Monday, May 14, 2007

رب الزمان - القمنى(3)ا

ما بين "القمني" وهذا المترجم! *
يسجل مترجم هذا الكتاب الطبيب د. رفعت السيد واقعة مرة المذاق في مقدمة ترجمته لكتاب "عصور في فوضى – من الخروج إلى الملك إخناتون" – لمؤلفه عالم الطبيعة اليهودي الروسي (إيمانويل فلايكوفسكي)! والواقعة نسبها المترجم بما نصه: "ثم التقيت بالدكتور سيد محمود القمني عام 1992 وكنت أكن له من خلال كتاباته كل تقدير نظراً لرؤيته المتميزة لبعض جوانب التراث الشعبي الديني في الشرق العربي ومدلولاته التاريخية. وحين طلب استعارة المخطوطة المترجمة للإطلاع عليها نظراً لما ترامى إلى سمعه عنها وتشوقه لقراءتها لاستخلاص ما يمكن استخلاصه منها في إعداد مادة كتابة الذي كان مشتغلاً فيه في ذلك الوقت وهو كتاب "النبي إبراهيم والتاريخ المجهول"، لم أتوان عن إعارته المخطوطة مع وعد منه بعدم نشر أية أجزاء منها. ولم تكد تمر بضعة أسابيع حتى فوجئت بالفصل الأول منشوراً على هيئة مقالات أسبوعية في جريدة (مصر الفتاة) مع تعليقات وحواش، والمقالات تحمل اسم د. سيد القمني. وهالني أن ينكث عالم جليل مثله بوعود كان قد قطعها على نفسه، وبذلت كل جهد ممكن لوقف النشر، ولم أنجح في ذلك إلا بعد أن كان الفصل الأول قد نشر بأكمله، وغني عن البيان أنه قد جمع تلك المقالات بعد ذلك مع بعض الإضافات في كتاب آخر أصدره باسم: إسرائيل – التوراة .... التاريخ ... التضليل"!
والكتاب الذي وردت فيه هذه الواقعة صدر عن دار سيناء للنشر هذا العام في شهوره الأخيرة، ومعنى ما ورد أن المترجم يوجه اتهاماً صريحاً إلى د. سيد القمني بأنه لم ينكث بوعوده له فقط! بل ونشر الفصل الأول من المخطوطة المترجمة مقالات باسمه دون نسبتها إلى المترجم! الذي سعى بالطبع إلى وقف النشر فتم له ما أراد بعد لأى!
ولولا أن هذا قد أصبح منشوراً ما كنا تعرضنا له هنا بالتعليق، كما أننا لا نملك تأكيد ما ورد أو نفيه، والحقيقة فيه عند د. سيد القمني، لكننا نسعى لجلاء هذا الأمر، لاسيمـا وأن المسألة تــخص
* مقال كتبه الأستاذ حازم هاشم بصحيفة الوفد بتاريخ 7/11/1995، القاهرة.
(ومن صـ 123- 124 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
باحثاً كبيراً وكاتباً ومفكراً مبدعاً وصاحب اجتهاد متميز وملحوظ فيما يختص بالدراسات التراثية العربية والإسلامي، والصلة نراها منعقدة بين المترجم ومخطوطته وبين د. سيد القمني. ليس فيما كتبه المترجم فقط، بل وفي كتاب د. سيد القمني (إسرائيل – التوراة .... التاريخ ... التضليل) الذي ذكر المترجم أنه يحوي تلك المقالات التي نشرها د. القمني في جريدة (مصر الفتاة) محتوى الفصل الأول من مخطوطة المترجم! والكتاب نشرته (دار كنعان) للدراسات والنشر ومقرها دمشق، وطبعت منه ألف نسخة في طبعته الأولى عام 1994، ونلاحظ في هذا الكتاب أن المترجم صاحب المخطوطة يرد ذكره في طبعته الأولى عام 1994، ونلاحظ في هذا الكتاب أن المترجم صاحب المخطوطة يرد ذكره في صفحة رقم 97 بعنوان "التأسيس" في الهامش أسفل الصفحة هكذا "إيمانويل فليكوفسكي: عصور في فوضى عن ترجمة مخطوطة قام بها الطبيب د. رفعت السيد"، وفي حين أن هذه الصفحة بداية لفصل طويل موضوعه كله مناقشة د. القمني لوجهات نظـر (فليكوفسكي) في الكتاب الأصلي "عصور في فوضى" من خلال المخطوطة المترجمة فإننا لا نجد بعد ذلك أية إشارة إلى المترجم ومخطوطته إلا هذه المرة الوحيدة! حتى في ثبت المراجع واستشهادات البحث الواردة في آخر الكتاب لا يرد ذكر المترجم ولا مخطوطته! مع أن د. القمني نراه يورد في هوامش بعض الصفحات المراجع وأصحابها ويعود إلى ذكرها مرة أخرى في ثبت المراجع واستشهادات البحث الواردة في آخر الكتاب!وفي نص إهداء (فليكوفسكي) كتابه لأبيه، يلتزم د. القمني بترجمة د. رفعت السيد بالنص! وفي كثير من المواضع يفعل نفس الشيء! مع إضافات وتعليقات بالطبع، وكان هذا ما طالعناه من أوراق المسألة هنا وهناك، ونثيره بكل الحرص على ألا يظل اتهام المترجم للدكتور القمني معلقاً في ثنايا صفحات كتابه الصادر مؤخراً ودون جلاء لحقيقة يملكها المترجم ود. القمني وحدهما فقط!

الصاهينة مرة أخرى (؟!) *
كنا قد آلينا على أنفسنا عدم الاستجابة لأية استفزازات، حتى لا ننشغل بمعارك وهمية تصرفنا عن أبحاثنا، خاصة مع إدراكنا لحجم الشراك المنصوبة تلك الأيام، والتي نعلم جيداً دقائقها وآلياتها وأهدافها، لكن ما نشره الأستاذ (حازم هاشم) في (الوفد) بتاريخ 7/11/1995 تحت عنوان (ما بين القمني وهذا المترجم)، ودعوته الواضحة لنا للرد على الطبيب (رفعت السيد) حول ما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب (عصور في فوضى)، لمؤلفه الكاتب الصهيوني (إيمانويل فليكوفسكي)، إضافة إلى العبث غير المحمود الذي ساقه الطبيب المذكور، كل ذلك لم يترك لنا فرصة التمسك بمبدئنا، حيث أنزلق السيد الطبيب إلى منزلق شديد الوعورة، غير مدرك إلى أي منحدر ذهب، فطعن في أمانتنا العلمية، وهي الرصيد الوحيد الذي نملك ونتيه به اعتزازاً، ومن هنا تأتي استجابتنا لدعوة الأستاذ حازم هاشم، وهي الاستجابة الكفيلة بإنهاء الأمر بالقاضية، حتى لا نترك مساحة لمزيد من المهاترات، وحتى لا يطول أمر الأخذ والرد، لكن ذلك لا يعني حرمان القارئ من متعة المتابعة، فسنعطيه هنا قدراً كافياً من المتعة، وبغرض العودة السريعة إلى مكاننا الحقيقي بعيداً عن السجال حول أمور هي كالعهن المنفوش، ومن هنا نعتقد أن السيد الطبيب بدوره سيلتزم الصمت الحميد وفي ذلك كفاية وغنى.
وكان السؤال الذي تبادر إلى ذهني فور قراءتي للوفد هو: لماذا صمت السيد الطبيب منذ التقاني عام 1992 – حسبما قرر هو في مقدمة الكتاب المذكور – وحتى اليوم، ليخرج الآن عن صمته؟ أما لو كنت مكان أي قارئ آخر لكان السؤال هو: لماذا لم يبادر سيادته من فوره إلى اتخاذ الخطوات القانونية الرادعة في مثل تلك الأحوال؟ لكن لو حاولت الإجابة على سؤالي أنا، مع الأخذ بحسن الظن، لذهبت إلى احتمال أن الرجل وهو لم يبدأ بعد خطواته في عالم الكتابة، قد هدته قريحته إلى أن أقرب طريق إلى الشهرة هو التهجم على شخص يتم اختياره بعناية، وغذا كان ذلك كذلك، فقد فعلها الرجل دون أن يرمش له جفن، بجرأة متفردة ومغامرة يحسد عليها،

* نشر على حلقتين بصحيفة الوفد بتاريخ 14/11/1995 و 21/11/1995.
(ومن صـ 125- 130 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
لكن ذلك الاحتمال تراجع إزاء معطيات أخرى يمكنها أن تفسر لنا سر تلك النزوة المفاجئة، لمغامرة نزقة، في منطقة خطرة عسرة العبور.
رواية هذا الترجمان
يحكي لنا الطبيب الترجمان في مقدمته رواية غاية في الطرافة والظرف، فيقول: إنه قد التقاني عام 1992، عندما كانت ترجمته لكتاب فليكوفسكي لم تزل بعد مخطوطة بأدراج مكتبه، لكن تلك الترجمة غير المنشورة – بمعجزة غير مفهومة – طبقت شهرتها الأفاق حتى وصلتني أخبارها، حيث كنت أقيم بمدينة الوسطى (كذا؟!)، وعندها هرعت إلى السيد الطبيب أسعى، أطلب منه استعارة تلك المخطوطة الأسطورية لأطلع عليها، وحسب قوله أني قد فعلت ذلك بعد مـا ترامى إلى سمعي عنها، وتشوقي لقراءتها، وذلك كي أستعين بها في كتاب كنت أكتبه حينذاك، هو كتاب (النبي إبراهيم والتاريخ المجهول).
وهكذا وجه الرجل لنا اتهامين دفعة واحدة، الأول أننا استعنا بفليكوفسكي في كتابنا (النبي إبراهيم) دون أن نشير إليه كمرجع لأنه بالفعل غير مدرج كمرجع، أما الثاني فهو أننا قد أخذنا بأفكار كاتب صهيوني في معالجة مسألة تتعلق بأب الأنبياء خليل الله عليه الصلاة والسلام. والغريب أن الطبيب الملهم لم يكلف نفسه عناء النظر في تاريخ طباعة ذلك الكتاب الذي صدر عام 1990، واستغرق العمل فيه ثلاث سنوات قبل صدوره، وهو ما يعني أن الكتاب قد صدر قبل أن ألتقي بالترجمان المعجزة بسنتين كاملتين. ومعلوم أن مثل هذه الافتراءات من النوع الذي يعاقب عليه القانون، وهو ما ننوي الإقدام عليه بكل سعادة، رغبة منا في العقاب اللائق لتطهير مناخنا الثقافي، وليكون رادعاً ماثلاً دائماً للنماذج المشابهة.
ونتابع مع الرجل مندبته المأساوية وهو يجأر بالشكوى قائلاً: إنه أعطاني مخطوطته المترجمة لكتاب فليكوفسكي، بعد أن أخذ مني وعداً بعدم نشر أي جزء منها (؟!) أي أنه كان يخشى على مخطوطته سلفاً ومع ذلك وثق في وعدنا الشفاهي (هكذا!؟)، لكن الرجل يكتشف كم كان غراً عندما أعارنا المخطوطة، لأنه لم تكد تمر أسابيع حتى فوجئ بنشر ترجمته في مقالات أسبوعية بصحيفة (مصر الفتاة)، وبأننا قد وضعنا اسمنا على ترجمته للكتاب، وأننا كي نمرر تلك السرقة اللئيمة لجهد الرجل المسكين، أضفنا إلى تلك الترجمة بعض المقبلات، مع تعليقات هنا، وحواشي هناك، لذر الرماد في العيون.
ويزعم الطبيب الترجمان أنه بذل جهوداً مضنية لإيقاف نشر ترجمته لكتاب فليكوفسكي باسمنا، وتمكن من ذلك فعلاً، لكن بعد أن كنا قد نشرنا الفصل الأول كاملاً، ولأني رجل لا أرتدع عن الغي، فقد تماديت وأدرجت مقالات (مصر الفتاة) بكتابي (إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل)، وأضفت إليها بعض التوابل والمشهيات في عبارة هنا وجملة هناك، لمزيد من الضحك على ذقن القارئ والمترجم، إنها إذن فضيحة بكل معنى الكلمة، وظل الرجل صامتاً يمضغ أوجاعه بصمت الكبراء والكاظمين الغيظ، حتى قرر أن يتكلم الأمس فقط، فأي تسامح؟ وأية مروءة؟ أي ترفع؟ لكن ماذا يفعل الرجل بنفسه وهو يسوق أكاذيبه، عندما يكتشف أنه لم يجهد نفسه في صيغة الكذب المرتب، حيث أن دراستنا التي أشار إلى نشرها بـ (مصر الفتاة)، والتي نشرناها تحت عنوان (الرد على الأضاليل في تنظيرة بني إسرائيل)، وكانت رداً على الصهيوني فليكوفسكي، قد نشرت خلال عام 1991، أي قبل أن يلقاني سيادته بعام كامل (؟!).
يبدو أن الموضوع سينتهي عند هذا الحد، ولم أف قارئي الوعد بالمتعة المنتظرة، وهو غبن لقارئنا الكريم، وحتى لا تأخذ القارئ بنا ظنون عدم الوفاء، أجد من واجبي توسيع الحكاية حسب الأصول، ومن هنا أقدم للسيد الطبيب مثالاً للأمانة لعله يحتذي به في مستقبل أيامه، فأقر هنا رغم انتهاء الأمر بهذا الشكل، أن الترجمة التي اعتمدنا عليها في ردنا على كتاب فليكوفسكي الصهيوني (عصور في فوضى)، كانت بالفعل ترجمة صاحبنا الترجمان، وهذا درس آخر في جرأة الواثقين المطمئنين، أما كيف حدث ذلك فهي حكاية أخرى.
زيارة الترجمان للصعيد
أكد الطبيب الترجمان أنه قد التقاني عام 1992، لكن لأن للشرف رجاله، فإني أصحح له المعلومة لصالحه، حيث أنه قد تجشم مشقة زيارتي لأول مرة في بيتي بمدينة الواسطى في شتاء 1991، كأي زائر من قرائنا الكرام الساعين إلى التواصل مع كاتبهم، لكن زيارة الرجل كانت بغرض آخر، حيث جاء يطلب منا رعايته كمبتدئ هاو، ومساعدته على نشر مخطوطة من ترجمته أحضرها معه لأن المخطوطة تواجه عقبات شديدة في نشرها، كما طلب – إذا أعجبتني – أن أكتب لها تقديماً يساعد على انتشارها.
ووعدت الرجل خيراً، وبدأت مطالعة ترجمته لكتاب فليكوفسكي (عصور في فوضى)، ولكن لأكتشف أني أمام شرك عظيم، وأن عدم تجروء دور النشر على نشره له مسوغاته وحيثياته، حيث وجدتني بإزاء عمل هائل وشديد الخطورة هزني هزاً، حتى لحق الهز بالثوابت، ووجدت أمامي فناً عاليا وعظيما بل ورائعا ومثيراً للإعجاب، في تزوير حقائق التاريخ والعقائد، لصالح الفكر الصهيوني، كما لاحظت أن العمل قد وقفت وراءه ودعمته جامعات عالمية كبرى، وأساتذة كبار في شتى صنوف المعرفة، وهنا كان لابد أن يطفر السؤال قافزاً: إذا كنت وأنا المتخصص قد حدث لي كل هذا الانبهار، - مع هول الصدمة – إزاء ذلك التكنيك الصهيوني العالي الجودة والامتياز، فماذا سيكون شأن قارئ عادي دون أن يتسلح برد على ذات المستوى من الأصولية العلمية والاقتدار؟ بينما الكتاب يتألق تحت ستار براق من العقلانية والعلمية والصرامة الظاهرة، لينقض نهشاً على تاريخ مصر وتاريخ العرب، ليؤسس لإسرائيل مكانها في التاريخ وفي العلم وفي العقول وفي القلوب، وكانت الدهشة أكثر عندما علمت أن أول طبعة للكتاب بالانكليزية كانت عام 1952، ومع ذلك لم نسمع في بلادنا لو رد واحد على ذلك الكتاب، بل اكتشفت أن العكس هو ما قد حدث بالضبط، حيث استعان به كُتاب عرب كمصدر غفل من الإشارة مفترض أنهم مهمون أشرت إليهم في حينه.
هنا وجدت معركة حقيقية من النوع الذي يستهويني، خاصة أني سأخوضها في ميداني الذي أعرف مسالكه ودروبه، وقررت فضح كل هذا الكم من التزييف التاريخي وتزوير الحقائق، لكن اللياقة الريفية اللعينة دعتني إلى عدم تجاوز الترجمان الطبيب، خاصة وأنه كان السبب في تعريفنا بذلك الكتاب الخطير، وعليه طلبت من السيد الترجمان الحضور إلى بيتي، وأحطته علما بقراري الرد الفوري والسريع دون إبطاء على ذلك الزيف المخيف الذي تأخر الرد عليه طويلاً.
وبالفعل حضر السيد الترجمان، يركب سيارته المرسيدس الفاخرة، واستمع إلى جزء طويل من ردودي على فليكوفسكي، بينما وجهه يتلون ويتبدل، ثم انحدر فجأة إلى حالة عصيبة دفاعا عن طروحات الكاتب الصهيوني، مما أشعرني أن وراء الأكمة ما وراءها، ومن ثم كان ردي الفوري هو أني سألجأ إلى ترجمة النصوص التي سأرد عليها من جانبي ومباشرة، من النسخة الإنكليزية التي كان قد أحضرها لي لتدقيق ترجمته، وسافر الرجل ليعمل تفكيره في قراري الحاسم والقاطع، ولكن لتختفي من على مكتبي النسخة الإنكليزية مع مغادرته، وأسقط في يدي. لكن في ذات الليلة اتصل بي السيد الترجمان ليقدم لي اقتراحا يقول: ما المانع أن أستثمر ترجمته الموجودة لدي الآن ما دمت متعجلاً؟ على أن أشير إليه كمترجم لنص فليكوفسكي بشكل واضح مع نغمة نفعية عالية الصراحة. مفادها أن ذلك سيكون داعية متميزة لترجمته حين نشرها، وإزاء تلك النفعية الواضحة، تراجعت ظنوني في طبيعة علاقة الترجمان بمنظومة الكتاب، وبما جبلنا عليه من مد يد العون للمبتدئين، قررنا العمل باقتراحه.
وقمت بالرد على تأسيسات فليكوفسكي التي أوردها بفصله الأول، حيث أن بقية الفصول كانت إعادة لتوزيع المعزوفة التأسيسية حسب نوتات أخرى، وقد قلت ذلك واضحا في مقالي الأول، وأنجزت الرد في عشر مقالات سلمتها كاملة للأستاذ مصطفى بكري رئيس تحرير مصر الفتاة أنذاك، ونشرت على التوالي كاملة دون توقف، هذا بينما يقول السيد الترجمان أن ما نشرناه كان ترجمته هو، وأننا كنا نزمع الاستمرار بنشر الكتاب كاملا لولا تدخله لإيقاف نشر بقيه الفصول، ولعل الأستاذ مصطفى بكري يقرأ معنا الآن ليدلي بشهادته حول هذه الجزئية، أي أن السيد الترجمان لم يتدخل ويوقف نشر بقية ترجمته المسروقة كما زعم، حيث لم يتسلم الأستاذ بكري سوى تلك الحلقات العشر فقط وقد نشرت كاملة.
حقوق الترجمان
وعملا بالأصول العلمية، وإتباعا لشروط الأمانة البحثية، قمنا بتصدير الحلقة الأولى بالبنط العريض برأس المقال، بإشارة واضحة إلى أن العمل الذي سنرد عليه هو من ترجمة الطبيب رفعت السيد، وعدنا إلى تكرار الإشارة في الحلقة الثالثة نظراً لورود نصوص كثيرة من تلك الترجمة فيها، وفي ختام المقال العاشر والأخير طلبت من الأستاذ مصطفى بكري تليفونيا أن يكتب بنفسه شكر وتقدير لتلك الترجمة، وقد جاء نص ذلك التنويه في مربع بلون متميز لمزيد من الإيضاح، وكان نصه: "يتقدم د. سيد القمني بالشكر إلى الزميل د. رفعت السيد الذي ترجم كتاب عصور في فوضى، وبذل فيه من الجهد والعرق ما يستحق التقدير".
وعندما قررنا توسعة الرد على تلك المدرسة الصهيونية، أصدنا كتابنا (إسرائيل: التوراة، التاريخ، التضليل)، وضمنه تلك الردود، وعند ورود الجزء الخاص بعرض أسس نظرية فليكوفسكي التي سنرد عليها وذلك ص 97، أحلنا إلى المترجم بحاشية مستقلة واضحة تقول: (إيمانويل فليكوفسكي: عصور في فوضى، عن ترجمة مخطوطة قام بها الدكتور رفعت السيد)، وهو الترتيب العلمي لعناصر معلومات الكتاب حسب الأصول الأكاديمية، أما ملحوظة الأستاذ حازم هاشم، أن تلك الإشارة لم تتكرر بعد ذلك عند ورود نصوص نرد عليها بالكتاب، فهو الأمر الذي ما كان ممكنا، فالترجمة مخطوطة بلا أي معلومات نشر نحيل إليها، فلا اسم ناشر، ولا طابع، ولا بلد، ولا صفحات أيضاً، فكيف نحيل إلى صفحات غير منشورة؟ وللتغلب على تلك العقبة وضعنا الإشارة الواضحة في مستهل عرض طروحات فليكوفسكي، مع إبراز الاقتباسات بعلامات التنصيص أحياناً، بالهامش الأوسع أحياناً أخرى، وهي من الأدوات الأكاديمية المعلومة.
ولو قمنا بجمع النصوص الفليكوفسكية التي أوردناها للرد عليها، في اتصال سردي، لما تجاوزت العشرين صفحة، في كتاب يمهد لها، ويناقشها، ويرد عليها، في مائتي صفحة كاملة، جهدنا عليها زمنا حتى أنجزناها، وهي الردود التي أسماها السيد الترجمان (تعليقات وحواشي).
وأذكر أني بعدما نشرت تلك الردود التي تكشف الكتاب والدوائر التي تقف من ورائه، فاجأنا السيد الطبيب بالعدد (139) من مجلة القاهرة بمقال يتلبس الزي الوطني والقومي الغيور ضد فليكوفسكي، وهو ما عاد إلى غرفه في مقدمة ترجمته التي نشرت بالأمس القريب، لكن ليقدم لنا الآن، والآن بالتحديد، كتابا مليئا بالمتجرات الموجهة. وبالطبع نحن لا نصادر على نشر أي كتاب من أي لون، لكن يبقى ذلك السؤال الأرق الملحاح يهمس: لماذا نشر مثل هذا العمل الآن تحديداً، خاصة وأنه الكتاب الوحيد الذي ترجمه السيد الطبيب، فلماذا هذا الاختيار من بين ملايين الكتب التي تحتاجها مكتبتنا العربية فعلا؟
مرة أخرى – إذا أخذنا بسوء الظن – فسيكون ما أزعج صاحبنا الترجمان ليس موضوع الترجمة، بل ردنا نحن غير المتوقع على فليكوفسكي الذي تصوره من النوع الذي لا يُقهر، فهل يسعد صاحبنا الطبيب القيام بدور حارس الشرف للكتاب – الصهيوني؟
أما إذا كانت الإجابة تأخذ بحسن الظن، فإن السيد الطبيب قد كسب رهان المغامرة، عندما اضطرنا للرد عليه، ليشكل ردنا دعاية مجانية لسيادته، وللكتاب، وبالطبع للدار الناشرة التي تجرأت على نشر هذا الكتاب أخيراً، بعد ما رفضته كل دور النشر الأخرى.
وبعد، فقد استجبنا لدعوة الأستاذ حازم هاشم بذلك الرد النهائي، الذي يتضمن درساً واضحاً لأشباه السيد الترجمان، ونحن واثقون أنهم سيعملون بالحكمة البليغة: (أنج سعد فقد هلك سعيد).








مقــالات ودراســات

حول الحاجة لتحديد المفاهيم *
من لحظة زمنية بعينها، تلك التي تواصلت فيها السماء مع الأرض عند نزول الوحي القرآني، ومن مكان بذاته يتمركز في بلاد الحجاز من جزيرة العرب، تحدد (زمكان) التراث لدى أصحاب الاتجاهات الأصولية الإسلامية. بل أنه من جانب آخر ذات التحديد لدى شريحة كبرى من الباحثين المهتمين بالدراسة حول الهوية والآخر وفق تصور عروبي ضروري جامع يلتقي بالضرورة بالتأسيس الأصولي الإسلامي لمعنى التراث كمرجعية أولى أساس، وهي الرؤى المؤسسة سلفاً على مقدمات تحاول إيجاد جامع مشترك، كناتج لعدم تأسيس اصطلاحي ومفهمي واضح، لمفاهيم (الوطن، العروبة، الأمة القومية، التراث).
وذلك بدوره ليس إلا ناتج الالتباس الحادث بين الإسلام كعقيدة جامعة لمجموعة شعوب تدين به، وبين (العروبة) كهوية قومية جامعة لمجموعة الشعوب الناطقة بالعربية، وتتشارك عبر التاريخ في تفاصيل تؤطر لفكرة توحد أصيل باعتبار أن المفهوم العروبي يتأسس تاريخياً على فتوحات عرب الجزيرة للأقطار المحيطة والتي تحولت إلى العروبية (لغة) لتؤسس دولة عقدها الجامع هو الإسلام، وتحول شعوب الأقطار المفتوحة إلى العقيدة الإسلامية المؤسسة للدولة الأولى (ديناً).
ومن ثم تارجحت حالة الالتباس حول الهوية، بين مفهومي (العروبة) و(الإسلام) ليلقي كل منهما بظلاله على مفهوم (المواطنة) بخاصة إذا أخذنا بالحسبان أن شعوب البلدان المفتوحة وأن تحولت جميعاً إلى اللغة العربية (لغة قريش) فإنها لم تتحول جميعاً إلى عقيدة الإسلام (ديناً)، وعليه فقد ظل داخل تلك المجموعة البشرية عرباً لا يدينون بالإسلام وبين تحديد الهوية الساري الآن بالإسلام، ورد فعل العربي غير المسلم بتحديد هويته بدينه، ضاع الوطن بين الطرفين، وإعمالاً لذلك يصبح الالتباس والتداخل بحاجة ماسة إلى تحديد مفهومي واضح، يرتكز على قراءة علمية تاريخية مجتمعية لرفع الالتباس، والبدء من مرتكزات واضحة.


* نشر في 22/9/1993 بصحيفة الأهالي، القاهرة.
(ومن صـ 85 -104في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
القطعية التاريخية والمعرفية
والسؤال الأهم هنا هو: هل شكل الإسلام قطيعة تاريخية ومعرفية مع ما سبق، بحيث يمكن احتسابه وحده مع بداية الوحي هو كل تراث الأمة؟
على مستوى الرؤى الأصولية لا بد أن تكون هناك قطيعة تاريخية، فيبدأ الإسلام من لا شيء، فهو مفارق سماوي، أزلي الكلمة المقدسة، غير مرتبط بماض أرضي، رغم الواضح في القرآن الكريم وما لحقه من أحاديث نبوية، وما أرتبط به من أحداث تجادل معها الكم المقدس أخذا وردا. فاعلاً ومنفعلاً مؤثراً ومتأثراً وما تأسس على كل هذا فيما بعد من اصطراعات مذهبية ورؤى فلسفية استندت إلى جدل القدس مع حدث الواقع الموضوعي، وهو ما يشير بوضوح إلى تناقض تلك الرؤية مع قواعد الإيمان ذاته وتاريخ الدعوة ناهيك عن استحالة القطيعة التاريخية، لأنه لا شيء إطلاقاً يبدأ من فضاء دون قواعد مؤسسات ماضوية يقوم عليها، ويتجادل معها، بل ويفرز منها حتى ولو كان ديناً.
والدارس لآيات الوحي يجدها تنبئه بوضوح أنه لم يكن هناك قطيعة معرفية –أيضاً– مع السابق الأرضي، وإن تشكلت تلك القطيعة بالفعل على المستوى الإيماني البحت كناتج لتأسيس الإسلام لذاته ولمصداقيته على طرفين الأول الاتصال بذلك القديم وتقديم معرفه به، ثم على الطرف الثاني تم نفي هذا القديم باعتباره أفكارا باطلة وعقائد أمم كافرة، وهو الأمر الذي ساعد على لون خطير من فقدان الذاكرة التاريخي الجماعي، وأسهم فيه بدور أساسي وتام انقطاع الشعوب المفتوحة عن لغاتها القديمة باعتبارها وعاء ذاكرتها وتاريخها وحضارتها، وحاصل خبراتها وتفاعلها مع واقعها عبر زمن طويل، وما أفره ذلك التفاعل من ثقافة احتوتها اللغة المفقودة.
وعليه (على سبيل المثال) فقد انقطع المصري عن تاريخه، ولم يعد يذكر من ذلك التاريخ سوى ما فدمه له الإسلام من معلوماتية بشأنه، وهي المعلوماتية التي تحدد الموقف المعرفي ليس بكونه تاريخاً، وموضوعاً للمعرفة، إنما بوقوعه بين طرفي معادلة الإيمان والكفر(!) وبالتالي تم تلخيص ذاكرة مصر بكل تاريخها في فرعون طغى، وتجبر فكان مصيره الهلاك غرقاً مع قومه المجرمين! وهو الأمر الذي يسحب ظلاله على الحاضر الآني، حيث لا يصبح للمصري تاريخ قبل الفتح، وتنقطع الذاكرة، وتتحول الهوية المفقودة نحو الدين وطناً وتاريخاً، ويصبح صدق الإيمان مع الإسرائيليين، الذين خرجوا من مصر الكافرة ليحتلوا فلسطين، احتلالا استيطانياً مشروعاً من وجهة نظر الإيمان(؟!) ويصبح المصري مع موسى ويشوع، ليبارك غرق التاريخ بالكامل مع العصا المعجزة، وهو الأمر ذاته الذي يكابده الواقع الفلسطيني، وهو الأمر الذي يصدق أيضاً على نمروذ العراق الكافر إزاء أرومة إسرائيلية إبراهيم، وعلى كنعان إزاء سام الخ، وهي الأمثلة التي توضح إلى أي مدى هي إشكالية الوطن والمواطنة والتباساتها إزاء الديني والقومي.
الإسلام إذن لم يشكل قطيعة معرفية مع ما سلف، إنما تجادل معه وحاوره ثم نفاه ليصبح الوحي هو مصدر ذاكرة الأمة، وهو وحده كل تاريخها ومصدرها المعرفي، وعليه يتأسس الموقف إزاء أي طارئ أو أي معرفة أخرى، وبموجبه تصدر الأحكام والتقييمات بصدد ما يتعلق بما سيق ثم باللاحق أيضاً.
وعلى مستوى العقائد، لم يشكل الإسلام قطيعة معرفية مع الأديان السابقة عليه، بل اعتبر نفسه امتداداً لبعضها كما في موقفه من اليهودية والمسيحية، بل إنه أسس ذاته سابقاً لها، وأن اعترافه بها لأنها كانت إسلاما بالأساس، ثم نافياً لبعضها الآخر، كما في نفيه لعقائد أخرى كعبادة الأوثان، باعتبارها عقائد باطلة، لكنه في تحاوره مع الديانات التي أطلق عليها (الديانات الكتابية) أصدر أحكامه بشأنها، وأبطل ما بقى مستمراً منها، إما لأنها انحرفت عن أصلها الإسلامي؟ أو لأنها حرفت الكلم المقدس عن مواضعه، أو لأن الدين في النهاية قد أصبح عند الله الإسلام فتساوى الكل، وأصبح الكف ملة واحدة، وعليه فقد أصبحت المعرفة المعلوماتية لدى المسلم عن تلك الديانات تستمد أصلاً مما قدمه الوحي والتاريخ الإسلامي بشأنها، وهو ما أدى إلى انقطاع داخل شرائح المجتمع العربي، تساعد عليه كافة أجهزته الإعلامية والتربوية، التي تتحدث جميعاً طوال الوقت دون كلل أو ملل بتكرار شديد الإملال عن الإسلام وقواعده وتفاصيله وشروحه، مما يعطي للعربي غير المسلم معرفة كافية بالإسلام، بينما يظل المسلم العربي لا يعلم من شأن عقيدة المواطن العربي غير المسلم، سوى ما قدمه له الإسلام، وهو ما أدى بالضرورة إلى اغتراب العربي غير المسلم عن معنى المواطنة، وإحتمائه بدينه ليصبح دينه وطناً، وهو ما سبقه إليه العربي المسلم عندما فقد ذاكرته وتاريخه.
تاريخية النص
والمطالع للمأثور الإسلامي، وما لحقه من تاريخ وتفاسير وسير وفلسفات وعلوم دين، يكتشف إلى أي مدى توقفت الذاكرة العربية عند لحظة نزول الوحي، وإلى أي مدى انقطعت عن ماضيها، وهو الأمر الذي استمر يتأكد بفعل الإصرار على فكرة الشخصية الثقافية الثابتة، وأن تلك الثقافة ليست بالأصل أرضية، بل هي مفارقة سماوية، وأنها الأصل في كل ثقافة أخرى، وأن ثباتها هذا ينفي أي محاولة لبحث تاريخيتها، فقد جاءت جاهزة هكذا من الازل، ودونت في لوح أزلي محفوظ، دون ارتباط بأي سبب موضوعي وقت تواتر الوحي (رغم تناقض ذلك مع تقرير الوحي ذاته).
وعليه أصبح بالإمكان اجتزاء أي نص من بين النص القرآني الكلي، ونزعه من سياقه مع باقي الآيات، وسحبه من لحظته التاريخية التي سببته، لدعم أي موقف آني نفعي حسب المصلحة المراد تحقيقها. أما الأخطر -برأينا– في رفض تاريخية النص، هو أن هذا الموقف تحديداً هو السبب الجوهري والأساس في تلك الالتباسات المشار إليها، وعدم الوصول إلى تحقيق دقيق بشأنها، كنتيجة لعدم أخذ الأسباب الحقيقية والموضوعية بالاعتبار، والتي أدت بالنبي، وبالوحي إبان تواتره، إلى اتخاذ مواقف بعينها من ذلك المأثور الحضاري القديم، أو من الديانات السابقة وأصحابها، وهو الأمر الذي بات يحتاج إلى تقديم دراسات واضحة جريئة بشأنه، والتعامل في درسها –مع النص بوصفه معبراً عن واقعه في حقل موضوعي للأحداث، إبان ثلاثة وعشرين عاماً هي زمن تواتر ذلك الوحي.
وهو ما يستدعي عملاً دؤوباً يربط حقل الأحداث بتصنيف الآيات، والمكي منها والمدني مرتبطاً بظرف كلا المدينتين وواقع البشر فيها مع دراسة وافية لعلاقة النبي وأتباعه بأصحاب الديانات الأخرى وما مرت به تلك العلاقة من متغيرات فرضها ظرف الواقع وتطور الدعوة، وأدي إليها وأفرزها، وعلاقة كل هذا بالمستوى المعرفي لجزيرة العرب وكّم وحدات تذكر العربي البدوي، وما ألقته البداوة من صباغ على تراكمه المعرفي (وهو لا جدال مستوى الخطاب القرآني الموجه إليهم)، مع تأسيس كل ذلك على قراءة علمية صارمة لواقع الجزيرة ومحيطها، من حيث البنى المجتمعية والأنماط الاقتصادية والأشكال السياسية، وهو الأمر الذي نظنه قد أصبح ضرورة ماسة الآن، وربما ذهبنا إلى أن الأمر بهذا الشكل مطلب مصيري لا يتناقض إطلاقاً مع قداسة الدين، بل نزعم أن هذه المطالب توقف عمليات التزييف والتدليس والتخديم الانتهازي للنص الديني، مما يحفظ له كيانه وقداسته، وفي ذات الوقت يرفع الالتباسات عن المفاهيم المطلوب تحديدها، ويساعده على استقرارها وتوقفها عن الرجرجة بين باحث وآخر، ورؤية وأخرى، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى حل كثير من الاشكاليات البحثية الداخلة في همومنا الآنية.

حول مفهوم التراث *
هل يمكن حقاً الركون إلى الرؤية الأصولية التي توقف ذاكرة الأمة عند لحظة ابتدائية أولى، هي لحظة تواتر الوحي القرآني، وتحدد للتراث مفهوماً أوحداً هو المفهوم الإسلامي، وتؤطره مكانياً بمهبط الوحي بجزيرة العرب؟ وحينئذ هل يغدو العربي المسلم بغير تراث وطني وقومي؟ أم سليجأ إلى التراث الإسرائيلي في التوراة (هو الحادث فعلاً)، وهل يبقي كل تاريخ تلك المنظومة من الشعوب العربية مقصوراً على التأرجح بين الإيمان والكفر، وبين فرعون وموسى، وبين طالوت وجالوت، وبين نمروذ وإبراهيم.
ووسط هذه الحالة الرجراجة بين الإيمان والكفر، هل يمكن أن يجد للوطن ومفهوم المواطنة مكاناً في تحديد الهوية؟ وهل بالحق يمكن إطلاق مفهوم (أمة) على مجموعة شعوب فقدت ذاكرتها وتماهت في الدين فأصبح هو الوطن وهو الهوية؟ وهل يصبح ممكناً – على الإطلاق – الحديث عن صراع حضاري آني، دون أن نتكهن بمصير آل إليه الهنود الحمر قبلنا؟ وإذا كانت هذه أسئلة أرقة مؤرقة، فهل من سبيل إلى الخروج من دائرة الإيمان والكفر إلى فضاء أوسع، لا يظله غير مناخ علمي حر تماماً، ويكون همه الأكبر هو مصير البلاد والعباد، إزاء التسارع الهائل الآن في تقدم الشعوب المتقدمة أصلاً، وتمكنها من أدوات السيطرة، من فقدنا الأسس والأدوات والمناهج التي قد تساعد – مع التفاؤل – على بدء خطوات صحيحة، للخروج من دائرة جذب ذلك المغناطيس الرهيب نحو القاع، فالتلاشي، فالزوال في طوايا القرون الغوابر، مع عاد وثمود وأصحاب الأيكة وهنود أمريكا وشعب الأنكا؟
وإذا كانت الرؤية العلمية ممكنة دوماً، فهل ينبغي أن يظل شبح الرعب من معادلة الإيمان والكفر، ما يصحبه الآن من أدوات تنفيذية لا تقيم وزناً لأبسط الحقوق الإنسانية، وتنفذ دون مراعاة لحيثيات العدل (؟!)، هل ينبغي أن يظل رعب مصادرة الكلمة والحياة (بأمر الله) عائقاً


* نشر في 10/11/1993، بصحيفة الأهالي، القاهرة.
(ومن صـ 137 -140 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
دون المحاولة؟ لو كان ذلك كذلك، فإن من يحاولون تأسيس تلك القراءة العلمية الآن، هم أصحاب الريادة في أشرف ساحات النضال حقاً وصدقاً.
التاريــــخ العــــبء
إن المحاولات العلمية المخلصة في التعامل مع المأثور الإسلامي في ظل الواقع المهين الراهن يجب إلا تضع باعتبارها إطلاقاً – إن كانت مخلصة وعملية حقاً – أي قطيعة معه، ولا أن تضع ضمن أهدافها إصدار أحكام بشأنه، ولا رفضه أو نفيه، ولا اقتطع بعضه – بحجة صلاحيته – دون بعضه، ولا إسقاط مفاهيم معاصرة علية، إنما يجب درسه مرتبطاً بواقعه، منضبطاً مع حركة هذا الواقع في زمانه، وإيقاع ذلك الواقع وضبط هذه الحركة مع الحدث الذي سبقها والذي عاصرها، وما نتج عن هذا من إفراز معرفي بعينه، دون محاولات وادعاءات عقلنة المأثور، أو أدلجته، ودون المبالغة في بعض مناطقه، ودون التجاوز عن مناطق أخرى فيه، باختصار أن تتم قراءته قراءة تاريخية لا تجرده من ماضيه ومشكلات زمانه. من حيث كان واقعة في حقل لحدث الواقع المجتمعي، بحيث ترتبط الفكرة بواقعها، ليعود ذلك المأثور إلى حجمه الطبيعي، ويتراجع ظله السحري الذي يفرضه دوماً كمثل أوحد لا يصح تخطيه، ولا يظل لوناً من التاريخ العبء، قدر ما يتحول إلى تاريخ دوافع ومحرك، دينامي لا سكوني.
لكن وسط كل هذا الاهتمام بين من يفرضون المأثور الإسلامي وحده تراثاً أوحد لك الآمة، ومن يحاولون درس هذا المأثور دراسة علمية، تنكشف حقيقة أولى هامة وخطيرة، وهي أن كليهما – حتى أصحاب الدراسة العلمية – لا يتحركون خارج دائرة المأثور الإسلامي وحده، كما لو كان الأمر فعلاً، ثم رد فعل، محاولة فرض دائمة، ومحاولة رد لتحجم ذلك المفروض، دون أن يسمح ذلك الاصطراع الفكري الدائب بالحركة التاريخية إلى ما قبل المرحة الإسلامية، كما لو كان الزمان قد انبت عندها وانقطع، ولا يظل في الذاكرة من تراث تلك الأمة وسط الهموم الحاضرة سوى ذلك المأثور وحده، مع تجمد المحاولات العلمية ذاتها عند نفس لحظة البدء المحددة سلفاً وسلفياً، بزمان بدء تواتر الوحي، ومكانه بجزيرة العرب.
نحو فهم آخر
ومن هنا نلح وننبه إلى خطورة حالة هذا الخدر العلمي الذي استطاب حركة رد الفعل الدائمة، والذي توقف – ربما مضطرا – عند هذا المأثور دارساً محققاً مدققاً، وربما كان واقع الحال سبباً يفرض موضوعات البحث، وأيها جدير بالاهتمام الآن. لكن الاقتصار على المأثور الإسلامي وحده في ساحة الدرس العلمي، يؤسس لفهم كاد يصبح حقيقة، وهو أنه وحده تراث الأمة بكاملها، وعليه كان همنا فتح النافذة على التراث بمعناه الأكمل والأشمل باستمرار، حتى لا يضيع من الذاكرة معنى التراث الحقيقي.
وإن أي عقل سليم يمكن أن يرى بهدوء، أن أي تراث لأي مجتمع لا يمكن أن يتطور أو يحدث أصلاً دون توارث، فالتراث – لغة – إرث عن الأسلاف، تركوا لنا فيه ناتج خبراتهم ومعارفهم، أي أن التراث متطور فاعل منفعل دوماً، أي أن الناس هم صناع ذلك التراث، يصوغونه وفق ظروفهم وحاجتهم، حتى لو كان ديناً، فالوحي القرآني جاء مفرقاً ومنجماً، ناسخاً ومنسوخاً، وبدّل ومحى وأثبت، تبعاً للمتغيرات ولمصالح الناس خلال زمن تواتر الوحي، ثم ظل كمأثور ديني حسب فهم الناس له، أو على الأدق فهم كل فرقة أو مذهب أو طبقة اجتماعية.
هنا بالطبع مع اعتبار أن أي نقطة تطورية على سلم التراث، كان لابد أن تسبقها نقلة على الدرجة الأدنى، ويستحيل دونها الوصول إلى الدرجة الأعلى، وهو ما ينطبق بدوره على علاقة المأثور الإسلامي بالتراث السابق للمنطقة بكاملها.
وبمعنى آخر؛ إن أي تطور ثقافي ما كان ممكناً حدوثه إلا على أسس وأعمدة من ثقافة سابقة، فقط ما يجب أخذه بالاعتبار هو: أن التطور عندما يأتي رأسياً صاعداً على عمد تراث قديم، فإنه يقوم إبان ذلك بتوسع أفقي يفجر فيه مع كل نقلة، الأسوار والتحديدات القديمة، من أفكار ومعتقدات لم تعد مناسبة لاحتواء الظرف التطوري الجديد، ولم تعد صالحة كوعاء مناسب للتراكم المعرفي المتزايد، ولم تعد صالحة لمعالجة إشكاليات مستجدة لم تكن بمعرفة من قبل، ويفرضها التطور الدائم للأشكال الاقتصادية والتنظيمات الاجتماعية، وهو ما ينطبق على علاقة المأثور الإسلامي بما سبقه، كما يجب أن ينطبق تماماً على ظرف اليوم وعلاقته بمأثور مضى عليه ما يزيد عن أربعة عشر قرناً من الزمان.
ومن ثم فإن القناعة السائدة بانقطاع شعوب المنطقة عن ماضيها القديم هي قناعة إيمانية، أكثر منها حقيقة واقعة، لأن التراث حسبما أسلفنا لا يمكن أن يكون حكراً على ثقافة بعينها، ولا يمكن أن يكون ذا مبتدا (زمكاني) محدد. وإن ما جاء بمأثورنا الإسلامي عن تراث سابق، لم يأت غريباً من الماضي ليتسلل إلى المأثور الإسلامي زمن التدوين، وفي الوقت ذاته فإن المأثور الإسلامي ذاته ليس وافدا من خارج الزمن والمكان، بل كان هو الامتداد الموضوعي للزمن والمكان، وبهذا الطرح يمكن تحقيق معرفة بالتراث تصحح الوعي به، وتزيل عن فهمه أي التباس، وهو الأمر الذي سيسحب عدداً من التصويبات تلحق بمفاهيم لم تزل رجراجة حول (الوطن، الأمة، الهوية، القومية ... الخ).
وعليه فلا مناص من تحديد مفهوم الثقافة والتراث، باعتبارها ناتج تراكم كمي وكيفي لخبرات طويلة تعود إلى عمق ما قبل بداية التاريخ، مع ارتباط الإنسان بهذه الأرض واستقراره فيها، وأن هذا التراث ناتج تفاعل جدلي داخل تلك المجتمعات منذ بداياتها الأولى، وبينه وبين بيئته الطبيعية، وبينه وبين المجتمعات الأخرى والثقافات الأخرى المتباينة، عبر خلالها نقلات على سلم التطور الزمني والمجتمعي والاقتصادي، وشكل في النهاية منظومة فكرية كبرى، يشكل المأثور الإسلامي فيها إحدى الحلقات الكبرى.

"النص" بين الأزلية والتاريخية *
عنوان هذا الموضوع، يلخص – في رأينا – سر الأزمة التي آثارها الشيخ (عبد الصبور شاهين) إزاء أعمال المفكر (نصر أبو زيد). حيث أنطلق الشيخ (شاهين) من موقف مألوف، يصر على فكرة الشخصية الثقافية الثابتة .. المتماهية مع النص الإلهي، بحيث يظل ثبات المفهوم القدسي، ضامناً لثبات المواقع السيادية لرجال المنظومة الدينية (!!) بمعنى ثبات النص كوحدة كتلية واحدة من الأزل. وأن هذا الثبات الكتلي غير المتغير – قد جاء كما هو معلوم – نتيجة انتهاء جدل فلسفي قديم حول قدم النص أو حداثته، بانتصار سياسي سيادي لأصحاب فكرة الأزلية والقدم والثبات، بتحالف أسس لأصحاب تلك الرؤية مواطئ قدم ثابتة دائمة في المنظومة السيادية، التي يجب أن تقوم دوماً على الثبات الشروع قدسيا. وبعدها أصبحت أي محاولة للمناقشة لوناً من الكفران المبين! مع الأمر غير الخفي الذي يبين في تماهي وتماسك المنظومة السيادية التحالفي مع مؤسستها الدينية، وبالتالي مع صاحب النص الذي يمثلونه على الأرض، كمعبرين دائمين عن ثبات كلمته، وثبات العروش القائمة في الآن ذاته.
ومن ثم كانت أية محاولة لنبش ذلك المفهوم السائد الثابت، حول الثبات الكُتلى المتوحد للنص مع ذاته ومع صاحبه ومع الأزل، والذي يؤكد أن النص كان في الأزل كتلة واحدة متماسكة سماوية مفارقة للأرضي وأحداث الواقع، تعني هز الأسس السيادية التي تقوم عليها تلك المنظومة. وهو ما كان يوجب بالطبع رداً عنيفاً حدياً بين قراري الإيمان والكفر، وهو الطبيعي غير المدهش أطلاقاً، وهو الرد نفسه الذي يضرب في عمق الماضي، الذي استخدمته الطبقات السائدة دوماً عبر وسطائها المحترفين من رجال الدين! كما استخدمته منظومة رجال الدين ذاتها، لتأمين مصالحها الخاصة، بإبقاء النص معلقاً في الفضاء غير مرتبط بأي واقعة تاريخية كانت سبباً له، لأمر مفهوم تماماً استمر عبر أربعة عشر قرناً مضت، رزح فيها المسلمون تحت كافة أنواع القهر الطبقي والطغيان السلطوي. الذي عادة ما كانت تتغير مظاهره وتتفاوت بتفاوت أحوال المكان والزمان، وعادة أيضاً ما كان يجد ذلك القهر المتفاوت سنده في النص الذي يفلسفه رجال

* نشر في 17/11/1993، بصحيفة الأهالي، القاهرة.
(ومن صـ 141 -144 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
الدين، بسحب أي أية قرآنية في سياقها النصي، وبتر صلتها بسابقها ولاحقها! وهم بذلك يسمحون لأنفسهم وحدهم بفض ذلك التماسك الكتلي الذي يدافعون عنه، وفي الوقت ذاته يقطعون علاقة الآية المطلوبة بواقع الحال الذي سبقت بشأنه في أوانها.
استخدام نفعي
وهكذا يظل النص دوماً رهن الاستخدام النفعي، لتبرير مواقف قد تصل إلى حد التناقض التام مع بعضها، وبالتالي التناقض التام في الآيات المعبرة عن تلك المواقف المتناقضة والمبررة لها، ولا تحتاج إلى جهد كبير لكشف ما وراءها منمصالح ومواقف هي ضد إنسانية المواطن وكرامته.
وقد كان ذلك الاستخدام الانتهازي الدائم للنص الديني، مصدر لعدد من الانتكاسات القادحة، حتى وصل الأمر أحياناً إلى استخدام النص لتبرير أهواء ونزوات للحاكمين، هي ضد الوطن وضد المواطن وضد الدين ذاته.
وعلية فإن أية محاولة لإعادة النص إلى سياقه وبنائه الداخلي، ومحاولة تحليله وأدراك علاقاته ببعضه، وعلاقته بواقعه الحدثي وسياقه الخطابي – وهو الأمر الذي يعيد له احترامه ومفهوم قدسيته – كانت مثل تلك المحاولات، في معناها الأخطر هي ارتجاج عروش بدأت الأرض تميد من تحتها بالفعل، وآن مغربها. وعليه كان رد الفعل الذي أدهش كثيرين، رغم أنه لم يكن مدهشاً على الإطلاق.
ويبدو أن الأمر سيظل كذلك بعض الوقت، وهو ما لن يحسمه إلا أن يضع المفكرون المخلصون بحسبانهم، أن القضية قضية نضالية في المقام الأول، إضافة لكونها قضية علمية، لا تحتمل تمييع المواقف، أو المصالحة حول مناطق وسطية تصالحية، فالأمر الآن مصير أمة بكاملها، لم يعد بالإمكان إخضاعه لنزوات الرجال وأهوائهم.
وإزاء التسارع في اتساع المسافة بين أحوالنا وأحوال الأمم المتقدمة، لم يعد هناك وقت لإرجاء حسم كثير من المواقف الفكرية، التي ترتبط بشدة بمصير البلاد والعباد، ويبدو أن هذا قدرنا، وأن هذا زمنها، فإن ذهب بلا حسم لكثير من القضايا المسلط فوقها سيف التكفير، ومنها القضية عنوان هذا الموضوع، فلن يكون هناك بعد مساحة لمناقشة أمور هذه الأمة، لأنه لن يكون بعد هناك أمه.
ســــر الأزمــــة
وأتصور أن من أهم ما استثار الرجال في المؤسسة المشيخية في أعمال (أبو زيد)، ذلك الموقف الذي أبرز فيه التناقض الناشئ عن القول بأزلية النص وثباته، وهو ما جاء واضحاً في كتابه ( مفهوم النص) يقول:
"إن ظاهرة النسخ تثير في وجه الفكر الديني السائد المستقر إشكاليتين (يتحاشى مناقشتهما) الإشكالية الأولى: كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ، والإشكالية الثانية: إشكالية جمع القرآن، وما يورده علماء القرآن من أمثلة توهم أن بعض أجزاء النص قد نسيت من الذاكرة الإنسانية، ولم يناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة أو حذف النصوص سواء بقى حكمها أم نسخ أيضاً، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه، لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ .... إن فهم قضية النسخ عند القدماء، لا يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم الأسطوري للوجود الأزلي للنص، بل ويؤدي أيضاً إلى القضاء على مفهوم النص ذاته"
وهكذا بسط الرجل الأمر ببساطة وإنصاف، وعرض الإشكالية بموضوعية ودون استفزاز، فقط أكد أن الثبات الأزلي كمفهوم، يتناقض مع مفهوم النسخ، ولنلاحظ أن مفهوم النسخ بدوره كان معتمداً آخر لكثير من التبريرات للتوجهات القمعية، أو ما هو ضد مصلحة الأمة، وذلك باستخدامه تبادلياً عند الحاجة مع مفهوم الأزلية، المهم أن ( نصر ) هنا إنما ينبه فقط إلى هذا التناقض، بدليل مسألة النسخ كما وردت في كتب علوم القرآن، ودون أي محاولة للتدخل، الرجل أراد – فقط – فتح نافذة للنقاش، لكنها النافذة التي تسحب من رجال الفكر الديني أهم أدواتهم الانتهازية لسحق المواطن باسم الدين! وهو الأمر الذي يمكن أن يؤول بالوطن في النهاية إلى مقلب نفايات الأمم، ومن ثمّ ندفع بالمسألة مسافة أبعد، ونطلب جهداً واضحاً يربط إشكاليات النسخ بواقعها الموضوعي، من حيث كانت الآيات تعبيراً عن وقائع في حقل أحداث أدت إليها في زمانها، وهو ما سبق أن قدمنا فيه دراسة منشورة كمدخل ومقدمات (1)، من أجل وقف تزييف وعي المواطن، وتزييف الدين ومعاملته بانتهازية، ووقف الانزلاق التاريخي المهين لهذه الأمة نحو القاع.
التناقــــض
وأن التناقض يظهر واضحاً جلياً، عندما نجد أن أي محاولة لمناقشة أزلية النص تتهم فوراً بالكفر والإلحاد، وفي الوقت ذاته، ودون أن يطرف لهم جفن، يأخذون قضيه النسخ من المسلمات، ومن لا يؤمن به كافر بدوره، ولا نجد مبرراً لكلا الموقفين المتناقضين غير الإبقاء على بدائل تظل دوماً متاحة، للتخديم على المصالح وقت الحاجة، حتى لو كانت تلك المواقف شديدة التناقض.
وللحق،فإن الإصرار على وقوع النسخ هو موقف حق، لكنه يحتاج في الجانب الآخر التنازل عن المفهوم السائد حول الأزلية والثبات، ومن النماذج التي تشير إلى التمسك بوقوع النسخ على سبيل المثال، ما جاء عند شيخ علوم القرآن ( جلال الدين السيوطي ) في قوله:
"قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله تعالي إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وقد قال على رضي الله عنه لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا، قال: هلكت وأهلكت"
كذلك ما ورد عن ( أبى جعفر النحاس ) في قوله: "ومن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ، وهذا قول عظيم جداً يئول إلى الكفر".
وهو ما صادق عليه ( الدكتور شعبان إسماعيل ) وكيل الأزهر بقوله: "وأهمية معرفة النسخ تتضح مما يأتي: أولاً: أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين جحدوا وقوع النسخ وهو واقع، وثانياً: أن الإلمام بالناسخ والمنسوخ يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمه الله في تربيته للخلق وسياسته للبشرية، وثالثاً: أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام، والاهتداء إلى صحيح الأحكام، فالمنكـرون
(1) أنظر كتابنا: الأسطورة والتراث، باب: النسخ في الوحي، محاولة فهم.
لوقوع النسخ في القرآن الكريم، يخالفون صريح النص القرآني والسنة النبوية والصحيحة وإجماع المسلمين.
وتأسيساً على ذلك، يصبح إنكار النسخ لوناً من الكفر الصريح، والنسخ إنما يعني تاريخية النص وتفاعله مع واقعه وارتباطه بظروف ذلك الواقع، وفي الوقت ذاته فإن إنكار عكس ذلك ورفض الأزلية والثبات كفر بدوره وهو ما يتبناه الشيخ الغزالي هذه الأيام، وبين الكفرين يضيع المسلم ولا يبقى سوى أن يركن لمن يفسرون له الحكمة في التناقض، بالتعتيم على الإشكالية، استخدام المتناقضين حسب الحاجة والطلب والمتغيرات، دون احترام مطلوب لذلك النص الرفيع، الذي تأكدت تاريخيته درساً تربوياً للمؤمنين به، تلك التاريخية التي أكدتها نصوص القرآن الكريم ذاتها بما لا يحتمل لبساً أو تأويلاً.

كشف الخدع فيما جاء به الخطاب الديني من بدع *
هل يبدو العنوان مستفزاً؟ لا شك أنه كذلك لأول وهلة ... لأننا نخلط بشكل غير واع بين الدين بقداسته التي تمثلها كتبه الموحى بها، وبين الخطاب الديني الذي يستخدمه كل من هب ودب للدفاع عن قضيته، حتى لو كانت أشد القضايا بطلاناً، وهو الخلط الذي انسحب من الدين على الخطاب الديني، وعلى أصحاب هذا الخطاب أنفسهم، الذين عمدوا إلى تأكيد ذلك المعنى، بالخلط المقصود بين الدين في ذاته وبين خطابهم المصلحي! حتى أصبحوا ينعمون في نظر العامة على الأقل بهيبة مستمدة من قداسة الدين، وبخوف خرافي من الزي (اليونيفورم) الذي يرتديه رجل الدين المتكهن عادة، وهو ما ساعد أصحاب الخطاب الديني، دوماً على خداع الجماهير ضد مصالحها، وتبرير أفظع المظالم، وتمرير أشد الفظائع إثماً، باعتبارها مشروعة دينياً، وهو الأمر الذي تدلل عليه إطلالة سريعة على تاريخ الأنظمة (الثيوقراطية)، سواء في أوروبا أو في بلادنا، عندما كان الناس يحكمون بمساندة رجال الدين، أو بهم مباشرة، خاصة عندما يدعون لأنفسهم قميصاً سربلهم الله به، أو حقاً إلهياً مزعوماً، وسواء كان ذلك الدعي بابا أم سلطاناً أم خليفة.
ومن نكد الدهر أن نعي هذا الخلط، ونظل فيه سادرين. ومن ثمّ فإن ما نسمع ونقرأ من كلام مرسل، لم يستطع أن يفرق بوضوح بين الدين وبين المشتغلين بأمور الدين، وبين الدين وبين الخطاب الديني، وبين الدين في ذاته كمقدس، سر تقديسه الوحي الإلهي وبين الفكر الديني الذي يشرح أو يفسر أو يضيف أو يؤول أو يستخدم ذلك الوحي، لمأربه أو لوجه الله.
والمثال الأوضح هنا، أننا نعلم جميعاً ولا شك لحظة أن الوحي القرآني هو كلمة الله الواحدة الثابتة، ومع ذلك فإننا وجدنا عبر متغيرات سياسية واجتماعية، من كان يبرر لنا النظام الاشتراكي بالقرآن والسنة والقواعد الفقهية، ثم جاءنا من يبرر الاقتصاد الحر ويكفر الاشتراكية والاشتراكيين، وبتغير الأحوال عبر الأيام، وتداولها بزوال اقتصادي اجتماعي وقيام آخر. كنا نجد لدى الخطاب الديني مشروعية كاملة لمحاربة دولة إسرائيل، بينما نجد في زمن كامب ديفيد كل المبررين يتقدمون بدلائهم السلمية وآرائهم الشرعية، التي تؤكد أنهم ما داموا قد جنحوا للسلم،
* نشر في مايو 1993، بمجلة أدب ونقد، القاهرة.
(ومن صـ 145 -148 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
فعلينا أن نجنح لها ونتوكل على الله (؟!) وفي حرب الخليج وجد نظام صدام من رجال الدين في مختلف أنحاء بلاد لا إله إلا إله، العدد الكافي لتبرير مواقفه، وعلى الجانب الآخر وجد المتحالفون ضده (من المسلمين تحديداً لأن الأمريكان لم يفعلوها) من يبرر لهم موقفهم تبريراً شرعياً.
وهكذا مع شديد الأسف، نهدر قيمة الوحي الصادق، ونتعامل معه (بفهلوة)، تبرر ما نريد، وترفض ما لا نحب، وتدافع عن ظلم، وتقرر لمواقف شديدة التنافر مصداقيتها الدينية، وهو الأمر الذي يستهين بالوحـي الإلهي، ويجعـله مطية لكل الأغراض، ويمتهن كملة الله الصادقة، دون أن يرف له جفن، وهذا هو بالتحديد ما نقصده بما جاء به الخطاب الديني من بدع، ليست من صحيح الدين، ولا من سلامة الضمير ولا الإيمان.
ومن ثمّ كان لابد من موقف حاسم إزاء ما يحدث، موقف يضع الشروط التي تضمن احترام النص، وتمنع استثماره حسب الهوى والغرض، وربما لخدمة أشد الأمور بعداً عن الحق والإنصاف. ومن بين هؤلاء الذين أخذوا هذه المهمة على عاتقهم، المفكر المتميز (نصر حامد أبو زيد)، الذي حدد أساساً لمشروعه العلمي، يتمثل في أن الدين يجب أن يكون عنصراً أساسياً في أي مشروع نهضوي. لكنه توطئة لذلك أعطى من عمره الكثير لإيضاح أن الدين ليس هو الخطاب الديني، والذي يمارس دوره بشكل أيديولوجي نفعي، إنما الدين هو النص الديني الموحى به بعد تحليله وفهمه فهماً علمياً صحيحاً يمنع عنه أي لبس، ويقف عقبة إزاء محاولات استثماره، وهو ما سينفي فقط ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية.
وقد انتهى الدكتور نصر أبو زيد في بحوثه إلى عدم وجود خلافات جوهرية بين خطاب المعتدلين وخطاب المتطرفين، فكلا الجانبين النشطين يعتمد على ذات الآليات التي توحد فكرهم بالدين لاكتساب قداسته، وتفسير كافة الظواهر بإرجاعها إلى مبدأ أول هو الحاكمية الإلهية، بوصفها نقيضاً لحاكمية البشر، إضافة إلى سلطة السلف، وتحويل نصوص المجتهدين إلى نصوص شبه مقدسة أو مقدسة، بحسم قطعي يهدر البعد التاريخي للدين تماماً، كما يعتمد الخطابان على ذات المنطلقات الفكرية بمبدأ تحكيم النص، الذي عادة ما يصبح تحكيماً لتفسير وفهم فئة بعينها للنص على حساب العقل، وهو الأمر الذي ينتهي بالخطاب الديني إلى موقف نقيض من الإسلام، لأنه نقيض للعقل رفيق الإسلام وأساسه المتين، ثمّ يقوم ذلك الخطاب بتحريم ما عدا ذلك عن طريق التغطية الأيديولوجية لتوجهاته الرجعية الخادمة للنظم السياسية الدكتاتورية، عن طريق مبدأ (لا اجتهاد مع النص).
وهي خدعة أيديولوجية، لأن معنى النص هو (النص الواضح القاطع الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا)، والنص بذلك نادر في الوحي، وتظل سائر الآيات قابلة للاجتهاد والتأويل.
وبهذه التفرقة بين الخطاب الديني وبين الدين، ينزع عمل الدكتور نصر عن الفكر الديني وخطابه القداسة، ليصبح اجتهادات بشرية لفهم نصوص الدين، بحيث يظل الوحي الإلهي مصاناً باحترام حقيقي، وهو ما لا يسمح باللعب بالآيات وتفسرها حسب الهوى والمنافع، وإكساب ذلك التفسير قدسية الدين ذاته.
ومن هنا فإن الدكتور نصر حامد أبو زيد، وغيره من أصحاب ذات الاتجاه والغرض، وأن اختلفت الأدوات بين هؤلاء الكوكبة من الباحثين المبشرين بفجر جديد، فد تعرضوا لهجمة شرسة من أصحاب الخطاب الديني، ارتكنت جميعاً إلى التكفير، لحصار أعمالهم وتنفير المواطن منها، وتشكيل رأي سبق لديه يمنعه من متابعتها أو قراءتها، ولكن المأساة الحقيقة أن يتحول الأمر إلى إرهاب حقيقي، فمن الدعوة الصريحة إلى إخراس تلك الأصوات (وهو ما تعرض له كاتب هذه السطور على صفحات الأهرام والنور وغيرهما) إلى الانتقال للفعل داخل قلعة العلم المفترضة (جامعة القاهرة)، حيث تم رفض الأعمال التي قدمها الدكتور أبو زيد، والتي تصل إلى ثلاثة عشر عملاً، ولم تشفع له لنيل درجة الأستاذية، أما الأكثر نكاية وإثارة للفزع حقاً، هو أن يكون التبرير المدون لذلك الرفض، هو اتهام الرجل بالكفر، بعد تزوير كلامه وتحريفه عن موضعه وسياقه، على نمط (لا تقربوا الصلاة)، إضافة إلى التلفيق في التأويل المتعسف، دون الرأي العلمي المفترض وحده، وهو ما فعله تقرير الشيخ عبد الصبور شاهين، رجل بيت لهف الأموال المشهور، وبالطبع لم يكن غريباً أن يكون كاتب تقرير بهذا السمت والشكل رجل من المستفيدين المتاجرين بخطابهم الديني، وهو ما علمناه عنه يقيناً في علاقته بأكثر من فضيحة لم يداريها ولم يندى لها جبينه. فهو أمر مفترض لدى أصحاب الخطاب الديني النفعي، ومن الطبيعي تماماً أن يصاب مثل كاتب التقرير بهذا الهياج الشديد، لكن غير المقبول وغير المفترض وغير المتوقع إطلاقاً، أن يكون رجل واحد هذا رأيه، يتمكن بالإرهاب من فرض رأيه واستبعاد رأي جميع أساتذة كلية الآداب وبخاصة قسم اللغة العربية فيما قدموه من تقارير، وهنا الكارثة حقاً.
ويبقى التساؤل: هي أصبحت قبة الجامعة، قبة شيخ من ذوي الكرامات ثوى في قبر مبروك؟! أم قبة كنيسة؟! أم قبة أحد المساجد؟! أم قبة معهد علمي عريق تعرض في غفلة أو تغافل مقصود، لتسرب الإرهاب إلى حرمه ليعتدى على أقدس حرماته وهي حرية البحث العلمي، وأمانة القرار العلمي؟ الفضيحة عالمية يا سادة يا كرام، ولم تعد مسألة ترقية (أبو زيد) أو حتى فصله (أنا شخصياً أحبذ القرار الأخير، لأنه سيعطي الرجل تفرغاً ليأتي ويجلس بجانبي يؤنس ترهبي، كما سيعني ضراوة أكثر من معركة يجب أن تحسم اليوم وليس غداً حسماً نهائياً، إما حياة الأمة وتقدمها، أو ننفض أيدينا منها ونترحم على ذكراها) فالقضية أكبر الآن من ترقية أستاذ، إنها منطق الإرهاب والتكفير واضطهاد الفكر الآخر، وإذا كان هذا قد حدث مع نصر وهو مسلم، فكيف به لو كان مسيحياً؟ فيا أيها المسيحيون المصريون طوبى لكم حقاً وصدقاً، والحق أقول لكم: إن مصر تتأسس اليوم، وفي هذا الجيل، لقد افتتحت قضية نصر الملحمة، والله المستعان.

ذبح المفكرين على الطريقة الإسلامية *
(مفكر من أهم مفكري التنوير في التاريخ المصري، وعلامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية جميعاً). هذا بالضبط ما قلته في إحدى ندواتي بعد أن قرأت للرجل بحثاً واحداً، كان منشوراً أيامها في دورية عربية، وبعدها تابعت البحث عن أعمال الرجل، وعن الرجل نفسه، لأكتشف إنه كان بدوره يبحث عني، عندما أرسل لي – بمدينة الوسطى حيث كنت أقيم – أحد مريديه، ليطلب اللقاء.
وبقدر ما أدهشتني كتابات هذا الرجل بقدر ما أدهشني شخصه، تحسبه لشدة تواضعه وهو يستمع للقول إنه يستمع إليه لأول مرة، ثم تكتف أنه يعلمه فعلاً لكن بشكل أفضل، حكى لي عن مرحلة الصبا بشديد من البراءة والاعتزاز، وكيف بدأ عاملاً فنياً باللاسلكي، وكيف حمل أعباء الأسرة بعد رحيل عائلها، وكيف كان يعمل نهاراً ويدرس ليلاً، لكنك لا تجد مهما بحثت أي أثر لتشوهات كان يمكن أن تتركها تلك الرحلة في نفس أي رجل، كل ما حدث أنه قرر أن يحمل عبء مصر جميعاً.
صريح كل الصراحة إلى حد الصدمة، لا يقول إلا ما يعنيه فعلاً، أما المستوى العلمي الرفيع والرصين في إصداراته السبع، فتشي بصرامة علمية نادرة، تفصح عما يأخذ الرجل به نفه من شدة وقسوة عندما يعمل، فعلى مستوى الكتابة، وعلى المستوى الشخصي، لم يساوم أبداً على مبادئه، ولا على مستقبل هذا الوطن.
ذلكم هو نصر حامد أبو زيد.
والقارئ لأعمال نصر أبو زيد يكتشف هم الرجل في إزالة ومنع الاستخدام النفعي والانتهازي للدين، بدأ به على ربط النص بسببه الموضوعي وسياقه التاريخي. أما الأسلوب فشديد الرصانة، شديد البراءة أيضاً، يفضح ببراءته أولئك المنتفعين على مر العصور، ومن هنا استشعر أولئك الخطر الذي يمثله هذا الإنسان، فشنوا عليه حملتهم التي قادها مستشار بيوت هبش الأموال

* نشر في 26/6/1995، بمجلة روز اليوسف، القاهرة.
(ومن صـ 149 -155 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
المعروف عبد الصبور شاهين لتدعمه بعد ذلك أسماء كثيرة وردت بكشوف البركة، ليأخذ التحالف الأسود مداه ليصل بالرجل إلى المحاكم، حيث يصدر ضده الحكم بتفريقه عن زوجته، بحجة أنه أراد الاجتهاد في قواعد المواريث، فانكر بذلك معلوماً من الدين بالضرورة، والمعنى الضمني في هذا الحكم أن الرجل مرتد عن الإسلام، ويصبح من حق أي مسلم مهووس أن يذبحه وهو مطمئن الفؤاد قرير العين، بالنظر إلى العلاقات الواضحة بين الأقطاب، حيث أفتى الشيخ الغزالي في محاكمة قتلة فرج فودة، بأن أي مسلم يمكنه تنفيذ حدود الله بيديه، وبالمناسبة منحت حكومتنا المباركة هذا الرجل جائزتها التقديرية؟!
ولو مددنا الخط على استقامته، منذ مقتل الدكتور فرج فودة، مروراً بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ، ثم ربطنا ذلك بتراجع العنف الديني المسلح بعد الصدامات الدموية مع جهاز الشرطة، ومع خسارة ذلك العنف تأييد الشـــارع المصري له، حيث بدأ الناس بالتعاون الفعلي مع الشرطة بعد ما رأو من جرائم الإرهاب، فإننا سنلحظ فوراً نقلة جديدة، تتمثل في متغيرات مرحلية وتكتيكية، لكسب الجماهير إلى صف الإسلام السياسي، وذلك برفع عدد من قضايا الحسبة ضد مفكري مصر، مثلما حدث مع عاطف العراقي، وكتاب روزاليوسف، وغيرهم، وهنا يتم نقل قضية نصر أبو زيد من دائرتها الأصلية إلى الدائرة التي أصدت الحكم، دون مبررات واضحة، وهي كلها مؤشرات إلى منهج آخر وطريق آخر يتسم بالذكاء قد بدأ تنفيذه، حيث يمكن ذبح نصر أبو زيد بعد الحكم، مع تهيئة الجماهير لقبول ذلك الذبح الشرعي بحملة واسعة حدثت فعلاً في مساجد معلومة الشأن، دون أن نتمكن من اتهام الإرهاب الديني المسلح، وسيف هيبة مؤسسة القضاء مرفوع فوق رؤوسنا، ولأن القتل هنا سيكون بتفويض رسمي من مؤسسة الدولة، ومختوماً بخاتمها الرسمي.
كل ذلك يشير إلى جودة عالية في التكتيك، وتوزيع مبرمج بدقة للأدوار، تمكن من الاستفادة من الوسطية الفجة التي تلعبها مؤسسة الحكم، منذ أن قررت أن تكون الدولة دولة مؤسسات ديمقراطية، ثم قررت في الوقت نفسه أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، فجمعت بين المبدأ الديمقراطي الذي لا يعرف عن المواطنين هويتهم الدينية، ولا يضع، في اعتباره إن كان هذا المواطن مسلماً، أم مسيحياً، أو حتى بلا دين محدد، وبين أيديولوجيا دينية شمولية، مع التصور الساذج أنه من غير الممكن استخدام هذه النصوص الدستورية عملياً، حيث كان الأمر تجملاً من النظام أمام التيار الديني، وإثباتاً لتدين الدولة والتحائها، لتحقيق عناصر ومناخ مناسب للتحالف الذي حدث آنذاك بين نظام السادات وبين الإسلاميين.
ولا شك لدينا أن السيد القاضي المبجل، الذي أصدر الحكم، كان متسقاً تماماً مع القاعدة التشريعية التي سوغت له أن يحكم بما حكم، فتحت يديه باب للجحيم يمكنه أن يفتحه ويستخدمه وقتما شاء، قد وضعته له حكومتنا الغراء، كما أن سيادته كان متسقاً تماماً مع منظومته الدينية والفكرية، فالرجل كما رنا إلى علمنا من المتشددين في أمور الدين، لذلك فقد أصدر الحكم الذي يرتاح إليه ضميره وعقيدته، التي هي بهذا المنطق أساس ومقياس كل الأحكام.
لكن هذا كله لا يعني تبرئة السيد القاضي المبجل من الخطأ، فجل من لا يخطئ، نقول هذا ونحن نعلم معنى هيبة القضاء ومؤسسته، كما نعلم جيداً ما قد يجره هذا الكلام علينا نحن بالذات. لكن المسألة لم تعد تحتمل تردداً أو وسطية أو تمييعاً للمواقف، نعم مؤكد لدينا أن الحكم بقياسه على عقيدة القاضي ونص الدستور صحيح تماماً، وهو الأمر الذي يجب أن يحيل الجميع الآن إلى مناقشة القاعدة الدستورية والتشريعية ذاتها، التي سوغت له إصدار حكمه، أما الخطأ الذي نقصده فهو قيام الحكم على حيثية اتخذت موقفها من اجتهاد نصر على فهمه هو لما كتب نصر أبو زيد، بينما هناك كثي من مفكري هذا البلد، قد قرأوا أعمال الرجل، ولم يفهموا منها ما فهم السيد القاضي، وهنا جوهر الأمر، حيث يتم تحكيم الدين في رقاب العباد، بينما النص الديني نفسه قابل لتعدد الفهم حوله بتعدد القراءات واختلاف الثقافات، كما أن أي نص آخر يحمل ذات المشكلة في تعدد ألوان الفهم حوله، ومن ثم يصبح الخطأ هنا – خاصة إذا كان الخطأ قاتلاً – هو في فهم ما كتب نصر أبو زيد، يلتبس بخطأ آخر يتأسس على الانحياز لفهم دون فهم آخر لنصوص الدين، وهو بدوره ما ينبني على اعتبار تلك النصوص نصوصاً جامدة ثابتة لا تقبل المناقشة، ويلحق بذلك نتائج هي أن أي محاولة لتحديثها أو تأويلها، أو حتى مجرد تحريكها، يعني الكفران المبين.
وقد أخذ فهم نصوص القرآن الكريم أحد طريقين، ظلا طوال التاريخ الإسلامي في حالة مد وجزر، لعبت بهما أقدار السياسة والظروف الاقتصادية والاجتماعية، حتى أستقر أحد الطريقين وساد في عصور التخلف والظلام.
فالمعلوم لدى أي مسلم أن القرآن الكريم لم يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة وكتلة متماسكة كالواح موسى، إنما تواتر مفرقاً عبر ثلاث وعشرين سنه، هي عمر الوحي، أي أنه استغرق من التاريخ زمناً يتجادل مع أحداث الواقع ومستجداته ويتفاعل معها ويجيب على ما تطرحه من إشكاليات دائمة التغير، وخلال ذلك نسخت آيات آيات أخرى، ونسيت آيات، ورفعت آيات، وهو يعني أن للوحي عمراً هو جزء من التاريخ، وهو ما يعني تاريخية النص القرآني التي لا يجادل فيها إلا مكابراً أو صاحب مصلحة، وكانت هذه التاريخية واضحة تماماً في أذهان المسلمين الأوائل.
وفهم تاريخية النص الديني، وربط الآيات بأسبابها، لا شك يوقف الاستخدام النفعي والانتهازي والمصلحي والارتزاقي للدين، فحيث أن عملية جمع القرآن زمن الخليفة عثمان، قد جمعت الناسخ إلى جوار المنسوخ، فقد دفع ذلك أكثر الصحابة علماً وفقهاً إلى التنبيه على تلك التاريخية طوال الوقت، وهو ما يمثله قول على بن أبي طالب لأحد القضاة وهو يحكم بين الناس: "هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟"" فقال: لا، فقال على: "إذن فقد هلكت وأهلكت"".
وفي عصور التخلف، واستخدام الدين لخدمة توجهات أصحاب السلطان، ثم وضع قاعدة فقهية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الاستخدام الانتهازي الصريح لنصوص الدين. ومن أمثلة ذلك الاستخدامات القريبة ما مر في تاريخنا المعاصر، من تبرير رجال الدين لتوجهات الحكومات على تناقضها التام، فعندما كنا نحارب إسرائيل وجدنا آيات لا حصر لها تؤيد تلك الحرب وتدعو إليها، وعندما قررنا عقد السلم معها وجدنا آيات لا حصر لها تدعو إلى السلم وتطالبنا بالجنوح إليه، وعندما اعتمدنا المنهج الاشتراكي في الزمن الناصري، اكتشفوا لنا أن رائد الاشتراكيين وإمامهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما قررنا الأخذ بنظام الاقتصاد الحر قدموا لنا كشفاً على النقيض تماماً، يجعل الناس درجات وطبقات.
وهكذا وجد القائمون على شئون الدين بناء على تلك القاعدة الفقهية، مكاسب دائمة، تبرر للسلاطين عبر العصور آراءهم واتجاهاتهم بل ونزواتهم، وبالدين ونصوصه تأسيساً على إنكار تاريخية الوحي والقول بثباته الأزلي في لوح محفوظ، للعمل بالناسخ وقت الحاجة، وللعمل بالمنسوخ عند تغير الحاجة، حسب التوجهات المطلوبة والانتهازية.
والقول بأزلية النص إنما يجافي العقل والمنطق والنص نفسه، حيث يحوي النص أحداثاً وقعت إبان حياة الرسول لا يمكن فهمها إلا في ضوء تاريخية النص، ولا يمكن فهم الآيات المتعلقة بها إلا بربطها بتلك الأحداث الحادثة وليست الأزلية أو القديمة، وهي تتعدد بتعدد آيات بنت جحش ليحل إشكاليتها؟! أو كيف نفهم في ظل الأزلية النص الذي يحدثنا عن أولئك الذين نادوا النبي من وراء الحجرات، أو كيف نفهم سماع الله لتلك المرأة التي جاءت إلى النبي تجادله ... الخ، والنماذج أكثر من أن تحصى.
من هنا وتأسيساً على كل ذلك جاءت أعمال كوكبة المفكرين المحدثين في مصر، لوقف إهدار الوطن وكرامة المواطن طوال الوقت بهذا الاستخدام النفعي للدين، وحتى لا نظل على حافة التناقض دوماً، وعلى رأس تلك الآعمال كانت كتابات نصر أبو زيد الرائدة، التي أقضت مضجع هؤلاء المنتفعين، ودفعتهم إلى تلك الحملة المسعورة، ضمن تكتيكهم الجديد المرحلي.
وغير خاف على أي مدقق، أن استمرار التعامل مع النصوص باعتبارها كتلة واحدة غير مرتبطة بأحداث ومتغيرات واقع الزمن النبوي، مع تعليقها في فضاء لا يرتبط بواقع تلك الأحداث، أدى إلى تناقض شديد إلى درجة (الشيزوفرينيا) في فكر الإنسان المسلم، كناتج ضروري للتضارب بين الناسخ والمنسوخ، والإيمان بالعمل بأحكام كليهما، وأبرز مثال عليه ذلك التضارب بين آيات الصفح والصبر الجميل، وبين آية السيف التي أجمع الفقهاء على نسخا لآيات الصفح، وهو تناقض شكلي بالطبع وليس موضوعياً. لأن لكل منهما كانت ظروف واقعية تلتحم به وتبرره، وبالتالي، وعملاً بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، انطبع سلوكنا بالنفعية والانتهازية، حيث يمكنك أن تجد مبرراً دينياً دائماً لما تريد، وبحيث أصبحت الآيات القرآنية والأحاديث حججاً دائمة حتى في خصوماتنا الشخصية أو تعاملاتنا المجتمعية أو الاقتصادية، وكل منا على طرفي الخصومة يجد فيها مؤيداً له.
ومن ثم تناقضنا مع أنفسنا، ومع تاريخنا، ومع الآخر، ومع العالم، ومع مفهومنا عن الوطن، بل عن الدين ذاته، فلم نستطع طوال ذلك التاريخ أن نضع رؤية واضحة متسقة لأنفسنا أمام أنفسنا أو أمام العالم، وهو ما ترك بصمته الواضحة لدى الأحزاب الدينية، التي لم تتمكن حتى الآن من وضع برنامج واضح المعالم لها.
ولو حاولنا القياس على المحاكمة التي تمت وانتهت بقرار تفريق نصر أبو زيد عن زوجته، لوجب إجراء محاكمات مثيلة لشخصيات كبرى في تاريخ الإسلام تصل بعضها إلى درجة القدسية، مع تفاوت تلك الدرجة لدى المذاهب الإسلامية، فلدينا نماذج مثل الخليفة عمر بن الخطاب، الذي ارتكب بهذه المعاني ما لم يسبقه إليه أحد، وما لم يلحقه إليه أحد، فقد أوقف العمل بحد السرقة عام الرمادة، ثم نهى عن متعة حلال، فخالف بذلك نص القرآن "يا أيها الذين آمنوا لا تحروموا طيبات ما أحل الله لكم" ( 87 – المائدة )، وذلك عندما وقف على المنبر النبوي وقال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء).
لن أناقش هنا مسألة الردة، وهل هي حد من الحدود المقررة في الإسلام من عدمه، فقد تعرض لها أساتذة أكفاء وفندوها تفنيداً محكماً، لكني أسلك هنا سبيلاً آخر أره سبيل الإنسانية الحرة.
فنحن يمكننا أن نفهم الظروف التي أدت إلى حروب الردة زمن أبي بكر، ويمكننا أن نتفهم اغتيال المعارضين زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بالنظر إلى ظروف الزمن آنذاك، حيث كانت دولة العرب الإسلامية في طور النشأة والتكوين، وكان إسلام الفرد آنذاك تعاقداً بشروط، حيث يعرض عليه الإسلام، وهو رجل بالغ عاقل راشد، ليختار بملء إرادته وحريته، ويدرك مقدماً النتائج المترتبة على إخلاله بذلك العقد، كما يمكننا أن نفهم سر شدة العقاب للمعترض والمرتد آنذاك، حيث كان إنشاء دولة من عدم، ومن قبائل متفرقة متصارعة، مع ما يعنيه ارتداد فد بارتداد قبيلته جميعاً، وما يؤدي إليه ذلك من تفكيك عرى الدولة وتوحدها، لذلك تمت التضحية بأرواح كثيرة عند قيام الدولة لأنها كانت تنهض في وسط معاد لها تماماً، لذلك كانت مضطرة، أن تكون دولة عسكرية شديدة المراس طوال الوقت.
نعم يمكننا أن نفهم ذلك ونعيه جيداً، لكننا هنا في مصر وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين، ومصر كانت دولة مركزية، وأمة متكاملة قبل أن تعرف الإسلام بألوف السنين، فما حكم المسلم هنا اليوم حيث يولد مسلماً بحكم ميلاده في أسرة مسلمة؟ فلا هو اختار الإسلام عن دراية وإرادة ودرس واقتناع، ولا هو دخل في ذلك العقد عن بيئة واضحة نافية للجهالة، أفئن حاول من بعد أن يطمئن إلى طوية فؤداه، أو أن يناقش أمراً من أمور الدين ويجتهد فيه يحكم عليه بأنه مرتد؟ هكذا بكل بساطة؟!
هل نحن كون بذاته؟ أم نحن أبناء هذا العالم؟ لقد كافحت البشرية وناضلت، وقدمت ملايين الضحايا على مذبح كرامة الإنسان وحقوقه، حتى تمكنت من إرساء تلك القواعد الحقوقية، وأهمها حق حرية الاعتقاد، وحرية التفكير وحرية القول، وحتى استطاعت أن تقيم الدولة المدنية الديمقراطية، ونحن هنا لا نجرؤ على حرية الاعتقاد، فقط ربما حاولنا حرية الاجتهاد، وعندها تصدر ضدنا أحكام القتل، إما من أمير جماعة مأفون، أو من محكمة تابعة للدولة، لأن حكومتنا الرشيدة لم تع بعد التعارض الهائل بين مواد الدستور وبعضها، لم تع أن حقوق المواطن في دولة مدنية دستورية ومؤسساتية، تتعارض بل وتتضارب تضارباً صارخاً مع البنود الأخرى في الدستور، وربما كانت قضية أبو زيد الآن هي الضارة النافعة، ومن ثم أرفع صوتي هنا وأطلب من كل شرفاء مصر أن يضموا أصواتهم إلى صوتي، للعمل على إعادة النظر في القواعد التي يمكن أن تسوغ للبعض إهدار أبسط حقوق الإنسان، حتى لو كانت تلك القواعد لإيجاد توازنات وسطية تحل بها الحكومة مشاكلها مع المعارضة الدينية، أو لرشوة تيار شعبي غير رشيد، فإما أن نقيم دولة مدنية حقاً، أو لتخبرونا بوضوح أنكم مستريحون لوضعنا المزري هذا خارج التاريخ، ولنا في دستور 1923أسوة حسنة، وكنا نحن واضعوه وليس آخر.

منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية *
"الدائرة هي أكمل الأشكال" .... هذا ما أعلنه (فيثاغورس) في القرن الرابع قبل الميلاد .... وقبله بحوالي نصف قرن كان الفيلسوف (طاليس) يؤكد أن الأرض مستديرة كالقرص تماماً. وتوصل (أنسكمندريس) إلى أنها معلقة في الفضاء.
ووسع (بارمنيدس) النظرية، فقال أن الكون كله، ليس إلا كرة تامة الاستدارة. ولم يأت عام 350 قبل الميلاد، حتى كان (ديمقرطيس) قد عمم النظرية على الكون كله، حين أنتهى إلى أن الكون كله، يتركب من جسيمات مادية كروية الشكل متناهية في الدقة والصغر، هي الذرة (1).
والعلم الحديث يؤكد أن الكون كله من أكبر أجرامه إلى أدناها، يعتمد الكروية في تشكيله، والاهليجية في حركته (الاهليجية هي الطواف دائرياً على منحنى بيضاوي). فالأرض مثلها مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية، كرة تطوف على منحنى بيضاوي حول مركز هو الشمس، والشمس كأي نجم كرة نارية تطوف مصطحبة معها كواكبها بنفس الطريقة، حول مركز مجرتها (التبانه)، والمجرات بالملايين والنجوم بالبلايين، وكلها كروية في تشكيلها، ذات طواف اهليجي في حركتها، وينطبق هذا حتى على أدق الأجسام الكونية. فالذرة مجموعة شمسية مصغرة، إذ هي عبارة عن ألكترونات كروية تطوف إهليجياً حول مركز كروي هو نواة الذرة.
والغريب أن الإنسان – منذ فج التاريخ – عندما كان يريد إثبات خضوعه لناموس الكون، كان يضع نقطة اعتبارية يقدسها ويطوف حولها، كطواف الكواكب حول الشمس أو الإلكترونات حول الذرة، كما لو كانت الكروية أو الاستدارة ناموساً قدسياً إلى جانب كونها ناموساً علمياً.
ولما كانت المكتشفات الفلكية القديمة (في الرافدين)، قد توقفت عند سبعة كواكب تدور حول الشمس، فيبدو أن ذلك سوغ الإنسان القديم أن يضع لطوافه حول بيوت الآلهة المقدسة وحدة قياسية مقدسة تتكون كن سبعة أشواط. مع الأخذ في الحسبان أن هذه الكواكب السبعة كانت آلهة في نظره.
* من أوائل موضوعات الكاتب الاختبارية، نشر بالعدد (12، 13) من مجلة الكويت، الكويت.
(ومن صـ 157 -168 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
(1) تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، صـ 12.
الحج في العقائد القديمة
ومنذ بداية التاريخ الفرعوني، اتخذت مدينة (أبيدوس) مكانة قدسية لا تبارى. فقد اعتقد القوم هناك أن رأس الشهيد (أوزيريس) مدفون فيها. ومع بداية العصر المتوسط الأول، أصبحت زيارة البيت المقدس في (أبيدوس) والطواف حوله سبعة أشواط، حجا وفريضة أجبارية على كل مؤمن بأوزيريس، في حين أمست السنة المستحبة هي الدفن بجــوار حبيبهم، الشهيد، باعتبار جواره وحماه، أقدس وأطهر مكان على الأرض، بل هو في اعتقادهم مركز الكون، حتى أطلق الكهان على مدفن أوزيريس (أباتون) أي الحرم، لأن الغناء أو الطبل أو الصيد، أو حتى مجرد الجهر بالصوت كانت محرمة في (أبيدوس).
وحتى اليوم، لم يزل العامة حول المنطقة ولمسافات بعيدة، يقصدون آبار المياه المقدسة في أبيدوس للاخصاب والاستشفاء دون علم بأصل هذه القدسية الحقيقي. فالمسيحيون يقصدونها معتقدين أنها قبر قديس من أباء الكنسية الأوائل، ويقصدها المسلمون واضعين في حسبانهم أن هذا القبر مقام ولي من الصالحين (2).
وفي بلاد الرافدين تبنت الدول السامية حضارة سومر. وخلال الحضارات التي توالت هناك من (أكد) إلى (بابل) إلى (آشور) إلى (كلديا)، كان المصطلح السومرى ((إيلو) أو (أيل) هو اسم العلم المطلق الدال على الإله المعبود (3)، فكانت (أيل) تطلق على أي رب من الأرباب (4) الذين يربو عددهم على ثلاثة آلاف.
لكن اللسان السامي، أبدل الكلمة السومرية (BIT) بمعنى المعبد، بمقابلها السامي بيت (5) وأضافها إلى (أيل) لتصبح (بيت أيل) أي بيت الله (ولاحظ التقارب في النطق بين أيل والله)، للتدليل على معبد الإله، الذي كان يأخذ عادة شكل الزاقورة وهي شيء أشبه بالمئذنة، يدور حولها سلم صاعد في شكل دائري، وعلى قمتها كانوا يضعون شكلاً هلالياً، رمزاً للإله (سين) إله القمر،
(2) ديانة مصر القديمة، أدولف أرمان، صـ 420 : 422. أنظر أيضاً: مصر والحياة المصرية في العصور القديمة أدولف أرمان وهرمان رنكه، صـ 290.
(3) "أبيدوس" د. عبد الحميد زايد، صـ 31 (بالإنجليزية).
(4) الساميون ولغاتهم، د. حسن ظاظا، صـ 28.
(5) الديانة عند البابليين، جان بوتيروا، صـ 94، 134.
وهو نفس الإله الذي عبده عرب الجنوب تحت اسم (ياسين). كما كان الهلال أيضاً رمزاً للآلهة (عشتروت) كوكب الزهرة، وكانت بيوت الآلهة الرافدية تنتشر بطول البلاد وعرضها، لكن مراكز العبادة الكبرى كانت في المدن، واعتبرت محجات للمؤمنين، خاصة بالآلهين : (سين) و (عشتروت).
وفي كنعان انتشرت بيوت الآلهة، مثل (بيت شماس) و(بيت إناث) و(بيت لحم) و(بيت يراه). ويقول رينيه ديسو (6) "إن هذه البيوت قد اتخذت شكل البناء المكعب، فسمى اللسان الكنعاني بيت المعبود (كعبو). وأوجب كل معبود على أتباعه الحج إلى بيته والطواف حوله سبعاً، ولعل أهم هذه البيوت، ذلك البيت الذي أقامته القبيلة الإبراهيمية بعد هجرتها من مدينة (أور) الرافدية إلى أرض فلسطين، والذي حمل اسم "بيت إيل". كما يزعم الكتاب المقدس ... حيث ظل (إيل) هو المعبود للشعب العبري منذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى ظهور النبي موسى عليه الصلاة والسلام.
ويؤكد (د. جواد على) أن الطواف حول مركز قدسي كان معروفاً لدى قدماء الفرس والنهود والبوذيين والرومان. كذلك نجد في المزامير بالكتاب اليهودي المقدس "أغسل يدي في النقاوة فأطوف بمذبحك يا رب" (الإصحاح 26)، وهو دليل واضح على وجود الطواف عند اليهود، وفي ثنايا حديثه عن الحج، يقول (د. جواد) "أقصد بالحج الذهاب إلى الأماكن المقدسة في أزمنة موقوتة للتقرب إلى الآلهة وإلى صاحب ذلك الموضوع المقدس، وتقابل هذه الكلمة العربية كلمة Pilgrimage في الإنجليزية. والحج بهذا المعنى معروف في جميع الأديان تقريباً. وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين. وكلمة حج من الكلمات السامية الأصل الأصيلة العتيقة، من أصل ح ك HG ح ج وهي حك.
وفي العبرانية، وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام. وفي روع الشعوب السامية القديمة أن الأرباب لها بيوت تستقر فيها ... ولذلك يرى المتعبدون والمتقون شد الرحال إليها للتبرك بها والتقرب إليها، وذلك في أوقات تحدد وتثبت، وفي أيام تعين تكون أياماً حراماً، لكونها أياماً دينية ينصرف فيها الإنسان إلى التفكير في آلهته ... وتكون هذه المواضع التي تستقر
(6) العرب في سوريا قبل الإسلام، رينيه ديسو، صـ 120.
فيها الآلهة بيوتاً لها، ولذلك قيل في الأزمنة القديمة (بيوت الآلهة)، وقد بقى هذا الاصطلاح حياً حتى الآن يطلق على المعابد. فالمعبد هو وبيت الله في أغلب لغات العالم المعروفة في الزمن الحاضر" (7).
محجات الجاهليين
أشارت النصوص السريانية واليونانية واللاتينية القديمة إلى وجود الحج عند العرب قبل الإسلام، غير أنها لم تشر إلى وجود بيت واحد كان يحج إليه العرب جميعاً (8)، ويقول (الهمداني) أن العرب كانت لهم محجات متعددة منها بيت اللات وكعبة نجران وكعبة شداد الأيادي وكعبة غطفان (9)، ويذكر ابن الكلبي بيوتاً أخرى كبيت ثقيف (10). ويشير (الزبيدي) إلى بيت ذي الخلصة الذي كان يدعى الكعبة اليمانية (11)، ويضيف (د. جواد علي) بيوتاً أخرى مثل (كعبة ذى الشرى) وكان حجها يوم 25 كانون أول من كل عام، و(كعبة ذى غابة) الذي لقبه عباده بـ (قدست) أي (القدسي)، كذلك كان لآلهة الصفويين (اللات وديان وصالح ورضا ورحيم) محجاتها، كما كانوا يحجون إلى الكعبة المكية و(بيت اللات) في الطائف و(بيت العزى) قرب عرفات و(بيت مناة)، وغيرها كثيراً. وكان الحج معتاداً في شهر ذى الحجة، وكان الطواف الجاهلي حول البيت الذي يعظمه سبعة أشواط (12).
ويبدو أن تقديس بيوت الآلهة تلك، يرجع إلى اعتقاد الجاهلي في أن إلهه يسكن فوق سطح السماء، وبالتالي فقد يقدس أي جسم فضائي (كالنجوم وبقايا النيازك والشهب المتهاوية إلى الأرض) لتصوره أنه إنما سقط من البيت الإلهي الذي في السماء، وكذلك كان يعتبر هذا الحجر رمزاً لآلهه، فيجعله مركزاً قدسياً يبني حوله بيتاً يطوف به تبركاً، معتقداً أن هذا البيت يقع تماماً تحت البيت الإلهي، باعتبار ان حجره المقدس يقع تماماً تحت المكان الذي سقط منه. وأضاف
(7) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، ج5، صـ 223، 214، 215.
(8) نفس المرجع، صـ 217.
(9) الإكليل، ج8، صـ 84.
(10) كتاب الأصنام، صـ 16.
(11) تاج العروس، ج2، صـ 271.
(12) المفصل، ج5، صـ 180، 152، 153، 217، 224.
الجاهليون إلى الأحجار النيزكية الأحجار البركانية لتكون محل تقديس، لأنهم خالوها ساقطة من السماء (13) ربما لسوادها نتيجة انصهارها، مما يجعلها شبيهة بالأحجار النيزكية التي صهرتها حرارة الاحتكاك بالغلاف الغازي قبل سقوطها على الأرض.
ومثال لهذه الأحجار السوداء، معبود النبطيين، وهو حجر أسود يرمز للشمس (14)، والآلهة مناة عبدها الهذليون ممثلة في حجر أسود (15)، كذلك كان "ذو الشرى" حجر أسود (16). وقد تصور الجاهليون أن حجر الكعبة المكية الأسود ومقام إبراهيم مثل بقية أحجارهم المقدسة، حتى ظنوا – كما يقول المسعودي – أن البيت المكي من البيوت التي خططت لعبادة الكواكب السيارة السبعة (17) ولكن للبيت المكي وحجره الأسود قصة أخرى، كما سنرى حين نتطرق إلى الحج في الإسلام، ولكن قبل ذلك ينبغي الوقوف مع البيت المكي في العصر القرشي، نستقرىء التاريخ اعتقادات الجاهليين حوله.
الكعبة المكية
يتفق الباحثون على أن الجغرافي (بطليموس) يعد أقدم من أشار إلى مكة وأوردها الاسم (مكربا)، ومن سرده يمكن استنتاج أنها كانت بلدة عامرة في القرن الثاني للميلاد. ويذهب بعض الباحثين إلى أنها يجب أن تكون موجودة قبل هذا التاريخ بكثير (18).
ويعتقد Dr. Snouck Hmrgruje أن نبع (زمزم) في واد غير ذي زرع، هو السبب في نسوء هذا المركز المقدس (19)، وقد قدم مفتي الديار المصري (حسنين مخلوف) كتاباً للسيد (محمد حسني عبد الحميد)، عنوانه (أبو الأنبياء)، نقل فيه مؤلفه عن (جرجي زيدان) أن الأصل في اسم (مكة) هو لفظ (بكة) أو (بك) السامية الأصل، مـع الأخذ في الاعتبار تسمية القرآن لمكة بالاسم (بكة): "إن أول بيت وضع للناس الذي ببكه مباركاً وهدى للعالمين".
(13) أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، محمد حسني عبد الحميد، صـ 98.
(14) مضمون الأسطورة في الفكر العربي، د. خليل أحمد، صـ 43.
(15) في طريق الميثولوجيا عند العرب، محمود سليم.
(16) نفسه: صـ 60، 61
(17) مروج الذهب: ج4، صـ 47.
(18) في طريق الميثولوجيا، صـ 125.
(19) نفس الموضع .
ومعلوم أن اللغة العربية فيها إبدال الباء ميماً والعكس. ويمثل المؤلف لذلك بمعبد (بعلبك) في لبنان، مشيراً إلى أن الاسم (بعلبك) مركب من مقطعين، (بعل) وهو اسم صنم يمثل معبوداً كنعانياً قديماً ولا يزال قائماً في المعبد إلى اليوم، و(بك) أي بيت. وقد أطلق على المدينة التي فيها بيت البعل (بعل بك – بعلبك) كما هو الواقع بمكة (20). ويشير (د. خليل أحمد) إلى أن الاسم (بك) ربما كان بابلياً أو آشورياً (21). (لاحظ أن كبير أرباب الكعبة قبل الإسلام كان هبل وهو من أصل كنعاني، إذ تحكي كتب التاريخ الإسلامي أن عمرو بن لحي الخزاعي قد أحضر تمثاله من البلقاء في الشام، والاسم هبل هو الأصل هبعل والهاء أداة تعريف بينما أهملت العين بالتخفيف مع مرور الزمن).
ويذهب بعض الباحثين مذهباً آخر، واستناداً لرواية (ابن طيفور المصري) و(القيرواني) القائلة أن أهل حمير كانوا يقلبون القاف كافا، بزعم هؤلاء أن أصل الكلمة (مكة) هو (مقة). وكان (مقة) اسماً للإله السبئي المعروف في التاريخ العقائدي بأل (مقة). ومن هؤلاء الباحثة اليمنية (ثريا منقوش) التي اهتمت بدراسة الإله اليمني (مقة) منذ بدء ظهروه حتى تحوله إلى إله قومي، وانتشار عبادته بعد انهيار مركز اليمن التجاري بانهيار سد مأرب وتشتت القبائل اليمنية في أرض الحجاز، واستقرار أكبرها (خزاعة) في المنطقة التي أصبحت تعرف باسم (مكة) (22). وتزعم الباحثة أن كثيراً من عادات الحج إلى البيت المكي في الجاهلية، كانت على غرار التقاليد اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج للإله الـ (مقة) (23).
وتدعم الباحثة وجهة نظرها بقولها: "وقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم علاقة مكة بأهل اليمن بما توافر لديه من معلومات تاريخية عن العلاقة بين مكة وأهلها، واليمن وقبائلها وعقائدها، فورد على لسانه وهو بالمدينة: ما هنا يمن وما هنا شام، فمكة من اليمن. وقوله صلى الله عليه وسلم: أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوباً. الفقه يمان والحكمة يمانية، وأنا رجل يمان". وفي حديث آخر يقول الرسول: "أنا يمان والحجر الأسود يمان والدين يمان". ويأتي موقع مكة في السهل
(20) أبو الأنبياء، صـ 93، 94.
(21) مضمون الأسطورة، صـ 68.
(22) في طريق الميثولوجيا، صـ 49.
(23) التوحيد يمان، صـ 83 : 89.
التهامي ليؤكد ارتباطها باليمن. فجاءت تفسيرات المفسرين ومنهم سفيان بن عيينه لحديث الرسول: أتاكم أهل اليمن، أي أهل تهامة، لأن مكة يمن، وهذا هو أصل قوله: "الإيمان يمان والحكمة يمانية" (24).
ونضيف إلى هؤلاء الباحثين احتمالات اشد بساطة، مثل أن تكون (مكربا) تعني رب البيت لو أخذنا بأن (بك) تعني البيت و(رابا) واضح أنها من (رب) في اللسان العربي، أو مثل أن تكون (مكربا) من (قربان) وجمعها قرابين، وهي من أصل (قرب) وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى لأنها تقرب إلى المعبود، وهو معروفة بهذه التسمية Corban في الآرامية والعبرانية وتعتبر من الاصطلاحات ذات الأصل السامي الواحد في القديم، فتكون (مكربا) بهذا المعنى مكان التقرب إلى الله أو (المقربة) إلى الله.
الحج في الجاهلية
وغني عن الذكر أن (مكة) بعد أن تحولت إلى أكبر مركز تجاري في شبة الجزيرة وذلك بعد تحول طرق التجارة من اليمن إليها، استقطب بيتها المقدس تعظيم غالبية العرب. ورغم أن العرب – بدواً وحضراً – كانوا يعظمون التماثيل التي ووضعوها بفناء الكعبة لتمثل الأرباب، فإنهم كانوا يعتبرون للكعبة إلهاً أكبر وأعظم من هذه التماثيل. ولعظمته وسموه فقد تصوروا عدم إمكانية الاتصال المباشر بينه وبين العبد الخاطىء، فوضعوا بينهم وبينه وسائط وشفعاء، هي تماثيل لقوم صالحين صنعوها لهم بعد موتهم، ثم صارت تنعت بالأرباب أي السادة.
ويؤكد القرآن الكريم حقيقة إقرار الجاهلين بإله أعظم للكعبة أسموه (الله) فقط، في حين كان لأربابهم مسميات أعلام أخرى مختلفة مثل (هبل) و(اللات) و(العزى) و(مناة) فيقول:
"لئن سألتهم من خلقهم، ليقولن الله.... " (87 الزخرف).
"لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ...." (9 الزخرف)
"قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله، قل أفلا تتقون" (86، 87 المؤمنون)
وتحدثنا كتب التاريخ الإسلامي أن الجاهلين اعتقدوا في قصة تعيد نشأة الكعبة إلى زمن موغل
(24) نفس المرجع: صـ 87.
في القدم، وتقول هذه القصة أن هبوط آدم إلى الأرض كان في (سرنديب) من ارض الهند، وظل يهيم في الأرض حتى وافى (حواء) وعرفها في جبل (عرفات) ثم أخذها إلى أرض مكة وهناك توسل إلى ربه ليأذن له في بناء بيت يطوف حوله، كما كان يفعل مع الملائكة حول بيت الله الذي في السماء تماماً، فوضعوه على الأرض تحت موقع بيت السماء مباشرة. وبموت آدم رفع بيت النور، فقام ولده (شيث) بتخطيط مكان النور، ثم أقام عليه بيتاً من حجر الأرض وطينها، لكن البيت خرب بطوفان نوح. وامتد الزمان حتى انتهت النبوة إلى إبراهيم، حيث حمل هاجر وإسماعيل إلى هذا الموضع المبارك، ثم عاد إليهما بعد بضع سنين، وهناك أخذ ولده إسماعيل فرفعا القواعد من البيت (25).
ويقول (الشهرستاني) إن الجاهليين "كانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ... ويطوفون بالبيت سبعاً، ويمسحون بالحجر وييسعون بين الصفا والمروة. وكانوا يلبون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته في قوله: إلا شريك، تملكه وما ملك. ويقفون المواقف كلها ... وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ويحرمون الأشهر الحرم، فلا يغزون ولا يقاتلون فيها، إلا طي وخثعم وبعض بني الحارث بن كعب كانوا لا يحجون ولا يعتمرون ولا يحرمون الأشهر الحرم ولا البلد الحرام" (26).
ويقول د. جواد على: "وقد كان الجاهليون يطوفون بالصفا والمروة وعليهما صنمان يمسحونهما ... سبعة أشواط، كما كانوا يقيمون الأضاحي ويقصون شعورهم هناك، ولم يحرم الإسلام الطواف بالموضعين"، وأن الرجم "كان معروفاً عن الجاهلين، وهو معروف عند العبريين، وقد أشير إلى ذلك في التوراة. وهو معروف عند بني آرام وكلمة (ر ج م) من الكلمات السامية القديمة ... ويلحق بالرجم تقديم العتائر: الضحية في الإسلام. وكانت تذبح عند الأصنام، والعمرة هي بمثابة الحج الأصغر في الإسلام، وكان أهل الجاهلية يقومون بأدائها في شهر رجب، ومن الأشهر الحرم في الجاهلية"، وينقل (د.جواد) عن (فلهوزن) ومجموعة مستشرقين، أن الحجر

(25) الملل والنحل، الشهرستاني، ج2، صـ 33 معجم البلدان، ياقوت، صـ 279، 281، 619، أخبار مكة، الأزرقي، صـ 8، 9.
(26) الملل، ج2، صـ 247.
الأسود كان فوق أصنام الكعبة منزلة، وأن قدسية البيت عند الجاهليين لم تكن بسبب الأصنام، بل كانت بسبب هذا الحجر الذي قدس لذاته وجلب القدسية للبيت، وإنه ربما كان شهاب نيزك أو جزءاً من معبود مقدس قديم، وأن البيت كان إطاراً للحجر الأسود أهم معبودات قريش، لكنه لم يكن معبودها الوحيد (27).
مكانة الكعبة في الجاهلية
ويفيض الشعر بتعظيم البيت وشعائر الحج إليه وبالله صاحب البيت، وثقتهم ب، وتبرز هذه الثقة واضحة إبان غزو (أبرهة) وجيش الحبش للكعبة في عام الفيل، في شعر عبد المطلب بن هاشم القائل:
لا هــم إن العــبد يمــــــــــ نــع حــله فامنـع حـلالك
لا يغلــبن صــليبهم ومحــا لهـــــم غــــدراً محـــالك
إن كنـت تاركهـــم وقبــــــ لتـنا فأمـر مـا بـــــدا لـك (28)
وفي رده على أبرهة الحبشي عندما تعجب من طلبه "رد على إبلي" قال: "إن للكعبة رباً يحميها".
ويقول ابن هشام عن عام الفيل " ... إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام"، ويبدو أن تفشي الحصبة والجدري بين جنود الحبش لم يكن في اعتقاد الجاهلي سبباً كافياً لتراجعهم، لذلك أرجع السبب الحقيقي إلى رب الكعبة، وهذا إنما يبرز ثقتهم في إلههم ثقة كاملة، تلك الثقة التي تجلت في الاعتقاد بأن جيش أبرهة قد تعرض لهجوم جوي فريد من نوعه، فقد أرسل الله على جيش الحبش طيوراً ترميه بالأحجار ليرسل (رؤبه بن الحجاج) رجزه قائلاً:
ولعبـت بهــم طيــر أبابيل فصـيروا مثل عصــف مأكول
ويشهد (نفيل بن حبيب) على صدق ما حدث بقوله:
حمــدت الله إذ أبصـرت طـيراً وخفـت حجـارة تلقـى علينـا

(27) المفصل، ج5، صـ 230، 231، 232، 222.
(28) الملل، ج2، صـ 239، وسيرة أبن هشام، ج1، صـ 45.
ويفخر (عبد اله بن الزبعري) بمكة قائلاً:
تنكلـوا عـن بطـن مكــــة، إنهــا كانـت قديمـاً لا يـرام حـــريمها
لــم تخلق الشعرى ليالي حـرمت إذ لا عزيـز مـن الأنـام يرومها
سائـل أمير الجيش عنها ما رأي ولسوف ينبي الجاهـلين عليهمـا
ستــون ألفاً لـم يثوبوا أرضــهم ولــــم يعش بعد الإياب سقيمهـا
كانت بها عاد وجـرهم قبلهـــم والله مــــن فـوق العبـاد يقيمهـا
وتتجلى العقيدة الجاهلية في رب البيت بصورة واضحة في شعر (أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي) القائل:
إن آيـــات ربنــــا ثاقبـــات لا يمــارى فيهـن إلا الكفـور
خلـق الليـل والنهــــار فكـل مستـبين حســــابه مقــــدور
حبـس الفيـل بالمغمس حـتى ظـــــل يحــبو كأنـه معقـور
خلفـوه ثـم ابذعـروا جمـيعاً كلهـــم عظـم ساـقه مكسور
ويرتفع البيت بقدسيته ويتعالى، في خطاب (عبد الله بن صفوان) لقومه، عندما كانوا يعيدون بناء البيت قبل البعثة بسنوات خمس: "لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس".
ويقسم زهير بن أبي سلمى:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجـال بنوه من قريش وجرهـم
وبتقديس البيت كانت نصائح الأم لابنها، كما في وصية (سبيعة بنت الأجب) القائلة:
أبنـي لا تظلــــم بمكـــــة لا الصغيـــر ولا الكبـــير
واحفــظ محارمهـــا بنـي ولا يغــــــرنـك الغـــرور
أبـني مــن يظلــم بمكــة يلــق أطـــراف الشــرور
أبنـي قــــــــد جربتهــــا فـوجــدت ظـالـمها يبــور
اللــه آمـــــــن طـيرهـــا والعصـم تأمـــن في ثبـير
والفيـل أهـــلك جيشــــــه يرمــون فيهــا بالصخــور
فاسـمع إذا حـدثت وافهـم كيــــــف عـاقبــة الأمــور
الحج في الإسلام
يقول (ابن حبيب) في محبره: باب السنن التي كانت الجاهلية سنتها فأبقى الإسلام بعضها وأسقط بعضها: "وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويطوفون بالبيت اسبوعاً، ويمسحون بالحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة. وكان على الصفا اساف وعلى المروة نائلة، وهمال صنمان، وكانوا يلبون إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته .... وكانت العرب تقف بعرفات ويدفعون منها والشمس حية، فيأتون إلى مزدلفة، وكانت قريش لا تخرج من مزدلفة ولا تقف بعرفات، ويقولون لا نعظم من الحل ما نعظم من الحرم، فبنى قصي المشعر فكان يسرج عليه يهتدي به أهل عرفات إذا أتوا مزدلفة، فأبقاه الله مشعراً، وأمر بالوقوف عنده. وقال العامري في وقوفهم في الجاهلية:
فاقسـم بالـذي حجـت قريش ومـوقف ذي الحجيـج إلى إلال (29)
(الإل جبل بعرفات)، وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ويعظمون الأشهر الحرم .." (30).
نعم أبقى الإسلام، كل هذه السنن والشعائر، لكنه طهرها ونقاها من أدران الجاهلية وجهالتها، فلم يعد السر في تقديس الصفا والمروة والسعي بينهما هو صنما (إساف ونائلة) وإنما في هرولة هاجر أم إسماعيل بينهما بحثاً عن الماء في صحراء مجدبة. ولم يعد الحجر الأسود ومقام إبراهيم أحجاراً مقدسة لذاتها، بل لأنهما في الأصل ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما. ولو لم يطمس الله نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب (31). وعن ابن عباس قال: "ليس في الأرض شيء من الجنة إلا الركن الأسود والمقام" (32).
أما القصة الإسلامية حول البيت، فهي قصة محوطة بالقدسية والتبجيل، يلخصها لنا كتاب (أبو الأنبياء) فيما يلي: ".... إن الله سبحانه خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام. فكانت زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله آدم إلى الأرض واستوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل البيت المعمور، وهو ياقوته من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت وقال: يا آدم أني أهبط لك بيتاً

(29) سيرة ابن هشام، ج1، صـ 47 : 51، وصـ 179.
(30) المحبر، صـ 311، 319.
(31) تاريخ الخميس، ج1، صـ 100.
(32) معجم البلدان، ياقوت، مجلد2، صـ 212.
تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلى عنده كما يصلى عند عرشي، وأنزل الله عليه الحجر الأسود، وكان أبيض فاسود من مس الحيض في الجاهلية، فتوجه آدم من الهند ماشياً إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكاً ليدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك. فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له: يا آدم لقد حجنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه، فكان ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله إلى السماء الرابعة. والبيت المعمور يدخله كل يوم ألف ملك ثم لا يعودون. وقد بعث الله جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبس صيانه له من الغرق (زمن الطوفان). فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ثم أن الله تعالى أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل واسحق، ببناء بيت يذكر فيه ويعبد، فسأل الله أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضوع البيت، وهي رياح خجوج لها رأسان تشبه الحية والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب، وقيل هي الملتوية في هبوبها. وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فتبعها إبراهيم حتى أتت موضع البيت فتطوقت عليه. قال ابن عباس: بعث الله سبحانه وتعال سحبه على قدر الكعبة، فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وقفت على موضع البيت، ونودي منها: يا إبراهيم، ابن على قدر ظلها، لا تزد ولا تنقص... قال ابن عباس: بنى إبراهيم البيت من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام والجودي وهو جبل بالجزيرة ومن حراء وهو جبل في مكة. فما أنتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: إئتني بحجر حسن يكون للناس علماً، فأتاه بحجر، فقال: ائتني بأحسن منه. فمضى إسماعيل ليطلب حجراً أحسن منه، فصاح الجبل أبو قبس: يا إبراهيم أن لك عندي وديعة فخذها، فقذف بالحجر الأسود، فأخذه إبراهيم فوضعه مكانه"(33).
ونستكمل القصة من (الازرقي) حيث يقول: "فقام معه جبريل فأراه المناسك كلها، الصفا والمروة ومنا ومزدلفة وعرفة. وبعد حصب إبليس وعرفات إبراهيم مناسكه كلها، أمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا رب ما يبلغ صوتي. فقال الله تعالى: أذن وعلى البلاغ. فعلا على المقام فأشرف به حتى صار أرفع الجبال أطولها، فجمعت له الأرض سهلها وجبلها وبرها وبحرها وانسها وجنها حتى اسمعهم جميعاً" (34).
(33) أبو الأنبياء، صـ 91، 92. (34) أخبار مكة، الأزرقي، صـ 33، 34.
وهكذا ظلت الكعبة بيتاً مقدساً، تطوف حوله خير أمة أخرجت للناس، سبعاً خشعاً، والطواف سنة قدسية، أكد العلم باكتشافه أنها سنة علمية.

العرب قبل الإسلام: العقائد ... والتعدد ... والأسلاف *
معلوم أن عجز الإنسان وضعفه أمام ظواهر الطبيعة المتقلبة وقواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافع لتصور قوى مفارقة (ميتافيزيقية)، هي التي تقف وراء متغيرات الطبيعة وثوراثتها وغضبها وسكونها، ولأن تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى أيضاً غيبية ولذلك ارتبطت عقائد الناس في أربابها بوسطها البيئي، حيث عبرت عن ذلك الوسط وأظهر مظاهره وأكثرها تكراراً وديمومة، ومن هنا قدس العربي أجرام السماء. التي تظهر بكل وضوح في ليله الصحراوي المنبسط، دون حواجز حتى الأفق بدائرته الكاملة، كما قدس الأحجار بخاصة ذات السمات المتفردة منها، فبيئته رمال وصخور أحجار، وقد غلب انتشار الصخور البركانية في جزيرة العرب لانتشار البراكين فيها، وأطلقوا عليها اسم الحرات من الحرارة والانصهار.
لكن اتساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة، أدى إلى تباين ظروف البيئة والمناخ، مما أدى إلى تعدد مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية في العبادات، هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة، والتي أدت إلى ما يشبه العزلة لموطن دون موطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما أدى إلى احتفاظها بألوان من العقائد الموغلة في قدمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تساعد على تطور الراسب المعرفي ومن ثم العقائدي.
التعدد في العبادة
وهكذا يمكنك أن تجد إضافة لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور، بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية والطوطمية، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف.
والفيتشية أكثر ديانات الجزيرة انتشاراً بين أهلها، وهي تقدس الأشياء المادية كالأحجار، للاعتقاد بوجود قوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادمة من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الأرض حيث عالم الموتى، وقد ظلت العقائد قائمة حتى ظهور الإسلام.
* نشر بمجلة نزوى العمانية، العدد الثاني، وقد نشر مجزوءاً منقوصا، وهو هنا على حاله الذي نشر عليه.
(ومن صـ 169 -191 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
أما الطوطمية، التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدس، فتظهر في مسميات قبائل العرب، مثل (أسد، فهد، يربوع، ضبة، كلب، ظبيان .... الخ)، لذلك كانوا يحرمون لمس الطوطم أو وحتى التلفظ باسمه، لذلك كانوا يكنون عنه، فالملدوغ يقولون عنه السليم، والنعامة يكنى عنها المجلم، والأسد أبى حارث، والثعلب ابن آوى، والضبع أم عامر، وهكذا. هذا إضافة إلى تقديس الأشجار، مثل ذات أنواط التي كانوا يعظمونها، ويأتونها كل سنه فيذبحون عندها ويعلقون عليها أسلحتهم وأرديتهم. كذلك عبد العرب كائنات أسموها (الجن) خوفاً ورهبة، ودفعاً لأذاها، وظنوها تقطن الأماكن الموحشة والمواضع المقفرة والمقابر، وكان العربي إذا دخل إلى موطن قفر حيا سكانه من الجن بقوله، عموا ظلاما، ويقف قائد الجماعة ينادي: إنا عائذون بسيد هذا الوادي، وتصوروا الجن كحال العرب، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صلات الرحم، يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضا، ولهم سادة وشيوخ وعصبيات، ولهم من صفات العربان كثير، فهم يرعون حرمة الجوار ويحفظون الذمم ويعقدون الأحلاف ... وقد يتقاتلون فيثيرون العواصف، ويصيبون البشر بالأوبئة والجنون. وقد نسبوا إلى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة، حيث كثرت الهواتف أي الأصوات التي تنادي بأمور وتنبئ بأخرى بصوت مسموع وجسم غير مرئي ... وقد اعتمد الكهان على تلك الاعتقادات فزعموا أنهم يتلقون وحيهم عن الجن، وأن الجن بإمكانها الصعود إلى السماء والتنصت على مصائر البشر في حكايات الملأ الأعلى مع بعضهم عمن في الأرض، وأن الكاهن بإمكانه معرفه مصائر البشر عبر رفيقه من الجان.
عبـــادة الأســـلاف
أما أشد العبادات انتشارا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي، فهي عبادة الأسلاف الراحلين، ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، حيث كان ظرف القبيلة لا يسمح بأي تفكك نظراً لانتقالهم الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ، وهو التنقل الذي كان يلزمه لزوجة جامعة لأفرادها، تم تمثله في سلف القبيلة وسيدها الراحل الغابر، فأصبح هو الرب المعبود وهو الكافل لها الحماية التماسك، بوصفها وحدة عسكرية مقاتلة متحركة دوماً، فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهوم الحمى، والذي يشرف عليه سيدهم وأبوهم القديم وربهم المعبود، حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه، ومن هنا كان الرب هو سيد القبيلة الراحل القديم، الذي تمثلوه بطلا مقاتلا أو حكيما لا يضارع، ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد القبائل، ونزعت القبائل مع ذلك نحو التوحيد، وهي المعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى، لكن بساطة الأمر تكمن في أن البدوي في قبيلته كان لا يعبد في العادة ولا يبجل سوى ربه الذي هو رمز عزته ورابط قبيلته، ولا يعترف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد له نموذجا واضحا في المدون الإسرائيلي المقدس، حيث عاش بنو إسرائيل ظروف قبلية شبيهة، فيقول سفر الخروج: "من مثلك بين الآلهة يا رب"، أي أن القبلي كان يعرف أرباباً أخرى لقبائل أخرى، لكن ربه هو الأعظم من بينها. لذلك كان البدوي في قبيلته يأنف أن يحكمه أحد من خارج نسبه، لأن نسبه هو ربه، هو سلفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته، لذلك كانت عبادة الأسلاف أحد أهم العوامل في تفرق العرب القبلي، وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم.
ولم يأت الاعتراف بآلهة أخرى لقبائل أخرى إلا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لأفراد في قبيلة ترتبط بمصالح لأفراد في قبيلة أخرى، مما أدى لاعتراف متبادل بالأرباب، وهو الأمر الذي بدأ يظهر خاصة في المدن الكبرى بالجزيرة على خط التجارة، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها.
المستــوى المعــرفـي
دأب بعض مفكرينا في شؤون الدين – عافاهم الله – على الحط من شأن عرب الجزيرة قبل الإسلام، وتصويرهم في صورة منكرة وسار على دربهم أصحاب الفنون الحديثة في القصة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية، بحيث قدموا ذلك العربي عاريا من أية ثقافة أو حتى فهم أو حتى إنسانية، حتى باتت صورته في ذهن شبيبتنا، إن لم تكن في أذهان بعض المثقفين بل والكتاب أيضاً، أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن القدح في شأن عرب قبل الإسلام، وإبرازهم بتلك الصورة، هو فرش أرضية الصورة بالسواد، لإبراز نور الدعوة الإسلامية بعد ذلك، وكلما زادوا في تبشيع عرب الجاهلية، كلما كان الإسلام أكثر استضاءة وثقافة وعلما وخلقا وتطورا على كل المستويات. وأن الأمر بهذا الشكل يبعث أولا على الشعور بالفجاجة والسخف، ثم هو يجافي ابسط القواعد المنطقية للإيمان، فالإيمان يستمد قيمته من دعوته، ومن نصه القدسي، وسيرة نبيه، فقيمته في ذاته، قيمة داخلية، وليست من مقارنته بآخر، أما الأنكى في الأمر، فهو أن تتم مقارنه الإلهي بالإنساني، لإبراز قيمة الإلهي إزاء نقص الإنساني، في تلك الحال ستكون ظالمة لكليهما: الإلهي والإنساني، فالإلهي لا يقارن بغيره، كما أن مقارنه الإنساني به فداحة في التجني على الإنساني بما لا يقارن مع الإلهي.
وقد فطن (الدكتور طه حسين) إلى ذلك الأمر وعمد إلى إيضاحه في كتابه (الأدب الجاهلي) مبيناً مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرب قبل الإسلام، وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المتوحشة. لإبراز دور الإسلام في نقله الإعجازي لهؤلاء القوم المتوحشين، فجأة ودون مقدمات موضوعية، إلى مشارف الحضارة، فجمعهم في أمة واحدة، فتحوا الدنيا وكونوا إمبراطورية كبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تشير بوضوح، إلى أن العرب لم يكونوا كذلك، وفي تطورها الإنساني، أما الركون إلى عقائدهم لتسفيههم، فهو الأمر الأشد فجاجة في الرؤية، فيكفينا أن نلقي نظرة حولنا، على الإنسان وهو في مشارف قرنه الحادي والعشرين، لنجده لم يزل بعد يعتقد في أمور هي من أشد الأمور سخفا ومدعاة للضحك.
معــارف العصــر
والمطالع لأخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي، في كتب الأخبار الإسلامية ذاتها، سيجد في الأخلاق مستوى رفيعا هو النبالة ذاتها، وسيجد المستوى المعرفي يتساوق تماما مع المستوى المعرفي للأمم من حولهم، وأن معارفهم كانت تجمع إلى معارف تلك الأمم معارفهم الخاصة، فقط كان تشتتهم القبلي وعدم توحدهم في دولة مركزية، عائقا حقيقياً دون الوصول إلى المستوى الحضاري لما جاورهم من حضارات مركزية مستقرة. وهو الأمر الذي أخذ في التطور المتسارع في العصر الجاهلي الأخير نحو التوحد في أحلاف كبرى، تهيئة للأمر العظيم الآتي في توحد مركزي ودولة كبرى.
فعلى مستوى المعارف الكونية، كان لدى العرب تصورات وضاحة، تضاهي التصورات في الحضارات حولهم، فالأرض كرة مدحاة، والسماء سقف محفوظ تزينه مصابيح هي تلك النجوم، وفيه كواكب سيارة، أطلقوا عليها (الخنس والجواري الكنس)، فهذا (زيد بن عمرو بن نفيل) يحدثنا عن التصور الكوني المعروف في بلاد الحضارات، في قوله:
دحـاهـا فلمـا رآهـا استوت علـى المـاء أرسـى عليها الجبالا
بينما نجد (أميه بن عبد الله الثقفي)، يصور لنا ما درج عليه العالم القديم من تصور للسماء سقفاً بلا عمد، وأنها طبقات سبع، وأن الشهب فيها حماية ورصدا ومنعا للجن من استراق السمع مع الملأ الأعلى، وذلك في قوله:
بنـاهــــا وابتنى سبعـاً شـداداً بــلا عمــــد يريــن ولا حبـــال
ســــــواهـا وزينهــا بنـــــــور مـن الشمـس المضيئـة والهـلال
ومـن شهب تلألأت في دجاها مــــراميهـا أشـــد مـن النصــال
المعــارف الـدينيــة
أما على مستوى المعارف الدينية، وكانت سمة عصرها، وهي المنحولة من عقائد الرافدين القديمة ومصر القديمة وبلاد الشام وفلسطين، وجاء تفصيلها مجملاً في مدونات التوراة، فهو الأمر الذي كانت تعرفه جزيرة العرف، فهذا (الأفوه الأودي) يأبى أن يسجل أسماء أبناء نوح في قوله:
ولمـا يعصمهـا سـام وحـــام ويـــــــافث حيثمــــــا حلــت ولام
أما طول العمر النوحي فكان مضرب المثل، وهو يؤخذ من مديح الأعشى لإياس:
جـزى الله إيـاساً خيـر نعمـة كما جزى المرء نوحـاً بعدما شابا
فـي فلكـه إذا تبدلهـا ليصفهـا وظـل يجمـــــع ألواحـاً وأبوابــــاً
وهو ما جاء أيضاً في ضرب الراجز، رافضا عمرا كعمر نوح:
فعلـت لـو عمرت سـن الحل أو عمـر نحـو زمـن الفطحـل
الصخـر مبتـل كطين الوحل صـرت رهينـة هـرم أو قتـل
وكان انتشار قصص التوراة في معارف الأمم يجد صوابه في معارف ذلك العصر، فها هو (أمية بن أبي الصلت) يقدم حوارا شعريا بين موسى وهارون وبين فرعون، يقول فيه:
جـــزى الله إيـاساً خيـر نعمـــة كما جزى المرء نوحـاً بعدما شابا
وأنت الـذي مـن فضل ورحمـة بعثـت إلى مـوسى رسولاً منادياً
فقلت له: أذهب وهارون فادعـوا إلى الله فرعون الذي كان طاغيـاً
وقولا له: أأنت سويت هذه بـــلا وتـــــد حـــــتى اطمأنت كما هيـا
وقولا له: أأنت رفعـــــــت هـذه بلا عمــــــــد، أرفـق إذا بك بانيـاً
بل وعرف العرب قصة مريم وولدها، وسارت فيهم كقصة معلومة، وهو ما صاغة (أمية) شعرا بدوره، إضافة لما جاءت به المسيحية عن يوم بعث ونشور، مضافاً إليه ما سبق إليه المصريون من القول بحساب للموتى أمام موازين العدل في قاعة الحساب السماوية، فذا شعر بقى عن (قس بن ساعدة) يقول:
يا ناعي الموت والأموات في جدث عليهم مـن بقـايـا بـرعـم خـــرق
دعهم فإن لهم يـوماً يصاح بهــــــم فهـم إذا انتبهوا مـن نومهم فرقوا
حـتى يعودوا لحال غيـر حـالهــــم خـلقاً جديداً كمـــا مـن قبله خلقوا
فيهـــم عـراة ومنهـم في ثيابهـــــم منهـا الجديد ومنهـا المبهج الخلق
وهو الأمر الذي يوضحه شعر (زيد بن نفيل) وهو يصور أحوال الحساب ونتائجه في قوله:
تــــرى الأبـرار دارهـم جنـان وللكفــــــار حاميـــــة الســعير
وخـزي ي الحـياة وإن يموتـوا يلاقـوا ما تضيـق بـه الصدور
وهو ذات الأمر الذي فصل فصّل أمره (أمية الثقفي) في قوله:
بـاتت همومـي تسـري طوارقها أكـف عيـني والـدمع سـابقهـا
ممــــا أتـاني من اليقيـن ولــــم أوت بـــرأة يقصــى ناطقهــا
أم مــن تلظـى عليـه واقدة النار محيـــــــط بهـــــا سرادقهــا؟
أم أسكــــن الجنــة التي وعـــد الأبــرار مصفوفــة نمارقهـا؟
لا يستـــــــوي المـــنزلان ولا الأعمـال تســــتوي طرائقهــا
وفــــــرقة منهـــــــا أدخلــــت النــار فســــــــاءت مرافقهــا
أما (علاف بن شهاب التميمي) فيؤكد:
وعلـمت أن الله يجـازي عبـده يـوم الحساب بأحسن الأعمـال
كذلك جاء تقرير (زهير بن أبي سلمى واضحا) في قوله:
فلا تكتمـن الله ما في نفوسـكم ليخفـى ومهمـا يكتم الله يعلــــم
يؤخـر فيوضح في كتاب فيدخر ليـوم الحسـاب، أو يعجل فينتقم
المعالــم الأدبيــة
ليس جديداً التأكيد على شعرية العربي، حتى قيل إن كل عربي شاعر، وحتى أصبح الشعر ديوان العرب، رواية حالهم وظروفهم وعقائدهم، وسجل لمعارفهم ومستواهم الثقافي الأخلاقي، وسجل لحياتهم العملية وطرق عيشهم بل ورواهم الفنية والفلسفية.
وإلى جانب الشعر كان مَعْلَم الخطابة بما حواه من ذات المحتويات الشعرية، بنثره المنظوم المسجوع، إضافة إلى سجع الكهان، المرسل منه والمزدوج.
وكان للعرب أسواقهم، التي عادة ما كانت تفتتح افتتاحا ثقافيا، بإلقاء الخطب النثرية، والقصائد الشعرية، وإجراء المسابقات حول أفضل القصائد، وهو ما برز في (المعلقات السبع)، مما يشير إلى ديدن أمة أهتمت بتنمية الثقافة وتشجيعها، رغم تشتتها شيعا في قبائل لا تجمعها وحدة مركزية.
النثــر المســجوع
وكان العربي حريصاً على تقديم معارفه وثقافته شعرا، وأن نثرها حرصا على الجرس الموسيقى فيها، مما يشير إلى رهافة في الحس وارتقاء في الذوق، ونماذج من ذلك النثر، ما جاء قسما بالمظاهر الكونية عند (الزبراء) وهي تقول: "واللوح الخافق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأود ختلا، ويرق أنيابا عصلا، وإن صخر الطود لينذر ثقلا، لا تجدون عنه معلا".
ومن ألوان هذا السجع سجع ديني، جاء في وصف (ربيعة بن ربيعة) ليوم البعث والنشور، بقوله: "يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون"، وهو ذات الرجل الذي يقسم بصدق قوله: "والشفق والغسق، والفقل إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق" أم (شق بن صعب) فيصف ذات اليوم بقوله: "يوم تجزى فيه الولايات، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات".
ويقسم (ابن صعب) لسائله بأنه يقول الحق: "ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، أن ما أنبأتك به لحق، ما فيه أمض". أما الكاهن الخزعي الذي احتكم إليه هاشم وأمية في نزاعهما، أصدر قراره سجعا يقول : "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، قد سبق هاشم أمية إلى المفاخر".
أما (قسم بن ساعدة الأيادي) فيرسل سجعه مصورا معارف العصر الكونية في نثره قائلاً: "ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وأرض مدحاة، وأنها مجراة، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا".
المعلــم الشــعري
والشعر الجاهلي وثيقة هامة في يد الباحث العلمي، تأخذ سمت العلم التاريخي، رغم ما أثير حول الشعر الجاهلي من تشكيك في صحة انتسابه لعصره فعلا، وكان أبرز ما قيل بشأنه قضية النحل التي أثارها (الدكتور طه حسين) في كتابه الشعر الجاهلي، والمحاكمة المشهورة التي جرت آنذاك بشأن ذلك الكتاب وصاحبه.
لكن ما يدعو إلى الاطمئنان في الغالبية مما وصلنا من ذلك الشعر، مدونا بأقلام المسلمين، هو أن القافية والوزن كانا يضمنان منع حدوث تغيير كبير على ذلك الشعر، كما أن المحتوى البسيط لذلك الشعر، وما جاء به من أخبار التخاصم على الإبل والمراعي يضمن عدم التصنع، وعلى رأي (د. حسين مروة) أننا لو حكمنا على شعر الأخطل وجرير .... بشكله، لتعذر علينا نسبته إلى ما بعد الإسلام.
وكان (ابن سلام) أول من بحث قضية الانتحال، وعزا أسبابها إلى العصبية القبلية، والرواة الوضاعين، مثل حماد الرواية، وخلف الأحمر، وسبق الجميع إلى مسألة الانتحال (المفضل الضبي) الذي نقد خلفا الأحمر، أما (طه حسين) فقد ردد ما سبقه إليه المستشرق (مرجليوث) بشكل مختلف بعض الشيء. وإن كان أهم حيثيات محاكمته هي إنكاره هبوط إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام جزيرة العرب.
وقد قامت جمهرة السلفيين تؤكد قبولها صحة نسب الشعر الجاهلي دون تحفظ أو تشكك، وقد ظهر ذلك واضحا في المؤلفات التي وضعت للرد على (طه حسين)، ونموذجا لذلك ما جاء في كتاب (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) لمحمد أحمد الغمراوي، و(مصادر الشعر الجاهلي) لناصر الدين الأسد، وغيرهم. ونسبة الشعر الجاهلي لعصره، قد أتفق أمرها بين المسلمين السلفيين، وبين كثير من المستشرقين، وهو ما يمثله نموذجا قول المستشرق (ليال): "والواقع أن هذا الشعر الجاهلي، قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية، فائدة لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشعر من الوجهة التأريخية، على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أمورا مهمة عن أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر".
الخطابـــة
والخطابة كانت من أبرز الأنشطة الفكرية والثقافية للعرب، وكانوا يلجأون فيها إلى كل الوسائل الإبداعية والجمالية والبلاغية لإقناع المستمع بوجاهة محتوى الخطبة، وعند التعامل مع ملوك الدول كان العرب يختارون أكثرهم تفوها، وقد ذكر (ابن عبد ربه) في عقده الفريد، أن كسرى تنقص من أمر العرب في حضور (النعمان بن المنذر) لديه، مما استفز (النعمان) لعروبته، فأرسل في طلب خطباء العرب وأوفدهم إلى كسرى ليعرف مآثر العرب وقدرهم الثقافي.
وكان الخطباء يخطبون في وفادتهم على الأمراء، فيقف رئيس الوفد بين يدى صاحب السلطان ليتحدث بلسان قومه، ومن هذه الخطب ما قيل بين يدى رسول الله عليه السلام عام الوفود وأوردته كتب السير والأخبار. ومن أشهر الخطباء، أولئك الذين وردت أسماؤهم في الرد على كسرى، وهم (أكثم بن صيفي)، و(حاجب بن زرارة التميمي)، و(الحارث بن عباد), و(قيس بن مسعود)، و(عمرو بن الشريد السلمي)، و(عمرو بن معد يكرب الزبيدي)، ومن خطباء مكة (عتبة بن ربيعة) و(سهيل بن عمرو)، ومن الخطباء أيضاً (هرم بن قطبة)، و(عامر بن الظرب العدواني)، وهي نماذج تشير إلى خطباء كُثر لقبائل العرب، أوردتها كتب الأخبار والسير تفصيلا وحصراً.
المسـتضعفون
لعب جدل الأحداث العالمية دوراً أساسياً نشطا فيما جرى من تحولات داخل جزيرة العرب، وكان تحول طرق التجارة العالمية إلى الشريان البري المار بمكة قادما من اليمن متجها نحو الامبراطوريتين، عاملا مؤسساً لتغير أنماط الإنتاج الاقتصادي في الجزيرة، التي أخذت تنحو نحو التجارة كعماد أساسي للاقتصاد، وما تبع ذلك من تغيرات في البنى الاجتماعية، التي أخذت بدورها في التحول النوعي عن الشكل القبلي القائم على المساواة المطلقة بين أفراد القبيلة، إلى تفكك ذلك الشكل بتراكم الثروة في يد نفر من أفراد القبيلة دون نفر آخر، الشكل الطبقي الذي فجر الإطار القبلي، لصالح تحالفات مصلحية بين أثرياء القبائل المختلفة، وكان الناتج الطبيعي لتفاوت توزيع الثروة، ظهور شكل مجتمعي جديد على جزيرة العرب، لترصد لنا كتب الأخبار الإسلامية أهم الشرائح المجتمعية الجديدة، على خريطة النظام الطبقي الطالع، مقابل الطبقة المترفة من أثرياء تجار العرب.
فقــراء العــرب
وإعمالا لجدل الأحداث أخذ الفارق الطبقي بالاتساع السريع والهائل، ليصبح سواد العرب من الفقراء والمستضعفين، يعملون في رعي الأنعام والفلاحة وتجارات البيع البسيط، يسكنون الخيام والعشش والأكواخ الحقيرة، ويسمعون عن الخبز ولا يأكلونه، حيث كان الخبز من علامات الوجاهة والثراء، ولا يعرفون عن اللحم سوى الصليب، وهو ودك العظام تجمع وتهشم وتغلى على النار طويلاً، ليحصولا منها على الصليب، وغالبا ما عاشوا على مطاردة ظباء الصحراء وأورالها ويرابيعها. ونقصد بهؤلاء الفقراء، عرب صرحاء من أبناء قبائل متميزة، دفعتهم إلى الأسفل آلة التغير الاقتصادي والمجتمعي.
ويلي تلك الطبقة في التدني، طبقة الموالي، وهم من أبناء قبائل أخرى تركوها ولجأوا لقبائل مخالفة، أو كانوا أسرى فك أسيادهم أسرهم، أو أعاجم أرقاء أعتقهم سادتهم بمقابل. وقد شكل هؤلاء طبقة بين أبناء القبيلة الخلص الصرحاء، وبين العبيد.
ثم طبقة أخرى ظهرت بدورها نتيجة التفاوت الطبقي الحاد، وتكونت من أفراد تلبستهم روح التمرد على أوضاع المجتمع الجديد، فتصرفوا بتلك الروح فأضروا بمصالح السادة، فخلعتهم قبائلهم وتبرأت من فعالهم بإعلان مكتوب أو في الأسواق العامة، وهي الطبقة التي عرفت باسم (الخلعاء).
الصـــعاليك
أما أبرز تلك الطوائف أو الطبقات التي أفرزها المتغير الاقتصادي المجتمعي، فهي (الصعاليك)، وهم فئة لا تملك شيئا من وسائل الإنتاج، وتمردت على الأوضاع الطبقية، بل وشنت عليها الحرب، بخروجهم أفرادا عن قبائلهم باختيارهم، وتجمعهم على اختلاف أصولهم في عصابات مسلحة، وأبرز الأسماء التي وصتنا منهم: عروة بن الورد، وتأبط شرا، والسليك ابن السلكة، والشنفري، وقد أطلق عليهم العرب (الذؤبان) و(العدائين) لسرعتهم.
وقد وري عن هؤلاء أنهم كانوا ذو سمات متميزة، من الشهامة والمروءة والنبالة، وأخلاق الفروسية، فكانوا لا يهاجمون إلا البخلاء من الأغنياء، ويوزعون ما ينهبون على الفقراء والمعدمين، بعد أن شكلوا لأنفسهم مجتمعا فوضويا، شريعته القوة، وأدواته الغزو والإغارة، وهدفه الأول السلب والنهب وهدفه الأخير تعديل الموازين المجتمعية.
وتروى لنا كتب السير والأخبار وطبقات الشعراء، أشعار للصعاليك، ينعكس فيها الإحساس المرير بوقع الفقر عليهم وفي نفوسهم، ويضج بشكوى صارخة من الظلم الاجتماعي، وهوان منزلتهم، فهذا (قيس بن الحدادية) يخبرنا أنه لم يكن يساوي عند قومه عنزة جرباء جذماء، أما الأخبار عن الشنفري فتروي كيف أسلمه قومه هو أمه وأخوه رهنا لقتيل عن قبيلة أخرى، ولم يفدوهم، وكيف تصعلك الشنفري ورفع سيف ثورته بعد أن لطمته فتاة سلامية، لأنه ناداها: يا أختي، مستنكرة أن يرتفع إلى مقامها.
ومن مثل تلك الأخبار، نستطيع تكوين فكرة واضحة عن المدى الذي فعله المال داخل القبيلة، مما أدى بالصعاليك إلى فصم علاقتهم بقبائلهم، وتكوين جماعتهم المسلحة ضد الأغنياء لينزعوا منهم مقومات الحياة الإنسانية التي أهدرها الواقع، وهو المبدأ الذي يتجلى واضحا في شعر (عروة بن الورد) وهو يقول:
إذا المرء لـم يبعث سواماً ولم يرح عليـه ولم تعطـف عليه أقاربـه
فالمـوت خيـر للفتى من حياتـه فقيراً، ومـن مـوت تدب عقاربه
العبيــد
وفي ضوء الحاجة لليد العاملة في خدمة آلة الاقتصاد الجديد، بدأت بلاد العرب تعرف النظام العبودي، وكان مصدره السبي والنخاسة وعبودية الدين، حتى جاء وقت أصبحت تجارة العبيد بمكة تجارة منتظمة، تأتي تبهم من سواحل أفريقيا الشرقية، وهم الطائفة السوداء، ومنهم من كان يشترى من بلاد فارس والروم وهم الطائفة البيضاء. لاستخدامهم في حراسة القوافل، وأعمال الري الصناعي والزراعة والحرب وليس أدل على كثرة هؤلاء العبيد، من أن (هند بنت عتبة) أعتقت في يوم واحد أربعين عبدا من عبيدها، كما أعتق أبو أحيحة سعيد بن العاص مائة عبد، أشتراهم واعتقهم.
ومع النظام العبودي انتشرت عادة التسري بالإماء، فكان للرجل أن يهب أو يبيع أو ينكح أمته أو يجعلها مادة للكسب بتشغيلها في البغاء، ثم يأخذ ناتجها المولود ليباع بدوره، وعندما جاء الإسلام حرم البغاء، ولكنه أبقى على نظام ملك اليمين ضمن ما أبقى عليه من أنظمة الجاهلية وقواعدها المجتمعية، لكنه رغب في العتق وحض عليه.
الأســـاطير
ومع التطور الرتيب البطيء للقوى المنتجة، نتيجة للتعددية والتشظي القبلي، تواضع العقل العربي على اللقاء تفاسير ميتافيزيقية، لما يجابهة من ظواهر طبيعية، يحاول بها تبرير ما يحدث حوله، وهو ما اصطلح بعد ذلك على تسميته بالأساطير بين العرب أنفسهم، خاصة بين الطبقة المثقفة من أثرياء تجارهم، وهو ما يعلن عدم قناعة مستبطن بتلك التفاسير، التي أدرجت ضمن أخبار السالفين وأنبياء الأمم وقوادهم تحت عنوان واحد يجمعها هو (الأساطير).
أســاطير المــاء
ولما كان المطر أهم الظواهر وأخطرها لحياة البدوي، فقد وضعت بشأن انقطاعه أو تواتره سيولا تفاسير أسطورية بدائية بسيطة بساطة حياة البداوة، فإذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى فعل النجم أو المجموعة التي توافقت من الظهور مع سقوط المطر، فيقولون: أُمطرنا بنوء كذا. وكان لفيض المطر أحياناً ودوره المدمر تفاسير من لون آخر، فيبدو أن الذاكرة العربية احتفظت بأحوال عرب قدماء، دمرت بلادهم بسبب الأمطار العاصفة، فحكوا عنها روايات تفسيرية، تكمن الأسباب فيها بيد الآلهة الغاضبة البطوش على من خالفوا أوامرها أو نواهيها، وهو ما روته العرب مثلية عن هلاك عاد وثمود، ويمكن الرجوع بشأنه تفصيلاً للفصول الأولى من كتب الأخبار الإسلامية، وعلى سبيل المثال (تاريخ الأمم والملوك) للطبري.
كذلك كان لندرة المطر أساطيرها الخاصة، والتي دفعتهم إلى ابتداع ألوان من الطقوس، فصدوا بها تحريض الطبيعة على العمل، ويبدو أن ملاحظة سكان السواحل للضباب الصاعد من الماء ليكون سحابا ممطر، أثر في تصور اصطناع حالية شبيهة، فكانوا يوقدون ناراً تخرج مادتها دخاناً شبيها بالضباب الصاعد للفضاء، بقصد الاستمطار. ولأن البقر كان رمزاً للخصب عند الشعوب القديمة، فقد عقدوا بين النار والبقر في طقس يجمعون فيه الأبقار، ويصعدون بها المرتفعات، ويربطون في ذيولها مواداً قابلة للاشتعال يوقدون فيها النار، فتهرع الأبقار مذعورة تثير الغبار وهي تهبط من الجبل، لتصطنع حالة شبيهة بالعواصف الممطرة، وأثناء ذلك يضجون بالدعاء والتضرع، ويرون ذلك سببا للسقيا بعد ذلك إعمالاً لمبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه.
أســاطير السمــاء
وفي العصر الجاهلي الأخير، ومع النزوع نحو توحد قومي ديني تحت ظل إله واحد، ارتفع العرب بذلك الإله عن المحسوسات، ونظروا إلى إلههم ساكنا السماء في قصر عظيم تحفة حاشية من الملائكة، لذلك قدسوا السماء وأجرامها، والقسم بها، وبظواهرها، وحفوا بالقدسية كل ما تساقط من السماء بحسبانه قادما من ذلك المكان المقدس حيث العرش، فكان تقديس الأحجار النيزكية أحد نتائج ذلك الاعتقاد.
وقد نسبوا إلى الأفلاك أثراً عظيما في حياة البشر والأمراض والأوبئة، وكان تساقط الشهب يعني وقوع أحداث جلل، كالحروب، أو الكوارث الاقتصادية، أو الطبيعية، أو ولادة رجل عظيم، أو موت لآخر.
ويبدو أن تلك القدسية امتدت عند بعض القبائل إلى تآليه نجوم السماء، بينما اتجه البعض الآخر إلى اعتبارها هي ذات الملائكة، وقالوا إنهن بنات الله، أو لهن علاقة بالله على الجملة في أكثر من شأن، وتعبر عن ذلك الرواية المشهورة بشأن كوكب الزهرة والملكين هاروت وماروت، وكيف أغوت الزهرة الغانية الملكين الورعين فارتكبا الخطيئة وعصيا الله خالق السماوات والأرض، وكيف تحولت تلك المرأة التي أغوت ملائكة السماء بدورها إلى كائن سماوي يتمثل في ذلك الكوكب الجميل المعروف بكوكب الزهرة.
أســاطير البشــر
كذلك لم يجد العرب في تميز بعض الأشخاص إلا سمات خارقة، نسبوها إليهم أحياناً انبهاراً، وأحياناً تمجيداً، فهذا خالد بن سنان يطفئ النار التي خرجت بجزيرة العرب وكانت لها رؤوس تسيح فتهلك البلدان ويبدو أنها كانت ذكرى بركان مدمر، لكنهم جعلوا لنار البركان رؤوساً آكلة حاربها ابن سنان حتى أطفأها وردها إلى مقر الأرض.
وهذا الصعلوك القوي النبيل، يشتد الإعجاب به وبقوته حتى يقولوا إنه قتل الغول وأتى يحمل رأسه تحت إبطه، فأسموه (تأبط شر). وهذا عنترة بن شداد يشد على الأعادي فيكسر رماح الحديد وينزع النخيل من مواضعه ويحارب الغزاة، حتى يتحول مع النزوع القومي في الجاهلية الأخيرة إلى بطل عربي قومي يحارب أعداء العرب بقواه الجبارة.
وذلك (سيف بن ذي يزن) يدخل الحلم القومي العروبي بعد تحرير بلاده من الأحباش، فيتم التعتيم على استعانته بالفرس الذين يحتلون بلاده عوضاً عن الأحباش، ليتم تصويره بطلا شعبيا عظيما يقاتل الجيوش ويهزمها بقوته ومهارته.
وهو ما يشير إلى نزوع جديد نحو أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الأخير، لتصنع رمزها القومي العربي، وهي تنحو نحو التوحد الآتي.
أنمــاط الــزواج
في جزيرة العرب، تعددت أنماط الزواج، كناتج ضروري لشكل العلاقات المجتمعية، والتوزع القبلي، وتباعد المضارب عبر مساحة تكاد تكون قارة متباينة، تشكل فيها كل قبيلة وحدة قائمة بذاتها، ومن هنا فرضت تلك الأوضاع أنماطا عدة للنكاح، عددتها لنا كتب السير والأخبار والإسلامية.
النكــاح لأجــل
والنكاح لأجل كان يقع على طريقتين تمثلان نوعين من الزواج، وهو لون من النكاح الصريح الذي لا يعني زواجا بالمعنى المفهوم، والنوع الأول منه هو ما عرف بنكاح (الذواق) الذي يتم دون أي شروط تعاقدية، ويحل برغبة أي من الطرفين متى ما شعر بعدم الرغبة في الاستمرار، وقد أشتهر بهذا النكاح (أم خارجة) التي تناكحت وأربعين رجلا من عشرين قبيلة، فكان يأتيها الرجل متودداً يقول: خطب، نكح، فيأتيها، حتى ضرب بها المثل فقيل: أسرع من نكاح أم خارجة، وهو الخبر الذي أورده (الزبيدي) في تاج العروس والميداني في مجمع الأمثال.
أما النوع الثاني فهو (نكاح المتعة)، وقد عرف بعد ذلك في عهد النبي صلى الله علية وسلم كمشروع للمسلمين دون حرج، وكان قبل ذلك واسع الانتشار بين عرب الجاهلية، وكانت دوافعه لديهم التنقل والأسفار والحروب، حيث كان الرجل يتزوج على صداق محدد لأجل محدد، وبقضاء المدة ينفسخ التعاقد، وقد كان لأثرياء مكة الدور الأساسي في إرساء هذا اللون من النكاح، حيث كانوا أصحاب قوافل وسفر، وممكنات مادية تسمح لهم باقتناء الحريم على تلك الطريقة، على محطات سفرهم بالقوافل، ويبدو أنه لون من التقنين الأحدث للطريقة الأولى (الزواج بالذواق).
أنكحة في عداد الزنى
وعرفت الجاهلية ألواناً أخرى، من النكاح وكرهته رغم عمل البعض به، فكان في عداد الزنى، وتمثله عدة ألوان، أولها نكاح (الشغار)، وهو أن يزوج الرجل أبنه الرجل على أن يزوجه الآخر ابنته دون إمهار، فكانت كالتبادل البضائعي، لا حق للمرأة فيه ولا مهر لها، وقد نهى الإسلام عن هذا اللون من النكاح (لا شغار في الإسلام)، ورغم ذلك لم يزل معمولاً به خاصة بين فقراء المسلمين، كحل غير مكلف لعدم وجود المهر فيه.
وهناك لون آخر عرف باسم (المضامدة)، تتخذ فيه المرأة خليلاً أو أكثر على زوجها، وكانت تفعله نساء القبائل الفقيرة زمن القحط، فتذهب إلى السوق وتعرض نفسها على ثري يكفلها ويمنحها المال، ثم تعود بعد ذلك لزوجها بعد أن توسر بالمال الكافي لإعاشة أسرتها، ويدوره كان نكاحا بدفع العامل الاقتصادي أساساً.
ثم ألوان أخرى من النكاح البدل المعروف بتبادل الزوجات، وزواج (المقت)، وكان مكروها من العرب واسموه المقت كراهة له، وكان يتزوج بموجبه الرجل زوجة أبيه كجزء من ميراثه عند موت ذلك الأب، وقد أبطل الإسلام هذا اللون من الزواج، هذا ناهيك عن نكاح الاستبضاع الذي يطلب فيه الرجل بذرة سيد عظيم في رحم زوجته عساه يرزق بولد عظيم.
ومن أنكحة الزنى الصريح، نكاح صاحبات (الرايات الحمر)، وهن بغايا مكة اللائي كن ينشطن في مواسم التجارة وموسم الحج ترغيباً للتجار وأهل السوق، وقد شجع أثرياء مكة صاحبات الرايات الحمر، لمزيد من الإنعاش الاقتصادي، لكنهم مع ذلك كانوا على مروءة إن حملت المرأة، حيث يلحق ولدها بما يرى أهل الفراسة والقيافة أو بضرب القداح، فيصبح ابن من تقع عليه الحظوظ.
أنكحـة بالعــرف
وقد تواضع العرف القبلي في ظل ظروف التشتت القبلي، والإغارة الاقتتال بين القبائل وبعضها، على لون بشع من ألوان النكاح، هو لون صريح من الاغتصاب المهين، ينزل بالقبيلة المهزومة ونسائها، حيث كان من حق المنتصر سبي النساء والاستمتاع بهن حيث تصبح ملكه بالسبي، ويصبح من حقه بيعها إن لم يجد من يفتديها منه. ومثله نكاح الإماء بالشراء والامتلاك، وهذا اللون من النكاح كان لا يعرف عددا للنساء الحريم على سرير الرجل، وهو شبيه بالزواج غير المحدد لعدد الزوجات الذي كان معرفا بدوره بين الطبقات الثرية، لكنه كان نادراً معوداً، حتى تجده في خبر أو أثنين، كما جاء عن غيلان الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة.
مكانــة المــرأة
حول مكانة المرأة في جاهلية العرب الأخيرة، أختلف الباحثون إزاء ما بأيديهم من معطيات تتضارب أشد التضارب، وتتناقض إلى حد عدم الالتقاء إبدا. فذهب الباحثون إلى طريقين على ذات الدرجة من التضارب والتناقض، منهم من رأى للمرأة في الجاهلية مكانة تتميز بها عن وضع بني جنسها عند بقية الشعوب، وأنها سمت إلى وضع السمت في المجتمع، بينما ذهب فريق آخر إلى النقيض وهبط بها إلى أسفل سافلين.
الشــكل الأرقــى
ومن ذهبوا بمكانة المرأة في ذلك العصر إلى مكان السمت المتميز، اعتمدوا على ما جاء بديوان العرب من أشعار، تبين كيف كانت المرأة هي الوتر الحساس في قلب كل عربي، ومبعث كل الهام، حيث التزمت القصائد جميعها تقريبا نهجا يهيم بالمرأة ويمجدها، وما يلاحظ على المعلقات التي لا تخلو من الإشادة بالمرأة والتغزل فيها بل والفخر بها.
ويعود الاتجاه نفسه إلى المأثور العربي وما ورد من أخبار عرب الجاهلية في المصادر الإسلامية، ليجد العربي حريصاً على كرامة المرأة ويعتبرها موضوع شرفه، حتى شنت من أجلها حروب، وأبرزها موقعة (ذي قار) التي انتصرت فيها ثلاث قبائل عربية متحالفة، على الفرس، بسبب رفض النعمان بن المنذر تزويج ابنته للملك الفارسي، كذلك حرب الفجار الثانية التي قامت بين قريش وهوازن تلبية لاستنجاد امرأة بآل عامر للذود عن شرفها، ولا ننسى حرب البسوس التي دامت أربعين عاما بسبب انتهاك جوار امرأة، وما قصة عمرو بن هند وعمرو بن كلثوم إلا أبرز مثل لأنفه العربي وحرصه على كرامة المرأة وعزتها.
وتروي كتب الأخبار وطبقات الشعراء كيف كانت المرأة تستشار في عظائم الأمور، كما في حادثة سعدى أم أوس الطائي، ناهيك عن مشاركتها للرجال في ساحة القتال، تحثهم على المثابرة وشد أزرهم، وتداوي الجرحى وتدعو للأخذ بالثأر، فيستبسل الرجال مخافة سبي نسائهم، وقد كان لواء (الحارثية) في شعر حسان بن ثابت وراء نصر قريش في غزوة أحد على المسلمين، فعندما سقط لواء المكيين هرعت إليه (الحارثية) وسط الرماح والسيوف وحملته، فتجمعت حوله فلول المنهزمين، وظلت تهتف بهم حتى عادوا وحملوا على المسلمين حملة شديدة. ودور (هند بنت عتبة) في ذات المعركة من أهم الأدوار في تاريخ تلك الحروب، حيث أتت بنساء مكة وقيانها يشحذن الرجال، وينشدن الأناشيد الحماسية لتأجيج الحمية القتالية. وكانت (هند) من شاعرات العرب اللائي يصفن المعارك ويحسن تصوير الأبطال، واشتهرت أيضاً (كفيلة بنت النضري)، و(أروى بنت الحباب)، وبنت بدر بن هفان والهيفاء القضاعية ولا مراء أن الخنساء ذهبت من بينهن بعمود الشعر رثاء وفخرا وحماسة وحربا.
ولا يغيب على فطن انتساب قبائل العرب إلى أمهاتها مثل بجيلة وخندف وطهية ومعاوية وذويرة، ويبدو أن الحرص على مكانة الأم كان وراء حرص العربي على كرم النسب وطهارة الرحم، وقد ذكر كتاب الأغاني في حديثه عن حرب الفجار أن (مسعود الثقفي) ضرب على زوجته (سبيعة بنت عبد شمس) خباء وقال لها: من دخله من قريش فهو آمن، فجعلت توصل في خبائها ليتسع.
وفي الأشعار تقدير عربي شديد للمرأة، فيخاطبها إذا كانت زوجة بأفضل الألقاب، فهو يقول لها:
يـا ربه البيت قومي غيـر صاغرة ضمي إليك رحال القوم والقربـا
واللقب، وتعبير (غير صاغرة) يشير إلى أي درجة من السمو كانت.
الشــكل الآنــي
أما أصحاب الاتجاه الآخر، فيستندون إلى ذات المعطيات وذات المادة التاريخية، ليعطونا صورة من أشد الصور بخسا بحق المرأة، فكانت تورث مع المتاع إذا توفي زوجها، ويرث الولد زوجة أبيه ويتصرف فيها حسب مشيئته، فبإمكانه أن يتزوجها، أو يزوجها لغيره ويأخذ مهرها، أو يعضلها حتى تموت، أي يمنعها من الزواج حتى تدفع فدية عن نفسها. فهي في منزلة بين الإنسان والأنعام، أو هي مثل متاع البيت متعة لصاحبه، وسميت متاعا بالفعل، مهمتها الاستيلاد والخدمة، وشاع الكثير عن بغض العرب للبنات، حتى سُئل أعرابي: ما ولدك؟ قال: قليل خبيث، قيل: كيف ذلك؟ قال: لا عدد أقل من الواحد، ولا أخبث من بنت.
وهنا (أبو حمزة العيني) يهجر زوجته إلى بيت مجاور بعد أن ولدت بنتاً، حتى أمست تقول شعراً:
مـا لأبـي حمـزة لا يأتينــا يظـل فـي البيـت الـذي يلينـا
غضبـان ألا نلــد البنينــا تـالله مـــــا ذلـك فـي أيدينــــا
وإنمــا نأخـذ مـا أعطينـا ونحــن كـالأرض لزارعينــا
ننبـت مـا قد زرعـوه فينـا
وغني عن التنبيه إلى أن تلك الرؤية المتقدمة للرجل كسبب في جنس الوليد، وأن المرأة مجرد أرض تقبل الجنس المزروع وتنبته.
هذا ناهيك عن ظاهرة الوأد كأبشع الظواهر طرا، وقد ذهب بعضهم إلى قصر الميراث على الولدان الذكور وقالوا، لا يرث إلا من يحمل السيف.
التحليــل التاريخــي
ومثل هذا التناقض في المعطيات، ثم التناقض بالتبعية في تقارير الباحثين حول وضع المرأة في الجاهلية، لا يحله إلا رؤية تاريخية موضوعية، فقد عاش العرب في قبائل متعددة موجودة جنبا إلى جنب في زمن واحد، ولكن في مناطق مختلفة، وهي تتداخل معا، ففي مكة جمع شكل المجتمع القبيلة إلى جوار الواقع الحضري، وطريقة العيش ووسائل الكسب، من رعي وغزو إلى استقرار زراعي، إلى تجارة، أثرها الذي يجب أخذه في الاعتبار عند مناقشة وضع المرأة في الجاهلية، وهو موضوعنا التالي.
العامل الموضوعي ووضع المرأة
سبق وأشرنا إلى اختلاف آراء الباحثين في وضع المرأة زمن الجاهلية، كما ألمحنا إلى أن ذلك الاختلاف ناتج من تعدد القبائل والاشكال المجتمعية على التجاور في زمن واحد، في مناطق مختلفة، كذلك تنوع الاقاليم وطرق الكسب التي تتباين، وما تبع ذلك بالضرورة من اختلاف في وضع المرأة، ولا ريب أن دخول الشكل الطبقي أدى إلى ثراء قبائل ضاربة على طرق التجارة، مقارنة بقبائل ظلت على فقرها في باطن الجزيرة، إضافة إلى التفاوت الطبقي داخل القبيلة الواحدة، وما ارتبط به ذلك التطور الاقتصادي في تفجير الأطر القبلية في المناطق التي أصابها ذلك التطور، فتغير بناها المجتمعية وسعت نحو نزوع وحدوي على مستوى الأرض والسماء، مما أدى إلى نشوء وعي قومي وحدوي، استشعرت فيه قبائل العرب بوحدة جنسها، وكان لكل تلك التطورات دورها في اختلاف وضع المرأة، مما أدى لاختلاف رؤية الباحثين بدورها.
ظاهــرة الــوأد
يقول القرآن الكريم معقبا على ما آل إليه حال المرأة في العصر الجاهلي، آخرا، ناهيا {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم}، وينبه (الدكتور على عبد الواحد وافي) هنا إلى أن الوأد الناتج عن الفقر لم يكن فيه تمييز بين الذكر والأنثى، فكانوا يئدون على الجملة، وهو رأي فيه نظر، حيث لم يثبت وأد الذكور على الإطلاق، حيث كانت البداوة ونمطها بحاجة دائمة إلى ذكور شغيلة محاربين، لكنه يطرح من جانب آخر وجهة نظر بشأن وأد الإناث، فيقول أنهم اعتقدوا أن البنت من خلق الشيطان، أو خلق إله غير إلههم، فوجب التخلص منها.
وفي التفسير الديني نجد تفسيرا أقرب للمقبول عند الدكتور (على زيعور) حيث يقول: إنه كان لونا من طقوس التقرب لإله القمر (ود) رمز الأنوثة في رأيه، وإنه كان من بقايا القرابين البشرية، التي درجت عليها الشعوب القديمة، قبل استبدالها بذبح الحيوان فداء للإنسان.
لكن ما يعني الأمر هنا هو أن المطالع لكتبنا الإخبارية لن يجد ظاهرة الوأد أمرا متفشياً، كما هو شائع، بل كان على العكس نادر الوقوع، ذكرت حالات بعدد قليل لا يرقى بالحالة إلى ظاهرة منتشرة، وقد عَابَهُ العرب وانكروه. وأشهر حالتين يتم ذكرهما حالة (قيس بن عاصم) وحالة (عمر بن الخطاب).
ولعل صدق الوحي والتنزيل هو الفيصل بشأن سبب الوأد، في بعض مواضع وبعض قبائل الجزيرة حيث أشار للوضع الاقتصادي وأثره في تلك العادة، فالفقير بحاجة للولد المنتج، وليس بحاجة لأنثى فم يلتهم في مجتمع ندرة على العموم، ثم كان حال القبائل المتحاربة يعرض الإناث للسبي والعار، وكان محتما أن تهزم القبيلة الفقيرة وتسبى بناتها، لقلة عتادها وخيلها.
والدليل على عدم تفشي الوأد، وأنه بالفعل كان ناتج الإملاق كما قال الوحي الصادق، أن علية القوم ومن تيسر معاشهم فتهذبت نفوسهم، استهجنوا ذلك بشدة، فكانوا يفتدون البنات من الوأد، واشتهر من بين أجواد العرب (صعصعة بن ناجية) جد (الفرزدق)، الذي أخذ على نفسه ألا يسمع بمؤودة إلا فداها، فسمى محيي الموءودات، وقال الفرزدق فيه:
وجـدي الـذي منـع الوائدات وأحيـا الوئيــد فلــم يــوأد
وتعتبر حادثة (أم كحلة الأنصارية) عن كون السبب الاقتصادي وراء تعاسة المرأة كفم آكل غير منتج في وسط فقر وندرة، حيث ذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تقول: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث، فقال عم ابنتها قولة فيها صدق الحال، قال: يا رسول الله هي لا تركب فرسا ولا تحمل كلا ولا تنكى عوداً، يكسب عليها ولا تكسب.
وهناك سبب آخر أدى إلى حالة واحدة أخرى من حالات الوأد النادرة، ويتعلق بالظاهرة في قبيلة تميم، حيث كانت تميم قد امتنعت عن أداء الإتاوة للنعمان ملك الحيرة، فجرد عليهم حملة سبت نساءهم، فكلموا النعمان في نسائهم، فحكم بترك حرية النساء في الاختيار لقرار النساء أنفسهن، فاختلفن في الاختيار ما بين البقاء في حوزة من سباهم وبين العودة لذويهم، وكانت فيهم بنت (قيس بن عاصم)، وهي الحالة النادرة المشار إليها، فاختارت سابيها على زوجها، فنذر (قيس) أن يدس كل بنت تولد له في التراب، واقتدى به بعض تميم نكاية في النساء.
الوضــع الطبقــي
كان نشوء الطبقة عاملا أساسيا في تحديد وضع المرأة، فكان هناك الإماء، والحرائر، وكانت الحرائر تتمتع بمنزلة سامية، يخترن أزواجهن، ويتركهن إذا أساءوا معاملتهن، ويحمين من يستجير بهن، وكن موضع فخر الأزواج والأبناء، بعكس الإماء الذين كان الأبناء يستحيون من ذكر أمهاتهم.
علا شأن المرأة في الوسط الثري، خاصة إذا تمتعت هي بالثراء، فكانت تختار زوجها كما حدث من السيدة خديجة أم المؤمنين وكانت إحدى ثريات مكة المعدودات، عندما خطبت لنفسها الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان آخرون يفخرون بنسب أنفسهم إلى أمهاتهم.
وكما سبق وأشرنا فقد ارتبط ذلك التطور الاجتماعي ونشوء الطبقة بنزوع قومي واضح، كانت المرأة طرفا في جدله التاريخي، حيث كانت امرأة سببا في حرب العرب والفرس في ذي قار، والفرح الاحتفالي الهائل في الجزيرة بالنصر العربي، أما النزوع القومي وشعور قبائل العرب بأنهم جنس له نوعيته وخصوصيته فقد دفعهم إلى عدم تزويج بناتهم من أعاجم مهما بلغ الأعجمي من مراتب الشرف والسؤدد والمال.
الحــب والــزواج
يبدو أنه رغم ما نسمع عن قيود وأعراف عربية، وضعها المجتمع على علاقة الشاب بالفتاة، فإننا نسمع أيضاً مع نشوء الطبقة الثرية عن مجالس سمر تعقد في أفنية الدور، ويجتمع فيها الشباب والشابات حيث تضرب الدفوف ويرقص الحداءون ويلقى الشعر، خاصة في آخر سنوات الجاهلية الأخيرة.
وكان الشاب منذ بلوغه يبدأ التشبيب بالنساء ويلاحقهن، وكان ذلك إحدى علامات الرجولة والفخر، ولأن الشعر كان أغنية العربي وفصاحته، فقد كان كل شاعر يبدأ شعره بالغزل، إلا أن الشعر النسوي كان يخلو تقريباً من ذلك الغزل، حيث كان بوح المرأة بمشاعرها لونا من خلق الحياء التقليدي بين العرب.
اختيــار الــزوج
وإذا تأخرت خطبة الفتاة، التي عادة ما كانت تتزوج في سن مبكرة (حوالي الثانية عشرة)، فإنها كانت تلجأ إلى طلب الرجال، فتنشر شعرها، تكحل واحدة من عينيها، وتسير تحجل في الشارع ليلاً تنادي: يا لكاح، أبغي النكاح، قبل الصباح.
وهو أمر يشير إلى أن العرب وإن درجوا على عادة اختيار الفتى لفتاته، فإن العكس كان حادثاً، وتشير الأحداث إلى أن المرأة كانت حرة في اختيار زوجها، بخاصة إذا كانت من علية القوم، فهذه (هند بنت عتبة) تقول لأبيها: أني امرأة ملكت أمري، فلا تزوجني رجلا حتى تعرضه على، فقال لها وذلك لكِ.
وتقول المصادر إن حق أبن العم في أبنه عمه كان عرفا مقدما ومسنونا، إلا أن العرب بعد ذلك صارت تدرج على التزاوج من خارج القبيلة، ويقول الباحثون أن كان ناتج ملاحظة أن زواج الأقارب يأتي بالضاوين (الضعفاء والمشوهين)، فصارت لهم في ذلك أمثال مضروبة، من قبيلها: لا تتزوجوا من القريبة فيأتي الولد ضاويا، والزواج من البعداء انجب للولد وأبهى للخلقة وأحفظ لقوة النسل، ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض، والنزائع لا القرائب.
زواج الغـــريب
ويبدوا لنا أن الزواج من قبائل أخرى، كان مرحلة متطورة تساوقت مع التطور اللاحق، الذي دفع بأفراد القبائل للخروج عن الحالة القبلية الأولى، ونظام التحالفات الذي كان إرهاصا بالقومية والتوحد، سعيا وراء توفير ممكنات إقامة أخلاف قبلية كبرى قوية. وأبرز الأمثلة على ذلك عندما بلغ الصراع ذروته بين كتلتي هاشم وأمية في مكة، وبدأ كل من البطنين يعقد تحالفاته الكبرى ضد الآخر، وكيف هي السياسة التي اختطها هاشم بنفسه، وتبعه فيها بنوه من بعده.
لكن ذلك لم يمنع استمرار الزواج من داخل القبيلة بالطبع وكان للطبقة والفقر والغني دوره في ذلك، فكانت الفتاة في لطبقات الأدنى تفضل زواج الأقارب لأنهم أكثر معرفة بشؤونها من الغرباء، وأرص على ستر عيوبها وسلامتها، وفي حكاية (عشمة البجلية) ما يشير إلى هذا امعنى، فقد نصحت شقيقتها (خود) عندما جاءها خطاب أغراب حسان بقولها: تزوجي في قومك ولا تغرك الأجسام، فشر الغريبة يعلن، وخيرها يدفن،ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل؟!
الطـــلاق
معلوم أن الطلاق كان بيد الرجل، وكانوا يطلقون ثلاثا على التفرقة فإذا تمت امتنعت العودة، لكن أيضاً كان من حق المرأة الثرية – ويشار إليها بالشريفة لما لها – حق الطلاق، وقد أشار أبو الفرج الأصفهاني في أغانية إلى ذلك في حديثة عن نساء الجاهلية يطلقن الرجال، وبلغ الأمر حدا لا يجبر فيه المرأة على المصارحة بالطلاق، بل كان يكفيها أن تحول باب خيمتها من الشرق إلى الغرب فيفهم الرجل أنه قد طلق من امرأته.

(إلى هنا أنقطع الموضوع المنشور في مجلة نزوى وقد أوردناه كما نشرته المجلة لفقدنا الأصل)

متى ظهر العرب في التاريخ؟ *
متى ظهر العرب في تاريخ المنطقة؟ السؤال الذي حاول الباحثون تقديم إجابة واضحة بشأنه، استنادا لوثائق التاريخية والأكيولوجية، وإلى الدراسات المهتمة بتاريخ الأجناس والجغرافيا والبشرية.
وقد انتهت مدرسة الألماني (نولدكة) بهذا الشأن، إلى أن المفردة (عرب) ترادف في معناها الصحراء (آرابيا ARABIA)، أو بمعنى آخر، أنها لم تكن تعني أكثر من البداوة والفقر والجفاف. أقوام متشرذمة تتناثر على امتداد بوادي جزيرة العرب حتى بادية الشام وسيناء شمالا وغربا، وأنها إطلاقا لم تكن تعني ما نفهمه اليوم من معنى الجنس أو القومية. بل أن هؤلاء الأعراب لم يكن بينهم هم أنفسهم أي حس بأنهم جنس واحد أو ذوي أصول واحدة، بل كانوا يأكلون بعضهم بعضا بالحروب والغارات القبلية التي تهدأ.
رغم أن هناك يقين غير واضح، بأن للعرب وجوداً وأصولاً موغلة في القدم، فإن ما ورد عنهم من إشارات مكتوبة، قليل ومبعثر، ولا يرقى لأبعد من الألف الأولى قبل الميلاد. كما أن تعبير (الساميين) الذي يلتبس تارة بالعرب وطوراً ببني إسرائيل، لا يشير إلى حقيقية بشرية، قدر ما يشير إلى مجموعة لغات متشابهة، يفترض أنها تعود إلى لغة أم أولى.
ولعل أقدم الإشارات المكتوبة إلى العرب – كما هو معلوم لدا الباحثين – هي تلك التي جاءت في نقوش آشورية، حوالي عام 853 قبل الميلاد، وحدثتنا عن جماعات من البدو دمرتها القوات الآشورية، وأن تلك الجماعات كانت تستقر في بادية الشام، ودومة الجندل، وتيماء، وقد أطلقت النصوص الأشورية على هؤلاء لفظة اختلف تنغيمها نطقا في الترجمة ما بين: عريبي، وعربا، وعربي، وعربو. أما بلادهم فيبدو أنها تلك التي ذكرت في ذات النصوص باسم (عربايا)، كما أشارت إلى ملوك وملكات في محيط (دومة الجندل) وإلى كيانات قبلية تمتهن التجارة، يرجح أنهم كانوا بدورهم عربانا، وربما عبارة (ماتو- أربي) الواردة في الكتابات البابلية كانت تعني: أرض العرب، لكن من المؤكد أن لفظة (أربايا) الواردة في كتاب (دارا الأكبر الأخميني) تعني: العرب.
* لم يسبق نشرة.
(من صـ 193 -198 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير، 1996)
العرب في نصوص الرافدين
وهكذا اتفق الرأي على أن أول إشارة مدونة في التاريخ إلى العرب، تلك التي جاءت في نصوص العاهل الآشوري (شلمناصر الثالث)، والتي تحدثت عن معركة (قرقر) التي وقعت عام 853 قبل الميلاد، وتمت فيها هزيمة حلف لمجموعة من القبائل، تزعمها شخص باسم (جندبو) أو (جندب العربي)، وأن تلك القبائل كانت تقاتل راكبة الجمال، وأن عدد الجمال العربية في تلك المعركة قد تجاوز الألف جمل، وهو ما يشير إلى حلف كبير، كما يشير إلى لون من التآلف بين قبائل العرب، ربما اقتصر على ذلك الطارئ المؤقت، ولم يرق إلى الإحساس القومي بالتوحد الجنسي.
وقد أشارت تلك النصوص الرافدية، المدونة في القرن التاسع قبل الميلاد، إلى ملكات عربياتن فقد وردت في نص من عهد (تجلات بلاصر) سنة 778 قبل الميلاد، رواية عن قدوم ملكة العرب (زبيبة) تحمل الجزية، ونظنها تلك التي وردت في أخبار المأثور العربي باسم (الزباء)، وخلطوا بينها وبين (زنوبيا) ملكة تدمر. كذلك ترك لنا الملك (سرجون الثاني) نصا يقول فيه أنه قد هزم جيوش (شمسى) التي وصفها بأنها (ملكة العرب) حوالي سنة 732 قبل الميلاد، وأنه قد تسلم الجزية من ملك سبأ (يث – عمر) حوالي سنة 716 قبل الميلاد، إضافة إلى دحره جماعات من (ثمود) و(العبابيد) و(المرسماني) و(عفه) الذين وصفهم بأنهم "العرب بعيدو الديار".
وفي نص للملك الآشوري (سنحاريب) نفهم أنه قد أسر شقيقا لملكة عربية أسمها (ياطيعا)، ثم هاجم معسكراً لملكة عربية أخرى أسمها (ت. علخونة)، حوالي عام 691 قبل الميلاد، أما الملك الآشوري (أسرحدون) فقد ترك وثيقة تشير إلى فرضه الجزية على ملك دومة الجندل المدعو (خزعل) سنة 676 قبل الميلاد.
وفي كتابات العاهل الآشوري الشهير (آشورباني بعل/يُكتب خطأ يانيبالي) سنة 649 قبل الميلاد، إشارة واضحة إلى معركة وقعت مع عرب يعرفون باسم عرب (قيدار)، ثم نعلم أن هؤلاء العرب قد تغلغلوا داخل الأردن مما اضطر (نبوخذ نصر) العاهل الكلداني إلى مهاجمتهم عام 599 قبل الميلاد، ويبدو أن شأن هؤلاء العرب كان قد تضخم إلى الحد الذي اضطر الملك الرافدي الأشهر (نابونيد) إلى نقل عاصمته جنوبا ليقيمها في واحة تيماء، ليواجه من هناك تلك الهجمات، وليبسط هيمنته على (ددان. العُلا حاليا شمالي السعودية) وعلى فدك وخيبر ويثرب، وهو ما يوضح مصدر تلك الهجمات العربية.
العــرب فـي التــوراة
أما التوراة، كوثيقة تاريخية، فقد سجلت للعرب وجوداً تاريخيا واضحا، وذلك حوالي عام 1000 قبل الميلاد، عندما أرفقت ذكرهم بذكر مؤسس دولة إسرائيل (الملك سليمان)، وذلك في سفر أخبار الملوك الثاني القائل:"وكل ملوك العرب، وولاة الأرض، كانوا يأتون بذهب وفضة إلى سليمان، وهو ما يشير إلى أن للعرب في ذلك الزمان ممالك تدفع الجزية لسليمان ملك إسرائيل.
وبعدها يتواتر ذكر العرب في نصوص التوارة بذات السفر، في حكايته عن الملك اليهودي (يهو شافاط) حيث يقول: "وبعض الفلسطينيين أتو يهوه شافاط بهدايا مل فضة والعربان أتوه أيضاً بغنم من الكباش". وفي زمن الملك (يهورام) يهاجم العرب مملكة يهوذا بذات السفر حيث يقول: "والعرب الذين بجانب الكوشيين، صعدوا على يهوذا وسلبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك، مع بنيه ونسائه".
ومن ثم تتصاعد نغمة العداء التوراتية ضد العرب، فتحكي التوراة عن عودة اليهود من سبي بابل لبناء الهيكل الخرب مرة أخرى، وكيف كان العرب يهزأون مما يفعلون، وذلك في سفر نحميا وهو يقول: "ولما سمع سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني، وجشم (نظن صحيحها جاسم) العربي، هزأوا بنا واحتقرونا"، ومن ثم نجد في أمنيات النبي (أشعيا) فناء كاملا للعرب، في قوله: " وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين (يقصد قوافل تجارة ددان وهي العلا حاليا) ... يا سكان أرض تيماء ... إنهم أمام السيوف قد هربوا ... يفنى كل مجد قيدار". أما النبي (إرميا) فيقدم ذات الأماني في نبوءته "هكذا قال الرب: قوموا واصعدوا إلى قيدار، أخرجوا كل بني المشرق"، ومعلوم أن (قيدار) اسم لقبيلة عربية كبرى آنذاك، أما اصطلاح بني المشرق فهو يعني العرب بالمعنى الواسع، وقد تأكد صدق وجود قبيلة باسم (قيدار)، على الأقل في إشارة تاريخية لنص (آشور باني بعل) سالف الذكر، وأنه جرد حملات عليها لأنها ساعدت أخاه المتمرد، وأنه دمر (أبي عاطي) زعيم قبيلة قيدار، وغنم منهم جمالا كثيرة.
العرب في النصوص اليونانية والرمانية
تعد إشارة (إسخيليوس / 525-456 / قبل الميلاد) أقد إشارة يونانية لجزيرة العرب، بحسبانها موطنا للخيول العربية الممتازة، لكن الكتابات الهوميرية بحسبانها أشهر الكتابات اليونانية، لا تأتي على ذكر العرب إطلاقا، رغم تعدادها لشعوب وقبائل الشرق القديم، ومعلوم أن كتابات (إسخيليوس) جاءت بعد (هوميرس) بما يزيد عن ثلاثة قرون، لكن ما أن يأتي عام 484 قبل الميلاد، حتى نجد في حديث (هيرودت) المعروف بأبى التاريخ، الحديث الكثير عن العرب ومناطق العرب، مما يشير إلى أن العرب قد أصبحوا حقيقة مستقرة في المنطقة، حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، وأنه كان لهم معالمهم الجغرافية المميزة، مثل خليج العرب (خليج السويس حالياً) مما يعني أنهم قد استوطنوا سيناء، كذلك كانت العرب الجنوبية (اليمنية) معلومة الأمر تماماً في ذلك القرن. وما أن يأتي القرن الثاني قبل الميلاد، حتى نجد الحديث عند (أراتوستين) عن أربع ممالك عربية مستقلة في جنوب الجزيرة، هي: معين وسبأ وقتبان وحضرموت، وهو التقسيم الذي أثبتته الحفائر والكشوف الأركيولوجية الحديثة في اليمن.
أما الرومان، فقد قسموا جزيرة العرب قسمين: العربية الصخرية (أرابيا بترا) وهي شمالي الجزيرة وشبه جزيرة سيناء، والعربية السعيدة (أربيا فيلكس) وهي بلاد اليمن أو جنوبي الجزيرة، وذلك بعد معرفتهم الجغرافية لشئونها، مع حملة (آليوس جالوس) على الجزيرة، والتي أثبتت فشلها الذريع في احتلال تلك الفيافي.
البحــر الحمــيري
ومنذ القرن الأول قبل الميلاد، نجد النصوص اليونانية تشير إلى وجود مملكة مزدوجة في جنوبي الجزيرة، هي مملكة (سبأ وحمير)، وأطلقت تلك النصوص على سكان تلك المملكة اسم (الهومريين) الذي يجب نطقة (الحميريين). ويبدو أن اسم البحر (الأحمر) قد اكتسب اسمه من اسم (حمير) قبل سقوطها في القرن الأول قبل الميلاد، بعد أن كان اسمه البحر الأرتيري كما سبق وأسماه (هيرودوت)، لكن المثير في الأمر أن تسميته بالبحر (الأرتيري) نسبه إلى وقوع (أرتيريا) على مضيقه الجنوبي في المندب، يعني ذات المعنى لأن (أرتيريا) نفسها كانت جزءا من مملكة سبأ، واسمها باليونانية يعني (الحمراء)، ولتقارن مع (حمير) والبحر (الأحمر)، وهو الأمر الذي يدفع لمراجعة العلاقة التي تربط بين تلك المملكة العربية الجنوبية، وبين سكان ساحل المتوسط الشرقي (الفينيقيين)، حيث تعني كلمة فينيقي بدورها (الأحمر)، وتلك المراجعة مطلوبة في ضوء النص الفينيقي المكتشف، الذي يؤكد أنهم جاءوا إلى ساحل البحر المتوسط الشرقي، قادمين من (البحر الجنوبي) وهو الأحمر، وهو الأمر الذي قد ينتهي إلى القول: إن حضارات الجنوب كانت هي الأصل والدافع للحضارة الكبرى التي قامت بعد ذلك على ساحل المتوسط الشرقي. لكن ستكون العاقبة هنا: كيف ذلك، بينما أبعد نصوص تحدثت عن وجود للعرب، لا ترقى لأبعد من ألف سنة قبل الميلاد، بينما نعلم أن الفينيقيين قد ظهورا على صفحة التاريخ قبل ذلك التاريخ بأكثر من ألف عام أخرى؟ سؤال يجيب عليه الفراعنة.
العرب في الهيروغليفية
وهذا حقا ما فاجأتني به ترجمة جديدة تماما للمفكر الليبي (الدكتور على فهمي خشيم)، لكلمة الشرق في المصرية القديمة (إ أب ت)، حيث كان المصري يحدد الجهات الأصلية بالتوجه جنوبا نحو منابع النيل، ليصبح الشرق في يساره، لتعني الكلمة (إ أب ت) اليسار والشرق معا، كما تشير إلى الريح الشرقية، وأي مشتقات ترتبط بالشرق، وجذرها (إ أب) يعني الشرق، وفي قراءة الرجل للكلمة نجد الهمزة الأولى مبدلة من العين (أ = ع)، وذل كما في المصرية (ك أب) = كعب، و(إن ق) = عنق ... الخ، ومعروف أن العربية تبدل العين همزة كما في (الأربان = العربان / أنظر لسان العرب)، أما الهمزة الثانية في (إ أب) فهي مبدلة من الراء، ونموذجا لذلك خمسين مثالا قدمهم المصرولوجي (أمبير) مثل (ب أ ك) المصرية = برك، و (ش أ ع) = شرع، و (ج أم) = جرم، وعليه فإن الهمزة الأولى في (إ أب) تصبح (ع) والهمزة الثانية تصبح راء، بينما الباء أصلية، أي أن (إ أب) هي بالضبط (عرب)، و (إ أب ت) هي عربت مؤنث عرب أو بلفظ العرب (عربية)، أي بلاد العرب، أي جزيرة العرب، وهي الكلمة المصرية التي صارت تدل على الشرق عموما، مما يعني أن مصر القديمة قد عرفت بلاد العرب باسمها وأنها كانت تعرف سكانها باسم العرب، وإذا كان الشرق في اللسان المصري القديم يعرف بأنه (عرب) وسكانه (العرب)، فهو الأمر الذي يعني وجوداً لقبائل حملت ذلك الاسم وعاشت شرقي مصر، وأن الاسم قديم قدم من أطلقه عليهم، وأنه من المحتمل الآن البحث عن أصول الفينيقيين الحمر، في حضارة الجنوب اليمني الأحمر الحميري، لكن ما يجب التأكيد عليه هنا أنه رغم كل الاحتمالات التي تشير إلى قدم العرب في التاريخ، وأنهم أقاموا ممالك في بعض الأحيان، فإنهم لم يشعروا يوما بوحدة جنسهم، هو ما تشير إليه تلك الكتابات القديمة، التي كانت دوما تتحدث عن القبيلة الفلانية ثم تصفها بأنها عربية، مما يعني أنها فقد بدوية أو صحراوية، باعتبارها كانت مملكة، ونحن نعلم يقينا وفق الدراسة العلمية المدققة أن الحس العربي بمعنى القومية أو الجنس الواحد، لم يظهر إلا قبل الإسلام بزمن وجيز، بفعل مجموعة من الظروف الموضوعية أدت إليه، ولم تحمل كلمة العرب مدلولها الجنسي والقومي المعروف، مع سيطرة لغة واحدة، إلا مع الإسلام، الذي نمى الحس القومي لدى سكان الجزيرة، ليشعروا لأول مرة في تاريخهم أن لهم كيان واحد هو الكيان العربي، وحينها ابتدعوا فكرة (يعرب) جد العرب البعيد، الذي يجمعهم ويوحد أصولهم في تاريخ لم يعرف هذا الاجتماع من قبل، وربما كان (يعرب) هذا هو الصياغة العربية (بالقلب) للاسم المذكور في التوراة بصيغة (عابر).

رب الزمـــان *
منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام، عندما كان الفكر الإنساني لم يزل في بداياته، كان العراق في قمة الإبداع الحضاري، حيث نشأت أول حضارة إنسانية على ضفاف دجلة والفرات.
وفي جنوب وادي الرافدين، كان هناك الشعب السومري الذي لا تقل حضارته عن أية حضارة أخرى عاصرته ففي هذا السهل الغريني الخصب، أبدع الحكماء السومريون أدباً وفكراً يتناسبان مع درجة ارتقاء الإنسان في تلك الأزمان.
تطلع الفكر هناك حوله مستكشفاً ظواهر طبيعة الكون مفسراً وقارئاً ومبدعاً، في كيان الوجود المحيط، به فترك عدداً غفيراً من الآلهة، تعددت بتعدد الظواهر النافعة والضارة في الطبيعة ومن تلك الآلهة الإله (آن) إله السماء.
(آن) رب السمــاء
تعني كلمة (آن) السماء المنظورة ذاتها في بدء الأمر، وكانت السماء في رويتهم سقفا محفوظاً يعلوهم، ثم تحولت بالتدريج إلى علم ورمز على الألوهية عموما، فعادلت الكلمة (آن) – بمعنى من المعاني – لفظا جلاليا أو اسما للجلالة، تدل على ألوهية أي مسمى إلهي، كما حملت الكلمة (آن) معنى السيادة والرفعة، باعتبار هذا الإله هو سيد الآلهة جميعاً.
ويقول آثاري السومريات المعروف (صموئيل كريمر): إن الأسباب التي أدت إلى سيادة (آن) على مجموعة الآلهة السومرية، لم تزل وفصولها أسباباً غير معروفة. لكننا يمكن أن نتصور وببساطة، أن رؤية السومري للسماء بفسحتها واتساعها، وتعدد الألوان والأجرام والظواهر فيها، مع ضخامة هذه الظواهر، وجسامتها هذه، روحاً تحيط الأرض، وتغطيها لها من جميع الجوانب، كل ذلك كان كفيلا بإجلالها، بما يلائم عظمتها، مقابل ضيق المساحات المرئية أمامه بشكل مباشر على الأرض ، التي مهما بلغت مظاهرها هولاً وغرابة، فإنها لا ترقى أبداً إلى درجة الظواهــــر
* نشر في مارس 1989، بمجلة آفاق عربية، بغداد.
(ومن صـ 199 -204 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
السماوية، مع الأخذ بالحسبان، عدم التماس المباشر بينه وبين السماء، مما جعلها مجهولاً دائماً، يقع في نفسه موقع الجليل بما له من رهبة ورغبة وتقديس، فكان أن تصور السماء أعظم الآلهة طرا، وأبا أولا دائم الاقتدار، بتواصل وديمومة يخصب الأم الكبرى الأرض، وهو يحتضنها باستمرار، ليلقي ماء الحياة فيها.
واستطاع العرب أو الساميون أن يشيدوا بلاد الرافدين بعد أن أصبحوا سادة البلاد، وأسسوا هناك دولاً كبرى نتذكرها عندما نتذكر (الأكاديين، والبابليين، والآشوريين، والكلدانيين). إن الإله (آن) لم يقم بإبداع الوجود دفعة واحدة فيكون قد فعل فعلاً واحداً شاملاً وانتهى الأمر، إنما كان إبداعه زواجاً مستمراً من الأم الأرض، عن طريق مطره الدائم ورعايته من عليائه باستمرار لأولاده من الكائنات الأرضية (إنسان ونبات وحيوان وكيانات أخـرى) ، وبذلك كان فعله مستمرا، وعليه فهو لم يفعل مرة واحدة إنما يفعل باستمرار، وربما هذا الفعل هو فعل (آن) الدائم، فهو (فعل + آن) أو (فعلان)، تلك التفعيلة التي دخلت كل اللغات السامية لتدل على الفعل المستمر والحضور في جميع الأزمنة. فهو فعل بدأ في الماضي، لكنه مستمر في الحضور والعمل، وباعتبار (آن) أقدم الآلهة طُرا، فقد اكتسب صفة الأزلية ولأن السماء منفصلة عن الوقائع الأرضية، التي تتعرض للدمار والفساد باستمرار، فقد بات واضحاً لعيني السومري أن الإله (آن) دائم الحضور دون فساد أو فناء، ومن هنا اكتسب صفة الأبدية، ومن ثم تحول إلى مفهوم، فأصبح هو الديمومة أو الزمان.
ولو توقفنا مع العربية، كفرع من اللغات السامية، وحللنا كلمة (الزمان)، سنكتشف عددا لا بأس به من الكشوف، وأول ما سنلاحظه في كلمة الزمان أنها على وون التفعيلة (فعلان)، كما أنها تشير إلى جزئيات الزمن المتراصة المتلاحقة المتلاصقة في كلما (زمان)، وأعني أن الزمان هو مجموعة من اللحظات أو من الآنات (آن وآن وآن هكذا ...) أي مجموعة من اللحظات الحالية أو الراهنة أو الآنية (الآن)، مضت منها (آنات)، ونحضر منها الآن (آنات)، ومنها آنات لم تأت بعد، فالزمن هو مجموع آنات الوجود، وبضم هذه الآنات إلى بعضها البعض، أو لمهّا، أو جمعها، أو زمّها تصبح هي زم الآنات أو (زم آن) أو (زمان) أو الزمان، الذي كان قديماً هو الإله (آن) رب السماوات.
(آن) رب المكــان
ونعود مرة أخرى للساميين، فنجدهم يستبعدون الكلمة السومرية (أي E) ويستبدلونها بمقابل السامي (بيت Bit)، وبيت بالتحديد تعني معناها في عربيّتنا (البيت)، لكنه كان يطلق فقط على المعابد فاختص بالكلمة (بيت) بيوت الآلهة، أما باقي الأمكنة على الأرض، فحظيت باسم آخر، تأخذه من فرع أخر باللغات السامية، أقصد الكنعانية، التي أُطلقت على بيوت آلهة أدنى قليلاً من (آن)، هي الكلمة (بَكْ)، وهي موجودة كمثال في اللفظة الكنعانية (بعلبك)، وهي معبد قديم للإله (بعل) لم يزل قائماً للآن في لبنان، والإله بعل يعني (السيد) أو (الرب)، وهو رب الأمطار والخضرة، ورب الطبيعة المروية بفعله هو، وليس بمساعدة إنسانية (بالساقية أو الشادوف) وظل (بعل) حيا في لغتنا حتى الآن ويحمل المعنى نفسه. وبعل المرأة سيدها وزوجها ورب بيتها، كما لم يزل حيا في أذواقنا، حين نفضل أكل النبات المروي طبيعياً، النبات البعلي (الفول البعلي مثلاً)، ونفضله على (الفول المسقاوي) الذي يدخل في سقايته الفعل البشري.
ولما كان الإنسان القديم، يشكل في التاريخ مرحلة الطفولة البشرية، فإنه كثيراً ما كان لسانه يلكن لكنة أطفال اليوم، وكثيراً ما خلط بين الباء والميم، وهكذا لم يكن هناك بأس من أن يصبح بيت الاله (مك) بدلا من (بَكْ)، فجاز نطق المعبد المذكور: بعلبك، ومعلبك، ومعلمك!! ومن هنا استساغ (جورجي زيدان) في مبحث لغوي، أن يستنتج أن كلمة مكة من (مك) وتعني بيت الله في اللسان القديم، وقد نؤيده إلى حد ما، باعتبار ما نعلمه عن أقرب اللغات السامية إلى الفرع الشمالي العدناني، هو اللسان الكنعاني، صاحب الكلمة (بك)، مع أخذنا بالحسبان ما جاء في القرآن الكريم عن مكة أنها أيضاً بكة، في قوله تعالي :"إن أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركا".
ولما كانت الكلمة: أي، أو بيت، أو بك، أو مك، تعني بالتحديد والدقة مقراً، أو محتوى، أو مسكناً، أو ملكاً (من الإمتلاك)، فهمنا من ذلك أن أي مكان أرضي هو ملك للإله المحلي له، لكن على المستوى الأعظم الذي يليق بجلال أعظم الآلهة وسيد الكون (آن)، فإن كل البيوت أو الأمكنة هي بيت وملك ومحل لسكنى الإله الذي تحيط بسماواته كل الأمكنة، (آن) سيد الآلهة، وعليه فالكلمة (مك) إنما هي التي أصبحت بعد ذلك تفصيلاً (ملكاً)، بإضافة اللام في العربية الشمالية، وأصبحت جميع الأمكنة هي ملكاً للإله (آن)، فالأرض له ومن عليها، وجميع الـ (مك) للإله (آن) أو ملك آن، فالمكان إذن أيضاً كله لـ (آن) وملكه الدائم.
وهكذا نكتشف أن المكان بدوره كالزمان، ينسب للإله الأعظم، رب السماوات ورب الزمان ورب المكان، (آن).
من (آن) إلى (فعلان)
ولو أخذنا بما جاء عند فلاسفة الابستمولوجي Apstomology (نظرية المعرفة)، وبما عند المناطقة الوضعيين Logical positivism، وطبقناه على ما بين أيدينا الآن، لاكتشفنا أن التفعيلة كنوع من التصريف للفعل، هي مرحلة أرقى وأكثر تتطوراً في الفكر البشري من الفعل ذاته، فقد جاء الفعل أولاً، ثم وبعد مرور سنين طوال اكتشفت التفعلية، بعد الفعل بالحركة، واكتشاف مفهوم الزمان، مرحلة أكثر رقياً، لأنه يرتبط بدوره بخبرة الإنسان بالحركة، فلو قلنا فيم نستخدم الزمان! فالإجابة هي أنه معيار ومقياس للحركة فالأرض تدور (تتحرك) حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة، وحول الشمس مرة كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع، وأنا أتحرك من منزلي إلى عملي، فاستغرق ساعة .... الخ، فالزمان مقياس للحركة، وما كان ممكناً أن ينشأ هذا المفهوم عن الزمان، لولا الخبرة الواقعية الحسية أولا بالحركة، وباعتبار السماء مصدراً لديمومة الحركة، في نظر الإنسان القديم (مثل حركة الشمس والقمر والكواكب والسحب ... الخ)، فقد ربطها الإنسان دائماً بكل ما يحدث من حركات، حتى الحركات الإنسانية، بل ربطها بالزمان المستقبلي فقرأ مستقبله وحركاته المقبلة من خلال عملية تفسير لما يريده (آن) بتحريك كواكبه ونجومه، فيما يسمى علم التنجيم، ثم ربط ذلك كله بديمومة وجود السماء وسكون الغطاء السماوي الأزرق، فنتج لديه مفهوم الإله الساكن الأبدي المستمر، بوصفه زماناً لا ينقطع، لكنه يؤثر في جميع الحركات، بل هو المحرك الأول الدائم، عبر تأثير جنوده من النجوم على الحركات الأرضية، ومن ثم أعتبر القدماء أن النجوم هو جنود للإله، أصبحت مع التطور ملائكة له، تقوم نيابة عنه فعل الحركة بينا يظل هو ساكناً، يُحرك ولا يتحرك، يُغير ولا يتغير، لكنه مستمر الفعل أو الفعلان.
في اللغة العربية، كفرع من اللغات السامية، ترك (آن) أثره كحفرية دائمة الحضور في التفعيلة (فعلان)، كحفريات كائنات الطبيعة التي نجدها في الصخور، فيدلنا وجودها باعتبارها أثرا من الماضي، على هوية هذا الماضي. ويسمى العلم الذي يهتم بحفريات الطبيعة (جيولوجيا)، بينما العلم الذي يهتم بآثار الإنسان وما تركه من تراث وحضارة (علم الأركيولوجي)، أما الأسلوب الذي نتبعه الآن في بحثنا القصير هذا، فهو ما يدخل تحت ما يسمى علم أركيولوجيا اللغة، في أطار من علم (الميثولوجي) أو دراسة الأساطير.
ولو تناولنا بعض الكمات في لغتنا لنتعامل معها أركيولوجيا، وفق ما عرفنان، عن (آن)، سنجد عدداً من الأمثلة التي لا يحصيها الحصر، فحرف الميم (م)، عندما نبحث عن جذوره اللغوية، نجده يدل على الضم والزم واللم والتلاحق والإحساس الشديد بالشيء، وعادة ما يكون مشدداً (مّ) كما في (ضمّ)، (همّ) أي استعدت أحاسيسه لتحريكه لأمر شديد القرب لدرجة التلاصق، و(شمّ) دلالة الإحساس الشديد بالشيء، و(جمّ) للدلالة على الكثرة الملاصقة المضمومة لبعضها، و(عمّ) بمعنى اشتمل وغطى .... الخ.
والميم أصلا حرف يعود إلى علاقة قديمة، بعبادة قديمة، هي عبادة الأم الأولى أو الأم الكبرى، المتميزة بالحنو الشديد، وبأنها مصدر للأمن والأمان لعبادها وقد حظيت في مختلف اللغات السامية بأسماء مثل: ماما ومامي mami وأمّا Ama وماه Mah، وهي كلها معبودات أنثوية قديمة. تشتمل ميم الأمومة في أسمائها، وفي أسماء المعبودات من أمهات الآلهة في الأسر الثالوثية المعبودة، نجد (م) الأمومة والضم والحنو أساساً في تركيب أسماء هذه الإلهات، التي تدخل معها كضلع في أسة ثالوثية، تتركب من أب وأم وابن، (فأفروديت) الرومانية كانت (ماري) Mari، وفي سوريا القديمة كانت الأم والزوجة الإلهية هي (ميرها) Myrha، وفي اليونان كانت (مايا) Maia، وفي الهند أيضاً مايا، وفي المسيحية مريم أو ماريا Marai وMeriam ... الخ، وباعتبار حرف الـ (م)، أصلاً صوتياً، يعطي معنى الضم والحنو، والأمومة، لو طبقنا عليه التفعيلة من (أم) يصبح (أماناً)، والكلمة (أمان) تتركب من ملصقين: (أم) التي تعني الأمومة، إضافة إلى (آن) فيصبح الأمان أمراً مستمراً دائماً، يعود أصلا إلى أمن الوجود في دفء حنان الأم، أو الآلهة الأم.
والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هو في علم الأنساب من الفرع العدناني، وليس من الفرع القحطاني، و(عدنان) هي (عدن + آن)، وعدن لم تزل علماً حتى اليوم على مدينة في جنوب الجزيرة، ولو تتبعنا الهجرات القديمة في جزيرة العرب، سنجد القبائل العدنانية، قد هاجرت فعلا بعد دمار مأرب وانهيار اليمن السعيد، من الجنوب اليمني إلى الشمال، لتستقر في أرض الحجاز، بينما ظلت بعض القبائل في اليمن بعد أن أصابها القحط ليصبحوا (قحطانيين)، من (قحطان)، علماً أن (عدن) أو (أدن) كان علماً على إله الخصب والمطر في كثير من المناطق السامية، وكان لقباً لرب الخصب (بعل)، وإليه تنسب الكلمة (جنات عدن)، لأن كلمة (جن) كانت تعني وحدة قياس للأرض، تعادل بمقاييس اليوم ثمانية عشر ذراعاً، وهي في اللسان اليمني القديم (جنان) لأن أداة التعريف لديهم كانت حرف النون (ن) تلحق بآخر الكلمة، كما في اسم أحد كبار معبودتهم القديمة إله الرحمة أو (رحمن)، و(جن) تجمع في اللسان العدناني الشمالي (جنات).
وباعتبار الأرض الخصبة ملكاً لإله الخصب عدن، فتصبح (جنات عدن) و(عدن) بدورها كلمة تتركب من ملصقين هما (عاد + آن)، لأن الإله عدن في أسطورته، كان إلها للخير والخصب، تعرض للقتل والموت كما تموت الطبيعة الخصبة في الشتاء، لكنه يعود من الموت حياً في فصل الربيع دوماً، فتعود بعودته الخصوبة والنماء، وهي قصة متواترة في ديانات الخصب التثليثية، ويعد الاحتفال بعيد قيامة مجيد لآلهة الخصب عيداً كبير الانتشار في المنطقة، حيث كل مجموعة تؤمن بأله للخصب تقيم له احتفال العودة من الموت سنوياً، في فصل الربيع بالذات، ومن هؤلاء (عدن) أو (يسوع) المسيحية، ويصبح معنى (عدن) الأله (عاد-آن) العائد من عالم الموتى.
ولا يغيب عن الفطن ربط (عدنان) باليمن السعيدة المكتظة بالخير، والتي حازت على هذا اللقب نتيجة سعدها في سالف الأزمان، وبخضرتها ووفرتها وخصبها، نتيجة وجود الإله (عدن) أو (أدن) في العبادات القديمة، ولنلاحظ أن (اليمن) بضم الياء، يعني أيضاً السعد وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه: أنا رجل يمان، بمعنى أنه رجل سعد، بل وقال الحديث:
"إن الدين أيضاً يمان، والحكمة يمانية"

قصة الخلق بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر *
تأسيس
معلوم، أنه بعد انحسار عصر الجليد الأخير، تقاسمت الأرض حالتان طبيعيتان، الأولى: يمكن تمييزها في تجمع شرايين المياه في أنهار، بعد استقرار أوضاع القشرة الأرضية. والثانية: وضحت في تصحر مطرد أدى إلى خفوت نبض الحياة تدريجياً، بحيث تناثرت الحياة حول عيون الماء والبرك المتباعدة، ومع ذلك التصحر المتزايد، وجدت الجماعة المشاعية الأولى – ذات النظام الأمومي – نفسها، إزاء متغير طبيعي شحيح بمطالب الحياة والمنافع، ونرى أن ذلك قد أدى بالضرورة إلى تفكيك بنيه ذلك المشاع، تبعا للتفكيك الذي حدث في الطبيعة. بحيث أنتهى إلى وحدات اجتماعية أصغر، وأكثر قدرة على الاستمرار والديمومة، حيث كان التجمع الكبير يعني الهلاك جوعا، والصراع على خيرات الطبيعة الضئيلة، وهو الصراع الذي – لا شك – حدث، وأدى إلى ذلك التفكيك، ثم الانتشار المتباعد للأشكال القبلية الأولى.
وعليه، فقد وجد الإنسان نفسه في البيئة المتصحرة، أمام خيارين: إما الموت جوعا، أو تدجين الحيوان، ومن هنا حتم الظرف على البدوي الاعتماد على الحيوان ومنتجاته في معاشه، اعتمادا شبه كامل، فكان يأكل لحمه ويتغذى بلبنه، ويلبس من نسيج صوفه، ومن ذات النسيج كان يبني خيامه.
ولندرة خيرات الطبيعة الأخرى، فقد أدى ذلك المتغير إلى تغير مماثل في تطور البناء المجتمعي، فقد أصبحت الجماعة ترتبط برابطة الدم، وبنفس القوة ترتبط بحيواناتها وهي معتمد حياتها. وربما كان ذلك هو جذر الطوطمية، الذي عبر عن قرابة مماثلة – وبالدم أيضاً – بين الحيوان والجماعة، كما كانت الجماعة بحاجة ماسة إلى تنظيم يضمن للجماعة بشراً وحيوانات الأمان من النفوق أو الشرود أو التيه، ومع سعي هذه الجماعة المتجانسة وراء الكلأ، وما يحتاجه من قدرات عضلية لا تتوفر إلا للذكور، انهار وضع المرأة! وتحولت الجماعة إلى الشكل الذكوري،

* نشر في ديسمبر 1990، بمجلة أدب ونقد، القاهرة.
(ومن صـ 205 -217في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
خصوصاً بعد أن امتلك الذكور أساسا إنتاجيا متينا تمثل في القدرة على السيطرة على الحيوان وترويضه، في وسط صحراوي يعتمد القوة الغشوم، وساعد على تثبيت مركز الذكور، ذلك الصراع الذي – لابد – قد شب حول مواضع الكلأ بين الجماعات على المعطى الطبيعي الشحيح وحده. بينما فقدت المرأة قيمتها الاجتماعية في مجتمع الندرة، بحيث اقتصرت وظيفتها على إنجاب مزيد من الذكور. أما الإناث فكانت أفواها تضيف على الجماعة عبئا، حدثنا التاريخ القريب عن حل إشكاليتها بوأدها. وحتى تضمن الجماعة المتبدية تماسكها، ذاب الفرد في القبيلة وذابت القبيلة كلها في الفرد، وأصبح الفرد يمثل القبيلة بكاملها في كل تصرفاته، وبحيث أصبحت القبيلة كلها مسئولة عن أعماله، كما أصبحت مطالبة جميعها بالالتزام بتصرفه، والثأر له إن أصابه مكروه، وذاب الكل في واحد، هو طوطم القبيلة وسيدها وسلفها، الذي أصبح محل التبجيل والتقديس، وتحول إلى رمز عزة قومية وجنسية ودينية، وكان كل فرد في القبيلة يمثل هذا السلف، أو هو دون مبالغة ذلك الطوطم الموحِد والموحد.
وفي شكل من الديمقراطية البدائية، التي تضمن بدورها مشاركة الكل وذوبان الكل كان مجلس القبيلة هو الذي يحدد شيخها وقائدها، بصفات محددة، وترتبط بظروف آنية. فقد يحتاج الظرف للحكمة مرة، وللجسارة والإقدام حينا آخر، بمعنى أن الظرف كان هو الذي يحدد مؤهلات الزعيم المطلوب، وحسب الحاجة، كما يحدد أيضاً ظروف عزله وتعيين البديل الجديد المناسب. لكن من جانب آخر، تدنت مستويات الإنتاج إلى حد كاد يكون اعتماداً شبه كامل على الطبيعة، ولأن علاقة الإنسان بالطبيعة هي علاقة عمل يؤدي إلى إنتاج اجتماعي، فإن الجماعة البدوية ظلت بعيدة عن هذا المعنى الاصطلاحي، وظلت كائنا طبيعيا في حصولها على الخيرات بالسعي الدائب وراء الكلأ، والغزو وسلب خيرات الجماعات الأخرى. أو ما تمثل واضحا في تطفلها المستديم على منتوج العمل في المناطق الخصبة، والاستيلاء عليه والفرار في غزوات لم تنقطع، سجلتها لنا نصوص الحضارات القديمة، التي استقرت على الجانب الآخر من الفرز الطبيعي، أقصد في وديان الأنهار، التي طورت قاعدة إنتاجية، تبعتها نقلات ضرورية على المستوى الاجتماعي.
وعلى مستوى العقائد، فإن الطبيعة المتصحرة الضنينة بأشكال الحياة وألوانها – تلك الأشكال والألوان التي تتعدد تعدداً هائلا في مناطق الخصب النهري – جعلت الإنسان في بداوته أحادي النظرة، واحدي الاعتقاد والنظام، فهو كما قلنا واحد في كل، يتمازج بذات الوحدة مع سلفه الواحد، الذي عادة ما تمثله في أهم حيواناته النافعة، لذلك غالبا ما قدس أنواع الشياة، بالذات، لذلك كان ذلك السف المقدس هو ربه الواحد الأوحد، وهو أفضل من أرباب القبائل الأخرى، وهو الوطن – حيث لا وطن مع الانتقال الرعوي – والملاذ ومصدر العزة وموحد الكيان، ولا يوجد رب يمكن أن يدين بالطاعة له سواه، لأنه إنما يمثل مصالح جماعته ووطنها الذي ينتقل معها أينما حلت أو ارتحلت (وهو البعد الذي نجده بعد ذلك في العقائد الإسرائيلية المبكرة، التي كانت لا تنكر الأرباب الأخرى، لكن لا تراها في مرتبة رب إسرائيل). ومن هنا لم يسح الظرف بنشوء أنظمة مركزية توحد القبائل المتصارعة، فظلت في شتاتها، مع استمرار الإله الوطني والاعتزاز بالنسب إليه بحسبانه السلف الواحد اللامتعدد، ولا يمكن أن يتعدد، لذلك كان من جانب آخر شكل أدلوجة واحدة للجميع، لم تسمح – لأزمان طويلة بعد ذلك – بظهور ثنائية طبقية تسمح بمزيد من التطور ودعم ذلك الوضع، الظرف ذاته الذي فرض استمرار الديمقراطية الابتدائية ومجلس القبيلة، والزعيم الظرفي الذي لم تثبت سيادته مدة زمنية تسمح بامتلاكه قدراً يؤدي إلى ظهور تشكيلة طبقية.
هذا بينما على الجانب الآخر، وفي مناطق الخصب النهرية، كان استقرار الأنهار في مجاريها بشكل نهائي، قد استغرق زمنا غير قصير، وسمح بوجود بيئة شبيهة بحال ما قبل انحسار الجليد الأخير، من حيث انتشار الأحراش والمستنقعات مما فرض بالتالي استمرار الوضع الابتدائي للمشاع زمنا أطول، ضمن استمراراً موازيا لوضع المرأة المتميز في النظام الأمومي، بسبب امتلاكها أساسا اقتصاديا دعم ذلك الوضع (سنأتي على شرحه الآن)، واستمر ذلك النظام فترة زمنية توازت مع المرحلة التي تغيرت فيها نظم المجتمع، الذي تحول للبداوة في مناطق التصحر، وانتهت بالسيادة الذكورية، بينما كانت مناطق الخصب لم تستمتع بعد باستقرار الطبيعة النهرية تماما. ولتوضيح ذلك سنحتاج إلى وقفات تفصيلية – حسب المساحة المتاحة – لا بد منها، وهي وقفات تنتج لزوما عن رؤيتنا، والتي تمثلت في اقتراح يحل أو يحاول حل – مسألة أيهما كان أولاً: النظام الأمومي أم النظام الأبوي؟ فبينما كان (داروين) قد افترض – بالمقارنة مع عالم الحيوان – أن السيادة المطلقة كانت ذكرية لا شك فيها من البداية، أكمل (آتكسون) فقال: إنه حدث أن ثار الأبناء على الأب المتسلط القاسي المتوحش وقتلوه وافترسوه سوية واستكمل (روبرتسون سميث) البحث ليؤكد أنه قد مرت بعد ذلك فترة انتقالية ظهر فيها النظام الأمومي، وانتهى (فرويد) بعد البناء على ما سبق، إلى أن الأوضاع قد عادت إلى سابق عهدها وساد الذكر. بينما كان يقف على الجانب الآخر اقتراح يحمل أدلة ربما كانت أقوى – كما عند (إنجلس) مثلاً – يؤكد أن البداية كانت نظاما أموميا لا شك فيه.
وكان اقتراحي هو رفض السؤال: أيهما كان أولاً؟ من أساسه، بحسبانه الخطأ الذي أدى إلى تضارب الاجتهادات، وزعمت أنه لم يكن هناك قبل ولا بعد، ولا سابق ولا لاحق، حيث قد انتهى الظرف البيئي إلى تميز مجمتمعين عن بعضهما رغم تزامنهما، هما مجتمع البداوة ومجتمع النهر، أي أن الاختلاف كان مكانيا وليس زمانيا، وهو الزعم الذي أضحى بحاجة إلى تأييد، وهو تأييد كما قلنا بحاجة إلى بعض التفصيل الوجيز.
ســيادة الأنثــى
لنقر مبدئيا أنه من غير المنطقي أن يوجد مجتمع كل آلهته إناث، ويسوده بشر ذكور، أو العكس. ولنقرأ بعد ذلك الترتيلة السومرية التي تقول: "عندما تزوجت الإلهات الأم ... وعندما توزعت الإلهات الأم بين السماء والأرض ... وعندما ولدت الإلهات الأم ... عند ذلك كتب العمل ... الإلهات العظام يراقبن العمل، والأبناء يحملون السلال" (انظر مثلاً: فوزي رشيد، خلق الإنسان في الملاحم السومرية والبابلية، آفاق عربية، آيار 1981) – ولنلحظ أن البيئة السومرية في جنوب وادي الرافدين، لم تكن قد تحددت فيها معالم نهري دجلة والفرات تحديداً واضحاً، ولم تزل، وحتى الآن تختلطان في الدلتا وتنتشر بينهما الأهور والأحراش والمستنقعات شبه الغابية.
حقيقة أني أرى في تلك الترتيلة حفرية رائعة، نقش فيها ما حدث في حقب الحياة القديمة، فالإلهات هنا هن الإلهات الأم، اللاتي توزعن بعد ذلك بين الأرض والسماء، ومن الجدير بالذكر أن أول تمثل للأم الأولى الكبرى كان في تربة الأرض الخصبة، ومع نقلات تطورية استغرقت زمنا، تم تمثلها – إلى جوار الأرض – في كوكب الزهرة المتلالى ذي الحسن والدلال، وهو ما تشير إليه الترتيلة بوضوح. ولك أن تلاحظ أن قدسية الإلهات الأم قد ارتبطت بـ "عندما ولدت" ولنتذكر أهمية (ولدت تلك فسنعود إليها)، بينما أصبحت مهمة الأبناء، وهم جمع الذكور، العمل، لتتفرغ الأم الإلهة لإدارة شئون العشيرة، ومن ثم لم يكن غريبا أن ينادي السومريون تلك الإلهة بالنداء: ماما mama ومامي mami وأماه ama (أنظر حول تلك التسميات جان بوتيرو: الديانة عند البابليين 1970 ص 11).
وتلخص لنا الأنثروبولوججية جبكيتا هوكس Jaquetta Hawkes الاتجاهات البحثية بصدد تأليه الأم الأنثى الأولى، فتقول: إن أقدم تماثيل شكلها الإنسان للعبادة، تمثل إناثا ضخمت فيهن الأعضاء المثيرة جنسياً، أطلقت عليها هوكس اسم تماثيل إفروديت الولادة، وتبع ذلك عصر اتضحت فيه بعض رسوت تتسم بالذكورة، تلاها عودة كاسحة إلى الإلهات الإناث، وذلك مع اكتشاف الزراعة في العصر الحجري الحديث، ويعود تاريخ التماثيل الولادة إلى حوالي خمسة عشر ألف عام (أي في العصر الحجري القديم)، ولنا أن نلاحظ هنا أن الجليد قد تراجع قبل ذلك بآلاف عشر أخرى، مما يشير إلى التحولات التي أشرنا لحدوثها في البيئات المتصحرة على المستويين البيئي والمجتمعي، مع بقاء أوضاع المشاع في البيئات الخصيبة على حالها، إلى ما يزيد عن عشرة آلاف عام.
وتؤكد هوكس أمراً منطقيا تماما، هو أن النساء هن مكتشفات الزراعة، إبان جمعهن للثمار في منطقة مستقرة مع أطفالهن، وملاحظتهن – بالصدفة المتكررة – لنمو الثمار المتساقطة على الأرض مرة تلو الأخرى، في وقت كان فيه الرجال يخرجون للقنص، وعند عودتهن يكون كل الرجال لكل النساء، فينسب الأطفال للأم دون الأب، وقد شكل اكتشافها الزراعة، وإجادتها لهذا العمل رغم بدائيته النسبية، أساساً اقتصاديا ساعد على تثبيت سيادتها (التي حفرتها لنا الترتيلة السومرية)، ثم تلى ذلك نهاية العصر الحجري الحديث، أي منذ حوالي خمسة آلاف سنة تقريباً، سيادة الذكور النهائية. ولاحظت هوكس أن ذلك اقترن بنشأة المدن المستقرة الكبيرة (للمزيد ارجع إلى: Hawkes, Pre History Newyork American Libbery, 1963, P.O.35-357)، أما نحن فقد أجزنا لأنفسنا – وفق ما بيدنا من شواهد – أن نلاحظ أن ذلك الزمن تحديداً، (نهاية العصر الحجري الحديث) كان بداية هبوط الموجات البدوية على المناطق الخصيبة بالهلال الخصيب، والتي استمرت نوعا من الهجوم الدوري على الحدود لسلب المحصول بعد جنية، وانتهت باستقرار السيادة البدوية في المناطق الخصيبة في شكل غزو استيطاني كامل، وهي الموجات التي اصطلح على تسميتها بالهجرات السامية، ولعلنا نذكر أن البداوة كانت السلطة المطلقة فيها الذكور.
تدعيــم رؤيتنــا
تقول ميد MEAD مقولة اعتيادية تماما هي: إن النساء بفضل قدرتهن على الإنجاب، ولأن مسألة الولادة كانت في عيني الإنسان البدائي مثيرة للدهشة والعجب – وربما الانبهار المؤدي للتقديس – فقد أدى ذلك إلى الاعتقاد أن النساء قابضات على أسرار الحياة (انظر: Male and Female, New York, Morrow, 1949, pp 102-103).
ونضيف إلى ميد: أن الولادة في مجتمع أمومي، يأتي فيه أي ذكر أي أنثى، كانت لا تعطي للذكر فرصة لملاحظة أثره ودوره في عملية الإنجاب، إضافة إلى الفترة الطويلة الفاصلة بين الحمل والولادة، والتي كان يمكن أن تخفى عن عين البدائي غير المدققة، للعلاقة بين الأمرين، كما أن معيشة الأولاد والبنات سوية حينذاك دون عائق قبل المراهقة، ومعرفتهم الجماع الذي لا تنتج عنه ولادة، أدى بدوره لعدم الربط بين الجماع والولادة، وعدم إعطاء الذكر دورا في عملية الميلاد. بل أن هناك من يعتقدون اليوم – في بعض المجتمعات المتخلفة – أنه يمكن للمرأة أن تحمل دون رجل يأتيها، بل وتدخل تلك الفكرة ضمن معتقدات كبرى، لذلك كان طبيعيا أن يتصور الإنسان في المبتدا أن الأنثى وحدها هي الكائن المسئول عن منح الحياة، والقادر الوحيد على ذلك، بحيث أصبح إعطاء الوجود حياة جديدة اختصاصا أنثويا بحتا، وقد دعم تلك الرؤية اكتشاف الأنثى للزراعة، حيث كانت الزراعة إنجابا للحياة وامتلاكا لأسرارها، لذلك لم يكن غريباً أن تكون أول التماثيل المعبودة لإلهات إناث ولادات.
وإعمالا لذلك نرى أنه قد تبع اكتشاف الزراعة، استقرار دائم انتظاراً لنضج المحصول (وهو يشابه انتظار نضج الجنين)، وتبعه بالضرورة دعم لوضع المرأة السيادي، لكن ذلك الأساس الإنتاجي ذاته استبطن في داخله الانهيار المقبل لوضع المرأة، والمتغير الآتي الذي فرضه التوسع في قطع الغابات مع التحقيل وإحلال الزرع محلها، وما يحتاجه مثل ذلك العمل الجبار من قوى عضلية، وما يحتاجه من حيوانات قوية مدجنة لجر الأشجار المقطوعة، وللعمل في حراثة الحقل وحمل المحصول، وهو ما اقترن بالضرورة، بسيادة تدريجية للذكور أدت إلى تبادل المواقع السيادية، وقد حدث ذلك في الوقت الذي سجل لنا فيه التاريخ أن الجموع المتبدية ذات النظام الذكري، قد هبطت بقطعان مواشيها القوية إلى أراضي الخصب، فيما يعرف بالهجرات السامية.
والملحوظة الجديرة بالاهتمام هنا، هي أنه بعد هبوط الهجرات السامية على الهلال الخصيب (وهو نموذجنا هنا)، وما تلا ذلك من قيام الدول المركزية (وهو ما سنأتي على شرحه)، نجد استمرار تواجد الإلهات الإناث في حضارات الشرق الأدنى القديم، إلى جوار آلهة الدولة الحاكمة الذكور، ثم أن التماثيل التي تركتها لنا فنون تلك الحضارات تصور لنا الإلهة الأنثى تحمل بيدها حزمة من الحنطة، أو تقف في حقل حنطة، أو تصور على ثوبها سنابل الحنطة، هذا بالتبادل مع النخلة في رسوم أخرى، وإن كانت أقل انتشارا، وهو ما يشير بالحسبان أنه بمرور الوقت، ومع النظام الاجتماعي الذكري، ومع الاستقرار، بدأ الذكر يلاحظ دوره في علمية الإنجاب، كما لاحظ التشابه الواضح بين حبة الحنطة المفلوقة وبين فرج الأنثى المفلوق، وأن كلا الفرجين ينفلق عن ميلاد وحياة جديدة بعد ري الحبة بالماء وري الفرج بمني الذكر، فربط بين المني والماء واعتبر المني ماء الحياة المذكر (أوزيريس النيل في مصر، بعل المطر في الشام، أبسو وآنكي ألهي الماء في الرافدين .... الخ) كما ربط بين الحنطة والمرأة، ناهيك عن رصيدها في اكتشاف تدجين الحنطة تحديدا، والتي تحمل التشابه مع الفرج الأنثوي، هذا مع ما حمله التشابه مع نواة التمر الذي انتهى بتقديس التمر بدوره، وبحيث حملت النخلة قدسية المرأة وأصبحت رمزاً دالا عليها في العبادات وفي الحوارات الجنسية، واحتسب التمر دواءء شافيا يحمل كثير من البركات حتى اليوم،خصوصاً إذا خلط باللبن (وهو رمز المني الذكري؟!) ولا ننسى أن مريم أتاها المخاض عند جذع النخلة والتفاعل معها بهزها.
أما الكلمة (تمر) فالواضح لدينا أنها الأصل والجذر في الكلمة الدالة على الزرع على وجه التعميم، أقصد كملة (ثمر). وتأسيسا على تلك التجربة والملاحظات، بنى الإنسان تصوراته عن التكوين والوجود، فربط التكوين بدم الحيض الشهري، بعد أن لاحظ غياب الدم مع بدء الحمل المؤدى في النهاية إلى ظهور الحياة في المولود، فربط الدم بالحياة، وتصور أن ذلك الدم المنجس داخل الرحم هو الذي يكونّ الوليد المقبل، وقد ربط ذلك بملاحظة أخرى هي الموت المحتوم الذي يصيب الإنسان المجروح عندما ينزف دمه، ذلك الدم الذي أصبح على وجه العموم سر التكوين وسر الحياة، وبقى في الذكرى، حتى في مجتمع السادة الذكور، بحسبانه منحة الأنثى الإلهة الأولى.
هذا وقد لاحظ بعض الباحثين (مثل فرويد) ارتباط الأنثى بالقمر، والذي كان عادة ينقش إلى جوارها في حالة الهلال، فاحتسبوا أن الإنسان القديم رمز للأنثى بالقمر، وأن القمر هو الإله المؤنث، لكنا ذهبنا إلى اتجاه معاكس تماما، فقد افترضنا أن هذا الاقتران بين الأنثى والقمر إنما نتج عن تناغم إيقاعات الدورة الشهرية للمرأة مع التبدلات التي تطرأ على وجه القمر خلال الشهر القمري، الذي نضبط إلى حد مدهش مع الإحدى وعشرين يوما للدورة الحيضية، وأن غيابه يترافق مع نزول دم الحيض، ويربط تلك الظاهرة بظاهرة نزول دم الكبارة عند أول جماع للفتاة البكر، انتهى بتصور أن القمر هو الزوج الحقيقي أو الغائب للمرأة، بخاصة مع حدوث حالات حمل مع غياب الذكر فترة طويلة للصيد أو وفي ظروف طارئة، والقمر قد اقترن من جانب آخر بحيوانات الرعي عموما (الشياة)، لشبه الهلال بقرني الخروف أو الثور، وهي الحيوانات التي شكلت الأساس الاقتصادي الذي أدى إلى امتلاك الذكور قاعدة إنتاجية دعمت وضعهم السيادي، والذين مالوا عموما منذ البداوة إلى الترميز للهلال بالخروف، والذي عادة ما رمز بدوره للسلف الأب الذي في السماء.
وتأسيسا على ذلك احتسبت أولى نظريات التكوين أن بداية الخلق جميعا من الأنثى الولادة، التي تمثلت في قوة أنثوية تلد كل شيء من الزرع إلى البشر، وأدمجت كقوة خلق كبرى في جميع الإناث بشراً وحيوانات وأرضا ولوداً، وتمثلت المادة الأولى للتكوين في دم الأنثى تحديداً.
ومن الطريف أنه بالقرب من موطني: مدينة (الواسطى) وعلى الطريق إلى (الفيوم)، ظهرت كرامة زراعية رائعة الدلالة، تشير إلى بقاء المأثور القديم في الوجدان الشعبي بقوة. فمنذ زمن غير بعيد (حوالي 7 سنوات) انتشرت اسطورة تقول أن رجلاً أراد قطع شجرة الجميز القابعة على الطريق الرئيسي، ومع أول ضربة بالفأس (وهو رمز ذكري دائم لأنه يشق رحم الأرض) صرخت الشجرة ونزفت مكان الضربة دم غزير، وفي تلك اللحظة تحديداً، وكانت في الثلث الأولى من الليل، وعندما سمع أهل القرية جميعا دوي الصرخة الملتاعة، نزفت كل امرأة كانت في حالة جماع مع زوجها، ومن ثم اختار الأهلون للشجرة اسماً لا جدال في دلالته، وهو (الشيخة خضرة)؟! ووضعوا بجوارها صندوقا كتب عليه: تبرعوا لبناء مسجد الشيخة خضرة؟!، والغريب أنك عندما تقترب من الشجرة – التي أخذت المئذنة تتعالي من خلفها – لتطالع المادة الصمغية التي جفت قطراتها على الساق المقطوع، ستجد أهل القرية قد علقوا على الفروع أشرطة من نسيج أخضر، وعلقوا على الجذع قرني خروف؟!، أما الهلال السيادي فقد تم الاهتمام بوضعه فوق المئذنة، حتى قبل إتمام بقية المسجد.
الأنثـــى والأرض
ويمكننا أن نرى ارتباط الأنثى الولود بالأرض، متمثلا بروعة أخاذة في أسطورة سومرية تحمل اسم (أسطورة الشعير والنعجة)، ولنلحظ بداية الشعير (وهو الحنطة رمز الخصوبة الأرضية، وأول ما دجنت المرأة من زروع، كما أن النعجة هي رمز الأنثى الأشهر)، وتتلخص الأسطورة في القول: عن البشر الأوائل قد خرجوا من تربة الأرض كما يخرج الزرع والحشيش وكل صنوف الحياة.
ويمكنك أن تجد ذات الفهم في أسطورة سومرية أخرى تحمل عنوان (هبوط إينانا إلى العالم السفلي)، وقد وضعت – فيما يبدو – لتفسير ظاهرة التناوب الفصلي بين الخصب والجدب، كما تلخص المفاهيم الأولى عن الوجود والتكوين، وتقول: إن إلهة كوكب الزهرة إينانا، كانت تهبط إلى باطن الأرض دوريا كل عام حيث عالم الموتى، وبتضحية اختيارية تتم وقت الاعتدال الخريفي، حيث يبدأ فصل الجدب على سطح الأرض بغيابها، وهي الأنثى الأم الولادة مانحة الحياة، ثم تعود مع الاعتدال الربيعي إلى سطح الأرض ومع عودتها تخصب الأرض وتتفتح الأزاهير، لأن عودتها تعني بدأ عملية الأخصاب والتوالد "فيعود الخروف إلى شاته، والثور إلى أنثاه، والزوج الغاضب إلى بيته" أو كما قالت!! لذلك لم يكن غريبا – مع طرحنا – أن يتم تعديل تلك الأسطورة السومرية الزراعية، بعد سيطرة الأكاديين على بلاد سومر وقيام دولتهم المركزية، وهم من أصل رعوي بدوي خيموي، ليتحول اسم إينانا إلى عشتار وعشتروت من العشرة والمعاشرة والتعشير، لكنها لا تصبح السيدة المطلقة المسئولة عن الخصب، إنما يظهر هنا سيد جديد كان في الأساطير السومرية مجرد ذكر خامل الذكر، ضمن مجموعة عشاقها العديدين، (ترميزا لزمن الأنثى في المشاع)، ليرتفع ذلك الذكر وتعلو مكانته ويصبح هو المسئول عن الخصب ومنح الحياة واستمرار الحياة، وهو المعروف في الأساطير الرافدية باسم (تموز راعي الخراف الطيب)، ويصبح هو رمز النبات الذي يموت في فصل الجدب وينزل إلى العالم السفلي، ويعود مع بداية الربيع، دون أي ارتباط بواقع الخصب اللهم إلا الارتباط بمنطق السيادة التي حققها الذكور الأكاديون، منطق نظام اجتماعي يأخذ بالسيادة الأبوية في نظمه الاجتماعية (وهناك أمثلة عديدة يمكن للقارئ الرجوع إليها في أعمالنا المنشورة) (1).
ولنلحظ استمرار التواجد الأنثوي في العبادة حتى الآن في العقيدة المسيحية، حيث تعتبر مريم أم الإله المسيح من أبيه

(1) أنظر تفصيلات أوسع لهذا الموضوع في كتابنا الأسطورة والتراث.
السماوي، وهذه الأم الإلهية تستوجب الاحتفال والتقديس، لذلك اختصت دون بقية الأقانيم الثلاثة بصيام العذراء، الذي يصوم فيه المسيحيون عن كل ما هو حيواني، ويقتصرون فيه على الأكل النباتي لتذكير واضح لالبس فيه، بالمجتمع الذي زعمناه في سالف الأزمان، يعيش في البيئات الخصيبة، ويستغني عن اللحم في الغذاء ويعتمد على الوفرة النباتية، وتسوده أم إلهية مقدسة، ولا ننسى التبادل بين كلمتي (نبات) و(بنات).
أما اللغة فكانت كعادتها تحمل دلالات أحفورية حملت الخبرة القديمة وما تأسس عليها من مفاهيم، تقولبت في ألفاظ تحمل دلالات تلك المفاهيم، فالكلمة قديسة هي في العبرية قديشا، وكانت في الأكادية القديمة قاديشتو، وكان أبانها اللقب الذي تحوزه العشتارية، أي المصطفاه من جموع النساء الحاشدة ليلة الحفل النزوي خارج معبد عشتار، لتقوم بدور الإلهة داخل هيكل الإلهة مع الكاهن الأكبر الذي عادة ما كان الملك يقوم بدوره (أنظر كمثال فاضل عبد الواحد، عشتار ومأساة تموز، بغداد، صـ 158، كذلك بالمرجع السابق صـ 70)، أما التي كان أهلها من النبلاء يقدمونها طائعة للهيكل، فكانت تحوز لقب الإلهة الأم ذاتها وهو (البتول) وهو في الكنعانية والاكادية والعبرية (بتول، بتولتا، بتولا) ويعني في العقائد القديمة (إشارة للإلهة) الأنثى غير المتزوجة وغير العفيفة في آن معا.
الخلق في الفهم الذكري
لأن الخلق بالميلاد في النظام الأمومي كان يعتمد مادته الأساسية دم الحيض، فإن سيطرة الذكور اتامة بعد الغزو البدوي لمناطق الخصب، وسيادة النظام الذكري، كان لابد أن تعيد صياغة الأدلوجة بما يتفق والشكل السيادي الجديد، ولأن مفهوم التكوين من الدم بات راسخا، فقد لجأت الأسطورة الذكرية إلى صياغة جديدة تتلاءم مع الظرف الجديد، تجاوزت شرط الولادة لأن الذكر لا يلد، وأخذت منحى آخر أعطى الذكر الدور الأساسي، فالآلههة الذكور عندما قرروا خلق البشر، قاموا بذبح إله يدعى (كنجو)، وعجنوا التراب بدمه ومن هذا العجين تم خلق الإنسان، وهو ما سجلته لنا الملحمة الرافدية (إينوما أيليش) وتعني (في العلى عندما).
أما خلق الكون برمته فقد اعتمد خطأ آخر، تم فيه وصم الأنثى بصفة الشر، حيث احتسبت الأم الإلهة العظمى (نيامة) إلهة شريرة، أزعجت الآلهة الذكور فقام إله الدولة الذكرية (مردوخ) بمنازلتها وهزيمتها، وهو تعبير واضح عن انتصار النظام الجديد، ثم قام مردوخ بشق تيامة كما تشق الصدفة إلى قسمين، رفع القسم العلوي وجعله سماء، وترك النصف السفلي ليصبح أرضا، وفي تلك التنظيرة نجد اعترافا ضمنيا بضرورة الأنثى للتكوين، فمن جسد الإلهة الكبرى تم تشكيل الكون سماء وأرضا.
ولأن الجديد استبطن القديم، ولم يكن ممكنا التخلص نهائيا من دور الأنثى في البناء المعرفي، القائم على فرز مادي تاريخي عريق، فقد حملت الأنثى في ظل السيادة الذكرية قيمة ثنائية، فهي في لغة البداوة السامية (في العبرية مثلا) حواء، لكن الكلمة حفرت في تركيبتها ومفهومها جذر الحياة، وفي الوقت نفسه حملت الوجه الآخر الجديد فارتبطت حواء بالحية مصدر الأذى والشر، ولنلحظ الارتباط الجذري بين: حواء، حياة، حية، حيا أي (فرج) والمرجح في ربطها بالحية ملاحظة البشر للحية تنسلخ من جلودها كل عام، فتصوروا أن الحية خالدة تجدد حياتها بهذا الأسلوب كل عام، فربطوها بالأنثى حواء مصدر الحياة المتجددة، ومع ذلك فإن الحية في المأثور التوراتي الأشهر، وهو قمة وتطور وخلاصة المأثور البدوي الذكري، ترتبط بالمرأة لكن في صيغة تبخيسية، فهي توعز لحواء بأكل الثمرة المحرمة في عالم الخلد، فيفقد الرجل الخلود بسببها، وتتحول المرأة عن منح الحياة إلى سلب الحياة، وفقدان الخلود، وعليها يجب أن يقع هذا الوزر إلى الأبد.
أما على مستوى القاعدة الاجتماعية، والشكل السياسي، وارتباطهما بالمنظومة المعرفية، في ظل السيطرة الذكرية، فقط ارتبط جميعه بخطوات تطورية سريعة تلاحقت بعد الغزو البدوي السامي للرافدين، فإن المشتركات الأولى ظلت تتمتع ببقايا الديمقراطية البدائية البدوية، وبمجلس القبيلة الذي أصبح مجلس المشترك الذي يختار الزعيم، لكن مع الاستقرار في البيئة النهرية، والتحول إلى الفلاحة، وما يفرضه النهر من تلاحم القوى البشرية للسيطرة على مجاري المياه الهائلة وتوزيعها، فإن ذلك فرض نوعا من الطوارئ المستمرة، التي أدت إلى استمرار مماثل في سلطة الزعيم، بحيث انتهى الأمر مع بقائه ببقاء الطوارئ إلى تسليمه كل ألويه وشارات القبائل المتبدية، ليتحول الشكل السياسي إلى المركزية الصارمة، وإلى توارث الزعامة في بيت الزعيم الملك، بعد دمج المشتركات القليمية في الدولة المركزية، بعد صراع مزمن بين تلك المشتركات، وهو ذات الأمر الذي حدث في عالم السماء، حيث تقول ملحمة الإينوما أيليش أن مجمع الآلهة الخمسين (ولاشك أنه يقابل مجلس القبيلة الأرضي، أو مجموعة الأقاليم) قد سلم سلطاته للإله مردوك، وأنهم قد اجتمعوا في السماء ومنحوه قدرة تغيير كل شيء، وخلق أي شيء، بمجرد النطق بالكلمة، تعبيرا عن السلطان المطلق الذي أصبح يتمتع به الملك الأرضي، وبعد أن أصبحت كلمته نافذة لا تقبل الأرجاء، حيث تقول الملحمة: "واجتمع الآلهة الخمسون، في أبشوكينو فرحين، وسلموا مردوك شاراتهم، وقالوا: من مثلك ملك، مر قطعة القماش الممزقة تلتئم، مرها ثانية تعود سيرتها الأولى".
لكن الواضح في كل الأساطير الرافدية القديمة، أن تلك القدرة كانت بالقوة لا بالفعل، فهي قدرة مرجأة حيث كان الخلق يتم دوما بالفعل اليدوي، بل ويظهر في التوراة التي أقرت الخلق بالكلمة، لكن في كل مرة كان الرب يصنع مخلوقاته بيديه صنعا، مما يشير إلى أن الأمر قد تمت صياغته فقط لتبرير إطلاقية الكلمة السيادية على الأرض (راجع الاصحاحات الأولى في سفر التكوين التوراتي).

المرأة في المأثور الديني والأسطورة *
حــريم وحــرام
عندما نعتاد الأمر يتحول إلى بدهية، ولا نلتفت إلى تناقضه وهشاشة أسسه، وبمرور الوقت يصبح من أشد الأمور اختلافا بين الناس، بين من يدقق ويرفض منطق الاعتياد، وبين من أعتاده حتى أعتقد أنه بدهية.
ومن المعتاد – لكنه بالفعل ليس بدهيا – أن هناك متسلطا وهناك مقهوراً، وأن للمستغلين مصالح تستدعي تزييف وعي المضطهدين (بفتح الطاء)، ويشهد التاريخ أن أشد الأدوات مضاء بهذا السبيل هي الأدوات الإيمانية، التي تلعب على الوجدان العاطفي للمتدين، ومن ثم تراهم ينفقون بسخاء وذكاء، على وسطائهم المحترفين من كهنة ورجال دين، ينشرونهم في كل مكان، يبثون الصبر، وينفثون السلوان، مبشرين بجزاء أيوب، يتتبعون أي تحرك واع ضد تزييف وعي الناس، ينقضون على كل رأي أو سلوك أو حتى كلمة أو فكرة، فربما ثقبت الكلمة الجدار السميك للجهل المنشور، الذي يمنع المضطهد من الوعي بحاله وبوضعه في المجتمع.
ولأن تطور المجتمع البشري لم يصل بعد إلى الوضع الإنساني اللائق بكرامة الإنسان، فإن الظرف الاجتماعي الحالي لازال يسوغ القسمة الطبقية الصارخة بين الناس، طبقات، طوائف، أجناس، دائماً هناك الأقوى والأضعف، المفترس والفريسة، القاهر والمقهور.
وربما أبرز نماذج تلك القسمة اللا إنسانية، وتشل وصمة عار كبرى في تاريخ البشرية، ذلك الذي حدث منذ أستولى الذكر على مقدرات المجتمع البشري، وأزاح الأنثى من البؤرة إلى الهامش، ليصوغ مجتمعا ذكوريا أسس لأبشع أنواع التفرقة العنصرية داخل الجنس الواحد، ففرق بين طرفي حيات لا تكتمل الحياة دون التقائهما جنسا وجسدا وروحا وتكاملا إنسانيا.
والتاريخ يؤكد أن الشرق كان هو المؤسس لذلك التقسيم العنصري الطبقي في آن معا، ولم يزل، ومن يومها تتعزى المرأة الشرقية بالصبر والسلوان الفقهي، وتبلسم جراحها بخطابات منبريـــــة،
* محاضرة ألقاها الباحث بدعوة من اتحاد النساء التقدمي بمقر حزب التجمع في 22/12/1993، ونشرتها مجلة أدب ونقد.
(من صـ 219 -225 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
تؤكد لها أنها في مكان التكريم بين نساء العالمين، تتعزى صبرا في عالم الأرض، وصبرا في عالم السماوات، في الدنيا وفي الآخرة. وإن أحسنت أيمانها وأحصنت فرجها وأمتعت زوجها وسيدها، دخلت يوم الدينونة ضمن حريم السيد المؤمن الذكر في جنة رضوان، ذلك الحريم الذي تبدأ أعداده من السبعين لتصل إلى الملايين في بعض الأحاديث المنسوبة للنبي.
وإيمانها الذي سيعطيها تلك المنحة الخالدة لا يحسن إلا بالطاعة الكاملة للرجل والخضوع له والتسليم الكامل لسيادته الغشوم في دنيانا الفانية، حتى تضمن لها مكانا كغانية ضمن حريمة في الآخرة أيضاً.
والدارس للمرأة في منظومة المأثور العربي، يجد ذلك المأثور يميز جنسيا وخلقيا بين الذكر والأنثى، فهو المخلوق الأول، وهي الثاني، بل هي منه قطعة، هو المخلوق لذاته، وهي المخلوقة له ومن أجله، ويلاحظ أن ذلك الاختلاف العضوي بين الذكر والأنثى، قد تحول في مأثورنا من تكامل ضروري لصنع الحياة، إلى امتياز خاص للرجل، مأثورنا يعيد وضع المرأة إلى زمن حواء الأسطوري، زمن الخطيئة الأولى، ويمركز الشر كله حولها، فهي شيطان غواية لأنها رفيقة إبليس (!) المرأة لا تتحكم بشهوتها، ولا تكون مع رجل إلا وكان الشيطان ثالثهما، ويتأصل سوء الظن بها في لا وعي الجماعة على أسس من الإيمان لأنها هي التي أغوت أدم، حتى قصص الأنبياء تخبرنا أن نساء الأنبياء قد وقعت في الخطيئة ... امرأة لوط، امرأة نوح، في التوراة سارة امرأة إبراهيم، هاروت وماروت أغوتهما امرأة! ولدا آدم تقاتلا على امرأة، فالمرأة تخضع للشهوة لا للعقل، ميولها للخيانة طبيعية ومن الطبيعي أن تخون فهي أحد أربعة لا أمان لها (مع المال والسلطان والدهر) في الحديث (ولو طالت عشرتها). كل هذا دون أن نلتفت لحظة لفظاعة وضعها المجتمعي، ولا لكم الخيانة الذكورية للمرأة، وللتاريخ كله.
وهكذا يؤسس موروثنا لتبخيس المرأة، فقد خلقت من ضلع أعوج، وناقصة عقل ودين، وشهادتها نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراث الرجل، وليس لها من الطلاق شيء، "ولو كنت آمر أحد أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" والكهنة رسل الشيطان والنساء مصايده، شلّ مستمر لشخصيتها، وإضعاف دائم لفاعليتها، ودفع دائم لها لتكون على الصورة التي يريدها الرجل، ليسقط عليها عدم براءته وشهوانتيه ونقائصه، لتصبح مجرد جسد، غير مطلوب منها أن تفكر فهناك من يفكر بالنيابة عنها. مطلوب منها فقط أن تعطيه الراحة والمتعة! أن تكون مجرد متاع! ويترسخ المأثور داخلها هي حتى تؤمن هي ذاتها أنها مجرد فرج (؟!) وأنها لذلك حرمة وحرام، فتفرض المأثور على ذاتها في شكل وسواس قهري داخلي، يضع بينها وبين عالمها كل التحريمات حتى الصوت الذي هو عورة، لتحصل بذلك على رضا الزوج الذي هو رضا الرب، وتكتسب رضا الجماعة واحترامها، بحيث تتعايش مع الضغوط وألوان العقاب والاحتقار، المفترض احتراما، وتصبح أكثر أعضاء الأسرة والمجتمع تحملا للاضطهاد، فقط لتعيش في وسط يترصدها ويعد عليها سكناتها، ومن ثم يصبح وضعها هذا في المجتمع طبيعيا تماما، معتادا تماما، بدهيا تماما، لا نلتفت إليه، ولا نفكر فيه، إلا عندما نصادف امرأة وعت الأزمة، فتكسر في وجوهنا عدم براءتنا بسلوك جديد ورأي جديد ومنطق جديد يخيفنا ويرعبنا، هنا فقد لن نفكر إلا في هذا الانفلات وكيف نحجمه ونعاقبه، حتى لا تأخذ لحريتها مساحة من حريتنا، حتى نظل السادة، وحتى نجد دوما من نحمله أمراضنا الداخلية، ومن نحمله أيضا أوزارنا – دون أن نناقش ذلك الفرض الذي فرضه مأثور، هو الذي فرز لمرحلة تاريخية طال أمدها، ودون أن نناقش مدى صدق الفرض ومدى اتساقه مع إنسانيتنا وما ندعيه من رقي بشري، ونظل نطلب المرأة النموذج، التي تظهر الخجل عندما تحادث الرجل، التي تكبت ميولها الطبيعية ولا تتذكر سوى كونها عورة، التي تعرف عن يقين أنها حرم .... حرم فلان .... فهي حرام، بل الحرام ذاته، حرمة، مقدس لا يجوز لمسه، وهي أيضاً وفي ذات الوقت منجسة لأن طبيعتها النجس، والفعل الجنسي، معها يؤدي للنجس، لابد أن يغتسل جسد الرجل جميعا لرفع أي أثر لتلك الملامسة والممارسة، كذلك دم الحيض يغطيها بالنجس، لذلك ترفع عتها أثناء ذلك كل التكاليف، لا تصلي، لا تصوم، كذلك طول فترة النفاس وهو الأمر الذي له أصوله في الأسطورة وفي القديم الذي أسس لمعنى الحرام والحريم، وهو ما ينقلنا عن تلك الصورة التي قعّدها لها المأثور، إلى محاولة قراءة نماذج سريعة لواقع المجتمع منذ ما قبل التاريخ، وهو يتحول بالمرأة من مركز السيادة إلى الحضيض، طبقيا وجنسيا وإنسانيا.
إمرأة: الأصل أسطوري
إمرأة، حواء، أنثى، أسماء ثلاثة مؤسسة أولى لذلك الكائن الذي كلما حاول التملص كلما قيل أنه لغز. وسعيا وراء أصول التسميات تحكي لنا التوراة أن الله خلق آدم الذكر، ووضعه في الجنة حيث عاش وحيدا لا يجد أنيسا يؤنس وحشته، وهنا قرر الرب أن يؤنسه بكائن يسليه، وكان هذا الأنيس هو المرأة، وذلك في نص يقول فيه آدم عن المرأة المصنوعة من ضلعه: "هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرء أخذت / تكوين 2/23".
وهكذا فالنص يجعل امرأة تأنيث إمرء وليس العكس، ليظل الرجل أولا، فهي تابعه له في الخلق، وتابع في المسمي، لكن بالتوراة نفسها نص آخر يعين تسميتها لشأن آخر فلأنها مصدر الحياة وفاتحة المواليد، يقول النص: "دعا آدم اسم امرأته حواء، لأنها أم كل حي / تكوين 3/2". وكلا التسميتين (امرأة) من ضلع امرء، و(حواء) أم كل حي، وفي الأصل العبري (تلك التي تحيي) يشكلان في يد الباحث مفاتيح تضيء له ذلك القديم، ليكتشف أصل وضع المرأة في المجتمع.
عند قراءة الأسطورة بحثا عن الاسم (امرأة) لن نجد أبدا أنها كانت تابعة لـ (امرء)، بل العكس تماما، فالميم للأمومة ولا تجد في الإلهات الكبرى القديمة اسما يخلو من ميم الأمومة، فأصل الكون البابلي (مى)، والأم الإلهة الكبرى بالأسماء الثلاثة المتواترة حتى الآن (ما) (أماه) (ماما)، وكل إلهات الخصب في حوض المتوسط يحملن الاسم (ميرها، ميريا، ميريام، مريم، ستلاماريا)، والميرة هي الزاد، هي مانحة الطعام والحياة، وهو ما يلقي الضوء عليها كمكتشفة أولى للزراعة، وميرها هي شجرة المر المقدس أيضا التي أنجبت الآلهة الذكور الأبناء.
أما الكلمتان: أنثى وحواء، فتضيؤهما لنا قصص الخلق الأولى في الملاحم السومرية والبابلية، حيث تحكي عن مكان خاص كانت تعيش فيه الآلهة الخالدة يدعى (دلمون) (البحرين الحالية)، وهو ما يناظر (أولمب اليونان). وهناك جاء إلى الوجود إله باسم (جي) ممثلا لبداية البشرية على الأرض، رعيلا أول يجمع اللاهوت مع الناسوت، أو الألوهية مع الإنسانية. واسمه ملصق من مقطعين يشيران إلى كونه أول سكان الأرض فهو من (آن – سيد أو رب) و(جي – الأرض) وتحكي لنا الأسطورة أن الأم الإلهة الكبرى (مما ممهور ساج) أو (ننهور ساج) هي التي ولدته، وأنها حرمت عليه ثمار بعينها في دلمون حرصا على حياته، فعصاها بجهله وحبه المعرفي وأكل منها، فأصيب بمرض شديد في واحد من أضلاعه كاد يقضي عليه.
وهنا أسرعت الأم الإلهة فخلقت له إلهة أنثى مهمتها تمريض ذلك الضلع وعلاج الإنسان الأول (آنجي)، وكان اسمها (آنتي)، والإسم (آن تي) من ملصقين (آن = سيدة أو ربة) + (تي) ، و(تي) عندما تكون اسما تعني الضلع فيكون المعنى سيدة الضلع، لكن تي عندما تكون فعلا تعني تحيي أي تلك السيدة التي تحيي أي هي أحيت آنجي بعدما أشرف على الموت، وهو ما يلقي الضوء على معنى كلمة حواء في التوراة العبرية (تلك التي تحيي) والعربية (أم كل حي)، كما يلقي الضوء على أصل الأسطورة التي حورت أو فهمت خطأ فيما نقله المأثور التوراتي عن الرافدي، لتكون حواء أو (إنتي) مخلوقة من ضلع آدم، كما تبهرنا دراسة تلك الأصول عندما نعلم ببساطة أن (آن تي) هو أصل كلمة أنثى (نتايه) ببساطه، والأنثى والنتاية في الجذر تشترك أيضا مع النتوء والظهور.
الإله من أنثى إلى ذكر
والدارس للأساطير سيجد من الشواهد القرائن الأركيولوجية ما يدعم الفرض: أن الأنثى كانت مركزا لمجتمع أمومي ابتدائي، وأنها كانت في مركز يتناسب مع مجتمع كانت آلهته إناث، ومنطقيا لا يمكن أن نجد مجتمعا كل آلهته إناث ويسوده على الأرض ذكور ومن ثم تكون النتيجة أن الأنثى كانت سيدة ذلك المجتمع.
ويبدو لنا أن السبب في ذلك حسب قوانين الحراك التاريخي، هو امتلاكها أساسا اقتصاديا، دعم تلك السيادة. وهو ما نلمحه في تصور لشكل ذلك المجتمع الابتدائي، حيث كان المجتمع صيادا، يخرج فيه الذكور للصيد القنص، بينما كانت رعاية الصغار تستدعي استقرار المرأة بجوارهم، فكانت هي بداية الاستقرار في المكان، الذي أدى بعد ذلك إلى نشوء المشتركات ثم القروية فالمدنية.
وكان استقرارها هذا دافعا لها لاكتشاف الزراعة، وهي تلحظ سقوط الثمار على الأرض، ثم عودتها للإنبات فكان أن حاولت تقليد الطبيعة، فاستنبتت الثمار، فأسست لنفسها بذلك الكشف أول أساس اقتصادي متين لسيادتها. وهو الأمر الذي كان لابد أن يضيف لانبهار الرجل بقدرتها على الولادة ابهارا آخر بأنها تمكنت من جعل الأرض تلد بدورها، مما أضاف لقدراتها السحرية (اقتصادية أصلا) رصيدا آخر، وربما كانت أيضا هي مكتشفة الفخار، بالنظر إلى شكل الأوعية التي عثر عليها بجوار الإلهات الإناث القديمة وهي ما كانت تمثل دوما ثديا أو فرجا أو فخذا إذا استطالت، كما كانت مكتشفة الخمر، بتخمر الطعام الزائد في أوانيها، وهو ما فاجأ الذكور عند العودة من القنص بمزيد من السحر، يضفونة على المرأة السيدة الإلهة بعد ما دارت الرءوس بسحرها الجديد.
وهي أيضا مكتشفة النسيج، بما توفر لها من وقت واستقرار للملاحظة والكشف والتجربة والخطأ والمحاولة، حتى النجاح الذي أضاف لأساسها الإنتاجي مزيدا ورصيدا. لكنها وهي بسبيل تأسيس الاستقرار الأول اذي أسس للمدنية فيما بعد، كانت تضع ثمار خسارتها لأساسها الانتاجي وفقدها لمقوم سيادتها الاقتصادي، عندما احتاجت الزراعة إلى حيوانات أقوى تحتاج في ترويضها وتدجينها إلى عضلات أقوى وتفرغ أوسع، بعد أن استقر الرجال إلى جوار زرع المرأة وغرسها، ومن ثم تم سحب البساط من تحتها لصالح الذكور. ويلاحظ الباحث أنه مع ذلك الاستقرار المديني وبدء استخدام الحيوانات القوية في الحرث، يبدأ ظهور الآلهة الذكور بوضوح في منظومة السماء، وهو أمر فيه تفاصيل كثيرة نحيل فيه الحضور إلى كتبنا للمزيد، ونكتفي بتلك الإشارات السريعة لضيق الوقت المتاح، فقط نلمح ونؤكد على الأساس الإنتاجي لسيادة المرأة الذي فقدته، فساد الذكر، وتحولت ربه السماء من أنثى إلى ذكر، فأصبحت الشمس ذكرا بعد أن كانت أنثى، كذلك عشتار نجمة الجمال الزهرة، تحولت مع السيطرة الذكورية إلى الإله الذكر عستر في خطوط المسند والخط النبطي.
أما تصورات ذلك المجتمع لبداية الخلق فكانت بسيطة بساطة المجتمع الأمومي الأول، الحدث سهل، كان على الربة الكبرى أن تلد الكائنات، والتي تم تمثيلها في الأم الأرض ممتزجة بالأنثى السيدة على المجتمع آنذاك.
ولما كان الرجل قد لاحظ اختفاء دم الحيض مع بدء الحمل، فقد تصور أن ذلك الدم هو الذي يقوم بتكوين الجنين في الداخل ليعطي بعد ذلك تلك الظاهرة المدهشة المذهلة ظاهرة إعطاء الحياة والمواليد، لكن بعد السيطرة الذكورية وتحول الإله إلى ذكر، كان لابد أن يتحول فعل الخلق من الأنثى للرجل، ولكن لأن فكرة خلق الولادة من دم الحيض المختفي في بطن الأنثى قد ترسخت تماما، قامت أسطورة الخلق الذكرية على ذات الأساس، فقام الآلهة الذكور بذبح إله صغير مخنث لا هو ذكر ولا هو أنثى ليستخدموا دمه بعجن طين الأرض ليصنعوا منه الإنسان الأول. ومن ثم تحولت القصة عن فعل الولادة إلى فعل الخلق، وهو ما يترافق مع مزيد التفرغ الذي أحدثه الاستقرار والوفرة للبشر على الأرض لمزيد من الكشف والابتكار أو الخلق.
لكن في نفس الآن كان لابد أن يتم تبخيس الأنثى كرد فعل نفسي إزاء سيادتها القديمة وسحرها الدائم، فتحول الدم الحيضي في المأثور إلى نجس، لكن يبقى المأثور في اللاشعور الجمعي مستيقظا، فحين تحيض المرأة ترفع عنها التكاليف فلا تصوم للإله الذكر، ولا تصلي للإله الذكر، لأنها في هذه الأيام الخمس تستعيد وضعها القديم، إنها لا تعبد أحداً حينئذ، لأنها في هذه الأيام الخمس حين يتغيب القمر الإله الذكري عن الحضور، والذي يوافق إيقاعه الحيض، يظهر حيضها وتحضر قدسيتها، لتصبح في هذه الأيام الخمس إلهة، وتتقدس الخمسة لتصبح مانعة السحر والحسد كما كانت في القديم، أما يوم الخميس فيصبح في المأثور اليوم المفضل لجماع المرأة، أما الخمسة فهي دلالة واضحة على الفرج.
وللتذكرة فقط، ظل دم الحيض حتى عهد الجاهلية الأخير في جزيرة العرب مقدسا. فقد كانت نسوة العرب ومكة يطفن بالكعبة، ثم يمسسن بدم حيضهن الحجر الأسود، تواصلا مع ذكر السماء، وهو ما عبرت عنه كتبنا التراثية كأبلغ ما يكون، وهي تلخص قصة تحول المرأة وبتخيس الدم الخالق، بقولها: إن الحجر الأسود كان أبيضاً، فأسود من مس الحيض في الجاهلية.
أما الكلمة حواء فتقترن بعد ذلك في الجذر مع الحية التي تحمل الكيد والدس والخديعة، وتقترن حواء بالحية، والإبليس، الذين اشتركوا معا في خديعة آدم، ذلك الآدم الذي خدع الجميع وخدع التاريخ، لأنه حقيقة إنما كان ضحية شهوانيته وعدم براءته ومرضه السيادي، لأن خضوعه الداخلي الذي كان يرفضه باستمرار فيبخس المرأة، كان خضوعا لحواء الحياة الحية أم كل حي، ذلك المشترك الذي يضم في الجذر كلمة "الحيا" أي الفرج الأنثوي سر الحياة ومصدر الميلاد، وأزمة عدم البراءة في الرجال.

ســر الأســماء المقدســة *
في كتاب المواجهة الصادر ضمن سلسلة كتاب الأهالي، كتب الأستاذ خليل عبد الكريم (ص 147) يقول: (الحواريون أو الرسل أو التلاميذ الذين كانوا مع المسيح عليه السلام كانوا ثلاثة عشر، وعدة أهل بدر الكبرى من المسلمين كانوا ثلاثة عشر وثلاثمائة، فهل هناك صلة من نوع خاص بين الديانتين الساميتين، وبين الرقم 13؟ وهل لهذا الرقم مكان ملحوظ في الميثولوجيا السامية القديمة؟
وعندما يطرح مفكر في قيمة الأستاذ خليل عبد الكريم سؤالاً، فإن الحصافة تستدعي الاستجابة الفورية للرجل الذي أثرى مكتبتنا العربية بقراءته المستنيرة في منتوج الفكر الإسلامي، وإعمالاً لذلك قمت بكتابة هذه العجالة السريعة، مع وعد بتقديم دراسة مطولة حول الأرقام والأشياء والظواهر المقدسة في ديانات حوض المتوسط الشرقي، في المستقبل القريب.
مقدســات البيئــة
ورغم اشتراك معظم ديانات شعوب العالم في معالم أساسية مقدسة، فإن هناك اختلافات جذرية في كثير من التفاصيل بين تلك الديانات، كنتيجة محتمة لاختلاف الظروف البيئية باعتبار الإنسان أبن بيئته، وأن الدين يتفاعل مع ظروف البيئة والمجتمع، كذلك يسهم اختلاف المكان والزمان والتشكيلات الاجتماعية والأنماط الاقتصادية والمرحلة التطورية التي وصلها المجتمع، وكم التراكم المعرفي لديه وكيف يسهم جميعه في طبع الدين بسمات تختلف أو تقترب من ديانات الشعوب الأخرى.
وملاحظة الأستاذ خليل حول تشابه ديانات شرقي المتوسط السامية أمر صحيح تماماً، من حيث كون تلك الديانات قد ظهرت في مجتمعات تتشابه في ظروفها الاجتماعية والبيئية مع التجاور المكاني، وإن اختلفت زمانياً فدخل على المتأخر منها بعض التطوير والتجريد الذي لم يحظ به السابق.
* نشر في صحيفة العربي، الاثنين 28/8/1995.
(ومن صـ 227 -232 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
ولعل أكثر أوجه التشابه تكمن بين الديانتين الساميتين: اليهودية والإسلام، لتشابه الظرف المجتمعي والبيئي، فكلا المجتمعين قد نشأ في بيئة صحراوية جبلية، وكلاهما كان مجتمعاً قبلياً تسوده أعراف القبيلة ونظمها ومرحلتها في التطور التاريخي، ومن ثم تجد ألواناً من التقديس لأرقام بعينها، ولأشياء أخرى عينية هي من أهم معالم البيئة الصحراوية، فكلتا الديانتين ديانة قمرية: الشهور قمرية، مواعيد التضحية قمرية، الاحتفاليات الكرنفالية الكبرى قمرية، الصيام قمري، (والقمر يعلو المآذن الإسلامية)، والمطالع للتوراة سيكتشف أن القمر في أحيان كثيرة كان يعد أحد تمثلات الإله ذاته.
كذلك قدس البدو الصخور النادرة والأحجار والجبال، فاليهود يقدسون جبل (حوريب – كاترين) بسيناء ويطلقون عليه اسم (جبل الله)، وعرب الجاهلية والإسلام يقدسون جبل عرفات، وكان اليهود يقدسون كل مرتفع من الأرض، يقدمون عنده قرابينهم وأضحياتهم، ويمارسون عليه طقوس الجنس المقدس، وعرب الجزيرة كانوا أيضاً يذبحون عند عرفات ويقدسون الصفا والمروة.
كما كان تقديس الأحجار في البيئة الصحراوية أمراً واضحاً في ديانات الصحراء، خاصة إذا كان الحجر من النوع النادر، ومن ثم قدس العربان منذ القديم الأحجار النيزكية المنصهرة القادمة من الفضاء، باعتبارها قادمة من حيث عرش الإله، ونتيجة انصهارها اكتست بلون أسود لامع زاد في روعتها وجلالها، ومن ثم قاموا يضعونها في أفنية البيوت المقدسة والمعابد، وللسبب ذاته قدس اليهود النيزك الكبير الموجود بالقدس، والموجود الآن تحت ما يعرف باسم قبة الصخرة، وأحاطته القدسية الإسلامية بعد حديث الإسراء والمعراج، كذلك قدس عرب الجاهلية حجر أسود وضعوه بالكعبة، ورغم ما جاء به الإسلام من تطور، فإنه جعل للحجر الأسود مكانة قدسية.
الرقـــم (7)
ويلحظ الباحثون أن رقم (7) قد أحيط بهالة كبرى من التقديس في الديانات السامية الكبرى، فقصة الخلق التوراتية تقول: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح من عناء عمله في اليوم السابع، لذلك تقدس اليوم السابع الذي اعتبروه يوم السبت، من (شباث) أو الثبات والسكون، لذلك لا يعمل اليهودي يوم السبت ويقلل من حركته ما أمكن، واعتقد اليهود بأن المحافظة على قدسية اليوم السابع مجلبة لرضا الإله ولحسن الحظ، وأن أنتهاكه نذير شؤم ودمار، ثم انصرف ذلك التقديس إلى مواضيع شتى يشغل فيها الرقم (7) مكاناً بارزاً فتحدثوا عن أعمار الإنسان السبعة، وما للقطط من السبع أرواح ... الخ، ثم جاءت المسيحية لتستمر في تقديس ذات الرقم، وتحدثنا عن الخطايا السبع المميتة، وسيوف الحزن السبعة في قلب العذراء، وأبطال المسيحية السبعة، مع تقديس اليوم السابع الذي أصبح يوم الأحد، وكلها لدى المؤمن المسيحي أمور واضحة ومعقولة لمجرد أنها سبعة وكفى بذلك سبيلا.
أما القرآن الكريم، فقد قال بقصة الخلق ذاتها، لكن الإسلام خالف كلا المعتقدين في يوم الراحة المقدس، وكرس له يوم الجمعة الذي كان يعرف باسم يوم العروبة، ثم أفسح مجالا فسيحا للرقم (7) وهو ما نجد نماذج له في الآيات الكريمة:
- "ثم استوى إلى السماء، فسواهن سبع سماوات" (29/البقرة)
- "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" (261/ يوسف)
- وقال الملك: إني أرى سبع بقرات" (43/ يوسف)
- "سبع سنبلات خضر وآخر يابسات" (43/ يوسف)
- "ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق" (17/ المؤمنون)
- "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن" (12/ الطلاق)
- "سخرها عليهم سبع ليال" (7/ الحاقة)
- "ولقد أتيناك سبعاً من المثاني" (87/ الحجر)
- "لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم" (44/ الحجر)
- "والبحر يمده من بعده سبعة أبحر" (27/ لقمان)
ومع الميل للمبالغة يصل التقديس من السبعة إلى السبعين، كما في عدد السبعين إسرائيلياً الذين اختارهم موسى لمقابلة الإله (يهوه) في جبل سيناء، كذلك السبعون تابعاً للمسيح، وهو ما يجد صداه في الآيات الكريمة من قبيل:
- "في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا" (32/ الحاقة)
- "فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لميقاتنا" (155/ الأعراف)
- "إن تستغفر لهم سبعين مرة قلن يغفر الله لهم" (80/ التوبة)
أما الحسنات السبعين فمتكررات في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة.
أصــل الأســبوع
من غير المعلوم يقيناً السر في تقديس الرقم (7) وقد وضع بسبيل ذلك عدة احتمالات، منها أنه عدد تام لا يقبل القسمة إلى على نفسه، وقيل إن الجذر (سبع) لغة يعني الكفاية والتمام والامتلاء، وهو بالعبرية (شبع) أي امتلأ، ثم هو يعني القسم المغلظ، كما في حادثة بئر سبع التي أقسم عندها إبراهيم وأهل فلسطين، وتسمى لذلك بئر القسم، كما تعني أيضاً رقم (7) لأنهم ذبحوا عندها سبع نعاج، أما السبع – الأسد – فهو ملك الحيوانات وأكملها وأجلها شأناً. ولما كانت الباء تتبادل مع الفاء في اللغات السامية، باعتبار أن كلتيهما من الحروف الشفاتية، فقد تحولت سبع وشبع لتصبح شفع، علامة على الأرباب الشفعاء في الجاهلية، أما الإسلام فقد ألغى جميع الشفاعات وأبقى على شفاعة واحدة للمصطفى – صلى الله عليه وسلم.
لكن بعد التأمل والتدقيق، يمكن أن يطلعنا على السر وراء كل ما أسبغ على الرقم سبعة من هالات قدسية، لنكتشف أنه ليس لخاصية فيه، بقدر ما كان ناتجاً عن تقديس الساميين القدماء، وبخاصة أهل الرافدين للكواكب السيارة الخمسة مع النيرين الكبيرين الشمس والقمر وعددهم سبعة.
وكان للقمر بالذات في البداوة وليل الصحراء مكانه المتميز، لذلك كان ألصق بخيال البدوي من الشمس المحرقة خاصة في ليل الصحراء، مع السحر القمري المبهر المتمثل في تحولاته ما بين هلال وتربيع وبدر محاق.
وقد لاحظ الساميون القدماء أن تحولات القمر تنقسم إلى قسمين متساويين، من ولادته إلى تمامه بدراً أربعة عشر يوماً، ومن ظهوره بدراً إلى محاقه أربعة عشر يوماً، والأربعة عشر يوماً ينقسم إلى قسمين متساويين 7 + 7، ومن هنا وصلوا إلى تقسيم الزمان بمعرفة معنى الأسبوع، الذي هو وربع الشهر القمري، وقد قرن البابليون المتفوقون في دراسة الأفلاك تلك النتيجة بالسيارات الخمس المعروفة آنذاك: المشترى (الإله مردوخ) والزهرة (الإلهة عشتار)، وزحل (الإله نيناب) وعطارد (الإله نابو) والمريخ (الإله نرجال) مع الشمس (الإله شماس) والقمر (الإله سين) (وعددهم جميعاً سبعة آلهة)، لينتهوا إلى وضع الزمن في أسابيع على عدد الآلهة السماوية السبعة، وكانت أعظم الآلهة في المعتقدات الرافدية، وغنى عن الذكر أن هياكل بلاد الرافدين كانت هياكل لعبادة تلك الأجرام، كما كانت في الوقت نفسه مراصد فلكية ومحلاً لدراسة الأفلاك ومتابعتها.
ولعل القارئ سيلحظ معنا أن السنة تتكون من (52) أسبوعاً، ولو جمعنا طرفي الرقم 2 + 5 سيعطينا النتيجة (7).
والخلاصة من كل ذلك أن تقديس الرقم (7) يعود أصلاً إلى تقديس الآلهة الكوكبية السبعة العظمى المعروفة بالإلهة مقررة المصائر، وقد تمت عبادة كل إله من تلك الآلهة في يوم سمي باسمه، وقد ترك ذلك التقديس القديم أثره في أسماء تلك الأيام حتى اليوم في أسماء الأيام الأفرنجية، التي تعود إلى أصول سكسونية قديمة، فيوم الأحد كان يوم عبادة الشمس، وكان في السكسونية sund's day الذي جاء منه اسم يوم الأحد Sunday ويم الاثنين المكرس لعبادة الإله القمر اسمه Monday وقد أخذ من الأصل السكسوني Moond's day أما الثلاثاء الذي كان مكرساً لعبادة إله الحرب، وهو عند السكسون الإله Tiwes فقد جاء منه اسم يوم الثلاثاء Tiwesday كذلك شأن الأربعاء الذي كرس لعبادة الإله ودن Woden ومنه جاء اسم يوم الأربعاء Wednes day، ثم يوم الخميس يوم إله الرعد الصاعقة Ther ومنه جاء اسم الخميس Thurs day، أما الجمعة المنسوبة للإله Friga فاشتق منه الاسم Fri day، لينتهي التقسيم بيوم عبادة الإله زحل Satern الذي اشتق منه اسمه اسم يوم السبت Satur day.
الــــرقم 12
وهكذا كانت عبادة الأجرام السماوية هي الأصل والمنشأ لمقدسات ظلت تفرض وجودها في تاريخ الإنسانية حتى اليوم، وهو الأمر الذي قصدنا بيانه من خلال التوضيح العاجل السالف، لنصل إلى عدد تلامذة المسيح وحوارييه، إلى العدد (12)، وهو ما جاء في سؤال الأستاذ خليل بخطأ من قبيل السهو فقال: إن عددهم ثلاثة عشر.
والرقم (12) أحيلت إليه أعداد مقدسة الأشخاص مقدسين، فتلامذة المسيح من غير اليقيني أبداً أنهم كانوا أثنى عشر حوارياً، لكن كتاب الأناجيل ضبطوا عدد التلاميذ مع العدد المقدس، وكذلك فعلت التوراة عندما جعلت أبناء يعقوب – إسرائيل المعروفين بالأسباط اثني عشر ولداً هم بنو إسرائيل، وفي الجلجال بفلسطين كان يقوم اثنا عشر عموداً مقدساً من سالف الأزمان، كذلك كانت مجالس الأمفكتيون المشرفة على المعابد اليونانية تتكون من أثني عشر عضواً، وكذلك كان عدد أعضاء مجلس معبد دلفي المشهور في اليونان، أما يسوع المسيح فقد أظهر تفوقه العقلي وهو يناهز الثانية عشرة، عندما كان يواجه كهنة الهيكل ويفحمهم (أنظر مثلاً إنجيل لوقا2/ 47).
وكما كانت قدسية الرقم سبعة قد فرضت نفسها حتى أصبحت أشواط الحج سبعة، ليدور المؤمن حول المركز المقدس، كما تدور الكواكب السيارة حول مركزها الإله الكبير الشمس، فقد جاء كذلك تقديس الرقم (12) من ذات المصدر القديم، فالمنازل السماوية للكواكب الإلهية المعروفة بالبروج عددها اثنا عشر برجاً، فالعدد (12) هو رسم البروج، أي عدد علامات الزودياك، وكما كانت الآلهة السبعة تسكن البروج الاثنى عشر الفلكية البابلية القديمة، فقد تم إسكان أسابيع الزمن في اثنى عشر شهراً وهي عدة شهور السنة عند الله.

No comments: