Monday, May 14, 2007

الدولة الاسلامية بين النظرية و التطبيق - كامل النجار(2)ا

النقيضان لا يجتمعان: الدين والعقل

الإيمان بالأديان ما هو إلا تأمين على حياة المؤمن لضمان الخلاص من العذاب إذا صح ادعاء الأنبياء بأن هناك يوماً للحساب. فالشخص المؤمن كالإنسان الذي يشتري بوليصة تأمين على حياته، وعندما يموت، بدل أن يقبض أحفاده مبلغاً من المال، يأمل هو أن يقبض ثمار التأمين بدخوله الجنة وتفادي الحريق في النار. ولكن الفرق أن الثمن الذي يدفعه الشخص المؤمن على حياته لشركات التأمين ثمنٌ بسيط ويُدفع على أقساط مريحة، بينما الثمن الذي يدفعه المؤمن مقابل بوليصة التأمين على حياته في الآخرة ثمن مبالغ فيه وربما لا يكون العائد مساوياً لأقساط التأمين. فالمسلم عليه أن يدفع أقساطاً عالية تتمثل في الصلاة خمسة مرات يومياً والحج والصيام والزكاة وتجنب جميع متع الحياة من موسيقى وغناء وخمر ومخالطة النساء أو حتى النظر إليهن. وبما أن هذه الثمن باهظٌ والمردود غير مضمون، حاول رجال الدين الإسلامي منع الناس من التفكير في احتمال أن لا تكون هناك قيامة ولا تكون جنة ولا نار. أو كما قال أبو العلاء المعري:
ما جاءنا أحدٌ يخبر أنه **** في جنةٍ مذ مات أم في نار

و وسيلة رجال الدين الوحيدة لمنع الناس من التفكير في الأقساط الباهظة التي يدفعونها لبوليصة التأمين هذه هي تغييب العقل والمنطق في الخطاب الديني. فالمنطق يقود صاحبة إلى الشك أولاً ثم إلى الحقيقة، ولذلك قال الفلاسفة إن الشك يقود إلى الحقيقة. ولكن الخطاب الديني يمنع الشك بمنع الناس من التفكر في ذات الله وهل من الممكن أن يكوم الله غير موجود؟ فالتفكير في ذات الله كفر يُعاقب عليه المسلم بتهمة الزندقة التي تقود إلى هلاكه. والسبب طبعاً هو أن رجال الدين لا يملكون حُججاً يمكن أن تُقنع الإنسان المتعلم بوجود الله أو بصحة ادعاء الأنبياء بأنهم مرسلون من عند الله. وإذا عجز رجل الدين عن الدفاع المنطقي يحاول الالتفاف على الآخر باتهامه بالزندقة لأنه لا يعترف بالشريعة. وكمثال على منطق الخطاب الديني المعوج فقد أخرج مالك في الموطأ عن ربيعة قال: (( سألت سعيد بن المسيب. كم في أصبع المرأة؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: ففي أصبعين؟ قال عشرون. قلت ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون. قلت ففي أربع؟ قال عشرون. قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها (أي: ديتها ) فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقال ربيعة: بل عالم متثبت. أو جاهل متعلم. قال سعيد: هي السنة يا ابن أخي )). فنلاحظ هنا غياب المنطق كلياً. فدية اصبع المرأة عشرة من الإبل ثم عشرون في اصبعين ثم ثلاثون في ثلاثة أصابع ثم ترجع إلى عشرين إذا فقدت أربعة أصابع. والسبب في هذا المنطق المعوج هو مذهب سعيد والحجازيين أن دية المرأة كدية الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته، فما زاد عن الثلث تكون فيه ديتها نصف دية الرجل،(وبما أن دية الرجل المقتول مائة من الإبل، فأقصى ما تكون دية المرأة ثلاثين. وما زاد عن ذلك تكون ديتها نصف دية الرجل. وبما أن دية الرجل الذي يفقد أربعة أصابع هي أربعون من الإبل تكون دية المرأة التي تفقد أربعة أصابع عشرين من الإبل) وذلك لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته ). ونلاحظ هنا أن سعيد بن المسيب لما أعجزه الرد المنطقي سأل السائل إن كان عراقياً، لأن أهل العراق كانوا معروفين بمحاولة إخضاع الدين للمنطق كما فعل المعتزلة الذين كان أول ظهورهم في العراق. ولما أجابه الرجل بأنه إما عالمٌ لا يقبل رد سعيد وإما جاهل يريد أن يتعلم، أجابه سعيد ب "إنها السنة يا ابن أخي". والذي يخالف السنة ملحد.

والغالبية من الذين يؤمنون بالأديان، خاصة الدين الإسلامي، يصبحون كالروبوت الذي يتحكم فيه المبرمج بواسطة شرائح الكومبيوتر فيفعل الروبوت كل ما يطلبه المبرمج دون الحاجة إلى عقل أو تفكير. فمثلاً عندما جاء محمد وقال إنه مرسل من عند الله آمن به الأنصار أولاً ثم بقية العرب ولكن عندما جاء ثمامة بن حبيب أبو مروان بنفس الادعاء في اليمامة وجاء بقرآن يشبه قرآن محمد، اتهمه محمد بالكذب على الله رغم أن بني حنيفة آمنوا بثمامة، تماماً كما آمن أهل المدينة بمحمد. والمسلمون لم يناظروا ثمامة في محاولة لمعرفة الحقيقة، إنما سموه "مسيلمة الكذاب" و لجئوا إلى السيف والقتل للظهور على دينه حتى لا ينافس الإسلام. فأرسل أبو بكر خالد بن الوليد على راس جيش عظيم ليحارب بني حنيفة ونبيهم، فقُتل من المسلمين حوالي ألف ومائتان، منهم أربعمائة وخمسون من حفظة القرآن (شذرات الذهب، ج1، ص 23). وقُتل من بني حنيفة سبعة آلاف بعقرباء ومثلهم بالحديقة وفي الطلب نحو ذلك (الكامل في التاريخ، ج2، ص 222). أي قُتل من بني حنيفة ما يزيد عن عشرين ألف رجلٍ. فلا بد أن الذين آمنوا بمسيلمة كانت أعدادهم لا تقل عن الذين آمنوا بمحمد. ولكن لأن أتباع محمد انتصروا وقتلوا مسيلمة، حرّفوا قرآنه وسموه مسيلمة الكذاب ثم طمسوا قرآنه نهائياً. والمنتصر دائماً يكتب التاريخ الذي يمجده ويمحو الآخر. ونفس الشيء كاد أن يحدث لمحمد وأتباعه في موقعة "أُحد" عندما دعاه المكيون كذاباً وشجوا وجهه وكادوا أن يقتلوه. ولو نجحوا لما قامت للإسلام قائمة. ومع ذلك يشهد مسلم اليوم "أن محمداً رسولٌ الله" وأن مسيلمة كذاب، رغم أنه لم ير أي منهما ولم يقرأ قرآن مسيلمة. لكنها البرمجة العقلية.

وتكتمل برمجة أدمغة المسلمين لدرجة أنهم كلما ذكروا محمداً قالوا "صلى الله عليه وسلم" بطريقة مملة ومليئة بالتكرار، وقد تتكرر عشرة مرات في فقرة واحدة. فما المقصود بهذه العبارة؟ فإن القرآن يقول لنا "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" (الأحزاب 56). فإذا قلنا صلى الله عليه وسلم، إما أن تكون كلمة "صلى" فعل ماضي تخبرنا أن الله قد صلى عليه، وإما أن تكون كلمة رجاء نطلب بها من الله أن يصلي عليه. ولكن الله قد أخبرنا مسبقاً أنه وملائكته يصلون على النبي، فلماذا نطلب منهم أن يصلوا عليه كلما ذكرناه ونحن نعرف أنهم يصلون عليه؟ فهل يجلس الله وملائكته طوال اليوم في انتظار أن نذكّرهم أو نطلب منهم أن يصلوا على النبي؟

وبعد موت محمد جعل المسلمون نبيهم كالإله وأسبغوا عليه معجزات تسيء إلى عقل الطفل دع عنك أي شخص عاقل يؤمن بالمنطق. فرغم أن القرآن كرر في عدة آيات أن محمد ما هو إلا بشرٌ مثلنا يوحي إليه " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي" (الكهف 110). ورغم أن القرآن قال إن الله لم يعط محمد آيات أي معجزات "وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون" (الإسراء 59). رغم كل هذا امتهن المفسرون عقولهم وعقولنا وجعلوا لمحمد من الآيات ما يفوق آيات موسى وعيسى معاً. فقالوا: "فكان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، وعن يمينه وشماله، فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تقول: السلام عليك يا رسول الله." (أسد الغابة في تعريف الصحابة لابن الأثير، ج1، ص 22). و "من معجزاته أن الماء نبع بين أصابعه أكثر من مرة". فإذا علمنا أن آية التيمم نزلت لأن عائشة أضاعت عقداً لها كان الجمل قد برك عليه، فتأخر القوم عن الرحيل وظلوا يبحثون عن العقد إلى أن غابت الشمس ولم يكن معهم ماء للوضوء فأنزل الله آية التيمم، تيقنا أن المفسرين وكتاب السيرة قد أعطوا عقولهم والمنطق إجازة مفتوحة. فإذا كان الماء ينبع من بين أصابعه لماذا لم ينبع لهم ماءً ليتوضئوا به؟ أم أن الله أضاع عقد عائشة ومنع نبع الماء بين أصابعه حتى يجد سبباً لإنزال آية التيمم ليسهّل على المسلمين حياتهم؟

وبما أن المسلمين أصبحوا مولعين بالتأليه بعد أن ألّهوا نبيهم، فقد ألّهوا أصحابه كذلك وأصبح كل هم أهل الحديث هو سند الحديث عن طريق الصحابة المؤلهين حتى يصل إلى النبي. فإذا استطاعوا إيجاد هذا السند كبروا وهللوا، ولا يهمهم بعد ذلك متن الحديث في شيء حتى وإن كان معارضاً لصريح القرآن. ومن أمثلة هذه الأحاديث التي تجاهل الرواة متنها حديثاً رواه عبد الله بن عمر: " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: هَجَّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله يُعرف في وجهه الغضب فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". فالنبي هنا قد غضب ومنع الرجلين من الاختلاف في القرآن، ولكن نفس هذا النبي تبسم عندما جاءه عمر بن الخطاب مع رجل كان يقرأ في صلاته بآيات سمعها عمر من النبي بطريقة مختلفة. وعندما أخبر عمر النبي بما حدث، طلب النبي من الرجل أن يقرأ الآيات وقال "هكذا نزل" ثم طلب من عمر أن يقرأ ما حفظ، ثم قال "وهكذا نزل". ثم قال إن القرآن نزل بسبعة أحرف. فلماذا إذاً غضب من الرجلين الذين اختلفا في آية في الشارع ؟ ويؤكد هذه القصة الحديث المروي عن ابن مسعود: " عن النزال بن سبرة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال؛ سمعت رجلاً قرأ آية سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "كلاكما محسن " قال شعبة: أظنه قال: "لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا ". فالمنطق يحتم علينا أن نرفض إما حديث عبد الله بن عمر ونقبل الحديثين عن عمر وعن ابن مسعود، أو نقبل حديث ابن عمر ونرفض الأخيرين. ولكن أهل الحديث أثبتوا الأحاديث الثلاث لأن المتن لا يهمهم بقدر الإسناد.

