Saturday, May 26, 2007

فولوديا الكبير وفولوديا الصغير - تشكوف

ـــ أريد أن أقود بنفسي، أرجوك اسمح لي، سأجلس بقرب الحوذي ـــ قالت صوفيا لفوفنا بصوت عالٍ.‏
ـــ انتظر لحظة أيها الحوذي، سأجلس بجانبك في المقعد.‏
كانت تقف في العربة، بينما كان زوجها فلاديمير نيكيتش، وصديق طفولتها فلاديمير ميخايليتش يمسكان بها من ذراعيها كي لا تقع. انطلقت الترويكا(1) مسرعة.‏
ـــ قلت لك ألا تعطيها الكونياك.‏
همس فلاديمير نيكيتش لرفيقه بانزعاج.‏
كان الكولونيل يعرف من تجربة سابقة أن حالة الابتهاج الصاخب أو بالأحرى الثمل بالنسبة لامرأة مثل زوجته صوفيا لفوفنا عادة ما يعقبها ضحك هستيري ومن ثم بكاء. وقد كان قلقاً الآن لأنه حال وصولهم إلى البيت سيتوجب عليه الانشغال بالكمادات وجرعات الدواء بدلاً من الذهاب إلى السرير.‏
ـــ هِشْ! ـــ صرخت صوفيا لفوفنا ـــ أريد أن أقود.‏
كانت فرحة ومسرورة حقاً، فطوال شهرين، ومنذ يوم زفافها بالذات، كان يعذبها التفكير بأنها تزوجت الكولونيل لمصلحة، أو كما يقال (Par depit (2. واليوم على أية حالة، أدركت أخيراً في مطعم خارج البلدة أنها تحبّه بشغف.‏
فعلى الرغم من أعوامه الأربعة والخمسين، كان متين البنية، رشيقاً، مرن الأعطاف، يحسن التلاعب بالألفاظ والمشاركة في أغاني الفتيات الغجريات.‏
حقاً، في أيامنا هذه، يعدّ الرجال الأكبر سناً أكثر جاذبية من الشباب اليافعين بألف مرّة، حتى ليخيّل للمرء أن الشيخوخة والصبا قد تبادلا الأدوار.‏
كان الكولونيل يكبر أباها بسنتين، ولكن، أكان من الممكن أن يكون لهذا معنىً، إن كان يقيناً يفوقها هي نفسها حيوية ونشاطاً وغضارة، ودون أن يكون هناك أي مجال للمقارنة بينهما، على الرغم من أنها كانت ما تزال في الثالثة والعشرين من عمرها بعد؟‏
آه يا عزيزي ـــ فكرت ـــ أنت رائع.‏
في المطعم أدركت أيضاً أنه لم يتبق في قلبها حتى مجرد ومضة من شعورها السابق، والآن كانت تشعر بلا مبالاة تامة تجاه فلاديمير ميخايليتش صديق طفولتها، أو فولوديا كما كان يدعى، والذي كانت ما تزال حتى البارحة تحبه إلى حد الجنون واليأس. فقد بدا لها طوال الأمسية فاتراً، ناعساً، مملاً وعديم الشأن. على أن لا مبالاته التي كانت تصحب تهربه المألوف من دفع فواتير المطعم، جعلتها الآن تشعر بالاشمئزاز، وبالكاد تمالكت نفسها من القول "إن كنت لا تملك نقوداً، فعليك البقاء في المنزل". دفع الكولونيل.‏
وربما لأن الأشجار وأعمدة التلغراف والثلوج المتراكمة مرّت مروراً خاطفاً أمام عينيها، كانت تخطر على بالها أفكار مختلفة: بلغت فاتورة المطعم مائة وعشرين روبلاً، والغجر ـــ مئة، وبإمكانها غداً إلقاء ألف روبل في الهواء إن أرادت، ولكنها قبل شهرين من زواجها لم تكن تملك حتى ثلاثة روبلات، وكان يتوجب عليها مراجعة أبيها بشأن أتفه الأمور. يا لهذا التحوّل الكامل في حياتها!‏
كانت أفكارها مشوشة للغاية، وتذكرت أيضاً أن الكولونيل ياغيتش، الذي هو زوجها الآن، كان قد تودد إلى خالتها، عندما كانت هي في العاشرة من عمرها. وكان جميع أهل المنزل يقولون آنذاك أنه دمرها. كما تذكرت كيف أن خالتها غالباً ما كانت تنزل لتناول الغداء دامعة العينين، وكيف كانت تغادر المنزل بين الحين والحين، حتى قيل إنه ليس في وسع هذه المخلوقة البائسة أن تجد راحة في أي مكان.‏
آنذاك كان وسيماً جداً، وكان نجاحه الباهر مع النساء قد أكسبه شهرة في البلدة كلها، حتى راحت تُحكى عنه الحكايات. ويقال إنه كان يتردد على المعجبات به كما يعود الطبيب مرضاه. وبالرغم من شعره الأشيب وتجاعيده ونظّارته، وبالرغم من نحول وجهه، فإنه حتى الآن يبدو بهي الطلعة، لاسيّما إذا نظرنا إليه من الجانب.‏
كان والد صوفيا لفوفنا طبيباً عسكرياً، وقدّر لـه في وقت مضى أن يخدم مع ياغيتش في الفوج نفسه. وكان والد فولوديا طبيباً عسكرياً أيضاً، وخدم في الماضي مع والد صوفيا وياغيتش في الفوج ذاته. وبغض النظر عن المغامرات العاطفية التي غالباً ما كانت معقدة وعاصفة، كان فولوديا طالباً ممتازاً، أنهى دراسته الجامعية بتفوق، ثم قرر التخصص في مجال الأدب الأجنبي، وقيل إنه يكتب أطروحة.‏
كان يقيم حالياً في الثكنات مع والده الطبيب العسكري دون أي نقود يملكها، مع أنه قد بلغ الثلاثين. في طفولتهما، عاش فولوديا وصوفيا لفوفنا في شقتين مختلفتين، ولكن دائماً تحت سقف واحد، وكثيراً ما كان يزورها للعب، ومعاً تعلما الرقص واللغة الفرنسية. ولكن عندما كبر وأصبح شاباً ممشوق القامة وسيما، بدأت تشعر بالخجل منه، ثم أغرمت به بجنون، وظلت تحبه إلى أن تزوجت ياغيتش.‏
كان لفولوديا أيضاً نجاح باهر مع النساء، فمنذ الرابعة عشرة من عمره تقريباً، كانت النساء اللواتي يخنّ أزواجهن معه يبررن لأنفسهن أن فولوديا كان فتى صغيراً.‏
ومنذ وقت ليس بالبعيد تناقلت الألسن عنه قصة، وهي أنه عندما كان طالباً كان يقيم في غرفة مفروشة قرب الجامعة، وكان يقترب من الباب كلما دقّ ويعتذر بصوت خافت (3)"Pardon, Je ne suis las seul"‏
اعتاد ياغيتش أن يفيض ابتهاجاً حياله، وتنبأ لـه بمستقبل عظيم كما تنبأ درجافن(4) لبوشكين، إذ يبدو أنه كان يحبه.‏
كانا يلعبان البلياردو والبيكيت لمدة ساعة وهما صامتان، وكان ياغيتش يصحب معه فولوديا أينما ذهب في الترويكا، وكذلك لم يُطلع فولوديا على أسرار أطروحته أحداً غير ياغيتش.‏
وقبل ذلك، عندما كان الكولونيل أصغر سناً، غالباً ما وجدا نفسيهما غريمين يتنافسان، ولكن لم يكن للغيرة مكان بينهما قط، وإذا ما اجتمعا في بيوت علية القوم، كان ياغيتش يُعرف بفولوديا الكبير، وصديقه بفولوديا الصغير.‏
وفضلاً عن فولوديا الكبير وفولوديا الصغير، وصوفيا لفوفنا، كان هناك شخص آخر في العربة، إنها مارغريتا ألكساندرفنا، أو ريتا كما كانت تدعى، قريبة زوجة ياغيتش، وهي فتاة تعدّت الثلاثين، شاحبة الوجه، لها حاجبان أسودان، وتضع نظارة دون ذراعين.‏
كانت تدخن سيجارة تلو الأخرى، حتى في جو الصقيع القارص، فهناك دوماً رماد على صدرها وركبتيها. كانت تخن في كلامها وتمط كل لفظة تقولها. زد على ذلك أنها امرأة باردة، قادرة على تجرع الليكيور والكونياك بأي قدر تشاؤه دون أن تثمل. كانت تروي فكاهات مريبة بطريقة ذابلة غير مستحبة. وفي المنزل، كانت تقرأ صحفاً سميكة من الصباح حتى المساء، تبعثر الرماد فوقها أو تلوك تفاحاً مجمداً.‏
ـــ توقفي يا سونيا عن إحداث هذا الضجيج! ـــ قالت بصوت مترنم ـــ حقاً، إن هذا سخيف.‏
حين اقتربت من بوابة المدينة، تباطأت حركة الترويكا، فتراءت البيوت والناس بصورة خاطفة، والتصقت صوفيا لفوفنا بزوجها وقد هدأت واستغرقت في التفكير. كان فولوديا الصغير جالساً قبالتها، فيما اختلطت الآن أفكارها المشرقة السعيدة بأفكار أخرى كئيبة.‏
فقد جال في خاطرها: هذا الرجل الجالس قبالتها كان يعرف أنها تحبه، ومن المؤكد أنه صدّق الإشاعة القائلة إنها تزوجت الكولونيل par depit. لم تبح لـه بحبها يوماً أبداً، ولم تشأ أن يعرف بذلك، فأخفت مشاعرها عنه، ولكن بدا جلياً من نظرته أنه كان يفهمها جيداً، بينما عانت كبرياؤها بسبب ذلك. إلا أن الحقيقة الأكثر إهانة لها كانت تتمثل في أن فولوديا الصغير راح يعيرها اهتمامه فجأة بعد زواجها، وهذا شيء لم يكن لـه وجود من قبل. فقد أخذ يجلس معها صامتاً لساعات، أو يثرثر في أمور تافهة، والآن، عندما كانوا راكبين في الترويكا، شرع يدوس على رجلها بخفة تارةً، ويضغط على يدها تارة أخرى دون أن ينبس بكلمة واحدة. كان واضحاً أنه أراد لها أن تتزوج فقط، مثلما كان واضحاً أنه يحتقرها وأنه كانت تثير في داخله نوعاً محدداً من الاهتمام فحسب، بوصفها امرأة فاسدة وغير مستقيمة.‏
ولما كان شعورها بالانتصار والحب تجاه زوجها قد اختلط بالخزي والكبرياء المجروحة، فقد راودتها رغبة ملحة بالمشاكسة، لدرجة أنها أرادت الجلوس في مقعد الحوذي كي تصرخ وتصفر.‏
وبينما هم يمرون بدير نسوي ترامى إلى أسماعهم صوت جرس عظيم يزن نحو عشرين طناً، فرسمت ريتا إشارة صليب على صدرها.‏
ـــ عزيزتنا أوليا في هذا الدير. قالت صوفيا لفوفنا وصالبت أيضاً بارتجاف.‏
ـــ لماذا التحقت بالدير؟ سأل الكولونيل.‏
ـــ par depit ـــ أجابت ريتا في تلميح ساخر منها إلى زواج صوفيا لفوفنا من ياغيتش ـــ إنها عادة دارجة هذه الـــ par depit. إنها تحدٍّ للعالم أجمع، لقد كانت أوليا تقهقه بصوت عال وتتغنج بطيش، وقد كان أمر العشّاق والحفلات الراقصة هو شغلها الشاغل، ولكن بغتة ـــ انظروا ما حصل! لقد فاجأت الجميع.‏
ـــ هذا ليس صحيحاً ـــ أجاب فولوديا الصغير وهو يثني ياقته المصنوعة من الفرو، ويكشف عن وجهه الوسيم. ـــ لم يكن هناك أية par depit، بل بالأحرى خوف محض إذا ما أردت أن توجهي الموضوع هذه الوجهة. فقد حكم على أخيها دميتري بالأشغال الشاقة، ومكان وجوده غير معروف الآن، وتوفيت أمها من فرط حزنها. رفع فولوديا ياقته مجدداً واستأنف بلا مبالاة: تصرفت أولياً تصرفاً صائباً، تصوروا فقط أنها تعيش كلقيط وبالأحرى مع جوهرة مثل صوفيا لفوفنا! هذا ليس بالأمر السهل.‏
أدركت صوفيا لفوفنا نبرة الاحتقار في صوته، فأرادت أن ترد عليه بشيء ناب، ولكنها لزمت الصمت، ثم عاودتها الرغبة ذاتها بالمشاكسة، فهبّت واقفة على قدميها، وصرخت بصوت باكٍ: أريد الذهاب إلى صلاة الصباح، ارجع أيها الحوذي، أرغب برؤية أوليا!‏
نفذ الحوذي أمرها. كان طنين جرس الدير عميقاً للغاية، وبدا أن ثمة شيئاً فيه ذكّر صوفيا لفوفنا بأوليا وحياتها، وبدأت الأجراس تقرع في الأديرة الأخرى أيضاً.‏
عندما أوقف الحوذي الترويكا، وثبت صوفيا لفوفنا من العربة وحدها، وتوجهت نحو البوابة مسرعة لا يرافقها أحد.‏
ـــ أسرعي، أرجوك! صرخ زوجها، فالوقت متأخر.‏
عبرت صوفيا لفوفنا البوابة المظلمة، ثم الممر المؤدي إلى الكنيسة. كان الثلج الخفيف يهسهس تحت قدميها، وقرع الجرس فوق رأسها حتى خيّل إليها أنه يخترق كيانها كله.‏
هاهو باب الكنيسة وهو يفضي بعد هبوط ثلاث درجات إلى رواق طويل تتدلى على جانبيه صور القديسين. كانت رائحة البخور والعرعر تعمّ هذا المكان الذي ينتهي إلى باب بدا أنه يُفتح ويظهر منه خيال عاتم لامرأة تنحني لها. لم تكن الصلاة في الكنيسة قد بدأت بعد. كانت هناك راهبة تتحرك أمام المحراب الكنسي وتشعل الشموع في شمعداناتها، بينما انشغلت أخرى بإضاءة الثريا. وقريباً من الأعمدة والمقاعد الجانبية تبدّت هيئات أشخاص يقفون في الظلمة ساكنين: هذا يعني أنهم سيقفون على هذه الحال، بلا حراك، حتى طلوع الصباح ـــ فكرت صوفيا لفوفنا، وبدا لها المكان مظلماً، بارداً وموحشاً، بل وأكثر وحشة من المقبرة ذاتها. نظرت حولها بغمٍّ إلى الهيئات الجامدة الساكنة وانقبض صدرها فجأة إذ تمكنت بطريقة ما من تبيّن أوليا في راهبة ضئيلة الحجم، نحيلة الكتفين، تغطي رأسها بمنديل أسود، على أن أوليا كانت قبل دخولها إلى الدير ممتلئة الجسم، وتبدو أطول قامة.‏
اقتربت صوفيا لفوفنا من المبتدئة مترددة ومتوترة جداً دون أن تعرف السبب، نظرت إلى أوليا عبر كتفها فعرفتها.‏
ـــ أوليا! ـــ قالت وضربت كفاً بكف وهي تنطق الاسم بالكاد من شدّة تأثرها، ـــ أوليا!‏
عرفتها الراهبة على الفور فرفعت حاجبيها دهشة، فيما بدا وجهها الشاحب النظيف الطاهر، وحتى غطاء الرأس الأبيض الصغير الظاهر من تحت منديلها، مشرقين من شدّة الفرح.‏
ـــ يا لها من معجزة سماوية! قالت وهي تضرب يديها النحيلتين والشاحبتين بعضهما ببعض هي الأخرى. ثم عانقتها صوفيا لفوفنا بقوة وقبّلتها، إلا أنها كانت تخشى أن تفوح منها رائحة الخمرة.‏
كنا عابرين للتو فتذكرناك ـــ قالت منقطعة الأنفاس كما لو أنها مشت مسرعة ـــ يا إلهي، كم أنت شاحبة! إنني سعيدة لرؤيتك، ما أخبارك؟ كيف حالك؟ هل تشعرين بالملل؟‏
نظرت صوفيا لفوفنا حولها إلى الراهبات الأخريات، ثم تابعت بصوت خافت: لقد تغيّرت أمور كثيرة في المنزل، أتعرفين؟ أنا تزوجت يا غيتش، فلاديمير نيكيتش، ما زلت تذكرينه، وأنا في غاية السعادة معه.‏
ـــ حسناً، الحمد لله، وهل والدك على ما يرام؟‏
ـــ نعم. إنه على ما يرام، وهو غالباً ما يتذكرك. أرجو يا أوليا أن تزورينا أيام العطل، أتسمعينني؟‏
ـــ سآتي. قالت أوليا وارتسم على محياها طيف ابتسامة ـــ سأجيء في اليوم الثاني من العطلة.‏
انخرطت صوفيا لفوفنا بالبكاء دون أن تعرف سبباً لذلك، بكت بصمت للحظة، ثم جففت عينيها وقالت: شدّ ما ستأسف ريتا لأنها لم تركِ، فهي بصحبتنا أيضاً، وفولوديا هنا كذلك، إنهما أمام البوابة الآن، كم سيكون سرورهما عظيماً لو خرجت لرؤيتهما! هيا، فالصلاة لم تبدأ بعد.‏
ـــ هيّا، فلنذهب. وافقت أوليا. فصلّبت ثلاث مرّات وتوجهت مع صوفيا لفوفنا نحو الباب المؤدي إلى الخارج.‏
ـــ إذن تقولين يا سونيتشكا إنك سعيدة؟ ـــ سألت أوليا ما إن اجتازتا البوابة.‏
ـــ جداً!‏
ـــ حسناً، الحمد لله.‏
ترجّل فولوديا الكبير وفولوديا الصغير من العربة إذ لمحا الراهبة، فحيّاها باحترام، وكان واضحاً كم أثّرت فيهما رؤية وجهها الشاحب، وجبّة الراهبات السوداء، فقد سرّهما أنها تذكرتهما وخرجت تسلّم عليهما. لفتها صوفيا لفوفنا ببطانية تقيها البرد، وألقت عليها طرفاً من معطفها الفرو. كانت الدموع التي ذرفتها تواً قد أراحت قلبها وأبهجته، وكانت سعيدة لأن هذه الليلة الصاخبة، المضطربة والمتهتكة في حقيقة الأمر قد انتهت بنقاء ولطف دون سابق توقع. ورغبة منها في إبقاء أوليا مدّة أطول اقترحت: دعونا نصحبها في نزهة، اجلسي يا أوليا، سنقوم بنزهة قصيرة ليس إلاّ.‏
توقع الرجلان من الراهبة أن ترفض ـــ فليس من عادة الأتقياء ركوب الترويكا، ولكن كم كان ذهولهم كبيراً حين وافقت الراهبة وجلست في العربة! وعندما انطلقت الترويكا كالسهم نحو بوابة المدينة، لزموا الصمت جميعاً، ولم يكن لهم من همٍّ إلا أن تنعم بالدفء والراحة، وهم غارقون في التفكير: كيف كانت من قبل وكيف هي الآن.‏
بدا وجهها الآن جامداً خالياً من أية تعابير تقريباً، بارداً وشاحباً وشفافاً كما لو أن ماءً يجري في عروقها وليس دماً، مع أنها قبل سنتين أو ثلاث كانت مكتنزة الجسم متوردة الخدّين، تتحدث عن العرسان وتطلق ضحكتها المدوية لأتفه الأمور.‏
استدارت الترويكا قرب بوابة المدينة، ثم توقفت قرب الدير بعد مضي عشر دقائق، فنزلت أوليا فيما كانت أجراس الكنيسة تُقرع الآن في برجها.‏
ـــ بارككم الله. قالت أوليا، وانحنت على طريقة الراهبات.‏
ـــ أرجوك يا أوليا، زورينا.‏
ـــ سأفعل، سأفعل. وابتعدت أوليا سريعة الخطى، وسرعان ما ابتلعتها البوابة المظلمة. وما إن استأنفت الترويكا انطلاقها حتى شعر الجميع بكآبة ثقيلة.‏
لم ينبس أحد ببنت شفة. وشعرت صوفيا لفوفنا بوهن في أوصالها وخارت عزيمتها، لقد خيّل إليها أنّ إجبارها الراهبة على ركوب العربة والتنزه برفقة ثملة تصرّف غبي غير لبق، ويكاد يكون استهتاراً بالمقدسات. زال ثملها وكذلك رغبتها بخداع نفسها، وغدا واضحاً لها أنها لا تحب زوجها، وليس بمقدورها أن تحبه أبداً، وأن الأمر برمّته هراء وحماقة. لقد تزوجت زواج مصلحة، قوامه، وفقاً لرأي زميلاتها، أن الزوج فاحش الثراء، وإنه لأمر مرعب أن تبقى عانساً، مثل ريتا! ثمّ إنها ملّت أباها الطبيب وأرادت إغاظة فولوديا الصغير.‏
ولو كانت قادرة أن تخمّن قبل الزواج أنه سيصعب عليها التحمل الذي سيكون أمراً فظيعاً وبشعاً، لكانت رفضت هذا الزواج ولو عرضوا عليها كل ثراء العالم. ولكن ما حصل لا يمكن تغييره الآن، وعليها قبوله. حين رجعوا إلى المنزل، استلقت في سريها الدافئ الناعم، وألقت الأغطية على نفسها، فتذكرت رواق الكنيسة المظلم ورائحة البخور، والهيئات المنتصبة بجانب الأعمدة. كانت تريعها فكرة أن هؤلاء الأشخاص سيبقون واقفين هناك بلا حراك طوال فترة نومها، وأن صلاة الفجر ستدوم وقتا طويلاً جداً، ثم تعقبها ساعات، ثم صلاة النهار وبعدها الصلوات القصيرة.‏
"ولكن الإله موجود حقاً، إنه موجود على الأرجح. ولا شك أني سأموت، وهذا يعني أنه يتوجب على المرء عاجلاً أم آجلاً، أن يفكر في الروح والحياة الأبدية، مثل أوليا. لقد حصلت أوليا على الخلاص الآن، لقد حسمت كل الأمور مع نفسها، ولكن، إذا لم يكن هناك إله؟ ستكون حياتها قد هدرت سدىً، أتكون قد ضاعت فعلاً؟ ولِمَ تضيع؟ وبعد دقيقة خطرت في ذهنها فكرة:‏
إن هناك إلهاً، والموت آتٍ لا محالة، وعلى المرء أن يفكر في روحه، إن كان مقدّراً على أوليا أن تلاقي حتفها في هذه اللحظة بالذات، فإنها لن تجزع، إنها مستعدة، ولكن الشيء المهم هو أنها قد حسمت أمور حياتها مع نفسها سلفاً".‏
هناك إله.... أجل... ولكن، أمَا هناك من طريقة غير الترهب؟ فالالتحاق بالدير يعني حقاً إيقاف الحياة وتدميرها". تملَّكها الخوف قليلاً، فغطّت رأسها بالمخدة.‏
ـــ يجب ألا أفكر في هذا... يجب ألا أفكر...‏
كان ياغيتش يذرع الغرفة المجاورة جيئة وذهاباً، يخشخش بمهمازه على نحو خافت مستغرقاً بالتفكير بأمر أو بآخر. باغت صوفيا لفوفنا التفكير بأن هذا الرجل كان قريباً وعزيزاً عليها لمجرد سبب واحد، وهو كون اسمه فولوديا أيضاً، فجلست في سريرها ونادت بلطف: فولوديا.‏
ـــ ما الأمر؟ ردّ زوجها.‏
ـــ لا شيء.‏
وعادت إلى الاستلقاء.‏
تناهى إلى سمعها طنين أجراس، ربما كان مصدره الدير نفسه. وذكّرتها هذه الأجراس من جديد برواق الكنيسة والهيئات المظلمة المنتصبة. دارت في ذهنها أفكار عن الإله وعن الموت المحتّم، غطّت رأسها كي لا تسمع هذا الطنين.‏
فكرت: إن أمامها حياة طويلة تفصلها عن الشيخوخة والموت، ويتوجب عليها أن تتحمّل الحياة قرب الرجل الذي لا تحبّه، والذي ولج الآن إلى غرفة النوم وهو في طريقه إلى الفراش، وستكون مجبرة أن تكتم في نفسها حبّها اليائس لرجل آخر، فتي وجذاب، رجل بدا لها شخصاً خارقاً.‏
ألقت نظرة على زوجها وأرادت أن تقول لـه تصبح على خير، إلا أنها عوضاً عن ذلك انفجرت باكية. كانت مستاءة من نفسها.‏
ـــ حسناً، ها قد بدأت الموسيقى ـــ قال وهو يمطّ حرف الياء.‏
استعادت صوفيا لفوفنا هدوءها، ولكن بعد مرور فترة طويلة نسبياً، حوالي العاشرة صباحاً. توقفت عن البكاء والارتعاد، ولكن عوضاً عن ذلك تملّكها صداع شديد.‏
كان يا غيتش يسرع بالاستعداد للقدّاس المتأخر، وهو في الغرفة المجاورة يزمجر في وجه خادمه الذي يساعده على ارتداء ثيابه. دخل إلى غرفة النوم وهو يخشخش بمهمازه على نحو خافت. أخذ شيئاً ما، ثم دخل مرّة أخرى مرتدياً كتفيتيه وأوسمته، ويعرج في مشيته على جري عادته بسبب الروماتيزم. ولسبب ما خيّل لصوفيا لفوفنا إنه كان يمشي وهو يتلفت حوله كحيوانٍ مفترس.‏
سمعته يتكلّم بالهاتف: من فضلك اعمل معروفاً، صلني مع ثكنات فاسيلفسكي! ـــ ثم استأنف بعد لحظة: ثكنات فاسيلفسكي؟ اطلب من السيد ساليموفيتش أن يكلمني من فضلك...‏
وبعد لحظة أخرى: من يكلمني؟ أهذا أنت يا فولوديا؟ إني سعيد جداً لسماعك، يا عزيزي، اطلب من والدك أن يعرج علينا فوراً، فزوجتي في حالة سيئة جداً بعد نزهة البارحة... ليس في المنزل؟... هممم... شكراً لك، يا للروعة!... إني ممتن جداً... مرسي.‏
دخل ياغيتش إلى غرفة النوم للمرة الثالثة، فانحنى فوق زوجته ورسم إشارة الصليب، ثم مدّ يده لتقبّلها ـــ فالنساء اللواتي أحببنه كنّ يقبّلن يده دوماً، وقد كان معتاداً على ذلك ـــ قال إنه سيعود للعشاء وخرج.‏
في الثانية عشرة أعلنت الخادمة عن قدوم فلاديمير ميخايلتش، فنهضت صوفيا لفوفنا مترنحة بسبب وهنها وصداعها. وسرعان ما ارتدت ثوبها الليلكي المزيّن بالفرو، واللافت للنظر، مشّطت شعرها على عجلة منها كيفما تفق. شعرت برقة في قلبها تفوق حدود الوصف. كانت ترتجف فرحاً وخوفاً من أن يذهب.‏
آه ليتها فقط تستطيع أن تراه!‏
جاء فولوديا الصغير زائراً وهو على أتمّ هندام يرتدي لباساً رسمياً ولفاعاً أبيض. وعندما دخلت صوفيا لفوفنا ردهة الاستقبال قبّل يدها وعبّر عن أسفه الشديد حيال توعكها. بعدئذ أطرى ثوبها عندما جلسا.‏
ـــ لقد انزعجت من رؤية أوليا البارحة ـــ قالت ـــ في البداية ساورني شعور رهيب، ولكنني الآن أحسدها. إنها صخرة صمّاء يصعب تحطيمها، ولن يكون بوسع أحد أن يزحزحها من مكانها أبداً. ولكن يا فولوديا، أما كان أمامها من مخرج آخر تسلكه؟ أيجب على المرء حقاً أن يئد نفسه حياً ليحلّ لغز الحياة؟ أتعرف؟ إنه موت بحد ذاته وليس حياة.‏
ظهر تعبير لطيف على وجه فولوديا لدى ذكر أوليا.‏
ـــ أنت شخص ذكي يا فولوديا ـــ قالت صوفيا لفوفنا ـــ علّمني كيف أفعل ما فعلته هي تماماً. إنني بالطبع لست مؤمنة، وليس بمقدوري أن أدخل ديراً لكن لابد أن يكون هناك ما يماثل هذا الخيار قيمةً... إن حياتي ليست سهلة ـــ تابعت بعد لحظة صمت ـــ أخبرني... قل لي شيئاً مقنعاً، كلمة واحدة تفي بالغرض.‏
ـــ كلمة واحدة؟ هاك إذاً: تارارا ابومبيا.‏
ـــ لماذا تحتقرني يا فولوديا. سألته باندفاع ـــ فأنت تستخدم هذه اللغة ـــ اعذرني ـــ الساذجة والعابثة عندما تتحدث إلي بالذات، وهي ليست من النوع الذي يستخدمه الناس مع أصدقائهم أو مع نساء محترمات. إنك ناجح جداً كإنسان متعلّم، فأنت تحب العلوم، ولكنك لا تتكلم معي أبداً عن العلوم؟ لماذا؟ ألست أهلاً لذلك؟‏
تضايق فولوديا الصغير فغضن وجهه وقال: لماذا تريدين أن تتكلمي عن العلوم فجأة؟ لعلّك تريدين الدخول بنقاش عن البنية؟ أو ربما عن سمك الحفش مع الفجل الحرّيف؟‏
ـــ جيد. حسناً، إنني امرأة تافهة سيئة مجرّدة من القيم، وغبية... ارتكبت مئات المئات من الأخطاء. إنني مريضة نفسياً وفاسقة وأستحق الاحتقار على هذا النحو، ولكن انظر يا فولوديا، أنت تكبرني بعشر سنوات وزوجي يكبرني بثلاثين سنة، إنني ترعرعت أمام ناظريك، ولو أردت، لكان في مقدورك أن تجعل مني ما تشاء حتى ملاكاً، ولكنك ـــ وهنا ارتجف صوتها ـــ عاملتني على نحو مريع، وتزوجني يا غيتش عندما كان مسناً أصلاً وأنت...‏
ـــ هذا يكفي، هذا يكفي ـــ قال فولوديا وهو يقترب في جلوسه منها ويقبّل كلتا يديها ـــ لندع شوبنهاور وأمثاله لفلسفتهم وإثبات ما يريدون إثباته، أما نحن فدعينا نقبل هاتين اليدين الصغيرتين.‏
ـــ أنت تحتقرني بالفعل، ليتك تعرف فقط كم يعذبني هذا! قالت بتلكؤ وهي تعرف سلفاً أنه لن يصدقها.‏
ـــ ليتك تعرف فقط كم أريد أن أكون امرأة أخرى، وأن أبدأ حياة جديدة، إنني أفكر في هذا ببهجة غامرة.‏
ـــ وبالفعل فقد ذرفت قليلاً من دموع الفرح عندما قالت ذلك ـــ لأن تكون إنساناً طيباً شريفاً طاهراً، ألاّ تكذب، وأن يكون لك هدف في الحياة!‏
ـــ هيا، هيا، هيا لا تبدئي بالتظاهر، فأنا لا أحب هذا. قال فولوديا واتخذ وجهه تعبيراً متقلباً ـــ يا إلهي، لكأنك على خشبة المسرح، دعينا نتصرف كأناس حقيقيين.‏
ولكي لا يغضب ويرحل، طفقت تجد الأعذار لنفسها، وأجبرت نفسها على الابتسام بغية إرضائه، وعاودت الحديث عن أوليا وكيف تمنّت هي أيضاً أن تحلّ مشكلات حياتها، وأن تصبح إنساناً بحق.‏
ـــ تارا.. را.. مبيا ـــ غنى هامساً ـــ تا...را...بومبيا.‏
وفجأة طوّق خصرها، فوضعت يديها على كتفيه، جاهلة ما تفعل. ولدقيقة ظلت تنظر بنشوة كما لو كانت مخدّرة، إلى وجهه الذكي والساخر، وإلى جبينه وعينيه ولحيته الرائعة.‏
ـــ لقد عرفت لمدّة طويلة أني أحبك ـــ اعترفت واحمرّت خجلاً وألماً، بل وشعرت بأن شفتيها التوتا بتشنج من أثر الخجل ـــ إني أحبك حقاً، فلماذا تعذبني؟. أغمضت عينيها وقبّلته بشغف في شفتيه، ولعلّه مضى من الوقت دقيقة كاملة قبل أن تستطيع حمل نفسها على إنهاء القبلة، رغم أنها كانت تدرك أن هذا لا يجوز البتة، وأنه قد يدينها هو نفسه، أو أن الخدم قد يدخلون إلى الغرفة...‏
ـــ آه، كم تعذبنيّ ـــ رددت.‏
بعد مضي نصف ساعة، وكان قد حقق ما أراد، جلس في غرفة الطعام وتناول وجبة خفيفة، بينما ركعت هي بجانبه وراحت تحملق في وجهه بشراهة . قال لها إنها تبدو مثل كلب أليف ينتظر من صاحبه أن يرمي لـه ببقية من لحم، ثم أجلسها على إحدى ركبتيه وغنّى وهو يؤرجحها: تارا... رابومبيا!‏
عندما كان يهمّ بالمغادرة، سألته بصوت متأثر: متى؟ اليوم؟ أين؟ وأطبقت كفّيها على فمه كما لو كانت تسعى إلى سحب الجواب بيديها.‏
ـــ سيكون صعباً اليوم ـــ قال بعد أن فكّر ملياً ـــ ولكن ربما غداً. ثم افترقا.‏
قبل العشاء، ذهبت صوفيا لفوفنا إلى الدير لرؤية أوليا، ولكنّهم أخبروها هناك بأن أوليا ذهبت لتقرأ من سفر المزامير على روح امرأة توفيت. خرجت صوفيا من الدير وتوجهت إلى بيت أبيها، إلا أنها لم تلقه في المنزل أيضاً. بعدئذ غيّرت العربة وراحت تتجول في الشوارع والطرق الفرعية دون أيّما هدف، واستمرّت على حالتها تلك حتى حلول المساء، ولسبب ما، تذكرت خالتها الدامعة العينين، العاجزة عن إيجاد الطمأنينة أبداً.‏
في تلك الليلة، خرجوا مرّة أخرى في الترويكا، واستمعوا إلى غناء الغجر في مطعم خارج البلدة، وعندما عبروا من أمام الدير ثانية، تذكرت صوفيا أوليا، فأرعبها التفكير بأن فتيات ونساء طبقتها الاجتماعية لا يجدن مخرجاً سوى ركوب الترويكا دوماً، والكذب، أو الالتحاق بالدير وإماتة الجسد.‏
في اليوم التالي كان ثمّة لقاء آخر،وعادت صوفيا لفوفنا إلى التجوال وحدها في عربة مستأجرة حول المدينة، وتذكرت خالتها من جديد.‏
انفصل فولوديا الصغير عن صوفيا لفوفنا بعد أسبوع، ثم عادت الحياة إلى مجاريها كما كانت من قبل، مملة، حزينة، بل وحتى مؤلمة في بعض الأحيان. كان الكولونيل يلعب البلياردو أو البوكيت مع فولوديا الصغير لساعات، وكانت ريتا تروي النكات بطريقتها الذابلة السمجة، بينما كانت صوفيا لفوفنا تتجوّل في عربة مستأجرة باستمرار وتتضرع إلى زوجها كي يأخذها للتنزّه بالترويكا.‏
أضجرت صوفيا لفوفنا أوليا، إذ كانت تزورها في الدير كل يوم تقريباً، فتشكو لها عذابها الذي لا طاقة لها على احتمالـه، وتبكي وتشعر في الوقت نفسه أن ثمّة شيئاً نجساً، مثيراً للشفقة وخسيساً قد دخل معها إلى صومعة الدير. وكانت أوليا تقول لها آلياً وبلهجة امرئ يتلو درساً محفوظاً، بان لا شيء من هذا لـه أدنى قيمة، وبأن كل هذا سيمضي، وأنّ الله سوف يسامحها.‏


هوامش

(1) عربة أو زحّافة روسية تجرها ثلاثة أحصنة.‏
(2) من أجل الإغاظة.‏
(3) ـ اعذرني، إنني لست بمفردي.‏
(4) ـ غافريل رومانوفيتش درجافن (1743-1816)، أشهر الشعراء الروس في القرن الثامن عشر. في عام 1815، وقبل وفاته بسنة، ترأس لجنة تحكيم لشعر الفتيان في مدرسة سانت بطرس بورغ، حيث قدّم بوشكين، ابن السادسة عشرة آنذاك، قصيدة غنائية حاكى فيها درجافن، فعانق الشاعر الفتى، وأطنب في مدحه حتى رفعه إلى السماء،وتنبأ لـه بمستقبل عظيم.‏

No comments: