحثين من قبيل المبالغات التي درجت عليها دويلات تلك العصور، والحقيقة أن مملكة سليمان التي تبجحت التوراة بعظمتها كانت أشبه بمحمية مصرية مرابطة على حدود مصر، قائمة على حراب أسيادها الفراعنة .. وكان سليمان يريد أن يجاري الفراعنة في البذخ والظهور بما هو فوق طاقاته وإمكانياته الاقتصادية ... فأثقل كاهل الشعب بكثرة الضرائب .. ولما عسر على سليمان أن يحتل أرض فلسطين الساحلية طلب معونة فرعون مصر، فأرسل جيشا مصريا صغيرا احتلها وسلمها له مهرا لابنته"، ثم يتساءل: "كيف صور كتبة التوراة مملكة سليمان في صورة تفوق الواقع بكثير؟ فسليمان لم يكن وهو في أوج مجده إلا ملكا صغيرا يحكم مدينة صغيرة، وكانت دولته من الهزال وسرعة الزوال بحيث لم تنقض بضعة أعوام على وفاته، حتى استولى شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم" ثم يتابع قوله: "إن أمور مصر في عهده كانت مرتبكة فخفت هيمنتها على فلسطين وبلاد الشام، وكانت أمور الدولة الآشورية مرتبكة كذلك، وقد منح هذا لسليمان شيئا من الحركة والنشاط والتبسط في ممارسة السيادة، أما ما جاء عن قصة ملك سليمان وحكمته التي أوردها الكتاب المقدس، فقد تعرضت لحشو وإضافات على نطاق واسع، على يد كاتب متأخر شغوف بالمبالغة، في وصف رخاء عصر سليمان، مولها بتمجيد حكمه ... وقد استطاعت هذه الرواية أن تحمل العالم المسيحي بل والإسلامي على الاعتقاد بأن الملك سليمان كان من أشد الملوك عظمة وأبهة، لكن الحق أنه إذا قيست منشآت سليمان بمنشآت تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن نشآت سليمان تبدو من التوافه الهيئات، أما مملكته فهي رهينة تتجاذبها مصر وفينيقيا، وترجع أهميتها في معظم أمرها إلى ضعف مصر المؤقت".
ماذا يقول التاريخ؟
وهكذا يتضح أن الباحثين عندما يريدون الحديث عن أحداث التوراة حديث المؤرخين، يضطرون إلى المقارنات والاستنتاجات، بالنظر إلى أن تاريخ مصر، على كثرة ما اكتشف منه، لا يشير إلا لماما في لمحات سريعة إلى القبائـل
البدوية، بينما تتحدث التوراة بالتفاصيل عن مصر وملوكها ومدنها وطبائع أهلها، مما يشير إلى معرفة واضحة من جانب الإسرائيليين بشئون مصر والمصريين، وهو أمر طبيعي تماما حيث أن وضع إسرائيل كقبائل هامشية ما كان يشغل حيزاً هاما في المدونات المصرية، بينما كان المدون الإسرائيلي لا يستطيع أغفال مصر.
المهم أن أول ذكر لإسرائيل في مدونات مصر، جاء في قصيدة منقوشة على لوح تذكاري من الجرانيت الأسود، أقيم في معبد الملك (مرنبتاح) الجنائزي، والقصيدة تتغنى ببطولات الملك وانتصاراته، حيث تقول: "الأمراء منبطحون أرضا يصرخون طالبين الرحمة، وليس بين الأقواس التسعة من يرفع رأسه، لقد دمرت أرض التحنو (ليبيا)، وخاتي (تركيا) هادئة، وكنعان قد استلبت بقسوة، وعسقلوني تم الاستيلاء عليها، وجازر قد أخذت، وبنوعام أصبحت كأن لم تكن، وإسرائيل أقفزت وليس لها بذر، وخوري (أرض فلسطين) عادت أرملة لمصر".
وقد وقف علماء كُثّر مع هذا النص واعتبروه دالا على حدث الخروج من مصر، حيث ترد كلمة إسرائيل في نصوص مصر لأول مرة، واعتبروا الفرعون (مرنبتاح) هو فرعون موسى والخروج، بينما ذهب آخرون إلى أن النص يتحدث عن حرب شنها مرنبتاح على عدد من اشعوب خارج مصر، وأنه هاجم أراضيهم وضمنها إسرائيل.
هذا كل ماورد من التاريخ التوراتي المهول في تاريخ مصر "إسرائيل أقفرت وليس لها بذر" وبيدو أن الأمر لم يكن يستأهل الفخار به والإطالة بشأنه قياسا على أعمال الفرعون الأخرى، فاكتفى بتلك الإشارة السريعة، التي قامت عليها ألوف الأبحاث في جامعات العالم، مقارنة بالتوراة، ولم تزل.
أما قول (ويلز) السالف، إن إسرائيل كانت مجرد دويلة رهينة لمصر، وأنها كانت تابع متقدم في آسيا للفراعنة، فهو استنتاج يطابق أحداث التاريخ، وما ورد في تاريخ مصر – القديمة من وثائق، عن الحملات التأديبية التي كان يقوم بها الفراعنة على بدو آسيا، في حال أي تمرد أو عصيان، مع تركهم على أحوالهم ويحكمون فقط بوال من قبل الفرعون غالباً ما يكون منهم، مع بعض كتائب مصرية لمنع أي شغب.
وتتحدث التوراة عن زمن حكم (رحبعام)، بن الملك سليمان، ولم يمض على موت سليمان خمس سنوات، فتخبرنا بشأن حملة قام بها فرعون مصري باسم (شيشق) على دولة يهوذا في فلسطين، حيث تقول "وفي السنة الخامسة للمك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم، وأخذ خزائن بيت الرب، وخزائن الملك، وأخذ كل شيء، وجمع أتراس الذهب التي عملها سليمان / سفر ملوك أول 14".
وهو الخبر الذي يلتقي مع الوجود التاريخي لفرعون باسم (شيشنق)، وبأخبار لحملة قام بها على فلسطين، مع دول بالمدن التي هاجمها، لكن دون أن يذكر كلمة إسرائيل على إطلاقا ولا كلمة يهوذا ولا حتى أورشليم، وهو ذات الفرعون الذي قالت التوراة، أنه كان صهر سليمان، وأن سليمان طلب منه مساعدته للاستيلاء على مدينة جازر الفلسطينية الساحلية، فأرسل إليه شيشنق بضعه كتائب مصرية احتلتها له وتركها له هدية، وقد عثر مؤخراً في مجدو على نصب تذكاري أقامة شيشنق هناك تذكاراً لحملته على المملكة السليمانية بعد موت سليمان، وهو الأمر الذي يشير إلى أن سليمان كان تابعا مخلصا لشيشنق، كما يشير في جانب آخر إلى عصيان ما ارتكبه ولده (رحبعام) بحق الفرعون فاستحق التأديب.
ومن المعلوم أن مصر ظلت ترعى فلسطين وتزودها بالميرة أيام القحط والجفاف، كما ظلت ملجأ آمنا لأهلها عند أي خطب أو غزو خارجي، وهو بالضبط ما حدث زمن هجوم الملك الكلداني نبوخذ نصر على يهوذا، حيث لجأ أهلها بالآلوف المؤلفة إلى مصر، التي استقبلتهم بالترحاب زمن الفرعون (واح اف رع) المسمى باليونانية (إفريس 587-568 ق.م.) أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وهو ما حكته التوراة في الأصحاح 25 من سفر ملوك ثاني، وتأكد بوجود حالية يهودية تعيش بعد ذلك في جزر الفنتين جنوبي أسوان بمصر.
وتحكي لنا التوراة عن معركة بين مصر وأشور وقعت في بلاد الشام، مما يشير إلى خروج الجيوش المصرية للدفاع عن بلاد الشام ضد غزو آشوري، وتقول التوراة أن ملك إسرائيل (يوشيا) اعترض طريق الفرعون نخاو ليمنعه عن نجدة سوريا، فاضطر الفرعون إلى قتل الملك الإسرائيلي، كما اضطر بعد ذلك لأسر ابنه (يهود آحاز) الذي تخابر مع الآشوريين، وتم ترحيل الملك الإسرائيلي (يهو أحاز)، إلى مصر، وهي رواية سفر الملوك الثاني بالإصحاح الثالث والعشرين، ولا نجد في مدونات التاريخ نظيراً للرواية، لكنا نجد ما يصادق عليها، حيث تم العثور على لوح عليه نقش ورسم وكتابة عن شخص باسم (يوده ملك) وترجمتها (ملك يهوذا)، وتعود إلى زمن الفرعون نخاو، وهو ما جعل المؤرخون يتأكدون أنه بعينه الملك الإسرائيلي الأسير (يهود أحاز).
وبينما كانت التوراة تصف مصر بأنها "جنة الرب أرض مصر" حيث الراحة والهدوء والرخاء والدعة، نجد أيوب النبي يحلم بأيام مصر "قد كنت مضطجعا الآن ساكنا، كنت نمت مستريحا، مع ملوك ومشيري الأرض، الذين بنوا أهراما لأنفسهم / أيوب3"، وفي سفر الخروج نجد الإسرائيليون يعانون الجوع بسيناء، فيحتجون على موسى معبرين عن ندمهم لترك أسر مصر قائلين: "ليتنا كنا بمصر، جالسين إلى جوار قدور اللحم"، وهي كلها الأمور التي تفسر ما استقر في نفوس الإسرائيليين تجاه المصريين، متمثلا في نبوءات ترد لمصر الجميل.
نبوءات التوراة لمصر
في الأزمنة الأخيرة لإسرائيل، زمن أنبياء إرميا وإشعيا، وقبل زمن من تدمير الهيكل على يد طيطس الروماني وتشتيتهم في بقاع العالم، وقف أنبياء إسرائيل على عتبات النهاية، يتنبأون بعودة المجد السليماني وقيام دولة إسرائيل مرة أخرى، وأنها حينذاك ستسود العالم، لكن قيامها كان يشترط أولاً وأخيراً خرابا تاما لمصر، وإذلالا لها، وهو ما يفصح عن التكوين النفسي والعقلي ومدى التشوه الذي لقح بنفوس القوم تجاه مصر.
يقول إشعيا في الإصحاح التاسع عشر من سفره: "وحي من جهة مصر، هو ذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر ... يذوب قلب مصر في داخلها ... تنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس، وتنتن الأنهار ... والرياض على النيل على حافة النيل وكل مزرعة على النيل تيبس وتتبدد ولا تكون ... في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود التي يهزها عليها، وتكون ارض يهوذا رعبا لمصر".
ثم يؤنب إشعيا بني جلدته الذين يلجأون إلى مصر وفيئها في الملمات، بقوله في إصحاحه الثلاثين: "ويل للبنين المتمردين يقول الرب .. الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر للمعونة .. ليلتجوئوا إلى حصن فرعون ويحتمون بظل مصر، فيصير لكم حصن فرعون خجلا، والاحتماء بظل مصر عارا".
أما النبي أرميا في الإصحاص 46، فقد وقف يعبر عن مكنون كل إسرائيلي تجاه مصر في قوله: "أخبروا مصر، واسمعوا في مجدل، واسمعوا في نوف (منف) وفي تحفنحيس، قولوا انتصب وتهيأ الآن، لأن السيف يأكل حواليك .. نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك .. نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن .. ها أنذا أعاقب آمون نو وفرعون مصر وآلهتها والمتوكلين عليه".
أما حزقيال النبي فلم يبخل على مصر وهو يوجه كلام الرب الإسرائيلي إلى الفرعون المصري المقبل، بالإصحاح 29 حيث يقول: "ها أنذا الملك على أنهارك، أجعل من أرض مصر خربة مقفزة من مجدل إلى أسوان .. وأشتت المصريين وأبددهم من الأرض".


فلســطين وإســرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟ *
حدث هذا أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عندما أنقضّت موجات بشرية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، قادمة من جزر البحر الإيجي، كان أكبرها تلك التي اكتسحت العاصمة الحيثية (خاتوشاش/ بوغاز كوى حاليا، تركيا) ودمرتها، لتتركها خرابا بلقعا إلى الأبد، ثم تزحف منها جنوبا لتقضي على (قرقميش/ جرابلس حاليا شمالي حلب)، لتحتل بعدها (أوغاريت/ رأسي شمرا الآن قرب اللاذقية)، ومن بعدها (أرواد)، لينحدر السيل الجارف جنوبا باتجاه حدود مصر الشرقية عبر سيناء، مترافقا مع جناح بحري لمهاجمة شواطئ مصر الشمالية، مصحوبا في الوقت نفسه بجناح ثالث هبط على السواحل الليبية ليهاجم حدود مصر الغربية، وكان ذلك الهجوم الثلاثي أكبر كماشة عسكرية تعرضت لها مصر.
ويحكي لنا (رمسيس الثالث) أحد المحاربين العظماء في التاريخ، أنه قد تصدى بجيوش مصر لهذا العدوان الثلاثي، وألحق به هزيمة مروعة، في ثلاث معارك برية وبحرية، وكان ذلك عام 1180 قبل الميلاد. أما علم التاريخ فقد حاول تفسير وجود عناصر من هؤلاء المهاجمين على الساحل الفلسطيني بعد ذلك، يعيشون هناك في شكل ممالك مستقرة، بأن انكسار الهجوم البحري الكاسح للمنطقة، الذي جاء من جزر البحر الأيجي وعاصمتها (كريت)، قد أنكسر على الحدود المصرية انكساراً شديداً، لكن الفرعون المصري المنتصر، ترك لهم سواحل فلسطين ليقيموا بها، ويكونوا من رعايا الفرعون وجنوده، وفيالقه المتقدمة في آسيا.
أما (هيرودوت) أبو التاريخ، فيقول: إن هؤلاء المهاجمين هم من حملوا اسم (اليلست)، ويضيف المؤرخون من بعد أن هيرودوت اليوناني أول من أطلق على بلاد كنعان شرقي المتوسط اسم (بلسيتا) و(بالاستين)، نسبة إلى هؤلاء الغزاة (البلست)، لتحمل بعد ذلك اسم فلسطين.


* لم يسبق نشره.
(من صـ 47- 55 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
موجـات الهجـوم
ويعلمنا علم التاريخ من وثائقه، أن ذلك الهجوم الفلسطيني القادم من كريت والجزر الإيجية، قد هجم على منطقتنا في شكل موجات متتابعة، بعد أن شكلت قبائل بحر إيجة اتحاداً قوياً في نهاية 1300 قبل الميلاد، وأن أول تلك الموجات قد اضطر مصر إلى التخلي عن مستعمراتها في سوريا وفلسطين، وأن أول الموجات قد تمكنت تماما من احتلال ساحل فلسطين في زمن قياسي.
وكان أول ذكر في وثائق التاريخ لهؤلاء (البلست)، هو ذلك الذي نقرأه في وثائق الفرعون (آمنحتب الثالث 1397-1360 قبل الميلاد) ذكر لموجات أخرى كان تاليها تلك الموجة التي وصلت زمن (رمسيس الثاني 1292 – 1225 قبل الميلاد)، ويبدو أن المصريين قد أسروا منهم أعداداً كبيرة، حيث نجدهم بعد ذلك يعملون كمرتزقة في جيوش مصر، باسم الشردانيين (نسبه إلى جزيرة سردينيا).
وعلى نصب عثر عليه في (صان الحجر) بمحافظة الشرقية، نجد حكايات عن سفن البلست الضخمة، ونقوشا تصورهم يلبسون خوذاً قرون، ويحملون دروعا مستديرة، ويمتشقون سيوفا طويلة ضخمة، وهو النصب الذي روى لنا كيف صد الفرعون (مرنبتاح بن رمسيس الثاني) هجومهم، ليردهم عن الحدود المصرية.
أما في فلسطين ذاتها، فقد نظم (البلست) أنفسهم عندما دخلوها، في هيئة ممالك صغيرة مستقلة في إدارتها، منها جرار وغزة وعسقلان وأشدود وجازر وغيرها، لكن ضمن اتحاد فيدرالي مركزه الرئيسي مدينة أشدود، أما قوتهم العظيمة فتكمن فيها نعلمه من نصوص مصر ومن التوراة، أنهم صنعوا أدوات القتال من الحديد، وأن الحديد كان عندهم مادية اعتيادية ووفيرة، حتى أنهم صنعوا منه عجلاتهم المقاتلة.
وكل هذا إنما يعني ببساطة، القول: إن الفلسطينيين جاءوا المنطقة كعنصر دخيل، قادم من كريت وبحر إيجة، وهو أمر يشكل عموداً لأعمال بحثية كثيرة، تشكل الخلفية التاريخية للأحداث التي تجري في منطقتنا، منذ قيام دولة إسرائيل مرة أخرى، في عام 1948م.
ماذا تقول التوراة؟
إذا التاريخ قال: إن الفلسطينيين جاءوا مهاجرين من كريت إلى فلسطين، ليستقروا بها زمن الفرعون
(رمسيس الثالث) حوالي عام 1180 قبل الميلاد، أي بعد خروج بني إسرائيل من مصر بحوالي خمسين عاما، ومعلوم أن كبرى المدارس البحثية قد استقر رأيها على خروج الإسرائيليين من مصر زمن الفرعون (مرنبتاح ابن رمسيس الثاني) حوالي عام 1229 قبل الميلاد.
ومثل ذلك التاريخ وتلك التزمينات، تستتبع عدداً من النتائج والدلالات، حيث تقول التوراة: إن الإسرائيليين قد سبق لهم أن استقروا بفلسطين قبل زمن الدخول إلى مصر بحوالي خمسة قرون، وهو ذلك الزمن الأسطوري الممتد من إبراهيم إلى إسحق إلى يعقوب المسمى إسرائيل، وأنه إذا كان الإسرائيلي والفلسطيني وافدين على كنعان، غريبين عليها، فإن إبراهيم كان داخلها الأول حيث سكن بين أهلها الكنعانيين وتكلم بلسانهم، وذلك قبل مجيئ الهجرة الفلسطينية بحوالي ستة قرون كاملة.
هذا كلام، لكن التوراة نفسها لها كلام آخر وقول آخر فماذا تقول التوراة؟
أولاً: لقد جاء إبراهيم وأسرته الصغيرة إلى أرض تسميها التوراة أرض كنعان، قادما من موطنه (أوركسديم)، وأن إبراهيم قد تنقل في كنعان بين عدة مواضع، أهمها ذلك الموضع المعروف بمملكة (جرار) التي كان يحكمها ملك اسمه (أبي مالك)، وتصف التوراة تلك المملكة بأنها مملكة فلسطينية، وذلك في قولها: "وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة / سفر التكوين 21".
ثانيا: يتكرر ذكر جرار بذات التوصيف في زمن إسحق بن إبراهيم في قول التوراة "فذهب إسحق إلى بيمالك ملك الفلسطينيين إلى جرار .. وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مئة ضعف ... فحسده الفلسطينيون / سفر التكوين 26".
وهكذا، ومع إبراهيم أول رجل مهم في التاريخ التوراتي، نجد مملكة باسم (جرار) توصف بأنها فلسطينية، وهو ما يعني اعترافا من جانب التوراة، بوجود العنصر الفلسطيني في فلسطين، قبل زمن الأب إبراهيم بزمن أبعد، يسمح بإقامتهم ممالك مستقرة، ويصبح القول: إن (هيرودوت) أول من أطلق على أرض كنعان اسم فلسطين قولا مردوداً بشهادة التوراة ذاتها، أما عند خروج الإسرائيليين من مصر، نجد نصا توراتيا صريحا يسمي أرض كنعان بكاملها وليس جرار وحدها باسم فلسطين، وذلك في قوله: "يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين/ سفر الخروج 15". وفي نبوءة متأخرة للنبي اليهودي (صفنيا)، نجده يخاطب تلك الأرض بلسان رب اليهود قائلاً: "يا كنعان أرض الفلسطينيين، إني أخر بك بلا ساكن/ سفر صفنيا2".
وهكذا اكتسبت أرض كنعان اسم أرض الفلسطينيين زمن خروج الإسرائيليين من مصر، رغم أن الفلسطينيين كانوا عنصراً يقطن بساحل فلسطين ضمن عناصرها الأخرى، وقد حددت التوراة مساكن الفلسطينيين كمجموعة ممالك متحدة على الساحل، بترتيب يصعد من الجنوب إلى الشمال، بدءاً من غزة على حدود مصر، وذلك في قولها: "من الشيحور الذي هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالا، تحسب للكنعانيين، أقطاب الفلسطينيين الخمسة: الغزي والأشدودي والأشقلوني والعقروني والعويين/ يشوع 13"، وفي قول آخر تمزج فيه التوراة بين الكنعاني والفلسطيني نجد "وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة / تكوين 10"، لكن الترتيب هنا كان من صيدا في الشمال إلى غزة في الجنوب.
وقد بات من المشكوك فيه عند الباحثين الآن، أن يكون الإسرائيليون الذين خرجوا من مصر، لهم علاقة بذلك الرعيل الأول المسمى بالبطاركة أو الآباء (إبراهيم، إسحق، يعقوب، الأسباط)، ناهيك عن كون مسألة البطاركة برمتها – كما حكتها التوراة – تدخل في عداد الأساطير عند باحثين محترمين، إضافة إلى جلة محترمة من باحثين آخرين، يرون أن قصة إبراهيم والبطاركة الأوائل لون من الصياغة التي تمت متأخرة بعد الخروج لربط الخارجين بتاريخ قديم، لإلقاء تاريخ إسرائيل المقدس في عمق التاريخ القديم، وأن كل الأمر ربما تم بعد قيام مملكة داود في أورشليم، بتدوين إسرائيل في خضم تاريخ أعرق، وأبعد في القدم، من باب إيجاد موطئ قدم لإسرائيل في التاريخ القديم للمنطقة.
مصداقية التوراة وخلل التاريخ
لكن تظهر هنا مشكلة كبيرة، تثيرها مصداقية مدهشة للتوراة، من حيث تطابقها مع نصوص التاريخ الآثارية، حيث تنسب التوراة الفلسطينيين إلى أصول من جزيرة تسمى مرة (كفتور) ومرة (كريت)، وتسجل بهذا الشأن نصوصها من قبيل: "وهكذا قال السيد الرب: ها أنذا أمد يدي على الفلسطينيين، وأستأصل الكريتيين، وأهلك بقية ساحل البحر / حزقيال 25"، و"الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور/ إرميا 47"، و"ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين، كلمة الرب تكون عليكم يا كنعان أرض الفلسطينيين /صفنيا 2"، وفي تعبير واضح لا يقبل لبسا يقول: إن بعض الهجرات تمت بفعل إلهي، يقول النص: "يقول الرب: ألم أُصعد إسرائيل من أرض مصر، والفلسطينيين من كفتور، والأراميين من قير؟ عاموسي9".
وهنا المشكلة، والخلل بعينه، فإذا كانت رواية التوراة ككتاب في التاريخ قد تطابقت مع المكتشفات والسجلات الآثارية في هذه المسألة، وإذا كان كليهما قد أكد قدوم الفلسطينيين من جزيرة كريت وبحر إيجة، فإن هناك خلال يتمثل في كيف توفق بين قول التاريخ باستقرارهم على الساحل الفلسطيني في عهد الرعامسة، حول القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وبين وجودهم حسب التوراة في فلسطين قبل خروج الإسرائيليين من مصر، ناهيك عن قول التوراة بوجودهم زمن البطاركة الأوائل؟
وبالحسابات يقول علم التاريخ: إن الفلسطينيين قد استقروا على سواحل فلسطين بعد أن سمح لهم رمسيس الثالث بذلك، أي بعد الزمن المفترض للخروج الإسرائيلي من مصر بحوالي خمسين عاما، وبحسابات التوراة نعلم أن الإسرائيليين أقاموا بمصر 430 عاما حسب الرواية العبرية المازورية، ويضاف إليهم أربعين عاما زمن التيه في سيناء، يكون المجموع 520 سنة كاملة، إضافة إلى حوالي سبعين سنة افتراضية بين إبراهيم وحفيده يعقوب، فيكون المجموع ستة قرون كاملة، هي الفارق بين تزمين المؤرخين للخروج وبين زمن الغزو البلستي التاريخي لفلسطين، وهذا إنما يعني وجود الإسرائيليين بفلسطين قبل وصول الفلسطينيين إليها بست قورن كاملة، وهو ما لا تقول به التوراة ذاتها، أليس ذلك خللا حقيقياً؟
والإشكالية في محاولة إيجاد حل يتطلب أحد فرضين، فإما أن نتأخر بعصر الرعامسة ستة قرون إلى الوراء، قبل التزمين المتفق عليه حاليا بين المؤرخين، وهو ما سيترتب عليه إشكاليات كبرى، حيث سيلحق الخلل بكل تاريخ المنطقة، الذي تم تزمينه قياسا على تزمين التاريخ المصري، وإما أن نتقدم بزمن الخروج الإسرائيلي من مصر ستة قرون، أي يكون الخروج قد حدث عام 600 قبل الميلاد، وهو غير ممكن علميا، لأنه سيتضارب تضاربا صارخا مع حقائق تاريخية ثابتة، وتفصيلات شتى لا تسمح بهذا الجموح في الافتراض المستحيل.
إشكالية تبحث عن حل
نعود هنا مرة أخرى لزمن البطاركة الأوائل، وقول التوراة بوجود الفلسطينيين في ذلك الزمن الأسطوري، زمن إبراهيم وإسحق ويعقوب، لندقق النظر مرة أخرى، فتجدها إطلاقا لا تذكر أرض كنعان إلا باسم أرض كنعان، ولا ذكر لفلسطين ولا لفلسطينيين إلا عند الحديث عن مدينة واحدة بالذات هي (جرار) التي يسكنها فلسطينيون، وهو ما يضعنا أمام واحد من احتمالين: فإما أن يكون الكاتب التوراتي لهذا الجزء من التوراة – والذي كُتب متأخراً بعد الألف الأولى قبل الميلاد – قد استقر في ذهنه اسم فلسطين للدلالة على تلك الأرض، فاستخدمه في غير موضعه من الزمن وأطلق اسم فلسطين السائد في زمانه على أرض كانت تحمل فقط اسم كنعان في الزمن السحيق، وإما أن تكون جرار تحديداً ووحدها دون غيرها كانت موئلا للفلسطينيين زمن البطاركة، وأن الفلسطينيين قد سكنوها كجند مرتزقة أو جالية بموافقة الفرعون، وهو الاحتمال المرجح لدينا، حيث نعلم من التاريخ أن حيا بكامله شمال شرقي مصر قد حمل اسم (الحي الجزري) زمن الرعامسة، لسكنى الإيجيين فيه، وكانت جرار أقرب المدن الفلسطينية إلى الشيحور المصري الواقع شرقي الحي الجزري تماما، وقد سمى (الجزري) نسبه للجُزر، وعبدت آلهة غريبة تماما على مصر، تليق بالأغراب الملتحقين بخدمة الفرعون.
والأسباب في وضع الاحتمالين واستبعاد أن تكون فلسطين مسكونة بجنس البلست زمن البطاركة، هو كما قلنا أن التوراة كانت تصفها بأرض الكنعانيين، وأنها لم تصف أي مكان فيها بالفلسطيني سوى مدينة (جرار)، هذا إضافة إلى أن الأحداث التي رافقت زمن البطاركة لم يأت فيها ذكر الفلسطينيين إطلاقاً في أي وثيقة تاريخية، لا في مصر ولا في أي من دول المنطقة ولا بفلسطين ذاتها، علما أن ذلك الزمن لحقته أحداث جسام، تمثلت في غزو الهكسوس لمصر، وتذهب جلة محترمة من الباحثين إلى أن دخول بني إسرائيل إلى مصر قد حدث زمن الهكسوس، وهو زمن ما كان يسمح بدخول البلست، حيث كان الهكسوس قوة كبرى تحتل مصر ذاتها وتقهرها، مع عدم وجود أي إشارة لفلسطين بهذا الاسم ولا لهجرة باسم البلست في أركيولوجيا ذلك الزمن.
لكن التوراة من جانبها تصر زمن الخروج على وجود الفلسطينيين في فلسطين كحقيقة واقعة، والأمر هنا ليس كما في عهد البطاركة حديث عن مدينة واحدة، بل عن مجموعة ممالك قوية ومقتدرة للفلسطينيين بشكل لا يدع سبيلا للشك فيه، بنصوص غزيرة كثيفة ومتعددة، تحدثنا عن قراهم وأسماء زعمائهم، بل وشخصيات هامة من بينهم، وقواد عسكريين، وشكل أسلحتهم، وحروبهم مع الإسرائيليين عند دخول الأرض، وعباداتهم، وآلهتهم، مما يشير إلى أن الفلسطينيين كانوا قد أصبحوا حقيقة مسلم بها في فلسطين، حتى أنهم أعطوا أرض كنعان اسما جديداً هو أرض الفلسطينيين، وأن ذلك قد حدث أثناء تواجد الإسرائيليين في مصر.
محاولــة حــل
رغم أن آخر النظريات وأكثرها اعتماداً في الأكاديميات العالمية، تلك التي تقول باضطهاد الإسرائيليين في مصر زمن الفرعون (رمسيس الثاني)، وبروجهم من مصر في عهد ولده الفرعون (مرنبتاح)، فإننا لا نعلم كيف وجد هؤلاء السبيل (مثل بروغش وبيير مونتيه وغيرهم) كيف وجدوا السبيل إلى التوفيق بين ذلك، وبين الحقيقة التي تؤكد مجيء الفلسطينيين واستقرارهم على الساحل الكنعاني زمن (رمسيس الثالث)، أي بعد خروج الإسرائيليين من مصر حسب ذلك التزمين بحوالي خمسين عاما، بينما التوراة التي تعد لدى هؤلاء مرجعا تارخيا أساسيا في حسابات تزمينهم للأحداث، تقول إن الخارجين قبل خروجهم كانوا يطلقون على الطريق السينائي طريق فلسطين، وعلى كنعان كلها اسم الفلسطينيين، وأنهم عندما وصلوا إليها وجدوا الفلسطينيين قوة قائمة في ممالك دخلوا معها حروبا طاحنة قبل أن يستقروا إلى جوارهم هناك؟
ومن ثم لا يبقى أمامنا سوى اقتراح فرض لا ينزلق إلى الاصطدام بما استقر عليه علم التاريخ في تزمينه للأحداث وللأسر الحاكمة في مصر، إنما هو فرض يرجع قليلا بزمن الخروج إلى الوراء، فنحن نعلم أن أول الهجمات البلستية قد حدثت زمن (آمنحتب الثالث) 1405 – 1367 قبل الميلاد، وهنا نفترض نجاح تلك الهجمة واستقرارها على الساحل الفلسطيني، أي أننا بوضوح نستبعد الخروج زمن (مرنبتاح) 1229 قبل الميلاد، ونرجع به إلى تلك الفترة الواقعة زمن خلو العرش بعد سقوط (إخناتون ابن أمنحتب الثالث) الذي حكم بين 1367-1350 قبل الميلاد، وهو الزمن المناسب للخروج، لأن زمن مرنبتاح كان زمن قوة مصرية تسيطر على فلسطين ذاتها، أما زمن خلو العرش بعد سقوط إخناتون فكان فترة ضعف تسمح بوقوع أحداث الخروج، ومهاجمة الخارجين لفلسطين التابعة لمصر، لكن ليجد الخارجون أن الفلسطينيين قد استقروا هناك زمن (أمنحتب الثالث) وربما قبله بقليل وأسسوا ممالكهم هناك.
وبالحسابات الافتراضية، نحن ندفع بزمن الخروج الإسرائيلي إلى الخلف إلى عام يقم قبل 1350 قبل الميلاد، وبإضافة زمن التية في سيناء وهو أربعين عاما، فإن وصول الإسرائيليين إلى فلسطين يكون قد حدث حوالي عام 1310 قبل الميلاد، وبذلك نكون قد أرجعنا زمن الخروج مئة وعشرين عاما إضافية عن الزمن المفترض لخروجهم زمن مرنبتاح، وهو ما يعني أنهم قد دخلوا فلسطين قبل قرن من زمن الفرعون مرنبتاح.
وإن فرضنا هذا سيحل عدداً من المشاكل الكبرى في التاريخ غير المحلولة حتى الآن، فسيحل أولا مشكلة وجود الفلسطينيين بفلسطين قبل الخروج الإسرائيلي من مصر، وثانيا سيعيد الاعتبار إلى المؤرخ المصري (مانيتون السمنودي /القرن الثالث قبل الميلاد) الذي أثبت مصداقية عالية في كثير مما أورده، ومع ذلك أستبعد ما ذكره عن الخروج زمن فرعون باسم (أمنوفيس) لصالح فكرة الخروج زمن مرنبتاح، استناداً إلى لوح مرنبتاح الذي يقول فيه أنه هاجم قوماً باسم إسرائيل ودمر بذرتهم. وهنا بالتحديد يكمن الخلل في رأينا، حيث نحتسب أن لوح مرنبتاح كان يتحدث عن حملة تمت بعد خروج الإسرائيليين واستقرارهم في فلسطين، ضمن الحملات التأديبية التي كان يشنها الفراعين على مستعمراتهم، بينما (أمنوفيس) الذي ذكره مانيتو كفرعون للخروج هو النطق اليوناني للاسم المصري (آمنحتب) وكان إخناتون يحمل اسم (آمنحتب الرابع).
هذا ناهيك عن كون ذلك الفرض يجعل الخارجين من مصر، ربما كانوا أتباعاً مباشرين لإخناتون كأول داعية للتوحيد في التاريخ، وهو ما يفسر التوحيد الإسرائيلي بعد ذلك، إضافة إلى حل معضلة كأداء كانت تقف دوما في وجه القائلين بالخروج زمن مرنبتاح، وتتمثل في أن التوراة قد أكدت أن الإسرائيليين عند غزوهم فلسطين، قد دمروا مدينة أريحا وأحرقوها بالكامل، وقد قامت بعثة حفائر بريطانية، بقيادة العالمة الأركيولوجية (ك. كينون) عام 1950، بإجراء حفائر في مدينة أريحا للكشف عن أي أدلة، تشير لتدمير أريحا، ومدى صدق الرواية التوراتية.
وقد تأكد للبعثة البريطانية أن أريحا قد دمرت بالفعل، لكن في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهو ما شكل معضلة لأصحاب نظرية الخروج زمن مرنبتاح، لأن أريحا تكون بذلك قد دمرت قبل زمن مرنبتاح بقرن من الزمان، وقد اعتمدت البعثة البريطانية في تزمينها لدمار أريحا، على ما عثرت عليه من جعلان وكسرات فخارية تحمل أسماء ملوك مصريين، حكموا خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، هذا مع آثار الحريق المدمر، وأثار التهديم الذي تعرضت له أريحا.
ونقصد من هذا كله القول: إن العودة بزمن الخروج 120 سنة إلى الخلف، إلى فترة خلو العرش بعد سقوط إخناتون، يحل معضلة آثارية كبرى ومشكلة تاريخية حقيقية، ويتطابق موعد دمار أريحا، مع موعد دخول الإسرائيليين إليها. كما يحل لنا مشكلة مستعصية تفسر وجود الفلسطينيين بفلسطين قبل دخول الإسرائيليين إليها، ولماذا حملت كنعان اسم أرض الفلسطينيين حتى في التوراة ذاتها، لكنها لم تحل يوم اسم أرض الإسرائيليين، وهو الأمر الذي لم يزل بعد قيد البحث في كتابنا: موسى وآخر أيام تل العمارنة.


قدماء العرب والإسرائيليين *
رغم أن ذكر العرب في التوراة لا يظهر بوضوح كاشف، إلا مع الأحداث التي يفترض أنها دارت حوالي عام ألف قبل الميلاد، أي مع قيام مملكة إسرائيل التي أسسها (شاؤول) ودعمها (داود)، ويعد مؤسسها الحقيقي (سليمان بن داود)، فإن ذات التوراة تذكر أموراً يمكنا أن نستنتج منها، أن العرب أحد أقدم العروق في التاريخ، حسب شجرة الأنساب التوراتية، لكن من البداية يجب أن نقر أنهم هم أنفسهم لم يشعروا بوحدة جنسهم إلا في المرحلة القبل إسلامية مباشرة.
وفي السفر المعروف بسفر التكوين، أول أسفار التوراة، نجد ذلك الشخص القديم المعروف باسم (عابر)، وهو ابن شالح ابن ارفكشاد ابن سام ابن نوح، وتقول: إن (عابر) هذا كان أبا لفرعين أو عرقين من البشر، (العرق العبري) الذي جاء منه الإسرائيليون فيما بعد، وينتسب ذلك العرق (العري) باسمه للأب (عابر)، وعرق أخر هو (اليقطاني) نسبة إلى يقطان بن عابر)، ثم يستطرد النص قائلاً: "ويقطان ولد الموداد وشالف وحضرموت وبارح وأوزال ودقلة وعيبال وأبيمال وشبا وأوفير وحويلة ويوباب، كل هؤلاء بنو يقطان" (انظر سفر أخبار الأيام الأولى).
وبإعمال النظر في أبناء (يقطان) ستجد أنها أسماء تشير جميعا إلى مواضع في الجنوب العربي (اليمن)، ومعلوم أن أسماء المواضع كانت تسمى بأسماء أشخاص كما هي عادة التوراة. كما أن اسم (يقطان) نفسه يحيلنا إلى نطقه العربي (قحطان)، ومن ثمّ فإن المقصود هنا هم العرب القحانية سكان الجنوب اليمني. وقد رصد المؤرخون للعرب اسم (قحطان) كجد بعيد لقبائل عرب الجنوب، مقابل (عدنان) الجد البعيد لعرب الشمال.
وسيكون المعنى أن حفيد نوح المعروف باسم (عابر)، كان الأب المشترك لكل من العبريين في جانب، والعرب الأقحاح (القحطانية) في جانب آخر، ولنلحظ أن المفردات (عابر) و(عبري) و(عربي) تعود جميعا إلى جذر لغوي واحد، كما أن (عربي) بالقلب اللساني تصبح (عبري).

* لم يسبق نشره.
(من صـ 57- 62 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
الخط العبري في الجزيرة
ويمتد خط النسل من عابر حفيد نوح ليصل إلى إبراهيم الخليل، وتوضح التوراة أن إبراهيم قد أنجب ولدين هما: إسماعيل وإسحق، وإن أسحق أنجب ولده يعقوب المعروف باسم إسرائيل، وعنه تناسل الإسرائيليون، بينما على الجانب الآخر أنجب إسماعيل أولاداً يحملون أسماء واضحة العروبية، منها قيدار، وتيماء، ودومة (دومة الجندل)، ونبايوت .... الخ.
ومن ثم سنجدنا في جزيرة العرب، بإزاء خطين لعرقين منفصلين، عرق أصيل في الجنوب هو العرق القحطاني، والذي أطلقت عليه كتب السير والأخبار الإسلامية لقب العرب العاربة، أي العرب الأصيلة في العروبية، وعرق آخر جاء عبر إسماعيل (العبري) شقيق إسحق وعم إسرائيل وابن إبراهيم، ونحن نعلم من كتب الأخبار الإسلامية، أن إسماعيل كان أب العرب الشمالية (من الحجاز فما نحو الشمال) المنعوته بالعرب العدنانية، ومعلوم أيضا في ذات المأثور أن العرب العدنانية ليست أصيلة العروبية، إنما اكتسبت العروبية اكتسابا بنزوحها إلى الحجاز قادمة من الشمال، لذلك أطلق عليها التراثيون المسلمون لقب (العرب المستعربة) أي التي استعربت ولم تكن من الأصل عربية، والمطالع لمأثورنا الإسلامي التاريخي، سيجد اتفاقا واضحا على أن إبراهيم وولده إسماعيل لم يكونا من العرب، إنما ووفدوا على أرض العرب أغرابا عنها، وأنهما كانا يتحدثان السريانية، وبمعيشة إسماعيل بين العرب اكتسب اللسان العربي (!!).
ولعله من الواضح سواء فيما أوردته التوراة، أو أوردته كتب السير الإسلامية، أن كليهما ليس إلا رجع صدى لأيام خوال وذكريات قديمة، تشير لعنصر عربي أصيل هو العنصر القحطاني، وعنصر غريب وافد هو العنصر العدناني، وأن الأول كان يسكن الجنوب اليمني، بينما استقر الثاني شمالا في الحجاز، وهو والأمر الذي يلتقي مع الواقع الجغرافي للجزيرة المنفتحة شمالا على ما جاورها، تستقبل هجرات وتندفع بأخرى، وهو ما يعني ثانياً أن سكان الجزيرة الأصلاء دوما خلال التاريخ البعيد، هم العرب الذين عرفوا باسم العرب اليقطانية أو القحطانية.
لكن الغريب في الأمر جميعه، أن يصبح حديث التاريخ المطول عن العرب العدنانية المستعربة، وساعد على ذلك قربهم أو انفتاحهم على الحضارات المجاورة (جغرافيا)، وهي الحضارات التي تركت مدونات سجلت لنا بعض ما يتعلق بعرب الحجاز العدنانية، حيث نجد في نصوص التوراة أن من ولد إسماعيل كان (قيدار) و(نبايوت)، ويبدو أن (قيدار) هذا سكن شمالا على تخوم الحضارات القديمة، بينما استقر (نبايوت) في أرض الحجاز، وقد رصدت نصوص بلاد الرافدين، وبخاصة نصوص الملك (آشور باني بعل) قصة صراع حدث بينه وبين قبيلة (قيدار)، كذلك رصدت التوراة صراعا آخر حدث بين ملوك دولة يهوذا والقيداريين، مما يشير إلى قيدار كقوة لا يستهان بها آنذاك، ويبدو أن القيداريين قد اشتغلوا بما آدر عليهم ربحا كثيراً جعل منهم قوة، ومضربا للمثل في الفخامة، وهو ما يؤخذ من سفر نشيد الإنشاد بالتوراة، المنسوب لسليمان، والذي تصف فيه شولميت (سلمى بالعربية) نفسها، بقولها تجملا: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان، فساوت في الجمال بين خيام قبيلة قيدار العربية وبين شقق أو قصور سليمان المعروفه في التراث الديني بالفخامة إلى حد الأسطورية.
أما (نبايوت) فهو ما سجلته كتبنا الإخبارية باسم (نابت بن إسماعيل)، واحتسبته الأصل الحقيقي للعرب العدنانية التي استقرت في الحجاز، وكثر ذكره في أشعار العرب مما يشير إليه كحقيقة واقعة، ونموذجا لذلك شعر (عمرو بن مضاض الجرهمي) الذي يسجل صراعا حدث بن العرب القحانية ومنهم قبيلته جرهم، وبين العرب العدنانية، ويشير إلى انتصار مؤقت للقحطانيين اليمنيين استولوا بموجبه على سيادة الحجاز بحيازة الكعبة المكية، وللاختصار نورد بيتين من ذلك الشعر القائل:
وكـنا ولاة البيـت مـــــن نـابـت نطوف بذلك البيت والخيـر ظاهـر
ونحن ولينـا البيت من بعد نابت بعز، فما يحظــى لدينــا المكاثــــر
ولا تفوتنا هنا ملحوظة أساس، فنحن نعرف عن اليمن القحطاني أنه عرف الكتابة ودونها فيما يعرق بالخط المسند، لكن استمرار الغرابة، وللتاريخ أفاعيله، أن اللغة العربية الحالية لم تتطور عن أصول عربية قحطانية أصيلة، وإنما تطورت عن الخط النبطي الذي وجد مدونا في مملكة النبط على حدود الجزيرة الشمالية، وهو ما يوعز بارتباط مع (نابت) أو (نابط) أو (بنايوت) ابن إسماعيل العبراني المستعرب، فعربيتنا الحالية هي الخط التطوري عن خط نابت أو الخط النبطي المستعرب وليس العارب.
أما الصراع بين العرب العاربة والعرب المستعربة، فيبدو أنه قد استمر طويلا، حول مكة بالذات، باعتبارها أهم محطة تجارية على الخط التجاري العالمي القادم ببضائع الهند وإفريقيا من اليمن إلى أرض الحضارات الشرق أوسطية، كما يبدو أن العرب الأصلاء ظلوا على انتصاراتهم وعدم تفريطهم للمستعربة حتى زمن (قصي بن كلاب)، الذي أقصى آخر قبيلة عاربة يمنية عن مكة، وهي قبيلة خزاعة، ليقرّش عرب الشمال المستعربة تقريشا، أي يجمعهم ويؤلفهم ويوحدهم، ويأخذوا سمت السيادة العروبية في زمنه، وما تلى ذلك من أزمان.
لكن ما لا يفوت المدقق هنا، أنه قبل زمن تلك الأحداث بأزمان، ترقى إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، كان عرب الجنوب القحطانية، الحمر أو الحميرية، قد اندفعوا بهجرة كبرى من الجنوب نحو بوادي الشام ليستقر فرعهم المهاجر على سواحل المتوسط الشرقية بطول الساحل السوري اللبناني الفلسطيني، والذين عرفوا هناك باسم الكنعانيين أو الفينيقيين، وذلك قبل ظهور الفرع الإبراهيمي بكل خطوطه أصلاً، وأن ذلك الفرع الإبراهيمي عندما هبط فلسطين تكلم بلسان كنعان، أو بشفة كنعان كما قرر سفر إشعيا بالتوراة، لكن اللسان كان قد تغير بمرور الزمن والمكان، وهو ما يعني أن التطور التالي للعربية عن العربية العدنانية النبطية أو النابتية، كان بضاعة عربية ردت للعرب، بعد تحولات، ومفردات كثيرة جديدة دخلت المعجم العربي الأصلي، جعلت الفارق بيّنا شاسعا، لكنه إشارة للأصل، ما دمنا نتحدث عن الأصول، ومن وجهة نظر أخرى يمكن القول أن ذلك جميعه كان إثراء للغة العرب.
أصول العرب العدنانية
هنا لا يملك الباحث إلا أن يقف مدهوشاً أمام الترميزة الإسرائيلية التي تربط العنصر الإسماعيلي العدناني بالعنصر العبراني الإسرائيلي بصلات قرابية، وتعود بكليهما إلى أصول إولى واحدة، وحتى يمكن بدء المحاولة لفك الرموز، يجب البحث عن هجرة حدثت، كان اتجاهها قادما من دول الحضارات المجاورة لبوابة الجزيرة المفتوحة من الشمال، وأن تلك الهجرة لسبب أو لآخر قد اتجهت نحو عمق الجزيرة لتستقر أولا في شماليها، بينما يوغل آخرون من المهاجرين إلى الحجاز وما حواليه. وبشرط أن تكون تلك الهجرة قد تمت قبل عام ألف قبل الميلاد بمدة مناسبة، تسمح بظهور قبائل قيدار التي ذكرها سليمان وأسفار الكتاب المقدس التي تحدثت عن أحداث بداية الألف الأولى قبل الميلاد.
وهنا سنجد أمامنا ثلاث احتمالات ترتبط بهجرات حدثت على التوالي، الأولى هي هجرة الهكسوس إلى المنطقة واحتلالها، واحتلال مصر ضمن مناطق أخرى، أما الثانية فهي خروج الهكسوس من مصر في هجرة مضادة عند طردهم منها، ثم تأتي الثالثة في خروج بني إسرائيل وبقايا أسرى الهكسوس من مصر أيضاً، وقد حدثت الهجرات الثلاث في زمن متقارب وعلى التوالي، ويكاد الفارق بين الهجرات الثلاث يذوب عندما نعلم أن هجرة أساسية إلى داخل مصر ومنها إلى الخارج كانت لعنصر واحد هو الهكسوس، وأن هجرة بني إسرائيل بدورها لم تكن غريبة على الهكسوس، فهم فيها تحت أيدينا من وثائق – ليس هنا مجال مناقشتها – أحد البطون القرابية لهؤلاء الهكسوس.
وقد سبق لنا وناقشنا مصدر الهجرة الهكسوسية في كتابنا (النبي إبراهيم والتاريخ المجهول)، وأعدناها إلى المنطقة الكاسية الواقعة على الفرات الأعلى عند بحيرة فان (أرمينيا حالياً)، وأنهم الذين احتلوا العراق باسم الكاسيين، واحتلوا مصر باسم (هـ كاس) أو (الهكسوس) بإدارة التعريف العبرية أو العربية الشمالية (هـ). وقد كان الهكسوس عدة بطون وأفخاذ تَزّعمهم عنصر من بينهم، وقد دخل بنو إسرائيل في زمرتهم آخر سنين حكمهم في مصر، وكانت الصلات القرابية والثقافية واللغوية مبرراً كافيا ليرتقي أحد الإسرائيليين سدة وزارة المال والخزانة في مصر، وهو ما تمثله قصة يوسف بن يعقوب في التوراة. ومن بين عناصر الهكسوس تلك القبيلة التي حملت لقب (قاطعوا الرقاب)، والتي كتبت بالمصرية (سا – جاز) (هـ كاس) أو (هـ كاز) ويبدو أنها كانت القبيلة الزعيمة التي أعطت لجموعهم اسم الهكسوس، وربما كان الدكتور لويس عوض محقا في ربطة ذلك في إشارته إلى أنهم هم من أكسب الحجاز اسمه، بعد طردهم من مصر.
وربما عن لنا أن نضيف هنا، أن الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر بعد ذلك، متأثرين بعقيدة إخناتون التوحيدية، وعبادة إله أوحد كتبه المصريون (آتون)، وكتبه الإسرائيليون (أدون) أي السيد/ الرب، ربما كانوا هم أصل كلمة (عدن) في العرب العدنانية، حيث أن (أدون) أو (أدن) يمكن ببساطة أن تنطق (عدن) بلقب الهمزة عينا، وهو أمر وارد في الساميات، وربما أحلنا هبوط هؤلاء التابعين لعدن أو أدن جنوبا نحو جزيرة العرب، إلى الصراع الذي دار في قادش على حدود سيناء الشرقية، بين الخارجين من مصر، والذي لا شكل أدى إلى انفصال اتجه بموجبه كل فريق وجهة تخالف الآخر، فاتجه أحدهم نحو فلسطين، بينما اتجه الآخر نحو الحجاز وهو الأمر الذي يفسر لنا ذلك المدهش في عمل على فهمي خشيم في كتابة (آلهة مصر العربية)، وهو الكتاب الذي قدم جهداً، للتدليل على أن اللغة العربية واللغة المصرية القديمة ليستا تؤمتين، بل هما لغة واحدة، وقدم لنا معجما وافراً رائعاً حقا، وهو ما يجعلنا نظن أن تلك الهجرة التي حدثت في مصر، بعد أن عاش المهاجرون في مصر نحو أربعة قرون، اكتسبوا فيها عقائدها ولغتها، هي تلك التي عرفت بعد ذلك بهجرة العرب العدنانية إلى جزيرة العرب، خاصة وأن التوراة قد أشارت بما لا يدع مجالاً للشك، أن لفيفاً عظيماً من المصريين، قد خرج مع الخارجين، وهم من نظنهم الأتباع المخلصين لعبادة (أتن) أو (عدن) الإله الواحد، وهم من نظنهم كانوا الطرف الثاني في صراع قادش مع الطرف الإسرائيلي الذي عبد (يهوه) إله البراكين والثيران في سيناء، وأنهم هم من اتخذ سبيله جنوبا إلى جزيرة العرب ليحملوا اسم العرب العدنانية، احتمالات نرجحها، وهي قيد البحث المطول بين أيدينا الآن، في كتاب: (النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة)، ولا نعلم هل سيؤيدها البحث أم سينفيها.
أما النبي إبراهيم نفسه فقد كان من المنطقة الكاسية التي قدمت منها هجرة الهكسوس إلى مصر، وبالتحديد من الولايات الأرامية أو الأرمينية، لذلك كان يعقوب (إسرائيل) يردد دائما (أراميا تائها كان أبي) وهو التعبير الذي يشير إلى حركة انتقالية واسعة للأب إبراهيم ونسله في المنطقة.
وبعد، لا يغرب عن بال قارئنا أن كل هذا الحديث عن ذلك الموغل في التاريخ القديم، لا علاقة له بدولة إسرائيل الحالية، فلا علاقة البتة بين الشراذم المؤتلفة الآن في إسرائيل، والتي تجمعت من أنحاء مختلفة وأوطان شتى، لا يجمعها سوى العنصرية الدينية، وبين قبيلة بنى إسرائيل التاريخية من بني يعقوب، إن الموجودين الآن في إسرائيل ليسو عنصرا ولا جنسا واحداً، إنهم فقط مجرد يهود. وعلاقة أي فرد منهم بأبطال التاريخ الإسرائيلي مثل موسى أو إبراهيم، لا تزيد عن علاقة مسلم من بلاد الصين بنبي الإسلام.