وبعض الأحاديث تتهم النبي بالجهل دون قصد من الراوي الذي يحاول تأليه نبي الإسلام، فمثلاً نجد: " أخرج أبو داود والدارقطني من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه : هل تجدون رخصة لي في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده...". فمتن الحديث عليه عدة اعتراضات منها: أولاً: لا توجد أي علاقة بين غُسل الرجل وموته، فالرجل قد مات من ضربة الحجر على رأسه، وهذا من الأشياء المعروفة في الطب اليوم عندما يُصاب الإنسان بضربة على الرأس. فقد يظهر عادياً لفترة تتراوح بين دقائق وساعات ثم تظهر عليه علامات النزيف داخل الجمجمة ويموت إذا لم تُجر له عملية لإزالة الدم من الجمجمة. فلا علاقة للماء بموت الرجل، فكم من إنسان أصاب رأسه جرح واغتسل ولم يمت. ثانيا: إذا كان الرجل سوف يعصب خرقةً على رأسه ثم يغسل سائر جسده بالماء ويمسح على الخرقة، فليس هناك أي داعي للتيمم كما يقول الحديث إذ أن الغسل يُبطل التيمم. ثالثاً: قال النبي لماذا لم يسألوا أهل العلم، وهؤلاء الرجال كانوا على سفر عندما حدث هذا الشيء وسألهم صاحبهم وقت الصلاة هل يتيمم أم يغتسل، فأين لهم من يسألونه وهم في سفر؟ فالنبي هنا قد لعن أناساً أبرياء لمجرد إبداء رأيهم عندما سألهم صاحبهم وهم في الصحراء وليس لهم من مرجع يسألونه. فرواة الحديث اهتموا بالسند ولم يعيروا متن الحديث أي اهتمام فرموا النبي بالجهل لأنه ربط بين الغسل وموت الرجل الذي كان مصاباً في رأسه، واتهموه بالظلم لأنه لعن الأبرياء لمجرد إبداء رأيهم.

فالعقل يغيب عندما يدخل الإيمان صدور الناس إذ أن العقل والإيمان لا يجتمعان، وقد قال القرآن: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" (الأحزاب، 4). وغياب العقل هذا هو الذي يجعل الإنسان يُضحي بالحياة الدنيا القصيرة ويدفع أقساطاً مبالغاً فيها للتأمين على الآخرة التي ربما لا تأتي. وإذا غاب العقل اختفي الخوف عند الإنسان. والخوف غريزة زرعتها الطبيعة في الإنسان والحيوان للحفاظ على النوع، وبدون الخوف لا يهرب الإنسان ولا الحيوان من الخطر الذي قد يودي بحياته وبالتالي ينقرض النوع. وانعدام الخوف هو الذي أدى إلى ارتطام الطائرات التي كان يقودها الرجال المؤمنون ببرجي التجارة بنيويورك، وهو الذي يجعل المسلم الذي قد فخخ جسمه يقف وسط أناس أبرياء وهو يعرف أنه سوف يموت عندما يفجر حزامه وسطهم ولكنه لا يأبه لذلك لأن الخوف قد غاب عنه كما غاب عقله.

في طبيعة الأديان

يزعم رجالات كل دين أن دينهم دينٌ حقيقي من عند الإله الواحد في السماء، وهو الدين الحق وما عداه باطل. ويزعم كل أهل دين كذلك أن إلههم إله رحيم غفور كريم. ولكن الأحداث التي شاهدناها أو قرأنا عنها تُثبت عكس ما ينادون به. وكل ما أُثيرت هذه المسألة يهب رجالات الدين للدفاع عن دينهم ويقولون إن القتل والدمار الذي حدث ويحدث باسم الدين ليس هو من عيوب أو قصور ذلك الدين بعينه وإنما يرجع إلى قصور فهم أتباع ذلك الدين الذين قتلوا ودمروا باسم الدين. ولكن عندما تصدر الفتاوى أو الأقوال أو الأفعال من رجال قضوا كل حياتهم منذ أيام طفولتهم في تعلّم ذلك الدين من المشايخ أو الحاخامات أو الأساقفة الذين درسوا أصول ذلك الدين في المعاهد الدينية مثل الأزهر، والمدارس الكنسية اليهودية أو المسيحية، كيف يجوز عقلاً أن نقول إنهم أخطؤوا فهم ذلك الدين؟ وإذا صدر بيان أو فتوى من عدد كبير من رجالات دينٍ بعينه، هل يُعقل أن يكونوا قد أخطؤوا فهم ذلك الدين؟ ففي الحرب الحالية بين حزب الله وإسرائيل، أصدر مجلس الحاخامات في الضفة الغربية، بياناً يُحث الحكومة الاسرائيلية على اصدار اوامرها للجيش الاسرائيلي لقتل المدنيين في لبنان وغزة. وفي بيان صادر عن إجتماع لمجلس الحاخامات ونقلته القناة الاسرائيلية السابعة اكدوا ان التوراة يجيز قتل النساء والاطفال في زمن الحرب . وجاء في البيان "من يترحم على أطفال غزة ولبنان ينظر الى أطفال اسرائيل بوحشية". وطالب البيان الحكومة بان تأمر بقتل المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين بصفتهم موالين للعدو"، وذلك بحسب ما تنص عليه التوراة" (إيلاف 18 يوليو 2006). فالتوراة التي يُجزم اليهود بأنها من عند إله السماء "يهوه" تبيح قتل الأطفال والنساء في الحرب. وهناك آيات عديدة في التوراة تحث موسى وأتباعه على قتل النساء والأطفال والحيوانات وحرق معابد غير اليهود. فكل هذا الدمار الذي حدث وما زال يحدث في لبنان، وكل جثث الأطفال التي تطل علينا من شاشات التلفزيون لم تُشبع شهية الحاخامات وإلههم للقتل، فحثوا الحكومة على المزيد.
وهذا الموقف من حاخامات اليهود لا يختلف عن موقف شيوخ الإسلام مثل الشيخ يوسف القرضاوي الذي أفتى بإباحة قتل المدنيين الذين يتعاونون مع الجيش الأمريكي في العراق لأن تعاونهم وإمدادهم الجيش الأمريكي بالطعام هو تشجيع ومساندة للاحتلال. وعندما افتى في قتل اليهود في فلسطين لم يكن هناك أي مبهم في فتواه التي حلل فيها قتل المدنيين والأطفال والنساء لأن المدنيين الإسرائليين يدفعون رواتب الجيش عن طريق ضرائبهم ويشترون الأسلحة للجيش وأغلبهم قضى فترة التدريب الأجباري، وإن كان حالياً لا يخدم في الجيش. ولم يبخل الفقهاء السعوديون بالفتاوى التي جعلت من الزرقاوي وأمرائه مناضلين شرفاء، مما دفع الشباب السعودي من مغسولي العقول إلى التطوع للقتال في العراق وأفغانستان وحتى في المملة السعودية نفسها.
فهذه الفتاوى لا تختلف اليوم عما كان يحدث في الألفية الثانية قبل الميلاد عندما ظهر موسى وحاخاماته. فيبدو أن العقل البشري لم يتقدم كثيراً. فعندما عاش الإنسان في الغابة مع الحيوانات كان يتحكم فيه عقله الغريزي The subconscious الذي يجعل الحيوان يهرب أو يحارب. ومع نمو دماغ الإنسان تكونت طبقة عليا في الدماغ أصبحت تتحكم في أفعال الإنسان وتكبت تصرفات العقل الغريزي ما دام الإنسان صاحياً. ولكن إذا أزلنا مفعول هذه الطبقة العليا بفعل الأدوية أو تناول الكحول بكمية كبيرة أو بتأثير الخوف المفاجئ، يسيطر العقل الغريزي على تصرفات الإنسان. والأديان، التي بدأت مع نمو الجنس البشري عندما كنا أقرب إلى الحيوان من الإنسان، ما زالت تسكن وتتحكم في العقل الغريزي وتجعل منه قوة تتغلب على العقل الواعي في أغلب الأحيان، فهي كالأدوية أو الأفيون الذي يزيل تحكم العقل الواعي. فالأديان تُرجع الإنسان إلى أطواره الأولى، حتى وإن كان الإنسان متعلماً ولا أقول مثقفاً إذ أن هناك بوناً شاسعاً بين المتعلم والمثقف. فكم من رجل دين متعلم ومتفقه في محتويات دينه غير أنه لا يعرف شيئاً خارج نطاق الدين. فمثل هذا الشخص لا يمكن أن يكون مثقفاً بأي حال من الأحوال، حتى وإن سكن البيت الأبيض كما يفعل الرئيس الأمريكي بوش.
والأديان في العصر الحديث أصبحت وسيلةً لابتزاز الناس، الجهلاء منهم والمتعلمين غير المثقفين. فإذا أخذنا أمريكا مثالاً نجد أن عدة طوائف دينية Cults قد ظهرت ونمت حول أشخاص عاديين استطاعوا أن يُقنعوا بعض الناس بأنهم رسلٌ جدد جاؤوا لتجديد رسالة المسيح. وأغلب هذه الطوائف ظهرت في الولايات الجنوبية، مثل تكساس وداكوتا الجنوبية، التي ما زالت تسيطر عليها عقلية مزارع القطن في ما قبل الحرب الأهلية التي وحدت الولايات الأمريكية. فهذه الولايات كانت وما زالت أكثر المناطق التي يسيطر عليها الجهل غير الكتابي. فمع أن أغلب سكانها يستطيعون القراءة والكتابة إلا أنهم جهلاء بما يحدث في العالم حولهم وحتى بتاريخهم وجغرافية مناطقهم. والأديان عامة تنتشر وتزدهر بين الجهلاء والفقراء لأنهم أقرب الناس إلى الإنسان البدائي الذي كان يسيطر عليه العقل الغريزي. من بين الطوائف التي ظهرت في تكساس، طائفة المورمون Mormons . هذه الطائفة بدأها شخص يدعى جوزيف اسميث في عام 1827 في نيويورك ثم في ولاية أوهايو، وزعم أن ملاكاً يدعى "مورني" قد دله على ألواحٍ ذهبية منقوشة بوصايا الله للإنسان. وبسرعة وجد أتباعاً في الولايات الجنوبية واستقر في ولاية ميسوري Missouri التي أصبحت مركزهم الرئيسي. وركزت دعوته على تعميد الموتي لتخليص أرواحهم حتى تدخل مملكة السماء. وهذا عكس المسيحية التت تعمّد المواليد الجدد. وركز كذلك على الضرائب الكنسية التي تطهر الروح، وجمع ملايين الدولارات من أتباعه. ثم نادى بالزواج الأبدي وتعدد الزوجات والسماح بزواج البنات القاصرات. وبعد أن قويت شوكته كوّن مليشيات خاصة به ثم أمرهم في عام 1840 بحرق مكاتب إحدى الصحف التي انتقدته وقتل جميع المنشقين على تعاليمه. وقبضت عليه السلطان وسجنته ثم هاجمت مجموعة من الأهالي السجن وقتلت النبي وأخاه. ولكن انتشار دعوته استمر وأصبح عدد أتباعه حوالي خمسة ملايين في التسعينات من العام المنصرم. والآن تطارد السلطات في تكساس زعيم المورمون المدعو "وارن جيفز" Warren Jeffs الذي يملك ثمانين زوجة، أكثر من نصفهن من القاصرات. وقد ابتز من أتباعه مبلغ خمسة ملايين دولار. وفي أبريل الماضي تدخلت ال "اف بي آي" واتهمت وارن جيفز وثلاثة من أكبر معاونيه بجنحة "الاغتصاب بالشراكة" Rape as an accomplice على أساس أنهم شجعوا وأجازوا زواج البنات القاصرات لرجال يكبروهن سنا، وهذا يُعتبر اغتصاباً.ً. وديانة المورمون تقول بأن الإنسان الأسود هو الشيطان، ولذلك لا يتعاملون مع السود.
وظهرت في تكساس كذلك طائفة المدعو "ديفيد كريش" David Koresch الذي لم يكن يعرف أباه فقد حملت به أمه التي كانت قاصرةٍ، سفاحاً. وقد ترك المدرسة قبل أن يكمل تعليمه واستطاع بعد عدة أعوام أن يقنع الناس بأنه نبيٌ جديد جاء لتجديد دعوة المسيح. وأصبح له أتباعٌ يأتمرون بأوامره وتعاليمه. وتزوج، كما نتوقع، أعداداً كبيرة من البنات القاصرات وأمر أتباعه بإحضار زوجاتهم وبناتهم إلى غرفة نومة لكي يجامعهن ويطهر أرواحهن. وأخيراً أقنعهم أن يتسلحوا ويقاوموا ال "اف بي آي" الذي قضى عليهم وحرق مجمعهم في مدينة "واكو" في تكساس.
والأديان معروفة بغسيلها للأدمغة، حتى بعض العلمية منها. يقول الدكتور فيليب كيب Philip Keep استشاري التخدير الذي يكتب عن الأديان: " إذا قال شخص ما إن القمر مصنوع من جبنة زرقاء، فسوف يقول عنه أطباء الأمراض العقلية إنه مختل عقلياً أو متوهم Deluded. ولكن إذا اجتمع عشرون سخصاً واتفقوا فيما بينهم أن القمر مصنوع من جبنة زرقاء، فإن كتب الأمراض العقلية الكلاسيكية تسميهم "جماعة دينية". وهذا ما يحدث في المذهب الشيعي مثلاً. فلو أن مسلماًً سار في شوارع إنكلترا وصار يضرب نفسه بسلاسل من الحديد حتى يدمي جسمه، فسوف يقول عنه الناس إنه "ماسوشي"Masochist أو مجنون، ولكن عندما يسير مئات الأشخاص في كربلاء وعلى وجوههم وملابسهم تسيل الدماء من أثر ضربهم أنفسهم بالسلاسل، يقول الناس إنها شعائر الدين. وقد شاهدنا في التلفزيون اليوم الجنود الإسرائليين عند دباباتهم التي تقذف الويل والدمار على لبنان، وكلما أرسلوا قذيفة من دباباتهم تجمّع بعضهم حول الدبابة وأخرجوا التوراة وصاروا يقرؤون منها ويهتزون تقرباً إلى يهوه. فهل من الممكن أن يكون لمثل هؤلاء الناس عقولٌ يفكرون بها أم أنهم مسيرون بالعقل الغريزي.
وإذا قارنا كل هذه الأديان والطوائف نجد أن هناك مظاهراً كثيرة مشتركة بينها:
• كل دين أو طائفة كوّنها رجل يتيم أو غير معروف الأب
• كل دين أو طائفة مات مؤسسها قبل أن يجمع لنفسه أموالاً طائلة ولكنّ خلفاءه ورجالات دينه أصبحوا من أغنى الأغنياء. فالكنيسة الكاثوليكية تُعد من أغنى المؤسسات الدينية اليوم وتملك البلايين من الدولارات في شكل أموال ثابته أو متحركة، ولها بنوكها الخاصة وحكومتها وسفراؤها. والكنيسة البروتستانتية لا تقل ثراءً. ويسكن كبير قساوسة إنكلترا مثلاً في قصر فخم وراتبه الشهري لا يقل عن راتب رئيس الوزراء. أما رجالات الدين المسلمون ، سواء شيعة أو سنة، لا يقلون ثراءّ. فالزعماء الدينيون الشيعة في إيران أغلبهم رجال أعمال يملكون الملايين. وربما يكون رئيسهم الحالي أحمدي نجاد الشاذ الذي يُثبت القاعدة. وفي العراق أصبح رجالات الدين الشيعة من أكثر الناس غناء بعد استيلائهم على الحكومة ووزارة النفط. ورجال السنة أصبحوا يكسبون الملايين من الفضائيات التي تدفع لهم أجراً كبيراً لقاء الفتاوى والمقابلات. ومنهم من أصبح متخصصاً في الفتاوى التي تبيح أو تحرّم التعامل مع بعض شركات الاستثمار تبعاً لما تدفعة الشركة للمفتى. ورجالات اليهودية يسلكون نفس طريق زملائهم المسلمين. وزعماء الطوائف في أمريكا وأوربا من أمثال The Church of Scientology والمورمون قد أصبحوا يملكون بلايين الدولارات
• كل دين أو طائفة لا بد لها كي تنجح أن تجد لنفسها أعداء تحاربهم باسم الله. فإذا لم يحاربوا في سبيل الله فلن يُقنعوا العامة بأنهم يمثلون الله في الأرض. وكأن إله السماء قد عودنا منذ أن جاء موسى على قتل من لا ينتمون إلى مذهب رسوله. وإذا لم يجدوا عدوا في الدين اخترعوا عدواً يتقمص الشيطان جسده، كما فعل المورمونز الذين جعلوا الإنسان الأسود الجسم الذي تسكنه روح الشيطان، لأن أغلب السود في أمريكا مسيحيون، ولا يستطيع نبي المورمونز أن يجعل منهم أعداءً في الدين، لأنه أتى لتجديد دين المسيح. أما المسلمون، بعد أن قضوا على كل أعداء الإسلام في البلاد التي احتلوها، وكان لا بد لهم من إيجاد عدو يحاربونه، فقد وجدوا ضالتهم في الشيعة الذين أصبحوا روافضاً للرسالة المحمدية. والشيعة أنفسهم جعلوا المسلمين السنة عدوهم الأكبر وسموهم النواصب الذين يكذبون على الإسلام. واليهود طبعاً هم شعب الله المختار الذي يعادي كل من ليس من ملتهم.
• كل نبي أو خلفائه، اتخذوا لأنفسهم عدداً لا يحصى من الأزواج، وأباحوا ومارسوا زواج القاصرات الذي تعاقب عليه القوانين الوضعية. فالنبي سليمان مثلاً كانت له ثلاثمائة زوجة غير المحظيات والجواري. والذين لم يتزوجوا من القساوسة أشبعوا رغبتهم الجنسية بالتغرير بالصبيان الذين يحضرون إلى الكنيسة للمشاركة في الأناشيد الدينية. وكلهم قاصرون. ويبدو أن هناك شيئاً في الطفولة يجذب ويثير الغرائز الجنسية في رجالات الدين.
• كل دين أو طائفة أدخل بعض الشعائر الدينية التي تختلف قليلاً عن غيره من الأديان رغم أن الجوهر هو نفسه. كل ذلك ليوهموا الجهلاء أن دينهم أو طائفتهم جاءت بجديد.
• كل دين أو طائفة منذ أن جاء موسى أصبح إلهه رجل ويقوده أو يقودها رجالٌ لا يهمهم من المرأة غير أعضاءها التناسلية. وحتى يستحوذوا على هذه الأعضاء التناسلية فلا بد لهم من إظهار الشجاعة الوهمية العنترية كما يفعل الطاؤوس عندما يقترب من أنثاه. ولذلك نرى ونسمع الخطب الرنانة التي تمجد القتال والدفاع عن دين الله. فعندما كانت الآلهة امرأة كانت آلهة الحب مثل "أفردايتي" و "فينوس" وآلهة الخصب والمياه العذبة، والآلهة التي تحرس القوافل. وآلهة الحب لم ترسل رجلاً رسولاً وإنما أرسلت الطفل البرئ "كيوبيد" ليصيب قلوب النساء والرجال بسهمه ليزرع الحب فيها. وجاء الإله الرجل الحاقد فأرسل رسله الرجال بالسيوف والسهام ليدمروا بعضهم بعضاً.
ولكل هذه الأسباب السابقة أقول "سحقاً للأديان" ولنرجع إلى وثنيتنا التي لم تفارقها قلوبنا أصلاً وإن زعم رجالات الدين أننا أصبحنا نعتقد بالوحدانية .

أمثلة من المنطق الأعرج في الخطاب الديني

الخطاب الديني عامةً والإسلامي خاصة يقدم الغيبيات التي هي أصل الدين، على العقليات التي يصل إليها الإنسان بمحض تفكيره وبعيداً عن الأيدولوجية الدينية. وهم بذلك يقدمون النقل على العقل، ولكنهم يحاولون خداع الناس بأن يحاولوا الظهور بمظهر من يحترم العقل. وفي واقع الأمر فإنّ أحاديثهم وكتبهم تمتهن العقل ولا تعيره أي اهتمام. وكلمة العقل أصلاً كلمة غريبة على الخطاب الديني الإسلامي. فالقرآن رمز إلى مركز التفكير عند الإنسان ب "القلب" الذي يرتبط في مخيلة الشعراء بالعاطفة، فقال مثلاً (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) (آل عمران، 8). وقال كذلك (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (آل عمران، 167). وقال (لهم قلوب لا يفقهون بها) (الأعراف، 179). واستعمل الفعل "يعقلون" تسع عشرة مرةً في اثنتي عشرة سورة. واستعمل "تعقلون" ثلاث مرات في سورتين، بينما استعمل كلمة "قلوبهم" حوالي أربع وخمسين مرةً. وإذا عرفنا أن القرآن به ما لا يقل عن 77639 كلمة، ندرك مدى الأهمية التي يوليها القرآن للفكر. وأغلب استعمال كلمة "تتفكرون" كان يخاطب بها العاطفة. فقال في سورة البقرة: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نارٌ فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (266). منتهى الاستدرار للعاطفة، عندما يموت الرجل الكهل ويترك لذريته الصغار جنةً فتحترق.
وكتب الفقه وكذلك كتب السير الإسلامية تدوس على العقل بالأحذية عندما تروي لنا قصصاً عن النبي تعوزها أبسط مقومات المنطق، فمثلاً في كل كتب الفقه نجد أن الشهيد الذي يُقتل في المعركة ضد الكفار لا يُغسل ولا يُكفن إنما يُدفن بملابسه التي مات فيها. وهذا الحكم ناتج مما حدث للمسلمين في معركة أُحد يوم هزمهم الكفار وقتلوا منهم سبعين رجلاً فيهم حمزة عم النبي. ففي ذلك اليوم صلى النبي على القتلى ودفنوهم في ملابسهم، فأصبح ذلك حكم الشرع في الشهيد. ولكن الفقهاء الذين تقودهم الأيدولوجية الدينية لم يفطنوا إلى أن النبي فعل ذلك بحكم الظروف التي كان فيها. ففي جبل أحد لم يكن الماء متوفراً لغسل القتلى ولم يكن هناك سوبرماركت حتى يستطيع المسلمون الذهاب إليه لشراء كمية من القماش لتكفين الموتى. فالظروف العملية اضطرته لأن يدفنهم بملابسهم وبدون غُسل. ولكن الأيدولوجية تقول إنّ ما يفعله النبي يصبح قانوناً. وفي نفس الوقت نشط أهل السيرة ونقلوا لنا أن النبي أخبر أصحابه في واقعة بدر التي قٌتل فيها حنظلة بن أبي عامر: (‏"‏ إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن ‏"‏ فأرسل النبي إلى امرأته فأخبرته أنه خرج وهو جُنب، فولده يقال لهم بنو غسيل الملائكة‏.) (المنتظم في التاريخ لابن الجوزي، ج3، ص 63). فيمكن أن نستنتج من هذا الحديث أحد ثلاثة استنتاجات:
1- أن الله يوحي للنبي ما يجب أن يفعل في كل مناسبة، وأنه أوحى إليه أن يدفن الشهداء دون أن يغسلهم
2- أن الله لم يوح للنبي بدفن الشهداء دون أن يغسلهم وأن النبي قد فعل ذلك من تلقاء نفسه ولأن الظروف العملية قد أجبرته على ذلك
3- أن الله يوحي للنبي بحكم ويوحي للملائكة بحكم آخر
و قد اختار المنطق الأعرج في الخطاب الديني رفض الاستنتاجين الأخيرين والتمسك بالأول فقط، وحاول أن يدور حول التناقض في الموقفين. فإذا أمر الله النبي بدفن الشهداء دون غُسل، كيف يأمر الملائكة بغسل الشهيد حنظلة؟ وجواب الخطاب الديني أن حنظلة كان عريساً وجامع زوجته وخرج إلى المعركة وهو جُنب. ولذك غستله الملائكة حتى لا يدخل الجنة وهو جُنب. فيمكننا إذاً أن نقول أن جميع الشهداء الآخرين ماتوا ولم يكن بهم جنابة، لذلك لم تغسلهم الملائكة. وطبعاً هذا القول لا يقبله العقل. فقانون الاحتمالات يخبرنا أن عدداً معيناً من كل مائة رجل خرج إلى المعركة لا بد أن يكون على جنابة. فمنهم من يشعر أنه قد لا يرجع من تلك المعركة فيودع زوجته بجماعها قبل أن يخرج. وربما لم يجد ماءً كافياً في صحراء مكة ليغتسل قبل أن يخرج إلى المعركة. ومنهم من احتلم كما احتلم عمرو بن العاص وهو يقود جيوش المسلمين في الشام، وصلى بهم دون أن يغتسل. ولكن مثل هذا التضارب في القصص لا يهم رجالات الدين الذين يقدمون الدليل السمعي على العقلي إذا ثبت عندهم صدق الرواة.‏
ومثل آخر تحدث عنه ابن عباس قال‏:‏ (ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين واستُنبيء يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين وخرج مهاجرأ من مكة إلى المدينة يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثَنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين.) (المنتظم في التاريخ، ج4، ص 19). ونستنتج من حدوث كل هذه الأشياء للنبي يوم الاثنين أن أفضل الأيام عند الله هو يوم الاثنين، لأن لا شيء يحدث دون إرادة الله، واختار الله يوم الاثنين لأكرم خلقه، فلا بد أن يكون يوم الاثنين هو أكرم وأحب الأيام لله. ولكن أهل الحديث يروون لنا حديثاً عن ابن عباس يقول (إنّ أفضل الأيام عند الله يوم الجمعة وأفضل الشهور شهر رمضان) وكذلك في حديث عن عائشة، قالت (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنهم – يعني أهل الكتاب- لا يحسدوننا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها") (الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي).‏وحتى القرآن أفرد سورة كاملة نزلت بالمدينة وبها أحدَ عشرة آية، وسماها الجمعة. فإذاً أفضل الأيام عند الله هو يوم الجمعة، فلماذا يا تُرى جعل كل شيء يحدث للنبي يوم الاثنين؟ مرة أخرى يغيب هذا المنطق في الخطاب الديني ولا يلتفت إليه أحد.
وطبعاً الخطاب الديني خلا من المنطق منذ أواخر الدولة الأموية حين ذبحوا الجعد بن درهم ورفاقه لقولهم بخلق القرآن. وعندما شعر رجالات الدين بأن الفلاسفة في الدولة العباسية قد بدأ يظهر لهم صيت عند المتعلمين، قبضوا بأيديهم وأرجلهم على ما غيضّه الله لهم من كتابات الصوفي الذي أُصيب بانفصام الشخصية في آخر أيامه، حجة الإسلام الغزالي. فبعد أن تاه فترةً في الفلسفة وعلم الكلام ثم انخرط في سلك الصوفية، ألف كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي ملأه بمنطق غريب، ما كان له أن ينتشر ويقوى لولا الدفع الذي قدمّه له رجالات الدين والوزير السلجوقي "نظام الملك". فالغزالي توصل إلى اليقين بعد أن أصبح صوفياً واهتدى بنور بعثه الله إلى قلبه، (ولاحظ هنا أن الله بعث النور إلى قلبه وليس إلى عقله)، فقال إن البصر يكذبك (فحاسة البصر ، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ... ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك) والعقل يكذبك (فأنت ترى في المنام ما تظنه صحيحاً ، ثم بعد أن تستيقظ تعلم أن لا أصل لجميع متخيلاتك ومناماتك . وقد يكون الأمر كذلك في أحلام اليقظة، وقد تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها. فلعل حياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة. فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له عند ذلك: "فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" ) وهكذا وبهذا المنطق الغريب وصل الغزالي إلى اليقين وهاجم الفلاسفة والعقل. وقسّم الغزالي الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام: الدهريون: وهم الذين انكروا وجود الله، فهم إذاً زنادقة. الطبيعيون: وهم الذين اعترفوا بوجود قوة خالقة عرفوها من انغماسهم في التشريح. الإلهيون: من أمثال أرسطوطالس. وقال عن أرسطوطاليس إنه رغم ما قدمه للفلسفة وترتيبها فهو قد تأثر برذائل الذين سبقوه، ولذلك وجب تكفيره. فميزان الغزالي في حكمه على الفلاسفة لم يكن الفلسفة نفسها، وإنما درجة إيمانهم. ولذلك قال إن الصوفية هم أحسن الناس أخلاقاً (و لو جُمِعَ عقل العقلاء وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً).

فعندما تحدث الفلاسفة عن نهاية العالم وقالوا إنها غير ممكنة لأن العالم قديم قدم الله والله لا يتغير وكذلك العالم لا يتغير، وقالوا: (العالم لا تنعدم جواهره لأنه لا يُعقل سبب معدم له وما لم يكن منعدماً ثم انعدم فلا بد وأن يكون بسبب وذلك السبب لا يخلوا إما من أن يكون إرادة القديم (الله) وهو محال لأنه إذا لم يكن مريداً لعدمه ثم صار مريداً فقد تغير. ويجب أن يكون القديم(الله ) وإرادته على نعت واحد في جميع الأحوال. وانعدام العالم يؤدي إلى تغيره من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم ). رد الغزالي على هذا المنطق بقوله: (أن الإيجاد والإعدام بإرادة القادر؛ فإذا أراد الله أوجد، وإذا أراد أعدم. وإذا وجب أن يصدر عن الله فعل فالصادر هو تجدد العدم، والعدم واقع مضاف إلى القدرة ، فإذا وقع حادث بإرادة قديمة لم يفترق بين أن يكون الحادث عدماً أو وجوداً.) ومنطقياً، إذا تجدد العدم بعد الوجود فإن هذا تغييرٌ للواقع والفلاسفة قالوا إن الله لا يتغيير، بينما رد الغزالي بأن كل شيء بإرادة الله. فالغزالي لم يدحض قول الفلاسفة بالمنطق وإنما بالإيمان.

وكذلك عندما قال الفلاسفة بضرورة الاقتران بين السبب والمسبب، مثل النار وحرق القطن، مثلاً، لأن النار لا يمكنها الكف عما هو طبعها بعد ملاقتها لمحل قابل لها، رد عليهم الغزالي بقوله إن ضرورة الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سبباً وما يُعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا.
وكل شيئين متغايرين، لا يتضمن إثبات أحدهما إثبات الآخر، ولا نفي أحدهما متضمن نفي الآخر. وليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدمه عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والموت وجز الرقبة. ويجوّز الغزالي وقوع الملاقاة بين القطن والنار دون الاحتراق، ويجوّز انقلاب القطن رماداًً دون ملاقاة النار. ويقول بجواز أن يُلقى النبي في النار فلا يحترق، وذلك إما بتغيير صفة النار فتقصر سخونتها على جسمها، أو بتغيير صفة النبي بإحداث صفة في بدنه تخرجه عن كونه لحماً وعظماً.

وطبعاً إذا تغيرت طبيعة النار أو طبيعة النبي خرجت المعادلة من كونها إلتقاء سخونة النار بجسم الإنسان المكون من لحم ودم إلى إلتقاء شيء يشبه النار بجسم الإنسان أو إلتقاء النار بشيء يشبه جسم الإنسان. وهذا يختلف عن الشرط الذي قال به الفلاسفة، وهو إذا التقى جسم إنسان بالنار، فلا بد أن يحترق. فمنطق الغزالي هنا أقل ما يوصف به أنه أعوج.

وقد أنكر الفلاسفة بعث الجسد الذي تحلل وأصبح تراباً وقالوا إن الله يرد الروح إلى أي جسد يخلقه جديداً لأن الروح هي أصل الحياة. وأنكروا اللذات الجسمانية في الجنة والنار. رد عليهم الغزالي بقوله: (النفس باقية بعد الموت ، وذلك دلّ عليه الشرع في قوله: "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ " وردّ النفس ممكن إلى أي بدن كان ، سواء كان من مادة البدن الأول أو من مادة استؤنف خلقها. فالمهم هو النفس، لان البدن يتبدل من الصغر إلى الكبر، بالهزال والسمن وغير ذلك..... وأكثر هذه الأمور ليس على مخالفة الشرع . فإنا لا ننكر أن في الآخرة أنواعاً من اللذات أعظم من المحسوسات ، ولا ننكر بقاء النفس عند مفارقة البدن ، ولكنا عرفنا ذلك بالشرع ... وإنما أنكرنا عليهم من قبل دعواهم معرفة ذلك بمجرد العقل). فالغزالي هنا يعتبر أن معرفة الأشياء من الشرع أهم وأثبت من معرفتها بالعقل. وقد كفّر الغزالي الفلاسفة لقولهم بقدم العالم، وقولهم بوقوع العذاب على الأرواح دون الأبدان وكذلك قولهم إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات. فمنطق الغزالي هو منطق رجال الدين الذين يردون كل شيء إلى مقدرة الله وهي الفيصل في كل الأمور. وليس هذا منطق أهل الفلسفة أو أهل الكلام. وقد خالف القاضي أبو بكر بن العربي الغزالي في كثير من تلك الأجوبة وكان يقول: (شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وحكى هو عن أبي حامد نفسه أنه كان يقول أنا مزجى البضاعة في الحديث) (درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ج1، ص 2).

ثم جاء ابن تيمية وختم على أفواه الفلاسفة بمنطق ديني بحت، من الصعب أن نسميه منطقاً. فقال: (قالت بعض الطوائف: نحن عرفنا الحق بعقولنا ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلول العقل وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في تأويل كلام الأنبياء. ولما كان بيان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء، بيّنا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر، إذ كان أي دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قُدّر أن المعارض العقلى القاطع ناقضه، بل يصير ذلك قدحا في الرسول وقدحا فيمن استدل بكلامه، وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء، فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات (صفات الله) أو بعضها أو نفي عموم خلقه لكل شيء أو نفي أمره ونهيه أو امتناع المعاد أو غير ذلك، لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض. وفساد ذلك المعارض قد يُعلم جملة وتفصيلا ، أما الجملة فإنه من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا، تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية كما قال تعالى ، والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ، سورة الشورى 16) (نفس المصدر، ص 7). فبالنسبة لابن تيمية يكون الإيمان بقول الأنبياء وتصديقهم أعلى مرتبة من الدليل العقلي على استحالة ما قالوا به. فلأن النبي قال إنه يعرف حجراً كان يسلم عليه قبل البعثة، لا بد أن يصدق الإنسان المؤمن هذا القول رغم استحالته عقلياً ورغم إن الله قال إنه لم يُعط محمد أي معجزات كبقية الأنبياء، لأن الناس السابقين لم يصدقوا بالآيات أي المعجزات "وما منعنا أن نُرسل الآيات إلا أن كذب بها الأولون" (الإسراء، 59). وفي منطق القرآن وابن تيمية، فإن من يحاجج أي يستعمل عقله لتفنيد ما قاله الرسول، فعليه غضب الله وله عذاب شديد في الآخرة. قارن هذا القول مع ما قاله الرازي في أول كتابه "نهاية العقول" حيث ذكر أن الإستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال لأن الإستدلال بها موقوف على مقدمات ظنية وعلى دفع المعارض العقلي، وإن العلم بإنتفاء المعارض لا يمكن إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع.

ويدهشنا منطق ابن تيمية عندما يقول: (يجب قبول النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها نفيا وإثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الإستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفى باطله بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه). فابن تيمية هنا يُلغي العقل إلغاءً تاماً ونهائياً. فقول الله أو النبي يجب أن يُقبل ويُصدق حتى إن لم يُفهم معناه، وما أكثر عبارات القرآن التي لا يُفهم معناها.

ويقول ابن تيمية عن تعارض الدليل العقلي مع الدليل السمعي: (فإن الناس متفقون على أن كثيرا مما جاء به الرسول معلوم بالإضطرار من دينه كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك ، وحينئذ فلو قال قائل إذا قام الدليل العقلي القطعي على مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما، فلو قدم هذا (الشخص) الدليل السمعي قُدح في أصله، وإن قدم (الدليل) العقلي لزم تكذيب الرسول فيما عُلم بالاضطرار أنه جاء به، وهذا هو الكفر الصريح. فلا بد لهم من جواب عن هذا ، والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم (دليل) عقلي قطعي يناقض هذا ، فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي). فهاهو شيخ الإسلام يؤكد لنا، كما أكد قبله حجة الإسلام الغزالي، أن كل ما جاء به الرسول ونقله عنه أهل الحديث بعنعنتهم المعروفة، يمتنع أن يعارضه دليل عقلي. فأين إذاً جعجعة الفقهاء والمفتين بأن الإسلام يحترم العقل؟

المسلمون والإسلام: كلاهما يُسفّه الحياة

كثُر اللغط والجدل أخيراً عن دور الإسلام في التشجيع على الإرهاب العالمي الذي كاد يشل الحياة في البلاد الغربية. وقد حاول المسلمون دفع التهمة عن الإسلام وزعموا، جوراً، أن الإسلام لا يشجع على الإرهاب وإنما الجماعات الضالة والمنحرفة هي التي تفعل ذلك. ولكن لو نظرنا إلى الوراء ودرسنا أوضاع المجموعات البشرية التي سكنت تلك البقعة من الأرض المعروفة الآن ياسم الشرق الأوسط، لوجدنا أن سكان أرض الرافدين كانوا أول من بدأ حياة الاستقرار التي أدت بدورها إلى بدء الخضارة البشرية. فقد اخترعوا العجلة والكتابة والموسيقى وكانوا أول من اخترع السلم الموسيقي وآلات العزف الحديثة وأول من جمع الألواح الطينية المكتوبة في مكتبة. وأول من سن قوانين التعامل بين الأفراد في دولة مستقرة. وأول من اخترع الاحتفالات الدينية التي كانت الموسيقى تمثل عمودها الفقري. وباختصار كانت الشعوب في تلك المنطقة تحب الحياة وتستمتع بها. ولأنهم استمتعوا بالحياة بذلوا جهداً عظيماً في تطويرها.
وحتى في مكة التي جاب تجارها أنحاء العالم المعروف لديهم ورجعوا بالرقيق الأبيض كانوا قد تعلموا الموسيقى والغناء وآلات الطرب وشرب النبيذ من البلاد التي تاجروا معها. وكان أغلب المغنين من الجواري. وكانوا قد تعلموا الرسم وزينوا جدران كعبتهم بالرسوم الدينية.
ثم جاء الإسلام وبدأ بتفكيك الحياة الدنيوية وجعل حياة الآخرة هي المطلب الوحيد. فقال لهم الله في القرآن: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ) (الذاريات، 56). فأصبحت عبادة الله هي محور الحياة ومنعوا المسلم من الاستمتاع بأي شيء في هذه الحياة الفانية إذ أن مهمته فيها هي عبادة الله. ثم زاد القرآن في تسفيه حياة المسلم الحاضرة وأمرهم بالصلاة نهاراً وبقيام الليل إلا جزءاً يسيراً، فقال (يا أيها المزمل قم الليل إلا فليلا) ثم قال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر كان مشهودا) (الإسراء 78). وزاد على ذلك فقال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا) (الإسراء 79). فلم تعد الصلوات الخمسة وقراءة القرآن تكفي بل لابد من النافلة ليلاً عسى أن يبعثهم ربهم مقاماً محمودا. وزادوا نوافل أخرى كالشفع والوتر وسجود القرآن. وأجمع الفقهاء أن قيام شهر رمضان، أي الصلاة وقراءة القرآن طوال الليل، مرغّب فيه أكثر من سائر الأشهر لقوله (ص): (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي، ج1، ص 151). فلم يبقَ وقتٌ للمسلم ليستمتع بالحياة أو ليطورها.
وكأن كل هذا العناء لم يكف، فحرّم فقهاء الإسلام الطرب والموسيقى والغناء. سأل سائلٌ ابن الجوزي: أيجوز لي أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال له ابن الجوزي: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها، فلا تشغلها بالملاهي (أحكام النساء لابن الجوزي، ص 52). فحتى القليل المباح من الملاهي نهوا عنه. وسئل يوماً غن الغناء، فقال: أقسم بالله لهوٌ لهوُ (نفس المصدر ص 53). وقد أنكر ابن الجوزي على الصوفية الرقص والغناء وقال إن سماعة يجمع بين شيئين، أحدهما: أنه يلهي القلب عن التفكير في عظمة الله، والقيام بخدمته، والثاني: أنه يميله إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية، ومعظمها النكاح، فلذلك يحث على الزنى، وبين الغناء والزنى تناسب من جهة أن الغناء لذة الروح، والزني لذة النفس (نفس المصدر ص 65). حتى أشعار الغزل والعشق حرّمها ابن الجوزي، فقال: ما ينشده القاص من أشعار الغزل والعشق فيثير بها النفوس ويطرب القلوب، مع تصفيق بيديه وإيقاع برجليه، فتشبه السكر، ويوجب ذلك تحريك الطباع وصياح الرجال والنساء، وتمزيق الثياب، لما في النفوس من دفائن الهوى. ولذلك عاب على المغنيين ورواة القصص صنيعهم (نفس المصدر ص 68). وليس هناك داعي للمسلم أن يسمع الغناء في هذه الحياة لأنه عندما يدخل الجنة تغني له الحوريات، حسب الحديث النبوي: (ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه اثنان من الحور العين، يغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن، وليس بمزامير الشيطان). والمقصود بمزامير الشيطان هو ما يزينونه لبني آدم من الملاهي المعازف وآلات الطرب. (فتاوى النساء للشيخ متولي الشعراوي، ص 191).
فماذا بقى للمسلم في هذه الحياة بعد أن يصلي نهاره ويقوم ليله إلا قليلاً ولا يسمع الموسيقى ولا الغناء ولا شعر الغزل؟ بقي له شيء واحد: وهو أن يجاهد في سبيل الله حتى يُقتل فيدخل الجنة ليستمتع بالحياة الحقيقية من غناء وطرب ونكاح وخمر. وأقصر الطرق إلى الجنة هو الشهادة، وقد قال القرآن: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقلون ويُقْتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ) (التوبة 111). فهاهو الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم ليقاتلوا في سبيله. فما دامت نفس المؤمن من ممتلكات الله فله أن يردها إلى مالكها متى ما طلب منه. والذي يخاف أن يجاهد في سبيل الله ويقتل الكافرين أويقتلونه فسوف يبكي كل حياته كما قال القرآن عن الأعراب الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: (فرح المخلفون بمقعدهم خلف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون) (التوبة 81، 82). فإذاً لا سبيل إلى التخلف عن الجهاد. ويحكي بشير بن الخصائصة أنه عندما بايع رسول الله على الإسلام، قال له الرسول: (تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وتصلي الصلوات الخمس المكتوبة لوقتها وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان وتحج البيت وتجاهد في سبيل الله فقال: يا رسول الله كلا أطيق إلا اثنتين أما الزكاة فما لي إلا حمولة أهلي وما يقوون به وأما الجهاد فأني رجل جبان فأخاف أن تجشع نفسي فأبوء بغضب من الله. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال يا بشير لا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة؟) (تاريخ البغدادي، ج1، ص 209). فبدون الجهاد لا يطمع بشير في دخول الجنة. وحتى الذين يجاهدون ويبدون شيئاً من التردد لا يرضى عنهم الله. ففي غزوة مؤته بالشام خاف المسلمون من الروم لأن عددهم كان يفوق جيش المسلمين كثيراً، فشجعهم عبد الله بن رواحة على القدوم والاستشهاد في سبيل الله، فحمل الراية زيد بن حارثة فقُتل، ثم حملها جعفر بن أبي طالب فقُتل ثم حملها عبد الله بن رواحة فقُتل. وعندما تحدث النبي لأصحابة بالمدينة قال: (لقد رُفعوا إلىَّ في الجنة، فيما يرى النائم ، على سُررٍ من ذَهب ، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازْوِرَاراً عن سريرَيْ صاحبيه ، فقلت : عَمَّ هذا ؟ فقيل لي : مَضيا وتردد عبدُ الله بعضَ التردد، ثم مضى) (سيرة ابن هشام، ج5، ص 28). أما جعفر بن أبي طالب فقد حمل الراية بيمينه فبترت، فحملها بيساره فبُترت، فضمها بما تبقي من ذراعيه إلى صدره حتى قُتل، فأعطاه الله جناحين من ذهب يطير بهما في الجنة. ولذلك سموه جعفر الطيار.

فإذا صار الجهاد فريضة، فضد من يجاهد المسلم؟ يقول ابن القيم الجوزية: ( ثم فرض عليهم قتالَ المشركِينَ كافَّة، وكان محرَّماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كِفاية على المشهور.) زاد المعاد، ج3، ص 35). فالمسلم فُرض عليه قتال الكفار جميعاً. والمسلم الذي يقتل كافراً لا يدخل النار أبداً، فقد صحَّ عن النبي (ص): (أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلَهَ فى النَّارِ أَبَدَاً) (نفس المصدر، ص 45). والذي يموت في الجهاد يصبح من أصفياء الله، يقول ابن الجوزي: (: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم فى محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.) (نفس المصدر ص 106). فالله يحب أن تراق دماء المسلمين في سبيله حتى يثبتوا له محبتهم له.
فما دامت كل هذه المغريات في الجنة تلوّح إلى المسلم وتناديه، وحياته في الدنيا ليس بها غير الصلاة والصيام وقيام الليل والامتناع عن الموسيقى والغناء، لماذا لا يقتل كافراً في سبيل الله فيدخل الجنة؟ خاصةً إذا كان هذا المسلم لا يفقه من القرآن كلمةً واحدةً ويعتمد على مدرسيه في شرح ما حفظه. ففي أمريكا حيث يُثبت العلم الحديث كل يوم أن العقل البشري لا تحده حدود في اكتشافات ما وراء عالمنا هذا، يُرسل بعض الآباء الباكستانيين أبناءهم بين سن السابعة والرابعة عشر إلى مدارس متفرغة فقط لتحفيظ القرآن بطريقة الترديد الببغاوي. ويصبح هؤلاء (الاولاد الذين تتراوح اعمارهم بين 7 و 14 سنة هم تلاميذ طوال الوقت من الساعة الثامنة صباحا حتى الخامسة بعد الظهر، من الاثنين حتى الجمعة، حتى في فصل الصيف، ولكنهم لا يدرسون الرياضيات ولا العلوم ولا اللغة الانجليزية، بل يحفظون جميع آيات القرآن وعددها 6200 اية، وهي مهمة تستغرق ما بين سنتين الى ثلاث سنوات) (الشرق الأوسط 17 أغسطس 2007). فما هو مستقبل مثل هذا الطفل الذي يقضي 3 سنوات من عمره التعليمي المفترض في حفظ آيات من القرآن باللغة العربية التي لا يفقه منها حرفاً؟ وأين يذهب بعد أن يترك هذه المدرسة بعد ثلاث سنوات انقطع فيها عن دراسة العلوم الحديثة واللغة الإنكليزية؟ فمثل هؤلاء الأطفال هم التربة الخصبة لزراعة الأفكار التكفيرية وكراهية الغير في عقولهم النامية. فهم لا يفهمون ما يحفظون من القرآن ولا بد أن يشرحه لهم مدرسهم. فكيف يشرح لهم آيات مثل (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) (البقرة 193). (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (محمد 4). (إن الله يحب الذين بقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) ( الصف 49). (يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (التوبة 123). وهل يستطيع مثل هؤلاء الأطفال الناشئين في مجتمع متعدد الثقافات مثل أمريكا، أن يكوّنوا علاقات صداقة وتعارف مع أطفال أمريكان مسيحيين أو بوذيين، والشيخ يشرح لهم القرآن الذي حفظوه دون فهم مثل: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم) ( المجادلة 22). (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) ( المائدة 51).
ولا يستحي الإمام شمس علي، مدير مركز جاميكا الإسلامي الذي يدرّس هؤلاء الأطفال في نيويورك أن يقول: (ويحصل التلاميذ الذين ينتهون من حفظ القرآن على لقب «حافظ» وهو لقب تفخيم في العالم الاسلامي يندر وجوده في الولايات المتحدة. ويلعب الحافظ دورا هاما خلال شهر رمضان حيث يجب قراءة القرآن طوال 30 يوما لاعضاء المسجد، ولكن يعتقد ايضا ان «الحافظ» يحصل على ثواب في الحياة الاخرى، ويضمن دخول الشخص الى الجنة بالاضافة الى 10 من اختياره، شريطة الا ينسى القرآن وان يستمر في ممارسة الاسلام.) فالطفل الباكستاني في أمريكا إما أن يقضي ثلاث سنوات من عمره يحفظ القرآن ويردده كل سنة في رمضان لمدة شهر، على المصلين، ليدخل الجنة مع عشرة من اختياره، لا بد منهم أبوه وأمه الذين أرسلاه إلى هذه المدرسة، وإما أن يموت شهيداً في سبيل الله ليحصل على نفس الامتيازات في دخول الجنة.
وربما يكون الحال أكثر سوءاً في باكستان التي أصبحت مركزاً لتفريخ الانتحاريين في أوربا. فباكستان تعج بمدارس تحفيظ القرآن بنفس الطريقة الببغاوية لصبيان لا يفقهون اللغة ولا يتحدثونها، ويملأ شيوخهم رؤوسهم بالمتفجرات بدل التسامح واحترام الغير. وفي الأسبوع الماضي اعتقلت السلطات في باكستان سبعة أشخاصٍ لهم علاقة بمؤامرة نسف الطائرات بين لندن وأمريكا، كما جاء في الشرق الأوسط (قد اعتقلت السلطات سبعة مشتبه فيهم بينهم بريطانيان، فيما يتصل بمؤامرة تفجير الطائرات عبر الاطلسي. واكد وزير الداخلية الباكستاني، وصول فريق التحقيق البريطاني، للاطلاع على نتائج استجواب رشيد رؤوف البريطاني الذي يعتبر «شخصية محورية) (20 أغسطس 2006). وقد قرر الرئيس برويز مشرف طرد كل الأجانب الذين يدرسون في مدارس تحفيظ القرآن في باكستان. ولكن هذا لن يؤثر على سير مصانع تفريخ الإرهاب لأن الباكستاني في أوربا أو نيويورك يستطيع الذهاب لإى مسجد بالمدينة ليحفظ القرآن عن ظهر قلب ويركّز على آيات القتال. ولذلك كان جميع المشتركين في عملية تفجير قطارات الأنفاق بلندن من الباكستانيين المقيمين في إنكلترا.
وتتكرر نفس المأساة في إندونيسيا والفلبين وبنقلاديش وغيرها من الأقطار الأسيوية التي يحفظ نشؤها القرآن دون أي إلمام بلغته ويعتمدون على الشيوخ لشرحه لهم. ففي إندونيسيا مثلاً انفجرت قنبلتان في سوق مزدحمة ببلدة تقطنها غالبية مسيحية بشرق إندونيسيا مما أدى إلى مقتل 21 شخصا في هجوم من المحتمل أن يزيد المخاوف من احتمال تجدد أعمال عنف طائفية في المنطقة. وخلف الانفجاران آثار دماء ودمار بمدينة تنتنا الواقعة في جزيرة سولاويزي الشرقية، وهي جزء من منطقة شهدت اشتباكات بين المسلمين والمسيحيين على مدى ثلاث سنوات، مما أدى إلى مقتل ألفي شخص حتى إبرام اتفاقية سلام نهاية عام 2001) (الشرق الأوسط 29 مايو 2005). فهؤلاء الذين يزرعون القنابل في وسط السوق لقتل الأبرياء، يسفّهون الحياة التي لا تعني شيئاً بالنسبة لهم لأنهم غير مؤهلين للاستمتاع بها لأن تربيتهم الإسلامية جعلت منهم روبوتات كل همها دخول الجنة في الحياة الآخرة. وقد برمجهم صانعوهم على اختيار أقصر الطرق إلى الجنة والحور العين، ألا وهو الاستشهاد في سبيل الله وليس في سبيل الوطن. فالذين فجروا القنبلتين في السوق لم يكن دافعهم استقلال جزيرتهم بقدر ما كان قتل المسيحيين والبوذيين في السوق لأن ذلك يضمن لهم الشهادة ودخول الجنة. أما الموت السياسي من أجل استقلال الجزيرة فلا يضمن لهم غير تمزيق أشلائهم.
أما المسلمون الناطقون بالعربية فيغسل الشيوخ أدمغتهم وهم أطفال صغار وعندما يكبرون لا يعرفون من القرآن إلا آيات السيف والتكفير. وقد رأينا نتائج غسيل أدمغتهم في السعودية عندما نسفوا العمارات السكنية التي كان يسكنها المصريون واللبنانيون في جدة.
وكما يقول المثل "فاقد الشيء لا يعطيه" فالمسلم الذي فقد حياته الدنيوية في سبيل الخول إلى الجنة لا يحفل بحياة الآخرين ولا يمنح الأطفال الفرصة ليستمتعوا بحياتهم، فهو يقتل الكبير والصغير والمرأة والطفل حتى يفوز بحب الله وتكتب له الجنة مع عشرة ممن يختار من معارفه. ويالها من تجارة رابحة. يموت مسلم واحدٌ شهيداً فيدخل الجنة عشرة. فالذي أصبح واضحاً وضوح الشمس هو أن الإسلام يقتل الحياة في المسلم ويشجعه على قتل غير المسلم. فلا الإسلام ولا المسلمين يحفل بالحياة .

هل نصلب البابا أم نصلب المنطق؟

تفاوتت ردود أفعال المسلمين على محاضرة بابا الفاتيكان التي اقتبس فيها من المناظرة التي دارت بين الإمبراطور الروماني والمسلم الفارسي عندما قال الإمبراطور إن النبي محمد قد جاء بكل قبيح ومشين وأنه نشر دينه بحد السيف. والإسلام، كبقية الأديان الأخرى لم يسلم من النقد والتهكم منذ أن ظهر، كما لم تسلم المسيحية أو اليهودية من ذلك. وما زال الناس يكتبون في الصحف والكتب ويذيعون من الراديو والتلفزيون آراءهم ونقدهم للمسيحية واليهودية دون أن تنقلب الدنيا على رؤوسهم. وحتى الأفلام والمسرحيات تنتقد وتتهكم على المسيح وعلى موسى ولا يخرج الناس في مظاهرات ولا يحرقون دور السينما. وفي بداية الإسلام كان الناس في مكة يشتمون محمد ويتهكمون عليه وكانت آيات القرآن تنصحه بأن يصفح عنهم صفحاً جميلاً. وحتى في المدينة عندما كان بعض الناس يتهكمون على القرآن، نزلت الآيات على النبي تقول له: (وقد نزّل عليكم في الكتاب إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) (النساء 140). وكذلك: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وأما يُنسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) (الأنعام 68).
وكذلك قال له: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون) ((الزخرف 83). وكرر نفس الآية في المعارج، 42. وأخيراً قال له: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون) (الأنعام 69). فالقرآن لم ينصح النبي أن يخرج في مظاهرة ويحطم كل شيء عندما يتهكم الناس من القرآن أو من النبي نفسه، وإنما نصحه أن يهجرهم ولا يجلس معهم. وكذلك نصحه بأن ليس على الذين آمنوا أن يحاسبوا الذين يخوضون في آيات الله لأن الله سوف يحاسبهم بنفسه. وحتى قبل ظهور الإسلام عندما جاء أبرهة بجيشه نحو الكعبة وطلب القرشيون من عبد المطلب جد النبي حماية الكعبة، قال لهم عبد المطلب (إنّ للبيت ربٌ يحميه). فإذا فهم عبد المطلب أن الله يحمي بيته ودينه، لماذا لا يفهم مسلمو اليوم أن الله يستطيع أن يحمي دينه ونبيه، خاصة أنه قال في القرآن: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم يفترون ). فالله جعل لكل نبي عدو من الإنس يتهكمون عليه ويتقولون عنه القاويل، ولو شاء الله لما فعلوا شيئاً. فإذا أمر الله نبيه أن يترك الأعداء يفترون الكذب عليه وعلى الله، لماذا يثور المسلمون للدفاع عن الإسلام بهذه الرعونة؟ ولماذا لا يتبعون ما قال به القرآن للنبي: (والله يعصمك من الناس إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين) (المائدة 67).
فالله قادر على أن يعصم نبيه من الناس والنبي ليس في حاجة للمسلمين ليدافعوا عنه. والله قادر أن يحفظ دينه، وقد قال: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون) (الحجرات 9).
وقد نفهم أن تخرج الرجرجة والدهماء الذين يكونون الغالبية العظمى من مسلمي اليوم في مظاهرات كما حدث في إندونيسيا عندما خرج أكثر من مئة من أعضاء جماعة اسلامية اندونيسية متشددة خلال تظاهرة في جاكرتا تدعو الى "صلب البابا" بنديكتوس السادس عشر بعد تصريحاته حول الاسلام. ورفع المتظاهرون الناشطون في جبهة المدافعين عن الاسلام، لافتات كتب عليها "اصلبوا البابا" و"الفاتيكان محور الشيطان" و"النبي عظيم والبابا صغير وحقير".(إيلاف 18 سبتمبر 2006). ولكن نعجز أن نفهم أن يدافع أساتذة في الجامعات الإسلامية، مثل الدكتور أحمد الطيب، أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بالأزهر، عن الإسلام ونبيه بكليشهات محفوظة تطير في وجه الحقائق المعروفة في التاريخ الإسلامي. فقد كتب د. أحمد الطيب مقالاً بعنوان "العقيدة والعقل وبابا الفاتيكان" بتاريخ 25 سبتمبر 2006، قال فيه، مخاطباً البابا: (ألا تتفقون معي في أن المسيحية هي أحفل الأديان بخوارق العادات وأكثرها اعتمادا علي المعجزات في إيمانها بالمسيح عليه السلام‏!‏ وهل المعجزات إلا حوادث وتصرفات تتجاوز حدود العقل وتصطدم بشرائع الكون ونواميسه‏!!‏ ثم ماهي أدلة العقول التي يمكن أن أعثر عليها في الأناجيل للتصديق بسيدنا عيسي عليه السلام؟‏!‏ أليست هي الخوارق والخوارق وحدها‏!!‏ وماذا كانت الأدلة التي أعتمد عليها التلاميذ الإثنا عشر الذين أرسلهم يسوع لهداية الناس؟‏!‏ أليست هي شفاء المرضي‏,‏ وإحياء الموتي من قبورهم‏,‏ وإبراء الأبرص وطرد الشياطين والأرواح النجسة‏!!‏ كما يخبرنا الإصحاح العاشر في إنجيل متي‏!!‏ ثم ألا تتفق معي في أن الفيلسوف الألماني كانت الذي ورد ذكره في سياق محاضرتكم إنما أحال ملف الاعتقاد المسيحي برمته إلي العقل العملي‏,‏ لأنه لم يستطع أن يؤسس هذا الاعتقاد علي أساس من العقل النظري وقال قولته الشهيرة‏:‏
لقد اضطررت أن أرفع المعرفة لكي آخذ مكانا للايمان‏,‏ بينما أجمع فلاسفة المسلمين ــ وكما تعلمون ــ علي تأسيس الاعتقاد الإسلامي علي العقل والعقل وحده‏,‏ يحفزهم إلي هذه العقلانية عشرات الآيات القرآنية التي تؤصل العقل كأساس للإيمان في أكثر من‏120‏ موضعا كما ذكرنا‏..‏ بل تحفزهم الآية التي تقول فاعلم أنه لا إله إلا الله.) انتهى.
وليس بيننا من خلاف أن اليهودية والمسيحية أعتمدتا على المعجزات لإثبات نبوة موسى وعيسى، بينما لم يستطع محمد أن يأتي بأي معجزات عندما طلب منه القرشيون أن يأتي لهم بمعجزات مثل موسى وعيسى، وقال لهم القرآن في ذلك: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرةً فظلموا بها وما نرسل الآيات إلا تخويفاً) (الإسراء 59). فمحمد لم تكن له آيات لأن الناس في الماضي قد كذبوا الآيات ولم يقتنعوا بها. فهل أتى محمد بالمنطق بدل الآيات ليقنع الناس بدينه؟ لا أعتقد ذلك. ولكن بدون أي اعتبار للحقائق يقول د. أحمد الطيب للبابا: (بينما أجمع فلاسفة المسلمين ــ وكما تعلمون ــ علي تأسيس الاعتقاد الإسلامي علي العقل والعقل وحده‏). فمن هم فلاسفة الإسلام الذين ربطوا الإيمان بالعقل؟ هل قصد حجة الإسلام الغزالي الذي سفه الفلسفة والفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" وكذلك في كتابه "إحياء علوم الدين"، أم قصد ابن حزم الأندلسي الذي قال في هجومه على المعتزلة عندما قدموا العقل على النقل: (لو عرف هذا الجاهل معنى العقل لم يجب بهذا السخف لأن العقل على الحقيقة إنما هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي وما عدا هذا فليس عقلاً بل هو سخف وحمق.) (الملل والنحل لابن حزم،ج2، ص 59). وقد أورد ابن خلكان ملخصا وبالجملة عن الفلاسفة مثل الفارابي وابن سينا، وقال: (ولكن أكثر العلماء على كفرهما وزندقتهما حتى قال الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال:
لا نشك في كفرهما أي الفارابي وابن سينا، وقال فيه أيضا وأما الآلهيات ففيها أكثر أغاليطهم وما قدروا على الوفاء بالرهان على ما شرطوا في المنطق ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذهب الإسلاميين الفارابي وابن سينا ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في سبعة عشر ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت) (شذرات الذهب للدمشقي، ج2، ص 353). فالإمام الغزالي حكم بكفر الفاربي وابن سينا لأنهما استعملا العقل في مفهوم الإيمان. ويقول سيد قطب: (هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية) (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته للأستاذ سيد قطب، دار الشروق، ص 10).
وقد أفتى عدد كبير من فقهاء الإسلام بتحريم المنطق والعقل، فنجد مثلاً في كتاب "الحاوي للفتاوى" ما يلي:
(مسألة - هل العقل أفضل من العلم الحادث أم العلم. الجواب - هذه المسألة اختلف فيها العلماء ورجحوا تفضيل العلم لأن الباري تعالى يوصف بصفة العلم ولا يوصف بصفة العقل وما ساغ وصفه تعالى به أفضل مما لم يسغ وإن كان العلم الذي يوصف به تعالى قديماً ووصفنا حادث فإن الباري لا يوصف بصفة العقل أصلاً ولا على جهة القدم ومن الأدلة على تفضيل العلم أن متعلقه أشرف وأنه ورد بفضله أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة ولم يرد في فضل العقل حديث.) (الحاوي للفتاوى للإمام جلال الدين السيوطي، ج2، الفتاوى الأصولية الدينية، مبحث الإلهيات). فجلال الدين السيوطي يقول إنه لم يرد ولا حديث واحد في فضل العقل بينما وردت عدة أحاديث عن فضل العلم أي الشريعة الإسلامية.
وفي نفس الكتاب نجد في صفحة 339 (فن المنطق فن خبيث مذموم يحرم الاشتغال به، يُبنى بعض ما فيه على القول بالهيولى الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة وليس له ثمرة دينية أصلاً بل ولا دنيوية - نص على مجموع ما ذكرته أئمة الدين وعلماء الشريعة فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه ونص عليه من أصحابه إمام الحرمين والغزالي في آخر أمره وابن الصباغ صاحب الشامل وابن القشيري ونصر المقدسي والعماد بن يونس وحفده والسلفي وابن بندار وابن عساكر وابن الأثير وابن الصلاح وابن عبد السلام وأبو شامة والنووي وابن دقيق العيد والبرهان الجعبري وأبو حيان والشرف الدمياطي والذهبي والطيبي والملوي والأسنوي والأذرعي والولي العراقي والشرف بن المقري وأفتى به شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوي، ونص عليه من أئمة المالكية ابن أبي زيد صاحب الرسالة والقاضي أبو بكر ابن العربي وأبو بكر الطرطوشي وأبو الوليد الباجي وأبو طالب المكي صاحب قوت القلوب وأبو الحسن ابن الحصار وأبو عامر بن الربيع وأبو الحسن ابن حبيب وأبو حبيب المالقي وابن المنير وابن رشد وابن أبي جمرة وعامة أهل المغرب.) فهذه قائمة ببعض علماء الإسلام الذين أفتوا بحرمة المنطق وعلم الكلام والعقل. أما ابن نجيم فيقول: ( العلم أفضل من العقل عندنا خلافاً للمعتزلة) (البحر الرائق لابن نجيم، ج8، كتاب الكراهية).
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول عن العقل: (فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات أو بعضها أو نفي عموم خلقه لكل شيء أو نفي أمره ونهيه أو امتناع المعاد أو غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض ، وفساد ذلك المعارض قد يعلم جملة وتفصيلا ، أما الجملة فإنه من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية كما قال تعالى ، والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ، سورة الشورى 16 ، وأما التفصيل فبعلم فساد تلك الحجة المعارضة وهذا الأصل نقيض الأصل الذي ذكره طائفة من الملحدين كما ذكره الرازي في أول كتابه نهاية العقول حيث ذكر أن الإستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال لأن الإستدلال بها موقوف على مقدمات ظنية وعلى دفع المعارض العقلي وإن العلم بإنتفاء المعارض لا يمكن إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقل يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع) (تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ج1، ص 7). فهاهو شيخ الإسلام ابن تيمية يفتي بإلحاد الرازي لأنه استعمل الدليل العقلي في مناقشة الإيمان.
فهذه أمثلة مما قاله معظم فقهاء الإسلام الذين كفّروا المعتزلة وأهل الكلام والفلسفة وحرقوا الفلاسفة مع كتبهم وحرقوا كتب أخوان الصفا. وما زال الجامع الأزهر يصادر الكتب ويمنع الأعمال الفنية لأنه لا يثق بعقل القارئ المسلم في معرفة الصالح من الطالح. ومع ذلك يخاطب الدكتور أحمد الطيب البابا بقوله:
(‏..‏ومالي أذهب بعيدا وهذا هو القديس أنسليم يقول‏:‏يجب أن تعتقد أولا بما يعرض علي قلبك دون نظر‏..‏ ولكم أن تقارنوا بين الإيمان المسيحي الذي يشترط عدم النظر العقلي وبين الإيمان الإسلامي الذي يشترط سبق النظر العقلي علي كل خطوة في مشوار الإيمان‏.‏ ووقتها سنعرف إن كان الإسلام دين عقل أو دين خوارق مضادا للعقل ومضادا لجوهر الله‏.) انتهى.
أي عقل عناه د. أحمد الطيب وهو لا شك قد قرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: (كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها نفيا وإثباتا لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الإستفسار والتفصيل فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفى باطله بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه) (تعارض العقل والنقل، ج1، ص 29). فإذا كان على المؤمن أن يقبل كلام الرسول حتى وإن لم يفهم معناه، ألا يعني هذا أن كلام الرسول لا يخضع للعقل ولا للمنطق؟ فأين الإيمان العقلي الإسلامي الذي يتفوق على الإيمان المسيحي المبنى على المعجزة؟
ويستمر شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: (فإن الناس متفقون على أن كثيرا مما جاء به الرسول معلوم بالإضطرار من دينه كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك ، وحينئذ فلو قال قائل إذا قام الدليل العقلي القطعي على مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به وهذا هو الكفر الصريح فلا بد لهم من جواب عن هذا ، والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا ، فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي ، ومثل هذا الغلط يقع فيه كثير من الناس يقدرون تقديرا يلزم منه لوازم) (تعارض العقل والنقل، ج1، ص 31). فالدليل العقلي لا يجوز أن يتعارض مع ما سمعه أحدهم من النبي ورواه عن طريق العنعنة. فهل هذا هو الإيمان العقلي الذي عناه د. أحمد الطيب؟
وبدون أي مراعاة للحقيقة يقول د. أحمد الطيب: (المغالطة المكرورة والمملولة أيضا‏,‏ والتي تقول إن الإسلام جاء بالسيف وبالعدوان فإني أستسمح البروفيسور الكاثوليكي خوري في أن أذكره بأن نبي الإسلام لم يقل لنا في القرآن‏:‏لاتظنوا أني جئت لألقي سلاما علي الأرض‏.‏ ما جئت لألقي سلاما بل سيفا‏..‏ فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه‏,‏ والأبنة ضد أمها‏..‏ ألخ ولم يأمرنا نبي الإسلام بأن نتعامل مع أعدائنا بأن‏:‏نقتل جميع الرجال والنساء والأطفال والرضع والبقر والغنم والإبل والحمير‏..‏ وسعادة البروفيسور الكاثوليكي أعلم مني بهذه النصوص وبمن نسبت إليه‏,‏ وفي أي الكتب المقدسة تقرأ وتتلي‏..‏ وهاهنا حوار عميق يمنعني ديني من الانجراف إليه‏..‏ وأكتفي بالإشارة إلي أن النساء والأطفال والرضع والبقر والغنم‏..‏ ألخ‏.‏
يحرم قتلهم في شريعة الإسلام‏,‏ حتي وهم في معسكر العدو‏) انتهى.
وربما نسي د. أحمد أو تناسى أن يذكر أن القرآن يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وأخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأؤلئك هم الظالمون) ( التوبة 23) أليس هذا تفريقاً بين االأب والابن وبين الأخ وأخيه؟ أما قتل الأطفال والنساء فيكفي أن يقرأ د. أحمد الطيب تفاصيل قتل أطفال بني قريظة الذين أنبتوا شعر عاناتهم، وكذلك فتاوى الفقهاء الذين أجازوا قتل الأطفال والنساء إذا تترس بهم العدو. وما فتوى الشيخ القرضاوي عن قتل أطفال ونساء اليهود ببعيدة عن الأذهان.


الحكومات العربية وكابوس حقوق الإنسان

يبدو أن الحكومات العربية من المحيط إلى الخليج تغط في نوم عميق فوّت عليها اللحاق بقطار الحضارة الذي كان قد بارح آخر محطة له في العالم العربي في منتصف القرن العشرين الميلادي يوم كانت مصر تقف على الرصيف بقيادة زعماء سياسيين تحدوهم الوطنية ويساندهم مفكرون متنورون مثل الشيخ محمد عبده وطه حسين وغيرهم، وعندما كانت الجزائر تتطلع إلى مستقبل زاهر تقوده نساء مثل جميلة بوحيرد، قبل أن تُوضع المرأة الجزائرية في المكان المناسب لها في منزلها. ولكن للأسف تلكاؤوا وفاتهم القطار. و المشكلة في النوم العميق أنه يهيئ ذهن النائم إلى حدوث الكابوس المخيف بدل الحلم الجميل. ولا شك أن كل الحكومات العربية التي تغط في النوم العميق يُنغّص نومها كابوس يُدعى " حقوق الإنسان ". هذا الكابوس يجعل من الحكومات العربية التي أنفقت مليارات الدولارات في اغتناء أحدث أنواع الأسلحة الفتاكة، المسموح بها وغير المسموح بها مثل تلك التي استعملها صدام حسين في حلبجة، تتخيل أن شخصاً واحداً مثل المرحوم والناشط السوداني الخاتم عدلان الذي عاجلته المنية في لندن قبل أيام، سوف يصير بعبعاً يستنسخ الملايين من شاكلته ليدمر كل تراسانات أسلحتهم التي يحتفظون بها لكتم أنفاس شعوبهم. هذا الخاتم عدلان طاردته السلطات السودانية على مر السنين وسجنوه على فترات متعددة بلغت ثماني سنوات في مجملها قبل أن يهاجر إلى لندن ليقود الحركة الجديدة للديمقراطية في السودان. وعندما وصل جثمانه إلى مطار الخرطوم ليوارى الثرى، منعت قوات الأمن السودانية المعزين من الاقتراب من المطار وهرّبت الجثمان إلى قرية في أواسط الجزيرة تبعد حوالي ثلاثمائة كيلومتراً جنوب الخرطوم. ( الشرق الأوسط 28 أبريل 2005) وكنت أعتقد أن الحكومة سوف تتنفس الصعداء بموته، ولكن الكابوس جعلها تتخيل أنه ما زال يقود المتظاهرين في الخرطوم. فخافت الحكومة حتى من جثمانه.
وبعض الحكومات يزعجها الكابوس بما فيه الكفاية لتفيق هنيهة ترمي فيها إلى شعوبها بعض فتات الإصلاحات وتدعوها جزافاً بالإصلاحات التقدمية. وتمثل حكومة تونس هذا النوع من الحكومات. فبعد أن فاقت من نومها لتقدم للشعب بعض الإصلاحات في قوانين الأسرة وحقوق المرأة، رجعت لسباتها الذي لم تفق منه إلا قبل يومين حين عقدت مجلو " نيوزويك " الأمريكية حفلاً في الكويت لتكريم شخصيات عربية لعبت دوراً قيادياً في شتى المجالات. وكان من ضمن هذه الشخصيات العربية السيدة راضية نصراوي، الناشطة التونسية في مجال حقوق الإنسان. فبمجرد أن صرحت " نيوزويك " أن السيدة نصراوي سوف تكون من بين المدعوين، تضافرت جهود الوسطاء العرب الذين يجيدون الوساطة، لإخفاء أسمها من لائحة المحتفي بهم حتى لا تمتنع الحكومة التونسية من الاشتراك في الحفل. ولكن " نيوزويك " رفضت أن تستجيب إلى الوساطة، فقاطع سفير تونس في الكويت الحفل، وانسحب الإعلاميون التونسيون من الحفل كذلك ( إيلاف الإلكترونية بتاريخ 2 مايو 2005). وكل جريمة هذه السيدة أنها محامية تعمل في مجال حقوق الإنسان وتقوم بتمثيل الذين لاصوت لهم على حد تعبيرها، وكانت قد قامت بتمثيل زوجات الإسلاميين وأعضاء النقابات والطلاب "الذين وجدوا نفسهم في الجانب الخطأ من الدولة التونسية"، حسبما ذكرت عنها مجلة نيوزويك ( نفس المصدر). ولا تزال ندبة تزهو على جبين نصراوي تذّكر بمواجهة لها مع السلطات التونسية أثناء احتجاجات حدثت في وقت سابق هذا الربيع. فالإعلاميون التونسيون يقفون في نفس خندق الحكومة في حربها ضد حقوق الإنسان.
كما تغيبت عن الحفل الشيخة موزة المسند حرم حاكم دولة قطر ،التي استلم الدرع نيابة عنها السفير القطري في الكويت. وتغيبت كذلك السيدة سارة الخثلان ولبنى العليان من السعودية كما تغيّب الروائي السوداني الطيب صالح والشاعر محمود درويش.
ومن المصادفات الغريبة أن هذا الحفل أقيم في الكويت بعد أسابيع من الحكم على الكاتب والمفكر الأكاديمي د. أحمد البغدادي بالسجن والمنع من الكتابة في الصحف بسبب إبدائه رأيه. والمضحك المحزن أن رئيس تحرير جريدة الوطن ونيوزويك العربية الشيخ خليفة علي الخليفة الصباح قال في الحفل: " إن دار الوطن مؤمنة بان تقدم الأمة العربية مع العالم الخارجي يكون عن طريق هذه الصحيفة وأن دولة الكويت هي الاختيار الطبيعي لهذه المجلة ( بيوزويك العربية ) نظرا لما فيها من قيادة حكيمة وحرية كبيرة في الرأي لذا على كاهلنا الآن المزيد من المسؤوليات كي يأتي يوما يفهمنا الغرب ونفهمه." وربما قد غاب عن رئيس تحرير جريدة الوطن أن الغرب يفهمنا عن طريق إعلامنا. فهل في العالم العربي أي قطر يستطيع أن يقول أن إعلامه حر ولا يعاني من مقص الرقيب وتسلط الحكومات التي طالما أزعجها الكابوس.
فمصر التي كانت تقود العالم العربي في الانفتاح على الحضارة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يرسف إعلامها في قيود قوانين الطوارئ الذي جثم على صدر الأمة منذ مقتل السادات. وحتى القضاء لا يتمتع بالاستقلال حتى نستطيع أن نقول أنه قضاء نزيه سوف ينصر الآلاف من سجناء الرأي الذين يرزحون في سجون مصر بسبب جرأتهم على الكلام. ويبدو أن الكابوس في مصر قد تعدى الحكومة إلى المؤسسة الدينية وبعض أفراد الشعب المتأسلمين. فقد انتشرت أخيراً في مصر موضة " الحسبة " مما حدا بالدكتور مصطفى الشكعة، عضو مجلس البحوث الإسلامية، إلى المطالبة "بعودة تطبيق قضايا الحسبة التي كانت منتشرة إلى وقت قريب. ويبدو انه يطالب بهذا الحق للمصريين جميعا وليس لمجلس البحوث فقط، بعد أن عجز المجلس بالرغم من تمتعه بالضبطية القضائية عن القضاء على، أو الحد من تلك الكتب والأفكار والأفلام التي تسيء إلى الإسلام. أي انه يريد تعيين المصريين جميعا وكلاء للنائب العام فيما يختص بقضايا الحسبة ( علي سالم، شفاف الشرق الأوسط 3 أبريل 2005 ). وقد سمعنا قبل عامين أن مواطناً من الدمام رفع دعوى حسبية على صحفي كان قد أجرى تحقيقاً مع بعض المواطنين عن برنامج " إستار أكادمي " وأتهم الشاكي الصحفي بإفساد عقول الشباب، نفس التهمة التي وجهها الأثينيون إلى سقراط قبل آلاف السنين، ولم يتحرك أحد في الإعلام ليدافع عن الصحفي. وربما كان هذا الصحفي محظوظاً إذ لم يهدده الشاكي بالقتل كما هددوا وما زالوا يهددون الكاتبة السعودية وجيهة الحويدر برسائل تقول: " إن يدنا تطول أمثالك من المنافقين وإن لدينا ما نفعله لك.. وقد أعذر من أنذر..تذكري جيدا " ( إيلاف 30 مارس 2004)/
وفي المغرب التي يرزح إعلاميوها تحت قوانين أشد تعسفاً من قوانين معظم البلاد العربية، حكمت المحكمة على الصحفي علي المرابط بالحرمان من مزاولة المهنة لمدة عشر سنوات مع غرامة مالية قدرها 50 ألف درهم. وكالعادة لاذ زملاؤه الإعلاميون بالصمت وكأنهم لم يسمعوا بمقولة الفيلسوف الفرنسي فولتيير " إني أعارضك الرأي ولكني مستعد أن أضحي بنفسي من أجل حقك في أن تقول رأيك ". والأدهى من ذلك أن جمعيات مغربية مدافعة عن حقوق المحتجزين بتندوف في الصحراء الغربية طالبت بتشديد العقوبات على السيد المرابط، فأثلجت صدر الحكومة المغربية، لأن حقوق الإنسان في الصحراء المتنازع عليها تعلو فوق حقوق الإنسان المغربي.
وبعض الأحزاب السياسية الدينية في المغرب تشد من أزر الحكومة وتتمنى أن تصدر الحكومة قوانيناً أشد تعسفاً ضد العلمانيين. فبعد أن كتبت صحيفة " التجديد " الناطقة باسم الحزب مقالاً يزعم أن التسونامي الذي أصاب إندونيسيا مؤخراً ما هو إلا عقابٌ من الله لأهل إندونيسيا الذين سمحوا بفتح الأندية الليلية واختلاط النساء بالرجال في بلادهم، بثت القناة الثانية يوم 11 يناير 2005 برنامجاً يفند هذا القول، فدعا الحزب إلى تنظيم وقفة احتجاجية رمزية أمام مقر القناة بعين السبع، وذهب إلى أن ربورتاج القناة "تضمن تحاملا مقصودا وتشويها لمواقف الحزب" واحتج عضو الحزب عبد الإله بنكيران في البرلمان على ما سماه "استجواب أعداء الحزب"، في إشارة إلى الصحفيين الذين تحدثوا في التلفزيون وهاجموا موقف صحيفة الغد ( إيلاف 14 يناير 2005). وهذا هو مستوى الإعلام العربي الذي تود الحكومات العربية الحفاظ عليه وتشجيعه باسم الدين..
ويبدو أن مجلس الصحافة المصري لم يسمع بأن الصحافة هي السلطة الرابعة في الدولة والتي تراقب تصرفات الحكومة بالإنابة عن الشعب، فطالب المجلس الأعلى للصحافة في مصر من الصحافيين المصريين التوقف عن مهاجمة الرؤساء والقادة العرب. وطالب المجلس في بيان له جميع الصحف المصرية بمراعاة الظروف الدقيقة التي تمر بها الأمة العربية، والتي وصفها البيان بأنها «لا تحتمل مزيدا من أسباب التوتر والخلاف»، وناشدت لجنة متابعة الشكاوى التي اجتمعت برئاسة رئيس اللجنة محمد عبدالمنعم رئيس تحرير «روزاليوسف» وأمينها عباس الطرابيلي رئيس تحرير جريدة «الوفد» جميع الزملاء ورؤساء تحرير جميع الصحف المصرية بالتوقف عن النقد الجارح الذي يسيء لعلاقات مصر مع شقيقاتها العربية، وكذلك الدول الصديقة، مطالباً إياهم بالعمل على زيادة أواصر التعاون بين الدول وتوحيد الصف العربي ( الشرق الأوسط ). فالإعلام المصري همه الوحيد وحدة الأمة العربية وطاعة ولي الأمر. نفس المطالب المرفوعة منذ واقعة الجمل بين عليّ بن أبي طالب ومعاوية.
ويبدو لي أنه ليس هناك أي أمل في التغيير لأن شبابنا المتعلم والذي يُفترض فيه أن يكون مثقفاً وحاملاً مشعل التنوير لجهلاء الأمة العربية، لا يختلف كثيراً عن الرجرجة والدهماء. فقد خرجت مظاهرة من كلية الطب في الخرطوم تنادي بمحاكمة السيد محمد طه محمد أحمد ، رئيس تحرير صحيفة " الوفاق " السودانية، بالردة لأنه نشر مقتطفات من كتاب " المجهول في حياة الرسول " للدكتور المقريزي. ( الشرق الأوسط 2 مايو 2005). والكتاب منشور على صفحات الإنترنت التي يبلغ مجموع قرائها أضعاف جميع المواطنين السودانيين الذين تتفشى فيهم الأمية بنسبة 60 بالمائة، وحتى المتعلمين منهم لا يملكون ما يشترون به الصحف اليومية. فنسبة الذين يقراؤون صحيفة "لوفاق" نسبة ضيئلة جداَ، ومع ذلك استجابت الحكومة في عجل إلى مطلب الطلبة المتظاهرين وسوف تقدم رئيس التحرير إلى المحاكمة بتهمة الردة. نرجو ألا يلاقي مصير المهندس محمود محمد طه الذي شنقه نميري في السبعينات، خاصة وهناك تشابه في الأسماء. فالإعلام السوداني لم يتغير به شئ في الثلاثين عاماً الماضية. فهل ما زال رئيس تحرير صحيفة " الوطن " الكويتية متفائلاً أن تقدم الأمة العربية سوف يكون عن طريق صحيفته و"نيوزويك" العربية. نرجو ذلك، فكما قال أميل زولا: "لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة".

No comments: