Monday, May 14, 2007

مقامات - الحريرى(2)ا

المقامة الواسطية
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: ألْجأني حُكمُ دهْرٍ قاسِطٍ. الى أنْ أنتَجِعَ أرضَ واسِطٍ. فقصَدْتُها وأنا لا أعرِفُ بها سكَناً. ولا أملِكُ فيها مسْكِناً. ولمّا حللْتُها حُلولَ الحوتِ بالبَيْداءِ. والشّعرَةِ البيضاء في اللِّمَةِ السّوداء. قادَني الحظُّ الناقِصُ. والجَدُّ النّاكِصُ. الى خانٍ ينزِلُهُ شُذّاذُ الآفاقِ. وأخْلاطُ الرّفاقِ. وهوَ لنَظافَةِ مكانِهِ. وظَرافَةِ سكّانِهِ. يرَغّبُ الغَريبَ في إيطانِهِ. ويُنسِيهِ هوَى أوطانِهِ. فاستَفْرَدْتُ منهُ بحُجرَةٍ. ولمْ أُنافِسْ في أُجرَةٍ. فما كان إلا كلَمْحِ طرْفٍ. أو خطّ حرْفٍ. حتى سمِعتُ جاري بيْتَ بيْتَ. يقولُ لنَزيلِهِ في البيتِ: قُمْ يا بُنيّ لا قَعَدَ جَدُّكَ. ولا قامَ ضِدُّكَ. واستَصْحِبْ ذا الوجْهِ البَدْريّ. واللّوْنِ الدُرّيّ. والأصْلِ النّقيّ. والجسْمِ الشّقيّ. الذي قُبِضَ ونُشِرَ. وسُجِنَ وشُهِرَ. وسُقِيَ وفُطِمَ. وأُدْخِلَ النّارَ بعْدَما لُطِمَ. ثمّ ارْكُضْ بهِ الى السّوقِ. ركْضَ المَشوقِ. فقايِضْ بهِ اللاّقِحَ المُلْقِحَ. المُفسِدَ المُصلِحَ. المُكْمِدَ المُفَرِّحَ. المُعَنّيَ المُروّحَ. ذا الزّفيرِ المُحرِقِ. والجَنينِ المُشرِقِ. واللّفْظِ المُقنِعِ. والنَّيْلِ المُمْتِعِ. الذي إذا طُرِقَ. رعَدَ وبرَقَ. وباحَ بالحُرَقِ. ونفَثَ في الخِرَقِ. قال: فلمّا قرّتْ شِقْشِقَةُ الهادِرِ. ولمْ يبْقَ إلا صدَرُ الصّادِرِ. برزَ فتًى يَميسُ. وما معَهُ أنيسٌ. فرأيتُها عُضْلَةً تلعَبُ بالعُقولِ. وتُغْري بالدّخولِ. في الفُضولِ. فانطلَقْتُ في أثَرِ الغُلامِ. لأخْبُرَ فحْوَى الكلامِ. فلمْ يزَلْ يسْعى سعْيَ العَفاريتِ. ويتفَقّدُ نضائِدَ الحوانيتِ. حتى انْتَهى عندَ الرّواحِ. الى حِجارَةِ القَدّاحِ. فناوَلَ بائِعَها رَغيفاً. وتَناوَلَ منهُ حجَراً لَطيفاً. فعَجِبْتُ منْ فَطانَةِ المُرسِلِ والمُرسَلِ. وعلِمْتُ أنّها سَروجيّةٌ وإنْ لم أسْألْ. وما كذّبْتُ أنْ بادَرْتُ الى الخانِ. منطَلِقَ العِنانِ. لأنظُرَ كُنْهَ فَهْمي. وهلْ قرْطَسَ في التّكهّنِ سَهْمي. فإذا أنا في الفِراسَةِ فارِسٌ. وأبو زيْدٍ بوَصيدِ الخانِ جالِسٌ. فتَهادَيْنا بُشْرى الالتِقاء. وتقارَضْنا تحيّةَ الأصْدِقاء. ثمّ قال: ما الذي نابَكَ. حتى زايَلْتَ جَنابَكَ? فقلت: دهْرٌ هَ. وجَوْرٌ فاضَ! فقال: والذي أنزَلَ المطرَ منَ الغَمامِ. وأخرَجَ الثّمرَ من الأكْمامِ. لقدْ فسَدَ الزّمانُ. وعمّ العُدْوانُ. وعُدِمَ المِعْوانُ. واللهُ المُستَعانُ. فكيفَ أفْلَتَّ. وعلى أيّ وصْفَيْكَ أجْفَلْتَ? فقلتُ: اتّخَذْتُ الليْلَ قَميصاً. وأدْلَجْتُ فيهِ خَميصاً. فأطْرَقَ ينْكُتُ في الأرضِ. ويفكّرُ في ارتِيادِ القَرْضِ والفَرْضِ. ثمّ اهزّ هِزّةَ مَنْ أكْثَبَهُ قنَصٌ. أو بدَتْ لهُ فُرَصٌ. وقال: قد علِقَ بقَلْبي أن تُصاهِرَ منْ يأسو جِراحَكَ. ويَريشُ جَناحَكَ. فقلتُ: وكيفَ أجمَعُ بيَ غُلٍّ وقُلٍّ. ومنِ الذي يرْغَبُ في ضُلّ بنِ ضُلٍّ? فقالَ: أنا المُشيرُ بكَ وإلَيْكَ. والوكيلُ لكَ وعليْكَ. معَ أنّ دينَ القوْمِ جبْرُ الكَسيرِ. وفكُّ الأسيرِ. واحتِرامُ العَشيرِ. واستِنْصاحُ المُشيرِ. إلا أنهُمْ لوْ خطَبَ إلَيْهِمْ إبْراهيمُ بنُ أدهَمَ. أو جبَلَةُ بنُ الأيْهَمِ. لما زوّجوهُ إلا على خَمْسِمائَةِ دِرْهَمٍ. اقتِداءً بما مهَرَ الرّسولُ. صلّى اللهُ عليْهِ وسلّمَ. زوْجاتِهِ. وعقَدَ بهِ أنكِحَةَ بَناتِهِ. على أنّك لنْ تُطالَبَ بصَداقٍ. ولا تُلْجأ الى طَلاقٍ. ثمّ إني سأخْطُبُ في موقِفِ عقْدِكَ. ومجْمَعِ حشْدِكَ. خُطبَةً لمْ تفتُقْ رَتْقَ سمْعٍ. ولا خُطِبَ بمِثلِها في جمْعٍ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فازْدَهاني بوصْفِ الخُطْبَةِ المَتْلُوَّةِ. دونَ الخِطبَةِ المَجْلُوّةِ. حتى قُلتُ لهُ: قد وَكلْتُ إليْكَ هذا الخطْبَ. فدبّرْهُ تدْبيرَ منْ طَبّ لمَنْ حبّ. فنهضَ مُهَرْوِلاً. ثمّ عادَ متَهلّلاً. وقال: أبْشِرْ بإعْتابِ الدّهْرِ. واحْتِلابِ الدّرّ! فقد وُلّيتُ العَقْدَ. وأُكفِلْتُ النّقْدَ. وكأنْ قدْ. ثمّ أخذَ في مُواعدَةِ أهلِ الخانِ. وإعْدادِ حَلْواء الخِوانِ. فلمّا مدّ اللّيلُ أطْنابَهُ. وأغْلَقَ كُلُّ ذي بابٍ بابَهُ. أذّنَ في الجَماعَةِ: ألا احْضُروا في هذهِ السّاعةِ! فلمْ يبْقَ فيهِمْ إلا منْ لَبّى صوتَهُ. وحَضرَ بيْتَهُ. فلمّا اصْطَفّوا لدَيْهِ. واجتمَعَ الشاهِدُ والمشْهودُ علَيْهِ. جعلَ يرْفَعُ الأصْطُرْلابَ ويضَعُهُ. ويلْحَظُ التّقويمَ ويدَعهُ. الى أن نعَسَ القوْمُ. وغشِيَ النّومُ. فقلْتُ لهُ: يا هَذا ضعِ الفاسَ في الرّاسِ. وخلّصِ النّاسَ منَ النّعاسِ. فنظَرَ نظْرَةً في النّجومِ. ثمّ انْتشَطَ منْ عُقلَةِ الوجومِ. وأقْسمَ بالطُّورِ. والكِتابِ المسْطورِ. ليَنْكَشِفَنّ سِرّ هَذا الأمْرِ المسْتورِ. ولَيَنْتَشِرَنّ ذِكْرُهُ الى يوْمِ النُّشورِ. ثمّ إنّهُ جَثا على رُكْبَتِهِ. واستَرْعى الأسْماعَ لخُطْبَتِهِ. وقال: الحمدُ للهِ الملِكِ المحْمودِ. المالِكِ الوَدودِ. مُصَوّرِ كُلّ موْلودٍ. ومآلِ كلّ مطْرودٍ. ساطِحِ المِهدِ. وموَطِّدِ الأطْوادِ. ومُرْسِلِ الأمطارِ. ومسَهِّلِ الأوْطارِ. وعالِمِ الأسْرارِ ومُدْرِكِها. ومُدمِّرِ الأمْلاكِ ومُهْلِكِها. ومُكَوِّرِ الدّهورِ ومُكرِّرِها. ومُوردِ الأمورِ ومُصدِرِها. عمّ سَماحُهُ وكَملَ. وهطَلَ رُكامُهُ وهمَلَ. وطاوَعَ السّؤلَ والأمَلَ. وأوْسَعَ المُرْمِلَ والأرْمَلَ. أحْمَدُهُ حمْداً ممْدوداً مَداهُ. وأُوَحّدُهُ كما وحّدَهُ الأوّاهُ. وهوَ اللاهُ لا إلَهَ للأمَمِ سِواهُ. ولا صادِعَ لِما عدّلَهُ وسَوّاهُ. أرْسَلَ محمّداً علَماً للإسْلامِ. وإماماً للحُكّامِ. ومُسدِّداً للرَّعاعِ. ومعَطِّلاً أحْكامَ وُدٍّ وسُواعٍ. أعْلَمَ وعلّمَ. وحكَمَ وأحْكَمَ. وأصّلَ الأصولَ ومهّدَ. وأكّدَ الوعودَ وأوْعَدَ. واصَلَ اللهُ لهُ الإكْرامَ. وأوْدَعَ روحَهُ دارَ السّلامِ. ورَحِمَ آلَهُ وأهْلَهُ الكِرامَ. ما لمَعَ آلٌ. وملَعَ رالٌ. وطلَعَ هِلالٌ. وسُمِعَ إهلالٌ. إعْمَلوا رعاكُمُ اللهُ أصلَحَ الأعْمالِ. واسْلُكوا مسالِكَ الحلالِ. واطّرِحوا الحَرامَ ودعوهُ. واسْمَعوا أمرَ اللهِ وعُوهُ. وصِلوا الأرْحامَ وراعوها. وعاصوا الأهْواءَ وارْدَعوها. وصاهِروا لُحَمَ الصّلاحِ والوَرَعِ. وصارِموا رهْطَ اللّهْوِ والطّمَعِ. ومُصاهِرُكُمْ أطْهَرُ الأحْرارِ مولِداً. وأسْراهُمْ سودَداً. وأحْلاهُمْ مَوْرِداً. وأصحّهم موْعِداً. وها هُوَ أَمّكُمْ. وحلّ حرَمكُمْ. مُمْلِكاً عَروسَكُمُ المُكرّمةَ. وماهِراً لها كما مهَرَ الرّسولُ أمَّ سلمَةَ. وهوَ أكْرَمُ صِهْرٍ أودِعَ الأوْلادَ. ومُلّكَ مَنْ أرادَ. وما سَها مُمْلِكُهُ ولا وَهِمَ. ولا وَكِسَ مُلاصِمُهُ ولا وُصِمَ. أسْألُ اللهَ لكُمْ إحْمادَ وِصالِهِ ودَوامَ إسْعادِهِ. وألْهَمَ كُلاً إصْلاحَ حالِهِ والإعْدادَ لمَعادِهِ. ولهُ الحمْدُ السّرمَدُ. والمدْحُ لرَسولِهِ محمّدٍ. فلمّا فرَغَ منْ خُطبَتِه البَديعةِ النّظامِ. العَريّةِ منَ الإعْجامِ. عقَدَ العقْدَ على الخمْسِ المِئِينَ. وقال لي: بالرِّفاء والبَنينَ. ثمّ أحضرَ الحَلْواءَ التي كانَ أعدّها. وأبْدى الآبِدَةَ عندَها. فأقبلْتُ إقْبالَ الجماعَةِ علَيْها. وكِدْتُ أهوي بيَدي إلَيْها. فزجَرَني عنِ المؤاكَلَةِ. وأنْهَضَني للمُناوَلَةِ. فوَاللهِ ما كان بأسرَعَ منْ تصافُحِ الأجْفانِ. حتى خرّ القوْمُ للأذْقان. فلمّا رأيتُهُمْ كأعْجازِ نخْلٍ خاوِيَةٍ. أو كصَرْعى بنتِ خابيَةٍ. علِمْتُ أنّها لإحْدى الكُبَرِ. وأمُّ العِبَرِ. فقلتُ له: يا عُدَيّ نفْسِهِ. وعُبَيْدَ فَلْسِهِ! أعددتَ للقَوْمِ حُلْوى. أم بَلْوى? فقال: لمْ أعْدُ خَبيصَ البَنْجِ. في صِحافِ الخلَنْج! فقلتُ: أُقسِمُ بمَنْ أطْلَعَه زُهْراً. وهَدَى بها السّارينَ طُرّاً. لقدْ جِئْتَ شيئاً نُكْراً. وأبقَيْتَ لكَ في المُخزِياتِ ذِكْراً. ثمّ حِرْتُ فِكرةً في صَيّورِ أمِهِ. وخيفَةً منْ عدْوى عرّهِ. حتى طارَتْ نفسي شَعاعاً. وأُرعِدَتْ فَرائِصي ارْتِياعاً. فلمّا رأى استِطارَةَ فرَقي. واسْتِشاطَةَ قلَقي. قال: ما هَذا الفِكْرُ المُرْمِضُ. والرّوْعُ المومِضُ? فإنْ يكُنْ فِكرُك في أجْلي. منْ أجْلي. فأنا الآنَ أرتَعُ وأطْفِرُ. وأقوِي هذِهِ البُقْعَةَ مني وأُقفِرُ. وكمْ مثلِها فارَقْتُها وهيَ تصفِرُ. وإنْ يكُنْ نظَراً لنفْسِكَ. وحذَراً منْ حبسِكَ. فتناوَلْ فُضالَةَ الخَبيصِ. وطِبْ نفْسً عنِ القَميصِ. حتى تأمَنَ المُستَعديَ والمُعْديَ. ويتمهّدَ لكَ المُقامُ بعْدي. وإلا فالمفَرَّ المفَرَّ. قبْلَ أن تُسْحَبَ وتُجَرَّ. ثمّ عمَدَ لاستِخْراجِ ما في البيوتِ. منَ الأكْياسِ والتّخوتِ. وجعلَ يستَخْلِصُ خالِصَةَ كلّ مخزونٍ. ونُخبَةَ كلّ مَذْروعٍ وموزونٍ. حتى غادرَ ما ألْغاهُ فخُّهُ. كعظْمٍ استُخرِجَ مُخُّهُ. فلمّا همّنَ ما اصْطَفاهُ ورزَمَ. وشمّرَ عنْ ذِراعَيْهِ وتحزّمَ. أقبَلَ عليّ إقْبالَ منْ لبِسَ الصّفاقَةَ. وخلَعَ الصّداقَةَ. وقال: هلْ لكَ في المُصاحبَةِ الى البَطيحَةِ. لأزوّجَكَ بأخْرى مَليحَةٍ? فأقْسَمْتُ لهُ بالذي جعلَهُ مُبارَكاً أيْنَما كان. ولمْ يجْعَلْهُ ممّنْ خانَ في خانٍ. إنهُ لا قِبَلَ لي بنِكاحِ حُرّتَينِ. ومُعاشَرَةِ ضَرّتَينِ. ثمّ قلتُ لهُ قوْلَ المتطبّعِ بطِباعِهِ. الكائِلِ لهُ بصاعِهِ: قدْ كفَتْني الأولى فخْراً. فاطْلُبْ آخرَ للأخْرى. فتبسّمَ منْ كلامي. ودلَفَ لالْتِزامي. فلوَيْتُ عنهُ عِذاري. وأبدَيْتُ لهُ ازْوِراري. فلمّا بصُرَ بانقِباضي. وتجلّى لهُ إعْراضي. أنشدَ:حَبَ وتُجَرَّ. ثمّ عمَدَ لاستِخْراجِ ما في البيوتِ. منَ الأكْياسِ والتّخوتِ. وجعلَ يستَخْلِصُ خالِصَةَ كلّ مخزونٍ. ونُخبَةَ كلّ مَذْروعٍ وموزونٍ. حتى غادرَ ما ألْغاهُ فخُّهُ. كعظْمٍ استُخرِجَ مُخُّهُ. فلمّا همّنَ ما اصْطَفاهُ ورزَمَ. وشمّرَ عنْ ذِراعَيْهِ وتحزّمَ. أقبَلَ عليّ إقْبالَ منْ لبِسَ الصّفاقَةَ. وخلَعَ الصّداقَةَ. وقال: هلْ لكَ في المُصاحبَةِ الى البَطيحَةِ. لأزوّجَكَ بأخْرى مَليحَةٍ? فأقْسَمْتُ لهُ بالذي جعلَهُ مُبارَكاً أيْنَما كان. ولمْ يجْعَلْهُ ممّنْ خانَ في خانٍ. إنهُ لا قِبَلَ لي بنِكاحِ حُرّتَينِ. ومُعاشَرَةِ ضَرّتَينِ. ثمّ قلتُ لهُ قوْلَ المتطبّعِ بطِباعِهِ. الكائِلِ لهُ بصاعِهِ: قدْ كفَتْني الأولى فخْراً. فاطْلُبْ آخرَ للأخْرى. فتبسّمَ منْ كلامي. ودلَفَ لالْتِزامي. فلوَيْتُ عنهُ عِذاري. وأبدَيْتُ لهُ ازْوِراري. فلمّا بصُرَ بانقِباضي. وتجلّى لهُ إعْراضي. أنشدَ:
يا صارِفاً عـنّـي الـمـو

دّةَ والزّمانَ لـهُ صُـروفْ
ومُعنّفي في فـضْـحِ مـنْ

جاورْتُ تعْنيفَ العَسـوفْ
لا تلْحِـنـي فـيمـا أتـيْ

تُ فإنّني بـهـمِ عَـروفْ
ولقدْ نزلْـتُ بـهـمْ فـلـمْ

أرَهُم يُراعونَ الـضّـيوفْ
وبلَوْتُـهُـمْ فـوجـدْتُـهُـمْ

لمّا سـبَـكْـتُـهُـمُ زُيوفْ
ما فـيهِـمِ إلا مُـخـــي

فٌ إنْ تمكّنَ أو مَـخـوفْ
لا بالصّفـيّ ولا الـوَفـيّ

ولا الحَفيّ ولا العَـطـوفْ
فوثبْـتُ فـيهـمْ وثْـبَة ال

ذئبِ الضّريّ على الخَروفْ
وتركتُهُمْ صرْعـى كـأنـه

مْ سُقوا كأسَ الـحُـتـوفْ
وتحكّمَتْ في ما اقْـتَـنـوْ

هُ يَدي وهُمْ رُغْمُ الأنـوفْ
ثمّ انْـثَـنَـيْتُ بـمَـغْـنَـمٍ

حُلْوِ المَجاني والقُـطـوفْ
ولَطالَمـا خـلّـفْـتُ مـكْ

لومَ الحشى خلْفي يطـوفْ
ووَتَـرْتُ أرْبـــابَ الأرا

ئِكِ والدّرانِكِ والسّـجـوفْ
ولَكَمْ بلغْـتُ بـحـيلَـتـي

ما ليسَ يُبلَغُ بـالـسّـيوفْ
ووَقفْـتُ فـي هـوْلٍ تُـرا

عُ الأُسْدُ فيهِ منَ الوقـوفْ
ولكَمْ سفكتُ وكمْ فـتـكْـتُ

وكمْ هتكْتُ حِمـى أَنـوفْ
وكَمِ ارْتِـكـاضٍ مـوبِـقٍ

لي في الذّنوبِ وكم خُفوفْ
لكـنّـنـي أعـدَدْتُ حُـسْ

نَ الظّنّ بالمَوْلى الـرّؤوفْ
قال: فلمّا انتهى الى هذا البيتِ لجّ في الاستِعْبارِ. وألَظَّ بالاستِغْفارِ. حتى اسْتَمالَ هوَى قلْبي المُنحرِفِ. ورجَوْتُ لهُ ما يُرْجى للمُقْتَرِفِ المُعْتَرِفِ. ثمّ إنّهُ غيّضَ دمْعَهُ المُنْهَلّ. وتأبّطَ جِرابَهُ وانْسَلّ. وقال لابنِهِ: احتَمِلِ الباقي. واللهُ الواقي. قال المُخْبِرُ بهذِه الحِكاية: فلمّا رأيتُ انْسِيابَ الحيّةِ والحُيَيّةِ. وانتِهاءَ الدّاء الى الكَيّةِ. علِمْتُ أن ترَبُّثي بالخانِ. مَجْلَبَةٌ للهَوانِ. فضمَمْتُ رُحَيْلي. وجمَعْتُ للرّحلَةِ ذَيْلي. وبِتُّ ليْلَتي أسْري الى الطّيبِ. وأحتَسِبُ اللهَ على الخَطيبِ.
المقامة الصّوريّة
حكى الحارثُ بنُ همّام قال: ارْتَحلْتُ من مدينةِ المنصورِ. الى بلدَةِ صورٍ. فلمّا حصلْتُ به ذا رِفعَةٍ وخفْضٍ. ومالِكَ رفْعٍ وخفضٍ. تُقْتُ الى مِصْرَ توَقانَ السّقيمِ الى الأُساةِ. والكريمِ الى المؤاساةِ. فرفَضْتُ علائِقَ الاستِقامَةِ. ونفَضْتُ عوائِقَ الإقامةِ. واعْرَوْرَيْتُ ظَهْرَ ابنِ النّعامَةِ. وأجفَلْتُ نحوَها إجْفالَ النّعامَةِ. فلمّا دخلْتُه بعدَ مُعاناةِ الأينِ. ومُداناةِ الحَيْنِ. كلِفْتُ به كلَفَ لنّشْوانِ بالاصْطِباحِ. والحَيَرانِ بتنفُّسِ الصّباحِ. فبَينَما أنا يوْمً به أطوفُ. وتحْتي فرسٌ قَطوفٌ. إذ رأيتُ على جُرْدٍ منَ الخيْلِ. عُصبَةً كمَصابيحِ الليْلِ. فسألْتُ لانتِجاعِ النّزْهَةِ. عنِ العُصبَةِ والوِجهَةِ. فقيلَ: أما القومُ فشُهودٌ. وأمّا المقْصِدُ فإمْلاكٌ مشهودٌ. فحدَتْني مَيعَةُ النّشاطِ. على أنْ سِرْتُ معَ الفُرّاطِ. لأفوز بحلاوَةِ اللُّقَاطِ. وأحوزَ حَلْواءَ السِّماطِ. فأفْضيْنا بعدَ مُكابدَةِ العَناء. الى دارٍ رفيعَةِ البِناء. وسيعَةِ الفِناء. تشهَدُ لِبانيها بالثّراء والسّناء. فلمّا نزلْنا عنْ صهَواتِ الخُيولِ. وقدّمنا الأقْدامَ للدّخولِ. رأيتُ دِهْليزَها مُجَلّلاً بأطْمارٍ مُخرّقةٍ. ومُكلّلاً بمخارِفَ معلّقَةٍ. وهناكَ شخصٌ على قَطيفَةٍ. فوقَ دَكّةٍ لَطيفَةٍ. فرابني عُنوانُ الصّحيفةِ. ومرْأى هذِه الطّريفَةِ. ودعاني التّطيّرُ بتِلْكَ المناحِسِ. الى أن عمَدْتُ لذَلِكَ الجالِسِ. فعزَمْتُ عليْهِ بمُصَرِّفِ الأقدارِ. ليُعَرّفَني مَنْ رَبُّ هذهِ الدّارِ. فقال: ليسَ لها مالِكٌ معيَّنٌ. ولا صاحِبٌ مُبيَّنٌ. إنّما هيَ مَصطَبَةُ المُقيِّفينَ والمدَرْوِزينَ. ووَليجَةُ المُشَقشِقينَ والُجَلْوِزينَ. فقلتُ في نفسي: إنّا للهِ على ضِلّةِ المسْعى. وإمْحالِ المرْعى. وهمَمْتُ في الحالِ بالرُّجْعى. لكنّي استَهْجَنتُ العَوْدَ منْ فوْري. والقهْقَرَةَ دونَ غيري. فوَلجْتُ الدّارَ متجرِّعاً الغُصَصَ. كما يلِجُ العُصفورُ القفَصَ. فإذا فيه أرائِكُ منقوشَةٌ. وقد أقبَلَ المُمْلِكُ يَميسُ في بُردتِهِ. ويتَبَهْنَسُ بين حفَدَتِهِ. فحين جلَسَ كأنّهُ ابنُ ماء السّماء. نادى مُنادٍ منْ قِبَلِ الأحْماء: وحُرْمَةِ ساسانَ أُستاذِ الأستاذينَ. وقدوةِ الشّحاذينَ. لا عقَدَ هذا العقْدَ المُبجَّلَ. في هذا اليوم الأغرّ المحجَّلِ. إلا الذي جالَ وجابَ. وشبّ في الكُدْيَةِ وشابَ! فأعْجَبَ رهْطَ الصِّهْرِ ما أشاروا إليْهِ. وأذِنوا في إحْضارِ المنصوصِ عليْهِ. فبرزَ حينئذٍ شيخٌ قد أمالَ الملَوانِ قامتَهُ. ونوّرَ الفَتَيانِ ثَغامتَهُ. فتباشرَتِ الجماعةُ بإقْبالِهِ. وتبادَرَتْ الى استِقبالِهِ. فلمّا جلَس على زُرْبِيّتِهِ. وسكنتِ الضّوْضاءُ لهيبَتِهِ. ازْدَلَفَ الى مسْنَدِهِ. ومسحَ سَبلَتَهُ بيَدهِ. ثمّ قال: الحمدُ للهِ المُبتَدِئِ بالإفْضالِ. المُبتَدِعِ للنّوالِ. المقرَّبِ إليْهِ بالسّؤالِ. المؤمَّلِ لتحقيقِ الآمالِ. الذي شرعَ الزّكاةَ في الأموال. وزجَرَ عنْ نهْرِ السؤالِ وندَبَ الى مواساةِ المُضطَرّ. وأمرَ بإطْعامِ القانِعِ والمعْتَرّ. ووصَفَ عِبادَهُ المقرَّبينَ. في كِتابِهِ المُبينِ. فقال وهوَ أصدَقُ القائلينَ: والذين في أموالِهِمْ حقٌّ معلومٌ. للسائِلِ والحرومِ. أحمَدُهُ على ما رزَقَ منْ طُعمَةٍ هنيّةٍ. وأعوذُ بهِ منِ استِماعِ دعوَةٍ بلا نِيّةٍ. وأشهدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ إلهاً يَجزي المتصدّقينَ والمُتصَدّقاتِ. ويمحَقُ الرّبا ويُرْبي الصّدَقاتِ. وأشهَدُ أنّ محمّداً عبدُهُ الرّحيمُ. ورسولُهُ الكريمُ. ابتَعَثَهُ ليَنسخَ الظُلمَةَ بالضّياء. وينتَصِفَ للفُقراء منَ الأغنياء. فرَفَقَ، صلى اللهُ عليهِ وسلّم، بالمِسْكينِ. وخفَضَ جَناحَهُ للمُستَكينِ. وفرضَ الحُقوقَ في أموالِ المُثْرينَ. وبيّنَ ما يجِبُ للمُقلّينَ على المُكثِرينَ. صلّى اللهُ عليْهِ صَلاةً تُحْظيهِ بالزُّلْفَةِ. وعلى أصفِيائِه أهلِ الصُّفّةِ. أما بعْدُ فإنّ اللهَ تعالى شرعَ النكاحَ لتَتَعفّفوا. وسنّ التّناسُلَ لكيْ تتضاعفوا. فقال سُبحانَهُ لتَعرِفوا: يا أيّها الناسُ إنّا خلَقْناكُمْ من ذكَرٍ وأنثى وجعلْناكُمْ شُعوباً وقَبائِلَ لتَعارَفوا. وهذا أبو الدّرّاجِ. ولاّجُ بنُ خرّاجٍ. ذو الوَجْهِ الوَقاحِ. والإفْكِ الصُّراحِ. والهَريرِ والصّياحِ. والإبْرام والإلْحاحِ. يخطُبُ سَليطَةَ أهلِها. وشَريطَةَ بعلِه. قَنْبَسَ. بِنْتَ أبي العَنْبَسِ. لِما بلغَهُ منِ التِحافِها. بإلْحافِها. وإسْرافه. في إسْفافِها. وانْكِماشِها. على مَعاشِها. وانتِعاشِها. عندَ هِراشِها. وقد بذلَ لها منَ الصَّداقِ شَلاّقاً وعُكّازاً. وصِقاعاً وكزّازاً. فأنْكِحوهُ إنْكاحَ مثلِهِ. وصِلوا حبْلَكُمْ بحَبْلِهِ. وإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فسوفَ يُغْنيكُمُ اللهُ منْ فضْلِهِ. أقولُ قوْلي وأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُمْ. وأسألُهُ أن يُكثِرَ في المَصاطِبِ نسْلَكُمْ. ويحْرُسَ منَ المَعاطِبِ شمْلَكُمْ. فلمّا فرَغَ الشيخُ منْ خُطبَتِهِ. وأبْرَمَ للختَنِ عقْدَ خِطبَتِهِ. تساقَطَ منَ النِّثارِ. ما استَغْرَقَ حدَّ الإكْثارِ. وأغْرى الشّحيحَ بالإيثارِ. ثمّ نهَضَ الشيخُ يسحَبُ ذَلاذِلَهُ. ويَقْدُمُ أراذِلَهُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فتبِعْتُهُ لأنظُرَ عُرْجَةَ القوْم. وأُكمِلَ بهْجةَ اليومِ. فعاجَ بهِمْ الى سِماطٍ زيّنَتْهُ طُهاتُهُ. وتناصَفَتْ في الحُسْنِ جِهاتُهُ. فحينَ ربعَ كُلُّ شخْصٍ في رِبْضَتِهِ. وطفِقَ يرتَعُ في روضَتِهِ. انسلَلْتُ منَ الصّفّ. وفررْتُ منَ الزّحْفِ. فحانَتْ منَ الشيخِ لَفتَةٌ إليّ. ونظرَةٌ هجَم به طرْفُهُ عليّ. فقال: الى أينَ يا بُرَمُ. هلاّ عاشَرْتَ مُعاشرَةَ مَن فيهِ كرمٌ? فقلت: والذي خلقَها طِباقاً. وطبّقها إشْراقاً. لا ذُقتُ لَماقاً. ولا لُسْتُ رُقاقاً. أو تُخبِرَني أين مدَبُّ صِباكَ. ومِنْ أينَ مهَبُّ صَباكَ? فتنفّسَ الصُعداءَ مِراراً. وأرسَلَ البُكاءَ مِدْراراً. حتى إذا استَنْزَفَ الدّمْعَ. استَنْصَتَ الجمْعَ. وقال لي: أرْعِني السّمْعَ:الوَجْهِ الوَقاحِ. والإفْكِ الصُّراحِ. والهَريرِ والصّياحِ. والإبْرام والإلْحاحِ. يخطُبُ سَليطَةَ أهلِها. وشَريطَةَ بعلِه. قَنْبَسَ. بِنْتَ أبي العَنْبَسِ. لِما بلغَهُ منِ التِحافِها. بإلْحافِها. وإسْرافه. في إسْفافِها. وانْكِماشِها. على مَعاشِها. وانتِعاشِها. عندَ هِراشِها. وقد بذلَ لها منَ الصَّداقِ شَلاّقاً وعُكّازاً. وصِقاعاً وكزّازاً. فأنْكِحوهُ إنْكاحَ مثلِهِ. وصِلوا حبْلَكُمْ بحَبْلِهِ. وإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فسوفَ يُغْنيكُمُ اللهُ منْ فضْلِهِ. أقولُ قوْلي وأستَغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُمْ. وأسألُهُ أن يُكثِرَ في المَصاطِبِ نسْلَكُمْ. ويحْرُسَ منَ المَعاطِبِ شمْلَكُمْ. فلمّا فرَغَ الشيخُ منْ خُطبَتِهِ. وأبْرَمَ للختَنِ عقْدَ خِطبَتِهِ. تساقَطَ منَ النِّثارِ. ما استَغْرَقَ حدَّ الإكْثارِ. وأغْرى الشّحيحَ بالإيثارِ. ثمّ نهَضَ الشيخُ يسحَبُ ذَلاذِلَهُ. ويَقْدُمُ أراذِلَهُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فتبِعْتُهُ لأنظُرَ عُرْجَةَ القوْم. وأُكمِلَ بهْجةَ اليومِ. فعاجَ بهِمْ الى سِماطٍ زيّنَتْهُ طُهاتُهُ. وتناصَفَتْ في الحُسْنِ جِهاتُهُ. فحينَ ربعَ كُلُّ شخْصٍ في رِبْضَتِهِ. وطفِقَ يرتَعُ في روضَتِهِ. انسلَلْتُ منَ الصّفّ. وفررْتُ منَ الزّحْفِ. فحانَتْ منَ الشيخِ لَفتَةٌ إليّ. ونظرَةٌ هجَم به طرْفُهُ عليّ. فقال: الى أينَ يا بُرَمُ. هلاّ عاشَرْتَ مُعاشرَةَ مَن فيهِ كرمٌ? فقلت: والذي خلقَها طِباقاً. وطبّقها إشْراقاً. لا ذُقتُ لَماقاً. ولا لُسْتُ رُقاقاً. أو تُخبِرَني أين مدَبُّ صِباكَ. ومِنْ أينَ مهَبُّ صَباكَ? فتنفّسَ الصُعداءَ مِراراً. وأرسَلَ البُكاءَ مِدْراراً. حتى إذا استَنْزَفَ الدّمْعَ. استَنْصَتَ الجمْعَ. وقال لي: أرْعِني السّمْعَ:
مَسقَطُ الرّأسِ سَروجُ

وبها كنـتُ أمـوجُ
بلدَةٌ يوجَـدُ فـيهـا

كُلُّ شـيءٍ ويَروجُ
ورِدْها منْ سَلسَبـيلٍ

وصحارِيها مُـروجُ
وبَنوها ومَـغـانـي

هِمْ نُجـومٌ وبُـروجُ
حبّـذا نـفْـحَةُ ريّا

ها ومَرآها البَهـيجُ
وأزاهـيرُ رُبـاهـا

حينَ تنْجابُ الثّلـوجُ
منْ رآها قال مرْسى

جنّةِ الدّنْيا سَـروجُ
ولمَنْ ينْزاحُ عنـهـا

زفَـراتٌ ونـشـيجُ
مثلُ ما لاقَيتُ مُذْ زَحْ

زَحَني عنْها العُلوجُ
عَبرَةٌ تهْمي وشـجْـوٌ

كلّـمـا قَـرّ يَهـيجُ
وهُـمـومٌ كُــلَّ يومٍ

خطْبُها خطْبٌ مَـريجُ
ومساعٍ في التّـرَجّـي

قاصِراتُ الخَطْوِ عوجُ
ليتَ يومي حُـمَّ لـمّـا

حُمّ لي منْها الخُـروجُ
قال: فلمّا بيّن بلَدَهُ. ووعَيْتُ ما أنشدَهُ. أيقَنْتُ أنهُ علاّمَتُنا أبو زيدٍ. وإنْ كان الهرَمُ قد أوثَقَهُ بقَيدٍ. فبادَرْتُ الى مُصافحَتِهِ. واغْتَنَمْتُ مؤاكَلَتَهُ منْ صحْفَتِهِ. وظَلْتُ مدّةَ مَقاميَ بمِصْرَ أعْشو الى شُواظِهِ. وأحْشو صدَفَتَيّ منْ دُرَرِ ألْفاظِهِ. الى أنْ نعَبَ بينَنا غُرابُ البَينِ. ففارَقْتُهُ مُفارقَةَ الجفْنِ للعَينِ.
المقامة الرّمْليّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: كنتُ في عُنفُوانِ الشّبابِ. ورَيْعانِ العيْشِ اللُّبابِ. أقْلي الاكتِنانَ بالغابِ. وأهْوى الانْدِلاقَ منَ القِرابِ. لعِلْمي أنّ السّفَرَ ينفِجُ السُّفَرَ. ويُنتِجُ الظّفَرَ. ومُعاقَرَةَ الوطَنِ. تَعْقِرُ الفِطَنَ. وتحْقِرُ مَنْ قطَنَ. فأجَلْتُ قِداحَ الاستِشارَةِ. واقْتدَحْتُ زِنادَ الاستِخارَةِ. ثمّ استجَشْتُ جأشاً أثْبَتَ منَ الحِجارَةِ. وأصْعَدْتُ الى ساحِلِ الشّامِ للتّجارَةِ. فلمّا خيّمتُ بالرّملَةِ. وألقَيتُ بها عَصا الرّحلَةِ. صادَفْتُ بها رِكاباً تُعَدّ للسُّرى. ورِحالاً تُشَدّ الى أمّ القُرى. فعصَفَتْ بي ريحُ الغَرامِ. واهْتاجَ لي شَوْقٌ الى البيتِ الحَرامِ. فزمَمْتُ ناقَتي. ونبذْتُ عُلَقي وعَلاقَتي.
وقلتُ للائِمي أقصِرْ فـإنّـي

سأخْتارُ المَقامَ على المُقـامِ
وأُنفِقُ ما جمَعتُ بأرضِ جمْعٍ

وأسْلو بالحَطيمِ عنِ الحُطـامِ
ثم انتَظَمْتُ معَ رُفقَةٍ كنجومِ اللّيلِ. لهُمْ في السيرِ جِرْيَةُ السّيلِ. والى الخيرِ جرْيُ الخَيلِ. فلمْ نزَلْ بينَ إدْلاجٍ وتأوِيبٍ. وإيجافٍ وتقْريبٍ. الى أنْ حبَتْنا أيْدي المَطايا بالتُّحْفَةِ. في إيصالِنا الى الجُحْفَةِ. فحلَلْناها متأهّبينَ للإحْرامِ. مُتباشِرِينَ بإدْراكِ المَرامِ. فلمْ يكُ إلا أنْ أنَخْنا بها الرّكائِبَ. وحطَطْنا الحقائِبَ. حتى طلعَ عليْنا منْ بينِ الهِضابِ. شخْصٌ ضاحي الإهابِ. وهوَ يُنادي: يا أهْلَ ذا النّادي. هلُمّ الى ما يُنْجي يوْمَ التّنادي! فانْخرَطَ إليْهِ الحَجيجُ وانْصلَتوا. واحْتَفّوا بهِ وأنْصَتوا. فلمّا رأى تأثُّفَهُمْ حولَهُ. واستِعْظامَهُمْ قولَهُ. تسَنّمَ إحْدى الإكامِ. ثمّ تنحْنَحَ مُستَفْتِحاً للكلامِ. وقال: يا معْشرَ الحُجّاجِ. النّاسِلينَ منَ الفِجاجِ. أتَعْقِلونَ ما تُواجِهونَ. والى منْ تتوجّهونَ? أم تدرونَ على مَنْ تَقْدَمونَ. وعلامَ تُقدِمونَ? أتَخالونَ أنّ الحجّ هوَ اختِيارُ الرّواحلِ. وقطْعُ المراحِلِ. واتّخاذُ المَحامِلِ. وإيقارُ الزّوامِلِ? أم تظنّونَ أنّ النُسْكَ هوَ نَضْوُ الأرْدانِ. وإنْضاءُ الأبْدانِ. ومُفارقَةُ الوِلْدانِ. والتّنائي عنِ البُلْدانِ? كلاّ واللهِ بل هوَ اجتِنابُ الخَطيّةِ. قبلَ اجْتِلابِ المطيّةِ. وإخلاصُ النّيّةِ. في قصْدِ تلكَ البَنِيّةِ. وإمْحاضُ الطّاعةِ. عندَ وُجْدانِ الاستِطاعَةِ. وإصْلاحُ المُعامَلاتِ. أمام إعْمالِ اليَعْمَلاتِ. فوالذي شرَعَ المَناسِكَ للنّاسِكِ. وأرشَدَ السّالِكَ في اللّيلِ الحالِكِ. ما يُنْقي الاغتِسالُ بالذَّنوبِ. منَ الانغِماسِ في الذُّنوبِ! ولا تعدِلُ تعرِيَةُ الأجْسامِ. بتَعْبِيَةِ الأجْرام. ولا تُغْني لِبْسَةُ الإحْرامِ. عنِ المتلبِّسِ بالحَرامِ. ولا ينفَعُ الاضْطِباعُ بالإزارِ. معَ الاضْطِلاعِ بالأوْزارِ. ولا يُجْدي التّقرّبُ بالحَلْقِ. مع التّقلّبِ في ظُلْمِ الخلْقِ. ولا يَرْحَضُ التّنسّكُ في التّقصيرِ. درَنَ التّمسّكِ بالتّقصيرِ. ولا يَسعَدُ بعَرَفَةَ. غيرُ أهلِ المعرِفَةِ. ولا يزْكو بالخَيْفِ. منْ يرغَبُ في الحَيْفِ. ولا يشْهَدُ المَقامَ. إلا منِ استَقامَ. ولا يَحْظى بقَبولِ الحِجّةِ. منْ زاغَ عنِ المحَجّةِ. فرحِمَ اللهُ امْرأً صَفا. قبلَ مسْعاهُ الى الصّفا. وورَدَ شَريعةَ الرّضى. قبلَ شُروعِهِ على الأضا. ونزعَ عنْ تَلْبيسِهِ. قبلَ نزْعِ مَلبوسِهِ. وفاضَ بمعْروفِهِ. قبلَ الإفاضَةِ منْ تعريفِهِ. ثمّ رفعَ عَقيرَتَهُ بصوتٍ أسْمَعَ الصُمَّ. وكادَ يُزعزِعُ الجِبالَ الشُمَّ. وأنشدَ:
ما الحَـجُّ سـيرُكَ تـأويبـاً وإدْلاجـا

ولا اعْتِيامُـكَ أجْـمـالاً وأحـداجـا
ألحَجُّ أن تقصِدَ البيتَ الحـرامَ عـلـى

تجْريدِكَ الحَجّ لا تقْضي بـه حـاجـا
وتمْتَطي كاهِلَ الإنْصـافِ مـتّـخـذاً

ردعَ الهَوى هادِياً والحَقَّ مِنْـهـاجـا
وأنْ تُؤاسـيَ مـا أوتـيتَ مَـقـدُرَةً

مَنْ مدّ كفّاً الى جدْواكَ مُـحْـتـاجـا
فهَذهِ إنْ حوَتْـهـا حِـجّةٌ كـمُـلَـتْ

وإنْ خَلا الحجُّ منها كـان إخـداجـا
حسْبُ المُرائينَ غَبْناً أنهُـمْ غـرَسـوا

وما جنَوا ولَـقـوا كـدّاً وإزْعـاجـا
وأنّهُمْ حُـرِمـوا أجْـراً ومَـحْـمَـدَةً

وألحَموا عِرضَهم من عابَ أوْ هاجى
أُخَيَّ فابْغِ بمـا تُـبـدِيهِ مـنْ قُـرَبٍ

وجْهَ المُهَـيمِـنِ ولاّجـاً وخـرّاجـا
فلَيسَ تخْفَى على الرّحمَـنِ خـافِـيَةٌ

إنْ أخلَصَ العبدُ في الطاعاتِ أو داجى
وبادِرِ الموْتَ بالحُسْنـى تُـقـدّمُـهـا

فما يُنَهْنَهُ داعي المـوتِ إن فـاجـا
واقْنَ التّواضُعَ خُـلْـقـاً لا تُـزايِلُـهُ

عنكَ اللّيالي ولوْ ألْبَسنَـكَ الـتّـاجـا
ولا تَـشِـمْ كـلَّ خـالٍ لاحَ بـارِقُـهُ

ولوْ تَراءى هَتونَ السّكْبِ ثـجّـاجـا
ما كُـلّ داعٍ بـأهـلٍ أن يُصـاخَ لـهُ

كم قد أصَمّ بنَعيٍ بعضُ منْ نـاجـى
وما اللّبيبُ سوى مَنْ باتَ مُقتنعاً

ببُلْـغَةٍ تُـدرِجُ الأيّامَ إدْراجـا

فكلُّ كُثْرٍ الى قُلٍّ مَـغـبّـتُـهُ

وكلّ نازٍ الى لينٍ وإنْ هاجـا

قال الرّاوي: فلمّا ألْقَحَ عُقْمَ ا لأفْهامِ. بسِحْرِ الكَلامِ. استَروَحْتُ ريحَ أبي زيدٍ. ومادَ بيَ الارْتِياحُ إليْهِ أيَّ ميْدٍ. فمكثْتُ حتى استوْعَبَ نثَّ حِكمَتِهِ. وانحدَرَ منْ أكمَتِهِ. ثمّ دلَفْتُ إليْهِ لأتصفّحَ صفَحاتِ مُحيّاهُ. واستشِفّ جوهَرَ حِلاهُ. فإذا هوَ الضّالّةُ التي أنشُدُها. وناظِمُ القَلائِدِ اللاتي أنشدَها. فعانَقْتُهُ عِناقَ اللامِ للألِفِ. ونزّلتُهُ منزِلَةَ البُرْء عندَ الدّنِفِ. وسألتُهُ أن يُلازِمَني فأبى. أو يُزامِلَني فنَبا. وقال: آلَيتُ في حِجّتي هذِهِ أن لا أحْتَقِبَ ولا أعتَقِبَ. ولا أكتَسِبَ ولا أنتَسِبَ. ولا أرتَفِقَ. ولا أُرافِقَ. ولا أُوافِقَ منْ يُنافِقُ. ثمّ ذهبَ يهرْوِلُ. وغادرَني أوَلوِلُ. فلمْ أزَلْ أقْريهِ نظَري. وأوَدُّ لوْ يمشي على ناظِري. حتى توقّلَ أحدَ الأطْوادِ. ووقفَ للَجيجِ بالمِرْصادِ. فلمّا شاهدَ إيضاعَ الرُكْبانِ. في الكُثْبانِ. وقّعَ بالبَنانِ على البَنانِ. واندفَعَ يُنشِدُ:
ليسَ منْ زارَ راكِبـاً

مثلَ ساعٍ على القـدَمْ
لا ولا خـادِمٌ أطــا

عَ كعاصٍ منَ الخدَمْ
كيفَ يا قوْمِ يسْتَـوي

سعْيُ بانٍ ومَنْ هـدمْ
سيُقيمُ المُـفَـرِّطـو

نَ غداً مأتَمَ الـنّـدَمْ
ويقولُ الـذي تـقـرّ

بَ طوبَى لمنْ خـدَمْ
ويْكِ يا نفْسُ قـدّمـي

صالحاً عندَ ذي القِدَمْ
وازْدَري زُخْرُفَ الحيا

ةِ فوُجْـدانُـهُ عـدَمْ
واذْكُري مصْرعَ الحِما

مِ إذا خطْبُـهُ صـدَمْ
وانْدُبي فعْلَكِ القَـبـي

حَ وسُحّي لـهُ بـدَمْ
وادْبُـغـيهِ بـتـوْبَةٍ

قبلَ أن يحْـلَـمَ الأدَمْ
فعسى اللـهُ أنْ يقـي

كِ السّعيرَ الذي احتدَمْ
يومَ لا عثْـرَةٌ تُـقـا

لُ ولا ينفعُ الـسّـدَمْ
ثمّ إنّهُ أغمضَ عضْبَ لِسانِهِ. وانطلَقَ لِشانِهِ. فما زِلْتُ في كلّ موْرِدٍ نرِدُهُ. ومعَرَّسٍ نتوسّدُهُ. أتفقّدُهُ فأفْقِدُهُ. وأستَنْجِدُ بمَنْ يَنشُدُهُ فلا يجِدُهُ. حتى خِلتُ أنّ الجِنّ اختَطفَتْهُ. أوِ الأرضَ اقتطَفَتْهُ. فما كابَدْتُ في الغُربَة. كهذهِ الكُربَةِ. ولا مُنِيتُ في سَفْرَةٍ. بمِثلِها منْ زفْرَةٍ.
المقامة الطّيْبيّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أجمَعْتُ حينَ قضَيْتُ مناسِكَ الحجّ. وأقَمْتُ وظائِفَ العجّ والثّجّ. أنْ أقصِدَ طَيْبَةَ. مع رُفقَةٍ منْ بَني شَيْبَةَ. لأزورَ قبرَ النّبيّ المُصطَفى. وأخرُجَ منْ قَبيلِ منْ حجّ وجَفا. فأُرْجِفَ بأنّ المسالِكَ شاغِرةٌ. وعرَبَ الحرَمَينِ مُتشاجِرةٌ. فحِرْتُ بين إشْفاقٍ يُشَبّطُني. وأشْواقٍ تُنشّطُني. الى أنْ أُلْقيَ في رَوْعيَ الاستِسْلامُ. وتغلِيبُ زِيارَةِ قبرِهِ عليْهِ السّلامُ. فاعْتَمْتُ القُعْدَةَ. وأعددْتُ العُدّةَ. وسِرْتُ والرُفْقَةَ لا نلْوي على عُرْجةٍ. ولا نَني في تأويبٍ ولا دُلْجةٍ. حتى وافَيْنا بَني حرْبٍ. وقد آبوا منْ حرْبٍ. فأزْمَعْنا أن نُقَضّيَ ظِلَّ اليومِ. في حِلّةِ القومِ. وبينَما نحنُ نتخيّرُ المُناخَ. ونَرودُ الوِرْدَ النُّقاخَ. إذ رأيْناهُمْ يركُضونَ. كأنّهُمْ الى نُصُبٍ يوفِضونَ. فرابَنا انثِيالُهمْ. وسألْنا: ما بالُهُمْ? فقيلَ قد حضرَ ناديَهُمْ فقيهُ العرَبِ. فإهْراعُهُم لهذا السّببِ. فقلتُ لرُفقَتي: ألن نشْهَدُ مَجْمَعَ الحيّ. لنتبيّنَ الرُشْدَ من الغَيّ? فقالوا: لقدْ أسْمَعتَ إذ دعَوْتَ. ونصَحْتَ وما ألَوْتَ. ثمّ نهضْنا نتّبِعُ الهادي. ونؤمّ النّاديَ. حتى إذا أظْلَلْنا عليْهِ. واستَشْرَفْنا الفَقيهَ المَنهودَ إلَيْهِ. ألفَيْتُهُ أبا زيدٍ ذا الشُّقَرِ والبُقَرِ. والفَواقِرِ والفِقَرِ. وقدِ اعْتَمّ القَفْداءَ. واشتمَلَ الصّمّاءَ. وقعدَ القُرْفُصاءَ. وأعْيانُ الحيِّ بهِ مُحتَفّونَ. وأخْلاطُهُمْ عليْهِ مُلتفّونَ. وهو يقول: سَلوني عنِ المُعضِلاتِ. واستَوضِحوا مني المُشكِلاتِ. فوَالذي فطَرَ السّماء. وعلّمَ آدمَ الأسْماء. إني لَفَقيهُ العرَبِ العَرْباء. وأعْلَمُ منْ تحتَ الجرْباء. فصمَدَ لهُ فتًى فَتيقُ اللّسانِ. جرِيّ الجَنانِ. وقال: إني حاضَرْتُ فُقَهاء الدّنيا. حتى انتَخَلْتُ منهُمْ مِئَةَ فُتْيا. فإنْ كنتَ ممّنْ يرغَبُ عنْ بَناتِ غيرٍ. ويرْغَبُ منا في مَيْرٍ. فاستَمِعْ وأجِبْ. لتُقابَلَ بما يجِبُ. فقال: اللهُ أكبرُ. سيَبينُ المَخْبَرُ. وينكَشِفُ المُضمَرُ. فاصْدَعْ بما تؤمَرُ. قال: ما تَقولُ في مَنْ توضّأ ثمّ لمسَ ظَهرَ نعلِهِ? قال: انتَقَضَ وُضوءُهُ بفِعلِهِ. قال: فإنْ توضّأ ثمّ أتْكأهُ البَردُ? قال: يُجَدّدُ الوُضوء منْ بعْدُ. قال: أيَمْسَحُ المتوَضّئ أُنثَيَيْهِ? قال: قد نُدِبَ إليْهِ. ولمْ يوجَبْ علَيْهِ. قال: أيجوزُ الوُضوء ممّا يقْذِفُهُ الثّعبانُ? قال: وهلْ أنْظَفُ منهُ للعُرْبانِ? قال: أيُستَباحُ ماء الضّريرِ? قال: نعَمْ ويُجتنَبُ ماء البَصيرِ. قال: أيَحُلّ التطوّفُ في الرّبيع? قال: يُكْرَه ذاك للحدَثِ الشّنيعِ. قال: أيجِبُ الغُسْلُ على منْ أمْنى? قال: لا ولوْ ثنّى. قال: فهلْ يجِبُ على الجُنُبِ غسْلُ فرْوَتِهِ? قال: أجَلْ وغسْلُ إبْرَتِهِ. قال: أيجبُ عليْهِ غسْلُ صَحيفَتِهِ? قال: نعَمْ كغسْلِ شفتِهِ. قال: فإنْ أخلّ بغسْلِ فأسِهِ? قال: هوَ كما لوْ ألْغَى غسْلَ رأسِهِ. قال: أيجوزُ الغُسلُ في الجِرابِ? قال: هوَ كالغُسلِ في الجِبابِ. قال: فما تقولُ في مَنْ تيمّمَ ثمّ رأى رَوْضاً? قال: بطَلَ تيمُّمُهُ فليَتَوضّا. قال: أيجوزُ أن يسْجُدُ الرّجلُ في العَذِرَةِ? قال: نعمْ ولْيُجانِبِ القَذِرَةَ. قال: فهلْ لهُ السّجودُ على الخِلافِ? قال: لا ولا على أحدِ الأطْرافِ. قال: فإنْ سجَدَ على شِمالِهِ? قال: لا بأسَ بفِعالِهِ. قال: فهلْ يجوزُ السّجودُ على الكُراعِ? قال: نعمْ دونَ الذّراعِ. قال: أيُصلّي على رأسِ الكلْبِ? قال: نعَمْ كسائِرِ الهضْبِ. قال: أيجوزُ للدّارِسِ حمْلُ المصاحِفِ? قال: لا ولا حمْلُها في الملاحِفِ. قال: ما تَقولُ في مَنْ صلّى وعانَتُهُ بارِزَةٌ? قال: صلاتُهُ جائِزَةٌ. قال: فإنْ صلّى وعليْهِ صومٌ? قال: يُعيدُ ولوْ صلّى مائَةَ يومٍ. قال: فإنْ حمَلَ جرْواً وصلّى? قال: هوَ كما لوْ حمَلَ باقِلّى. قال: أتصِحّ صَلاةُ حامِلِ القَرْوَةِ? قال: لا ولوْ صلّى فوقَ المَرْوَةِ. قال: فإنْ قطَرَ على ثوْبِ المُصَلّي نجْوٌ? قال: يمْضي في صَلاتِهِ ولا غَرْوَ. قال: أيَجوزُ أن يؤمّ الرّجالَ مقنّعٌ? قال: نعمْ ويؤمّهُمْ مُدَرَّعٌ. قال: فإنْ أمّهُمْ مَنْ في يدِهِ وقْفٌ? قال: يُعيدونَ ولوْ أنّهُمْ ألفٌ. قال: فإنْ أمّهُمْ منْ فخْذُهُ بادِيَةٌ? قال: صلاتُهُ وصلاتُهُم ماضيَةٌ. قال: فإنْ أمّهُمُ الثّورُ الأجَمُّ? قال: صلِّ وخَلاكَ ذمٌ. قال: أيدخُلُ القصْرُ في صَلاةِ الشاهدِ? قال: لا والغائِبِ الشّاهِدِ. قال: أيَجوزُ للمَعذورِ أن يُفطِرَ في شهرِ رمَضانَ? قال: ما رُخّصَ إلا للصّبْيانِ. قال: فهلْ للمُعَرِّسِ أن يأكُلَ فيه? قال: نعمْ بمِلئ فيهِ. قال: فإنْ أفطَرَ فيهِ العُراةُ? قال: لا تُنكِرُ عليْهِمِ الوُلاةُ. قال: فإنْ أكلَ الصّائِمُ بعدَما أصبَحَ? قال: هوَ أحوَطُ لهُ وأصلَحُ. قال: فإنْ عمَدَ لأنْ أكلَ ليْلاً? قال: ليُشمّرْ للقَضاء ذَيْلاً. قال: فإنْ أكلَ قبْلَ أن تتَوارَى البَيْضاءُ? قال: يلزَمُهُ واللهِ القَضاءُ. قال: فإنِ استَثارَ الصّائِمُ الكَيْدَ? قال: أفْطَرَ ومنْ أحَلّ الصّيدَ. قال: ألَهُ أن يُفْطِرَ بإلحاحِ الطّابِخِ? قال: نعَمْ لا بِطاهي المَطابِخِ. قال: فإنْ ضحِكَتِ المرأةُ في صومِها? قال: بطَلَ صومُ يومِها. قال: فإنْ ظهرَ الجُدَرِيُّ على ضَرّتِها? قال: تُفطِرُ إن آذَنَ بمضَرّتِها. قال: ما يجِبُ في مِئَةِ مِصباحٍ? قال: حِقّتانِ يا صاحِ. قال: فإنْ ملَكَ عشْرَ خَناجِرَ? قال: يُخرِجُ شاتَينِ ولا يُشاجِرُ. قال: فإنْ سمَحَ للسّاعي بحَميمَتِهِ? قال: يا بُشْرى لهُ يومَ قِيامتِهِ! قال: أيستَحِقّ حمَلَةُ الأوْزارِ منَ الزّكاةِ جُزّاً? قال: نعَمْ إذا كانوا غُزًى. قال: أيَجوزُ للحاجّ أن يعتَمِرَ? قال: لا ولا أنْ يختَمِرَ. قال: فهلْ لهُ أنْ يقتُلَ الشُجاعَ? قال: نعمْ كما يَقتُلُ السّباع. قال: فإنْ قتَلَ زَمّارَةً في الحرَمِ? قال: عليْهِ بدَنَةٌ منَ النّعَمِ. قال: فإنْ رمى ساقَ حُرٍّ فجَدّلَهُ? قال: يُخرِجُ شاةً بدَلَهُ. قال: فإنْ قتَلَ أمّ عوْفٍ بعْدَ الإحْرامِ? قال: يتصدّقُ بقَبضَةٍ منْ طَعامٍ. قال: أيجِبُ على الحاجّ استِصْحابُ القارِبِ? قال: نعمْ ليَسوقَهُمْ الى المَشارِبِ. قال: ما تَقولُ في الحَرامِ بعْدَ السّبتِ? قال: قدْ حلّ في ذلِكَ الوقتِ. قال: ما تَقولُ في بيْعِ الكُمَيتِ? قال: حَرامٌ كبَيعِ الميْتِ. قال: أيَجوزُ بيعُ الخلّ بلَحْمِ الجمَلِ? قال: ولا بلَحْمِ الحمَلِ. قال: أيَحِلّ بيْعُ الهديّةِ? قال: لا ولا بيعُ السّبيّةِ. قال: ما تَقولُ في بيْعِ العَقيقَةِ? قال: محْظورٌ على الحقيقَةِ. قال: أيَجوزُ بيْعُ الدّاعي. على الرّاعي? قال: لا ولا على السّاعي. قال: أيُباعُ الصّقْرُ بالتّمرِ? قال: لا ومالِكِ الخَلْقِ والأمرِ. قال: أيَشتَري المُسلِمُ سلَبَ المُسلِماتِ? قال: نعَمْ ويورَثُ عنهُ إذا ماتَ. قال: فهلْ يجوزُ أن يُبْتاعَ الشافِعُ. قال: ما لِجوازِهِ منْ دافِعٍ. قال: أيُباعُ الإبريقُ على بَني الأصْفَرِ? قال: يُكرَهُ كبَيْعِ المِغْفَرِ. قال: أيَجوزُ أن يَبيعَ الرّجُلُ صَيْفِيّهُ? قال: لا ولكِنْ ليَبِعْ صَفيّهُ. قال: فإنِ اشتَرى عبْداً فبانَ بأمِّهِ جِراحٌ? قال: ما في ردّهِ منْ جُناحٍ. قال: أتَثْبُتُ الشُفْعَةُ للشّريكِ في الصّحْراء? قال: لا ولا للشّريكِ في الصّفْراء. قال: أيَحِلّ أنْ يُحْمَى ماء البِئْرِ والخَلا? قال: إنْ كانَ في الفَلا فَلا. قال: ما تَقولُ في مَيتَةِ الكافِرِ? قال: حِلٌّ للمُقيمِ والمُسافِرِ. قال: أيجوزُ أن يُضَحّى بالحُولِ? قال: هوَ أجدَرُ بالقَبولِ. قال: فهلْ يُضحّى بالطّالِقِ? قال: نعمْ ويُقْرَى منْها الطّارِقُ. قال: فإنْ ضحّى قبْلَ ظُهورِ الغَزالَةِ? قال: شاةُ لحْمٍ بِلا مَحالَةٍ. قال: أيحِلّ التكَسّبُ بالطَّرْقِ? قال: هوَ كالقِمارِ بِلا فرْقٍ. قال: أيُسَلّمُ القائِمُ على القاعِدِ? قال: محْظورٌ فيما بينَ الأباعِدِ. قال: أيَنامُ العاقِلُ تحتَ الرّقيعِ? قال: أحْبِبْ بهِ في البَقيعِ. قال: أيُمنَعُ الذّمّيّ منْ قتْلِ العَجوزِ? قال: مُعارضَتُهُ في العَجوزِ لا تَجوزُ. قال: أيجوزُ أن ينتَقِلَ الرّجُلُ عنْ عِمارَةِ أبيهِ? قال: ما جُوّزَ لخامِلٍ ولا نَبيهٍ. قال: ما تَقولُ في التهَوّدِ? قال: هوَ مِفْتاحُ التّزهُّد. قال: ما تَقولُ في صبْرِ البَليّةِ? قال: أعظِمْ بهِ منع خَطيّةٍ. قال: أيَحِلّ ضرْبُ السّفيرِ? قال: نعمْ والحمْلُ على المُستَشيرِ. قال: أيُعزِّزُ الرّجُلُ أباهُ? قال: يفعَلُهُ البَرُّ ولا يأباهُ. قال: ما تَقولُ في مَنْ أفقَر أخاهُ? قال: حبّذا ما توَخّاهُ! قال: فإنْ أعْرى ولدَهُ? قال: يا حُسْنَ ما اعتَمَدَهُ! قال: فإنْ أصْلى ممْلوكَهُ النّارَ? قال: لا إثْمَ عليْهِ ولا عارٌ. قال: أيَجوزُ للمرأةِ أنْ تصرِمَ بعْلَها? قال: ما حظَرَ أحدٌ فِعْلَها. قال: فهلْ تؤدَّبُ المرأةُ على الخجَلِ? قال: أجلْ. قال: ما تَقولُ في مَنْ نحَتَ أثلَةَ أخيهِ? قال: أثِمَ ولوْ أذِنَ لهُ فيهِ. قال: أيَحْجُرُ الحاكِمُ على صاحبِ الثّوْرِ? قال: نعمْ ليأمَنَ غائِلَةَ الجوْرِ. قال: فهلْ لهُ أن يضْرِبَ على يدِ اليَتيمِ? قال: نعمْ الى أن يَستَقيمَ. قال: فهلْ يجوزُ أن يتّخِذَ لهُ ربَضاً? قال: لا ولوْ كان لهُ رِضًى. قال: فمتى يبِيعُ بدَنَ السّفيهِ? قال: حينَ يرى لهُ الحظَّ فيهِ. قال: فهلْ يجوزُ أن يبْتاعَ لهُ حَشّاً? قال: نعمْ إذا لمْ يكُنْ مُغَشًّى. قال: أيجوزُ أن يكونَ الحاكِمُ ظالِماً? قال: نعمْ إذا كان عالِماً. قال: أيُستَقْضى منْ ليستْ لهُ بَصيرةٌ? قال: نعمْ إذا حسُنَتْ منهُ السّيرَةُ. قال: فإنْ تعرّى منَ العَقْلِ? قال: ذاكَ عُنوانُ الفضْلِ. قال: فإنْ كانَ لهُ زهْوُ جبّارٍ? قال: لا إنْكارَ عليهِ ولا إكْبار. قال: أيجوزُ أن يكونَ الشاهِدُ مُريباً? قال: نعمْ إذا كان أريباً. قال: فإنْ بانَ أنّهُ لاطَ? قال: هوَ كما لوْ خاطَ. قال: فإنْ عُثِرَ على أنّهُ غربَلَ? قال: تُرَدّ شهادَتُهُ ولا تُقبَلُ. قال: فإنْ وضَحَ أنهُ مائِنٌ? قال: هوَ لهُ وصْفٌ زائِنٌ. قال: ما يجِبُ على عابِدِ الحَقّ? قال: يُحلَّفُ بإلَهِ الخلْقِ. قال: ما تَقولُ في منْ فقَأ عينَ بُلبُلٍ عامِداً? قال: تُفقَأُ عينُه قوْلاً واحِداً. قال: فإنْ جرَحَ قَطاةَ امرأةٍ فماتَتْ? قال: النّفْسُ بالنّفْسِ إذا فاتَتْ. قال: فإنْ ألقَتِ الحامِلُ حَشيشاً منْ ضرْبِهِ? قال: ليُكفِّرْ بالإعْتاقِ عنْ ذنْبِهِ. قال: ما يجِبُ على المُختَفي في الشّرْعِ? قال: القطْعُ لإقامَةِ الرّدْعِ. قال: فما يُصنَعُ بمَنْ سرَقَ أساوِدَ الدّارِ? قال: يُقطَعُ إنْ ساوَينَ رُبعَ دينارٍ. قال: فإنْ سرَقَ ثَميناً من ذهَبٍ? قال: للا قَطْعَ كما لو غصَبَ. قال: فإنْ بانَ على المرأةِ السّرَقُ? قال: لا حرَجَ عليْها ولا فرَقَ. قال: أينعَقِدُ نِكاحٌ لمْ يشهَدْهُ القَواري? قال: لا والخالِقِ الباري. قال: ما تَقولُ في عَروسٍ باتَتْ بلَيلَةٍ حُرّةٍ. ثمّ رُدّتْ في حافِرَتِها بسُحْرَةٍ? قال: يجبُ لها نصفُ الصّداقِ. ولا تلْزَمُها عِدّةُ الطّلاقِ. فقال لهُ السّائِلُ. للهِ دَرُّكَ من بحْرٍ لا يُغَضْغِضُهُ الماتِحُ. وحِبْرٍ لا يبلُغُ مدْحَهُ المادِحُ! ثمّ أطرَقَ إطْراقَ الحَييّ. وأرَمّ إرْمامَ العَييّ. فقال لهُ أبو زيدٍ: إيهٍ يا فَتى! فإلى متى وإلى متى? فقالَ لهُ: لمْ يبْقَ في كِنانَتي مِرْماةٌ. ولا بعْدَ إشْراقِ صُبحِكَ مُماراةٌ. فبِاللهِ أيُّ ابنِ أرْضٍ أنتَ. فما أحسنَ ما أبَنْتَ. فأنشَدَ بلِسانٍ ذلِقٍ. وصوتٍ صهْصَلِقٍ:مَنْ أفقَر أخاهُ? قال: حبّذا ما توَخّاهُ! قال: فإنْ أعْرى ولدَهُ? قال: يا حُسْنَ ما اعتَمَدَهُ! قال: فإنْ أصْلى ممْلوكَهُ النّارَ? قال: لا إثْمَ عليْهِ ولا عارٌ. قال: أيَجوزُ للمرأةِ أنْ تصرِمَ بعْلَها? قال: ما حظَرَ أحدٌ فِعْلَها. قال: فهلْ تؤدَّبُ المرأةُ على الخجَلِ? قال: أجلْ. قال: ما تَقولُ في مَنْ نحَتَ أثلَةَ أخيهِ? قال: أثِمَ ولوْ أذِنَ لهُ فيهِ. قال: أيَحْجُرُ الحاكِمُ على صاحبِ الثّوْرِ? قال: نعمْ ليأمَنَ غائِلَةَ الجوْرِ. قال: فهلْ لهُ أن يضْرِبَ على يدِ اليَتيمِ? قال: نعمْ الى أن يَستَقيمَ. قال: فهلْ يجوزُ أن يتّخِذَ لهُ ربَضاً? قال: لا ولوْ كان لهُ رِضًى. قال: فمتى يبِيعُ بدَنَ السّفيهِ? قال: حينَ يرى لهُ الحظَّ فيهِ. قال: فهلْ يجوزُ أن يبْتاعَ لهُ حَشّاً? قال: نعمْ إذا لمْ يكُنْ مُغَشًّى. قال: أيجوزُ أن يكونَ الحاكِمُ ظالِماً? قال: نعمْ إذا كان عالِماً. قال: أيُستَقْضى منْ ليستْ لهُ بَصيرةٌ? قال: نعمْ إذا حسُنَتْ منهُ السّيرَةُ. قال: فإنْ تعرّى منَ العَقْلِ? قال: ذاكَ عُنوانُ الفضْلِ. قال: فإنْ كانَ لهُ زهْوُ جبّارٍ? قال: لا إنْكارَ عليهِ ولا إكْبار. قال: أيجوزُ أن يكونَ الشاهِدُ مُريباً? قال: نعمْ إذا كان أريباً. قال: فإنْ بانَ أنّهُ لاطَ? قال: هوَ كما لوْ خاطَ. قال: فإنْ عُثِرَ على أنّهُ غربَلَ? قال: تُرَدّ شهادَتُهُ ولا تُقبَلُ. قال: فإنْ وضَحَ أنهُ مائِنٌ? قال: هوَ لهُ وصْفٌ زائِنٌ. قال: ما يجِبُ على عابِدِ الحَقّ? قال: يُحلَّفُ بإلَهِ الخلْقِ. قال: ما تَقولُ في منْ فقَأ عينَ بُلبُلٍ عامِداً? قال: تُفقَأُ عينُه قوْلاً واحِداً. قال: فإنْ جرَحَ قَطاةَ امرأةٍ فماتَتْ? قال: النّفْسُ بالنّفْسِ إذا فاتَتْ. قال: فإنْ ألقَتِ الحامِلُ حَشيشاً منْ ضرْبِهِ? قال: ليُكفِّرْ بالإعْتاقِ عنْ ذنْبِهِ. قال: ما يجِبُ على المُختَفي في الشّرْعِ? قال: القطْعُ لإقامَةِ الرّدْعِ. قال: فما يُصنَعُ بمَنْ سرَقَ أساوِدَ الدّارِ? قال: يُقطَعُ إنْ ساوَينَ رُبعَ دينارٍ. قال: فإنْ سرَقَ ثَميناً من ذهَبٍ? قال: للا قَطْعَ كما لو غصَبَ. قال: فإنْ بانَ على المرأةِ السّرَقُ? قال: لا حرَجَ عليْها ولا فرَقَ. قال: أينعَقِدُ نِكاحٌ لمْ يشهَدْهُ القَواري? قال: لا والخالِقِ الباري. قال: ما تَقولُ في عَروسٍ باتَتْ بلَيلَةٍ حُرّةٍ. ثمّ رُدّتْ في حافِرَتِها بسُحْرَةٍ? قال: يجبُ لها نصفُ الصّداقِ. ولا تلْزَمُها عِدّةُ الطّلاقِ. فقال لهُ السّائِلُ. للهِ دَرُّكَ من بحْرٍ لا يُغَضْغِضُهُ الماتِحُ. وحِبْرٍ لا يبلُغُ مدْحَهُ المادِحُ! ثمّ أطرَقَ إطْراقَ الحَييّ. وأرَمّ إرْمامَ العَييّ. فقال لهُ أبو زيدٍ: إيهٍ يا فَتى! فإلى متى وإلى متى? فقالَ لهُ: لمْ يبْقَ في كِنانَتي مِرْماةٌ. ولا بعْدَ إشْراقِ صُبحِكَ مُماراةٌ. فبِاللهِ أيُّ ابنِ أرْضٍ أنتَ. فما أحسنَ ما أبَنْتَ. فأنشَدَ بلِسانٍ ذلِقٍ. وصوتٍ صهْصَلِقٍ:
أنا في العالَمِ مُثْـلَـهْ

ولأهْلِ العِلمِ قِبـلَـهْ
غيرَ أنّـي كُـلَّ يومٍ

بينَ تعْريسٍ ورِحلَـهْ
والغَريبُ الدّارِ لوْ ح

لّ بطوبى لمْ تطِبْ لَهْ
ثمّ قال: اللهُمّ كما جعلْتَنا ممّنْ هُدِيَ ويهْدي. فاجعَلهُمْ ممّنْ يهْتَدي ويُهْدي. فساقَ إليْهِ القومُ ذَوْداً معَ قَيْنَةٍ. وسألوهُ أن يَزورَهُمُ الفَينَةَ بعدَ الفَينةِ. فنهضَ يُمَنّيهِمِ العَوْدَ. ويُزَجّي الأمَةَ والذّوْدَ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فاعْتَرَضْتُهُ وقلتُ لهُ عهْدي بكَ سَفيهاً. فمتى صِرْتَ فَقيهاً? فظلّ هُنيهَةً يَجولُ. ثم أنشدَ يقولُ:
لبِستُ لكُلّ زمـانٍ لَـبـوسـا

ولابَستُ صَرْفَيهِ نُعمى وبوسَى
وعاشرْتُ كلَّ جَلـيسٍ بـمـا

يُلائِمُهُ لأروقَ الـجَـلـيسـا
فعنـدَ الـرُّواةِ أُديرُ الـكـلامَ

وبينَ السُقاةِ أديرُ الكـؤوسـا
وطوْراً بوعْظي أسيلُ الدّمـوعَ

وطوْراً بلَهْوي أسُرّ النّفوسـا
وأقْري المَسامِعَ إمّا نطَـقْـتُ

بَياناً يقودُ الحَرونَ الشَّمـوسـا
وإنْ شِئتُ أرعَفَ كفّي الـيَراعَ

فساقَطَ دُرّاً يُحَلّي الطُّـروسـا
وكم مُشكِلاتٍ حَكينَ السُـهـى

خَفاءً فصِرنَ بكَشفي شُموسـا
وكمْ مُلَحٍ لي خلَبْنَ الـعُـقـولَ

وأسْأرْنَ في كُلّ قلْبٍ رَسيسـا
وعذْراءَ فُهْتُ بها فانْـثَـنـى

عليها الثّناءُ طَليقاً حَـبـيسـا
على أنّني منْ زَمانٍ خُصِصْتُ

بكيْدٍ ولا كيدَ فِرعَوْنَ موسـى
يسَعِّـرُ لـي كـلَّ يومٍ وغًـى

أطامِنْ لَظاها وَطيساً وَطيسـا
ويَطْرُقُني بالخُطـوبِ الـتـي

يُذِبنَ القُوَى ويُشِبنَ الرّؤوسـا
ويُدْني إليّ البَعيدَ الـبَـغـيضَ

ويُبعِدُ عني القَريبَ الأنـيسـا
ولـوْلا خَـسـاسَةُ أخْـلاقِـهِ

لَما كانَ حظّيَ منهُ خَسـيسـا
فقُلتُ له: خفّضِ الأحْزانَ. ولا تلُمِ الزّمانَ. واشْكرْ لمَنْ نقلَكَ عنْ مذْهَبِ إبْليسَ. الى مذْهَبِ ابنِ إدْريسَ. فقال: دعِ الهِتارَ. ولا تهْتُكِ الأسْتارَ! وانهَضْ بنا لنَضْرِبَ. الى مسْجِدِ يثْرِبَ. فعسَى أنْ نرْحَضَ بالمَزارِ. درَنَ الأوْزارِ. فقلْتُ: هيْهاتَ أن أسيرَ. أو أفْقَهَ التّفْسيرَ! فقال: تاللهِ لقدْ أوْجَبْتَ ذِمماً. وطلَبْتَ إذْ طلَبْتَ أمَماً. فهَاكَ ما يَشْفي النّفسَ. وينْفي اللَّبْسَ. قال: فلمّا أوضحَ لي المُعَمّى. وكشفَ عنّي الغُمّى. شدَدْنا الأكوارَ. وسِرْتُ وسارَ. ولمْ أزَلْ منْ مُسامرَتِهِ. مُدةَ مُسايرَتِهِ. في ما أنْساني طعْمَ المَشقّةِ. وودِدْتُ معهُ بُعْدَ الشُقّةِ. حتى إذا دخَلْنا مدينَةَ الرّسولِ. وفُزْنا منَ الزّيارةِ بالسُّولِ. أشْأمَ وأعْرَقْتُ. وغرّبَ وشرّقْتُ.
المقامة التّفْليسيّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: عاهدْتُ اللهَ تعالَى مُذْ يفَعتُ. أنْ لا أؤخِّرَ الصّلاةَ ما استَطَعْتُ. فكنتُ مع جوْبِ الفلَواتِ. ولهْوِ الخلَواتِ. أُراعي أوْقاتَ الصّلاةِ. وأحاذِرُ منْ مأثَمِ الفَواتِ. وإذا رافَقْتُ في رِحلَةٍ. أو حللْتُ بحِلّةٍ. مرْحَبْتُ بصَوْتِ الدّاعي إليْها. واقتَدَيْتُ بمنْ يُحافِظُ عليْها. فاتّفَقَ حينَ دخلْتُ تفْليسَ. أن صلّيتُ معَ زُمْرَةٍ مَفاليسَ. فلمّا قضيْنا الصّلاةَ. وأزْمَعْنا الانفِلاتَ. برزَ شيخٌ بادِي اللَّقوَةِ. بالي الكُسوَةِ والقُوّةِ. فقالَ: عزمْتُ على منْ خُلِقَ منْ طينَةِ الحُريّةِ. وتفوّقَ دَرَّ العصبيّةِ. إلا ما تكلّفَ لي لُبْثَةً. واستمَعَ مني نَفثَةً. ثمّ لهُ الخِيارُ منْ بعْدُ. وبيدِهِ البذْلُ والرّدُّ. فعقَدَ لهُ القومُ الحُبَى. ورسَوْا أمْثالَ الرُبى. فلمّا آنَس حُسْنَ إنْصاتِهمْ. ورَزانَةَ حَصاتِهِمْ. قال: يا أولي الأبْصارِ الرّامِقَةِ. والبَصائِرِ الرّائِقَةِ. أمَا يُغْني عنِ الخبَرِ العِيانُ. ويُنْبئُ عنِ النّارِ الدخانُ? شَيبٌ لائِحٌ. ووهْنٌ فادِحٌ. وداءٌ واضِحٌ. والباطِنُ فاضِحٌ. ولقدْ كُنتُ واللهِ ممّنْ ملَكَ ومالَ. ووَليَ وآلَ. ورفَدَ وأنالَ. ووصَلَ وصالَ. فلمْ تزَلِ الجَوائِحُ تسْحَتُ. والنّوائِبُ تنْحَتُ. حتى الوَكْرُ قَفْرٌ. والكفُّ صَفْرٌ. والشّعارُ ضُرٌّ. والعيشُ مُرٌّ. والصّبْيَةُ يتَضاغَوْنَ من الطّوى. ويتمنّونَ مُصاصَةَ النّوى. ولمْ أقُمْ هذا المَقامَ الشّائنَ. وأكشِفْ لكُمُ الدّفائِنَ. إلا بعْدَما شَقيتُ ولُقيتُ. وشِبْتُ ممّا لَقيتُ. فلَيتَني لمْ أكُنْ بَقيتُ. ثمّ تأوّهَ تأوّهَ الأسيفِ. وأنشدَ بصوتٍ ضَعيفٍ:
أشْكو الى الرّحْمنِ سُبْحـانَـهُ

تقلُّبَ الـدّهْـرِ وعُـدْوانَـهُ
وحادِثاتٍ قرعَـتْ مَـرْوَتـي

وقوّضَتْ مَجدي وبُـنْـيانَـهُ
واهْتصَرَتْ عودي ويا ويلَ منْ

تهتَصِرُ الأحداثُ أغصـانَـهُ
وأمحَلَتْ ربْعيَ حتى جـلَـتْ

منْ ربْعيَ المُمْحِلِ جِرْذانَـهُ
وغادرَتْـنـي حـائِراً بـائِراً

أُكابِدُ الفَـقْـرَ وأشْـجـانَـهُ
منْ بعْدِ ما كنتُ أخـا ثـروَةٍ

يسحَبُ في النّعْـمَةِ أرْدانَـهُ
يختَبِطُ الـعـافـونَ أوْراقَـهُ

ويحْمَدُ السّـارونَ نـيرانَـهُ
فأصبحَ اليومَ كـأنْ لـمْ يكُـنْ

أعانَهُ الدّهرُ الـذي عـانَـهُ
وازْوَرّ مَنْ كـانَ لـهُ زائِراً

وعافَ عافي العُرْفِ عِرْفانَهُ
فهلْ فتًى يحْـزُنُـهُ مـا يَرى

منْ ضُرّ شيخٍ دهْرُهُ خـانَـهُ
فيَفْرِجَ الهَـمَّ الـذي هـمَّـهُ

ويُصلِحَ الشّانَ الذي شـانَـهُ
قال الرّاوي: فصَبَتِ الجماعَةُ الى أن تستَثبِتَهُ. لتَستَنجِشَ خُبْأتَهُ. وتستَنفِضَ حَقيبتَهُ. فقالتْ لهُ: قد عرَفْنا قدْرَ رُتبتِكَ. ورأيْنا دَرَّ مُزنَتِكَ. فعرّفْنا دوْحةَ شُعبَتِكَ. واحْسِرِ اللّثامَ عنْ نِسبَتِكَ. فأعْرَضَ إعْراضَ منْ مُنيَ بالإعْناتِ. أو بُشّرَ بالبَناتِ. وجعلَ يلعَنُ الضّروراتِ. ويتأفّفُ منْ تغَيُّضِ المُروءاتِ. ثمّ أنشدَ بلَفظٍ صادِعٍ. وجَرْسٍ خادِعٍ:
لعَمْرُكَ مـا كُـلُّ فـرْعٍ يدُلّ

جَناهُ اللّذيذُ علـى أصـلِـهِ
فكُلْ ما حَلا حينَ تُؤتـى بـهِ

ولا تسألِ الشّهْدَ عنْ نحْـلِـهِ
وميّزْ إذا ما اعتَصرْتَ الكُرومَ

سُلافَةَ عصْرِكَ منْ خَـلّـهِ
لتُغْلي وتُرْخِصَ عنْ خِـبـرَةٍ

وتشْريَ كُلاًّ شِرَى مثـلِـهِ
فعارٌ على الفَطِنِ اللّوذَعـيّ

دُخولُ الغَميزَةِ في عقـلِـهِ
قال: فازْدَهى القومُ بذَكائِهِ ودهائِه. واختلَبَهُمْ بحُسْنِ أدائِهِ مع دائِهِ. حتى جمَعوا لهُ خَبايا الخُبَنِ. وخَفايا الثُّبَنِ. وقالوا لهُ: يا هَذا إنكَ حُمْتَ على رَكِيّةٍ بَكيّةٍ. وتعرّضْتَ لخَليّةٍ خليّةٍ. فخُذْ هذِه الصُّبابَةَ. وهَبْها لا خطأً ولا إصابَةً. فنزّلَ قُلَّهُمْ منزِلَةَ الكُثْرِ. ووصَلَ قَبولَهُ بالشُكْرِ. ثمّ تولّى يجُرّ شِقَّهُ. وينْهَبُ بالخَبْطِ طُرْقَهُ. قالَ المُخبِرُ بهذِهِ الحِكايَةِ. فصُوّرَ لي أنّهُ مُحيلٌ لحِلْيَتِهِ. متصَنّعٌ في مِشيَتِهِ. فنهَضْتُ أنْهَجُ مِنْهاجَهُ. وأقْفو أدراجَهُ. وهوَ يلْحَظُني شَزْراً. ويوسِعُني هجْراً. حتى إذا خَلا الطّريقُ. وأمْكَنَ التّحْقيقُ. نظرَ إليّ نظرَ منْ هشّ وبشّ. وماحَضَ بعْدَما غشّ. وقال: إني لإخالُكَ أخا غُربَةٍ. ورائِدَ صُحبَةٍ. فهلْ لكَ في رَفيقٍ يَرفُقُ بكَ ويُرفِقُ. ويَنفُقُ عليْك ويُنفِقُ? فقلتُ لهُ: لو أتاني هذا الرّفيقُ. لواتاني التّوْفيقُ. فقال لي: قدْ وجَدْتَ فاغْتَبِطْ. واستَكْرَمْتَ فارتَبِطْ. ثمّ ضحِكَ مليّاً. وتمثّلَ لي بَشَراً سَوِيّاً. فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيّ لا قَلَبَةَ بجسمِهِ. ولا شُبهَةَ في وسْمِهِ. ففرِحْتُ بلُقيَتِهِ. وكذِبِ لَقْوَتِهِ. وهمَمْتُ بمَلامَتِهِ. على سوء مَقامَتِهِ. فشَحا فاهُ. وأنشدَ قبلَ أنْ ألْحاهُ:
ظهَرْتُ برَتٍّ لكَيْمـا يُقـالَ

فقيرٌ يُزَجّي الزّمانَ المُزَجّى
وأظهرْتُ للنّاسِ أنْ قد فُلجتُ

فكمْ نالَ قلْبي بهِ ما ترَجّـى
ولوْلا الرّثاثَةُ لـمْ يُرْثَ لـي

ولوْلا التّفالُجُ لمْ ألْقَ فُلْـجـا
ثمّ قال: إنّهُ لم يبْقَ لي بهذِه الأرضِ مرتَعٌ. ولا في أهلِها مطْمَعٌ. فإنْ كنتَ الرّفيقَ. فالطّريقَ الطّريقَ. فسِرْنا منها متجرِّدَينِ. ورافَقْتُهُ عامَينِ أجرَدَينِ. وكنتُ على أنْ أصحبَهُ ما عِشْتُ. فأبى الدّهْرُ المُشِتُّ.
المقامة الزَّبيديّة
أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: لمّا جُبْتُ البِيدَ. الى زَبيدَ. صحِبَني غُلامٌ قدْ كنتُ ربّيتُهُ الى أن بلغَ أشُدَّهُ. وثقّفْتُهُ حتى أكمَلَ رُشْدَهُ. وكان قد أنِسَ بأخْلاقي. وخبَرَ مجالِبَ وِفاقي. فلمْ يكُنْ يتخَطّى مَرامي. ولا يُخطئ في المَرامي. لا جَرَمَ أنّ قُرَبَهُ التاطَتْ بصَفَري. وأخلَصْتُهُ لحَضَري وسَفَري. فألْوى بهِ الدهرُ المُبيدُ. حينَ ضمّتْنا زَبيدُ. فلمّا شالتْ نَعامتُهُ. وسكَنتْ نأمَتُهُ. بقيتُ عاماً. لا أُسيغُ طَعاماً. ولا أُريغُ غُلاماً. حتى ألجأتْني شَوائِبُ الوَحْدَةِ. ومتاعِبُ القَومَةِ والقَعْدَةِ. الى أنْ أعْتاضَ عنِ الدُرِّ الخرَزَ. وأرْتادَ مَنْ هُوَ سِدادٌ منْ عوَزٍ. فقصَدْتُ منْ يَبيعُ العَبيدَ. بسوقِ زَبيدَ. فقلتُ: أريدُ غُلاماً يُعجِبُ إذا قُلّبَ. ويُحمَدُ إذا جُرّبَ. وليَكُنْ ممّنْ خرّجَهُ الأكْياسُ. وأخرَجَهُ الى السّوقِ الإفْلاسُ. فاهتزّ كلٌ منهُمْ لمَطْلَبي ووثَبَ. وبذَلَ تحصيلَهُ عنْ كثَبٍ. ثمّ دارَتِ الأهلّةُ دَوْرَها. وتقلّبَتْ كَوْرَها وحَوْرَها. وما نجَزَ منْ وُعودِهِمْ وعْدٌ. ولا سحّ لها رعْدٌ. فلمّا رأيتُ النّخاسينَ. ناسينَ أو مُتَناسينَ. علِمْتُ أنْ ليسَ كلُّ منْ خلَقَ يَفْري. وأن لنْ يحُكّ جِلدي مثلُ ظُفري. فرفَضْتُ مذْهبَ التّفويضِ. وبرَزْتُ الى السّوقِ بالصُّفْرِ والبِيضِ. فإني لأسْتَعرِضُ الغِلْمانَ. وأستَعْرِفُ الأثْمانَ. إذ عارَضَني رجلٌ قدِ اختَطَم بلِثامٍ. وقبَضَ على زَنْدِ غُلامٍ. وقال:
من يشتَري مني غُلاماً صنَـعـا

في خَلْقِهِ وخُلْقِـهِ قـد بـرَعـا
بكلّ ما نُطْتَ بهِ مُضْـطَـلِـعـاً

يَشْفيكَ إنْ قال وإنْ قُلتَ وَعـى
وإنْ تُصِبْكَ عَثـرَةٌ يَقُـلْ لَـعـا

وإنْ تسُمْهُ السّعْيَ في النارِ سَعى
وإن تُصاحِبهُ ولوْ يومـاً رَعـى

وإنْ تُقَنّعْهُ بظِـلْـفٍ قَـنِـعـا
وهْوَ على الكَيْسِ الذي قد جمَعـا

ما فاهَ قـطُّ كـاذِبـاً لا ادّعـى
ولا أجابَ مَطْمَعـاً حـينَ دعـا

ولا استَجازَ نَـثَّ سِـرٍّ أُودِعـا
وطالَما أبدَعَ في ما صـنَـعـا

وفاقَ في النّثْرِ وفي النّظْمِ مَعا
واللهِ لوْلا ضنْكُ عيشٍ صدَعـا

وصِبيَةٌ أضْحَوْا عُراةً جُوَّعـا
ما بِعْتُهُ بمُلْكِ كِسرَى أجْمَعـا


قال: فلمّا تأمّلْتُ خَلقَهُ القَويمَ. وحُسنَهُ الصّميمَ. خِلتُهُ منْ وِلْدانِ جَنّةِ النّعيمِ. وقلتُ: ما هذا بشَراً إنْ هذا إلا ملَكٌ كَريمٌ! ثمّ استَنْطَقْتُهُ عنِ اسْمِهِ. لا لرَغْبَةٍ في عِلمِه. بل لأنظُرَ أينَ فصاحَتُهُ من صَباحَتِهِ. وكيفَ لهْجَتُهُ منْ بهجَتِهِ. فلمْ ينطِقْ بحُلوَةٍ ولا مُرّةٍ. ولا فاهَ فَوْهَةَ ابنِ أمَةٍ ولا حُرّةٍ. فضرَبْتُ عنهُ صَفْحاً. وقلْتُ له: قُبْحاً لعِيّكَ وشُقْحاً! فَغارَ في الضّحِكِ وأنْجَدَ. ثمّ أنْغَضَ رأسهُ إليّ وأنشدَ:
يا مَنْ تلَهّبَ غيظُهُ إذْ لـمْ أبُـحْ

باسْمي لهُ ما هَكذا مَنْ يُنصِفُ
إنْ كان لا يُرضيكَ إلا كشْفُـهُ

فأصِخْ لهُ أنا يُوسُفٌ أنا يوسُفُ
ولقد كشَفْتُ لكَ الغِطاء فإن تكنْ

فطِناً عرَفتَ وما إخالُك تَعرِفُ
قال: فسَرّى عَتْبي بشِعْرِهِ. واسْتَبى لُبّي بسِحْرِهِ. حتى شُدِهْتُ عنِ التّحقيقِ. وأُنسيتُ قِصّةَ يوسُفَ الصّدّيقِ. ولمْ يكُنْ لي همٌّ إلا مُساوَمةُ موْلاهُ فيهِ. واستِطْلاعُ طِلعِ الثّمَنِ لأوفيهِ. وكنتُ أحسَبُ أنهُ سينظُرُ شَزْراً إليّ. ويُغْلي السّيمَةَ عليّ. بلْ قال: إنّ الغُلامَ إذا نَزُرَ ثمَنُهُ. وخفّتْ مؤنُهُ. تبرّكَ بهِ موْلاهُ. والتَحَفَ عليْهِ هواهُ. وإني لأوثِرُ تحْبيبَ هذا الغُلامِ إليْكَ. بأنْ أخَفِّفَ ثمنَهُ عليْكَ. فزِنْ مائَتَيْ دِرْهَمٍ إن شِيتَ. واشْكرْ لي ما حَييتَ! فنقَدْتُهُ المبلغَ في الحالِ. كما يُنقَدُ في الرّخيصِ الحَلالُ. ولمْ يخطُرْ لي ببالٍ. أنّ كُلّ مُرخَصٍ غالٍ. فلمّا تحقّقَتِ الصّفْقَةُ. وحَقّتِ الفُرقَةُ. همَلَتْ عيْنا الغُلامِ. ولا هُمولَ دمْعِ الغَمامِ. ثمّ أقبلَ على صاحِبِه وقال:
لَحاكَ اللهُ هلْ مِـثـلـي يُبـاعُ

لكَيْما تشبَعَ الكَـرِشُ الـجِـياعُ
وهلْ في شِرْعَةِ الإنْصافِ أنـي

أكلَّفُ خُطّةً لا تُـسـتَـطـاعُ
وأنْ أُبْلـى بـرَوْعٍ بـعـدَ روعٍ

ومثلي حـينَ يُبْـلـى لا يُراعُ
أمَا جرّبْتَني فخَـبَـرْتَ مـنـي

نصائِحَ لمْ يُمـازِجْـهـا خِـداعُ
وكمْ أرْصَدْتَني شرَكـاً لـصَـيْدٍ

فعُدْتُ وفي حَبائِليَ الـسّـبـاعُ
ونُطْتَ بيَ المصاعِبَ فاسْتَقـادَتْ

مُطاوِعَةً وكانَ بها امـتِـنـاعُ
وأيُّ كـريهَةٍ لـم أُبْـلِ فـيهـا

وغُنْمٍ لمْ يكُـنْ لـي فـيهِ بـاعُ
وما أبـدَتْ لـي الأيامُ جُـرْمـاً

فيُكشَفَ في مُصارَمَتي القِنـاعُ
ولم تعثُرُ بحمـدِ الـلـهِ مـنـي

علـى عـيْبٍ يكـتَّـمُ أو يُذاعُ
فأنّى ساغَ عندَك نبْـذُ عـهـدي

كما نَبَذَتْ بُرايَتَها الـصَّـنـاعُ
ولِمْ سمَحَتْ قَرونُكَ بامْتِهـانـي

وأنْ أُشْرى كما يُشْرى المتـاعُ
وهلاّ صُنتَ عِرضي عنهُ صوْني

حَديثَـكَ جَـدّ بِـنـا الــوداعُ
وقلتَ لمـنْ يُسـاوِمُ فـيّ هـذا

سَكابِ فـمـا يُعـارُ ولا يُبـاعُ
فما أنا دونَ ذاكَ الطِّرْفِ لـكِـنْ

طِباعُكَ فوقَها تلْكَ الـطّـبـاعُ
على أني سأُنشِدُ عنـدَ بـيْعـي

أضاعوني وأيَّ فتًى أضـاعـوا
قال: فلما وعى الشيخُ أبياتَهُ. وعقَلَ مُناغاتَهُ. تنفّسَ الصُعَداءَ. وبكى حتى أبْكى البُعَداءَ. ثمّ قال لي: إني أُحِلّ هذا الغُلامَ محَلّ ولَدي. ولا أميّزُهُ عنْ أفْلاذِ كبِدي. ولوْلا خُلوُّ مُراحي. وخُبُوُّ مِصْباحي. لما درَج عنْ عُشّي. الى أن يُشَيَّعَ نعْشي. وقد رأيْتَ ما نزَلَ به من لوْعَةِ البَينِ. والمؤمِنُ هَينٌ لَينٌ. فهلْ لكَ في تسلِيَةِ قلبِهِ. وتسْرِيَةِ كَربِهِ. بأن تُعاهِدَني على الإقالَةِ فيهِ متى استَقلْتُ. وأنْ لا تستَثْقِلَني إذا ثقّلْتُ? ففي الآثارِ المُنتَقاةِ. المَرويّةِ عنِ الثِّقاتِ: مَنْ أقالَ نادِماً بيعَتَهُ. أقالَهُ اللهُ عَثرتَهُ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فوعَدْتُهُ وعْداً أبرَزَهُ الحَياءُ. وفي القلْبِ أشياءُ. فاسْتَدْنى حينَئذٍ الغُلامَ إليْهِ. وقبّلَ ما بيْنَ عينَيهِ. وأنشدَ والدّمْعُ يرْفَضُّ من جَفْنَيهِ:
خفِّضْ فدَتْكَ النّفسُ ما تُلاقي

منْ بُرَحاء الوجْدِ والإشْفاقِ
فما تطولُ مُـدّةُ الـفِـراقِ

ولا تَني ركائِبُ التّـلاقـي
بحُسنِ عوْنِ القادِرِ الخَلاّقِ


ثم قال لهُ: أستودِعُكَ منْ هوَ نعْمَ الموْلى. وشمّرَ ذيلَهُ وولّى. فلبِثَ الغُلامُ في زَفيرٍ وعَويلٍ. ريثَما يقطَعُ مدى مِيلٍ. فلما استَفاقَ. وكفْكَفَ دمعَهُ المُهْراق. قال: أتدري لمَ أعوَلْتُ. وعَلامَ عوّلْتُ? فقلتُ: أظنّ فِراقَ موْلاكَ. هو الذي أبْكاكَ! فقال: إنّك لَفي وادٍ وأنا في وادٍ. ولكَمْ بينَ مُريدٍ ومُرادٍ. ثمّ أنشدَ:
لمْ أبْكِ واللهِ عـلـى إلْـفٍ نـزَحْ

ولا على فـوْتِ نَـعـيمٍ وفـرَحْ
وإنّما مَدمَعُ أجْـفـانـي سـفَـحْ

على غَبيّ لحْظُهُ حـينَ طـمَـحْ
ورّطَهُ حتى نعَنّـى وافـتَـضَـحْ

وضيّعَ المنْقوشَةَ البيضَ الوَضَـحْ
ويْكَ أمَا ناجَتْكَ هاتِـيكَ الـمُـلَـحْ

بأنّنـي حُـرٌّ وبَـيْعـي لـمْ يُبَـحْ
إذ كان في يوسُفَ معنًى قد وضَحْ


قال: فتمثّلْتُ مَقالَهُ في مِرْآةِ المُداعِبِ. ومَعرِضِ المُلاعِبِ. فتصلَّبَ تصلُّبَ المُحِقّ. وتبرّأ منْ طينَةِ الرّقّ. فجُلْنا في مُخاصَمَةٍ. اتّصَلَتْ بمُلاكَمةٍ. وأفْضَتْ الى مُحاكمَةٍ. فلمّا أوضَحْنا للقاضي الصورَةَ. وتلَوْنا علَيْهِ السّورَةَ. قال: ألا إنّ منْ أنذرَ فقدْ أعْذرَ. ومنْ حذّرَ كمَنْ بشّرَ. ومَنْ بصّرَ فما قصّرَ. وإنّ فيما شرَحتُماهُ لَدَليلاً على أنّ هذا الغُلامَ قد نبّهَكَ فما ارْعَوَيْتَ. ونصَحَ لكَ فما وعَيْتَ. فاستُرْ داءَ بلَهِكَ واكْتُمْهُ. ولُمْ نفْسَكَ ولا تلُمْهُ. وحَذارِ منِ اعتِلاقِهِ. والطّمَعِ في استِرْقاقِهِ. فإنهُ حُرُّ الأديمِ. غيرُ معَرَّضٍ للتّقْويمِ. وقدْ كانَ أبوهُ أحْضَرَهُ أمْسِ. قُبَيْلَ أُفولِ الشّمسِ. واعْترَفَ بأنّهُ فرْعُهُ الذي أنْشاهُ. وأنْ لا وارِثَ لهُ سِواهُ. فقلْتُ للقاضي: أوَتَعْرِفُ أباهُ. أخْزاهُ اللهُ? فقال: وهلْ يُجهَلُ أبو زيْدٍ الذي جُرْحُهُ جُبارٌ. وعِندَ كلّ قاضٍ لهُ أخبارٌ وإخْبارٌ? فتحرّقْتُ حينَئذٍ وحوْلَقْتُ. وأفَقْتُ ولكِنْ حينَ فاتَ الوقتُ! وأيقَنْتُ أنّ لِثامَهُ كان شرَكَ مَكيدَتِهِ. وبيْتَ قَصيدَتِهِ. فنَكّسَ طَرْفي ما لَقيتُ. وآلَيْتُ أنْ لا أُعامِلَ مُلَثَّماً ما بَقيتُ. ولمْ أزَلْ أتأوّهُ لخُسْرِ صَفْقَتي. وافتِضاحي بينَ رُفقَتي. فقال ليَ القاضي. حينَ رأى امتِعاضي. وتبيّنَ حَرَّ ارتِماضي: يا هذا ما ذهَبَ منْ مالِكَ ما وعظَكَ. ولا أجْرَمَ إليْكَ مَنْ أيقَظَكَ. فاتّعِظْ بِما نابَكَ. وكاتِمْ أصْحابَكَ ما أصابَكَ. وتذكّرْ أبداً ما دهِمَكَ. لتَقيَ الذّكْرى دراهِمَكَ. وتخلّقْ بخُلْقِ منِ ابتُليَ فصبَرَ. وتجَلّتْ لهُ العِبَرُ فاعْتبَرَ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فودّعْتُهُ لابِساً ثوْبَ الخجَلِ والحَزَنِ. ساحِباً ذيْلَي الغَبْنِ والغَبَنِ. ونوَيْتُ مُكاشَفَةَ أبي زيدٍ بالهَجْرِ. ومُصارَمَتَهُ يدَ الدّهْرِ. فجعَلْتُ أتنَكّبُ عن ذَراهُ. وأتجنّبُ أنْ أراهُ. الى أن غشيَني في طَريقٍ ضيّقٍ. فحيّاني تحيّةَ شَيّقٍ. فما زِدْتُ على أن عبسْتُ. وما نبَسْتُ. فقال: ما بالُكَ سمَخْتَ بأنفِكَ. على إلْفِكَ? فقُلْتُ: أنَسيتَ أنّكَ احتلْتَ وختَلْتَ. وفعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فعَلْتَ? فأضْرَطَ بي مُتَهازِياً. ثمّ أنشَدَ مُتَلافِياً:
يا مَنْ بَدا منـهُ صُـدو

دٌ موحِشٌ وتـجـهُّـمُ
وغَدا يَريشُ مَـلاوِمـاً

منْ دونِهِـنّ الأسْـهُـمُ
ويقولُ هـلْ حُـرٌّ يُبـا

عُ كما يُبـاعُ الأدْهَـمُ
أقْصِرْ فما أنا فـيهِ بِـدْ

عاً مثلَمـا تـتـوَهّـمُ
قد باعَتِ الأسْباطُ قـبْ

لي يوسُفاً وهُـمُ هُـمُ
هذا وأُقسِـمُ بـالـتـي

يَسْري إلَيْها المُتْـهِـمُ
والطّائِفِينَ بـهـا وهُـمْ

شُعْثُ النّواصي سُهَّـمُ
ما قُمْتُ ذاكَ الموْقِفَ ال

مُخْزي وعِنْدي دِرْهَـمُ
فاعْذِرْ أخاكَ وكُفّ عنْ

هُ مَلامَ مَنْ لا يَفْـهَـمُ
ثمّ قال: أمّا معْذِرَتي فقدْ لاحَتْ. وأمّا دراهِمُكَ فقَدْ طاحَتْ. فإنْ كانَ اقْشِعْرارُكَ مني. وازْوِرارُكَ عني. لفَرْطِ شفَقَتِكَ. على غُبّرِ نفقَتِكَ. فلسْتُ ممّنْ يلْسَعُ مرّتَينِ. ويوطئُ على جمرَتَينِ. وإنْ كُنتَ طوَيْتَ كشْحَكَ. وأطَعْتَ شُحّكَ. لتَستَنْقِذَ ما علِقَ بأشْراكي. فلْتَبْكِ على عقلِكَ البَواكي. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فاضْطرّني بلَفْظِهِ الخالِبِ. وسِحْرِهِ الغالِبِ. الى أنْ عُدْتُ لهُ صَفيّاً. وبهِ حَفِيّاً. ونبَذْتُ فَعْلَتَهُ ظِهْريّاً. وإنْ كانت شيئاً فَريّاً.
المقامة الشّيرازيّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: مرَرْتُ في تَطْوافي بشِيرازَ. علي نادٍ يستَوقِفُ المُجْتازَ. ولوْ كان على أوْفازٍ. فلمْ أستَطِعْ تعَدّيهِ. ولا خطَتْ قدَمي في تخَطّيهِ. فعُجْتُ إليْهِ لأسْبُكَ سِرَّ جوهَرِهِ. وأنظُرَ كيفَ ثمَرُهُ من زَهَرِهِ. فإذا أهْلُهُ أفْرادٌ. والعائِجُ إلَيْهِمْ مُفادٌ. وبينَما نحنُ في فُكاهَةٍ أطْرَبَ منَ الأغاريدِ. وأطيَبَ منْ حلَبِ العَناقيدِ. إذِ احتَفّ بِنا ذو طِمْرَينِ. قد كاد يُناهِزُ العُمْرَينِ. فحيّا بلِسانٍ طَليقٍ. وأبانَ إبانَةَ مِنطيقٍ. ثمّ احتَبى حُبوَةَ المُنتَدينَ. وقال: اللهُمّ اجْعَلْنا منَ المُهتَدينَ. فازْدَراهُ القومُ لطِمْرَيْهِ. ونَسوا أنّ المرءَ بأصغَرَيْهِ. وأخَذوا يتَداعَوْنَ فصْلَ الخِطابِ. ويعْتدّونَ عودَهُ من الأحْطابِ. وهوَ لا يُفيصُ بكلِمَةٍ. ولا يُبينُ عنْ سِمَةٍ. الى أنْ سبَرَ قرائِحَهُمْ. وخبَرَ شائِلَهُمْ وراجِحَهُمْ. فحينَ استخْرَجَ دفائِنَهُمْ. واستَنْثَلَ كنائِنَهُمْ. قال: يا قومُ لوْ علِمْتُمْ أنّ وراء الفِدامِ. صَفْوَ المُدامِ. لَما احتقَرْتُمْ ذا أخْلاقٍ. وقُلتُمْ ما لَهُ منْ خَلاقٍ! ثمّ فجّرَ منْ ينابيعِ الأدَبِ والنُكَتِ النُّخَبِ. ما جلَبَ بهِ بَدائعَ العجَبِ. واستَوْجَبَ أن يُكتَبَ بذَوْبِ الذّهَبِ. فلمّا خلَبَ كُلَّ خِلْبٍ. وقلَبَ إليْهِ كلَّ قلْبٍ. تحلْحَلَ. ليَرْحَلَ. وتأهّبَ. ليَذْهَبَ. فعلِقَتِ الجماعَةُ بذَيلِهِ. وعاقَتْ مسْرَبَ سيْلِهِ. وقالتْ لهُ: قد أرَيْتَنا وسْمَ قِدْحِكَ. فخبّرْنا عنْ قَيضِكَ ومُحّكَ. فصمَتَ صُموتَ مَنْ أُفحِمَ. ثمّ أعْوَلَ حتى رُحِمَ. قال الراوي: فلما رأيتُ شوْبَ أبي زيدٍ ورَوْبَهُ. وأسلوبَهُ المألوفَ وصَوْبَهُ. تأمّلْتُ الشيخَ على سُهومَةِ مُحَيّاهُ. وسُهوكَةِ ريّاهُ. فإذا هوَ إيّاهُ. فكتَمْتُ سِرّهُ كما يُكتَمُ الداءُ الدّخيلُ. وستَرْتُ مكرَهُ وإنْ لمْ يكُنْ يُخيلُ. حتى إذا نزَعَ عنْ إعْوالِهِ. وقدْ عرَفَ عُثوري على حالِهِ. رمَقَني بعَينِ مِضْحاكٍ. ثمّ طَفِقَ يُنشِدُ بلِسانِ مُتباكٍ:
أستَغْفِرُ الـلـهَ وأعْـنـو لـهُ

منْ فرَطاتٍ أثقَلَتْ ظَهْـريَهْ
يا قوْمُ كمْ منْ عاتِقٍ عـانـسٍ

ممدوحَةِ الأوْصافِ في الأنديَهْ
قتَلْتُـهـا لا أتّـقـي وارِثـاً

يطْلُبُ مـنـي قـوَداً أو دِيَهْ
وكلّما استَذْنَبْتُ في قتْـلِـهـا

أحَلْتُ بالذّنْبِ على الأقْضِـيَهْ
ولمْ تزَلْ نفسي فـي غَـيّهـا

وقتْلِها الأبكارَ مُسـتَـشْـرِيَهْ
حتى نَهاني الشّيبُ لـمّـا بَـدا

في مَفْرِقي عنْ تِلكمُ المَعصِيَهْ
فلمْ أُرِقْ مُذْ شابَ فَوْدي دمـاً

منْ عاتِقٍ يوماً ولا مُصْـبِـيَهْ
وها أنا الآن علـى مـا يُرى

مني ومِنْ حِرْفَتي المُـكـدِيَهْ
أرُبُّ بِكْراً طالَ تعْنـيسُـهـا

وحجْبُها حتى عـنِ الأهـويَهْ
وهْيَ على التّعنيسِ مخطـوبَةٌ

كخِطبَةِ الغانِيَةِ الـمُـغْـنِـيَهْ
وليسَ يكْفيني لتَـجْـهـيزِهـا

على الرّضى بالدّونِ إلا مِـيَهْ
واليَدُ لا توكي علـى دِرْهَـمٍ

والأرضُ قفْرٌ والسّما مُصْحِيَهْ
فهلْ مُعينٌ لي على نقـلِـهـا

مصْحوبَةً بالقَيْنَةِ المُـلْـهِـيَهْ
فيغْسِلَ الهـمّ بـصـابـونِـهِ

والقلْبُ من أفكارِهِ المُضْنِـيَهْ
ويقْتَني مني الـثّـنـاءَ الـذي

تَضُـوعُ ريّاهُ مـعَ الأدْعِـيَهْ
قال الراوي: فلمْ يبْقَ في الجَماعَةِ إلا منْ ندِيَتْ لهُ كفُّهُ. وانْباعَ إليْهِ عُرْفُهُ. فلمّا نجَحَتْ بُغيَتُهُ. وكمَلَتْ مِئَتُهُ. أخذَ يُثْني عليْهِمْ بصالِحٍ. ويشمِّرُ عنْ ساقِ سارحٍ. فتَبِعْتُهُ لأستَعْرِفَ رَبيبَةَ خِدْرِهِ. ومنْ قتَلَ في حِدْثانِ أمرِهِ. فكأنّ وشْكَ قِيامي. مثّلَ لهُ مَرامي. فازْدَلَفَ مني. وقال: افْقَهْ عني:
قتْلُ مِثلي يا صاحِ مزْجُ المُدامِ

ليسَ قتْلي بلَهْـذَمٍ أو حُـسـامِ
والتي عُنسَتْ هيَ البكرُ بنتُ ال

كَرْمِ لا البِكْرُ من بَناتِ الكِرامِ
ولتَجْهيزِها الى الـكـاسِ والـطّـا

سِ قِيامي الذي تَرى ومُـقـامـي
فتَفَهّـمْ مـا قُـلـتُـهُ وتـحَـكّـمْ

في التّغاضي إنْ شِئتَ أو في المَلامِ
ثمّ قال: أنا عِرْبيدٌ. وأنتَ رِعْديدٌ. وبيْنَنا بوْنٌ بَعيدٌ. ثمّ ودّعَني وانطَلَقَ. وزوّدَني نظرَةً منْ ذي علَقٍ.
المقامة المَلْطِيّة
أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أنَخْتُ بمَلْطِيّةَ مطيّةَ البَينِ. وحَقيبَتي ملأى منَ العينِ. فجعَلْتُ هِجّيرايَ. مُذْ ألقَيْتُ بها عصايَ. أن أتورّدَ موارِدَ المرَحِ. وأتصيّدَ شوارِدَ المُلَحِ. فلمْ يَفُتْني بها منظَرٌ ولا مسمَعٌ. ولا خَلا مني ملعَبٌ ولا مرتَعٌ. حتى إذا لمْ يبْقَ لي فيها مأرَبٌ. ولا في الثّواء بها مَرْغَبٌ. عمَدْتُ لإنْفاقِ الذّهبِ. في ابتِياعِ الأُهَبِ. فلمّا أكمَلْتُ الإعْدادَ. وتهيّأ الظّعْنُ منها أو كادَ. رأيتُ تِسعَةَ رهْطٍ قد سبأوا قهوَةً. وارتَبأوا ربْوَةً. ودماثَتُهُمْ قيْدُ الألحاظِ. وفُكاهَتُهُمْ حُلوَةُ الألْفاظِ. فنحَوْتُهُمْ طلَباً لمُنادَمتِهِمْ. لا لمُدامَتِهِمْ. وشَعَفاً بمُمازَجَتِهِمْ لا بزُجاجَتِهمْ. فلمّا انتظَمْتُ عاشِرَهُمْ. وأضحَيْتُ مُعاشِرَهمْ. ألفَيتُهُمْ أبناءَ عَلاّتٍ. وقَذائِفَ فلَواتٍ. إلا أنّ لُحْمَةَ الأدَبِ. قد ألّفَتْ شمْلَهُمْ أُلفَةَ النّسَبِ. وساوَتْ بينهُم في الرُّتَبِ. حتى لاحوا مثلَ كواكِبِ الجوْزاءِ. وبدَوْا كالجُملَةِ المُتناسِبَةِ الأجْزاءِ. فأبْهَجَني الاهتِداءُ إليْهِمْ. وأحمَدْتُ الطّالِعَ الذي أطلعَني عليْهِمْ. وطفِقْتُ أُفيضُ بقِدْحي معَ قِداحِهِمْ. وأسْتَشْفي برِياحِهِمْ لا بِراحِهِمْ. حتى أدّتْنا شُجونُ المُفاوضَةِ. الى التّحاجي بالمُقايَضَةِ. كقوْلِكَ إذا عنَيْتَ بهِ الكَراماتِ. ما مثلُ النّوْمُ فاتَ. فأنْشأنا نجْلو السُهَى والقمرَ. ونجْني الشّوْكَ والثّمَرَ. وبيْنا نحنُ ننْشُرُ القَشيبَ والرّثَّ. وننْشُلُ السّمينَ والغَثَّ. وغَلَ عليْنا شيخٌ قد ذهَبَ حِبرُهُ وسِبْرُهُ. وبقِيَ خُبْرُهُ وسَبْرُهُ. فمثَلَ مُثولَ منْ يسمَعُ وينظُرُ. ويلتَقِطُ ما ننْثُرُ. الى أن نُفِضَتِ الأكياسُ. وحصْحَصَ الياسُ. فلمّا رأى إجْبالَ القَرائِحِ. وإكْداءَ الماتِحِ والمائِحِ. جمَعَ أذيالَهُ. وولاّنا قَذالَهُ. وقال: ما كُلّ سوْداء تمْرَةٌ. ولا كلّ صهْباء خمرَةٌ. فاعْتَلَقْنا بهِ اعتِلاقَ الحِرْباء بالأعْوادِ. وضربْنا دونَ وِجْهَتِهِ بالأسْدادِ. وقلْنا لهُ: إن دَواء الشّقّ أن يُحاصَ. وإلا فالقِصاصَ القِصاصَ. فلا تطمَعْ في أن تجْرَحَ وتطْرَحَ. وتُنهِرَ الفَتْقَ وتسْرَحَ! فلوَى عِنانَهُ راجِعاً. ثم جثَمَ بمَكانِهِ راصِعاً. وقال: أمّا إذا استَثَرْتُموني بالبَحْثِ. فلأحْكُمُ حُكمَ سُلَيْمانَ في الحرْثِ. اعْلَموا يا ذَوي الشّمائِلِ الأدبِيّةِ. والشَّمولِ الذّهبيّةِ. أنّ وضْعَ الأُحجِيّةِ. لامتِحانِ الألمَعيّةِ. واستِخْراجِ الخَبيّةِ الخفيّةِ. وشرْطُها أنْ تكونَ ذاتَ مماثلَةٍ حَقيقيّةٍ. وألْفاظٍ معْنَويّةٍ. ولَطيفَةٍ أدَبيّةٍ. فمتى نافَتْ هذا النّمَطَ. ضاهَتِ السّقَطَ. ولمْ تدْخُلِ السّفَطَ. ولم أرَكُمْ حافَظتُمْ على هذهِ الحُدودِ. ولا مِزْتُمْ بينَ المقبولِ والمرْدودِ. فقُلْنا لهُ: صدَقْتَ. وبالحقّ نطَقْتَ. فكِلْ لَنا منْ لُبابِكَ. وأفِضْ عليْنا منْ عُبابِكَ. فقال: أفْعَلُ لئلاّ يرْتابَ المُبطِلونَ. ويظنّوا بيَ الظّنونَ. ثمّ قابلَ ناظُورَةَ القومِ وقال:
يا مَنْ سَـمـا بـذَكـاءٍ

في الفضلِ واري الزِّنادِ
ماذا يُمـاثِـلُ قـولـي

جوعٌ أُمِــدّ بـــزادِ
ثمّ ضحِكَ الى الثّاني وأنشدَ:
يا ذا الذي فاقَ فضْلاً

ولمْ يُدَنّـسْـهُ شَـينُ
ما مثلُ قوْلِ المُحاجي

ظهْرٌ أصابَتْهُ عـينُ
ثمّ لحَظَ الثّالِثَ وأنشأ يقول:
يا مَنْ نتـائِجُ فـكـرِهِ

مثلُ النّقودِ الجـائِزَهْ
ما مثلُ قولِكَ لـلّـذي

حاجَيْتَ صادَفَ جائِزَهْ
ثمّ أتلَعَ الى الرّابِعِ وقال:
أيا مُستَنْبِـطَ الـغـام

ضِ منْ لُغْزٍ وإضْمارِ
ألا اكْشِفْ ليَ ما مثلُ

تنـاوَلْ ألـفَ دينـارِ
ثمّ رَمى الخامِسَ ببصرِه وقال:
يا أيّهَـذا الألْـمَــع

يّ أخو الذّكاء المُنجَلي
ما مثلُ أهْمَلَ حِـلـيَةً

بيِّنْ هُديتَ وعـجِّـلِ
ثمّ التفَت لفْتَ السّادِسِ وقال:
يا مَنْ تقـصّـرُ عـن مَـدا

هُ خُطى مُجارِيهِ وتضْعُـفْ
ما مثـلُ قـولِـكَ لـلّـذي

أضْحى يحاجيكَ اكفُفِ اكفُفْ
ثمّ خلجَ السابعَ بحاجِبِه وقال:
يا منْ لهُ فِطنَةٌ تـجـلّـتْ

ورُتبَةٌ في الذّكاء جـلّـتْ
بيّنْ فمـا زِلْـتَ ذا بَـيانٍ

ما مثلُ قولي الشَقيقُ أفلَتْ
ثم استنْصَتَ الثّامِنَ وأنشدَ:
يا مَـنْ حـدائِقُ فـضـلِــهِ

مطلولَةُ الأزهـارِ غـضّـهْ
ما مثلُ قـولِـكَ لـلـمُـحـا

جي ذي الحِجى ما اختارَ فِضّهْ
ثمّ حدجَ التاسِعَ ببصرِهِ وقال:
يا منْ يُشارُ إليهِ فـي ال

قلبِ الذّكيّ وفي البَراعَهْ
أوضِحْ لنا ما مثـلُ قـوْ

لِكَ للمُحاجي دُسْ جماعَهْ
قال الراوي: فلما انتهى إليّ. هزّ مَنكِبَيّ. وقال:
يا منْ لهُ النُّكَـتُ الـتـي

يُشجي الخُصومَ بها وينكُتْ
أنتَ المُبينُ فـقُـلْ لـنـا

ما مثلُ قوْلي خاليَ اسكُتْ
ثم قال: قد أنْهلْتُكُمْ وأمهَلتُكُمْ. وإنْ شِئْتُمْ أنْ أعُلّكُمْ علّلتُكُمْ. قال: فألْجأنا لهَبُ الغُلَلِ. الى استِسقاء العَلَلِ. فقال: لستُ كمَنْ يستأثِرُ على نَديمِهِ. ولا ممّنْ سمْنُهُ في أديمِه. ثمّ كرّ على الأوّلِ وقال:
يا منْ إذا أشكلَ المُعَمّى

جلَتْهُ أفكارهُ الدّقـيقَـهْ
إنْ قال يوماً لكَ المُحاجي

خذْ تلكَ ما مِثلُهُ حَقيقَـهْ
ثم ثَنى جيدَهُ الى الثّاني وقال:
يا منْ بَدا بـيانُـهُ

عنْ فضلِهِ مُبيِّنا
ماذا مثالُ قولِهِـمْ

حِمارُ وحْشٍ زُيّنا
ثم أوحى الى الثالثِ بلحْظِهِ وقال:
يا منْ غدا في فضلِهِ

وذكائِهِ كالأصْمَعي
ما مثلُ قولِكَ للـذي

حاجاكَ أنْفِقْ تقمَعِ
ثمّ حملَقَ الى الرّابعِ وأنشدَ:
يا منْ إذا ما عَويصٌ

دجا أنارَ ظلامَـهْ
ماذا يُماثِلُ قـوْلـي

إسْتَنْشِ ريحَ مُدامَهْ
ثمّ أومضَ الى الخامِسِ وقال:
يا مَنْ تـنـزّهَ فَـهـمُـهُ

عنْ أن يرَوّي أو يَشُـكّـا
ما مثلُ قـولِـكَ لـلـذي

أضْحى يُحاجي غطِّ هَلكى
ثمّ أقبلَ قِبَلَ السادِسِ وأنشدَ:
يا أخا الفِطنَةِ التي

بانَ فيها كمالُـهُ
سارَ باللّيلِ مُـدّةً

أيُّ شيءٍ مثالُـهُ
ثم نَحا بصرَهُ الى السابِعِ وقال:
يا منْ تحلّى بفَـهْـمٍ

أقامَ في الناسِ سوقَهْ
لكَ البَـيانُ فـبـيّنْ

ما مثلُ أحْبِبْ فَروقَهْ
ثم قصدَ قصْدَ الثامنِ وأنشدَ:
يا مـنْ تـبـــوّأ ذِروَةً

في المجدِ فاقتْ كلَّ ذرْوَهْ
ما مثلُ قولِـكَ أعـطِ إذْ

ريقاً يلوحُ بغيرِ عُـروَهْ
ثم ابتسمَ الى التّاسِعِ وقال:
يا مَنْ حوَى حُسـنَ الـدّرا

يَةِ والبَيانِ بـغـيرِ شـكِّ
ما مثلُ قولِكَ لـلـمُـحـا

جي ذي الذّكاء الثّورُ مِلكي
ثم قبَضَ بجُمْعِهِ على رُدْني وقال:
يا مَنْ سَما بثُقوبِ فِطنَـتِـهِ

في المُشكلاتِ ونورِ كوْكبهِ
ماذا مِثالُ صَفيرُ جَحـفَـلةٍ

بيّنْـهُ تِـبْـيانـاً ينـمّ بـهِ
قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا أطرَبَنا بما سمِعْناهُ. وطالَبَنا مُكاشَفَةَ معْناهُ. قُلنا لهُ: لسْنا منْ خيلِ هذا المَيدانِ. ولا لَنا بحَلّ هذِه العُقَدِ يَدانِ. فإنْ أبَنْتَ. مننْتَ. وإنْ كتَمْتَ. غممْتَ. فظَلّ يُشاوِرُ نفسَيْهِ. ويُقلّبُ قِدْحَيْهِ. حتى هانَ بذْلُ الماعونِ عليْهِ. فأقبَلَ حينئذٍ على الجَماعةِ. وقال: يا أّلَ البَلاغَةِ والبَراعَةِ. سأعلّمُكُمْ ما لمْ تكونوا تعْلَمونَ. ولا ظننْتُمْ أنّكُمْ تُعلَّمونَ. فأوْكوا عليْهِ الأوعِيَةَ. وروِّضوا بهِ الأنديَةَ. ثمّ أخذَ في تفسيرٍ صقلَ به الأذْهانَ. واستفْرَغ معهُ الأرْذانَ. حتى آضَتِ الأفْهامُ أنْوَرَ منَ الشّمسِ. والأكْمامُ كأنْ لمْ تغْنَ بالأمسِ. ولمّا همّ بالمَفرّ. سُئِلَ عنِ المَقَرّ. فتنفّسَ كم تتنفّسُ الثَّكولُ. وأنشأ يقولُ:
كلُّ شِعْبٍ ليَ شِعْـبُ

وبهِ رَبْعـيَ رحْـبُ
غيرَ أنّـي بـسَـروجٍ

مُستَهامُ القلْبِ صَـبّ
هيَ أرضي البِكرُ والج

وُّ الذي فيهِ المَـهَـبّ
والى روضَتِها الغـنّـا

ء دونَ الرّوضِ أصْبو
ما حَلا لي بعْدَها حُـلْ

وٌ ولا اعْذَوْذَبَ عذْبُ
قال الراوي: فقلْتُ لأصحابي هذا أبو زيدٍ السَّروجيّ. الذي أدْنى مُلَحِهِ الأحاجيّ. وأخذْتُ أصِفُ لهُمْ حُسنَ توشيَتِهِ. وانقِيادَ الكَلامِ لمشيّتِهِ. ثمّ التفَتُّ فإذا بهِ قدْ طمَرَ. وناءَ بما قمَرَ. فعجِبْنا ممّا صنَعَ إذْ وقَعَ. ولمْ ندْرِ أيْنَ سكَعَ وصَقَعَ.
تفسير الأحاجي المودعة هذه المقامة
أما جوع أمدّ بزاد. فمثله طوامير. وأما ظَهر إصابته عَين، فمثله مطاعين. وأما صادف جائزة، فمثله الفاصلة. وأما تناول ألف دينار، فمثله هادية. وأما أهمل حلية، فمثله الغاشية. وأما اكفف اكفف، فمثله مهمه. وأما الشقيق افلت، فمثله أخطار. وأما ما اختار فضة. فمثله أبارقة، لأن الرقة من أسماء الفضة وقد نطق بها النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال في الرقة ربع العشر. وأما دس جماعة، فمثله طافية. وأما خالي اسكت، فمثله خالصة، لأنك إذا ناديت مضافاً الى نفسك جاز لك حذف الياء وإثباتها ساكنة ومتحرّكة، وقد حذف ههنا حرف النداء كما حذفه في أصل الأحجية، وصه بمعنى اسكت. وأما خذ تلك، فمثله هاتيك، وأما حمار وحش زينا، فمثله فرازين، لأن الفرا حمار الوحش، ومنه الحديث: كل الصيد في جوف الفرا. وأما قوله انفق تقمع، فمثله منتقم، لأن الأمر من مان يمون مُنْ. ومضارع وقمت تقِم. وأما استنش ريح مدامة، فمثله رحراح، لأن الأمر من استدعاء الرائحة رح. وأما غطِّ هلكى، فمثله صُنبور، لأن البور هم الهلكى، وفي القرآن: وكنتم قوماً بوراً. وأما سار بالليل مدة، فمثله سراحين. وأما احبب فروقة، فمثله مقلاع، لأن الأمر من ومق يمق مق، واللاع الجبان، يقال فلان هاع لاع إذا كان جباناً جزعاً. وأما اعطِ إبريقاً يلوح بغير عروة، فمثله اسكوب، لأن الأوس الإعطاء والأمر اس، والكوب الإبريق بغير عروة، وأما الثور ملكي، فمثله اللآلي، لأن اللأى على وزن القنا هو ثور الوحش. وأما صفير جحفلة، فمثله مكاشفة، لأن المكاء الصفير. قال الله تعالى: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية؛ والأصل في المكاء المد ولكنه قصره في هذه الأحجية كما حذف همزة الفراء في أحجيته. وكلا الأمرين من قصر الممدود وحذف همزة المهموز جائز.
المقامة الصَّعْديّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أصْعَدْتُ الى صَعْدَةَ. وأنا ذو شَطاطٍ يحْكي الصّعْدَةَ. واشتِدادٍ يبدُرُ بناتِ صَعدةَ. فلمّا رأيتُ نَضرتَها. ورعَيْتُ خُضرتَها. سألتُ نَحاريرَ الرّواةِ. عمّنْ تحْويهِ منَ السَّراةِ. ومعادِنِ الخيْراتِ. لأتّخِذَهُ جَذْوَةً في الظُلُماتِ. ونَجدَةً في الظُّلاماتِ. فنُعِتَ لي قاضٍ بها رحيبُ الباعِ. خَصيبُ الرِّباعِ. تَميميُّ النّسَبِ والطّباعِ. فلمْ أزَلْ أتقرَّبُ إليْهِ بالإلْمامِ. وأتَنَفّقُ عليهِ بالإجْمامِ. حتى صِرْتُ صَدى صَوْتِهِ. وسَلْمانَ بيتِهِ. وكنتُ معَ اشْتِيارِ شَهْدِهِ. وانتِشاقِ رَنْدِهِ. أشْهَدُ مَشاجِرَ الخُصومِ. وأسفِرُ بينَ المَعصومِ منهُمْ والموْصومِ. فبَينَما القاضي جالِسٌ للإسْجالِ. في يومِ المحْفِلِ والاحتِفالِ. إذ دخَلَ شيخٌ بالي الرّياشِ. بادِي الارتِعاشِ. فتبصّرَ الحفْلَ تبصُّرَ نقّادٍ. ثم زعَمَ أنّ لهُ خصْماً غيرَ مُنقادٍ. فلمْ يكُنْ إلا كضَوْء شَرارَةٍ. أو وحْيِ إشارٍَ. حتى أُحضِرَ غُلامٌ. كأنّهُ ضِرْغامٌ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. وعصَمَهُ منَ التّغاضي. إنّ ابْني هذا كالقَلَمِ الرّديّ. والسيفِ الصّدِيّ. يجهَلُ أوْصافَ الإنصافِ. ويرْضَعُ أخلافَ الخِلافِ. إنْ أقدَمتُ أحجَمَ. وإذا أعرَبْتُ أعجَمَ. وإنْ أذْكَيْتُ أخْمَدَ. ومتى شوَيتُ رمّدَ. معَ أنّي كفَلْتُهُ مُذْ دَبّ. الى أن شبّ. وكنتُ لهُ ألْطَفَ مَنْ ربّى ورَبَّ. فأكْبَرَ القاضي ما شَكا إليْهِ. وأطْرَفَ بهِ منْ حَوالَيْهِ. ثمّ قال: أشْهَدُ أنّ العُقوقَ أحدُ الثُّكْلَينِ. ولَرُبّ عُقْمٍ أقَرُّ للعَينِ. فقالَ الغُلامُ. وقد أمعَضَهُ هذا الكلامُ: والذي نصَبَ القُضاةَ للعدْلِ. وملّكَهُمْ أعِنّةَ الفضْلِ والفَصْلِ. إنّه ما دَعا قَطُّ إلا أمّنْتُ. ولا ادّعى إلا آمَنْتُ. ولا لَبّى إلا أحْرَمْتُ. ولا أوْرَى إلا أضْرَمْتُ. بيْدَ أنهُ كمَنْ يبْغي بيْضَ الأنُوقِ. ويطْلُبُ الطّيَرانَ منَ النّوقِ! فقالَ لهُ القاضي: وبِمَ أعْنَتَكَ. وامتَحَنَ طاعتَكَ? قال: إنهُ مُذْ صَفِرَ منَ المالِ. ومُنِيَ بالإمْحالِ. يسومُني أنْ أتلَمّظَ بالسّؤالِ. وأستَمْطِرَ سُحْبَ النّوالِ. ليَفيضَ شِربُهُ الذي غاضَ. وينْجَبرَ منْ حالِهِ ما انْهاضَ. وقد كانَ حينَ أخذَني بالدّرْسِ. وعلّمَني أدَبَ النّفْسِ. أشْرَبَ قلْبي أنّ الحِرْصَ مَتعَبَةٌ. والطّمَعَ معْتَبَةٌ. والشَّرَهُ مَتْخَمَةٌ. والمسألَةَ مَلأمَةٌ. ثمّ أنشدَني منْ فلْقِ فيهِ. ونحْتِ قَوافيهِ:
إرْضَ بأدنى العيشِ واشْكُرْ عليْهِ

شُكْرَ منِ القُـلُّ كـثـيرٌ لـدَيْهْ
وجانِبِ الحِرصَ الـذي لـم يزَلْ

يحُطُّ قدْرَ المُـتَـراقـي إلَـيْهْ
وحامِ عنْ عِرضِكَ واستَـبْـقِـهِ

كما يُحامي اللّيْثُ عنْ لِبْـدتَـيْهْ
واصْبِرْ على ما نابَ مـنْ فـاقَةٍ

صبْرَ أولي العزْمِ وأغمِضْ عليْهْ
ولا تُرِقْ ماء الـمُـحَـيّا ولـوْ

خوّلَكَ المسْؤولُ مـا فـي يدَيْهْ
فالحُرُّ مَـنْ إنْ قَـذيَتْ عـينُـهُ

أخْفى قَذى جَفنَيْهِ عن ناظِـرَيْهْ
ومَـنْ إذا أخْـلَـقَ ديبـاجُــهُ

لمْ يرَ أنْ يُخْلِـقَ ديبـاجَـتَـيْهْ
قال: فعبَسَ الشيخُ واكفهَرّ. وانْدرَأ على ابنِهِ وهرّّ. وقال لهُ: صَهْ يا عُقَقُ. يا مَنْ هوَ الشّجَى والشَّرَقُ! ويْكَ أتُعَلّمُ أمّكَ البِضاعَ. وظِئْرَكَ الإرْضاعَ? لقدْ تحكّكَتِ العقْرَبُ بالأفعى. واستَنّتِ الفِصالُ حتى القَرْعى! ثمّ كأنّهُ ندِمَ على ما فرَطَ منْ فيهِ. وحدَتْهُ المِقَةُ على تَلافِيهِ. فرَنا إلَيْهِ بعينِ عاطِفٍ. وخفضَ لهُ جناحَ مُلاطِفٍ. وقال لهُ: ويْكَ يا بُنيّ إنّ مَنْ أُمِرَ بالقَناعَةِ. وزُجِرَ عنِ الضّراعَةِ. هُمْ أرْبابُ البِضاعَةِ. وأولُو المَكسَبَةِ بالصّناعَةِ. فأمّا ذَوو الضّروراتِ. فقدِ استُثْنيَ بهِمْ في المَحْظوراتِ. وهبْكَ جهِلْتُ هذا التّأويلَ. ولمْ يبلُغْكَ ما قيلَ. ألسْتَ الذي عارَضَ أباهُ. في ما قالَ وما حاباهُ:
لا تقْعُدَنّ على ضُرٍّ ومسْـغَـبَةٍ

لكيْ يُقالَ عزيزُ النّفسِ مُصطَبِرُ
وانظُرْ بعينِكَ هل أرضٌ مُعطّـلةٌ

منَ النّباتِ كأرضٍ حفّها الشّجَـرُ
فعَدِّ عمّا تُـشـيرُ الأغْـبِـياءُ بـهِ

فأيُّ فضْلٍ لعودٍ مـا لـهُ ثـمَـرُ
وارْحَلْ رِكابَكَ عن ربْعٍ ظمئتَ به

الى الجَنابِ الذي يَهمي بهِ المطَرُ
واستَنزِلِ الرّيَّ من دَرّ السّحابِ فإنْ

بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الـظّـفَـرُ
وإنْ رُدِدتَ فما في الرّدّ مَنقَـصَةٌ

عليكَ قد رُدّ موسى قبلُ والخَضِرُ
قال: فلما أنْ رأى القاضي تَنافيَ قولِ الفتى وفِعلِهِ. وتحلّيَهُ بما ليسَ منْ أهلِهِ. نظَرَ إليْهِ بعَينٍ غَضْبى. وقال: أتَميميّاً مرّةً وقَيسِيّاً أخرى? أُفٍّ لمَنْ ينقُضُ ما يَقولُ. ويتلوّنُ كما تتلوّنُ الغولُ! فقال الغُلامُ: والذي جعلَكَ مِفْتاحاً للحَقّ. وفتّاحاً بينَ الخَلْقِ. لقدْ أُنسيتُ مُذْ أسِيتُ. وصَدِئ ذِهْني مُذْ صَديتُ. على أنّهُ أينَ البابُ الفُتُحُ. والعَطاءُ السُّرُحُ? وهلْ بقيَ منْ يتبرّعُ باللُّهى. وإذا استُطْعِمَ يقولُ ها? فقالَ لهُ القاضي: مَهْ! فمَعَ الخَواطئ سهْمٌ صائِبٌ. وما كُلُّ برْقٍ خالِبٌ. فميّزِ البُروقَ إذا شِمْتَ. ولا تشْهَدْ إلا بما علِمْتَ. فلمّا تبيّنَ للشّيخِ أنّ القاضيَ قدْ غضِبَ للكِرامِ. وأعْظَمَ تبْخيلَ جميعِ الأنامِ. علِمَ أنّهُ سينصُرُ كلِمَتَهُ. ويُظهِرُ أُكرومَتَهُ. فما كذّبَ أنْ نصَبَ شبكَتَهُ. وشوَى في الحَريقِ سمكَتَهُ. وأنْشأ يقول:
يا أيّها القاضي الذي عِلـمُـهُ

وحِلمُهُ أرسَخُ منْ رَضْـوَى
قدِ ادّعى هَذا على جـهـلِـهِ

أنْ ليسَ في الدُنيا أخو جَدوى
وما دَرَى أنكَ منْ معـشَـرٍ

عطاؤهُمْ كالمَنِّ والسّـلْـوى
فجُدْ بِم يَثْنيهِ مُـسـتَـخـزِياً

مما افتَرى من كذِبِ الدّعوى
وأنثَني جَذْلانَ أُثْـنـي بـمـا

أولَيتَ من جَدوى ومن عَدوى
قال: فهَشّ القاضي لقولِهِ. وأجزَلَ لهُ منْ طولِهِ. ثمّ لفتَ وجهَهُ الى الغُلامِ. وقد نصَلَ لهُ أسهُمَ المَلامِ. وقال لهُ: أرأيْتَ بُطْلَ زعْمِكَ. وخطَأَ وهْمِكَ? فلا تَعجَلْ بعدَها بذَمّ. ولا تنْحَتْ عوداً قبلَ عجْمٍ. وإيّاكَ وتأبّيكَ. عن مُطاوَعَةِ أبيكَ! فإنّكَ إنْ عُدتَ تعُقُّهُ. حاقَ بكَ مني ما تستحِقُّهُ. فسُقِطَ الفَتى في يدِهِ. ولاذَ بحِقْوِ والِدِهِ. ثمّ نهضَ يُحفِدُ. وتبِعَهُ الشيخُ يُنشدُ:
منْ ضامَهُ أو ضارَهُ دهرُهُ

فلْيَقْصِدِ القاضيَ في صَعْدَهْ
سمَاحُهُ أزْرى بمَنْ قبـلَـهُ

وعدْلُهُ أتْعَبَ مَنْ بـعْـدَهْ
قال الرّاوي: فحِرْتُ بينَ تعْريفِ الشيخِ وتنْكيرِهِ. الى أنِ احْرَورَفَ لمَسيرِهِ. فناجَيْتُ النّفْسَ باتّباعِهِ. ولوْ الى رِباعِهِ. لعَلّي أظهَرُ على أسرارِهِ. وأعْرِفُ شجرَةَ نارِهِ. فنبَذْتُ العُلَقَ. وانطلَقْتُ حيثُ انطلَقَ. ولم يزَلْ يخْطو وأعْتَقِبُ. ويبْعُدُ وأقتَرِبُ. الى أن تَراءى الشّخْصانِ. وحقّ التّعارُفُ على الخُلْصانِ. فأبْدى حينَئِذٍ الاهْتِشاشَ. ورفَعَ الارتِعاشَ. وقال: منْ كاذَبَ أخاهُ فلا عاشَ! فعرَفْتُ عندَ ذلِكَ أنهُ السَّروجيُّ بِلا مَحالَةٍ. ولا حُؤولِ حالَةٍ. فأسرَعْتُ إليْهِ لأصافِحَهُ. وأستَعْرِفَ سانِحَهُ وبارِحَهُ. فقال: دونَكَ ابنَ أخيكَ البَرَّ. وترَكَني ومَرَّ. فلمْ يعْدُ الفتَى أنِ افْتَرّ. ثمّ فَرّ كما فَرّ. فعُدْتُ وقد استَبَنْتُ عينَهُما. ولكِنْ أينَ هُما.
المقامة المَرْوِيَّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: حُبّبَ إليّ مُذْ سعَتْ قدَمي. ونفَثَ قلَمي. أنْ أتّخِذَ الأدَبَ شِرْعَةً. والاقتِباسَ منهُ نُجْعَةً. فكُنتُ أنَقّبُ عنْ أخبارِهِ. وخزَنَةِ أسْرارِهِ. فإذا ألْفَيْتُ منهُمْ بُغيَةَ الملتَمِسِ. وجُذْوَةَ المُقتَبِسِ. شدَدْتُ يَدي بغَرْزِهِ. واستَنزَلْتُ منهُ زَكاةَ كنزِهِ. على أنّي لمْ ألْقَ كالسَّروجيّ في غَزارَةِ السُّحْبِ. ووضْعِ الهِناء مَواضِعَ النُّقْبِ. إلا أنهُ كانَ أسْيَرَ منَ المثَلِ. وأسرَعَ منَ القمَرِ في النُّقَلِ. وكنتُ لهَوى مُلاقاتِهِ. واستِحْسانِ مَقاماتِهِ. أرْغَبُ في الاغتِرابِ. وأستَعْذِبُ السّفَرَ الذي هوَ قِطعَةٌ من العَذابِ. فلمّا تطوّحْتُ الى مرْوَ. ولا غَرْوَ. بشّرَني بمَلقاهُ زجْرُ الطّيرِ. والفألُ الذي هوَ بَريدُ الخيرِ. فلمْ أزَلْ أنشُدُهُ في المحافِلِ. وعندَ تلَقّي القَوافِلِ. فلا أجِدُ عنْهُ مُخبِراً. ولا أرى لهُ أثَراً ولا عِثْيَراً. حتى غلَبَ اليأسُ الطّمَعَ. وانْزَوى التّأميلُ وانْقمَعَ. فإني لَذاتَ يومٍ بحضْرَةِ والي مرْوَ. وكانَ ممّنْ جمَعَ الفضْلَ والسَّرْوَ. إذ طلَعَ أبو زيْدٍ في خلَقٍ مِمْلاقٍ. وخُلُقٍ مَلاّقٍ. فحَيّا تحيّةَ المُحْتاجِ. إذا لقِيَ ربَّ التّاجِ. ثمّ قالَ لهُ: اعْلَمْ وُقيتَ الذّمّ. وكُفيتَ الهَمّ. أنّ مَنْ عُذِقَتْ بهِ الأعْمالُ. أُعْلِقَتْ بهِ الأمالُ. ومَنْ رُفِعَتْ لهُ الدّرَجاتُ. رُفِعَتْ إليْهِ الحاجاتُ. وأنّ السّعيدَ منْ إذا قدَرَ. وواتاهُ القدَرُ. أدّى زكاةَ النِّعَمِ. كما يؤدّي زكاةَ النَّعَمِ. والتزَمَ لأهْلِ الحُرَمِ. ما يُلتزَمُ للأهْلِ والحرَمِ. وقد أصبحْتَ بحمدِ اللهِ عَميدَ مِصرِكَ. وعِمادَ عصْرِكَ. تُزْجى الرّكائِبُ الى حرَمِكَ. وتُرْجى الرّغائِبُ منْ كرَمِكَ. وتُنزَلُ المَطالِبُ بساحَتِكَ. وتُستَنْزَلُ الرّاحةُ منْ راحَتِكَ. وكان فضلُ اللهِ عليْكَ عظيماً. وإحْسانُهُ لديْكَ عَميماً. ثمّ إني شيخٌ ترِبَ بعْدَ الإتْرابِ. وعدِمَ الإعْشابَ حينَ شابَ. قصَدْتُكَ منْ محَلّةٍ نازِحَةٍ. وحالَةٍ رازِحَةٍ. آمُلُ منْ بحرِكَ دُفعَةً. ومنْ جاهِكَ رِفعَةً. والتّأميلُ أفضَلُ وسائِلِ السائِلِ. ونائِلِ النّائِلِ. فأوْجِبْ لي ما يجِبُ عليْكَ. وأحسِنْ كما أحْسَنَ اللهُ إليْكَ. وإيّاكَ أن تلْويَ عِذارَكَ. عمَّنِ ازْدَراكَ. وأمَّ دارَكَ. أو تقبِضَ راحَكَ. عمّنِ امْتاحَكَ. وامْتارَ سَماحَكَ. فوَاللهِ ما مجَدَ مَنْ جمَدَ. ولا رشَدَ منْ حشَدَ. بلِ اللّبيبُ مَنْ إذا وجَدَ جادَ. وإنْ بَدأ بعائِدَةٍ عادَ. والكَريمُ منْ إذا استُوهِبَ الذّهَبَ. لمْ يهَبْ أنْ يهَبَ. ثمّ أمْسَكَ يرْقُبُ أُكُلَ غرْسِهِ. ويرْصُدُ مطيبَةَ نفْسِهِ. وأحَبَّ الوالي أنْ يعْلَمَ هلْ نُطفَتُهُ ثمَدٌ. أم لقَريحَتِهِ مدَدٌ. فأطْرَقَ يرَوّي في استيراء زَنْدِهِ. واستِشْفافِ فِرِنْدِهِ. والتَبَسَ على أبي زيدٍ سِرُّ صَمْتَتِهِ. وإرْجاءِ صِلَتِهِ. فتوَغّرَ غضَباً. وأنْشَدَ مُقتَضِباً:
لا تحقِرَنّ أبيْتَ الـلّـعـنَ ذا أدبٍ

لأنْ بَدا خلَقَ السّرْبـالِ سُـروتـا
ولا تُضِعْ لأخي التّأميلِ حُرمـتَـهُ

أكانَ ذا لسَنٍ أم كـان سِـكّـيتـا
وانفَحْ بعُرْفِكَ منْ وافاكَ مختَبطـاً

وانعَشْ بغَوْثِكَ من ألفيتَ مَنكوتـا
فخَيرُ مالِ الفتى مـالٌ أشـادَ لـهُ

ذِكْراً تناقَلَهُ الرُكبـانُ أو صِـيتـا
وما على المُشتَري حمْداً بمَوْهِـبَةٍ

غبنٌ ولوْ كان ما أعْطاهُ ياقـوتـا
لوْلا المُروءةُ ضاقَ العُذْرُ عن فَطِنٍ

إذا اشْرأبّ الى ما جاوَزَ القـوتـا
لكنّهُ لابْتِناء المـجْـدِ جـدّ ومِـنْ

حُبّ السّماحِ ثنَى نحوَ العُلى لِيتـا
وما تنشّقَ نشْرَ الشّكْـرِ ذو كـرَمٍ

إلا وأزْرى بنَشرِ المِسكِ مَفتـوتـا
والحمدُ والبخلُ لم يُقضَ اجتماعهما

حتى لقَدْ خيلَ ذا ضَبّاً وذا حـوتَـا
والسّمحُ في الناسِ محبوبٌ خلائِقُهُ

والجامدُ الكفّ ما ينْفَكّ ممْقـوتـا
وللشّحيحِ على أمْـوالِـهِ عـلَـلٌ

يوسِعْنَهُ أبَـداً ذمّـاً وتـبْـكـيتـا
فجُدْ بما جمَعتْ كفّاكَ من نشَـبٍ

حتى يُرَى مُجْتَدي جَدواكَ مَبهوتا
وخُذْ نصيبَكَ منـهُ قـبـلَ رائِعَةٍ

من الزّمانِ تُريكَ العودَ منحوتـا
فالدّهْرُ أنكَدُ من أن تستَمـرّ بـهِ

حالٌ تكرّهْتَ تلكَ الحالَ أم شيتا
فقال لهُ الوالي: تاللهِ لقدْ أحسَنْتَ. فأيُّ ولَدِ الرّجُلِ أنتَ? فنظَرَ إليْهِ عنْ عُرْضٍ. وأنشَدَ وهُوَ مُغْضٍ:
لا تسْألِ المرْءَ مَنْ أبوهُ ورُزْ

خلالَهُ ثمّ صِلْهُ أو فاصْـرِمِ
فما يَشينُ السُّلافَ حينَ حَلا

مَذاقُها كونُها ابنَةَ الحِصْرِمِ
قال: فقرّبَهُ الوالي لبَيانِهِ الفاتِنِ. حتى أحلّهُ مقْعَدَ الخاتِنِ. ثمّ فرَضَ له من سُيوبِ نيْلِهِ. ما آذنَ بطولِ ذَيلِهِ. وقِصَرِ لَيلِهِ. فنهَضَ عنْهُ برُدْنٍ مَلآنَ. وقلْبٍ جذْلانَ. وتبِعْتُهُ حاذِياً حَذْوَهُ. وقافِياً خَطْوَهُ. حتى إذا خرَجَ منْ بابِهِ. وفصَلَ عنْ غابِهِ. قُلتُ لهُ: هُنّئْتَ بِما أوتيتَ. ومُلّيتَ بِما أُوليتَ! فأسْفَرَ وجهُهُ وتَلالا. ووالى شُكْراً للهِ تَعالى. ثمّ خطَرَ اخْتِيالاً. وأنشدَ ارتِجالاً:
منْ يكُنْ نالَ بالحَماقَةِ حَظّـاً

أو سَما قدرُهُ لِطيبِ الأصولِ
فبِفَضْلي انتَفَعْتُ لا بفُضولي

وبقَوْلي ارتفَعْتُ لا بقُيولـي
ثم قال: تَعْساً لمَنْ جدَبَ الأدَبَ. وطوبى لمَنْ جدّ فيهِ ودأبَ! ثمّ ودّعَني وذهَبَ. وأوْدَعَني اللَّهَبَ.
المقامة العُمانيّة
حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: لهِجْتُ مُذْ اخْضَرّ إزاري. وبَقَلَ عِذاري. بأنْ أجوبَ البَراري. وعلى ظُهورِ المَهاري. أُنْجِدُ طَوْراً. وأسْلُكُ تارَةً غوْراً. حتى فلَيْتُ المَعالِمَ والمجاهِلَ. وبلَوْتُ المنازِلَ والمَناهِلَ. وأدْمَيْتُ السّنابِكَ والمَناسِمَ. وأنْضَيْتُ السّوابِقَ والرّواسِمَ. فلمّا ملِلْتُ الإصْحارَ. وقد سنَحَ لي أرَبٌ بصُحارَ. مِلْتُ الى اجْتيازِ التّيارِ. واختِيارِ الفُلْكِ السّيّارِ. فنقَلْتُ إليْهِ أساوِدي. واستَصْحَبْتُ زادي ومَزاوِدي. ثمّ ركِبْتُ فيهِ رُكوبَ حاذِرٍ ناذِرٍ. عاذِلٍ لنفْسِهِ عاذِرٍ. فلمّا شرَعْنا في القُلْعَةِ. ورفَعْنا الشُّرُعَ للسّرعَةِ. سمِعْنا منْ شاطئ المَرْسى. حينَ دَجا الليلُ وأغْسى. هاتِفاً يقول: يا أهْلَ ذا الفُلْكِ القَويمِ. المُزجّى في البحرِ العَظيمِ. بتقْديرِ العَزيزِ العليمِ. هل أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنجيكُمْ منْ عذابٍ أليمٍ? فقُلْنا لهُ: أقْبِسْنا نارَك أيها الدّليلُ. وأرشِدْنا كما يُرشِدُ الخَليلُ الخَليلَ. فقال: أتستَصْحِبونَ ابنَ سبيلٍ. زادُهُ في زَبيلٍ. وظِلّهُ غيرُ ثَقيلٍ. وما يَبغي سوى مَقيلٍ? فأجْمعْنا على الجُنوحِ إليْهِ. وأنْ لا نبْخَلَ بالماعونِ عليْهِ. فلمّا اسْتَوى على الفُلْكِ. قال: أعوذُ بمالِكِ المُلْكِ. منْ مسالِكِ الهُلْكِ! ثم قال: إنّا رُوِينا في الأخْبارِ. المنقولَةِ عنِ الأحْبارِ. أنّ اللهَ تَعالى ما أخذَ على الجُهّالِ أن يتعلّموا. حتى أخذَ على العُلَماء أنْ يعَلِّموا. وإنّ مَعي لَعوذَةً. عنِ الأنبِياء مأخوذَة. وعندي لكُمْ نَصيحةٌ. براهينُها صَحيحةٌ. وما وَسِعَني الكِتْمانُ. ولا مِنْ خيميَ الحِرْمانُ. فتَدَبّروا القوْلَ وتفهّموا. واعْمَلوا بما تُعلّمونَ وعلّموا. ثمّ صاحَ صيْحَةَ المُباهي. وقال: أتَدْرونَ ما هيَ? هيَ واللهِ حِرْزُ السّفْرِ. عندَ مسيرِهِمْ في البحْرِ. والجُنّةُ منَ الغَمّ. إذا جاشَ موْجُ اليَمّ. وبها استَعْصَمَ نوحٌ منَ الطّوفانِ. ونَجا ومَنْ معَهُ منَ الحَيوانِ. على ما صدَعَتْ بهِ آيُ القُرآنِ. ثمّ قرأ بعْضَ أساطيرَ تَلاها. وزخارِفَ جَلاها. وقال: ارْكَبوا فيها باسْمِ اللهِ مُجْراها ومُرْساها. ثمّ تنفّسَ تنفُّسَ المُغرَمينَ. أو عِبادِ اللهِ المُكرَمينَ. وقال: أمّا أنا فقدْ قُمتُ فيكُم مَقامَ المبلِّغينَ. ونصَحْتُ لكُمْ نُصْحَ المُبالِغينَ. وسلَكْتُ بكُمْ محَجّةَ الرّاشِدينَ. فاشْهَدِ اللهُمّ وأنتَ خيرُ الشاهِدينَ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فأعْجَبَنا بيانُهُ البادي الطُّلاوَةِ. وعجّتْ لهُ أصواتُنا بالتّلاوَةِ. وآنَسَ قلبي منْ جرْسِهِ. معرِفَةَ عينِ شمْسِهِ. فقلْتُ لهُ: بالذي سخّرَ البحرَ اللُّجّيّ. ألسْتَ السَّروجيّ? فقال لي: بَلى. وهلْ يَخْفى ابنُ جَلا? فأحْمَدْتُ حينَئذٍ السّفَرَ. وسفَرْتُ عن نفْسي إذ سفَرَ. ولمْ نزَلْ نسيرُ والبحرُ رهْوٌ. والجوّ صحْوٌ. والعيشُ صَفوٌ. والزّمانُ لهْوٌ. وأنا أجِدُ للِقيانِهِ. وجْدَ المُثْري بعِقْيانِهِ. وأفرَحُ بمُناجاتِهِ. فرَحَ الغَريقِ بمَنْجاتِهِ. الى أن عصَفَتِ الجَنوبُ. وعسَفَتِ الجُنوبُ. ونسَيَ السّفْرُ ما كانَ. وجاءهُمُ الموْجُ منْ كلّ مَكانٍ. فمِلْنا لهذا الحدَثِ الثّائِرِ. الى إحْدى الجَزائِرِ. لنُريحَ ونستَريحَ. ريثَما تُؤاتي الرّيحُ. فتَمادَى اعْتِياصُ المَسيرِ. حتى نفِدَ الزّادُ غيرَ اليَسيرِ. فقال لي أبو زيدٍ: إنهُ لنْ يُحرَزَ جَنى العودِ بالقُعودِ. فهلْ لكَ في استِثارَةِ السّعودِ بالصّعودِ? فقلْتُ لهُ: إني لأتْبَعُ لكَ من ظِلّكَ. وأطْوَعُ منْ نعلِكَ. فنَهَدْنا الى الجَزيرَةِ. على ضُعْفِ المَريرَةِ. لنركُضَ في امتِراء المِيرَةِ. وكِلانا لا يملِكُ فَتيلاً. ولا يهتَدي فيها سَبيلاً. فأقْبَلْنا نَجوسُ خِلالَها. ونتفيّأُ ظِلالَها. حتى أفْضَيْنا الى قصرٍ مَشيدٍ. لهُ بابٌ منْ حَديدٍ. ودونَهُ زُمرةٌ من عَبيدٍ. فناسَمْناهُمْ لنتخِذَهُمْ سُلّماً الى الارتِقاء. وأرشِيَةً للاستِقاء. فألْفَيْنا كلاً منهُمْ كَئيباً حَسيراً. حتى خِلْناهُ كسيراً أو أسيراً. فقُلْنا: أيتُها الغِلْمَةُ. ما هَذي الغُمّةُ? فلمْ يُجيبوا النّداء. ولا فاهوا ببَيْضاء ولا سَوْداء. فلمّا رأيْنا نارَهُمْ نارَ الحُباحِبِ. وخُبرَهُمْ كسَرابِ السّباسِبِ. قُلْنا: شاهَتِ الوجوهُ. وقبُحَ اللُّكَعُ ومَنْ يرْجوهُ! فابتَدَرَ خادِمٌ قد علَتْهُ كَبْرَةٌ. وعرَتْهُ عبْرَةٌ. وقال: يا قوْمُ لا توسِعونا سَبّاً. ولا توجِعونا عتْباً. فإنّا لَفي حُزنٍ شامِلٍ. وشُغْلٍ عنِ الحديثِ شاغِلٍ. فقالَ لهُ أبو زيدٍ: نفِّسْ خِناقَ البَثّ. وانْفِثْ إنْ قدَرْتَ على النّفْثِ. فإنّكَ ستجِدُ مني عَرّافاً كافِياً. ووَصّافاً شافِياً. فقالَ لهُ: اعْلَمْ أنّ ربّ هذا القصْرِ هوَ قُطْبُ هذِهِ البُقعَةِ. وشاهُ هذِهِ الرُقعَةِ. إلا أنّهُ لمْ يخْلُ منْ كمَدٍ. لخُلوّهِ من ولَدٍ. ولمْ يزَلْ يستَكْرِمُ المَغارِسَ. ويتخيّرُ منَ المَفارِشِ النّفائِسِ. الى أن بُشّرَ بحمْلِ عَقيلضةٍ. وآذَنَتْ رقْلَتُهُ بفَسيلَةٍ. فنُدِرَتْ له النّذورُ. وأُحصِيَتِ الأيامُ والشّهورُ. ولمّا حانَ النِّتاجُ. وصيغَ الطّوقُ والتّاجُ. عسُرَ مخاضُ الوضْعِ. حتى خِيفَ على الأصْلِ والفَرْعِ. فما فِينا مَنْ يعرِفُ قَراراً. ولا يطْعَمُ النّومَ إلا غِراراً. ثمّ أجْهَشَ بالبُكاء وأعْولَ. وردّدَ الاستِرْجاعَ وطوّلَ. فقال لهُ أبو زيدٍ: اسْكُنْ يا هَذا واستَبْشِرْ. وابْشِرْ بالفَرَجِ وبشّرْ! فعِندي عَزيمةُ الطّلْقِ. التي انتشَرَ سَمْعُها في الخَلْقِ. فتبادَرَتِ الغِلمَةُ الى موْلاهُمْ. مُتباشِرينَ بانكِشافِ بلْواهُمْ. فلمْ يكُنْ إلا كَلا ولا حتى برزَ مَنْ هلْمَمَ بِنا إلَيْهِ. فلما دخلْنا عليْهِ. ومثَلْنا بينَ يدَيْهِ. قال لأبي زيدٍ: ليَهْنِكَ مَنالُكَ. إنْ صدَقَ مقالُكَ. ولم يفِلْ فالُكَ. فاستَحضرَ قلَماً مبْرِيّاً. وزبَداً بحرِيّاً. وزَعفَراناً قد دِيفَ. في ماء ورْدٍ نظيفٍ. فما إنْ رجَعَ النفَسُ. حتى أُحضِرَ ما التَمَسَ. فسجَدَ أبو زيدٍ وعفّرَ. وسبّحَ واستَغْفرَ. وأبْعَدَ الحاضِرينَ ونفّرَ. ثمّ أخذَ القلمَ واسْحَنْفَرَ. وكتبَ على الزّبَدِ بالمُزَعْفَرِ:سّباسِبِ. قُلْنا: شاهَتِ الوجوهُ. وقبُحَ اللُّكَعُ ومَنْ يرْجوهُ! فابتَدَرَ خادِمٌ قد علَتْهُ كَبْرَةٌ. وعرَتْهُ عبْرَةٌ. وقال: يا قوْمُ لا توسِعونا سَبّاً. ولا توجِعونا عتْباً. فإنّا لَفي حُزنٍ شامِلٍ. وشُغْلٍ عنِ الحديثِ شاغِلٍ. فقالَ لهُ أبو زيدٍ: نفِّسْ خِناقَ البَثّ. وانْفِثْ إنْ قدَرْتَ على النّفْثِ. فإنّكَ ستجِدُ مني عَرّافاً كافِياً. ووَصّافاً شافِياً. فقالَ لهُ: اعْلَمْ أنّ ربّ هذا القصْرِ هوَ قُطْبُ هذِهِ البُقعَةِ. وشاهُ هذِهِ الرُقعَةِ. إلا أنّهُ لمْ يخْلُ منْ كمَدٍ. لخُلوّهِ من ولَدٍ. ولمْ يزَلْ يستَكْرِمُ المَغارِسَ. ويتخيّرُ منَ المَفارِشِ النّفائِسِ. الى أن بُشّرَ بحمْلِ عَقيلضةٍ. وآذَنَتْ رقْلَتُهُ بفَسيلَةٍ. فنُدِرَتْ له النّذورُ. وأُحصِيَتِ الأيامُ والشّهورُ. ولمّا حانَ النِّتاجُ. وصيغَ الطّوقُ والتّاجُ. عسُرَ مخاضُ الوضْعِ. حتى خِيفَ على الأصْلِ والفَرْعِ. فما فِينا مَنْ يعرِفُ قَراراً. ولا يطْعَمُ النّومَ إلا غِراراً. ثمّ أجْهَشَ بالبُكاء وأعْولَ. وردّدَ الاستِرْجاعَ وطوّلَ. فقال لهُ أبو زيدٍ: اسْكُنْ يا هَذا واستَبْشِرْ. وابْشِرْ بالفَرَجِ وبشّرْ! فعِندي عَزيمةُ الطّلْقِ. التي انتشَرَ سَمْعُها في الخَلْقِ. فتبادَرَتِ الغِلمَةُ الى موْلاهُمْ. مُتباشِرينَ بانكِشافِ بلْواهُمْ. فلمْ يكُنْ إلا كَلا ولا حتى برزَ مَنْ هلْمَمَ بِنا إلَيْهِ. فلما دخلْنا عليْهِ. ومثَلْنا بينَ يدَيْهِ. قال لأبي زيدٍ: ليَهْنِكَ مَنالُكَ. إنْ صدَقَ مقالُكَ. ولم يفِلْ فالُكَ. فاستَحضرَ قلَماً مبْرِيّاً. وزبَداً بحرِيّاً. وزَعفَراناً قد دِيفَ. في ماء ورْدٍ نظيفٍ. فما إنْ رجَعَ النفَسُ. حتى أُحضِرَ ما التَمَسَ. فسجَدَ أبو زيدٍ وعفّرَ. وسبّحَ واستَغْفرَ. وأبْعَدَ الحاضِرينَ ونفّرَ. ثمّ أخذَ القلمَ واسْحَنْفَرَ. وكتبَ على الزّبَدِ بالمُزَعْفَرِ:
أيّهَذا الجَنينُ إنـي نـصـيحٌ

لكَ والنّصحُ منْ شُروطِ الدّينِ
أنتَ مُستَعْصِمٌ بكِـنّ كَـنـينٍ

وقَرارٍ منَ السّكونِ مَـكـينِ
ما تَرى فيهِ ما يَروعُكُ منْ إل

فٍ مُداجٍ ولا عـدوٍّ مُـبـينِ
فمتى ما برَزْتَ منهُ تـحـوّلْ

تَ الى منزِلِ الأذى والهونِ

وتَراءى لكَ الشّقاءُ الذي تـلْ

قَى فتَبْكي لهُ بدَمْعٍ هَـتـونِ
فاستَدِمْ عيشَكَ الرّغيدَ وحـاذِرْ

أن تَبيعَ المَحقوقَ بالمظْنـونِ
واحتَرِسْ من مُخادِعٍ لك يرْقي

كَ ليُلقيكَ في العذابِ المُهينِ
ولَعَمْري لقدْ نصَحْتُ ولكِـنْ

كمْ نَصيحٍ مُشبَّهٍ بـظَـنـينِ
ثمّ إنهُ طمَسَ المكتوبَ على غَفلَةٍ. وتفَلَ عليْهِ مئَةَ تَفلَةٍ. وشدّ الزّبَدَ في خِرقَةِ حريرٍ. بعدَما ضمّخَها بعَبيرٍ. وأمرَ بتعْليقِها على فخْذِ الماخِضِ. وأنْ لا تعْلَقَ بها يدُ حائِضٍ. فلمْ يكُنْ إلا كذُواقِ شارِبٍ. أو فُواقِ حالِبٍ. حتى اندَلَقَ شخْصُ الولَدِ. لخصّيصَى الزَّبَدِ. بقُدرَةِ الواحِدِ الصّمَدِ. فامتلأ القصْرُ حُبوراً. واستُطيرَ عَميدُهُ وعَبيدُهُ سُروراً. وأحاطَتِ الجماعَةُ بأبي زيدٍ تُثْني عليْهِ. وتُقبّلُ يدَيْهِ. وتتبرّكُ بمِساسِ طِمْرَيْهِ. حتى خُيّلَ إليّ أنّهُ القَرَنيُّ أُوَيْسٌ. أوِ الأسَديُّ دُبَيسٌ. ثمّ انْثالَ عليْهِ منْ جَوائِزِ المُجازاةِ. ووصائِلِ الصّلاتِ. ما قيّضَ لهُ الغِنى. وبيّضَ وجْهَ المُنى. ولمْ يزَلْ ينْتابُهُ الدّخْلُ. مُذْ نُتِجَ السّخْلُ. الى أن أُعطِيَ البحْرُ الأمانَ. وتسنّى الإتْمامُ الى عُمانَ. فاكْتَفى أبو زيدٍ بالنِّحْلَةِ. وتأهّبَ للرّحلَةِ. فلمْ يسمَحِ الوالي بحرَكَتِهِ. بعْدَ تجرِبَةِ برَكَتِهِ. بلْ أوعَزَ بضَمّهِ الى حُزانَتِهِ. وأنْ تُطلَقَ يدُهُ في خِزانَتِهِ. قالَ الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا رأيتُهُ قدْ مالَ. الى حيثُ يكتَسِبُ المالَ. أنْحَيْتُ علَيْهِ بالتّعْنيفِ. وهجّنْتُ لهُ مُفارَقَةَ المألَفِ والأليفِ. فقالَ إليْكَ عني. واسْمَعْ منّي:
لا تَصْبوَنّ الـى وطَـنْ

فيهِ تُضامُ وتُمـتَـهَـنْ
وارْحَلْ عنِ الدّارِ التـي

تُعْلي الوِهادَ على القُنَنْ
واهْرُبْ الى كِـنٍّ يَقـي

ولوَ انّهُ حِضْنا حضَـنْ
وارْبأ بنَفسِكَ أنْ تُـقـي

م بَحيثُ يغْشاكَ الـدَّرَنْ
وجُبِ الـبِـلادَ فـأيُّهـا

أرْضاكَ فاخْتَرْهُ وطَـنْ
ودَعِ التّذكُّرَ لـلـمَـعـا

هِدِ والحَنينَ الى السّكَـنْ
واعْلَمْ بأنّ الـحُـرّ فـي

أوطانِهِ يَلْقَى الـغـبَـنْ
كالدُرّ في الأصْدافِ يُستزْ

رى ويُبْخَسُ في الثّمَـنْ
ثمّ قال: حسبُكَ ما استَمَعْتَ. وحبّذا أنتَ لوِ اتّبَعْتَ! فأوْضَحْتُ لهُ مَعاذيري. وقلتُ لهُ: كُنْ عَذيري. فعذَرَ واعتَذَرَ. وزوّدَ حتى لم يذَرْ. ثمّ شيّعَني تشْييعَ الأقارِبِ. الى أنْ ركِبْتُ في القارِبِ. فودّعْتُهُ وأنا أشْكو الفِراقَ وأذُمّهُ. وأوَدُّ لوْ كانَ هلَكَ الجَنينُ وأمُّهُ.
المقامة التبريزيّة
أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أزْمَعْتُ التّبريزَ منْ تبريزَ. حينَ نبَتْ بالذّليلِ والعَزيزِ. وخلَتْ من المُجيرِ والمُجيزِ. فبَيْنا أنا في إعدادِ الأُهبَةِ. وارْتِيادِ الصُحْبَةِ. ألْفَيتُ بها أبا زيدٍ السَّروجيَّ مُلتَفّاً بكِساءٍ. ومُحْتَفّاً بنِساءٍ. فسألْتُهُ عنْ خطْبِهِ. وإلى أينَ يسْرُبُ مع سِرْبِهِ? فأوْمأ الى امرأةٍ منهُنّ باهِرَةِ السّفورِ. ظاهِرَةِ النّفورِ. وقال: تزوّجْتُ هذهِ لتؤنِسَني في الغُربَةِ. وترْحَضَ عني قشَفَ العُزْبَةِ. فلَقيتُ منها عرَقَ القِرْبَةِ. تمْطُلُني بحقّي. وتكلّفُني فوْقَ طوْقي. فأنا منها نِضْوُ وَجَى. وحِلْفُ شجْوٍ وشجَى. وها نحْنُ قد تساعَيْنا الى الحاكِمِ. ليَضْرِبَ على يدِ الظّالِمِ. فإنِ انتظَمَ بيْنَنا الوِفاقُ. وإلا فالطّلاقُ والانطِلاقُ. قال: فمِلْتُ الى أن أخْبُرَ لمَنِ الغلَبُ. وكيفَ يكونُ المُنقلَبُ. فجعلْتُ شُغْلي دَبْرَ أُذْني. وصحِبتُهُما وإنْ كنتُ لا أُغْني. فلمّا حضَرَ القاضي وكان ممّن يرَى فضْلَ الإمْساكِ. ويضَنُّ بنُفاثَةِ السّواكِ. جَثا أبو زيدٍ بينَ يدَيْهِ. وقال: أيّدَ اللهُ القاضيَ وأحسَنَ إليْهِ. إنّ مطيّتي هذهِ أبيّةُ القِيادِ. كثيرَةُ الشِّرادِ. معَ أني أطْوَعُ لها منْ بَنانِها. وأحْنى عليْها منْ جَنانِها. فقالَ لها القاضي: ويْحَكِ! أما علِمْتِ أنّ النُّشوزَ يُغضِبُ الرّبّ. ويوجِبُ الضّرْبَ? فقالتْ: إنّهُ ممّن يدورُ خلْفَ الدارِ. ويأخُذُ الجارَ بالجارِ. فقال لهُ القاضي: تباً لكَ! أتَبْذُرُ في السِّباخِ. وتستَفرِخُ حيثُ لا إفْراخَ? اعْزُبْ عني لا نَعِمَ عوفُكَ. ولا أمِنَ خوفُكَ! فقالَ أبو زيدٍ: إنها ومُرسِلِ الرّياحِ. لأكْذَبُ منْ سَجاحِ! فقالتْ: بل هوَ ومَنْ طوّقَ الحَمامَةَ. وجنّحَ النّعامَةَ. لأكْذَبُ من أبي ثُمامَةَ. حينَ مَخْرَقَ باليَمامَةِ. فزفَرَ أبو زيدٍ زَفيرَ الشُّواظِ. واسْتَشاطَ استِشاطَةَ المُغْتاظِ. وقال لها: ويْلَكِ يا دَفارِ يا فَجارِ. يا غُصّةَ البعْلِ والجارِ! أتَعْمِدينَ في الخَلوَةِ لتَعْذيبي. وتُبدينَ في الحَفلَةِ تكْذيبي? وقد علِمْتِ أني حينَ بنَيتُ عليْكِ. ورنَوْتُ إليْكِ. ألفَيتُكِ أقْبَحَ من قِرْدَةٍ. وأيْبَسَ منْ قِدّةٍ. وأخشَنَ من لِيفَةٍ. وأنْتَنَ منْ جيفَةٍ. وأثقَلَ منْ هَيضَةٍ. وأقذَرَ منْ حيضَةٍ. وأبرَزَ من قِشرَةٍ. وأبْرَدَ من قِرّةٍ. وأحمَقَ من رِجلَةٍ. وأوسَعَ منْ دِجلَةَ! فستَرْتُ عَوارَكِ. ولمْ أُبْدِ عارَكِ. على أنهُ لوْ حبَتْكِ شيرينُ بجَمالِها. وزُبَيدَةُ بمالِها. وبِلْقيسُ بعَرْشِها. وبُورانُ بفَرْشِها. والزّبّاء بمُلْكِها. ورابِعَةُ بنُسكِها. وخِندِفُ بفَخْرِها. والخنْساءُ بشِعْرِها في صخرِها. لأنِفْتُ أن تكوني قَعيدَةَ رَحْلي. وطَروقَةَ فحْلي! قال: فتذمّرَتِ المرأةُ وتنمّرَتْ. وحسَرَتْ عنْ ساعِدِها وشمّرَتْ. وقالتْ لهُ: يا ألأمَ منْ مادِرٍ. وأشْأمَ منْ قاشِرٍ. وأجْبَنَ منْ صافِرٍ. وأطْيَشَ منْ طامِرٍ! أتَرْميني بشَنارِكَ. وتَفْري عِرْضي بشِفارِكَ? وأنتَ تعْلَمُ أنكَ أحقَرُ منْ قُلامَةٍ. وأعْيَبُ منْ بَغْلةِ أبي دُلامَةَ. وأفضَحُ منْ حَبْقَةٍ. في حلْقَةٍ. وأحْيَرُ منْ بَقّةٍ. في حُقّةٍ! وهَبْكَ الحَسَنَ في وعْظِهِ ولفْظِهِ. والشّعْبيَّ في عِلْمِهِ وحِفْظِهِ. والخَليلَ في عَروضِهِ ونحوِهِ. وجَريراً في غزَلِهِ وهجْوِهِ. وقُسّاً في فَصاحَتِهِ وخِطابَتِهِ. وعبْدَ الحَميدِ في بَلاغَتِهِ وكِتابَتِهِ. وأبا عَمْرٍو في قِراءتِهِ وإعْرابِهِ. وابنَ قُرَيبٍ في رِوايَتِهِ عنْ أعْرابِهِ. أتظُنّني أرْضاكَ إماماً لمِحْرابي. وحُساماً لقِرابي? لا واللهِ ولا بَوّاباً لِبابي. ولا عَصاً لجِرابي! فقالَ لهُما القاضي: أراكُما شَنّاً وطَبقةَ. وحِدَأةً وبُندُقَةً. فاتْرُكْ أيّها الرّجُلُ اللَّدَدَ. واسْلُكْ في سيْرِكَ الجَدَدَ. وأمّا أنْتِ فكُفّي عنْ سِبابِهِ. وقِرّي إذا أتى البَيتَ منْ بابِهِ. فقالَتِ المرأةُ: واللهِ ما أسْجُنُ عنهُ لِساني. إلا إذا كَساني. ولا أرْفَعُ لهُ شِراعي. دونَ إشْباعي. فحلَفَ أبو زيْدٍ بالمُحَرِّجاتِ الثّلاثِ. أنهُ لا يملِكُ سوى أطْمارِهِ الرِّثاثِ. فنظَرَ القاضي في قَصَصِهِما نظَرَ الألمَعيّ. وأفْكَرَ فِكرَةَ اللّوذَعيّ. ثمّ أقبلَ عليْهِما بوجْهٍ قد قطّبَهُ. ومِجَنٍّ قد قلَبَهُ. وقال: ألَمْ يكْفِكُما التّسافُهُ في مجلِسِ الحُكْمِ. والإقْدامُ على هذا الجُرْمِ. حتى تَراقَيتُما منْ فُحْشِ المُقاذَعَةِ. الى خُبْثِ المُخادَعَةِ? وايْمُ اللهِ لقدْ أخطأتِ استُكُما الحُفْرَةَ. ولمْ يُصِبْ سَهْمُكُما الثُّغْرَةَ. فإنّ أميرَ المؤمِنينَ. أعَزّ اللهُ ببقائِهِ الدّينَ. نصَبَني لأقْضيَ بينَ الخُصَماء. لا لأقضيَ دَينَ الغُرَماء. وحَقِّ نِعمَتِهِ التي أحلّتْني هذا المَحَلّ. وملّكَتْني العَقْدَ والحَلّ. لَئِنْ لمْ تُوضِحا لي جليّةَ خَطْبِكُما. وخَبيئَةَ خِبّكُما. لأُنَدّدَنّ بكُما في الأمصارِ. ولأجْعلَنّكُما عِبرَةً لأولي الأبصارِ! فأطْرَقَ أبو زيدٍ إطْراقَ الشُجاعِ. ثمّ قالَ لهُ: سَماعِ سَماعِ:هِما بوجْهٍ قد قطّبَهُ. ومِجَنٍّ قد قلَبَهُ. وقال: ألَمْ يكْفِكُما التّسافُهُ في مجلِسِ الحُكْمِ. والإقْدامُ على هذا الجُرْمِ. حتى تَراقَيتُما منْ فُحْشِ المُقاذَعَةِ. الى خُبْثِ المُخادَعَةِ? وايْمُ اللهِ لقدْ أخطأتِ استُكُما الحُفْرَةَ. ولمْ يُصِبْ سَهْمُكُما الثُّغْرَةَ. فإنّ أميرَ المؤمِنينَ. أعَزّ اللهُ ببقائِهِ الدّينَ. نصَبَني لأقْضيَ بينَ الخُصَماء. لا لأقضيَ دَينَ الغُرَماء. وحَقِّ نِعمَتِهِ التي أحلّتْني هذا المَحَلّ. وملّكَتْني العَقْدَ والحَلّ. لَئِنْ لمْ تُوضِحا لي جليّةَ خَطْبِكُما. وخَبيئَةَ خِبّكُما. لأُنَدّدَنّ بكُما في الأمصارِ. ولأجْعلَنّكُما عِبرَةً لأولي الأبصارِ! فأطْرَقَ أبو زيدٍ إطْراقَ الشُجاعِ. ثمّ قالَ لهُ: سَماعِ سَماعِ:
أنا السَّروجيّ وهَـذي عِـرْسـي

وليسَ كُفْؤُ البدْرِ غيرَ الشّـمـسِ
وما تَنافى أُنـسُـهـا وأُنـسـي

ولا تَناءى ديرُها عـنْ قَـسّـي
ولا عدَتْ سُقْيايَ أرْضَ غَرْسـي

لكِنّـنـا مـنـذُ لَـيالٍ خـمْـسِ
نُصبحُ في ثوبِ الطّوى ونُمْسـي

لا نعرِفُ المَضْغَ ولا التّحَـسّـي
حتى كأنّا لخُـفـوتِ الـنّـفْـسِ

أشْباحُ مَوْتى نُشِروا منْ رَمْـسِ
فحينَ عزّ الصّبـرُ والـتـأسّـي

وشَفّنا الضُـرُّ الألـيمُ الـمَـسّ
قُمْنا لسَعْدِ الجَدّ أو لـلـنّـحْـسِ

هذا المَقامَ لاجـتِـلابِ فَـلْـسِ
والفَقْرُ يُلْحي الحُرَّ حـينَ يُرْسـي

الى التّحَلّي في لِباسِ الـلَّـبْـسِ
فهـذِهِ حـالـي وهَـذا دَرْسـي

فانظُرْ الى يوْمي وسَلْ عن أمسي
وأمُرْ بجَبري إنْ تَشا أو حبْـسـي

ففي يدَيْكَ صحّتـي ونُـكْـسـي
فقالَ لهُ القاضي: ليَثُبْ أُنسُكَ. ولْتَطِبْ نفسُكَ. فقد حقّ لكَ أن تُغفَرَ خَطيّتُكَ. وتُوَفَّرَ عطيّتُكَ. فثارَتِ الزّوجَةُ عندَ ذلِك واستَطالَتْ. وأشارَتْ الى الحاضِرينَ وقالتْ:
يا أهلَ تبريزَ لكُمْ حاكِـمٌ

أوْفى على الحُكّامِ تبْريزا
ما فيهِ من عيْبٍ سوى أنهُ

يومَ النّدى قِسمَتُهُ ضِيزَى
قصَدْتُهُ والشيخُ نبْغي جَنى

عودٍ لهُ ما زال مهْزوزا
فسَرّحَ الشيخَ وقد نالَ منْ

جَدْواهُ تخْصيصاً وتمْييزا
وردّني أخْيَبَ مـنْ شـائِمٍ

بَرْقاً خَفا في شهْرِ تمّوزا
كأنّهُ لمْ يدْرِ أني الـتـي

لقّنْتُ ذا الشّيخَ الأراجيزا
وأنّني إنْ شِئْتُ غادَرْتُـهُ

أُضْحوكَةً في أهلِ تَبْريزا
قال: فلمّا رأى القاضي اجْتِراء جَنانِهِما. وانصِلاتَ لِسانِهِما. علِمَ أنهُ قد مُنيَ منهُما بالدّاء العَياء. والداهِيَةِ الدّهْياء. وأنهُ مَتى منَحَ أحدَ الزّوجينِ. وصرَفَ الآخرَ صَفْرَ اليَديْنِ. كان كمَنْ قضى الدّيْنَ بالدَّيْنِ. أو صلّى المغرِبَ ركْعتَينِ. فطَلْسَمَ وطرْسَمَ. واخْرَنْطَمَ وبرْطَمَ. وهمْهَمَ وغمْغَمَ. ثمّ التفَتَ يَمنَةً وشامةً. وتملْمَلَ كآبَةً ونَدامَةً. وأخذ يذُمّ القضاء ومَتاعِبَهُ. ويَعُدّ شوائِبَهُ ونَوائِبَهُ. ويفَنّدُ طالِبَهُ وخاطِبَهُ. ثمّ تنفّسَ كما يتنفّسُ الحَريبُ. وانتَحَبَ حتى كادَ يفضَحُهُ النّحيبُ. وقال: إنّ هذا لَشَيْءٌ عجيبٌ. أأُرْشَقُ في موقِفٍ بسَهْمَيْنِ. أأُلزَمُ في قَضيّةٍ بمَغْرَمَينِ. أأُطيقُ أنْ أُرضيَ الخصْمَينِ. ومنْ أينَ ومِنْ أينَ? ثمّ عطَفَ الى حاجِبِه. المُنفِذِ لمآرِبِهِ. وقال: ما هذا يومُ حُكْمٍ وقَضاءٍ. وفصْلٍ وإمْضاءٍ! هذا يومُ الاعتِمامِ. هذا يومُ الاغْتِرامِ. هذا يومُ البُحْرانِ. هذا يومُ الخُسْرانِ! هذا يومٌ عصيبٌ. هذا يومٌ نُصابُ فيهِ ولا نُصيبُ! فأرِحْني منْ هذَينِ المِهذارَيْنِ. واقطَعْ لسانَهُما بدينارَينِ. ثمّ فرّقِ الأصْحابَ. وأغلِقِ البابَ. وأشِعْ أنهُ يومٌ مذْمومٌ. وأنّ القاضيَ فيهِ مهْمومٌ. لئلاّ يحْضُرَني خُصومٌ! قال: فأمّنَ الحاجِبُ على دُعائِهِ. وتَباكى لبُكائِهِ. ثمّ نقَدَ أبا زيدٍ وعِرْسَهُ المِثقالَينِ. وقال: أشهَدُ أنّكُما لأحْيَلُ الثّقَلينِ. لكِنِ احْتَرِما مجالِسَ الحُكّامِ. واجتَنِبا فيها فُحشَ الكلامِ. فما كُلُّ قاضٍ قاضي تبريزَ. ولا كُلَّ وقتٍ تُسمَعُ الأراجيزُ. فقالا لهُ: مثلُك منْ حجَبَ. وشُكرُكَ قدْ وجَبَ. ونهَضا وقدْ حظِيا بدينارَينِ. وأصْلَيا قلْبَ القاضي نارَينِ.
المقامة التِّنِّيسيّة
حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أطَعْتُ دَواعيَ التّصابي. في غُلَواء شَبابي. فلمْ أزَلْ زِيراً للغِيدِ. وأُذُناً للأغارِيدِ. الى أن وافَى النّذيرُ. وولّى العيشُ النّضيرُ. فقَرِمْتُ الى رُشْدِ الانتِباهِ. وندِمْتُ على ما فرّطْتُ في جنْبِ اللهِ. ثمّ أخذْتُ في كسْعِ الهَناتِ بالحَسَناتِ. وتلافي الهفَواتِ قبلَ الفَواتِ. فمِلْتُ عنْ مُغاداةِ الغاداتِ. الى مُلاقاةِ التُّقاةِ. وعنْ مُقاناةِ القَيْناتِ. الى مُداناةِ أهلِ الدّياناتِ. وآلَيتُ أن لا أصْحَبَ إلا مَنْ نزَعَ عنِ الغَيّ. وفاءَ منشَرُهُ الى الطّيّ. وإنْ ألْفَيْتُ منْ هوَ خَليعُ الرّسَنِ. مَديدُ الوسَنِ. أنْأيْتُ داري عن دارِهِ. وفرَرْتُ عنْ عَرّهِ وعارِهِ. فلمّا ألقَتني الغُربَةُ بتِنّيسَ. وأحَلّتني مسجِدَها الأنيسَ. رأيتُ بهِ ذا حَلقَةٍ مُلتَحمَةٍ. ونظّارَةٍ مُزدَحِمةٍ. وهوَ يقولُ بجأشٍ مَكينٍو ولِسنٍ مُبينٍ: مِسكينٌ ابنُ آدمَ وأيُّ مِسكينٍ. ركَنَ من الدّنيا الى غيرِ رَكينٍ. واستَعصَمَ منها بغيرِ مَكسنٍ. وذُبِحَ من حُبّها بغيرِ سِكّينٍ. يَكْلَفُ بها لغَباوَتِهِ. ويَكْلَبُ عليْها لشَقاوَتِهِ. ويعْتَدّ فيها لمُفاخرَتِهِ. ولا يتزوّدُ منها لآخرتِهِ. أُقسمُ بمَنْ مرَجَ البَحرَينِ. ونوّرَ القمَرَينِ. ورفَعَ قدْرَ الحجريْنِ. لوْ عقَلَ ابنُ آدَمَ. لما نادَمَ. ولوْ فكّرَ في ما قدّمَ. لبَكى الدّمَ. ولوْ ذكَرَ المُكافاةَ. لاستَدرَكَ ما فاتَ. ولوْ نظَرَ في المآلِ. لحسّنَ قُبْل الأعْمالِ. يا عجَباً كلَّ العجَبِ. لمَنْ يقتَحِمُ ذاتَ اللّهَبِ. في اكْتِنازِ الذّهبِ. وخزْنِ النّشَبِ. لذوي النّسَبِ. ثمّ منَ البِدْعِ العَجيبِ. أن يعِظَكَ وخْطُ المشيبِ. وتؤذِنُ شمسُكَ بالمَغيبِ. ولستَ ترى أن تُنيبَ. وتهذّبَ المَعيبَ. ثمّ اندفَعَ يُنشِدُ. إنشادَ منْ يُرشِدُ:
يا ويْحَ مَـنْ أنـذرَهُ شَـيبُــهُ

وهوَ على غَيّ الصِّبا منكَمِـشْ
يعْشو الى نارِ الهَوى بـعْـدَمـا

أصبَحَ من ضُعْفِ القُوى يرتَعِش
ويمتَطـي الـلـهْـوَ ويعْـتَـدُّهُ

أوْطأ ما يفتَرِشُ المُـفـتَـرِشْ
لم يهَبِ الشّيبَ الـذي مـا رأى

نجومَهُ ذو الـلُّـبّ إلا دُهِـشْ
ولا انتهَى عمّا نَهـاهُ الـنُـهـى

عنهُ ولا بالى بعِـرْضٍ خُـدِشْ
فذاكَ إنْ ماتَ فسُـحْـقـاً لـهُ

وإن يعِشْ عُدّ كأنْ لـمْ يعِـشْ
لا خيْرَ في مَحْيا امرئٍ نشْـرُهُ

كنَشْرِ ميْتٍ بعدَ عشْرٍ نُـبِـشْ
وحبّذا مَـن عِـرضُـهُ طـيّبٌ

يَروقُ حُسْناً مثلَ بُـرْدٍ رُقِـشْ
فقُلْ لمَن قـد شـاكَـهُ ذنـبُـهُ

هلَكْتَ يا مِسكينُ أو تنتَـقِـشْ
فأخْلِصِ التّوبَةَ تطمِـسْ بـهـا

منَ الخَطايا السودِ ما قد نُقِـشْ
وعاشِرِ الناسَ بخُلـقٍ رِضًـى

ودارِ منْ طاشَ ومنْ لم يطِشْ
ورِشْ جَناحَ الحُرّ إنْ حَـصّـهُ

زمانُهُ لا كانَ مـنْ لـم يرِشْ
وأنجِدِ الموْتورَ ظُـلـمـاً فـإنْ

عجِزْتَ عن إنْجادِهِ فاستجِـشْ
وانعَشْ إذا نـاداكَ ذو كَـبـوَةٍ

عساكَ في الحشْرِ بهِ تنتَعِـشْ
وهاكَ كأسَ النُصْحِ فاشرَبْ وجُدْ

بفَضْلَةِ الكأسِ على مَنْ عطِشْ
قال: فلمّا فرَغَ من مُبكِياتِهِ. وقضَى إنشادَ أبياتِهِ. نهضَ صبيٌّ قد شدَنَ. وأعْرى البَدَنَ. وقال: يا ذَوي الحَصاةِ. والإنْصاتِ الى الوَصاةِ. قد وعَيْتُمُ الإنشادَ. وفقِهتُمُ الإرْشادَ. فمَن نَوى منكُمْ أن يقْبَلَ. ويُصلِحَ المُستَقبَلَ. فلْيُبِنْ ببِرّي عنْ نِيّتِهِ. ولا يعدِلْ عني بعَطيّتِهِ. فوالذي يعلَمُ الأسرارَ. ويغفِرُ الإصْرارَ. إنّ سرّي لكَما تَرَوْنَ. وإنّ وجهي ليَستَوْجِبُ الصّوْنَ. فأعينوني رُزِقْتُمُ العوْنَ. قال: فأخذَ الشيخُ في ما يعطِفُ عليْهِ القُلوبَ. ويُسَنّي لهُ المطْلوبَ. حتى أنْبَطَ حَفرُهُ. واعْشَوشَبَ قَفْرُهُ. فلمّا أنْ ترِعَ الكيسُ. انصَلَتَ يميسُ. ويحمَدُ تِنّيسَ. ولمْ يحْلُ للشيخِ المُقامُ. بعْدَما انْصاعَ الغُلامُ. فاستَرْفَعَ الأيْدي بالدّعاء. ثمّ نَحا نحْوَ الانكِفاء. قال الراوي: فارتَحْتُ الى أن أعجُمَهُ. وأحُلَّ مُترجَمَهُ. فتَبعتُهُ وهو يشتَدّ في سمْتِهِ. ولا يفْتُقُ رتْقَ صمتِهِ. فلمّا أمِنَ المُفاجيَ. وأمكَنَ التّناجي. لفَتَ جيدَهُ إليّ. وسلّمَ تسْليمَ البَشاشَةِ عليّ. ثمّ قال: أراقَكَ ذكاءُ ذاكَ الشُّوَيْدِنِ? فقلتُ: إي والمؤمِنِ المُهَيمِنِ! قال: إنهُ فتى السّروجيّ. ومُخرِجِ الدُّرّ منَ اللُّجّيّ! فقلْتُ: أشهَدُ إنّكَ لَشَجرَةُ ثمرَتِهِ. وشُواظُ شرَرَتِهِ. فصدّقَ كَهانَتي. واستَحْسَنَ إبانَتي. ثمّ قال: هل لكَ في ابتِدارِ البيتِ. لنَتنازَعَ كأسَ الكُمَيتِ? فقلتُ لهُ: ويْحَكَ أتأمُرونَ الناسَ بالبِرّ وتَنسَوْنَ أنفُسَكُمْ? فافتَرّ افتِرارَ مُتَضاحِكٍ. ومرّ غيرَ مُماحِكٍ. ثمّ بَدا لهُ أنْ تَراجَعَ إليّ. وقال: احفَظْها عني وعليّ:
إصْرِفْ بصِرْفِ الرّاحِ عنكَ الأسى

وروّحِ القـلْـبَ ولا تـكـتَـئِبْ
وقلْ لمَـنْ لامـكَ فـي مـا بِـهِ

تدفعُ عنكَ الـهـمّ قـدْكَ اتّـئِبْ
ثمّ قال: أمَا أنا فسأنطَلِقُ. الى حيثُ أصطَبِحُ وأغْتَبِقُ. وإذا كُنتَ لا تَصحَبُ. ولا تُلائِمُ مَن يطرَبُ. فلسْتَ لي برَفيقٍ. ولا طريقُكَ لي بطَريقٍ. فخَلّ سَبيلي ونكّبْ. ولا تُنقّرْ عني ولا تُنقّبْ. ثمّ ولّى مُدْبِراً ولمْ يُعَقّبْ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فالْتَهَبْتُ وجْداً عندَ انطِلاقِهِ. ووَدِدْتُ لوْ لمْ أُلاقِهِ.
المقامة النَّجرانِيّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: تَرامتْ بي مَرامي النّوى. ومسَاري الهَوى. الى أن صِرْتُ ابنَ كُلّ تُربَةٍ. وأخا كُلّ غُربةٍ. إلا أني لمْ أكُنْ أقطَعُ وادِياً. ولا أشهَدُ نادِياً. إلا لاقْتِباسِ الأدَبِ المُسْلي عنِ الأشْجانِ. المُغْلي قيمَةَ الإنسانِ. حتى عُرِفَتْ لي هذه الشِّنْشِنَةُ. وتناقلَتْها عني الألسنَةُ. وصارتْ أعْلَقَ بي منَ الهوى ببَني عُذْرَةَ. والشّجاعَةِ بآلِ أبي صُفرَةَ. فلمّا ألْقَيتُ الجِرانَ بنَجْرانَ. واصطَفَيتُ بها الخُلاّنَ والجيرانَ. تخِذْتُ أندِيَتَها مُعتَمَري. وموسِمَ فُكاهَتي وسمَري. فكنْتُ أتعَهّدُها صَباحَ مساء. وأظهَرُ فيها على ما سرّ وساء. فبَينَما أنا في نادٍ محْشودٍ. ومحْفِلٍ مشْهودٍ. إذ جثَمَ لدَيْنا هِمٌّ. علَيهِ هِدْمٌ. فحَيّا تحيّةَ ملِقٍ. بلِسانٍ ذلِقٍ. ثمّ قال: يا بُدورَ المَحافِلِ. وبحورَ النّوافِلِ. قد بيّنَ الصّبْحُ لِذي عيْنَينِ. ونابَ العِيانُ مَنابَ عدْلَينِ. فماذا تَروْنَ. في ما ترَوْنَ? أتُحسِنونَ العَوْنَ. أم تنأوْنَ. إذْ تُدعَوْنَ? فقالوا: تاللهِ لقَدْ غِظْتَ. ورُمْتَ أن تُنبِطَ فغِضْتَ. فناشَدَهُمُ اللهَ عمّاذا صدّهُمْ. حتى استَوجَبَ ردَّهُمْ. فقالوا: كنّا نتَناضَلُ بالألْغازِ. كما يُتَناضَلُ يومَ البِرازِ. فما تمالَكَ أن شعّثَ منَ المَنْضولِ. وألْحَقَ هذا الفضْلَ بنمَطِ الفُضولِ. فلَسَنَتْهُ لُسْنُ القوْمِ. ووَخَزوهُ بأسنّةِ اللّوْمِ. وأخذَ هوَ يتنصّلُ من هَفوَتِهِ. ويتندّمُ على فَوْهَتِهِ. وهُمْ مُضِبّونَ على مؤاخذَتِهِ. ومُلَبّونَ داعيَ مُنابَذَتِهِ. الى أن قالَ لهُمْ: يا قومِ إنّ الاحتِمالَ منْ كرَمِ الطّبْعِ. فعَدّوا عنِ اللّذْعِ والقَذْعِ. ثمّ هلُمّ الى أن نُلغِزَ. ونُحكّمَ المُبرِّزَ. فسكنَ عندَ ذلِك توقُّدُهُمْ. وانحَلّتْ عُقدُهمْ. ورَضوا بما شرَطَ عليهِمْ ولَهُمْ. واقتَرَحوا أنْ يكونَ أوّلَهُمْ. فأمْسكَ ريْثَما يُعقَدُ شِسْعٌ. أو يُشَدّ نِسْعٌ. ثمّ قال: اسمَعوا وُقيتُمُ الطّيشَ. ومُلّيتُمُ العيْشَ. وأنشدَ مُلغِزاً في مِروَحَةِ الخيْش:
وجارِيَةٍ في سيرِها مُشـمَـعِـلّةٍ

ولكِنْ على إثْرِ المَسيرِ قُفولُهـا
لها سائِقٌ من جِنسِها يستَحثّـهـا

على أنهُ في الإحتِثاثِ رَسيلُهـا
تُرى في أوانِ القَيظِ تنظُفُ بالنّدى

ويَبدو إذا ولّى المَصيفُ قُحولُها
ثمّ قال: وهاكُمْ يا أولي الفضْلِ. ومَراكِزَ العقْلِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في حابولِ النّخْلِ:
ومُنتَسِـبٍ الـى أمٍّ

تَنَشّا أصْلُهُ منْهـا
يعانِقُها وقد كانـتْ

نفَتْهُ بُرهَةً عنْهـا
بهِ يتوصّلُ الجانـي

ولا يُلْحى ولا يُنْهى
ثمّ قال: ودونَكُمُ الخَفيّةَ العلَمِ. المُعتَكِرَةَ الظُلَمِ. وأنشدَ مُلغِزاً في القلَمِ:
ومأمومٍ بهِ عُـرِفَ الإمـامُ

كما باهَتْ بصُحْبَتِهِ الكِرامُ
لهُ إذ يرتَوي طَيْشانُ صـادٍ

ويسكُنُ حينَ يعْروهُ الأُوامُ
ويُذْري حين يُستَسْعى دُموعاً

يرُقْنَ كما يروقُ الإبتِسـامُ
ثمّ قال: وعلَيْكُمْ بالواضِحَةِ الدّليلِ. الفاضِحَةِ ما قيلَ. وأنشدَ مُلغِزاً في المِيلِ:
وما ناكِحٌ أُختَينِ جَهْـراً وخُـفـيَةً

وليسَ عليهِ في النّكـاحِ سَـبـيلُ
متى يغْشَ هذي يغْشَ في الحالِ هذه

وإنْ مالَ بعْلٌ لـمْ تـجِـدْهُ يَمـيلُ
يَزيدُهُما عندَ المَشـيبِ تـعـهّـداً

وبِرّاً وهذا في البُـعـولِ قَـلـيلُ
ثم قال: وهذِهِ يا أولي الألْبابِ. مِعْيارُ الآدابِ. وأنشَد مُلغِزاً في الدّولابِ:
وجافٍ وهْوَ موْصولٌ

وَصولٌ ليسَ بالجافي
غَريقٌ بارِزٌ فاعْجَـبْ

لهُ منْ راسِبٍ طافِ
يسُحّ دُموعَ مهْضـومٍ

ويهْضِمُ هَضْمَ مِتْلافِ
وتُخْشى منهُ حِـدّتُـهُ

ولكِنْ قلبُـهُ صـافِ
قال: فلمّا رشَقَ. بالخَمْسِ التي نسَقَ. قال: يا قوْمِ تدَبّروا هذهِ الخمْسَ. واعْقِدوا عليْها الخَمْسَ. ثمّ رأيَكُمْ وضَمّ الذّيلِ. أوِ الازدِيادَ منْ هَذا الكَيْلِ! قال: فاستَفزّتِ القوْمَ شهوَةُ الزّيادَةِ. على ما أُشرِبوا منَ البَلادَةِ. فقالوا لهُ: إنّ وُقوفَنا دونَ حدّكَ. ليُفْحِمُنا عنِ استِيراء زنْدِكَ. واستِشْفافِ فِرِنْدِكَ. فإنْ أتْمَمتَ عشْراً فمِنْ عِندِكَ. فاهتزّ اهتِزازَ منْ فلَجَ سهمُهُ. وانخَزَلَ خصْمُهُ. ثمّ افتَتَح النُطْقَ بالبَسمَلَةِ. وأنشدَ مُلغِزاً في المُزَمَّلَةِ:
ومَسْرورَةٍ مَغمومَةٍ طولَ دهـرِهـا

وما هيَ تدري ما السُرورُ ولا الغَـمُّ
تُقرَّبُ أحـيانـاً لأجْـلِ جَـنـينِـهـا

وكـمْ ولـدٍ لـوْلاهُ طُـلّـقَـتِ الأمُّ
وتُبعَدُ أحياناً ومـا حـالَ عـهـدُهـا

وإبعادُ من لم يَستَحِلْ عهـدُه ظُـلـمُ
إذا قَصُرَ الليلُ استُـلِـذّ وصـالُـهـا

وإن طالَ فالإعراضُ عن وصْلِها غُنمُ
لها ملـبَـسٌ بـادٍ أنـيقٌ مـبَـطَّـنٌ

بما يُزْدَرى لكنْ لِما يُزْدرى الحُـكـمُ
ثم كشَرَ عن أنيابِهِ الصُفْرِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الظُفْرِ:
ومرهوبِ الشَّـبـا نـامٍ

وما يرْعى ولا يشـرَبْ
يُرى في العَشْرِ دونَ النّحْ

رِ فاسمَعْ وصفَهُ واعْجَبْ
ثم تخازرَ تخازُرَ العِفْريتِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في طاقَةِ الكِبريتِ:
وما مَحْقورَةٌ تُدْنى وتُقْصى

وما منْها إذا فكّـرْتَ بُـدُّ
لها رأسانِ مُشتَبِهانِ جِـداً

وكُلٌ منهُما لأخـيهِ ضِـدُّ
تعذَّبُ إن هُما خُضِبا وتُلغى

إذا عَدِما الخِضابَ ولا تُعَدّ
ثمّ تخمّطَ تخمُّطَ القَرْمِ. وأنشدَ في حلَبِ الكَرْمِ:
وما شيءٌ إذا فسَـدا

تحوّلَ غـيُّهُ رشَـدا
وإنْ هوَ راقَ أوصافاً

أثارَ الشرّ حيثُ بَدا
زَكيُّ العِرقِ والِـدُهُ

ولكِنْ بِئْسَ ما ولَـدا
ثمّ اعتَضَدَ عَصا التَّسيارِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الطيّارِ:
وذي طَيشَةٍ شِـقُّـهُ مـائِلٌ

وما عابَهُ بهِمـا عـاقِـلُ
يُرى أبـداً فـوقَ عِـلّـيّةٍ

كما يعْتَلي المَلِكُ العـادِلُ
تساوَى لدَيْهِ الحَصا والنُّضارُ

وما يستَوي الحقُّ والباطلُ
وأعْجَبُ أوصافِهِ إنْ نظرْتَ

كما ينظُرُ الكَيّسُ الفاضِـلُ
تَراضي الخُصومِ بهِ حاكِماً

وقدْ عرَفـوا أنّـهُ مـائِلُ
قال: فظلّتِ الأفكارُ تَهيمُ في أوديةِ الأوْهامِ. وتَجولُ جوَلانَ المُستَهامِ. الى أن طالَ الأمَدُ. وحصْحَصَ الكمَدُ. فلمّا رآهُمْ يزنِدونَ ولا سَنا. ويقْضونَ النّهارَ بالمُنى. قال: يا قومِ إلامَ تنظُرونَ. وحتّامَ تُنظَرونَ? ألَمْ يأنِ لكُمُ استِخْراجُ الخَبيّ. أو استِسلامُ الغَبيّ? فقالوا: تاللهِ لقدْ أعْوَصْتَ. ونصَبْتَ الشَّرَكَ فقنَصْتَ. فتحَكّمْ كيفَ شيتَ. وحُزِ الغُنْمَ والصّيتَ. ففرَضَ عنْ كلّ مُعَمًى فرْضاً. واستخلَصَهُ منهُمْ نَضّاً. ثمّ فتَح الأقفالَ. ورسمَ الأغْفالَ. وحاولَ الإجْفالَ. فاعتلَقَ بهِ مِدرَهُ القومِ. وقال لهُ: لا لُبسَةَ بعْدَ اليومِ. فاستَنْسِبْ قبلَ الانطِلاقِ. وهَبْها مُتعَةَ الطّلاقِ. فأطْرَقَ حتى قُلْنا مُريبٌ. ثمّ أنشَدَ والدمعُ مُجيبٌ:
سَروجُ مطْلِعُ شمْسي

وربْعُ لَهْوي وأُنسـي
لكِنْ حُرِمْتُ نَعيمـي

بها ولَذةَ نـفْـسـي
واعْتَضْتُ عنها اغْتِراباً

أمَرَّ يومي وأمْسـي
ما لي مقَـرٌّ بـأرضٍ

ولا قَرارٌ لعَنْـسـيْ
يوماً بنَـجـدٍ ويوْمـاً

بالشّأمِ أُضْحي وأُمسي
أُزْجي الزّمانَ بقـوتٍ

منغّصٍ مُستَـخَـسّ
ولا أبـيتُ وعـنـدي

فلْسٌ ومَنْ لي بفَلْـسِ
ومنْ يعِشْ مثلَ عيشي

باعَ الحياةَ ببـخْـسِ
ثم إنّهُ اخْتَبَن خُلاصَةَ النّضّ. وندرَ ضارِباً في الأرضِ. فناشدْناهُ أن يعودَ. وأسْنَيْنا لهُ الوعودَ. فلا وأبيكَ ما رجعَ. ولا التّرغيبُ لهُ نجعَ.
المقامة البَكرِيّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: هَفا بيَ البينُ المطَوِّحُ. والسيرُ المبرِّحُ. الى أرضٍ يضِلّ بها الخِرّيتُ. وتفْرَقُ فيها المصاليتُ. فوجَدتُ ما يجِدُ الحائِرُ الوحيدُ. ورأيتُ ما كُنتُ منه أحيدُ. إلا أني شجّعْتُ قلْبيَ المَزْؤودَ. ونسأتُ نِضْوِيَ المجْهودَ. وسِرْتُ سيرَ الضّارِبِ بقِدْحَينِ. المُستَسلِمِ للحَينِ. ولمْ أزَلْ بينَ وخْدٍ وذَميلٍ. وإجازَةِ مِيلٍ بعْدَ ميلٍ. الى أن كادَتِ الشمْسُ تجِبُ. والضّياءُ يحتجِبُ. فارْتَعْتُ لإظْلالِ الظّلامِ. واقتِحامِ جَيشِ حامٍ. ولمْ أدْرِ أأكْفِتُ الذّيلَ وأرتبِطُ. أم أعتَمِدُ اللّيلَ وأختَبِطُ? وبيْنا أنا أقلّبُ العزْمَ. وأمتَخِضُ الحزْمَ. تَراءى لي شبَحُ جمَلٍ. مُستَذْرٍ بجبَلٍ. فترَجّيتُهُ قُعْدَةَ مُريحٍ. وقصدْتُهُ قصْدَ مُشيحٍ. فإذا الظّنّ كَهانَةٌ. والقُعدَةُ عَيرانَةٌ. والمُريحُ قدِ ازْدَمَلَ ببِجادِهِ. واكتَحَلَ برُقادِه. فجلَسْتُ عندَ راسِهِ. حتى هبّ من نُعاسِهِ. فلمّا ازْدَهَرَ سِراجاهُ. وأحَسّ بمَنْ فاجاهُ. نفَرَ كما ينفِرُ المُريبُ. وقال: أخوكَ أمِ الذّيبُ? فقلتُ: بلْ خابِطُ ليْلٍ ضَلّ المسلَكَ. فأضِئْ أقْدَحْ لكَ. فقال: ليَسْرُ عنكَ همُّكَ. فرُبّ أخٍ لكَ لمْ تلِدْهُ أمُكَ. فانْسرَى عندَ ذلِكَ إشْفاقي. وسرَى الوسَنُ الى آماقي. فقال: عندَ الصّباحِ يحْمَدُ القومُ السُّرى. فهلْ تَرى كما أرى? فقلتُ: إني لكَ لأطْوَعُ منْ حِذائِكَ. وأوْفَقُ من غِذائِكَ. فصَدَعَ بمحبّتي. وبخْبَخَ بصُحْبَتي. ثمّ احتَمَلْنا مُجِدَّينِ. وارتَحلْنا مُدلِجَيْنِ. ولمْ نزَلْ نُعاني السُّرى. ونُعاصي الكَرى. الى أنْ بلغَ الليلُ غايتَهُ. ورفَعَ الفجْرُ رايتَهُ. فلمّا أسْفرَ الفاضِحُ. ولمْ يبْقَ إلا واضِحٌ. توسّمتُ رفيقَ رِحلَتي. وسَميرَ لَيلَتي. فإذا هوَ أبو زيدٍ مطلَبُ النّاشِدِ. ومَعلَمُ الرّاشِدِ. فتهادَيْنا تحيّةَ المُحبّينِ. إذا التَقَينا بعْدَ البيْنِ. ثمّ تباثَثْنا الأسْرارَ. وتناثَثْنا الأخْبارَ. وبَعيري ينحِطُ منَ الكِلالِ. وراحِلَتُهُ تزِفُّ زَفيفَ الرّالِ. فأعْجَبَني اشْتِدادُ أمرِها. وامتِدادُ صبرِها. فأخَذْتُ أستَشِفُّ جوهرَها. وأسألُهُ منْ أين تخيّرَها. فقال: إنّ لهذِهِ النّاقَةِ. خبَراً حُلْوَ المَذاقَةِ. مليحَ السّياقَةِ. فإنْ أحببْتَ استِماعَهُ فأنِخْ. وإنْ لمْ تشأ فلا تُصِخْ. فأنَخْتُ لقولِه نِضْوي. وأهدَفْتُ السّمْعَ لما يَروي. فقال: اعْلَمْ أني استَعرَضْتُها بحَضْرَمَوْتَ. وكابدْتُ في تحصيلِها الموْتَ. وم زِلتُ أجوبُ علَيها البُلدانَ. وأطِسُ بأخفافِها الظِّرّانَ. الى أنْ وجدْتُها عُبْرَ أسفارٍ. وعُدَّةَ قرارٍ. لا يلحَقُها العَناءُ. ولا تُواهِقُها وجْناءُ. ولا تدْري ما الهِناءُ. فأرْصَدتُها للخَيرِ والشرّ. وأحلَلْتُها محَلَّ البَرّ السَّرّ. فاتّفَقَ أن ندّتْ مُذْ مُدةٍ. وما لي سِواها قُعدَةٌ. فاستشْعَرْتُ الأسَفَ. واستَشرفْتُ التّلَفَ. ونسيتُ كُلّ رُزْءٍ سلَفَ. ثمّ أخذْتُ في استِقْراء المَسالِكِ. وتفقُّدِ المسارِحِ والمَبارِكِ. وأنا لا أستَنْشي منها ريحاً. ولا أستَغْشي يأساً مُريحاً. وكلّما ادّكَرْتُ مضاءها في السيرِ. وانبِراءها لمُباراةِ الطّيرِ. لاعَني الادّكارُ. واستَهوَتْني الأفكارُ. فبَينَما أنا في حِواء بعضِ الأحْياءِ إذْ سمِعْتُ منْ شخْصٍ متبَعِّدٍ. وصوْتٍ متجرِّدٍ: منْ ضَلّتْ لهُ مطيّةٌ. حضرَميّةٌ وطِيّةٌ. جِلدُها قد وُسِمَ. وعَرُّها قد حُسِمَ. وزِمامُها قد ضُفِرَ. وظهرُها كأنْ قد كُسِرَ ثم جُبِرَ. تَزينُ الماشيَةَ. وتُعينُ النّاشيَةَ. وتقطَعُ المَسافَةَ النّائِيَةَ. وتظَلّ أبداً لكَ مُدانِيةً. لا يعتَوِرُها الوَنى. ولا يعترِضُها الوَجى. ولا تُحْوِجُ الى العَصا. ولا تَعْصي في مَنْ عصى. قال أبو زيدٍ: فجذَبَني الصوتُ الى الصّائِتِ. وبشّرَني بدرَكِ الفائِتِ. فلمّا أفْضَيْتُ إليْهِ. وسلّمْتُ علَيْهِ. قلتُ لهُ: سلّمِ المطيّةَ. وتسلّمِ العطيّةَ. فقال: وما مطِيّتُكَ. غُفِرَتْ خطِيّتُكَ? قلت له: ناقَةٌ جُثّتُها كالهَضْبَةِ. وذِروَتُه كالقُبّةِ. وجلَبُها مِلْءُ العُلبَةِ. وكنتُ أُعطيتُ بها عِشرينَ. إذ حللْتُ يَبرينَ. فاستَزَدْتُ الذي أعطى. ودريْتُ أنهُ أخْطا. قال: فأعْرَضَ عني حينَ سمِعَ صِفَتي. وقال: لستَ بصاحِبِ لُقطَتي! فأخَذْتُ بتَلابيبِهِ. وأصرَرْتُ على تكذيبِهِ. وهمَمْتُ بتمزيقِ جَلابيبِهِ. وهوَ يقول: يا هذا ما مطيّتي بطِلْبِكَ. فاكْفُفْ عني منْ غَربِكَ. وعدّ عنْ سبّكَ. وإلا فقاضِني الى حَكَمِ هذا الحيّ. البَريء من الغَيّ. فإنْ أوجبَها لكَ فتسلّمْ. وإن زَواها عنْكَ فلا تتكلّمْ. فلمْ أرَ دَواءَ قِصّتي. ولا مَساغَ غُصّتي. إلا أنْ آتيَ الحكَمَ. ولوْ لكَمَ. فانْخَرَطْنا الى شيخٍ رَكينِ النِّصْبَةِ. أنيقِ العِصْبَةِ. يؤنَسُ منهُ سُكونُ الطائِرِ. وأنْ ليسَ بالجائرِ. فاندَرأتُ أتظلّمُ وأتألّمُ. وصاحبي مُرِمٌّ لا يترَمْرَمُ. حتى إذا نثلْتُ كِنانَتي. وقضَيْتُ من القَصَصِ لُبانَتي. أبرَزَ نعْلاً رَزينَةَ الوزْنِ. مَحْذوّةً لمسلَكِ الحَزْنِ. وقال: هذهِ التي عرّفْتُ. وإياها وصَفْتُ. فإنْ كانتْ هي التي أُعطِيَ بها عِشرينَ. وها هوَ من المُبصِرينَ. فقدْ كذَبَ في دعْواهُ. وكبُرَ ما افتَراهُ. اللهُمّ إلا أنْ يَمُدّ قَذالَهُ. ويُبَيّنَ مِصداقَ ما قالَهُ. فقالَ الحكَمُ: اللهُمّ غَفْراً. وجعلَ يقلّبُ النّعْلَ بطْناً وظهْراً. ثمّ قال: أما هذِهِ النّعلُ فنَعْلي. وأما مطِيّتُكَ ففي رحْلي. فانهَضْ لتسَلُّمِ ناقتِك. وافعَلِ الخيرَ بحسَبِ طاقَتِكَ. فقُمْتُ وقلت: لستَ بصاحِبِ لُقطَتي! فأخَذْتُ بتَلابيبِهِ. وأصرَرْتُ على تكذيبِهِ. وهمَمْتُ بتمزيقِ جَلابيبِهِ. وهوَ يقول: يا هذا ما مطيّتي بطِلْبِكَ. فاكْفُفْ عني منْ غَربِكَ. وعدّ عنْ سبّكَ. وإلا فقاضِني الى حَكَمِ هذا الحيّ. البَريء من الغَيّ. فإنْ أوجبَها لكَ فتسلّمْ. وإن زَواها عنْكَ فلا تتكلّمْ. فلمْ أرَ دَواءَ قِصّتي. ولا مَساغَ غُصّتي. إلا أنْ آتيَ الحكَمَ. ولوْ لكَمَ. فانْخَرَطْنا الى شيخٍ رَكينِ النِّصْبَةِ. أنيقِ العِصْبَةِ. يؤنَسُ منهُ سُكونُ الطائِرِ. وأنْ ليسَ بالجائرِ. فاندَرأتُ أتظلّمُ وأتألّمُ. وصاحبي مُرِمٌّ لا يترَمْرَمُ. حتى إذا نثلْتُ كِنانَتي. وقضَيْتُ من القَصَصِ لُبانَتي. أبرَزَ نعْلاً رَزينَةَ الوزْنِ. مَحْذوّةً لمسلَكِ الحَزْنِ. وقال: هذهِ التي عرّفْتُ. وإياها وصَفْتُ. فإنْ كانتْ هي التي أُعطِيَ بها عِشرينَ. وها هوَ من المُبصِرينَ. فقدْ كذَبَ في دعْواهُ. وكبُرَ ما افتَراهُ. اللهُمّ إلا أنْ يَمُدّ قَذالَهُ. ويُبَيّنَ مِصداقَ ما قالَهُ. فقالَ الحكَمُ: اللهُمّ غَفْراً. وجعلَ يقلّبُ النّعْلَ بطْناً وظهْراً. ثمّ قال: أما هذِهِ النّعلُ فنَعْلي. وأما مطِيّتُكَ ففي رحْلي. فانهَضْ لتسَلُّمِ ناقتِك. وافعَلِ الخيرَ بحسَبِ طاقَتِكَ. فقُمْتُ وقلت:
أُقسِمُ بالبيتِ العَتيقِ ذي الحُـرَمْ

والطائِفينَ العاكِفينَ في الحَـرَمْ
إنّك نِعْمَ مـنْ إلـيْهِ يُحـتـكَـمْ

وخيرُ قاضٍ في الأعاريبِ حكَمْ
فاسلَمْ ودُمْ دوْمَ النّعامِ والنَّعَـمْ


فأجابَ من غيرِ رويّةٍ. ولا عَقْدِ نيّةٍ. وقال:
جُزيتَ عن شُكرِكَ خيراً يا ابنَ عمْ

إذ لستُ أستَوجبُ شكراً يُلـتَـزَمْ
شرُّ الأنامِ منْ إذا استُقْضي ظلـمْ

ثمّ مَنِ استُرْعي فلمْ يرْعَ الحُـرَمْ
فذانِ والكَلْبُ سَواءٌ في الـفِـيَمْ


ثمّ إنهُ نفّذَ بينَ يدَيّ. منْ سلّم النّاقَةَ إليّ. ولمْ يمْتَنّ عليّ. فرُحْتُ نَجيحَ الأرَبِ. أجُرّ ذيْلَ الطّرَبِ. وأقولُ: يا لَلْعَجَبِ! قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ تاللهِ لقدْ أطْرَفْتَ. وهرَفْتَ بما عرَفْتَ. فناشَدتُكَ اللهَ هلْ ألفَيْتَ أسْحَرَ منكَ بلاغَةً. وأحسَنَ للّفْظِ صِياغَةً? فقال: اللهُمّ نعَمْ. فاستَمِعْ وانْعَمْ. كُنتُ عزَمْتُ. حين أتْهَمْتُ. على أن أتّخِذَ ظَعينَةً. لتكونَ لي مُعينَةً. فحينَ تعيّنَ الخِطْبُ المُلِبّ. وكادَ الأمرُ يستَتِبّ. أفْكَرْتُ فكْرَ المتحرِّزِ منَ الوهْمِ. المتأمِّلِ كيفَ مَسقِطُ السّهْمِ. وبِتُّ ليلَتي أُناجي القلْبَ المعذَّبَ. وأقلّبُ العزْمَ المُذَبذَبَ. الى أن أجمَعْت على أن أُسْحِرَ. وأُشاوِرَ أوّلَ منْ أُبصِرُ. فلمّا قوّضَتِ الظُّلمَةُ أطْنابَها. وولّتِ الشُّهُبُ أذْنابَها. غدَوْتُ غُدُوَّ المتعرِّفِ. وابتكرْتُ ابتِكارَ المتعيِّفِ. فانْبَرى لي يافِعٌ. في وجْهِهِ شافِعٌ. فتيمّنْتُ بمنظَرِهِ البَهيجِ. واستَقْدَحْتُ رأيَهُ في التّرويجِ. فقال: أوَتبْغيها غَواناً. أم بِكْراً تُعانى? فقلتُ: اختَرْ لي ما تَرى. فقدْ ألْقَيتُ إليكَ العُرى. فقال: إليّ التّبيينُ. وعليْكَ التّعيينُ. فاسمَعْ أنا أفْديكَ. بعْدَ دفْنِ أعاديكَ. أما البِكرُ فالدُرّةُ المخزونَةُ. والبَيضَةُ المَكنونَةُ. والباكورَةُ الجَنِيّةُ. والسُلافَةُ الهَنيّةُ. والروْضَةُ الأُنُفُ. والطّوْقُ الذي ثمُنَ وشرُفَ. لمْ يُدَنّسْها لامِسٌ. ولا تسَغْشاها لابِسٌ. ولا مارسَها عابِثٌ. ولا وكَسَها طامِثٌ. ولها الوجهُ الحَييّ. والطّرْفُ الخفيّ. واللّسانُ العَيِيّ. والقلْبُ النّقيّ. ثمّ هيَ الدُمْيَةُ المُلاعِبَةُ. واللّعْبَةُ المُداعِبَةُ. والغَزالَةُ المُغازِلَةُ. والمُلْحَةُ الكامِلَةُ. والوِشاحُ الطاهرُ القَشيبُ. والضّجيعُ الذي يُشِبُّ ولا يُشيبُ. وأما الثّيّبُ فالمَطيّةُ المذَلّلَةُ. واللُّهْنَةُ المعَجّلَةُ. والبِغْيَةُ المُسهَّلَةُ. والطّبّةُ المُعلِّلَةُ. والقَرينةُ المتحبِّبَةُ. والخَليلَةُ المتقرِّبَةُ. والصَّناعُ المدَبِّرَةُ. والفَطْنَةُ المختَبِرَةُ. ثمّ إنّها عُجالَةُ الرّاكِبِ. وأُنشوطَةُ الخاطِبِ. وقُعدَةُ العاجِزِ. ونُهْزَةُ المُبارِزِ. عريكَتُها لَيّنَةٌ. وعُقلَتُها هيّنَةٌ. ودِخلَتُها متَبيِّنَةٌ. وخِدمَتُها مزيِّنَةٌ. وأقسِمُ لقد صدَقْتُ في النّعتَينِ. وجلَوْتُ المَهاتَينِ. فبأيّتِهِما هامَ قلبُكَ? قال أبو زيد: فرأيتُهُ جندَلَةً يتّقيها المُراجِمُ. وتُدمى منها المَحاجِمُ. إلا أني قلتُ له: كُنتُ سمعتُ أن البِكْرَ أشَدُّ حُبّاً. وأقلُّ خِبّاً. فقال: لعَمْري قد قيلَ هذا. ولكِنْ كمْ قوْلٍ آذى! ويْحَكَ أمَا هيَ المُهرَةُ الأبيّةُ العِنانِ. والمَطيّةُ البَطيّةُ الإذْعانِ! والزَّنْدَةُ المتعسِّرَةُ الاقْتِداحِ. والقَلعَةُ المُستَصْعَبَةُ الافتِتاحِ! ثمّ إنّ مؤونَتَها كثيرةٌ. ومَعونتَها يَسيرةٌ. وعِشْرَتَها صَلِفَةٌ. ودالّتَها مُكلَّفَةٌ. ويدَها خرْقاء. وفِتْنَتها صَمّاء. وعَريكتَها خشْناء. وليلَتَها ليْلاء. وفي رياضَتِها عَناءٌ. وعلى خِبرَتِها غِشاءٌ! وطالما أخزَتِ المُنازِلَ. وفرِكَتِ المُغازِلَ. وأحنَقَتِ الهازِلَ. وأضرَعَتِ الفَنيقَ البازِلَ. ثمّ إنّها التي تقول: أنا ألْبَسُ وأجلِسُ. فأطلُبُ منْ يُطلِقُ ويحبِسُ! فقلتُ لهُ: فما ترى في الثّيّبِ. يا أبا الطّيّبِ? فقال: ويْحَكَ أترغبُ في فُضالَةِ المآكِلِ. وثُمالَةِ المناهِلِ? واللّباسِ المُستَبذَلِ. والوِعاءِ المُستَعْمَلِ? والذّواقَةِ المُتطرِّفَةِ. والخَرّاجةِ المتصرِّفَةِ? والوَقاحِ المتسلِّطَةِ. والمُحتَكِرَةِ المتسخِّطةِ? ثمّ كلمَتُها كُنتُ وصِرْتُ. وطالَما بُغيَ عليّ فنُصِرْتُ. وشتّان بين اليومِ وأمْسِ. وأينَ القمرُ منَ الشّمسِ? وإنْ كانتِ الحَنّانَةَ البَروكَ. والطّمّاحَةَ الهَلوكَ. فهيَ الغُلُّ القَمِلُ. والجُرْحُ الذي لا يندَمِلُ! فقلتُ له: فهلْ ترى أن أترَهّبَ. وأسلُكَ هذا المذْهَبَ? فانْتَهَرني انتِهارَ المؤدِّبِ. عندَ زَلّةِ المتأدِّبِ. ثمّ قال: ويلَكَ أتَقتَدي بالرُّهْبانِ. والحقُّ قدِ استَبانَ? أُفٍّ لكَ. ولوَهْنِ رائِكَ. وتبّآً لك ولأولَئِكَ! أتُراكَ ما سمعْتَ بأنْ لا رَهْبانيّةَ في الإسلام. أو ما حُدّثْتَ بمناكِحِ نبيّكَ عليْهِ أزْكى السّلامِ? ثم أمَا تعلَمُ أنّ القَرينَةَ الصالحةَ تَرُبّ بيتَكَ. وتُلبّي صوتَكَ. وتغُضّ طرْفَكَ. وتطيّبُ عَرفكَ? وبها ترَى قُرّةَ عينِكَ. وريْحانَةَ أنفِكَ. وفرْحةَ قلبِكَ. وخُلْدَ ذِكرِكَ. وتعِلّةَ يومِكَ وغدِكَ. فكيفَ رَغِبْتَ عنْ سُنّةِ المُرسَلينَ. ومُتعَةِ المتأهِّلينَ. وشِرْعَةِ المُحْصَنينَ. ومَجْلَبَةِ المالِ والبَنين? واللهِ لقدْ ساءني فيكَ. ما سمِعْتُ من فيكَ. ثمّ أعْرَضَ إعْراضَ المُغضَبِ. ونَزا نَزَوانَ العُنظَبِ. فقلتُ لهُ: قاتَلَكَ اللهُ أتنطَلِقُ متبخْتِراً. وتدعُني متحيِّراً? فقال: أظنّكَ تدّعي الحَيرَةَ. لتَستَغْنيَ عنِ المُهَيْرَةِ! فقلتُ له: قبّحَ اللهُ ظنّكَ. ولا أشَبّ قرْنَكَ! ثمّ رُحْتُ عنهُ مَراحَ الخَزْيانِ. وتُبتُ منْ مُشاوَرَةِ الصّبيانِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ أُقسِمُ بمنْ أنْبَتَ الأيْكَ. أنّ الجدَلَ منكَ وإلَيْكَ. فأغْرَبَ في الضّحِكِ وطرِبَ طَرْبَةَ المُنهَمِكِ. ثم قال: العَقِ العسَلَ. ولا تسَلْ! فأخَذْتُ أُسهِبُ في مدْحِ الأدبِ. وأفضّلُ ربّّهُ على ذي النّشبِ. وهوَ ينظُرُ إليّ نظرَ المُستَجْهِلِ. ويُغْضي عني إغْضاءَ المتمهّلِ. فلمّا أفْرَطْتُ في العَصبيّةِ. للعُصبَةِ الأدبيّةِ. قال لي: صهْ. واسمعْ مني وافْقَهْ:ْ لا رَهْبانيّةَ في الإسلام. أو ما حُدّثْتَ بمناكِحِ نبيّكَ عليْهِ أزْكى السّلامِ? ثم أمَا تعلَمُ أنّ القَرينَةَ الصالحةَ تَرُبّ بيتَكَ. وتُلبّي صوتَكَ. وتغُضّ طرْفَكَ. وتطيّبُ عَرفكَ? وبها ترَى قُرّةَ عينِكَ. وريْحانَةَ أنفِكَ. وفرْحةَ قلبِكَ. وخُلْدَ ذِكرِكَ. وتعِلّةَ يومِكَ وغدِكَ. فكيفَ رَغِبْتَ عنْ سُنّةِ المُرسَلينَ. ومُتعَةِ المتأهِّلينَ. وشِرْعَةِ المُحْصَنينَ. ومَجْلَبَةِ المالِ والبَنين? واللهِ لقدْ ساءني فيكَ. ما سمِعْتُ من فيكَ. ثمّ أعْرَضَ إعْراضَ المُغضَبِ. ونَزا نَزَوانَ العُنظَبِ. فقلتُ لهُ: قاتَلَكَ اللهُ أتنطَلِقُ متبخْتِراً. وتدعُني متحيِّراً? فقال: أظنّكَ تدّعي الحَيرَةَ. لتَستَغْنيَ عنِ المُهَيْرَةِ! فقلتُ له: قبّحَ اللهُ ظنّكَ. ولا أشَبّ قرْنَكَ! ثمّ رُحْتُ عنهُ مَراحَ الخَزْيانِ. وتُبتُ منْ مُشاوَرَةِ الصّبيانِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ أُقسِمُ بمنْ أنْبَتَ الأيْكَ. أنّ الجدَلَ منكَ وإلَيْكَ. فأغْرَبَ في الضّحِكِ وطرِبَ طَرْبَةَ المُنهَمِكِ. ثم قال: العَقِ العسَلَ. ولا تسَلْ! فأخَذْتُ أُسهِبُ في مدْحِ الأدبِ. وأفضّلُ ربّّهُ على ذي النّشبِ. وهوَ ينظُرُ إليّ نظرَ المُستَجْهِلِ. ويُغْضي عني إغْضاءَ المتمهّلِ. فلمّا أفْرَطْتُ في العَصبيّةِ. للعُصبَةِ الأدبيّةِ. قال لي: صهْ. واسمعْ مني وافْقَهْ:
يقولونَ إنّ جَمالَ الفـتـى

وزينَـتَـهُ أدَبٌ راسِــخُ
وما إنْ يَزينُ سوى المُكثِرينَ

ومنْ طوْدُ سودَدِهِ شـامِـخُ
فأما الفَقـيرُ فـخـيْرٌ لـهُ

منَ الأدَبِ القُرْصُ والكامِخُ
وأيّ جَمـالٍ لـهُ أنْ يُقـال

أديبٌ يعـلِّـمُ أو نـاسِـخُ
ثمّ قال: سيتّضِحُ لكَ صِدْقُ لهجَتي. واستِنارَةُ حُجّتي. وسِرْنا لا نألو جُهْداً. ولا نستَفيقُ جَهْداً. حتى أدّانا السيرُ. الى قريَةٍ عزَبَ عنها الخيرُ. فدخلْناها للارْتِيادِ. وكِلانا منْفِضٌ منَ الزّادِ. فما إنْ بلَغْنا المَحَطّ. والمُناخَ المخْتَطّ. أو لَقيَنا غُلامٌ لمْ يبلُغِ الحِنْثَ. وعلى عاتِقِه ضِغْثٌ. فحيّاهُ أبو زيدٍ تحيّةَ المُسلمِ. وسألَهُ وَقفَةَ المُفهِمِ. فقال: وعمّ تسألُ وفّقكَ اللهُ? قال: أيُباعُ هاهُنا الرُّطَبُ. بالخُطَبِ? قال: لا واللهِ! قال: ولا البلَحُ. بالمُلَحِ? قال: كلا واللهِ. قال: ولا الثّمرُ. بالسّمَرِ? قال: هيهاتَ واللهِ! قال: ولا العَصائِدُ. بالقصائدِ? قال: اسْكُتْ عافاكَ اللهُ! قال: ولا الثّرائِدُ. بالفَرائدِ? قال: أينَ يُذهَبُ بكَ أرشَدَكَ اللهُ? قال: ولا الدّقيقُ. بالمعْنى الدّقيقِ? قال: عدّ عنْ هذا أصْلَحَكَ اللهُ! واستَحْلى أبو زيدٍ تَراجُعَ السّؤالِ والجَوابِ. والتّكايُلَ منْ هذا الجِرابِ. ولمَحَ الغُلامُ أنّ الشّوطَ بَطينٌ. والشيخَ سُوَيطينٌ. فقال له: حسبُكَ يا شيخُ قد عرَفْتُ فنّكَ. واستبَنْتُ أنّكَ. فخُذِ الجوابَ صُبرَةً. واكْتَفِ بهِ خِبرَةً: أما بهذا المكانِ فلا يُشتَرى الشِّعرُ بشَعيرَةٍ. ولا النّثرُ بنُثارَةٍ. ولا القَصَصُ بقُصاصَةٍ. ولا الرّسالَةُ بغُسالَةٍ. ولا حِكَمُ لُقْمانَ بلُقمَةٍ. ولا أخْبارُ المَلاحِمِ بلَحْمَةٍ. وأما جيلُ هذا الزّمانِ فما منهُمْ مَنْ يَميحُ. إذا صيغَ لهُ المديحُ. ولا مَنْ يُجيزُ. إذا أُنشِدَ لهُ الأراجيزُ. ولا منْ يُغيثُ. إذا أطرَبَهُ الحديثُ. ولا منْ يَميرُ. ولوْ أنّهُ أميرٌ. وعندَهُمْ أنّ مثَلَ الأديبِ. كالرّبْعِ الجَديبِ. إنْ لم تجُدِ الرّبْعَ ديمَةٌ. لمْ تكُنْ لهُ قيمةٌ. ولا دانَتْهُ بَهيمةٌ. وكذا الأدَبُ. إنْ لم يعْضُدْهُ نشَبٌ. فدَرْسُهُ نصَبٌ. وخزْنُهُ حصَبٌ. ثمّ انسَدَرَ يعْدو. وولّى يحْدو. فقال لي أبو زيدٍ: أعَلِمْتَ أنّ الأدَبَ قد بارَ. وولّتْ أنصارُهُ الأدْبارَ? فبُؤتُ لهُ بحُسْنِ البَصيرَةِ. وسلّمْتُ بحُكْمِ الضّرورةِ. فقال: دعْنا الآنَ منَ المِصاعِ. وخُضْ في حديثِ القِصاعِ. واعْلَمْ أنّ الأسْجاعَ. لا تُشبِعُ منْ جاعَ. فما التّدبيرُ في ما يُمسِكُ الرّمَقَ. ويُطفِئ الحرَقَ? فقلتُ: الأمرُ إليْكَ. والزّمامُ بيديْكَ. فقال: أرى أنْ ترْهَنَ سيفَكَ. لتُشبِعَ جوفَكَ وضيفَكَ. فناوِلْنيهِ وأقِمْ. لأنقَلِبَ إليكَ بما تلْتَقِمُ. فأحسنْتُ به الظّنّ. وقلّدتُهُ السيفَ والرّهْنَ. فما لَبِثَ أنْ ركِبَ الناقَةَ. ورفضَ الصّدقَ والصّداقَةَ. فمكثْتُ مليّاً أترَقّبُهُ. ثمّ نهضْتُ أتعقّبُهُ. فكُنتُ كمَنْ ضيّعَ اللّبَنَ في الصّيفِ. ولم ألْقَهُ ولا السّيفَ.
المقامة الشّتَويّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: عشَوْتُ في ليلَةٍ داجِيَةِ الظُّلَمِ. فاحِمَةِ اللِّمَمِ. الى نارٍ تُضْرَمُ على علَمٍ. وتُخبِرُ عن كرَمٍ. وكانتْ ليلَةً جوُّها مَقرورٌ. وجَيْبُها مَزْرورٌ. ونجمُها مغْمومٌ. وغيمُها مرْكومٌ. وأنا فيها أصْرَدُ منْ عينِ الحِرْباء. والعَنْزِ الجَرْباء. فلمْ أزلْ أنُصّ عنْسي. وأقولُ: طوبى لكِ ولَنفْسي! الى أن تبصّرَ المُوقِدُ آلي. وتبيّنَ إرْقالي. وتبيّنَ إرْقالي. فانحدَرَ يعْدو الجَمَزَى. ويُنشِدُ مُرتَجِزاً:
حُيّيتَ منْ خابِـطِ لـيْلٍ سـاري

هَداهُ بلْ أهْداهُ ضـوءُ الـنـارِ
الى رَحيبِ الباعِ رحْـبِ الـدّارِ

مرحِّبٍ بالطّارِقِ المُـمْـتـارِ
تَرْحابَ جعْدِ الكفّ بـالـدّينـارِ

ليسَ بـمُـزْوَرٍّ عـنِ الـزُوّارِ
ولا بمِعْتامِ الـقِـرى مِـئْخـارِ

إذا اقشَعرّتْ تُرَبُ الأقْـطـارِ
وضَنّتِ الأنـواءُ بـالأمْـطـارِ

فهْوَ على بؤسِ الزّمانِ الضّاري
جمُّ الرّمادِ مرهَفُ الـشِّـفـارِ

لمْ يخْلُ في لـيلٍ ولا نَـهـارِ
من نحْرِ وارٍ واقتِـداحِ وارِي


ثمّ تلقّاني بمُحيّا حَييٍّ. وصافَحَني براحَةِ أريَحِيٍّ. واقْتادَني الى بيتٍ عِشارُهُ تخورُ. وأعْشارُهُ تفورُ. وولائِدُهُ تمورُ. وموائِدُهُ تدورُ. وبأكْسارِهِ أضْيافٌ قدْ جلبَهُم جالِبي. وقُلّبوا في قالَبي. وهُمْ يجتَنونَ فاكِهةَ الشّتاء. ويمرَحونَ مرَحَ ذَوي الفَتاء. فأخذْتُ مأخذَهُمْ في الاصطِلاء. ووجدْتُ بهِمْ وجْدَ الثّمِلِ بالطِّلاء. ولمّا أنْ سَرى الحصَرُ. وانْسَرى الخَصَرُ. أُتينا بمَوائِدَ كالهالاتِ دَوْراً. والرّوْضاتِ نَوْراً. وقد شُحنّ بأطْعِمَةِ الوَلائمِ. وحُمينَ منَ العائِبِ واللائِمِ. فرفَضْنا ما قيلَ في البِطنَةِ. ورأيْنا الإمْعانَ فيها منَ الفِطنَةِ. حتى إذا اكتَلْنا بصاعِ الحُطَمِ. وأشْفَيْنا على خطَرِ التُخَمِ. تعاوَرْنا مَشوشَ الغمَرِ. ثمّ تبوّأنا مقاعِدَ السّمَرِ. وأخذَ كُلُّ واحِدٍ منا يَشولُ بلِسانِهِ. وينشُرُ ما في صِوانِهِ. ما عَدا شيخاً مُشتَهِباً فَوْداهُ. مُخلَوْلِقاً بُرْداهُ. فإنّهُ ربَضَ حَجرَةً. وأوسَعَنا هِجرَةً. فغاظَنا تجنّبُهُ. المُلتَبِسُ موجِبُهُ. المعْذورُ فيهِ مؤنّبُهُ. إلا أنّا ألَنّا لهُ القوْلَ. وخشِينا في المسألَةِ العوْلَ. وكلّما رُمْنا أنْ يَفيضَ كما فِضْنا. أو يُفيضَ في ما أفَضْنا. أعْرَضَ إعْراضَ العِلّيّةِ عنِ الأرْذَلينَ. وتَلا: إنْ هذا إلا أساطيرُ الأوّلينَ. ثمّ كأنّ الحَميّةَ هاجَتْهُ. والنّفْسَ الأبيّةَ ناجَتْهُ. فدلَفَ وازْدَلَفَ. وخلعَ الصّلَفَ. وبذلَ أنْ يتَلافى ما سلَفَ. ثمّ استرْعى سمْعَ السّامِرِ. واندفَعَ كالسّيلِ الهامِرِ. وقال:
عِندي أعاجيبُ أرْويهـا بـلا كـذِبِ

عنِ العِيانِ فكَنّوني أبا الـعـجَـبِ
رأيتُ يا قوْمِ أقْـوامـاً غـذاؤهُـمُ

بَوْلُ العجوزِ وما أعني ابنَةَ العِنَـبِ
ومُسنِتِينَ منَ الأعْـرابِ قـوتُـهُـمُ

أن يشتووا خِرقةً تُغني من السّغَـبِ
وقادِرينَ متى ما ساء صُـنـعُـهُـمُ

أو قصّروا فيه قالوا الذّنْبُ للحطَبِ
وكاتِبينَ وما خطّـتْ أنـامِـلُـهُـمْ

حرْفاً ولا قرَأوا ما خُطّ في الكُتُـبِ
وتابِعينَ عُقابـاً فـي مـسـيرِهِـمِ

على تكمّيهِمِ في البيْضِ والـيَلَـبِ
ومُنتَدينَ ذَوي نُـبْـلٍ بـدَتْ لـهُـمُ

نبيلَةٌ فانْثَنوْا منهـا الـى الـهـرَبِ
وعُصبَةً لمْ ترَ البيْتَ العَتـيقَ وقـدْ

حجّتْ جُثِيّاً بلا شكٍّ على الـرُّكَـبِ
ونِسوَةً بعدَما أدْلجـنَ مـن حـلَـبٍ

صبّحنَ كاظِمَةً من غيرِ ما تـعَـبِ
ومُدلِجينَ سرَوْا من أرضِ كاظِـمَةٍ

فأصبَحوا حينَ لاحَ الصُبحُ في حلَبِ
ويافِعاً لـم يُلامِـسْ قـطُّ غـانِـيَةً

شاهَدتُهُ ولهُ نسلٌ مـنَ الـعَـقِـبِ
وشائِباً غيرَ مُخْفٍ للمَـشـيبِ بَـدا

في البَدْوِ وهْوَ فتيُّ السِّنّ لم يشِـبِ
ومُرضَعاً بلِبـانٍ لـمْ يفُـهْ فـمُـهُ

رأيتُهُ في شِجارٍ بـيّنِ الـسّـبَـبِ
وزارِعاً ذُرَةً حتـى إذا حُـصِـدَتْ

صارتْ غُبَيراء يهواها أخو الطّرَبِ
وراكِباً وهْوَ مغلولٌ عـلـى فـرَسٍ

قد غُلّ أيضاً وما ينفكّ عن خـبَـبِ
وذا يدٍ طُـلُـقٍ يقْـتـادُ راحِــلَةً

مُستَعجِلاً وهْوَ مأسورٌ أخو كُـرَبِ
وجالِساً ماشياً تـهْـوي مـطـيّتُـهُ

بهِ وما في الذي أوْرَدتُ مـن رِيَبِ
وحائكاً أجْذَمَ الـكـفّـينِ ذا خـرَسٍ

فإن عجبتمْ فكمْ في الخَلقِ من عجَبِ
وذا شَطاطٍ كصدرِ الرّمحِ قامَـتُـهُ

صادَفتُهُ بمِنًى يشكو منَ الـحـدَبِ
وساعياً في مـسَـرّاتِ الأنـامِ يرى

إفْراحَهُمْ مأثماً كالظُّلـمِ والـكـذِبِ
ومُغْرَماً بمُنـاجـاةِ الـرّجـالِ لـهُ

وما له في حديثِ الخلقِ مـن أرَبِ
وذا ذِمامٍ وفَتْ بالـعَـهْـدِ ذمّـتُـهُ

ولا ذِمامَ لهُ في مذهَبِ الـعـرَبِ
وذا قُوًى ما اسْتبانَتْ قـطّ لِـينَـتُـهُ

ولِينُهُ مُستَبينٌ غـيرُ مُـحـتـجِـبِ
وساجداً فوقَ فحْلٍ غيرَ مـكـتـرِثٍ

بِماأتى بلْ يراهُ أفضـلَ الـقُـرَبِ
وعاذِراً مؤلِمـاً مَـنْ ظـلّ يعـذِرُهُ

معَ التّلطّفِ والمعذورُ في صخَـبِ
وبلْدَةً ما بهـا مـاءٌ لـمُـغـتَـرِفٍ

والماءُ يجري عليْها جرْيَ مُنسـرِبِ
وقريةً دونَ أُفحوصِ القطا شُحنـتْ

بديلمٍ عشيهُمْ من خُلسَةِ الـسّـلَـبِ
وكوْكَباً يتَـوارى عـنـدَ رؤيتـهِ ال

إنسانُ حتى يُرَى في أمنَعِ الحُجُـبِ
وروْثَةً قوّمَـتْ مـالاً لـهُ خـطَـرٌ

ونفْسُ صاحِبِها بالمالِ لـم تـطِـبِ
وصحفَةً من نُضارٍ خالصٍ شُـريتْ

بعدَ المِكاسِ بقيراطٍ مـن الـذّهـبِ
ومُستَجيشاً بخشْخـاشٍ لـيدفـعَ مـا

أظَلّهُ مـنْ أعـاديهِ فـلـمْ يخِـبِ
وطالَما مرّ بي كلبٌ وفـي فـمـهِ

ثورٌ ولـكـنّـهُ ثـورٌ بـلا ذنَـبِ
وكمْ رأى ناظِير فيلاً علـى جـمَـلٍ

وقد تورّكَ فوقَ الرّحْلِ والـقـتَـبِ
وكم لَقيتُ بعرْضِ البيدِ مُشـتـكـياً

وما اشتكى قطّ في جِدٍّ وفي لعِـبِ
وكنتُ أبصـرْتُ كـرّازاً لـراعِـيَةٍ

بالدّوّ ينظُرُ من عينَينِ كالـشُـهُـبِ
وكم رأتْ مُقلَتي عينَينِ مـاؤهُـمـا

يجري من الغَرْبِ والعَينانِ في حلَبِ
وصادِعاً بالقَنا من غيرِ أن علِـقَـتْ

كفّاهُ يوماً بـرُمْـحٍ لا ولـمْ يثِـبِ
وكم نزلْتُ بأرضٍ لا نَخـيلَ بـهـا

وبعدَ يوم رأيتُ البُسرَ في القُـلُـبِ
وكم رأيتُ بأقْطارِ الفَـلا طـبَـقـاً

يطيرُ في الجوّ منصَبّاً الى صـبَـبِ
وكم مشايخَ فـي الـدُنْـيا رأيتُـهُـمُ

مخَلَّدينَ ومَنْ ينْجو من الـعـطَـبِ
وكم بدا لي وحْشٌ يشتكي سـغَـبـاً

بمنطِقٍ ذلِقٍ أمضى منَ القُـضُـبِ
وكم دَعانيَ مُستَنْـجٍ فـحـادثَـنـي

وما أخَلّ ولا أخْـلَـلْـتُ بـالأدَبِ
وكم أنختُ قَلوصي تحت جُـنـبُـذَةٍ

تُظلّ ما شئتَ من عُجمٍ ومن عُـرُبِ
وكم نظرْتُ الى منع سُرّ ساعَـتَـهُ

ودمعُهُ مستَهِلُّ القطرِ كالـسُّـحُـبِ
وكم رأيتُ قَميصاً ضرّ صـاحِـبَـهُ

حتى انثنَى واهيَ الأعضاء والعصَبِ
وكمْ إزارٍ لوَ انّ الدهـرَ أتـلَـفَـهُ

لجفّ لِبْدُ حَثيثِ السيرِ مُضـطـرِبِ
هذا وكمْ منْ أفـانـينٍ مـعـجِّـبَةٍ

عندي ومن مُلَحٍ تُلهي ومن نُـخَـبِ
فإنْ فطِنتمْ للَحنِ القوْلِ بـان لـكُـمْ

صِدْقي ودلّكُمُ طلْعي على رُطَبـي
وإنْ شُدِهتُمْ فإنّ العارَ فـيهِ عـلـى

منْ لا يُمَيّزُ بينَ العودِ والـخـشَـبِ
قال الحارثُ بنُ همّام: فطفِقْنا نخبِطُ في تقْليبِ قَريضِهِ. وتأويلِ مَعاريضِهِ. وهوَ يلهو بِنا لهْوَ الخليّ بالشّجيّ. ويقول: ليسَ بعُشّكِ فادْرُجي. الى أن تعسّرَ النّتاجُ. واستحْكَمَ الارْتجاجُ. فألْقَينا إليْهِ المَقادَةَ. وخطَبْنا منهُ الإفادَةَ. فوقَفْنا بينَ المَطمَعِ والياسِ. وقال: الإيناسف قبلَ الإبْساسِ! فعلِمنا أنهُ ممّنْ يرغَبُ في الشُّكْمِ. ويرْتَشي في الحُكْمِ. وساء أبا مثْوانا أنْ نعرَّضَ للغُرْمِ. أو نُخَيَّبَ بالرُّغْمِ. فأحْضَرَ صاحِبُ المنزِلِ ناقةً عِيديّةً. وحُلّةً سَعيديّةً. وقال له: خُذْهُما حَلالاً. ولا ترْزأ أضْيافي زِبالاً. فقال: أشهَدُ أنها شِنشِنَةٌ أخزَميّةٌ. وأريَحيّةٌ حاتِميّةٌ. ثم قابلَنا بوجهٍ بِشرُهُ يشِفّ. ونَضْرَتُهُ ترِفّ. وقال: يا قوْمِ إنّ الليْلَ قدِ اجْلَوّذَ. والنّعاسَ قدِ استحْوَذَ. فافْزَعوا الى المَراقِدِ. واغتَنِموا راحَةَ الرّاقِدِ. لتَشرَبوا نَشاطاً. وتُبعَثوا نِشاطاً. فتَعوا ما أفَسّرُ. ويتسهّلَ لكُمُ المتعسِّرُ. فاسْتَصوَبَ كلٌ ما رآهُ. وتوسّد وِسادَةَ كَراهُ. فلمّا وسَنَتِ الأجْفانُ. وأغْفَتِ الضِّيفانُ. وثبَ الى النّاقَةِ فرحَلَها. ثمّ ارتَحَلَها ورحّلَها. وقال مُخاطِباً لها:
سَروجَ يا ناقَ فَسيري وخِـدِي

وأدْلِجـي وأوّبـي وأسْـئِدي
حتى تَطا خُفّاكِ مرْعاها النّدي

فتَنعَمي حينَئذٍ وتَـسـعَـدي
وتأمَني أنْ تُتْهِمي وتُنْـجِـدي

إيهِ فدَتكِ النّوقُ جِدّي واجهَدي
وافْرِي أديمَ فدْفَـدٍ فـفَـدْفَـدِ

واقْتَنِعِي بالنّشْحِ عندَ المـوْرِدِ
ولا تَحُطّي دونَ ذاكَ المَقصِـدِ

فقدْ حلَفْتُ حَلفَةَ المُجتَـهِـدِ
بحُرمَةِ البيتِ الرّفيعِ العُـمُـدِ

إنّكِ إنْ أحلَلْتِني في بـلَـدي
حللْتِ منّي بمحَـلّ الـولَـدِ


قل: فعلِمْتُ أنهُ السّروجيُّ الذي إذا باعَ انْباعَ. وإذا ملأ الصّاعَ انْصاعَ. ولمّا انبلَجَ صَباحُ اليومِ. وهبّ النّوّامُ منَ النّومِ. أعلَمتُهُمْ أن الشيخَ حينَ أغْشاهُمُ السُباتَ. طلّقَهُمُ البَتاتَ. وركِبَ النّاقَةَ وفاتَ. فأخذَهُم ما قَدُمَ وما حَدُثَ. ونَسوا ما طابَ منهُ بِما خبُثَ. ثمّ انشَعَبْنا في كلّ مشْعَبٍ. وذهبْنا تحْتَ كُلّ كوكَبٍ.
المقامة الرّمليّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: كنتُ أخذْتُ عنْ أولي التّجارِيبِ. أنّ السّفَرَ مِرآةُ الأعاجيبِ. فلمْ أزَلْ أجوبُ كلّ تَنوفَةٍ. وأقتَحِمُ كُلّ مَخوفَةٍ. حتى اجتَلَبْتُ كلّ أُطروفَةٍ. فمِنْ أحسَنِ ما لمحْتُهُ. وأغْرَبِ ما استَمْلَحْتُهُ. أنْ حضَرْتُ قاضيَ الرّملَةِ. وكانَ منْ أربابِ الدّولَةِ والصّولَةِ. وقد تَرافَعَ إليْهِ بالٍ في بالٍ. وذاتُ جَمالٍ في أسْمالٍ. فهمّ الشيخُ بالكلامِ. وتِبْيانِ المَرامِ. فمنعَتْهُ الفَتاةُ منَ الإفْصاحِ. وخسأتْهُ عنِ النُباحِ. ثمّ نضَتْ عنها فَضْلَةَ الوِشاحِ. وأنشدَتْ بلِسانِ السّليطَةِ الوَقاحِ:
يا قاضيَ الرّملَةِ يا ذا الـذي

في يدِهِ التّمرَةُ والـجَـمْـرَهْ
إليْكَ أشْكو جوْرَ بعْلي الـذي

لمْ يحجُجِ البيتَ سوى مـرّهْ
ولَيْتَهُ لمّا قضـى نُـسـكَـهُ

وخفّ ظَهراً إذْ رمى الجَمرَهْ
كانَ على رأيِ أبـي يوسُـفٍ

في صِلَةِ الحِجّةِ بالعُـمْـرَهْ
هذا على أنّيَ مُذْ ضـمّـنـي

إليْهِ لمْ أعْـصِ لـهُ أمْـرَهْ
فمُـرْهُ إمّـا أُلـفَةً حُـلـوَةً

تُرْضي وإمّـا فُـرقَةً مُـرّهْ
منْ قبلِ أنْ أخلَعَ ثوْبَ الحَـيا

في طاعَةِ الشيخِ أبي مـرّهْ
فقال لهُ القاضي: قد سمِعتَ بما عزَتْكَ إليْهِ. وتوعّدَتْكَ عليْهِ. فجانِبْ ما عرّكَ. وحاذِرْ أنْ تُفرَكَ. وتُعْرَكَ. فجَثا الشيخُ على ثفِناتِهِ. وفجَرَ ينْبوعَ نفثَاتِهِ. وقال:
إسمَعْ عداكَ الذّمُّ قولَ امرئٍ

يوضِحُ في ما رابَها عُذرَهْ
واللهِ ما أعْرَضْتُ عنها قِلًى

ولا هَوَى قلبي قضى نذرَهْ
وإنّما الدهْرُ عَـدا صـرْفُـهُ

فابْـتَـزّنـا الـدُّرّةَ والـذّرّهْ
فمنزِلي قفرٌ كمـا جِـيدُهـا

عُطْلٌ منَ الجَزْعَةِ والشّـذْرَهْ
وكنتُ منْ قبْلُ أرى في الهَوى

ودينِـهِ رأيَ بـنـي عُـذرَهْ
فمُذْ نَبا الدهرُ هجَرْتُ الدُّمـى

هِجرانَ عـفٍّ آخِـذٍ حِـذْرَهْ
ومِلتُ عنْ حَرْثـيَ لا رغـبَةً

عنهُ ولكِـنْ أتّـقـي بَـذْرَهْ
فلا تلُـمْ مَـنْ هـذِهِ حـالُـهُ

واعطِفْ عليْهِ واحتَمِلْ هَذرَهْ
قال: فالتَظَتِ المرأةُ منْ مَقالِهِ. وانتضَتِ الحُجَجَ لجِدالِهِ. وقالتْ لهُ: ويلَكَ يا مَرْقَعانُ. يا مَنْ هُو لا طَعامٌ ولا طِعانٌ! أتَضيقُ بالولَدِ ذرْعاً. ولكُلّ أكولَةٍ مرْعًى? لقدْ ضلّ فهْمُكَ. وأخطأ سهمُكَ. وسفِهَتْ نفسُكَ. وشقِيَتْ بِكِ عِرسُكَ. فقال لها القاضي: أمّا أنتِ فلوْ جادَلتِ الخنْساء. لانثَنَتْ عنكِ خرْساء. وأما هوَ فإنْ كانَ صدَقَ في زعمِهِ. ودعْوى عُدْمِهِ. فلهُ في همّ قَبْقَبِهِ. ما يشغلُهُ عنْ ذبْذَبِهِ. فأطرَقَتْ تنظُرُ ازوِراراً. ولا تُرجِعُ حِواراً. حتى قُلْنا: قد راجعَها الخفَرُ. أو حاقَ بها الظّفَرُ. فقالَ لها الشيخُ: تعْساً لكِ إنْ زخْرفْتِ. أو كتَمْتِ ما عرَفْتِ! فقالت: ويْحَكَ وهلْ بعْدَ المُنافَرَةِ كتْمٌ. أو بقيَ لنا على سِرٍّ ختْمٌ? وما فينا إلا مَنْ صدَقَ. وهتَكَ صوْنَهُ إذ نطَقَ. فلَيتَنا لاقَيْنا البَكَمَ. ولمْ نلْقَ الحكَمَ. ثمّ التفَعَتْ بوِشاحِها. وتباكَتْ لافْتِضاحِها. وجعلَ القاضي يَعجَبُ منْ خطبِهِما ويُعجِّبُ. ويلومُ لهُما الدّهْرَ ويؤنِّبُ. ثمّ أحْضَرَ من الورِقِ ألْفَينِ. وقال: أرْضِيا بهِما الأجْوَفَينِ. وعاصِيا النّازغَ بينَ الإلْفينِ. فشَكَراهُ على حُسنِ السَّراحِ. وانطَلَقا وهُما كالماء والرّاحِ. وطفِقَ القاضي بعْدَ مسرَحِهِما. وتَنائي شبَحِهِما. يُثْني على أدَبِهِما. ويقول: هل منْ عارِفٍ بهِما? فقال لهُ عينُ أعْوانِهِ. وخالِصَةُ خُلْصانِهِ: أما الشيخُ فالسّروجيّ المشهودُ بفضلِهِ. وأما المرأةُ فقَعيدَةُ رحْلِه. وأمّا تحكُمُهما فمَكيدةٌ من فِعلِهِ. وأُحبولَةٌ من حبائِلِ ختْلِه! فأحْفَظَ القاضيَ ما سمِعَ. وتلهّبَ كيفَ خُدِعَ. ثمّ قال للواشي بهِما: قُمْ فرُدْهُما. ثم اقصِدْهُما وصِدْهُما. فنهضَ ينفُضُ مِذروَيْهِ. ثمّ عادَ يضرِبُ أصْدَرَيْهِ! فقال لهُ القاضي: أظهِرْنا على ما نبَثْتَ. ولا تُخْفِ عنّا ما استَخْبَثْتَ. فقال: ما زِلْتُ أستَقْري الطُّرُقَ. وأستَفتِحُ الغُلُقَ. الى أن أدرَكْتُهُما مُصْحِرَينِ. وقد زمّا مطيَّ البيْنِ. فرغّبتُهُما في العَلَلِ. وكفَلْتُ لهُما بنَيلِ الأمَلِ. فأُشْرِبَ قلبُ الشّيخِ أن ييْأسَ. وقال: الفِرارُ بقُرابٍ أكيَسُ! وقالتْ هيَ: بلِ العوْدُ أحمَدُ. والفَروقَةُ يَكْمَدُ. فلمّا تبيّن الشيخُ سفَهَ رائِها. وغَرَرَ اجتِرائِها. أمسكَ ذَلاذِلَها. ثمّ أنشأ يقول لها:
دونَكَ نُصْحي فاقتَفي سُبْلَـهْ

واغني عنِ التّفصيلِ بالجُملَهْ
طيري متى نقّرْتِ عن نخلَةٍ

وطلّقِـيهـا بـتّةً بـتْـلَـهْ
وحاذِري العوْدَ إليْهـا ولـوْ

سبّلَها ناطورُهـا الأبْـلَـهْ
فخيرُ ما للّـصّ أنْ لا يُرى

ببُقْعةٍ فيها لـهُ عَـمْـلَـهْ
ثمّ قال لي: لقدْ عُنّيتَ. في ما وُلّيتَ. فارجِعْ منْ حيثُ جِئْتَ. وقلْ لمُرسِلِكَ إن شِئْتَ:
رُوَيدَكَ لا تُعقِبْ جَـمـيلَـكَ بـالأذى

فتُضْحي وشملُ المال والحمد مُنصَدعْ
ولا تتغـضّـبْ مـنْ تـزَيُّدِ سـائِلٍ

فما هوَ في صوْغِ اللّسانِ بمُبـتـدِعْ
وإنْ تكُ قد ساءتـكَ مـنـي خَـديعَةٌ

فقبلكَ شيخُ الأشعـرِيّينَ قـد خُـدِعْ
فقالَ لهُ القاضي: قاتَلَهُ اللهُ فما أحسَنَ شُجونَهُ. وأملَحَ فنونَهُ! ثمّ إنّهُ أصْحَبَ رائِدَهُ بفرْدَينِ. وصُرّةً منَ العينِ. وقالَ لهُ: سِرْ سَيرَ منْ لا يرَى الالتِفاتَ. الى أن تَرى الشيْخَ والفَتاةَ. فبُلّ يدَيْهِما بهَذا الحِباء. وبيّن لهُما انخِداعي للأدَباء. قال الرّاوي: فلمْ أرَ في الاغتِرابِ. كهَذا العُجابِ. ولا سمِعْتُ بمِثلِه ممّنْ جالَ وجابَ.
المقامة الحلبيّة
روى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: نزعَ بي الى حلَبَ. شوْقٌ غلَبَ. وطلَبٌ يا لهُ من طلَبٍ! وكنتُ يومَئِذٍ خَفيفَ الحاذِ. حَثيثَ النّفاذِ. فأخذْتُ أُهبَةَ السيرِ. وخفَفْتُ نحوَها خُفوفَ الطّيرِ. ولمْ أزَلْ مُذْ حلَلْتُ رُبوعَها. وارْتبَعْتُ ربيعَها. أُفاني الأيّامَ. في ما يَشْفي الغَرامَ. ويُرْوي الأُوامَ. الى أنْ أقْصرَ القلْبُ عنْ وَلوعِهِ. واسْتَطارَ غُرابُ البينِ بعْدَ وقوعِهِ. فأغْراني البالُ الخِلْوُ. والمرَحُ الحُلوُ. بأنْ أقصِدَ حِمْصَ. لأصْطافَ ببُقعَتِها. وأسبُرَ رَقاعَةَ أهلِ رُقعتِها. أفْرَعْتُ إليْها إسْراعَ النّجْمِ. إذا انْقَضّ للرّجْمِ. فحينَ خيّمتُ برُسومِها. ووجَدْتُ رَوْحَ نَسيمِها. لمحَ طَرْفي شيْخاً قد أقبلَ هَريرُهُ. وأدبَرَ غَريرُهُ. وعندَهُ عشَرَةُ صِبْيانٍ. صِنْوانٌ وغيرُ صِنْوانٍ. فطاوَعْتُ في قصْدِهِ الحِرصَ. لأخبُرَ بهِ أُدَباءَ حِمصَ. فبَشّ بي حينَ وافَيتُهُ. وحيّا بأحسَنَ ممّا حيّيتُهُ. فجلسْتُ إليْهِ لأبلوَ جنى نُطقِهِ. وأكْتَنِهَ كُنْهَ حُمقِهِ. فما لبِثَ أنْ أشارَ بعُصَيّتِهِ. الى كُبْرِ أُصَيْبِيَتِهِ. وقال لهُ: أنشِدِ الأبياتَ العَواطِلَ. واحْذَرْ أن تُماطِلَ. فجَثا جِثوَةَ ليْثٍ. وأنشدَ منْ غيرِ ريْثٍ:
أعْدِدْ لحُسّادِكَ حـدّ الـسّـلاحْ

وأوْرِدْ وِرْدَ الـسّـمـــاحْ
وصارِمِ اللّهْوَ ووصْلَ المَـهـا

وأعمِلِ الكومَ وسُمرَ الرّمـاحْ
واسْعَ لإدْراكِ محَـلٍّ سَـمـا

عِمـادُهُ لا لادّراعِ الـمِـراحْ
واللهِ ما السّؤدُدُ حسْوُ الـطِّـلا

ولا مَرادُ الحَمـدِ رُودٌ رَداحْ
واهاً لـحُـرٍّ واسِـعٍ صـدرُهُ

وهمُّهُ ما سَرّ أهْلَ الصّـلاحْ
مورِدُهُ حُـلـوٌ لـسـؤّالِــهِ

ومالُهُ ما سـألـوهُ مُـطـاحْ
ما أسـمَـعَ الآمِــلَ رَدّاً ولا

ماطَلَهُ والمطْلُ لؤمٌ صُـراحْ
ولا أطاعَ اللّهْـوَ لـمّـا دَعـا

ولا كَسا راحاً لهُ كـأسَ راحْ
سوّدَهُ إصْـلاحُـهُ ســـرَّهُ

ورَدْعُهُ أهْواءهُ والطِّـمـاحْ
وحصّلَ المدْحَ لـهُ عـلـمُـهُ

ما مُهِرَ العورُ مُهورَ الصِّحاحْ
فقال لهُ: أحسَنتَ يا بُدَيرُ. يا رأسَ الدّيرِ! ثمّ قالَ لتِلوِهِ. المُشتَبِهِ بصِنْوِهِ: ادنُ يا نُوَيرَةُ. يا قمَرَ الدُوَيرَةِ! فدَنا ولمْ يتَباطا. حتى حلّ منهُ مقْعَدَ المُعاطى. فقال لهُ: اجْلُ الأبْياتَ العَرائِسَ. وإنْ لمْ يكُنّ نَفائِسَ. فبَرى القلَم وقَطّ. ثمّ احْتَجَرَ اللّوْحَ وخطّ:
فتَنَتْني فجنّنَتْنـي تـجَـنّـي

بتَجنٍّ يفْتَنّ غِبَّ تـجَـنّـي
شغَفَتني بجَفنِ ظَبْيٍ غَضيضٍ

غنِجٍ يقْتَضي تغَيُّضَ جَفْنـي
غَشيَتْني بزِينتَينِ فـشـفّـتْ

ني بزِيٍّ يشِفّ بينَ تثَـنّـي
فتظَنّيتُ تجْتَبيني فتـجْـزي

ني بنَفْثٍ يشْفي فخُيّبَ ظنّي
ثبّتَتْ فيّ غِشّ جيْبٍ بتَـزْيي

نِ خَبيثٍ يبْغي تشَفّيَ ضِغْن
فنَزَتْ في تجنّي فـثـنَـتْ

ني بنَشيجٍ يُشْجي بفَنٍّ ففَـنّ
فلمّا نظرَ الشيخُ الى ما حبّرَهُ. وتصفّحَ ما زبَرَهُ. قال له: بورِكَ فيكَ منْ طَلاً. كما بورِكَ في لا ولا. ثمّ هتَفَ: اقْرُبْ. يا قُطْرُبُ. فاقْتَرَبَ منهُ فتًى يحْكي نجْمَ دُجْيةٍ. أو تِمْثالَ دُميةٍ. فقال لهُ: ارْقُمِ الأبْياتَ الأخْيافَ. وتجنّبِ الخِلافَ. فأخذَ القلَمَ ورقَمَ:
إسْمَحْ فبَثُّ السّماحِ زَينٌ

ولا تُخِبْ آمِلاً تضَيّفْ
ولا تُـجِـزْ رَدَّ ذي سـؤالٍ

فنّنَ أم في السّوالِ خفَّـفْ
ولا تظُنّ الدّهورَ تُـبـقـي

مالَ ضَنينٍ ولوْ تقَـشّـفْ
واحلُمْ فجفنُ الكرامِ يُغضي

وصَدرُهمْ في العَطاء نفنَفْ
ولا تخُـنْ عـهْـدَ ذي وِدادٍ

ثبْتٍ ولا تبْغِ مـا تـزيَّفْ
فقال له: لا شَلّتْ يَداكَ. ولا كلّتْ مُداكَ. ثمّ نادى: يا عشَمْشَمُ. يا عِطْرَ منْشَمَ! فلبّاهُ غُلامٌ كدُرّةِ غوّاصٍ. أو جُؤذُرِ قنّاصٍ. فقالَ لهُ: اكتُبِ الأبياتَ المَتائِيمَ. ولا تكُنْ منَ المَشائيمِ. فتناولَ القلَمَ المثقّفَ. وكتبَ ولمْ يتوقّفْ:
زُيّنـتْ زينَـبٌ بـقَـدٍّ يقُـدُّ

وتَـلاهُ ويْلاهُ نـهْـدٌ يهُـدُّ
جُندُها جيدُها وظَرفٌ وطَرْفٌ

ناعِسٌ تاعِسٌ بـحـدٍّ يَحُـدُّ
قدرُها قدْ زَها وتاهَتْ وباهَتْ

واعْتَدَتْ واغتَدَتْ بخَدٍّ يخُـدّ
فارَقَتْني فأرّقَتْني وشـطّـتْ

وسطَتْ ثمّ نـمّ وجْـدٌ وجَـدّ
فدَنَتْ فدّيَتْ وحنّـتْ وحـيّتْ

مُغضَباً مُـغـضِـياً يوَدّ يُوَدّ
فطفِقَ الشيخُ يتأمّلُ ما سطَرَهُ. ويقلّبُ فيهِ نظرَهُ. فلمّا استحسَنَ خطَّهُ. واستَصَحّ ضبْطَهُ. قال لهُ: لا شَلّ عشرُكَ. ولا استُخبِثَ نشْرُكَ. ثمّ أهابَ بفتًى فتّان. يسفِرُ عنْ أزهارِ بُستانٍ. فقالَ لهُ: أنشِدِ البَيتينِ المُطرَفَينِ. المُشتَبِهَيِ الطّرفَينِ. اللذَينِ أسْكَتا كلّ نافِثٍ. وأمِنا أنْ يعَزَّزا بثالِثٍ. فقالَ له: اسمَعْ لا وُقِرَ سمْعُكَ. ولا هُزِمَ جمعُكَ. وأنشدَ منْ غيرِ تلبّثٍ. ولا تريّثٍ:
سِمْ سِمَةً تـحْـسُـنُ آثـارُهـا

واشكُرْ لمنْ أعطى ولوْ سِمسِمَهْ
والمكْرُ مهْما استطَعْتَ لا تأتِـهِ

لتَقْتَني السّؤدَدَ والمَـكـرُمَـهْ
فقال لهُ: أجدْتَ يا زُغْلولُ. يا أبا الغُلولِ. ثمّ نادَى: أوضِح يا ياسينُ. ما يُشكِلُ من ذَواتِ السّينِ. فنهضَ ولمْ يتأنّ. وأنشدَ بصوْتٍ أغنّ:
نِقْسُ الدّواةِ ورُسغُ الكفّ مُـثـبَـتةٌ

سيناهُما إنْ هُما خُطّـا وإنْ دُرِسـا
وهكذا السّينُ في قسْـبٍ وبـاسِـقَةٍ

والسفحِ والبخس واقسِرْ واقتبس قبَسا
وفي تقسّسْتُ باللّيلِ الـكـلامَ وفـي

مُسيطرٍ وشَموسٍ واتخِـذْ جـرَسـا
وفي قَريسٍ وبرْدٍ قارِسٍ فـخـذِ ال

صّوابَ منّي وكُنْ للعِلمِ مُقتَـبِـسـا
فقال لهُ: أحسنْتَ يا نُغَيشُ. يا صنّاجةَ الجيْشِ. ثمّ قال: ثِبْ يا عَنبَسَةُ. وبيّنِ الصّاداتِ المُلتَبِسَةَ. فوثبَ وِثبَةَ شِبلٍ مُثارٍ. ثم أنشَدَ من غيرِ عِثارٍ:
بالصّادِ يُكتَبُ قد قبَصْتُ دراهِـمـاً

بأنامِلي وأصِخْ لتَستَمِعَ الـخَـبَـرْ
وبصَقْتُ أبصُقُ والصِّماخُ وصَنجةٌ

والقَصُّ وهْوَ الصّدرُ واقتصّ الأثَرْ
وبخَصْتُ مُقلتَـهُ وهَـذي فُـرصَةٌ

قد أُرعِدَتْ منهُ الفَريصَةُ للخَـوْرِ
وقصَرْتُ هِنداً أي حبَستُ وقد دنـا

فِصْحُ النّصارَى وهْوَ عيدٌ مُنتظَـر
وقرَصْتُهُ والخـمْـرُ قـارِصَةٌ إذا

حذَتِ اللّسانَ وكلّ هذا مُستَـطَـرْ
فقال له: رَعْياً لكَ يا بُنيّ. فلقدْ أقرَرْتَ عينيّ. ثمّ استَنْهَضَ ذا جُثّةٍ كالبَيذَقِ. ونَعشَةٍ كالسّوذَقِ. وأمرَهُ بأنْ يقِفَ بالمِرصادِ. ويسرُدَ ما يجْري على السّينِ والصّادِ. فنهضَ يسحَبُ بُردَيْهِ. ثمّ أنشَدَ مُشيراً بيدَيْهِ:
إنْ شِئْتَ بالسّينِ فاكتُبْ ما أبيّنـهُ

وإنْ تَشأ فهْوَ بالصّاداتِ يُكتَتَـبُ
مَغسٌ وفَقسٌ ومُسطارٌ ومُمّلـسٌ

وسالغٌ وسِراطُ الحقّ والسّقَـبُ
والسّامِغانِ وسقْرٌ والسَّويقُ ومِسْ

لاقٌ وعن كل هذا تُفصحُ الكُتُبُ
فقال له: أحسَنتَ يا حبَقَةُ. يا عينَ بقّةَ. ثمّ نادى: يا دَغْفَلُ. يا أبا زَنفَلَ. فلبّاهُ فتًى أحسَنُ منْ بيضَةٍ. في روضَةٍ. فقال له: ما عَقْدُ هِجاء الأفعالِ. التي أخِرُها حرْفُ اعتِلالٍ? فقال: اسْمَعْ لا صُمّ صَداكَ. ولا سمِعَتْ عِداكَ! ثمّ أنشدَ. وما استَرشَدَ:
إذا الفِعْلُ يوماً غُمّ عنْكَ هجـاؤه

فألحِقْ بهِ تاء الخِطابِ ولا تقِفْ
فإنْ ترَ قبْلَ التّاء ياءً فكَـتْـبُـهُ

بياءٍ وإلا فهْوَ يُكتَبُ بـالألِـفْ
ولا تحسُبِ الفِعلَ الثّلاثيّ والذي

تعدّاهُ والمهموزُ في ذاك يختلِفْ
فطَرِبَ الشيخُ لما أدّاهُ. ثمّ عوّذَهُ وفدّاهُ. ثمّ قال: هلمّ يا قَعْقاعُ. يا باقِعَةَ البِقاعِ. فأقْبَلَ فتًى أحسَنُ منْ نارِ القِرى. في عينِ ابنِ السُرَى. فقال له: اصدَعْ بتمْييزِ الظّاء منَ الضادِ. لتَصْدَعَ بهِ أكْبادَ الأضْدادِ. فاهتَزّ لقوْلِهِ واهتَشّ. ثمّ أنشَدَ بصوتٍ أجَشّ:
أيها السائلي عنِ الضّـادِ والـظّـا

ء لكَـيْلا تُـضِـلّـهُ الألْـفـاظُ
إنّ حِفظَ الظّاءات يُغنيكَ فاسـمـع

ها استِماعَ امرِئٍ لهُ اسـتـيقـاظُ
هيَ ظَمْياءُ والـمـظـالِـمُ والإظْ

لامُ والظَّلْمُ والظُّبَى والـلَّـحـاظُ
والعَظا والظّليمُ والظبيُ والـشّـيْ

ظَمُ والظّلُّ واللّظـى والـشّـواظُ
والتّظَنّي واللّفْظُ والنّظـمُ والـتـق

ريظُ والقَيظُ والظّما والـلَّـمـاظُ
والحِظا والنّظيرُ والظّئرُ والـجـا

حِظُ والـنّـاظِـرونَ والأيْقــاظُ
والتّشظّي والظِّلفُ والعظمُ والظّـن

بوبُ والظَّهْرُ والشّظا والشِّظـاظُ
والأظافيرُ والمظَـفَّـرُ والـمـحْ

ظورُ والحافِظـونَ والإحْـفـاظُ
والحَظيراتُ والمَظِـنّةُ والـظِّـنّ

ةُ والكاظِمـونَ والـمُـغْـتـاظُ
والوَظيفاتُ والمُواظِـبُ والـكِـظّ

ةُ والإنـتِـظـارُ والإلْـظــاظُ
ووَظـيفٌ وظـالِـعٌ وعـظــيمٌ

وظَـهـيرٌ والـفَـظُّ والإغْـلاظُ
ونَظيفٌ والظَّرْفُ والظّلَفُ الـظّـا

هِرُ ثمّ الـفَـظـيعُ والـوُعّـاظُ
وعُكاظٌ والظَّعْنُ والمَظُّ والـحـنْ

ظَلُ والـقـارِظـانِ والأوْشـاظُ
وظِرابُ الظِّرّانِ والشّظَفُ الـبـا

هِظُ والجعْـظَـريُّ والـجَـوّاظُ
والظَّرابينُ والحَناظِـبُ والـعُـنْ

ظُبُ ثـمّ الـظّـيّانُ والأرْعـاظُ
والشَّناظِي والدَّلْظُ والظّأبُ والظَّبْ

ظابُ والعُنظُوانُ والـجِـنْـعـاظُ
والشّناظيرُ والتّعـاظُـلُ والـعِـظْ

لِمُ والبَظْـرُ بـعْـدُ والإنْـعـاظُ
هيَ هذي سِوى النّوادِرِ فاحـفَـظْ

ها لتَقْـفـو آثـارَكَ الـحُـفّـاظُ
واقضِ في ما صرّفتَ منها كما تق

ضيهِ في أصْلِهِ كقَيْظٍ وقـاظـوا
فقال لهُ الشيخُ: أحسنْتَ لا فُضّ فوكَ. ولا بُرّ منْ يجفوكَ. فوَاللهِ إنّكَ معَ الصِّبا الغَضّ. لأحْفَظُ منَ الأرضِ. وأجمَعُ من يومِ العرْضِ. ولقدْ أورَدْتُك ورُفْقتَكَ زُلالي. وثقّفْتُكُم تثْقيفَ العَوالي. فاذْكُروني أذكُرْكُمْ واشْكُروا لي وَلا تكفُرون. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فعجِبْتُ لما أبْدى من بَراعَةٍ. معجونَةٍ برِقاعَةٍ. وأظهَرَ منْ حَذاقَةٍ. ممزوجَةٍ بحَماقَةٍ. ولمْ يزَلْ بصَري يُصَعِّدُ فيهِ ويصوِّبُ. وينقِّرُ عنهُ وينقِّبُ. وكنتُ كمنْ ينظُرُ في ظَلْماء. أو يَسري في بهْماء. فلما استَراثَ تنبُّهي. واسْتَبان تدلُّهي. حمْلقَ إليّ وتبسّمَ. وقال: لمْ يبقَ مَنْ يتوسّمُ. فبُهْتُ لفَحْوى كلامِهِ. ووجَدْتُهُ أبا زيدٍ عندَ ابتِسامِهِ. فأخذْتُ ألومُهُ على تديُّرِ بُقعَةِ النَّوْكى. وتخيُّرِ حِرفَةِ الحمْقَى. فكأنّ وجهَهُ أُسِفّ رَماداً. أو أُشرِبَ سَواداً. إلا أنهُ أنشدَ وما تَمادى:
تخيّرْتُ حِمْصَ وهَذي الصّناعهْ

لأُرزَقَ حُظوَةَ أهلِ الرَّقاعَـهْ
فما يَصطَفي الدّهرُ غيرَ الرّقيعِ

ولا يوطِنُ المالَ إلا بِقـاعَـهْ
ولا لأخي اللُّـبّ مـنْ دهْـرِهِ

سوى ما لعَيْرٍ رَبيطٍ بِقـاعَـهْ
ثم قال: أمَا إنّ التعليمَ أشرَفُ صِناعةٍ. وأربَحُ بِضاعةٍ. وأنجَعُ شَفاعةٍ. وأفضَلُ براعَةٍ. وربُّهُ ذو إمْرَةٍ مُطاعَةٍ. وهيبَةٍ مُشاعَةٍ. ورعيّةٍ مِطواعةٍ. يتسيْطَرُ تسيْطُرَ أميرٍ. ويرتِّبُ ترْتيبَ وزيرٍ. ويتحكّمُ تحكُّمَ قَديرٍ. ويتشبّهُ بِذي مُلْكٍ كبيرٍ. إلا أنهُ يخْرَفُ في أمَدٍ يَسيرٍ. ويتّسِمُ بحُمقٍ شَهيرٍ. ويتقلّبُ بعقْلٍ صَغيرٍ. ولا يُنَبّئكَ مثلُ خَبيرٍ. فقلتُ لهُ: تاللهِ إنّكَ لابنُ الأيّامِ. وعلَمُ الأعلامِ. والسّاحِرُ اللاعِبُ بالأفْهامِ. المُذَلَّلُ لهُ سُبُلُ الكَلامِ. ثمّ لمْ أزَلْ معتَكِفاً بنادِيهِ. ومُغتَرِفاً منْ سيْلِ وادِيهِ. الى أن غابَتِ الأيامُ الغُرُّ. ونابَتِ الأحْداثُ الغُبْرُ. ففارقْتُهُ ولعَيْني العُبْرُ.
المقامة الحَجْرِيّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: احتَجْتُ الى الحِجامَةِ. وأنا بحَجْرِ اليَمامةِ. فأُرشِدْتُ الى شيخٍ يحْجُمُ بلَطافَةٍ. ويسفِرُ عنْ نَظافَةٍ. فبعَثْتُ غُلامي لإحْضارِهِ. وأرْصَدْتُ نفْسي لانتِظارِهِ. فأبْطأ بعْدَما انطلَقَ. حتى خِلتُهُ قد أبَقَ. أو ركِبَ طبَقاً عنْ طبَقٍ. ثمّ عادَ عوْدَ المُخفِقِ مسْعاهُ. الكَلِّ على موْلاهُ. فقُلْتُ لهُ: ويلَكَ أبُطْءَ فِنْدٍ. وصُلودَ زَندٍ? فزَعَم أنّ الشيخَ أشْغَلُ من ذاتِ النِّحْيَيْنِ. وفي حربٍ كحَرْبِ حُنَينٍ. فعِفتُ المَمْشى الى حجّامٍ. وحِرْتُ بين إقدامٍ وإحْجامٍ. ثمّ رأيتُ أنْ لا تعْنيفَ. على منْ يأتي الكَنيفَ. فلمّا شهِدْتُ موسِمَهُ. وشاهدْتُ مِيسَمَهُ. رأيتُ شيْخاً هيئَتُهُ نَظيفَةٌ. وحركَتُهُ خَفيفَةٌ. وعليْهِ منَ النّظارَةِ أطْواقٌ. ومنَ الزِّحامِ طِباقٌ. وبينَ يَدَيْهِ فتًى كالصَّمْصامَةِ. مُستَهدِفٌ للحِجامَةِ. والشيخُ يقولُ له: أراكَ قد أبرَزْتَ راسَكَ. قبلَ أن تُبرِزَ قِرْطاسَكَ. ووَلّيتَني قَذالَكَ. ولمْ تقُلْ لي ذا لَكَ. ولستُ ممّنْ يبيعُ نقْداً بدَينٍ. ولا يطلُبُ أثَراً بعدَ عينٍ. فإنْ أنتَ رضَخْتَ بالعَينِ. حُجِمْتَ في الأخدَعَينِ. وإنْ كُنتَ ترى الشُحّ أوْلى. وخزْنَ الفَلْسِ في النّفْسِ أحْلى. فاقْرأ عبَسَ وتولّى. واغْرُبْ عني وإلا. فقالَ الفتَى: والذي حرّمَ صوْغَ المَينِ. كما حرّمَ صيْدَ الحرَمَينِ. إني لأفْلَسُ منِ ابنِ يوْمَينِ. فثِقْ بسَيلِ تلْعَتي. وأنْظِرْني الى سَعَتي. فقالَ لهُ الشيخُ: ويْحَكَ إنّ مثَلَ الوُعودِ. كغرْسِ العودِ! هوَ بينَ أن يُدرِكَهُ العطَبُ. أو يُدرَكُ منهُ الرُّطَبُ. فما يُدْرِيني أيَحْصُلُ منْ عودِكَ جَنًى. أم أحصُلُ منهُ على ضنًى? ثمّ ما الثّقَةُ بأنّكَ حينَ تبتَعِدُ. ستَفي بما تعِدُ? وقد صارَ الغدْرُ كالتّحْجيلِ. في حِليَةِ هذا الجيلِ. فأرِحْني باللهِ منَ التّعذيبِ. وارْحَلْ الى حيثُ يَعْوي الذّيبُ. فاسْتَوى الغُلامُ إليْهِ. وقدِ استوْلى الخجَلُ علَيْهِ. وقال: واللهِ ما يَخيسُ بالعهْدِ. غيرُ الخَسيسِ الوغْدِ. ولا يرِدُ غَديرَ الغَدْرِ. إلا الوَضيعُ القدْرِ. ولوْ عرَفْتَ منْ أنا. لما أسمَعْتَني الخَنا. لكنّكَ جهِلْتَ فقُلْتَ. وحيثُ وجَبَ أنْ تسْجُدَ بُلْتَ. وما أقبَحَ الغُربَةَ والإقلالَ. وأحسَنَ قوْلَ منْ قال:
إنّ الغَريبَ الطّويلَ الذّيلِ ممتَهَـنٌ

فكيفَ حالُ غَريبٍ ما لـهُ قـوتُ
لكنّهُ ما تَشينُ الـحُـرُّ مـوجِـعَةٌ

فالمِسكُ يُسحَقُ والكافورُ مَفتـوتُ
وطالَما أُصْليَ الياقوتُ جمرَ غضًى

ثمّ انطَفى الجمرُ والياقوتُ ياقوتُ
فقالَ لهُ الشيخُ: يا ويلَةَ أبيكَ. وعوْلَةَ أهليكَ! أأنْتَ في موقِفِ فخْرٍ يُظهَرُ. وحسَبٍ يُشهَرُ. أم موقِفِ جِلْدٍ يُكشَطُ. وَقَفاً يُشْرَطُ? وهبْ أنّ لكَ البيتَ. كما ادّعَيتَ. أيَحْصُلُ بذلِكَ. حَجْمُ قَذالِكَ? لا واللهِ ولوْ أنّ أباكَ أنافَ. على عبْدِ مُنافٍ. أو لخالِكَ دانَ. عبدُ المَدانِ. فلا تضْرِبْ في حَديدٍ بارِدٍ. ولا تطْلُبْ ما لسْتَ لهُ بواجِدٍ. وباهِ إذا باهَيْتَ بموجودِكَ. لا بحُدودِكَ. وبمَحْصولِكَ. لا بأصولِكَ. وبصِفاتِكَ. لا برُفاتِكَ. وبأعْلاقِكَ. لا بأعْراقِكَ. ولا تُطِعِ الطّمَعَ فيُذِلَّكَ. ولا تتّبِعِ الهَوى فيُضِلّكَ. وللهِ القائلُ لابنِهِ:
بُنيّ استَقِمْ فالعُـودُ تَـنـمـي عُـروقُـهُ

قَويماً ويغْشاهُ إذا ما الـتَـوى الـتّـوَى
ولا تُطِعِ الحِرْصَ المُـذِلّ وكـنْ فـتًـى

إذا التَهَبتْ أحشاؤهُ بـالـطّـوى طـوَى
وعاصِ الهَوى المُرْدي فكم من محَـلِّـقٍ

إلى النّجْمِ لمّا أنْ أطاعَ الـهَـوى هـوَى
وأسعِفْ ذوي القُربى فـيقـبُـحُ أن يُرى

على من إلى الحرّ اللُّبابِ انضوى ضوَى
وحافِظْ علـى مَـنْ لا يخـونُ إذا نَـبـا

زمانٌ ومن يرْعى إذا ما الـنـوى نـوَى
وإنْ تقتدرْ فاصْفحْ فلا خيرَ فـي امـرِئٍ

إذا اعتلَقتْ أظفارُهُ بـالـشّـوى شَـوى
وإيّاكَ والشّكـوى فـلـمْ تـرَ ذا نُـهًـى

شكا بل أخو الجهل الذي ما ارعوى عوى
فقالَ الغُلامُ للنّظّارَةِ: يا للعَجيبةِ. والطُرفَةِ الغَريبةِ! أنْفٌ في السّماء. واسْتٌ في الماء! ولفْظٌ كالصّهْباء. وفِعْلٌ كالحَصْباء! ثمّ أقبلَ على الشيخِ بلِسانٍ سَليطٍ. وغيظٍ مُستَشيطٍ. وقال: أفٍّ لكَ منْ صوّاغٍ باللّسانِ. روّاغٍ عنِ الإحْسانِ! تأمُرُ بالبِرّ. وتعُقّ عُقوقَ الهِرّ. فإنْ يكُنْ سبَبُ تعنُّتِكَ. نَفاقَ صنعَتِكَ. فرَماها اللهُ بالكَسادِ. وإفْسادِ الحُسّادِ. حتى تُرى أفرَغَ منْ حَجّامِ ساباطَ. وأضيَقَ رِزْقاً منْ سمّ الخِياطِ. فقال لهُ الشيخُ: بلْ سلّطَ اللهُ عليْكَ بَثْرَ الفَمِ. وتبيُّغَ الدّمِ. حتى تُلْجأ الى حجّامٍ عظيمِ الاشْتِطاطِ. ثَقيلِ الاشْتِراطِ. كَليلِ المِشْراطِ. كثيرِ المُخاطِ والضُّراطِ. قال: فلمّا تبيّنَ الفتى أنهُ يشْكو الى غيْرِ مُصَمَّتٍ. ويُراوِدُ استِفْتاحَ بابٍ مُصْمَتٍ. أضْرَبَ عنْ رجْعِ الكَلامِ. واحتفَزَ للقيامِ. وعلِمَ الشيخُ أنهُ قدْ ألامَ. بما أسمَعَ الغُلامَ. فجنَحَ الى سِلمِهِ. وبذَلَ أنْ يُذعِنَ لحُكمِهِ. ولا يَبْغي أجْراً على حَجْمِهِ. وأبى الغُلامُ إلاّ المَشْيَ بدائِهِ. والهرَبَ منْ لِقائِهِ. وما زالا في حِجاجٍ وسِبابٍ. ولِزازٍ وجِذابٍ. الى أن ضجّ الفَتى منَ الشِّقاقِ. وتَلا رُدنُهُ سورَةَ الانشِقاقِ. فأعْوَلَ حينئِذٍ لوَفارَةِ خُسرِهِ. وانعِطاطِ عِرْضِهِ وطِمْرِهِ. وأخذَ الشيخُ يعتَذِرُ منْ فرَطاتِهِ. ويُغيِّضُ منْ عبَراتِهِ. وهوَ لا يُصْغي الى اعتِذارِهِ. ولا يقصِّرُ عنِ استِعْبارِهِ. الى أنْ قالَ لهُ: فَداكَ عمُّكَ. وعدَاكَ ما يغُمُّكَ! أما تسْأمُ الإعْوالَ. أما تعرِفُ الاحتِمالَ. أمَا سمِعْتَ بمَنْ أقالَ. وأخذَ بقولِ منْ قال:
أخمِدْ بحِلمكَ مـا يُذكـيهِ ذو سـفَـهٍ

من نارِ غيظكَ واصْفَحْ إن جنى جانِ
فالحِلمُ أفضَلُ ما ازْدانَ اللّبـيبُ بـهِ

والأخذُ بالعَفوِ أحْلى ما جَنـى جـانِ
فقال لهُ الغُلام: أمَا إنّكَ لو ظهرْتَ على عيْشيَ المُنكَدِرِ. لعَذَرْتَ في دمْعيَ المُنهَمِرِ. ولكِنْ هانَ على الأملَسِ ما لاقَى الدّبِرُ. ثمّ كأنّهُ نزَعَ الى الاستِحْياء. فأقْلَعَ عنِ البُكاء. وفاء الى الارْعِواء. وقال للشيخِ: قدْ صِرْتُ الى ما اشتَهَيْتَ. فارْقَعْ ما أوْهَيتَ. فقال: هيْهاتَ شغلَتْ شِعابي جَدوايَ. فشِمْ بارِقَ سِوايَ. ثمّ إنهُ نهضَ يستَقْري الصّفوفَ. ويستَجْدي الوُقوفَ. ويُنشِدُ في ضِمْنِ ما هوَ يطوفُ:
أُقسِمُ بالبـيتِ الـحـرامِ الـذي

تهْوي إليْهِ الزُمَرُ المُحـرِمَـهْ
لوْ أنّ عِندي قُـوتَ يومٍ لَـمـا

مسّتْ يَدي المِشْراطَ والمِحجَمهْ
ولا ارتضَتْ نفْسي التي لمْ تـزَلْ

تسْمو الى المجْدِ بهذي السِّـمَـهْ
ولا اشْتَكى هذا الفتـى غِـلـظَةً

منّي ولا شاكَتْهُ مـنّـي حُـمَـهْ
لكِنْ صُروفُ الدّهرِ غادَرْنـنـي

كخابِطٍ في اللّيلَةِ المُـظـلِـمَـهْ
واضْطَرّني الفقْرُ الـى مـوقِـفٍ

منْ دونِهِ خوْضُ اللّظى المُضرَمه
فهـلْ فـتًـى تُـدرِكُـــهُ رِقّةٌ

عليّ أو تعطِـفُـهُ مَـرْحَـمَـهْ
قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فكُنتُ أوّلَ منْ أوى لبَلْواهُ. ورقّ لشَكْواهُ. فنفَحْتُهُ بدِرْهَمَينِ. وقلتُ: لا كانا ولوْ كانَ ذا مَيْنٍ! فابتهَجَ بباكُورَةِ جَناهُ. وتفاءلَ بهِما لغِناهُ. ولمْ تزَلِ الدّراهِمُ تنْهالُ عليْهِ. وتنْثالُ لديْهِ. حتى آلَ ذا عيشَةٍ خضْراء. وحَقيبةٍ بجْراء. فازْدهاهُ الفرَحُ عندَ ذلِكَ. وهنّأ نفْسَهُ بما هُنالِكَ. وقال للغُلام: هَذا ريْعٌ أنتَ بَذرُهُ. وحلَبٌ لكَ شطرُهُ. فهلُمّ لنَقتَسِمَ. ولا نحْتَشِمْ. فتقاسَماهُ بينَهُما شقَّ الأبلَمَةِ. ونهَضا مُتّفِقَي الكَلِمَةِ. ولمّا انتظَمَ بينهُما عقْدُ الاصْطلاحِ. وهمّ الشيخُ بالرّواحِ. قُلتُ له: قدْ تبوّغَ دَمي. ونقلْتُ إليْكَ قدَمي. فهلْ لكَ أن تحْجُمَني. وتُكفْكِفَ ما دهَمَني? فصوّبَ طرْفَهُ وصعّد. ثمّ ازْدَلَفَ إليّ وأنشدَ:
كيفَ رأيتَ خُدْعَتـي وخـتْـلـي

وما جرى بيْني وبينَ سـخْـلـي
حتى انثَنَيْتُ فائِزاً بـالـخـصْـلِ

أرْعى رياضَ الخِصْبِ بعدَ المحلِ
باللهِ يا مُهجةَ قلْـبـي قـلْ لـي

هلْ أبصرَتْ عيناكَ قطُّ مثـلـي
يفتَـحُ بـالـرُقـيَةِ كـلَّ قُـفْـلِ

ويستَبي بالسّحْـرِ كـلَّ عـقْـلِ
ويعجِنُ الجِـدّ بـمـاء الـهـزْلِ

إنْ يكُنِ الإسكَنـدَريُّ قـبْـلـي
فالطّلُّ قـد يبْـدو أمـامَ الـوَبْـلِ

والفضْلُ للـوابِـلِ لا لـلـطّـلِّ
قال: فنبّهَتْني أُرجوزَتُهُ عليْهِ. وأرَتْني أنهُ شيخُنا المُشارُ إليهِ. فقرّعْتُهُ على الابتِذالِ. والاتِحاقِ بالأرْذالِ. فأعْرضَ عمّا سمِعَ. ولمْ يُبَلْ بِما قُرّعَ. وقال: كُلَّ الحِذاء يحْتَذي الحافي الوَقِعُ. ثمّ قاصاني مُقاصاةَ المُهانِ. وانطلَقَ هوَ وابنُهُ كفَرَسيْ رِهانٍ.
المقامة الحَراميّة
روى الحارثُ بنُ همّامٍ عنْ أبي زيدٍ السَّروجيّ قال: ما زِلْتُ مُذ رحَلْتُ عنْسي. وارتَحَلْتُ عنْ عِرْسي وغَرْسي. أحِنّ إلى عِيانِ البَصرَةِ. حَنينَ المظْلومِ الى النُصرَةِ. لِما أجمَعَ عليْهِ أرْبابُ الدّرايَةِ. وأصْحابُ الرّوايَةِ. منْ خصائِصِ معالمِها وعُلَمائِها. ومآثِرِ مشاهِدِها وشُهَدائِها. وأسْألُ اللهَ أن يوطِئَني ثَراها. لأفوزَ بمرْآها. وأنْ يُمطيَني قَراها. لأقْتَري قُراها. فلمّا أحَلّنيها الحظُّ. وسرَحَ لي فيها اللّحْظُ. رأيتُ بها ما يمْلأ العَينَ قُرّةً. ويُسْلي عنِ الأوطانِ كلّ غَريبٍ. فغلَسْتُ في بعض الأيامِ. حينَ نصَلَ خِضابُ الظّلامِ. وهتَفَ أبو المُنذِرِ بالنُّوّامِ. لأخْطوَ في خِطَطِها. وأقْضيَ الوطَرَ منْ توسُّطِها. فأدّاني الاخْتِراقُ في مَسالِكِها. والانصِلاتُ في سِككِها. الى محلّةٍ موسومَةٍ بالاحْتِرامِ. منسوبَةٍ الى بني حَرامٍ. ذاتِ مَساجِدَ مشهودَةٍ. وحِياضٍ موْرودَةٍ. ومَبانٍ وثيقَةٍ. ومغانٍ أنيقَةٍ. وخصائِصَ أثيرَةٍ. ومَزايا كثيرةٍ:
بها ما شِئْتَ مـنْ دِينٍ ودُنْـيا

وجيرانٍ تنافَوْا في المعانـي
فمَشغوفٌ بآياتِ المـثـانـي

ومفْتونٌ برَنّاتِ المـثـانـي
ومُضْطَلِعٌ بتلْخيصِ المعانـي

ومُطّلِعٌ الى تخْلـيصِ عـانِ
وكمْ منْ قارِئٍ فيهـا وقـارٍ

أضَرّا بالجُفونِ وبالجِـفـانِ
وكمْ منْ مَعْلَمٍ للعِلْـمِ فـيهـا

ونادٍ للنّدى حُلْوِ المَـجـانـي
ومَغْنًى لا تزالُ تـغَـنُّ فـيهِ

أغاريدُ الغَواني والأغـانـي
فصِلْ إن شِئتَ فيها مَنْ يُصَلّي

وإمّا شِئْتَ فادنُ منَ الدِّنـانِ
ودونَكَ صُحبَةَ الأكياسِ فيهـا

أوِ الكاساتِ منطَلِقَ العِنـانِ
قال: فبَينَما أنا أنفُضُ طُرُقَها. وأستَشِفُّ رونَقَها. إذْ لمحْتُ عندَ دُلوكِ بَراحِ. وإظْلالِ الرّواحِ. مسجِداً مُشتَهِراً بطَرائِفِهِ. مزدَهِراً بطوائِفِه. وقد أجْرى أهلُهُ ذِكْرَ حُروفِ البدَلِ. وجرَوْا في حلْبَةِ الجدَلِ. فعُجْتُ نحوَهُمْ. لأستَمطِرَ نوّهُمْ. لا لأقتَبِسَ نحوَهُمْ. فلمْ يكُ إلا كقَبْسَةِ العَجْلانِ. حتى ارتفَعَتِ الأصْواتُ بالأذانِ. ثمّ رَدِفَ التّأذينَ بُروزُ الإمامِ. فأُغْمِدَتْ ظُبى الكلامِ. وحُلّتِ الحِبى للقِيامِ. وشُغِلْنا بالقُنوتِ. عنِ استِمْدادِ القوتِ. وبالسّجودِ. عنِ استِنْزال الجودِ. ولمّا قُضيَ الفَرْضُ. وكادَ الجمْعُ ينفَضّ. انْبَرى منَ الجماعَةِ. كهْلٌ حُلْوُ البَراعةِ. لهُ منَ السّمتِ الحسَنِ. ذَلاقَةُ اللّسَنِ. وفَصاحَةُ الحسَنِ. وقال: يا جيرَتي. الذينَ اصْطفَيتُهُمْ على أغصانِ شجرَتي. وجعلْتُ خِطتَهُمْ دارَ هِجرَتي. واتّخَذْتُهُمْ كَرِشي وعَيبَتي. وأعددْتُهُمْ لمَحْضَري وغيْبَتي. أما تعْلَمونَ أنّ لَبوسَ الصّدقِ أبْهى الملابِسِ الفاخِرةٍ. وأنّ فُضوحَ الدُنيا أهوَنُ منْ فُضوحِ الآخِرَةِ? وأنّ الدّينَ إمْحاضُ النّصيحَةِ. والإرْشادَ عُنوانُ العَقيدَةِ الصّحيحةِ? وأنّ المُستَشارَ مُؤتَمَنٌ. والمستَرشِدَ بالنُصحِ قَمِنٌ? وأنّ أخاكَ هوَ الذي عذلَكَ. لا الذي عذَرَكَ? وصديقَكَ منْ صدقَكَ. لا مَنْ صدّقَكَ? فقال لهُ الحاضِرون: أيها الخِلّ الوَدودُ. والخِدْنُ الموْدودُ. ما سِرّ كلامِكَ المُلغَزِ. وما شرْحُ خِطابِكَ الموجِزِ. وما الذي تبْغيهِ منّا ليُنْجَزَ? فوَالذي حَبانا بمحبّتِكَ. وجعلَنا منْ صفْوَةِ أحِبّتِكَ. ما نألوكَ نُصْحاً. ولا ندّخِرُ عنْكَ نَضْحاً. فقال: جُزيتُمْ خيراً. ووُقيتُمْ ضَيراً. فإنّكُمْ ممّنْ لا يَشْقى بهِمْ جَليسٌ. ولا يصدُرُ عنهُمْ تلْبيسٌ. ولا يُخيَّبُ فيهِمْ مَظنونٌ. ولا يُطْوى دونَهُمْ مكْنونٌ. وسأبُثّكمْ ما حاكَ في صدْري. وأستَفْتيكُمْ في ما عيلَ فيهِ صبْري. اعْلَموا أني كُنتُ عندَ صُلودِ الزّنْدِ. وصُدودِ الجَدّ. أخْلَصْتُ معَ اللهِ نِيّةَ العقْدِ. وأعطَيتُهُ صَفقَةَ العهْدِ. على أنْ لا أسْبأ مُداماً. ولا أُعاقِرَ نَدامَي. ولا أحْتَسيَ قهوَةً. ولا أكْتَسيَ نشْوَةً. فسوّلَتْ ليَ النّفسُ المُضِلّةُ. والشّهوَةُ المُذلّةُ المُزِلةُ. أنْ نادَمْتُ الأبْطالَ. وعاطَيتُ الأرْطالَ. وأضَعْتُ الوَقارَ. وارتضَعْتُ العُقارَ. وامتطَيْتُ مَطا الكُمَيتِ. وتناسيْتُ التّوبَةَ تَناسيَ الميْتِ. ثمّ لمْ أقْنَعْ بهاتِيكُمُ المَرّةِ. في طاعَةِ أبي مُرّةَ. حتى عكفْتُ على الخَندَريسِ. في يومِ الخَميسِ. وبتُّ صَريعَ الصّهْباء. في اللّيلَةِ الغرّاء. وها أنا بادي الكآبَةِ. لرَفْضِ الإنابَةِ. نامي النّدامَةِ. لوصْلِ المُدامَةِ. شديدُ الإشْفاقِ. منْ نقْضِ الميثاقِ. مُعتَرِفٌ بالإسْرافِ. في عَبّ السُّلافِ:
فيَا قوْمِ هلْ كَفّارَةٌ تعْرِفونَـهـا

تُباعِدُ منْ ذَنْبي وتُدني الى ربّي
قال أبو زيد: فلمّا حلّ أُنشوطَةَ نفْثِهِ. وقَضى الوَطَرَ منِ اشتِكاء بثّهِ. ناجَتْني نفْسي يا أبا زيْدٍ. هذهِ نُهزَةُ صيْدٍ. فشمّرْ عن يدٍ وأيْدٍ. فانتهَضْتُ منْ مَجْثِمي انتِهاضَ الشّهْمِ. وانخرَطْتُ منَ الصّفّ انخِراطَ السّهْمِ. وقُلتُ:
أيهـا الأرْوَعُ الــذي

فاقَ مجْـداً وسـؤدُدا
والذي يبْتَغي الـرّشـا

دَ ليَنجـو بـهِ غَـدا
إنّ عندي عِـلاجَ مـا

بِتَّ منهُ مـسَـهَّـدا
فاستَمِعْهـا عـجـيبةً

غادرَتْنـي مُـلَـدَّدا
أنا منْ ساكِني سَـرو

جَ ذَوي الدّينِ والهُدى
كنتُ ذا ثـرْوَةٍ بـهـا

ومُطاعـاً مُـسَـوَّدا
مرْبَعي مألَفُ الضّـيو

فِ ومالي لهُمْ سُـدَى
أشتَري الحمْدَ باللُّهـى

وأقي العِرْضَ بالجَدا
لا أُبالي بـمُـنـفِـسٍ

طاحَ في البَذْلِ والنّدى
أوقِدُ النـارَ بـالـيَفـا

عِ إذا النِّكسُ أخْمَـدا
وبَراني المـؤمِّـلـو

نَ مَلاذاً ومَقْـصِـدا
لمْ يشِمْ بارِقـي صَـدٍ

فانْثَنى يشْتَكي الصّدَى
لا ولا رامَ قـابِــسٌ

قدْحَ زَندي فأصْـلَـدا
طالَما ساعَدَ الـزّمـا

نُ فأصْبَحْتُ مُسْعَـدا
فقَضى اللـهُ أنْ يُغـيّ

رَ مـا كـانَ عَـوّدا
بوّأ الـرّومَ أرْضَـنـا

بعْدَ ضِغْـنٍ تـولَّـدا
فاسْتباحوا حـريمَ مَـنْ

صادَفـوهُ مـوَحِّـدا
وحوَوْا كلَّ ما استـس

رّ بها لي ومـا بـدا
فتطوّحْتُ في الـبِـلا

دِ طَـريداً مُـشـرَّدا
أجْتَدي الناسَ بعْـدَمـا

كُنتُ من قَبْلُ مُجْتَدى
وتُرى بي خَصـاصَةٌ

أتَمنّى لـهـا الـرّدى
والـبَـلاءُ الـذي بـهِ

شمْلٌ أُنسـي تـبَـدّدا
إسْتِباءُ ابْنَتـي الـتـي

أسَروها لتُـفْـتَـدى
فاسْتَبِنْ مِحـنَـتـي وم

دّ الى نُصْـرَتـي يَدا
وأجِرْني منَ الـزّمـا

نِ فقدْ جارَ واعْتَـدى
وأعِنّي علـى فَـكـا

كِ ابْنَتي منْ يدِ العِدَى
فبِذا تَنْمَـحـي الـمـآ

ثِمُ عـمّـنْ تـمـرّدا
وبِـهِ تُـقـبَـلُ الإنـا

بَةُ مـمّـنْ تـزَهّـدا
وهْوَ كفّـارَةٌ لـمَـنْ

زاغَ منْ بعْدِ ما اهْتَدى
ولَئِنْ قُمتُ مُـنـشِـداً

فلقَدْ فُهْتُ مُـرشِـدا
فاقْبَلِ النُصْحَ والـهِـدا

يَةَ واشْكُرْ لمَنْ هَـدى
واسمَحِ الآنَ بـالّـذي

يتسنّى لـتُـحْـمَـدا
قال أبو زيدٍ: فلمّا أتْمَمْتُ هذْرَمَتي. وأُوهِمَ المسؤولُ صِدْقَ كلِمَتي. أغْراهُ القرَمُ الى الكرَمِ بمؤاساتي. ورغّبَهُ الكلَفُ بحمْلِ الكُلَفِ في مُقاساتي. فرضَخَ لي على الحافِرَةِ. ونضَخَ لي بالعِدَةِ الوافِرَةِ. فانقلَبْتُ الى وَكْري. فرِحاً بنُجْحِ مَكْري. وقد حصلْتُ منْ صوْغِ المَكيدةِ. على سوْغِ الثّريدَةِ. ووصلْتُ منْ حوْكِ القَصيدَةِ. الى لوْكِ العَصيدَةِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فقلتُ لهُ سُبحانَ منْ أبدعَكَ. فما أعْظمَ خُدَعَكَ. وأخْبَثَ بدَعَكَ! فاستَغْرَبَ في الضّحِك. ثمّ أنشدَ غيرَ مُرتَبِكٍ:
عِشْ بالخِداعِ فأنـتَ فـي

دهْرٍ بَنوهُ كأُسْدِ بِـيشَـهْ
وأدِرْ قَناةَ المَـكْـرِ حـت

ى تسْتَديرَ رَحى المَعيشَهْ
وصِدِ النّسورَ فإنْ تـعـذ

رَ صيدُها فاقْنَعْ بريشَـهْ
واجْنِ الثّمارَ فإنْ تـفُـتْ

كَ فرَضّ نفسَكَ بالحشيشَهْ
وأرِحْ فـؤادَكَ إنْ نَـبـا

دهْرٌ منَ الفِكَرِ المُطيشَهْ
فتـغـايُرُ الأحْــداثِ يؤ

ذِنُ باستِحالَةِ كُلّ عيشَـهْ
المقامة السّاسانيّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: بلَغني أنّ أبا زيدٍ حينَ ناهزَ القَبْضَةَ. وابتَزّهُ قيدُ الهرَمِ النّهْضَةَ. أحضرَ ابنَهُ. بعْدَما اسْتَجاشَ ذِهنَهُ. وقال لهُ: يا بُنيّ إنهُ قد دنَا ارتِحالي منَ الفِناء. واكتِحالي بمِروَدِ الفَناء. وأنتَ بحمْدِ اللهِ وليُّ عهْدي. وكبْشُ الكَتيبَةِ السّاسانيّة منْ بعْدي. ومثلُكَ لا تُقرَعُ لهُ العَصا. ولا يُنَبَّهُ بطَرْقِ الحصَى. ولكِنْ قد نُدِبَ الى الإذْكارِ. وجُعِلَ صيْقَلاً للأفكارِ. وإني أُوصيكَ بما لمْ يوصِ بهِ شيثٌ الأنْباطَ. ولا يعْقوبُ الأسْباطَ. فاحفَظْ وصيّتي. وجانِبْ معْصِيتي. واحْذُ مِثالي. وافْقَهْ أمْثالي. فإنّكَ إنِ استَرشدْتَ بنُصْحي. واستَصْبَحْتَ بصُبْحي. أمْرَعَ خانُكَ. وارتفَعَ دُخانُكَ. وإنْ تناسَيْتَ سُورَتي. ونبذْتَ مَشورَتي. قَلّ رمادُ أثافيكَ. وزَهِدَ أهلُكَ ورهْطُكَ فيكَ. يا بُنيّ إني جرّبْتُ حقائِقَ الأمورِ. وبلَوْتُ تصاريفَ الدّهورِ. فرأيْتُ المرْءَ بنَشَبِهِ. لا بنَسَبِهِ. والفحْصَ عن مكسَبِهِ. لا عنْ حسَبِهِ. وكُنتُ سمِعْتُ أنّ المَعايِشَ إمارَةٌ. وتجارَةٌ. وزِراعَةٌ. وصناعَةٌ. فمارَسْتُ هذِهِ الأرْبَعَ. لأنظُرَ أيّها أوفقُ وأنفَعُ. فما أحْمَدْتُ منها معيشَةً. ولا استرْغَدْتُ فيها عِيشَةً. أما فرَصُ الوِلاياتِ. وخُلَسُ الإماراتِ. فكأضْغاثِ الأحْلامِ. والفَيْءِ المُنتَسِخِ بالظّلامِ. وناهيكَ غُصّةً بمَرارَةِ الفِطامِ. وأما بضائِعُ التّجاراتِ. فعُرْضَةٌ للمُخاطَراتِ. وطُعمَةٌ للغاراتِ. وما أشبَهَها بالطّيورِ الطّيّاراتِ. وأما اتّخاذُ الضِّياعِ. والتّصدّي للازدِراعِ. فمنْهَكَةٌ للأعْراضِ. وقُيودٌ عائِقَةٌ عنِ الارْتِكاضِ. وقلّما خَلا ربُّها عنْ إذْلالٍ. أو رُزِقَ رَوْحُ بالٍ. وأما حِرَفُ أولي الصناعاتِ. فغيْرُ فاضِلَةٍ عنِ الأقْواتِ. ولا نافِقَةٍ في جَميعِ الأوْقاتِ. ومُعظَمُها معْصوبٌ بشَبيبَةِ الحَياةِ. ولمْ أرَ ما هوَ بارِدُ المَغنَمِ. لَذيذُ المطعَمِ. وافي المَكْسَبِ. صافي المَشرَبِ. إلا الحِرفَةَ التي وضعَ ساسنُ أساسَها. ونوّعَ أجْناسَها. وأضْرَمَ في الخافِقَيْنِ نارَها. وأوضَحَ لبَني غَبْراءَ مَنارَها. فشَهِدْتُ وقائِعَها مُعْلِماً. واخترْتُ سِيماها لي مِيسَماً. إذْ كانَتِ المَتْجَرَ الذي لا يَبورُ. والمنهَلَ الذي لا يغورُ. والمِصْباحَ الذي يعْشو إلَيْهِ الجُمهورُ. ويستصْبِحُ بهِ العُمْيُ والعورُ. وكانَ أهلُها أعَزّ قَبيلٍ. وأسعَدَ جيلٍ. لا يَرْهَقُهُمْ مسُّ حيْفٍ. ولا يُقلِقُهُمْ سَلُّ سيْفٍ. ولا يخْشَوْنَ حُمَةَ لاسِعٍ. ولا يَدينونُ لدانٍ ولا شاسِعٍ. ولا يرْهَبونَ ممّنْ برَقَ ورعَدَ. ولا يحفِلونَ بمَنْ قامَ وقعَدَ. أنديَتُهُمْ منزّهَةٌ. وقُلوبُهُمْ مرفّهَةٌ. وطُعَمُهُمْ مُعجَّلَةٌ. وأوقاتُهُمْ محَجّلَةٌ. أيْنما سقَطوا. لقَطوا. وحيثُما انخرَطوا. خرَطوا. لا يتّخذونَ أوْطاناً. ولا يتّقونَ سُلطاناً. ولا يمْتازونَ عمّا تغْدو خِماصاً. وتَروحُ بِطاناً. فقالَ لهُ ابنُهُ: يا أبَتِ لقدْ صدَقْتَ. في ما نطَقْتَ. ولكنّك رتَقْتَ. وما فتَقْتَ. فبيّنْ لي كيفَ أقتَطِفُ. ومنْ أينَ تؤكَلُ الكتِفُ? فقال: يا بُنيّ إنّ الارتِكاضَ بابُها. والنّشاطَ جِلبابُها. والفِطنَةَ مِصباحُها. والقِحَةَ سلاحُها. فكُنْ أجْوَلَ منْ قُطرُبٍ. وأسرى من جُندُبٍ. وأنشَطَ من ظَبْيٍ مُقمِرٍ. وأسلَطَ من ذِئْبٍ متنمِّرٍ. واقْدَحْ زَنْدَ جدّكَ بجِدّكَ. واقْرَعْ بابَ رعْيِكَ بسعْيِكَ. وجُبْ كُلّ فجّ. ولِجْ كلّ لُجّ. وانتَجِعْ كلّ روْض. وألْقِ دلْوَكَ الى كُلّ حوْضٍ. ولا تسْأمِ الطّلَبَ. ولا تمَلّ الدأَبَ. فقدْ كانَ مكتوباً على عَصا شيْخِنا ساسانَ: منْ طلبَ. جلبَ. ومنْ جالَ. نالَ. وإيّاكَ والكسلَ فإنهُ عُنوانُ النّحوسِ. ولَبوسُ ذَوي البوسِ. ومِفتاحُ المَترَبَةِ. ولِقاحُ المَتعَبَةِ. وشيمَةُ العجَزَةِ الجهَلَةِ. وشِنشِنَةُ الوُكَلَةِ التُّكَلَةِ. وما اشْتارَ العسَلَ. منِ اخْتارَ الكسلَ. ولا ملأ الرّاحةَ. منِ استوْطأ الرّاحةَ. وعليْكَ بالإقْدامِ. ولوْ على الضِّرْغامِ. فإنّ جَراءةَ الجَنانِ. تُنطِقُ اللّسانَ. وتُطلِقُ العِنانَ. وبها تُدرَكُ الحُظوَةُ. وتُملَكُ الثّروةُ. كما أنّ الخوَرَ صِنْوُ الكسَلِ. وسبَبُ الفشَلِ. ومَبْطأةٌ للعمَلِ. ومَخْيَبَةٌ للأمَلِ. ولهذا قيلَ في المثلِ: منْ جسَرَ. أيسَرَ. ومنْ هابَ. خابَ. ثمّ ابْرُزْ يا بُنيّ في بكورِ أبي زاجِرٍ. وجَراءةِ أبي الحارثِ. وحَزامَةِ أبي قُرّةَ. وختْلِ أبي جَعْدَةَ. وحِرْصِ أبي عُقبَةَ. ونشاطِ أبي وثّابٍ. ومكْرِ أبي الحُصَينِ. وصبْرِ أبي أيّوبَ. وتلَطّفِ أبي غزْوانَ. وتلوّنِ أبي بَراقِشَ. وحيلَةِ قَصيرٍ. ودَهاء عمْرٍو. ولُطفِ الشّعْبيّ. واحتِمالِ الأحنَفِ. وفِطنَةِ إياسٍ. ومَجانةِ أبي نُواسٍ. وطمَعِ أشعَبَ. وعارِضَةِ أبي العَياء. واخلُبْ بصوْغِ اللّسانِ. واخدعْ بسِحرِ البَيانِ. وارْتَدِ السوقَ قبلَ الجَلَبِ. وامتَرِ الضّرْعَ قبلَ الحلَبِ. وسائِلِ الرُكبانَ قبلَ المُنتجَعِ. ودمّثْ لجَنبِكَ قبلَ المُضطَجَعِ. واشحَذْ بصيرَتَكَ للعِيافَةِ. وأنعِمْ نظرَكَ للقِيافَةِ. فإنّ منْ صدَقَ توسّمُهُ. طالَ تبسّمُهُ. ومنْ أخطأتْ فِراسَتُهُ. أبطأتْ فَريسَتُهُ. وكُنْ يا بُنيّ خَفيفَ الكَلّ. قَليلَ الدّلّ. راغِباً عنِ العَلّ. قانِعاً منَ الوَبلِ بالطّلّ. وعظّمْ وقعَ الحَقيرِ. واشكُرْ على النّقيرِ. ولا تقنَطْ عندَ الرّدّ. ولا تستَبعِدْ رشْحَ الصّلْدِ. ولا تيْأسْ منْ رَوحِ اللهِ إنهُ لا ييْأسُ منْ رَوحِ اللِ إلا القوْمُ الكافِرونَ. وإذا خُيّرتَ بينَ ذَرّةٍ منْقودَةٍ. ودُرّةٍ موْعودَةٍ. فمِلْ الى لنّقْدِ. وفضّلِ اليومَ على الغدِ. فإنّ للتأخيرِ آفاتٍ. وللعَزائِمِ بدَواتٍ. وللعِداتِ مُعَقِّباتٍ. وبيْنَها وبينَ النّجازِ عقَباتٌ وأيّ عقَباتٍ. وعليْكَ بصَبْرِ أولي العزْمِ. ورِفْقِ ذَوي الحزْمِ. وجانِبْ خُرْقَ المُشتَطّ. وتخلّقْ بالخُلْقِ السّبْطِ. وقيّدِ الدّرْهَمَ بالرّبْطِ. وشُبِ البَذْلِ بالضّبْطِ. ولا تجْعَلْ يدَكَ مغْلولَةً الى عُنقِكَ ولا تَبسُطْها كلّ البسْطِ. ومتى نَبا بكَ بلَدٌ. أو نابَكَ فيهِ كمَدٌ. فبُتّ منهُ أملَكَ. واسْرَحْ منهُ جمَلَكَ. فخيْرُ البِلادِ ما جمّلَكَ. ولا تستَثْقِلَنّ الرّحلَةَ. ولا تكْرهَنّ النُقلَةَ. فإنّ أعْلامَ شَريعَتِنا. وأشياخَ عَشيرَتِنا. أجْمَعوا على أنّ الحركَةَ برَكةٌ. والطّراوَةَ سُفتَجَةٌ. وزَرَوْا على منْ زعَمَ أنّ الغُربَةَ. كُربَةٌ. والنُقلَةَ. مُثلَةٌ. وقالوا: هي تَعِلّةُ منِ اقتنَعَ بالرّذيلةِ. ورضِيَ بالحشَفِ وسوء الكِيلَةِ. وإذا أزْمَعْتَ على الاغْتِرابِ. وأعْدَدْتَ لهُ العَصا والجِرابَ. فتخيّرِ الرّفيقَ المُسعِدَ. منْ قبْلِ أن تُصعِدَ. فإنّ الجارَ. قبلَ الدّارِ. والرّفيقَ. قبلَ الطّريقِ:َبْطأةٌ للعمَلِ. ومَخْيَبَةٌ للأمَلِ. ولهذا قيلَ في المثلِ: منْ جسَرَ. أيسَرَ. ومنْ هابَ. خابَ. ثمّ ابْرُزْ يا بُنيّ في بكورِ أبي زاجِرٍ. وجَراءةِ أبي الحارثِ. وحَزامَةِ أبي قُرّةَ. وختْلِ أبي جَعْدَةَ. وحِرْصِ أبي عُقبَةَ. ونشاطِ أبي وثّابٍ. ومكْرِ أبي الحُصَينِ. وصبْرِ أبي أيّوبَ. وتلَطّفِ أبي غزْوانَ. وتلوّنِ أبي بَراقِشَ. وحيلَةِ قَصيرٍ. ودَهاء عمْرٍو. ولُطفِ الشّعْبيّ. واحتِمالِ الأحنَفِ. وفِطنَةِ إياسٍ. ومَجانةِ أبي نُواسٍ. وطمَعِ أشعَبَ. وعارِضَةِ أبي العَياء. واخلُبْ بصوْغِ اللّسانِ. واخدعْ بسِحرِ البَيانِ. وارْتَدِ السوقَ قبلَ الجَلَبِ. وامتَرِ الضّرْعَ قبلَ الحلَبِ. وسائِلِ الرُكبانَ قبلَ المُنتجَعِ. ودمّثْ لجَنبِكَ قبلَ المُضطَجَعِ. واشحَذْ بصيرَتَكَ للعِيافَةِ. وأنعِمْ نظرَكَ للقِيافَةِ. فإنّ منْ صدَقَ توسّمُهُ. طالَ تبسّمُهُ. ومنْ أخطأتْ فِراسَتُهُ. أبطأتْ فَريسَتُهُ. وكُنْ يا بُنيّ خَفيفَ الكَلّ. قَليلَ الدّلّ. راغِباً عنِ العَلّ. قانِعاً منَ الوَبلِ بالطّلّ. وعظّمْ وقعَ الحَقيرِ. واشكُرْ على النّقيرِ. ولا تقنَطْ عندَ الرّدّ. ولا تستَبعِدْ رشْحَ الصّلْدِ. ولا تيْأسْ منْ رَوحِ اللهِ إنهُ لا ييْأسُ منْ رَوحِ اللِ إلا القوْمُ الكافِرونَ. وإذا خُيّرتَ بينَ ذَرّةٍ منْقودَةٍ. ودُرّةٍ موْعودَةٍ. فمِلْ الى لنّقْدِ. وفضّلِ اليومَ على الغدِ. فإنّ للتأخيرِ آفاتٍ. وللعَزائِمِ بدَواتٍ. وللعِداتِ مُعَقِّباتٍ. وبيْنَها وبينَ النّجازِ عقَباتٌ وأيّ عقَباتٍ. وعليْكَ بصَبْرِ أولي العزْمِ. ورِفْقِ ذَوي الحزْمِ. وجانِبْ خُرْقَ المُشتَطّ. وتخلّقْ بالخُلْقِ السّبْطِ. وقيّدِ الدّرْهَمَ بالرّبْطِ. وشُبِ البَذْلِ بالضّبْطِ. ولا تجْعَلْ يدَكَ مغْلولَةً الى عُنقِكَ ولا تَبسُطْها كلّ البسْطِ. ومتى نَبا بكَ بلَدٌ. أو نابَكَ فيهِ كمَدٌ. فبُتّ منهُ أملَكَ. واسْرَحْ منهُ جمَلَكَ. فخيْرُ البِلادِ ما جمّلَكَ. ولا تستَثْقِلَنّ الرّحلَةَ. ولا تكْرهَنّ النُقلَةَ. فإنّ أعْلامَ شَريعَتِنا. وأشياخَ عَشيرَتِنا. أجْمَعوا على أنّ الحركَةَ برَكةٌ. والطّراوَةَ سُفتَجَةٌ. وزَرَوْا على منْ زعَمَ أنّ الغُربَةَ. كُربَةٌ. والنُقلَةَ. مُثلَةٌ. وقالوا: هي تَعِلّةُ منِ اقتنَعَ بالرّذيلةِ. ورضِيَ بالحشَفِ وسوء الكِيلَةِ. وإذا أزْمَعْتَ على الاغْتِرابِ. وأعْدَدْتَ لهُ العَصا والجِرابَ. فتخيّرِ الرّفيقَ المُسعِدَ. منْ قبْلِ أن تُصعِدَ. فإنّ الجارَ. قبلَ الدّارِ. والرّفيقَ. قبلَ الطّريقِ:
خُذْهـا إلـيْكَ وصـيّةً

لمْ يوصِها قبْلـي أحَـدْ
غَرّاءَ حـاويَةً خُـــلا

صاتِ المَعاني والزُّبَـدْ
نقّحْتُها تـنْـقـيحَ مـنْ

مَحَضَ النّصيحةَ واجتَهدْ
فاعْمَلْ بما مـثّـلْـتُـهُ

عمَلَ اللّبيبِ أخي الرَّشَدْ
حتى يقـولَ الـنـاسُ ه

ذا الشّبلُ منْ ذاكَ الأسَدْ
ثمّ قال: يا بُنيّ قد أوْصيتُ. واستقْصَيْتُ. فإنِ اقتَدَيْتَ فوَاهاً لكَ. وإنِ اعتَديْتَ فآهاً منكَ! واللهُ خَليفَتي عليْ:َ. وأرْجو أنْ لا تُخْلِفَ ظنّي فيكَ. فقالَ لهُ ابنُهُ: يا أبَتِ لا وُضِعَ عرْشُكَ. ولا رُفِعَ نعْشُكَ. فلقَدْ قلتَ سَدَداً. وعلّمْتَ رشَداً. ونحَلْتَ ما لمْ ينْحَلْ والِدٌ ولَداً. ولَئِنْ أُمْهِلْتُ بعْدَكَ. لا ذُقْتُ فقْدَكَ. فلأتأدّبَنّ بآدابِكَ الصالِحةِ. ولأقْتَدِيَنّ بآثارِكَ الواضِحَةِ. حتى يُقال: ما أشْبَهَ الليلةَ بالبارِحَةِ. والغادِيةَ بالرّائِحَةِ. فاهْتزّ أبو زيْدٍ لجَوابِهِ وابتسَمَ. وقال: منْ أشبَهَ أباهُ فَما ظلَمَ. قالَ الحارثُ بنُ همّامٍ: فأُخبِرْتُ أنّ بَني ساسانَ. حينَ سَمِعوا هَذي الوَصايا الحِسانَ. فضّلوها على وَصايا لُقْمانَ. وحفِظوها كما تُحفَظُ أمّ القُرْآنِ. حتى إنّهُمْ لَيَروْنَها الى الآنَ. أوْلى ما لقّنوهُ الصّبيانَ. وأنفَعَ لهُمْ منْ نِحلَةِ العِقيانِ.
المقامة البَصْريّة
حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أُشعِرْتُ في بعضِ الأيامِ همّاً برَحَ بي استِعارُهُ. ولاحَ عليّ شِعارُهُ. وكنتُ سمِعتُ أنّ غِشْيانَ مجالِسِ الذّكْرِ. يسْرو غَواشيَ الفِكْرِ. فلمْ أرَ لإطْفاء ما بي منَ الجمْرَةِ. إلا قصْدَ الجامِعِ بالبَصرَةِ. وكانَ إذْ ذاكَ مأهولَ المسانِدِ. مَشْفوهَ المَوارِدِ. يُجْتَنى منْ رِياضِهِ أزاهيرُ الكَلامِ. ويُسمَعُ في أرْجائِهِ صَريرُ الأقْلامِ. فانطلَقْتُ إليْهِ غيرَ وانٍ. ولا لاوٍ على شانٍ. فلمّا وطِئْتُ حَصاهُ. واستَشْرَفْتُ أقْصاهُ. تَراءى لي ذو أطْمارٍ بالِيَةٍ. فوْقَ صخْرَةٍ عالِيَةٍ. وقدْ عصيَتْ بهِ عُصَبٌ لا يُحْصى عديدُهُمْ. ولا يُنادَى وَليدُهُمْ. فابتَدْتُ قصْدَهُ. وتورّدْتُ وِرْدَهُ. ورجَوْتُ أنْ أجِدَ شِفائي عندَهُ. ولمْ أزَلْ أتنقّلُ في المَراكِزِ. وأُغْضي للاّكِزِ والواكِزِ. الى أن جلسْتُ تُجاهَهُ. بحيْثُ أمِنْتُ اشْتِباهَهُ. فإذا هوَ شيخُنا السّروجيّ لا ريْبَ فيهِ. ولا لَبْسَ يُخْفيهِ. فانْسَرى بمَرْآهُ همّي. وارْفَضّتْ كتيبَةُ غمّي. وحينَ رآني. وبصُرَ بمكاني. قال: يا أهْلَ البصرَةِ رعاكُمُ اللهُ ووقاكُمْ. وقوّى تُقاكُمْ. فما أضْوَعَ ريّاكُمْ. وأفضلَ مَزاياكُمْ! بلَدُكُمْ أوْفَى البِلادِ طُهرَةً. وأزْكاها فِطرَةً. وأفسَحُه رُقعَةً. وأمرَعُها نُجعَةً. وأقوَمُها قِبلَةً. وأوسَعُها دِجلَةً. وأكثرُها نهْراً ونَخلَةً. وأحسَنُها تَفْصيلاً وجُملَةً. دِهْليزُ البلَدِ الحَرامِ. وقُبالَةُ البابِ والمَقامِ. وأحدُ جَناحَيِ الدّنْيا. والمِصْرُ المؤسّسُ على التّقْوى. لمْ يتدنّسْ ببُيوتِ النّيرانِ. ولا طِيفَ فيهِ بالأوْثانِ. ولا سُجِدَ على أديمِهِ لغَيرِ الرّحْمَنِ. ذو المَشاهِدِ المشْهودَةِ. والمساجِدِ المقصودَةِ. والمَعالِمِ المشْهورَةِ. والمقابِرِ المَزورَةِ. والآثارِ المحْمودَةِ. والخِطَطِ المحْدودَةِ. بهِ تلْتَقي الفُلْكُ والرّكابُ. والحيتانُ والضِّبابُ. والحادِي والمَلاّحُ. والقانصُ والفلاحُ. والناشِبُ والرّامِحُ. والسّارِحُ والسّابِحُ. ولهُ آيةُ المدّ الفائِضِ. والجزْرِ الغائِضِ. وأما أنتمْ فممّنْ لا يختلِفُ في خَصائِصِهِمِ اثْنانِ. ولا يُنكِرُها ذو شَنآنٍ. دَهْماؤكُمْ أطْوَعُ رَعِيّةٍ لسُلْطانٍ. وأشكَرُهُمْ لإحْسانٍ. وزاهِدكُمْ أوْرَعُ الخليقَةِ. وأحسنُهُمْ طَريقَةً على الحَقيقَةِ. وعالِمُكُمْ علاّمَةُ كلّ زمانٍ. والحُجّةُ البالِغَةُ في كلّ أوانٍ. ومنكُمْ منِ استنبَطَ عِلمَ النّحْوِ ووضَعَهُ. والذي ابتدَعَ ميزانَ الشِّعْرِ واخترَعَهُ. وما منْ فخْرٍ إلا ولَكُمْ فيهِ اليَدُ الطّولى. والقِدْحُ المُعَلّى. ولا صيتٍ إلا وأنتُمْ أحَقُّ بهِ وأوْلى. ثمّ إنّكُمْ أكثرُ أهلِ مِصرٍ مؤذّنينَ. وأحسَنُهُمْ في النّسكِ قَوانينَ. وبكُمُ اقتُدِيَ في التّعريفِ. وعُرِفَ التّسحيرُ في الشّهرِ الشّريفِ. ولكُمْ إذا قرّتِ المضاجِعُ. وهجَعَ الهاجِعُ. تَذْكارٌ يوقِظُ النّائِمَ. ويؤنِسُ القائِمَ. وما ابتسَمَ ثغْرُ فجرٍ. ولا بزَغَ نورُهُ في برْدٍ ولا حرٍّ. إلا ولتأذينِكُمْ بالأسْحارِ. دويٌّ كدويّ الرّيحِ في البِحارِ. وبِهذا صدَعَ عنكُمُ النّقْلُ. وأخبرَ النّبيُّ، عليهِ السّلامُ، منْ قبلُ. وبيّنَ أنّ دويّكُمْ بالأسْحارِ. كدويّ النّحلِ في القِفارِ. فشرَفاً لكُمْ ببِشارَةِ المُصطَفى. وواهاً لمِصرِكُمْ وإنْ كانَ قدْ عَفا. ولمْ يبْقَ منهُ إلا شَفاً. ثمّ إنهُ خزَنَ لسانَهُ. وخطَمَ بيانَهُ. حتى حُدِجَ بالأبْصارِ. وقُرِفَ بالإقْصارِ. ووُسِمَ بالاستِقْصارِ. فتنفّسَ تنفُّسَ مَنْ قِيدَ لقَوَدٍ. أو ضبَثَتْ بهِ براثِنُ أسَدٍ. ثمّ قال: أما أنتُمْ يا أهلَ البَصرَةِ فما منْكُمْ إلا العَلَمُ المعروفُ. ومنْ لهُ المعرفَةُ والمعروفُ. وأما أنا فمَنْ عرَفَني فأنا ذاكَ. وشرُّ المَعارِفِ منْ آذاكَ. ومنْ لم يُثْبِتْ عِرْفَتي فسأصْدُقُهُ صِفَتي. أنا الذي أنجدَ وأتهَمَ. وأيمَنَ وأشأمَ. وأصْحرَ وأبحَرَ. وأدْلَجَ وأسْحَرَ. نشأتُ بسَروجَ. ورَبيتُ على السُّروجِ. ثمّ ولَجْتُ المَضايقَ. وفتحْتُ المغالِقَ. وشهِدْتُ المَعارِكَ. وألَنْتُ العَرائِكَ. واقْتَدْتُ الشّوامِسَ. وأرْغَمْتُ المَعاطِسَ. وأذَبْتُ الجَوامِدَ. وأمَعْتُ الجَلامِدَ. سَلوا عني المشارِقَ والمَغارِبَ. والمَناسِمَ والغَوارِبَ. والمَحافِلَ والجَحافِلَ. والقَبائِلَ والقَنابِلَ. واستَوْضِحوني منْ نقَلَةِ الأخْبارِ. ورُواةِ الأسْمارِ. وحُداةِ الرُكْبانِ. وحُذّاقِ الكُهّانِ. لتَعْلَموا كمْ فجٍّ سلَكْتُ. وحِجابٍ هتكْتُ. ومَهلَكةٍ اقتَحمْتُ. ومَلحَمَةٍ ألْحَمْتُ. وكمْ ألْبابٍ خدَعْتُ. وبِدَعٍ ابتَدَعْتُ. وفُرَصٍ اختلَسْتُ. وأُسُدٍ افترَسْتُ. وكمْ محلِّقٍ غادَرْتُهُ لَقًى. وكامِنٍ استَخرَجْتُهُ بالرُّقى. وحجَرٍ شحذْتُهُ حتى انصدَعَ. واستَنْبَطْتُ زُلالَهُ بالخُدَعِ. ولكِنْ فرَطَ ما فرَطَ والغُصْنُ رَطيبٌ. والفَوْدُ غِرْبيبٌ. وبُرْدُ الشّبابِ قَشيبٌ. فأمّا الآنَ وقدِ استشَنّ الأديمُ. وتأوّدَ القَويمُ. واستَنارَ اللّيلُ البَهيمُ. فليْسَ إلا النّدَمُ إنْ نفَعَ. وترْقيعُ الخَرْقِ الذي قدِ اتّسَعَ. وكُنتُ رُوّيتُ منَ الأخْبارِ المُسنَدَةِ. والآثارِ المُعتَمَدةِ. أن لكُمْ منَ اللهِ تعالى في كلّ يومٍ نَظرَةً. وأنّ سِلاحَ الناسِ كلّهِمِ الحَديدُ. وسِلاحَكُمُ الأدْعِيَةُ والتّوْحيدُ. فقصَدْتُكُمْ أُنْضي الرّواحِلَ. وأطْوي المَراحِلَ. حتى قُمْتُ هذا المَقامَ لَديْكُمْ. ولا مَنّ لي عليكُمْ. إذْ ما سعَيْتُ إلا في حاجَتي. ولا تعِبْتُ إلا لراحَتي. ولسْتُ أبْغي أعطِيَتَكُمْ. بل أستَدْعي أدعِيتَكُمْ. ولا أسْألُكُمْ أموالَكُمْ. بل أستنزِلُ سُؤالَكُمْ. فادْعوا الى اللهِ بتوْفيقي للمَتابِ. والإعْدادِ للمآبِ. فإنهُ رفيعُ الدّرَجاتِ. مُجيبُ الدّعَواتِ. وهوَ الذي يقبلُ التّوبَةَ عنْ عِبادِهِ ويعْفو عنِ السّيّئاتِ. ثمّ أنشدَ:بَ. والمَناسِمَ والغَوارِبَ. والمَحافِلَ والجَحافِلَ. والقَبائِلَ والقَنابِلَ. واستَوْضِحوني منْ نقَلَةِ الأخْبارِ. ورُواةِ الأسْمارِ. وحُداةِ الرُكْبانِ. وحُذّاقِ الكُهّانِ. لتَعْلَموا كمْ فجٍّ سلَكْتُ. وحِجابٍ هتكْتُ. ومَهلَكةٍ اقتَحمْتُ. ومَلحَمَةٍ ألْحَمْتُ. وكمْ ألْبابٍ خدَعْتُ. وبِدَعٍ ابتَدَعْتُ. وفُرَصٍ اختلَسْتُ. وأُسُدٍ افترَسْتُ. وكمْ محلِّقٍ غادَرْتُهُ لَقًى. وكامِنٍ استَخرَجْتُهُ بالرُّقى. وحجَرٍ شحذْتُهُ حتى انصدَعَ. واستَنْبَطْتُ زُلالَهُ بالخُدَعِ. ولكِنْ فرَطَ ما فرَطَ والغُصْنُ رَطيبٌ. والفَوْدُ غِرْبيبٌ. وبُرْدُ الشّبابِ قَشيبٌ. فأمّا الآنَ وقدِ استشَنّ الأديمُ. وتأوّدَ القَويمُ. واستَنارَ اللّيلُ البَهيمُ. فليْسَ إلا النّدَمُ إنْ نفَعَ. وترْقيعُ الخَرْقِ الذي قدِ اتّسَعَ. وكُنتُ رُوّيتُ منَ الأخْبارِ المُسنَدَةِ. والآثارِ المُعتَمَدةِ. أن لكُمْ منَ اللهِ تعالى في كلّ يومٍ نَظرَةً. وأنّ سِلاحَ الناسِ كلّهِمِ الحَديدُ. وسِلاحَكُمُ الأدْعِيَةُ والتّوْحيدُ. فقصَدْتُكُمْ أُنْضي الرّواحِلَ. وأطْوي المَراحِلَ. حتى قُمْتُ هذا المَقامَ لَديْكُمْ. ولا مَنّ لي عليكُمْ. إذْ ما سعَيْتُ إلا في حاجَتي. ولا تعِبْتُ إلا لراحَتي. ولسْتُ أبْغي أعطِيَتَكُمْ. بل أستَدْعي أدعِيتَكُمْ. ولا أسْألُكُمْ أموالَكُمْ. بل أستنزِلُ سُؤالَكُمْ. فادْعوا الى اللهِ بتوْفيقي للمَتابِ. والإعْدادِ للمآبِ. فإنهُ رفيعُ الدّرَجاتِ. مُجيبُ الدّعَواتِ. وهوَ الذي يقبلُ التّوبَةَ عنْ عِبادِهِ ويعْفو عنِ السّيّئاتِ. ثمّ أنشدَ:
أستغْفِرُ الـلـهَ مـنْ ذُنـوبٍ

أفرَطْتُ فيهِـنّ واعْـتَـدَيْتُ
كمْ خُضْتُ بحْرَ الضّلالِ جهْلاً

ورُحتُ في الغَيّ واغْتَـدَيْتُ
وكمْ أطَعْتُ الهَوى اغْتِـراراً

واختَلْتُ واغْتَلْتُ وافْتـرَيْتُ
وكمْ خلَعْتُ العِذارَ ركْـضـاً

الى المَعاصي ومـا ونَـيْتُ
وكمْ تَناهَيْتُ في التّخـطّـي

الى الخَطايا وما انتـهـيْتُ
فلَيتَني كُـنـتُ قـبـل هـذا

نَسْياً ولمْ أجْنِ مـا جـنَـيْتُ
فالمَوتُ للُـجْـرِمـين خـيرٌ

من المَساعي التي سـعَـيْتُ
يا رَبِّ عفْواً فـأنْـتَ أهـلٌ

للعَفْوِ عنّي وإنْ عـصَـيْتُ
قال الرّاوي: فطفِقَتِ الجَماعَةُ تُمِدّهُ بالدّعاء. وهوَ يقلّبُ وجْهَهُ في السّماء. الى أن دمَعَتْ أجفانُهُ. وبَدا رَجفانُهُ. فصاحَ: اللهُ أكبرُ بانَتْ أمارَةُ الاستِجابَةِ. وانْجابَتْ غِشاوَةُ الاستِرابَةِ. فجُزيتُمْ يا أهلَ البُصَيْرَةِ. جَزاءَ منْ هدَى منَ الحَيرَةِ. فلمْ يبْقَ منَ القوْمِ إلا منْ سُرّ لسُرورِهِ. ورضخَ لهُ بمَيْسورِهِ. فقَبِلَ عفْوَ بِرّهِمْ. وأقبلَ يُغْرِقُ في شُكرِهِمْ. ثمّ انحدَرَ منَ الصّخرَةِ. يؤمّ شاطئَ البَصرَةِ. واعْتَقَبْتُهُ الى حيثُ تخالَيْنا. وأمِنّا التّجسّسَ والتّحسّسَ علَيْنا. فقلْتُ لهُ: لقدْ أغْرَبْتَ في هذِهِ النّوبَةِ. فما رأيُكَ في التّوبَةِ? فقال: أُقسِمُ بعَلاّمِ الخَفيّاتِ. وغَفّارِ الخطيّاتِ. إنّ شأني لَعُجابٌ. وإنّ دُعاء قومِكَ لَمُجابٌ. فقلتُ: زِدْني إفْصاحاً. زادَكَ اللهُ صَلاحاً! فقال: وأبيكَ لقدْ قُمتُ فيهِمْ مَقامَ المُريبِ الخادِعِ. ثمّ انقلَبْتُ منهُمْ بقَلْبِ المُنيبِ الخاشِعِ! فطوبى لمَنْ صغَتْ قُلوبُهُمْ إليْهِ. وويْلٌ لمَنْ باتوا يدْعونَ عليْهِ! ثمّ ودّعَني وانطلَقَ. وأوْدَعَني القلَقَ. فلمْ أزَلْ أُعاني لأجْلِهِ الفِكَرَ. وأتشوّفُ الى خِبرَةِ ما ذكرَ. وكلّما استَنشَيْتُ خبرَهُ منَ الرُّكْبانِ. وجَوّابَةِ البُلْدانِ. كُنتُ كمَنْ حاوَرَ عجْماء. أو نادَى صخْرَةً صمّاء. الى أن لَقيتُ بعْدَ تَراخي الأمَدِ. وتَراقي الكَمَدِ. ركْباً قافِلينَ منْ سفَرٍ. فقلتُ: هلْ منْ مُغرِّبَةِ خبَرٍ? فقالوا: إنّ عندَنا لخَبراً أغرَبَ منَ العَنْقاء. وأعْجَبَ منْ نظَرِ الزّرْقاء. فسألتُهُمْ إيضاحَ ما قالوا. وأنْ يَكيلوا بما اكْتالوا. فحَكَوْا أنهمْ ألمّوا بسَروجَ. بعْدَ أنْ فارقَها العُلوجُ. فرأوْا أبا زيْدِها المعْروفَ. قد لبِسَ الصّوفَ. وأَمَّ الصّفوفَ. وصارَ بها الزّاهِدُ الموصوفَ. فقلتُ: أتعْنونَ ذا المَقاماتِ? فقالوا: إنهُ الآنَ ذو الكَراماتِ! فحفَزَني إليْهِ النّزاعُ. ورأيتُها فُرصَةً لا تُضاعُ. فارْتَحلْتُ رِحلَةَ المُعِدّ. وسِرْتُ نحوَهُ سيرَ المُجِدّ. حتى حللْتُ بمسْجِدِهِ. وقرارَةِ متعبّدِهِ. فإذا هوَ قد نبَذَ صُحبَةَ أصْحابِهِ. وانتصَبَ في مِحْرابِهِ. وهو ذو عَباءةٍ مخلولَةٍ. وشمْلَةٍ موصولَةٍ. فهِبْتُهُ مَهابَةَ منْ ولَجَ على الأسودِ. وألْفَيْتُهُ ممّنْ سِيماهُمْ في وُجوهِهِمْ منْ أثَرِ السّجودِ. ولمّا فرَغَ منْ سُبْحتِهِ. حيّاني بمُسبِّحَتِهِ. منْ غيرِ أن نغَمَ بحديثٍ. ولا استَخْبرَ عنْ قديمٍ ولا حَديثٍ. ثمّ أقْبلَ على أوْرادِهِ. وتركَني أعجَبُ منِ اجتِهادِهِ. وأغبِطُ مَنْ يَهدي اللهُ منْ عِبادِهِ. ولمْ يزَلْ في قُنوتٍ وخُشوعٍ. وسُجودٍ ورُكوعٍ. وإخْباتٍ وخُضوعٍ. الى أن أكْملَ إقامَة الخمْسِ. وصارَ اليومُ أمْسِ. فحينئذٍ انْكفأ بي الى بيتِهِ. وأسْهَمَني في قُرْصِهِ وزَيْتِهِ. ثمّ نهضَ الى مُصلاّهُ. وتخلّى بمُناجاةِ موْلاهُ. حتى إذا التمَعَ الفجرُ. وحقّ للمُتهَجِّدِ الأجْرُ. عقّبَ تهجّدَهُ بالتّسْبيحِ. ثمّ اضطَجَعَ ضِجْعَةَ المُستريحِ. وجعلَ يرجّعُ بصوْتٍ فَصيحٍ:
خلِّ ادّكـارَ الأرْبُــعِ

والمعْهَدِ المُـرتَـبَـعِ
والظّاعِـنِ الـمـودِّعِ

وعـدِّ عـنْــهُ ودَعِ
وانْدُبْ زَماناً سـلَـفـا

سوّدْتَ فيهِ الصُّحُفـا
ولمْ تزَلْ مُعـتـكِـفـا

على القبيحِ الشّـنِـعِ
كمْ لـيلَةٍ أودَعْـتَـهـا

مآثِمـاً أبْـدَعْـتَـهـا
لشَهوَةٍ أطَـعْـتَـهـا

في مرْقَدٍ ومَضْجَـعِ
وكمْ خُطًى حثَثْـتَـهـا

في خِزْيَةٍ أحْدَثْتَـهـا
وتوْبَةٍ نـكَـثْـتَـهـا

لمَلْـعَـبٍ ومـرْتَـعِ
وكمْ تجـرّأتَ عـلـى

ربّ السّمَواتِ العُلـى
ولـمْ تُـراقِـبْـهُ ولا

صدَقْتَ في ما تدّعـي
وكمْ غمَـصْـتَ بِـرّهُ

وكمْ أمِنْـتَ مـكْـرَهُ
وكـمْ نـبَـذْتَ أمـرَهُ

نبْذَ الحِذا الـمـرقَّـعِ
وكمْ ركَضْتَ في اللّعِبْ

وفُهْتَ عمْداً بالكَـذِبْ
ولـمْ تُـراعِ مـا يجِـبْ

منْ عهْدِهِ الـمـتّـبَـعِ
فالْبَسْ شِـعـارَ الـنّـدمِ

واسكُبْ شـآبـيبَ الـدّمِ
قبـلَ زَوالِ الـقـــدَمِ

وقبلَ سوء المـصْـرَعِ
واخضَعْ خُضوعَ المُعترِفْ

ولُذْ مَلاذَ المُـقـتـرِفْ
واعْصِ هَواكَ وانحَـرِفْ

عنْهُ انحِرافَ المُقـلِـعِ
إلامَ تـسْـهـو وتَـنـي

ومُعظَمُ العُمـرِ فَـنـي
في ما يضُرّ المُقْـتَـنـي

ولسْـتَ بـالـمُـرْتَـدِعِ
أمَا ترَى الشّـيبَ وخَـطْ

وخَطّ في الرّأسِ خِطَـطْ
ومنْ يلُحْ وخْطُ الشّـمَـطْ

بفَـودِهِ فـقـدْ نُـعـي
ويْحَكِ يا نفسِ احْرِصـي

على ارْتِيادِ المَخـلَـصِ
وطاوِعي وأخْـلِـصـي

واسْتَمِعي النُّصْحَ وعـي
واعتَبِرِي بمَـنْ مـضـى

من القُرونِ وانْقَـضـى
واخْشَيْ مُفاجاةَ القَـضـا

وحاذِري أنْ تُخْـدَعـي
وانتَهِجي سُبْـلَ الـهُـدى

وادّكِري وشْـكَ الـرّدى
وأنّ مـثْـواكِ غـــدا

في قعْرِ لحْـدٍ بـلْـقَـعِ
آهاً لـهُ بـيْتِ الـبِـلَـى

والمنزِلِ القفْرِ الـخَـلا
وموْرِدِ السّـفْـرِ الأُلـى

واللاّحِـقِ الـمُـتّـبِـعِ
بيْتٌ يُرَى مَـنْ أُودِعَــهْ

قد ضمّهُ واسْـتُـودِعَـهْ
بعْدَ الفَضاء والـسّـعَـهْ

قِيدَ ثَـــــلاثِ أذْرُعِ
لا فـرْقَ أنْ يحُـلّـــهُ

داهِـيَةٌ أو أبْــلَـــهُ
أو مُعْسِـرٌ أو مـنْ لـهُ

مُلكٌ كـمُـلْـكِ تُـبّـعِ
وبعْدَهُ الـعَـرْضُ الـذي

يحْوي الحَييَّ والـبَـذي
والمُبتَدي والمُـحـتَـذي

ومَنْ رعى ومنْ رُعـي
فَيا مَفـازَ الـمـتّـقـي

ورِبْحَ عبْـدٍ قـد وُقِـي
سوءَ الحِسابِ المـوبِـقِ

وهـوْلَ يومِ الـفــزَعِ
ويا خَسـارَ مَـنْ بـغَـى

ومنْ تعـدّى وطَـغـى
وشَبّ نـيرانَ الـوَغـى

لمَطْعَـمٍ أو مـطْـمَـعِ
يا مَنْ عليْهِ الـمـتّـكَـلْ

قدْ زادَ ما بي منْ وجَـلْ
لِما اجتَرَحْتُ مـن زلَـلْ

في عُمْري الـمُـضَـيَّعِ
فاغْفِرْ لعَبْـدٍ مُـجـتَـرِمْ

وارْحَمْ بُكاهُ المُنسـجِـمْ
فأنتَ أوْلـى مـنْ رَحِـمْ

وخـيْرُ مَـدْعُـوٍّ دُعِـي
قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ يزَلْ يرَدّدُها بصوتٍ رقيقٍ. ويصِلُها بزَفيرٍ وشَهيقٍ. حتى بكيتُ لبُكاء عينيهِ. كَما كُنتُ منْ قبلُ أبكي عليْهِ. ثمّ برزَ الى مسجِدِهِ. بوُضوء تهجّدِهِ. فانطلَقْتُ رِدْفَهُ. وصلّيتُ مع مَنْ صلّى خلفهُ. ولمّا انفَضّ مَنْ حضَرَ. وتفرّقوا شغَرَ بغَرَ. أخذَ يُهَينِمُ بدَرْسِهِ. ويسْبِكُ يومَهُ في قالِبِ أمْسِهِ. وفي ضِمْنِ ذلِكَ يُرِنّ إرْنانَ الرَّقوبِ. ويبْكي ولا بُكاءَ يعْقوبَ. حتى استَبَنْتُ أنهُ التحقَ بالأفْرادِ. وأُشرِبَ قلبُهُ هوى الانْفِرادِ. فأخطَرْتُ بقَلْبي عَزْمَةَ الارتِحالِ. وتخْلِيَتَهُ والتّخلّي بتِلكَ الحالِ. فكأنهُ تفرّسَ ما نويْتُ. أو كوشِفَ بما أخْفَيْتُ. فزفَرَ زَفيرَ الأوّاهِ. ثمّ قرأ: فإذا عزَمْتَ فتوكّلْ على اللهِ. فأسْجَلْتُ عندَ ذلِكَ بصِدْقِ المُحدّثينَ. وأيقَنْتُ أنّ في الأمّةِ محَدّثينَ. ثمّ دنَوْتُ إليْهِ كما يدْنو المُصافِحُ. وقلتُ: أوْصِني أيها العبْدُ النّاصِحُ. فقال: اجعَلِ الموتَ نُصْبَ عينِكَ. وهذا فِراقُ بيني وبينِكَ. فودّعْتُهُ وعبَراتي يتحدّرْنَ منَ المآقي. وزَفَراتي يتصَعّدْنَ منَ التّراقي. وكانتْ هذِهِ خاتِمَةَ التّلاقي.
خاتمة
قال الشيخُ الرّئيسُ أبو محمّدٍ القاسِمُ بنُ عليّ برّدَ اللهُ مَضْجَعَهُ: هذا آخِرُ المَقاماتِ التي أنشأتُها بالاغْتِرارِ. وأملَيْتُها بلِسانِ الاضْطِرارِ. وقدْ أُلجِئْتُ الى أن أرصَدْتُها للاستِعْراضِ. ونادَيْتُ عليْها في سوقِ الاعْتِراضِ. هذا معَ معرِفَتي بأنها منْ سقَطِ المَتاعِ. وممّا يستَوجِبُ أنْ يُباعَ ولا يُبْتاعَ. ولوْ غشِيَني نورُ التّوفيقِ. ونظرْتُ لنفْسي نظرَ الشّفيقِ. لسَترْتُ عَواري الذي لمْ يزَلْ مسْتوراً. ولكِنْ كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مسْطوراً. وأنا أسَغْفِرُ اللهَ تعالَى ممّا أودَعْتُها منْ أباطيلِ اللّغْوِ. وأضاليلِ اللّهْوِ. وأسترْشِدُهُ الى ما يعْصِمُ منَ السّهْوِ. ويُحْظي بالعَفْوِ. إنهُ هوَ أهلُ التّقْوى وأهلُ المَغفِرَةِ. ووليُّ الخيْراتِ في الدُنْيا والآخِرَةِ.

No comments: