Monday, May 14, 2007

النص المؤسس و مجتمعه - خليل عبدالكريم(1)ا

بداية الكتاب




اَلسِفْرُ اَلأَوَّلُ وَاَلثَانِى

خليل عبد الكريم



الطبعة الأولى 2002

منشورات الجمل, كولونيا , ألمانيا

دار مصر المحروسة

13 شارع قولة امتداد محمد محمود ـ عابدين , القاهرة ـ مصر

تليفون 3960599 ـ فاكس 6360922

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المحتويات



الإهداء .......................................................................................... ... 5

التعريف بالكاتب

السفر الأول

فرشة................................................................................................. 9

[ 1] أمية الرسول وصحبه

[ 2 ] التفاسير الحديث تفسير لكتب التراث

[ 3 ] ما حدث للفقه المالكى

[ 4 ] المفسرون المحدثون والتفسير

[ 5 ] الخرافات فى كتب التراث والتقسير

[ 6 ] تأثير كتب التراث على القارئ



مقدمة .......................................................................................... 21

[ 1 ] القرآن المقروء والمتلو

[ 2 ] تقصير القرآن فى العقيدة والعبادة

[ 3 ] تأثير المجتمع فى القرآن

[ 4 ] بزوغ ظاهرة النسخ فى القرآن

[ 5 ] السيوطى وبحثه فى أسباب النزول



الباب الأول: آيات كريمة أشرقت تحقيقًا لرغبة القائد

وأخرى تلبية لرجاواتتبعه.............................................................. 37

v الفصل الأول: آيات كريمة أشرقت تحقيقًا لرغبة القائد ................................. 39

[ 1 ] موادعة اليهود

[ 2 ] صيام عاشوراء

[ 3 ] لماذا يوم الجمعة

[ 4 ] الصحيفة

[ 5 ] بيت المقدس قبلة الصلاة

[ 6 ] محمد وزيد وزينب بنت جحش

ثلاثة من المفسرين القمم الشوامخ

أولاً: مقام المفسرين الثلاثة ومكانة مؤلفاتهم

ثانيًا: اختلاف روايات الخبر هل هو علة قادحة؟

ثالثًا: التدرج فى تحريم الربا والخمر والفورية فى تحريم التبنى

رابعًا: شُرِّف الكلبى بذكر اسمه فى ( البلاغ/ المبين )

خامسًا: رد بنت الشاطئ المفحم على جوق الطبالين ومايسترهم هيكل

[ 7 ] نكاح عائشة التيمية

عامر بن الطفيل وقتل حفظة القرآن

غزوة بنى المصطلق

نكاح جويرة بنت الحارث

حادثة الإفك

صفوان بن المعطل

عبد الله بن أبى بن سلول رأس النفاق

معاناة محمد

عائشة تحكى عن آيات الفرج

توثيق الحديث

[ 8 ] تمرد نسوان النبى

[ 9 ] سرايا نبى الرحمة

أولاً: الموجهة لإعتراض قوافل صناديد قريش:‏

ثانيًا: عن السرايا التى أُرْسِلَتْ إلى القبائل:‏

نكاح صفية بنت حيي بن أخطب

ثالثا: عن المقيمين فى قرية الحرتين:‏

الخلاصة

سرية عبدالله بن جحش

استحلال الأشهر الحرم

الآيات المنقذة

[ 10 ] حكاية ماريا القبطية

فى يومى وعلى فراشى

لم يحب من الدنيا سوى الطيب والنسوان

[ 11 ]‏ حلف عائشة وصفية

[ 12 ] لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء

[ 13 ] تزوجها وهو مُحْرِم

من لى من ابن الأشرف

بنى النضير

قطع النخيل والتحريق

المعضلة والحل ‏

[ 14 ]‏ النبى ينهى الصحابه عن كثرة الأسئلة

‏ 1 ـ فى بدء الشأن عند صيام رمضان

2ـ هند بنت أمية

‏3ـ بنو سخينة وأساليب النكاح: ‏

‏‏4ـ النزوع إلى مفاخذة النسون:‏

‏5ـ السيرة المحمدية التى هى المثل الأعلى ‏لكل مسلم ؟؟؟

‏6ـ هاجس الحصول على الغنائم والأنفال والأسلاب ‏

‏7ـ ترك اليهود أثرًا غائرًا فى بنى قيلة ‏

‏8 ـ التجارة فى مواسم الحج: ‏

v الفصل الثانى: آيات كريمة ظهرت تلبية لرجاوات تبعه ................................. 141

1ـ الظهار

2ـ تحريم الخمر

3ـ إرث النسوان

4ـ الرجل لعبته المرأة

5ـ القِبلة المحيرة

6ـ شعائر الصفا والمروة

7ـ منع الصدقة عن المحتاج

8ـ قصة تحريم الربا

9ـ تحليل الزنا

10ـ النجاشى حبيبى

v الفصل الثالث: آيات هلت موافقة لعبارات فاه بها بعض الصحابة ........................ 201

v الفصل الرابع: الإيضاح والاستدراك والاستثناء............................................. 221

الختام:................................................................................................ 246



السفر الثانى

الباب الأول: آيات التربية ......................................................................... 247

v الفصل الأول: التربية الخلقية ............................................................. 249

v الفصل الثانى: التربية العسكرية السياسية ................................................... 343

الباب الثانى: آيات الحجاج مع أهل الكتاب ....................................................... 425

v الفصل الأول: آيات الحجاج مع اليهود .................................................... 427

v الفصل الثانى: آيات الحجاج مع النصارى .................................................... 485

ختام: ................................................................................................. 523

المصادر والمراجع: ................................................................................. 533



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



الإهداء
إلى أحبائى الذين التزموا الصمت عندما انفجرت براكين الغضب على ( فترة التكوين ) أمنحهم فرصة أخرى ليكرروا الموقف ذاته لأن السكوت ـ حسب منهجهم الجديد ـ من ذهب ولكنه ذهب مع الريح وهيهات أن يعود !!

خليل عبد الكريم



*******************************



تعريف بالكاتب


توفي الباحث الاسلامي المصري المثير للجدل خليل عبد الكريم قبل يومين عن عمر ناهز 73 عاما في احدى قرى اسوان بعد ان قدم رؤية مجددة للفكر الديني عبر اكثر من 13 مؤلفا اثارت خلافات مع المؤسسات الدينية والمتشددين.

وكان الراحل قد انهى دراسته في الفقه والشريعة الاسلامية في الازهر مطلع الخمسينيات وتحول بعدها الى دراسة القانون حيث عمل محاميا. وكان عبد الكريم من اول المؤسسين لمنبر اليسار عام 1976 قبل ان ينضم الى حزب «التجمع اليساري» حيث اصبح احد قادته. أول كتبه كان «الجذور التاريخية للشريعة الاسلامية» وقد شكل رؤيته التراثية بحثا عن واقع اسلامي يتناسب ومتغيرات الحياة. ووقد وضع 11 مؤلفا بحث فيها جوانب مختلفة من الحياة الاسلامية استنادا الى كتب التراث الديني التي تعترف بها المؤسسات الدينية وخصوصا الازهر من اهمها «النص المؤسس ومجتمعه» في مجلدين و«شدو الربابة في احوال الصحابة» في ثلاثة مجلدات و«فترة التكوين في حياة الصادق الامين» عن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. واثارت هذه الكتب زوبعة في الحياة الثقافية المصرية في الفترة الاخيرة بسبب جرأته في التطرق الى مواضيع تعتبر من المحرمات في التراث الاسلامي. ورغم كل معاركه الفكرية مع المتشددين والمؤسسة الدينية ومثوله اكثر من مرة امام نيابة امن الدولة، لم تكن ادانته ممكنة نظرا لدقة مواقفه في اعادة قراءة التاريخ الاسلامي.





ولقد تم نسخ هذا الكتاب بأمانة كاملة وسوف تلاحظ عزيزى القارئ استطراد المؤلف فى المترادفات والتعليقات التى قد تطول فى مواضع ليست بالقليلة لكن حتمت علينا الأمتنة نقل المؤلف بنصه.






*******************************





السفر الأول


فرشة


[ 1]
أمية الرسول وصحبه


الحبيب المصطفى ـ عليه السلام وعلى آله ـ لم ير فى حياته مصحفًا ولم نسطر أنه: قرأ مصحفًا لأنه كما ذكر القرآن العظيم وكما شهد هو على نفسه : أمّى.



وكل من أبى بكر ابن أبى قحافة التيمّى وعمر بن الخطاب العدوىّ وعدد من الصحابة على ذات الشاكلة أى لم يشهدوا مصحفًا.



تلك الحقيقة رغم ثبوتها إن ذكرتها لأى مسلم مهما بلغ حظه من التعليم ـ غير الدينى ـ بادر باستنكارها ورماك بالجنون أو أنك تستهزئ به أو ألصق بك تهمة المروق من الإسلام.



هذه المفارقة الصارخة تدعونا أو تضطرنا للتمييز بين القرآن المقروء أو المتلو الذى حفظته صدور الرجال وبين القرآن المكتوب الذى دُون إبان عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان الأموى.



القرآن المقروء أو المتلو أو المحفوظ فى الصدور غض طرى يتفجر نضارة وبكارة, أبوابه مفتوحة ومداخله ميسرة ومنافذه واسعة ومآتيه سهلة, ومفاتيحه طيّعة.



أما القرآن المدون أو المكتوب فتغلفه القداسة وتعلوه المهابة وهو محفود محشود ومحروس مخفور, تحوطه أسيجة وأسوار عالية يقف عليها حُجَّاب و سدنة ومرازبة يحولون بين أى إنسان والإقتراب منه إلا إذا حاز صفات حددوها بدقة وعينوها بصرامة وذكروها بتفصيل وهم وحدهم أصحاب الكَلِم الفصل فى إحاطته بها واستيعابه إياها وتمكنه منها كيما يتعين عليه أن يحصل على تصريح من أولئك الحُرّاس مذيل بتوقيعهم المهيب وممهور بخاتمهم القدسانى.







[ 2 ]
التفاسير الحديث تفسير لكتب التراث


وترتيبًا عليه وكنتيجة حتمية له فإن التفاسير الحديثة ليست للقرآن المجيد إنما هى للتفاسير التراثية السلفية القديمة التى مرت عليها قرون والتى تُنعت بأن أمة لا إله إلا الله تلقتها بالقبول والترحاب والتجّلة.



ومن ثم فإن المفسرين المحدثين لايطرحون تفسرًا للنص الأصلى ولا يقدمون تأويلات للقرآن الكريم بل ينفخون قراءهم توضيحات وتعليقات وشروحًا وتلخيصات لما فى تفسير الطبرى والزمخشرى والرازى والكلبى وابن كثير والقرطبى والبيضاوى والتسترى والسيوطى ....... إلخ.



بل وحتى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مع أن العهد به قريب.



ولذا فإن القارئ غدا يعرف وإذا أحسنا الظن به قلنا إنه يعلم آراء أولئك الأكابر وأحكامهم ومذاهبهم وتنظيراتهم فحسب لا التى جاء بها الذكر الحكيم !.



وهى معضلة لايستهان بها ويتوجب الإلتفات إليها.



لماذا؟.



لأنه مع تقديرنا البالغ لأولئك المفسرين الأعاظم فإن مارقموه فى مؤلفاتهم شئ وما حمله مأدبة الله شئ آخر.



إن المفسر من أولئك الأفذاذ عاش فى قرن معين وبيئة محددة ومجتمع له أبعاده ومناحيه وأعرافه وموجباته وإكراهاته, وهو نفسه تملك ثقافة خاصة به تفترق بدرجة أو بأخرى عن ثقافة أقرانه المعاصرين, وله ذكاؤه وقريحته وذاكرته الحافظة ووعيه وذهنيته ومخيلته ومعتقده ومنحاه الفكرى وإتجاهه الأيديولوجى ومدرسته الفلسفية ونحلته الكلامية ( علم الكلام ) .... إلخ.



ومن خلال كل هذه القنوات العامة والخاصة تسرب تفسيره أو تأويله, ومن طبائع الأمور أن يتاثر بها ويتشكل بقسماتها ويحمل بصماتها ويتروح بريحها ويتزيأ بزيها ويبرز بآياتها ......... إلخ.



وفى نهاية الأمر وغاية الشوط وآخر المدى ينقلب التفسير إلى نص آخر مغاير للنص الأصلى ومفارق ومباين إياه.





[ 3 ]
ما حدث للفقه المالكى


حدث هذا بحذافيره فى الفقه المالكى فالمدونة التى أملاها عبد الرحمن بن القاسم على أسد بن الفرات ونقلها إلى إفريقيا ( تونس ) ولو أنها مروية عن شيخ المذهب نفسه إلا أنها ( = المدونة ) غدت هى المرجعية التى لا تقبل جدلاً أو مناقشة أو معارضة أو مُخاجة, و على جوانبها اُلفت الحواشى والتعليثات والمخترات والتهذيبات ... إلخ.



حتى يمكن أن نقرر أن مالكية محدثية أو مبتدعة ظهرت واستقرت هناك لا صلة بمذهب شيخها, وإذا أحسنا الظن ربطتها به علاقة واهية أشد رقة من خيوط العنكبوت.



وغضب مؤرخون وفقهاء عديدون واتهموا من أقدموا على ذلك بأنهم أفسدوا مذهب الأصبحى صاحب المؤطأ عالم المدينة مالك بن أنس .



ونطرح هذا المثل للتدليل على أن التيمم نحو النصوص الثانوية أو الجانبية أو الهامشية والإحتفاء والعناية بها ووضعها فى بؤبؤ العين ومركز الرعاية ودائرة الضوء, منحى له تاريخ عتيق وجذر غائر وأصل ثابت فى قضاء الفكر الإسلامى وليس أمرًا عارضًا أو شأنًا هزيلاً أو أو رافدًا محدثًا أو بدعة وافدة أو سحابة صيف عن قريب تنقشع.



وهنا مكمن الخطر وبيت الداء وجرثومة العلة وسبب الوهن ومنشأ المرض, إذ لو أنه على خلافه لما أثار الانتباه وشد البصر واستوقف التأمل واستدعى التفكر واستنفر التمعن, وميدان أهميته فسيح ومجال أثره وسيع, ويكفى فى هذه العجالة التمهيدية أن نورد شطرً نحيفًا, وهو أن يجر دارس القرآن العظيم والباحث فى علومه بعيدًا عن ركائزه الأساسية وعُمده الرواسخ وأصوله الثوابت إلى مجرد آراء وأنظار وأفكار فاه بها فلان, ويصرفه عن منابعه الصافية وعيونه النقية وموارده السائغة إلى مشارب لا تقاس ولا تقارن بها, فأين الأرض من السماء وأين الثرى من الثريا.





[ 4 ]
المفسرون المحدثون والتفسير


عندما أقدم المفسرون المحدثون علي الانصراف عن تفسير ( السبع المثانى ) ذاته والنهل من التفاسير التراثية يقتطعون منها فقرات كوامل قد تطول أو تقصر أو يهذبونها أو يختصرونها أو يعلقون عليها أو يُحَـلّون أعناقها بالحواشى والشروح والتوضيحات والتبيينات .... إلخ.



ولا بأس بإيراد بعض المفردات الغوامض من النص الأصلى لرفع الستار عن هذا الغموض.



والإجابة عن هذا التساؤل لا تحتاج إلى زكانة ولا تتطلب فطانة ولا تستدعى لقانة ولا تستحب لوذعية.



لأن الإتكاء على التفاسير القديمة أوالتراثية أو السلفية هو جواز المرور للحظوة برضى المنفذين فى رئاسة شئون التقديس الذين نصبوا أنفسهم حراسًا لأحسن القصص وهو درب الولوج إلى البوابة الملكية التى بدون المروق من عتبتها المهيبة يستحيل عليهم الحصول على الموافقة على نشر تصنيفاتهم وإن تقت إلى الإنضباط فهى تجميعاتهم.



إن من أصعب الأمور أن تُصدق أن المفسر المعاصر الحديث يجهل أن سلفه الصالح قد عاش فى زمان غير زمانه, وفى مجتمع مغاير لمجتمعه, وبيئة تخالف بيئته, وتسلح بثقافة مباينة لثقافته, وتزود بمعارف غير معارفه, وحصل على علوم تفاصل علومه, وواكبته أنساق إجتماعية وإقتصادية ومعرفية وسياسية وإعلامية وتعليمية ... إلخ. لا وجه للمقارنة بينها وبين أندادها من الأنساق التى تحايثه.



ومن أبعد الفروض أن نؤمن أنه ( = المفسر المعاصر ) لا يفقه أن تلك الإكراهات جميعها لابد أن تطبع تفسير سلفه بميسمها, وهذا ما يؤكده ويثبته علم اجتماع المعرفة, بل ما تدركه بداءة العقول إذ تقطع به شواهد الحال, وهذا الدمغ لا يظهر فى الأسلوب فقط: تراكيب الجمل, وصياغة العبارات, واختيار الألفاظ, وانتقاء الكلمات, بل تعداه إلى الأفكار والتنظيرات والحكم على الأمور وتقييم الوقائع, واستنباط القواعد ومن ثم قيل: إن الإنسان ابن عصره.



وللتدليل عليه نضرب مثلاً سريعًا: فعندما تقرأ ( عجائب الآثار فى الترجم والآثار ) المشهور ب ( تاريخ الجبرتى ) لمؤلفه عبد الرحمن بن حسن الجبرتى, وتطالع أى كتاب لسميه المؤرخ عبد الرحمن الرافعى تلقى بونًا شاسعًا فى كل المناحى التى ذكرناها, مع أن الفارق الزمنى بينهما ل ينيف على قرنين وربع قرن.



هنا قد ينبرى لنا قارئ فلحاس ويصيح ناعقًا: هناك بينونة بين التأريخ والتفسير, إذ إن الأخير يتمحور على نص ونص مقدس يتوجب على المفسر تراثيًا أو معاصرًا أن يلتزم به ويدور فى فلكه ولا يخرج عن نطاقه.



أما المؤرخ فهو يرصد الوقائع ويحللها دون مرجعية أمامه يضطر إلى أن يرتبط بها ويتقيد بلزومياتها.



ونعقب عليه فنسطر:

هذا دفعٌ فسيد, لأن وجود الأساس الذى ينبنى عليه التفسير لا يلغى خصوصية المفسر ولا ينفى كينونته ولا يُغرب هويته ولا يعدم شخصيته ..... إلخ.

وإلا غدت مدونات التفسير نسخة واحدة وهو ما لم يحدث, فضلاً عن أنه لايفوه به ذو لب صحيح وتفكير سديد وعقل سوى بل لا يدعيه من له ذرة من وعى أو مسكة من قريحة.

وكيما نوقف المراء الشكس وننهى الجدل العقيم ونضع حدًا للنقاش الفارغ, نهدى القارئ ما دبجه واحد من شوامخ مفسرى القرآن المجيد ومن أقدمهم, له فى فضاء الفكر الإسلامى مقام محمود ورتبة سامية, ولد فى قرية القداسة ـ بكة ـ فى منتصف القرن الهجرى الثانى وتلقى العلم عل يديه وحدث عن خلق لا يُحصى من الأثبات المحققين.

ويكفى أن تعرف أن ابن جرير الطبرى, شيخ المفسرين وعمدتهم وذروة سنامهم, نقل عنه الكثير فى تفسيره الذى لا ينتطح عنزان فى قيمته وأنه من أجلّ التفاسير, ويمكنك أن تصرح بأنه مقدمها دون معارضة وبلا مجادلة وبغير حجاج.





[ 5 ]
الخرافات فى كتب التراث والتقسير


فعندما فسر ابن جريج الآية الكريمة:

{ الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير } [ سورة الطلاق : 12 ]. أورد ما يأتى: أخرج ابن المنذر, عن ابن جرير فى قوله : { سبع سموات ومن الأرض مثلهن } قال: بلغنى أن عرض كل أرض مسيرة خمسمائة سنة وأن بين كل أرضين مسيرة الثرى واسمها تخون, وأن أرواح الكفار فيها ولها منها اليوم حنين, فإذا كان يوم القيامة ألقتهم إلى بهوت فإجتمع أنفس المسلمين بالجابية والثرى فوق الصخرة التى قال الله فى صخرة, والصخرة خضراء مكللة والصخرة على الثور له قرنان وله ثلاث قوائم يبتلع ماء الأرض كلها يوم القيامة والثور على الحوت زذنب الحوت عند رأسه مستدير تحت الأرض السفلى وطرفاه منعقدان تحت العرش ويقال الأرض السفلى على عمد من قرنى الثور ويقال بل على ظهره واسمه بهموت ياثرون إنهما نزل أهل الجنة فيشبعون من زائد كبد الحوت ورأس الثور, وأخبرت أن عبد الله بن سلام سأل النبى ـ ص ـ علام الحوت قال على ماء أسود وما أخذ منه الحوت إلا كما أخذ حوت من حيتانكم من بحر من هذه البحار, وحدثت أن إبليس تغلغل إلى الحوت نفسه فعظم له نفسه وقال: ليس خلق بأعظم منك غنى ولا أقوى, فوجد الحوت نفسه فتحرك فمنه تكون الزلزلة إذا تحرك فبعث الله حوتًا صغيرًا فأسكنه فى أذنه فإذا ذهب يتحرك تحرك الذى فى أذنه فسكن. [ تفسير ابن جريج: جمع وتحقيق على حسن عبد الغنى ـ ص 333 ـ الطبعة الأولى 1413 هـ / 1992 م ـ مكتبة التراث الإسلامى ـ القاهرة ].



فهنا تجلى بوضوح شديد الأفق المعرفى ( الابستمولوجى ) للمفسّر ونضحت ثقافته عل ما خطه قلمه وتبدت معطيات بيئته وما حفل به مجتمعه من أساطير.



ونذكر أنه فى ذياك الوقت وجد قصاصون فى المساجد والتجمعات الشعبية درجوا على الخوض فى كافة المجالات الدينية وأخصها التى تصلح مجالاً للتهويلات والخوارق والمدهشات مثل ما حفل به هذا النص المعجب. ومن أغزر الأخبار دلالة أن الخليفة الثانى عمر بن الخطاب العدوىّ شجّع اولئك القصاصين ـ خاصة فى البلاد التى داسوها بسنابك خيولهم المباركة واستعمروها ونهبوا خيراتها بهدف التمكين للدين واللغة اللذين حملوهما للأراضى المغزوة التعيسة.



ومن الطريف أن محقق الكتاب, وهو كما سطر فى المقدمة عضو فى هيئة التدريس فى كلية جامعية, لم يعقب على هذا النص المدهش ولو بجملة واحدة أو شبه جملة.



وحراس ( العروة الوثقى ) من مؤسسة شئون التقديس يجيزون هذا النص وأمثاله, فى حين أنهم ينادون بمصادرة الآراء أوالأفكار أو المعطيات التى تهدى تجديداً للفكر الدينى الإسلامى وتنويرًا وتثويرًا.



ولكى لا نطيل على القارئ نكتفى بهذا النص, فهناك العشرات المشابهة التى تطفح بالأسطورة واللاعقلانية والخرافة فى التفاسير التراثية خاصة ما يسمى الإسرائيليات عند تفسير الآيات الكريمة التى تتناول القصص الواردة فى العهد القديم الذى يُقال عن مجازًا التوراة وكثير منها نقلها مصنفوها أو أوردوها عن عدد من مشاهير الصحابة وفى مقدمتهم عبدالله بن العباس وعبدالله بن عمرو ين العاص وأبو هريرة وغيرهم.



حقيقة أن المفسرين المحدثين أو المعاصرين تجنبوا ما استطاعوا الإسرائيليات والنوص المدهشة كالذى أتحفنا به ابن جريج ولكن فى نظرنا هذا المسلك لايغير من الأمر: إذ ثبوت " الإسرائيليات" و " المعجبات" فى أى تفسير من التفسيرات التراثية يكشف بدون لبس وبغير غموض عن المستوى الثقافى للمفسر الذى رقمها فى مؤلفه, ويوضح الرتبة الحضارية للمجتمع الذى شب فيه والبعد المعرفى للبيئة التى نشأ فيها. وبالتالى من الميسور عليه ( على المفسر الحديث / المعاصر ) أن يفطن إلى أن التعويل على ذياك المفسر والإتكاء على أطروحاته خطأ منهجى تمامًا كالطبيب المعاصر الذى يداوى مرضاه بالسنا والسنوت وحبة البركة والفصد والحجامة والرقى .... إلخ.



هذه واحدة.





[ 6 ]
تأثير كتب التراث على القارئ


أما الأخرى الأوعر والأدهى والأنكى فهى:-

إيهام القارئ أن هذه الخزعبلات والشعبذات هى عين ما جاء به القرآن الكريم وما هدف إليه وما تغياه.



ولعل من نافلة القول أن نسطر أنه لاتوجد إساءة له أشد, إذ هو منها برئ براءة الذئب من دم الفتى الحليوة يوسف بن بعقوب, لأنها تقيم بين القارئ وبين المعطيات الصحيحة للذكر الحكيم سدًا منيعًا, وتحول دون فهمه إياها على الوجه السديد وتمنح الطروحات الزيوف سندًا مقدسًا مما يشبع الخرافات والجهل لديه وينفحه مناعة ضد قبول العلم وحصانة ضد أعمال العقل وملكة ـ إن صح هذا اللفظ ـ العيش فى خضم رمال البداوة وهضاب الجهالة وكثبان التخلف.



ونضع فى حجر القارئ علة أخرى لِخَنَس المفسر المعاصر عن النص الأصلى وهرولته إلى التفاسير التراثية يشرب منها عَلَلا بعد نهل بل يَعُبّ منها حتى يتضلع:

الكسل العقلى والإسترخاء الفكرى والبلادة الذهنية وجِماهعا متوافقة تمامًا مع حالة التردى الراهنة التى تضرب الشعوب الإسلامية عربية أو أعجمية, فباستقراء تاريخ الفكر الإسلامى نافى أنه فى عصور الإنحطاط يختفى الإبداع والإختراع والإبتكار ويشيع فيه التكرار والإجترار والإتباع.



وهو بالفعل ما حدث منذ أن بدأ إنكسار الحضارة الإسلامية وهبوط خطها البيانى با وانحداره بشدة, ونستطيع أن نذكر, مع قدر غير قليل من التجاوز, أنه طفق يتحقق منذ القرن السابع الهجرى, إذ تحول التأليف إلى تصنيف وتجميع وتوليف .... إلخ. وأطلت الرؤوس الشوهاء للحواشى والتعليقات والملخصات والشروح.... إلخ.



ومن ثم فإنه من المؤتلف لهذه السُنَّة الإجتماعية أنه لم يظهر فيلسوف بعد ابن رشد وتوارى فى الظل المجتهد المطلق بعد أئمة المذاهب الأربعة ومن لحق بهم إبان قرنين من الفقهاء ولم يبزغ فى سماء علم الكلام نجم ساطع وقمة شامخة كواصل بن عطاء والجبائيين والجاحظ والنظام, ولم نر شاعرًا مفلقًا مثل أبى تمام والبحترى وجرير والأخطل وبشار بن برد وأبى علاء المعرى.



أما فى نطاق المادة المبحوثة فقد إنتهى زمن المفسرين الأكابر: مقاتل بن سليمان والطبرى والقرطبى والرازى والزمخشرى والبيضاوى وابن كثير .... إلخ.



ثم نرجع لسياقة الدراسة: إذن إتخاذ المفسر المعاصر التفاسير التراثية أو السلفية عكازًا له مسألة طبيعية تناسب ولا تبايِن و تأتلف ولا تغاير وتوائم ولا تتنافر مع التخلف الحالى الذى تعانيه المجتمعات الإسلامية, إذ تصل نسبة الأمية فى العديد من دولها إلى أكثر من سبعين فى المائة, هذا عن الأمية الأبجدية, أما عن الأمية الثقافية فحدث ولا حرج, ويعيش شطر كبير من شعوبها تحت خط الفقر, ويكفى أن كل أربعة من عشة أشخاص فى مصر على ذات الشاكلة, وأن سكان العشوائيات فيها يجاوزون الإثنى عشر مليونًا.



ومصر تعد من الذؤابة العليا فى الدول العربية فما بالك بالتى تعدن فى مؤخرتها أو مقعدها أو عجيزتها !!.



إذن من الناحية العملية يستحيل أن تبرز التفسيرات الحديثة المعاصرة بهيئة منافرة لما تبدو بها الآن.



فالذين دبجوها هم قطعة من نسيج مجتمعاتهم المتهرئة المتردية فى وهاد التأخر والتبدى والتوحش.



ومن جانب آخر إذا إفترضنا جدلاً أن المفسر الحديث المعاصر أبدع تفسيرًا يمتاز بالإستنارة ويتسم بالعقلانية وتفوح فى جنباته روائح التقدمية, فلمن يقدمه؟, ومن يقبل على مطالعته؟.



إن البعد عن التفاسير التقليدية أو التراثية للقرآن العظيم المدون أو المخطوط أو المكتوب والمعروف بـ " مصحف عثمان" والتوجه نحو القرآن المجيد المتلو والمقروء والذى حفظه الصحابة فى صدورهم وهم الذين عرفوا بـ " القراء" والذين استشهد منهم فى اليمامة فى معركة حديقة الموت ضد بنى حنيفة المئات, وهو الأمر الذى أفزع العدوىّ عمر بن الخطاب فأشار على التيمىّ ابن أبى قحافة بجمع القرآن وتدوينه ـ عبء ثقيل على المفسر المعاصر ولا طاقة له به لأنه يحتاج لإى البدء إلى:

أفق وسيع, وقريحة متوقدة, وبصيرة نافذة, وعقلية متفتحة, وفكر جسور. كما يتطلب صبر أيوب على البحث والدراسة والنقيب والتنقير فى المصادر الأصلية فى شتى فروع العلوم الدينينة, وهذه التزامات شاقة مجهدة لاطاقة له بها, هذا إن أحسنا الظن به وسلمنا أنه تمتع بالملكات العقلية الى ألمحنا إليها فى ناصية هذه الفقرة, بقيت فقرتان رشيقتان نختم بهما هذه الفرشة: بيد أن الإضطلاع بهذه المهمة الخطيرة يكافئ ما يبذل فى سبيل تحقيقها.



الأولى: إن المفسر المعاصر / الحديث عندما إختار النقل أو الإقتباس من موسوعات ومؤلفات وكتب التفسير التراثية السلفية, علاوة على أنه آثر السلامة وفضل العافية وإنحاز لناحية الدعة فإن احتمالاً قائمًا لا نستبعده نحن, وهو أنه غير مؤهل لأن يدرك هو أن الكتب التى جاء بها البطاركة الكمل ـ لا القرآن وحده ـ ليست محتوى لغويًا فحسب, بل هى مجموعة من المحتويات منها القصصى, والإجتماعى, والسياسى, والعسكرى والحربى, والتعليمى, والفقهى ... إلخ.



وأنه مكتوب بلغة عالية وهو, وهذا خاص بالقرآن, إذ دخل فى علاقة جدلية فى شطر وسيع منه ـ مع الواقع المعاش والحياة اليومية لمن تلقوه أو استمعوا إليه ـ فإن هذه اللغة العالية هى التى أتاحت وما زالت تتيح وسوف تستمر فى نفح الفرصة أو الفرص لإعادة إنتاج خطاب آخر على هامشه وهو خطاب تفسيره وتأويله, ورقمنا كلمة " على هامشه" لأنه جزمًا وحنمًا وضرورة انتصاب فارق واضح بين النص الأصلى وهو الذكر الحكيم وبين التفسير.



ومن هنا فإن النص المقدس أو الأصلى ثابت مطلق لايتغير فيه حرف واحد, أما الخطاب الثانى , وهو التفسير, فهو نسبى متغير متحرك, لأنه يتأثر لا بالظروف الذاتية لمبدعه مثل ثقافته ومنحاه الفكرى وأيديولوجيته .... إلخ, بل وبالأحوال العامة لمجتمعه وبيئته من كافة أقطارها: السياسية, والإجتماعية, والإقتصادية, فجميعها بغير إستثناء تترك بصمات أصابعها على المنتج الثقافى البشرى وهو التفسير, وهذا علة إختلاف التفاسير على مر العصور, وهنا مكمن الخطأ المنهجى الذى يرتكبه المفسر المعاصر عندما يهجم على التفاسير القديمة وينقل منها إما بفصها ونصها وإما بمعناها.



الأخرى: هى تحليل سريع لخبر ثابت فى كتب تأريخ القرآن خاصة ومؤلفات التاريخ الإسلامى العام والسيرة والتفسير ...إلخ, وهو أن العدوىّ عمر بن الخطاب أصابه الجزع وأحس بالإضطراب عندما بلغه نبأ قتل مئات من القراء أى حفظة القرآن فى حديقة الموت على يد جنود مسيلمة الكذاب زعيم وقائد بنى حنيفة.



ما وجه هَلَع العدوىّ بن الخطاب لموت أولئك الحَفَظة وهو يعلم أن القرآن مكتوب على العظام وسعف النخيل والأقتاب والأكتاف؟ .... ولماذا إقترح جمع القرآن وكتابته وهو يعرف أنه, فضلاً عن ذلك, محفوظ فى صدور المئات فى قرية يثرب وغيرها وأنه إن استشهد من الحفاظ مئات فقد بقى منهم أضعاف هذا العدد, إذ إن حفظ القرآن شكل لديهم منقبة يفخر المسلم بها, حتى النسوة فعلنه؟.



وما هو السبب فى أن أبا بكر تردد فى قبول الإقتراح, وأن زيد بن ثابت اليثربى قاومه باستماتة ولم يرضخ إلا بعد أن ضغط عليه التيمىّ والعدوىّ؟.



لعل الإجابة على جماع هذه التساؤلات هى إعتقاد أبى بكر وزيد بن ثابت أنه من الأصلح بقاء القرآن العظيم محفوظاً فى الصدور, حتى يستمر على نضارته وبكارته وطزاجته وانفتاحه.



ويؤيد هذه الفكرة أن " سيد بنى آدم" لم يأمر بتدوينه ونقلت إلينا كتب سيرته الزكية أنه دأب على سماعه من عدد من الصحابة مشافهة ومباشرة, ولا يوجد خبر فرد أنه كلف واحدًا منهم بأن يتلوه عليه من تلك الأدوات العجيبة التى كتب عليها!.



إذن المصحف المقروء أو المتلو الذى استودعه الصحاب صدورهم واختزنوه فى ذاكرتهم ووعوه فى قلوبهم وحده هو الذي تسيد وهيمن طوال الثلاثة والعشرين عامًا, منذ واقعة مغارة حراء الخارقة حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى راضيًا مرضيًا, ثم شطرًا من خلافة ابن أبى قحافة التيمىّ ثم دون فى صحائف وسلم إلى حفصة بنت عمر إحدى الزوجات التسع لـ " أول من تنشق عنه الأرض", ومع ذلك ظلت الهيمنة والسيادة للحفظ والتلاوة والقراءة الشفوية باقى أيام أبى بكر التيمىّ ثم طوال عهد العدوىّ عمر بن الخطاب وشطرًأ من حكم الأموىّ عثمان, فإذا حسبت هذه المدد وضممتها إلى بعض بلغت أربعين عامًا, وبداهة لاينال من سيطرة القرآن الكريم المحفوظ فى الصدور, وجود مصاحف خاصة لدى بعض كبار الصحابة على رأسهم: أبو الحسنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه وعبد الله بن مسعود وأُبَىّ وأبو موسى الأشعرى, ومن النسون التيمية عائشة, لأن هذه حالات استثنائية والإستثناء لايقاس عليه.



وبعد هذه الجملة الإعتراضية نؤوب إلى السياق:

علام يدل تسيد المصحف المتلو أو المقروء أو المحفوظ فى صدورهم رجالاً ونسوة لمدة نيفت على الأربعين عامًا إن فى قرية القداسة بكة أو فى قرية بنى قيلة, ويمكن أن نضيف إليهما قرية بنى ثقيف" الطائف" , مع الوضع فى الإعتبار أنها " مدة الأربعين عامًا" ليست عادية, لأنها هى التى شهدت الميلاد وعاينت التدشين وحظيت بالإنبثاق وسعدت بالظهور, وتمتعت بالشروق, والذين عاشوها شكلوا طليعة التلقى, وجماعة ميزها بالبكارة ووسمها بالنضارة وحلى صدرها بالطزاجة وزين جيدها بالانفتاح وهى بكل المقاييس حقبة مدهشة معجبة؟.



وتبعًا لذلك فإن القرآن الكريم الذى هيمن عليها ـ ونكرر أنه لايباين القرآن المجيد الذى تم تدوينه إبان حكم الأموى عثمان بن عفان فى مصحف واحد ـ هو الذى يمنح دفعة قوية للتعرف عليه والريض فى جنباته المورقة وتنسم روائحه العطرة وتذوق طروحاته الشهية.



ورأينا أن الطريق إلى ذلك هو التنقير عن أسباب النزول وعن الملابسات التى واكبت ظهور الآيات والوقائع التى حايثت شروق النصوص, لأنها من جانب هى ذاتها التى دفعت الصحاب إلى حفظها ووعيها ودسّها فى الذاكرة, لأن البدوى الأمى يعتمد عليها بالكلية بخلاف المتحضر والمتمدين, ومن ناحية أخرى لها أهمية بالغة وخطر شديد فى الكشف عن تأريخ القرآن العظيم, والإبانة عن مساره وإلقاء أضواء كواشف على خطواته.



أما الناحية الثالثة وهى مسك الختام: رفع الستار عن ذلك المجتمع وتلك البيئة فى جميع أقطارها وهو شأن يفوق فى نفاسته ويبز فى ثمانته كل ما سبقه, لأن التعرف على أحوال المجتمع والبيئة هو الرافعة اليتيمة التى لاضروب لها لاستخلاص القيم واستقطار المعانى واستخراج الدلالات التى هى ـ دون غيرها ـ المعوّل عليها فى النهوض من الكبوة والإنفلات من الوهدة والإنعتاق من القيود التى تكبِّل مجتمعنا وتمنعه من المضىّ قدمًا كيما يلحق بالذين سبقوه فى مضمار الحضارة.





***************************



مقدمة


[ 1 ]
القرآن المقروء والمتلو


هل القرآن المقروء والمتلو الذى حفظه الصحابة فى صدورهم غير القرآن المدون فى المصحف الذى كتب فى عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان الأموىّ؟.



بداهة: الإجابة لا, بصورة جازمة لاتدع مجالاً لذرة من لبس ونعوذ بالله تعالى أن يفهم القارئ مما سطرناه فى الفرشة أنن عنينا أنهما قرآنان ونبرأ من مَن يدعيه, إذ هو محض زور وبهتان بل وأكثر.



كل ما فى الأمر أن القرآن المقروء والمتلو والمحفوظ فى صدور أول من تلقاه من " سيد بنى آدم " وهم صحابته اتسم بالحركة والديناميكية, لأنه ارتبط بحيواتهم ومشاغل معاشهم وشئون دنياهم, وقدم حلولاً نواجع لمشكلاتهم, وإجابات مستفيضة على تساؤلاتهم وردودًأ بواهر لإستفساراتهم, وهداهم إلى الصواب فى ما قطع عليهم مسيرتهم من عقبات كأداء أو عوارض غوامض فى كل منحى, بل إن الدائرة إتسعت بصورة لم تخطر لهم على بال, إذ شملت الخصوصيات الدقيقة مثل النكاح, والطلاق, والظهار, واللعان, ووقت معافسة النِسون فى الشهر الفضيل, وهجرهن, وضربهن ضربًا غير مبرّح, ومعملة الضرائر والمساواة والعدل, وحدد بدقة مكان حرثهن, وكيفية الإنفاق عليهن, ومن يدخل من الخدم والأتباع بيوت أسيادهم ووقته, إلى ما يماثلها أو ما هو دونها من الدقائق والتفصيلات الرفائع.



*******



أما فى العموميات فقد غطت مجالات الحرب والسلام والهدنة والغنائم والأنفال والأسارى والقتال والزحف والمعاهدات والعفو عمن فرّ من العدو من الصحابة فى غزوة أو أكثر وولاهم دبره ومعاملة أهل الكتاب وأهل النفاق والشقاق وأعراب الأشد كفرًا ونفاقًا .. إلخ.



حتى أن المرء ليعتريه الدهش ويعلوه التعجب ويتملكه الإنبهار من تلك العلاقة الجدلية الحميمة التى نشأت واستمرت أقل قليلاً من ربعقرن بين القرآن المتلو وبين أحوال المجتمعين المكى واليثربى والأفراد الفاعلين فى كليهما, فقد تنولهما بشمولية فاذة ونسطر ونحن مطمئنون أنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة, وفى نطاق الأفراد لم يقتصر على تبع " أول من تنشق عنه الأرض" بل تعرض للمشركين ورموزهم وللمنافقين وصناديدهم وللأعراب وزعماءهم ولأهل الكتاب اليهود وأحبارهم والنصارى وقسسهم وللأصنام وسدنتها وعابديها..





[ 2 ]
تقصير القرآن فى العقيدة والعبادة


بداهة لم نعرّج على ما طرحه النبأ العظيم فى ناحيتى العقيدة والعبادة, لأن هذين الجانبين هما ميدانه الأصيل الرئيسى, فإذا لم يأت بهما فبأى شئ يجئ؟.



بيد أن الذى يلفت الأنظار بشدة ويثير الإنتباه بقوة ثم يدعو للتفكير ويتطلب التأمل ويستدعى مراجعة النظر, هو أن القرآن المجيد فى دائرة العبادة حصراً وحديدًا أجمل ولم يُفصل وأوجز ولم يُطل وإختصر ولم يُطنب, إذ يستحيل عليك أن تعرف منه كيف تؤدى الصلاة, وعلام تُزكى, وما مقدار الزكاة فى كلٍ؟, وما هى مناسك الحج؟.



ومن حق المسلم أن يسأل ـ وهذا على سبيل المثال ـ أيهما أشد خطرًا وأكثر أهمية, الصلاة أم اللعان؟.



ففى الذكر الحكيم ليس ثمة بيان عن أوقاتها أو عدد ركعاتها أو كيفية إقامتها, فى حين أن الملاعنة سيقت فى شأنها تفصيلات دقيقة.



والتقليديون أو التراثيون يجيبون على هذا التساؤل الجوهرى أن القرآن أوكل مهمة التبيين فى الصلاة والزكاة والحج .. إلى " أول شافع وأول مشفع", بيد أنه رد غير مقنع, إذ من الميسور التعقيب عليه بالآتى:

إذن لماذا لم يوكله فى مسألة اللعان وهى أهون شأنًا وادنى وأخفض درجة وأدنى مكانة بما لايقاس من الصلاة التى هى عمود الدين ومن تركها فقد هدم الدين؟!!.



*******



إن القرآن العظيم باتفاق السلف والخلف منزه عن المطاعن إذن فلأى علة اختط هذا المنهج الذى يبدو للنظرة العجلى والتفكير الفطير والتدبر الناقص أنه محير أو مربك أو مشكل؟.



وقفت عند هذه النقطة من البحث مليًا وتمعنت فى قوامها طويلاً وتفرست فى خوافيها زمنًا , وأخيراً وفقنى الله وله المنة إلى الحل الصحيح:

نصوص الذكر الحكيم أى سوره وآياته انبثقت فى حنايا المجتمعين المكى واليثربى ومن ثم حملت همومهما وناءت بمعاناتهما فى كل ضروب الحياة كما أوضحنا, ومن هنا جاءت مُنجمة أو نجومًا أو متفرقة كلما قبت ( = من القبة) نازلة ( = واقعة أو حادثة ) قابلتها آية أو عدد من الآيات التى تفك عقدتها, وقد حدث أن المخاطب أو المخاطبين بالآية أو بضع الآيات إذا شعروا بأنها لم تفك من العقدة إلا شطرًا منها توجهوا إلى ( قطب الأقطاب ) وشرحوا له الموقف فأحيانًا فورًا وأخرى على التراخى تنبثق آية أو آيات تداوى ما بقى من المعضلة وتزيل ما اعترى نفس الذى تشكى له وفى أوقات أخرى يلمس هو بذاته الشريفة القلق الذى ضرب تبعه أو أصحابه دون تفوه منهم وهنا تبرز آية أو آيات شافية لكل هم, مزيلة لكل غم.



*******



هذا هو التبيين السليم لعبارة إن القرآن المجيد جاء منجمًا وهو بدوره ما يكشف لنا الغطاء ويرفع لنا الستار ويزيح عنا العتمة فى معرفة السر وراء استمرار إنبعاث سور وآيات القرآن الحكيم لمدة ثلاثة وعشرين عامًا.



فى حين أن موسى صعد إلى احد جبال سيناء فأعطاه ربه ( لوحى الشريعة , لوحى حجر مكتوبين بإصبع الله ). [ الأصحاح الحادى والثلاثون من سفر الخروج ].



أى أن موسى أخذ من معبوده كتابه " عبارة عن لوحين" تفضل بنقشهما بإصبعه فى لحظة, أى لاتنجيم ولا تفريق, ومن هنا فقد صَفُر هذان اللوحان من المشاغل الحياتية والهموم المعاشية واقتصرا على ركنى العقيدة: " لاتسجد لإله آخر لأن الرب غيور إله غيور هو", والعبادة وطقوسها المتشابكة وقد حفلت بتفصيلات فى غاية التعقد ولولا ضيق المجال وأننا سنبتعد عن جوهر الدراسة لسطرنا للقارئ طرفًا ليطلع على تلك الأمشاج المعجبة.



غاية ما يعنينا فى هذه الخصوصية أن توراة موسى, إن صح أن ذينك اللوحين هما هى أو هى هما, انحصرت فى الركيزتين الرئيسيتين لأى ديانة ونعنى: العقيدة والعبادة, ولأنها هبطت من أعلى فقد خلت من شئون الدنيا ومشاكل الحياة ومغالبات العيش, ونذكر القارئ بأننا نتحدث عن اللوحين اللذين تفضل رب موسى بنفحهما إياه بعد أن تكرم برقمهما بإصبعه.



أما القرآن العظيم فلم يظهر مرة واحدة كاللوحين / التوراة, بل ظل يتنزل لما يقرب من ربع قرن من الزمان, والحق أنها حقبة مبهرة مضيئة لم تنل حظها من البحث والتنقير ومن ثم تشيأ فيه عنصر العناية المكثفة بالأفراد والجماعات بآيات بارزة ملموسة لا تخفى على ذى لب ولا تستبهم على صاحب بصيرة ولا تستشكل على من لديه ذرة من حجة, بل لا نغدو مغالين أنه ( = عنصر الاهتمام بالممارسات الحياتية ) يكاد يلمس باليد.



وبمفهوم المخالفة فإن حيز العقيدة والعبادة فى ( الشفاء الكريم ) برز محدودًا مع روعته وعظمته وأصالته.



*******



هذا هو الفرقان بين التوراة والقرآن, فالأولى منهما ذكر صاحبها أو متلقيها انها انحدرت إليه من أعلى ونقرها بإصبعه ربه ومعبوده وتسلمها هو منه فى برهة يسيرة أو ربما امحة خاطفة, لأن هذه اللحظات الباهرة لاتقاس بالزمان المعروف لدى الناس بالزمن الوجودى.



أما الآخر, أى الذكر الحكيم, " فى الترتيب الزمنى والتحقيب التاريخى أما فى المرتبة فهو الأول والمهيمن", فقد صاحب بنى آدم فى حلهم وترحالهم, فى سفرهم وعدنهم, فى ظنعهم وإقامتهم, فى فرحهم وترحهم, فى حربهم وسلمهم, فى عداواتهم وصداقتهم, فى بيعهم وشرائهم, ورهنهم, فى فقرهم وغناهم, داخل بيوتهم وخارجها, فى علاقاتهم العائلية وأحوالهم الشخصية, فى أفعالهم الحميدة وممارساتهم الذميمة, فى أنسابهم وقراباتهم, ومع عبدائهم وإمائهم وحرائرهم, فى ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم مع ىبائهم وأولادهم وجيرانهم وأصدقائهم وحولهم, مع السلطة التى تعلوهم والمستوى الخفيض عنهم, فى أسواقهم ومتاجرهم ... إلخ.



فى كل هذه المناحى الكثيرة التى تحصى بالعشرات لم تغفل عيناه عنهم:

أهدى لكل معضلة حلاً ولكل سؤال جوابًا, ولكل نازلة مخرجًا, ولكل حدث حديثًا, بل أحسن حديث, ولكل همّ فرجًا, ولكل ضائقة توسعة, ولكل عقدة فكًا, ولكل مغلاق مفتاحًا ولكل مسكوك منفذًا, ولكل جدب غيثًا ولكل إمحال خصبًا .... إلخ.



وترتيبًا على جماعة تفرشحت فيه مساحة النصوص التى غطت مغالبات الدنيا ومعالجات العيش ومراوضات الحياة.



وهى ميزة رائعة بخاصية فريدة, ومنقبة حميدة, وصفة شامخة تفرد بها القرآن العظيم عن سائر الكتب المقدسة المعزوة إلى الديانتين الإبراهيميتين اللتين تقدمتاه تاريجيًا لا منزلة فهو وحده ـ وهذه كلمة حق تقال ـ من بينها صاحب المقام المحمود والدرجة الرفيعة والمرتبة المنفية.





[ 3 ]
تأثير المجتمع فى القرآن


وجه تميز الذكر الحكيم هو عنايته الفائقة واهتمامه الشامل بالناس ورعايته المضاعفة إياهم, ولقد أدرك الصحابة ذلك وفقهوه, ومن هنا تنبع الحقيقة التى تؤكد أنهم أكثر المسلمين فهما له, وأعمقهم علمًا بدخائله ومخارجه, وأغزرهم معرفة بدقائقه, وأوسعهم إحاطة بأسرار تراكيبه, وأحسنهم دراية بمنهجه, وأنفذهم بصيرة بأسلوبه, وأعمقهم فطانة بطرائقه فى الخطاب, وأصدقهم قريحة فى الخبرة بمسالكه, وأحَدّهم بصرًا فى الإهتداء إلى دروبه .. إلخ.



ويُرجع التراثيون والأتباعيون ذلك إلى سليقتهم العربية الفطرية, ويردد الخلف عن السلف هذه العلة دون تفكير وبغير إعمال عقل, فى حين أنها ( العلة ) وإن صحت فإنها مجزوءة منقوصة, فهناك من بين الصحابة من لا ينطبق عليه هذا النعت, إذ عرف عن بعضهم لُكنة فى الكلام وحُسبة فى اللسان و عُجمه فى التعبير, منهم على سبيل المثال صهيب الرومى, وسلمان الفارسى.



كما وجد فى صفوفهم من نشأ فى قبائل بدوية فى لهجاتها حوشية وخشونة وبداوة وجفاوة, وأخبرنا القرآن الحميد أن الأعراب أكثرهم لايعقلون إبان قَصّه عن أعراب بنى تميم الذين نادوا ( سيد العرب والعجم ) من وراء الحجرات, وبلغت بهم السفاهة والحماقة أنهم طلبوا منافرته, والذى لايعقل لايبين إنما يصدر عنه صخب وضجيج وجلبة تصم الآذان.



إذن ليس الشأن منحصرًا فى تذوق فصاحة القرآن وبلاغته ونصاعة أسلوبه هذه الصفات التى لايمارى فيها أحد وأنها التى حدت بالصحابة إلى استيعابه والإلمام به لأن القضية لاتخص اللغة وحدها.



وإذا صدق بالنسبة لمعلقة أو قصيدة لإمرئ القيس أو النابغة أو زهير بن أبى سلمى أو حتى لحسان بن ثابت أو الخنساء, فإنه من الركاكة والفهاهة والعى سحب هذا الحكم على القرآن العظيم.



*******



إن الصحابة عندما ينسب إلى جانبهم أعمق المسلمين قاطبة فهمًا واستيعابًا وفقهًا وإدراكًا وعلمًا بالذكر الحكيم, خاصة الكوكبة اللامعة التى أحاطت بـ " أول من يفيق من الصعقة " والذين درج المسلمون سلفهم وخلفهم على وصفهم بعلماء الصحابة, إنما مرده ومرجعه فى نظرنا أنهم وقد رافقوا " الأمين المأمون" فى غالبية أوقاته فطنوا إلى المرونة التى حايثت ظهور الآيات الكريمة والأسباب والمناسبات التى واكبتها, حتى إن بعضهم وأشهرهم فى هذا المجال العدوىّ عمر بن الخطاب, الذى أصبح فيما بعد خليفة, دأب على نطق بعض عبارات, فإذا بعد قليل يتلو " الحبيب المصطفى" آية أو آيات تتضمنها أو يشير برأى فى موقف معين فيقرأ " مقدم ولد عدنان" آية أو آيات تقننه.



وشارك بعض الصحابة عمر فى هذا المنحى ـ كما سوف يتموضع فى الفصول القوادم ـ إنما لَحِق " هذا البعض" به وجاء مصليًا " تاليًا أو لاحقًا" للعدوىّ.



إذن فقه الصحابة, أو إذا شئنا التعيين علماؤهم, وصلة القرآن العظيم بالمجتمع ووجود علاقة تبادلية مع ظروفه تستنفر حلولاً أو فتاوى أو استشارات أو علمًا أو معرفة أو آراء ـ يقبل الذكر الحكيم إما سريعًا كما فى مسألة الظهار وإما بعد برهة بما يقر العيون ويثلج الصدور ويسر القلوب .........إلخ.



وبداهة تكرر عشرات المرات أمام عيون الصحبة اللوذعية الفطنة فترسب فى أعماق يقينهم تحقق وشيجة ملتبكة بين نوازل المجتمع وبين الآيات الكريمة وأنه يمكن أن يدعى بغير تجاوز أن الأولى مقتضيات حتمية لإعلان الأخرى أو أنهما أشبه بالإيجاب والقبول إذا إستعرنا لغة الفقه فى نطاق العقود.



وهذا التفطن يفسر لنا ما فاه به إثبات علماء الصحابة وعلى الذؤابة رأسهم وسيدهم أبو الحسنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه , أنه يعلم سبب أو مناسبة كل سورة وآية ومتى وأين نزلت ..؟.



أما عائشة بنت أبى بكر بن أبى قحافة, وهى معدودة منهم, فقد صرحت بوجود الوثاق الحوارى بين القرآن الكريم وبين موقف حساس, وهو إقدام إمرأة أو نسوة على هبة نفسها أو أنفسهن لـ " المنصور بالرعب قرابة شهر" ولعل الذى وزّ التيمية على المشافهة به علتان:

الأولى: حداثة سنها إذ إنها عندما انتقل " سيد الخلق" إلى الرفيق الأعلى راضيًا مرضيًا لم تجاوز الثامنة عشرة من عمرها.

الأخرى: أن الموقفحزبها وضيق صدرها وأثار حفيظتها, لأنه سوف يضيف إلى ضرائرها الثمانى ضرة أو ضرائر وهى ليست فى حاجة إلى مزيد, ومن ثم أفلتت منها تلك العبارات التى رقمنا فى كتابات لنا سوابق أنه لايجرؤ مسلم غيرها صحابى أو غير صحابى على التلفظ بها.



وأيا هو الأمر فالذى لامشاحة فيه أن تصريح ابنة أبى بكر غنى بالدلالات ملئ بالمعطيات حافل بالمعانى وفى ذروة سنامها تأكيد الحبل المتين الذى يربط بين القرآن الحكيم وبين ما تتابع فى حنايا أبطن تجمعاتهم من حوادث وأحداث.



*******



لا يفهم من هذا الطرح أن كل ما انتصب فى سور القرآن العظيم استجابة لموجبات فعاليات المجتمعين المكى واليثربى وما اضطرب فى أحشائهما, فهذا بالقطع غير دقيق بالمرة إنما الذى نرقمه أن شطرًا وسيعًا منه هيمن على تلك المجالى المركبة.



ولا نلقى أصدق من " أسباب النزول" دليلاً على ما نذهب إليه, فهى محيط عميق يموج بأشتات من الأخبار تلمس فيها باليد قبل العين استقرار الصلة بين نصوص ( الأمر / البشرى = القرآن ) ومن توجه إليهم.



وفى ذات الوقت فإنه عين ما قصدناه بالقرآن المقروء والمتلو الذى خفظته صدور الصحاب المتصف بالجدة والإبداع والطرافة لأنه داوى أسقامًا عملية ورفع حواجز واقعية وأزال عقبات معاشية ويسر صعوبات حياتية وقدم لها الحلول النواجع.



*******



وليس مدلوله أن التى لاءمت أو ناسبت مفتتح القرن الأول الهجرى تصلح للمستجدات المدهشة لفواتح القرن الخامس عشر الهجرى أو أواسطه أو خواتمه إنما الذى نتغياه معُطيين:

الأول: أن القرآن العظيم نص مفتوح ومحاولة تسييجه ضررها أضعاف نفعها ويكفى أنه تفضل بدور فى غاية الروعة وهو الإرتباط العضوى بالمجتمع الذى انبثق بين جنباته سواء فى بكة أو يثرب.

فعلى من يود تفسيره مجتهدًا أو غير متوانٍ أن يؤمه مباشرة خاصة ما وصفناه بالقرآن المقروء والمتلو الذى حفظ فى صدور الصحابة الذى أبرزت قسماته " أسباب النزول" أما الإتكاء على التفاسير العتيقة, مع بالغ التقدير لها, فإنه يجافى المنهج الموضوعى العلمى فى التفسير.

الآخر: أن " أسباب النزول" وما كشفت عنه بجسارة من حلول وآراء وفتاوى واستشارات ومعارف وعلوم واكبت الآيات التى تُليت زمنها فلا يتطلب إنزالها بحرفياتها على مستجدات هذا القرن الحالى إنما الهدف هو الإستهداء فحسب بالمبادئ أو القيم التى نستطيع استقطارها منها, لأن العبرة بالمعانى لا بالمبانى. وإذ إنها كما ذكرنا مقطع كبير من القرآن المقروء أو المتلو فإنها أولى بالدراسة للحصول على مفاتيح التفسير المستنير للقرآن العظيم.



*******



لم يقتصر القرآن الكريم على الإهتمام بالمجتمعين المكى واليثربى وأفراد كل منها سواء من الذكور أو الإناث بل إنه أولى " سيد الناس ومقدم العرب" رعاية تميزت بالكثافة والتركيز البالغين فقد تناول كافة شئونه الخاصة منها بل شديدة الخصوصية:



فعلى سبيل المثال عندما تتفق عليه زوجتان من زوجاته التسع أو يتعاقدن جميعهن على طلب زيادة النفقة عليهن وشيئًا من التوسعة أو تكتشف إحداهن أنه مسّ جاريته على فرشها وفى حجرتها فهنا تظهر آية أو آيات كريمة تزيل عنه الغمة.وكذا حُلت معضلة زواجه من السيدة الفئقة الحسن والبهاء التى تزوجها قبله عبده ثم ابنه عن طريق التبنى ثم مولاه, ودرج تقليد راسخ بينهم على تحريم هذا النكاح بورود آية فكّت العقدة وأبطلت ذاك العرف المستقر وسخفته واستهجنته وأحلت زواج الرجل بزوجة ابنه المتبنى حتى ولو دخل بها وعاشرها وبذا حُق لتلك الزوجة الوسيمة القسيمة الفاتنة أن تفخر على سائر نسونه, لأن كلاً منهن زوجها وليها فى حين أنها الوحيدة التى جاء أمر نكاحها فى الذكر الحكيم وبسببه أيضًا تم تحطيم قاعدة صلبة مضت عليها مئات الأعوام وهى تحريم حليلة الإبن بالتبنى.



وفى ليلة عرسها أطال المدعوون إلى الوليمة المكث لديه وهو أمر يقطع بقلة الذوق ويشى بسوء الأدب وينبئ عن الخشونة وينضح بالبداوة, إذ من حق " سيد ولد عدنان" أن يدخل سريعًا على عروسه الوضيئة الجميلة, فانبرى القرآن العظيم وظهرت من آية كريمة عابت على الضيوف الثقلاء لُبثهم غير اللائق وأمرتهم بسرعة الإنصراف.



وتجرأ نفر من المنافقين وبعض رقيقى الإيمانوعدد من المسلمين لاشك فى إسلامهم بيد أن عقولهم خفيفة وأخلاقهم طفسة ونفوسهم معقدة , رموا احب زوجات " المعصوم من الناس" وهى إبان ذاك فى الثالثة عشرة من عمرها بتهمة حقيرة هى منها بريئة كل البراءة وأشاعوا عنها إفكًا وبهتانًا, فتصدى لهم الذكر الحكيم وأعلن براءة الزوجة الحدثة الصغيرة السن وزيف وبطلان أكاذيب السفلة أصحاب الإفك وفرج عن " أبى القاسم" أزمة نفسية قاسية ألمت به.



وفى غزوة أخرى فقدت ذات الزوجة الحبيبة الحديثة العمر عقدها فحبس الأصحاب على إلتماسه مما دعا أباها التيمىّ إلى أن يصيح فى وجهها أنها فى كل سفرة بلاء وعناء على الناس. ونتيجة له تعذر على المسلمين أداء الصلاة لإنعدام الماء فى الموضع القفر وفجأة أقبلت آية قرآنية حلّت العقدة وفكّت الأزمة فأباحت التيمم.



فى سورة غضب أعلن صحابى أنه سوف ينكح ذات الزوجة الشابة بعد وفاة محمد, لأنها فضلاً عن صغر سنها حلوة مُلاحة وتمُت إليه " الصحابى" بقرابة حميمة ورغم أن " الشفيع المشفع" بشره بدخول الجنة إلا أنه أثبت أنه يتمتع بغلظ فى الحس وسماجة فى الشعور وانحطاط فى الأدب إذ لا يُتصور فى رجل متحضر أن يُخبر آخر أنه ما إن يموت حتى يهرول إلى نكاح إمرأته.



ولندع الصحابى الجلف كيما نعود إلى سياقة الدراسة:

إن كلماته الفلوت آذت أحاسيس "رافع لواء الحمد" وآلمت نفسه بيد أن القرآن لم يتركه يعانى المواجع فهلت إحدى آياته الحكيمة تُحرم نكاح زوجاته التسع بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى راضيًا مرضيًا, وتوافقت ( = الآية ) بالكلية مع اللقب الذى تحمله كل منهن وهو " أم المؤمنين" وعلى طول التاريخ لم نقرأ عن شريعة أباحت زواج الأم فضلاً عن أن الطبيعة البشرية السوية تنفر منه وتستقبحه!!!.



أقدمت بعض النسون على هبة أنفسهن لـ" صاحب السيف" لكى تنال شرفًا منيفًا ما بعده رفعة ولتحمل اللقب الباذخ " أم المؤمنين" أنه أصاب زوجاته بقدر من القلق وشئ من الغضب كرد فعل طبيعى, كما أنه سوف ينعكس على تصرفاتهن معه خاصة الوضيئات منهن مثل عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش مما سيصيبه بعنت ومشقة, فأشرقت آيات كريمات وتناولت الأزمة العارضة بما فيه رضاه وإياهن.



قبيل فتح الفتوح" فتح مكة" أرسل" الحبيب المحتبى" عمرو بن أمية الضمرى إلى الحبشة ليخطب له أم حبيبة بنت أبى سفيان, وقد دلت هذه البادرة على حنكة محمد السياسية التى لاضروب لها لأن ابن حرب ابن أمية غدا زعيم مكة وسيدها فبارك الذكر الحكيم هذه الخطوة الذكية واللفتة التى تنم عن فطنة فاذة فى الآية السابعة من سورة الممتحنة:{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة }, نكتفى بهذه الأمثلة الثرّة الدلالة التى سقناها للكشف عن جانب هام من جوانب معطيات الذكر الحكيم فى العناية بالأحوال الشخصية لـ" من سيفه على عاتقه".



*******



كتب الكثيرون, من المستحيل إحصاؤهم, عن إعجاز القرآن سواء من السلف أو الخلف ومن العرب والأعاجم وبغالبية اللغات وتطرقت بحوثهم القيمة لشتى وجوهه ولكن على حد علمنا لم يرقم أحدهم سطرًا فردًا عن هذا المقطع ونعنى به الإهتمام الشديد بالقائد والمجتمع وأفراده الفاعلين فيه وطوائفه المختلفة من كافة الزوايا التى ذكرنا حفنة منها ـ إذ أننا لم نستوفها عن بكرة أبيها ـ ولم يمد باحث منهم قلمه إلى العلاقة الجدلية التى ربطت بآصرة محكمة ألسر اولئك بالآيات الكريمة والتى بنظرنا نفحت القرآن الحميد الحيوية الفائقة والنضارة الدائمة والبكاة الخالدة وجعلت من مَعِينًا دفاقًا لا ينضب ماؤه ولا يغيض تدفقه ولا ينقص عطاؤه.



بهذه الميزة الرائعة والخاصية الفذة والصفة الفريدة هيمن على كتابىّ الديانتين الإبراهيميتين اللتين تقدمتا عليه فى تاريخ الظهور لا فى المكانة أو المنزلة أو المقام؟؟؟.



إن الإلتفات إلى المخاطبين فى جميع أوقاتهم وضروب معائشهم ومختلف مواقفهم, والأخذ بأيديهم إلى الأمثل, وهدايتهم إلى الأصوب, وإرشادهم إلى الأقوم دليل لا يقبل المحاجة وحجة لاترقى لمستواها المجادلة وبرهان لايناله الوهن على أنه الكتاب العرّى عن الشبيه, والعديم عن المثيل, والبعيد عن القرين.



بذات المستوى وفى نفس الدرجة بزغت حياطته بالقائد وشموله بالسهر والحدب عليه وإشعاره بأنه محط الموالاة وتحت مظلة الحفظ وداخل جناح الحراسة وفى بؤبؤ عين الصيانة.



*******



إن كتابىّ الديانتين السابقتين تحدثا عن معجزات البطاركة الأكابر منهم إبراهيم, وموسى, وعيسى بيد أنهما صفرًا صفورًا تامًا " جاءا خليين" من التعريج على أحوالهما وفى مقدمها الخاصة والشخصية, فى حين أن ذلك شكّل معلمًا بارزًا فى الذكر الحكيم بالنسبة إلى من" جعلت له الأرض مسجدًا" وإلى المجتمعين المكى واليثربى.



إن تناول الخوارق يتعلق بالغيبيات والماورائيات والميتافيزيقا أو ما خلف الطبيعة, أما الكلام عن الشئون الحياتية والممارسات المعاشية والأنشطة اليومية, فهو يتصل بوثاقة محكمة بالناس فى مختلف تقلباتهم, وشتان من يقلق من أجل الهُشُوشة والهامشية والطرفية ومن يحصر همته فى القلب والمركز والجوف والمقارنة تغدو مجحفة بين من يصوب نظره إلى العرَض وبين من ينفذ ببصيرته إلى الجوهر.



إن العجائب والمدهشات والمذهلات موقوتة سرعان ما يخبو ضوؤها وتذهب لمعتها ويذبل نورها, فى حين أن المعايشات والحياتات والفعاليات ثابتة أصلية أساسية, بمعنى أن الأولى تحيّر من خوطبوا بها وتدلّه الذين عاينوها وتربك معاصريها, وعند هذا الحد يتبخر مفعولها ويغيض أثرها وتنتهى النتيجة المرجوة منها, أما الأخرى فهى تمس واقع المخاطبين بها ثم يمتد مسيلها إلى الأجيال والقرون المتطاولة التى تُخلق بعدهم. ولايفهم منه أن تطبيق النصوص التى حملتها يتم حرفيًا إنما نعنى الإستهداء بمعانيها والإسترشاد بقيمها والتفطن إلى أهدافها ومعرفة دوالها وإدراك مراميها وفقه غاياتها, فسنرى فيما يأتى من فصول أن بعضها قصد التخفيف فننقه أن ( = التخفيف ) منهج ( الحبل / القيم ). وآخر نهى عن اللعب أو الهزؤ بالألفاظ التى تتعلق بالروابط الأسرية فيترسخ لدينا اليقين بعظم شأنها, وثالث عاب تقديم الشئ الردئ عند إخراج الصدقة فنتأكد أنها ركن ركين يتوجب علينا أداؤه على الوجه المرضى, ورابع يحكى عن تآمر الضرائر فنخلص إلى أن نكاح مرتين أو ثلاث أو أربع خيبة قوية, وخامس يخبرنا عن صحابى نال من إمرأة ما دون فرجها وآخر ضرب حسناء جميلة على عجيزتها المكتنزة ثم استغفر كل منهما وصلى وورد أن الحسنات يذهبن السيئات, فندرك أن الضعف البشرى أمر وارد لأن كل بنى آدم خطاء وأن دواءه التوبة والإنابة .... وسادس ينقل إلينا صبر " متمم مكارم الأخلاق" على بذاءات اليهود والجدال العنيف الذى أثاره النصارى فنتعلم درسًا نحن فى أمس الحاجة إليه فى ضرورة التعايش مع أهل الكتاب والتحاور معهم بالتى هى أحسن. وسابع ينهى عن النكول عن أداء الشهادة فلا نتردد فى القيام بها ... ونكتفى بهذه الأمثلة السبعة لأن فيها غناء, وقد تعمدنا أن نبلغ بها العدد لأن له قداسة فى الديانات الإبراهيمية الثلاث وقيل إنهم نقشوا تقديسه من الديانات السامية التى سبقتها والتى ظلت مهيمنة على ذات المنطقة قرونًا متطاولة. والقرآن العظيم ينص على تداول الأيام بين الناس ولعل أبرز ما يؤكد صدقه هو أن عبادة آمون رع استمرت, على ما ذكر علماء المصريات " الإيجيبتولوجى" دهرًا مديدًا حتى قيل لن يتقطع" وهو شطر بيت لشاعر عربى".



ثم نؤوب إلى سياق البحث:

لعل من لديه أدنى مُسكة من عقل سليم قد اقتنع أن منهج القرآن الحميد فى هذه الخصوصية وهو الحِياطة بـ " صفوة البشر" والعناية بالمجتمع وأعضائه وانتصاب وشيجة متينة وتشابك متداخل وإلتفات ملتحم بين آياته وهؤلاء فى سائر ظروفهم وأوقاتهم, هو المنهج الأمثل وبه بزّ الكتابين المقدسين السابقين وفَلج عليهما وغدا بحق" كتاب الحياة".







*******

[ 4 ]
بزوغ ظاهرة النسخ فى القرآن


بيد أن سلوكه هذا المنهاج أدى بطريق الحتم واللزوم إلى إنفجار ما عُرف بظاهرة النسخ فيه. ففى المائة والأربع عشرة سورة توجد إحدى وسبعون منها بها نسخ " أى ما يقرب من ثلثيها" منها خمس وعشرون سورة فيها ناسخ ومنسوخ وست منها على ناسخ والأربعون الباقية تضم المنسوخ فقط.



وقديمًا أثار اليهود لغطًا حول النسخ بحجة أن البِداء لايجوز فى الكتب المقدسة. " والبداء هو الإفضاء بقول ثم يعرض لصاحبه ما هو أحسن منه فيفوه به وينبذ الأول", بدليل أن التوراة خلت تمامًا من النسخ وكثيرًا ما سألوا " أعظم الكائنات" يا أبا القاسم لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى , فرد عليهم القرآن العظيم:" وقال الذين كفروا لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة" [ رواه ابن أبى حاتم فى تفسيره وأورده السيوطى فى الإتقان ].



لقد أثبت اليهود طيش أحلامهم وقلة عقولهم وقصر نظرهم وعتامة بصيرتهم وضيق أفقهم, إذ يعتبرون أن مجئ الكتاب مرة واحدة منقبة ويعدونه محمدة ويرون أنه ميزة ويذهبون إلى أن تنجيمه نقيصة ويحسبونه عيبًا ويُطبقون على أنه ثلمة ويجمعون على أنه مذَمَّة. فى حين أن العكس هو الصحيح والنقيض هو السليم والمخالف هو السديد, لأنه ( = التنجيم ) هو الذى يوائم الناس أو المخاطبين ويسد خلاتهم وبفى بحاجاتهم ويحقق أغراضهم ويشد ظهورهم ويقوى ضعفهم ويهدى خطواتهم.



فى حين أن كتاب الدفعة الواحدة لايحقق شيئًا!!!.



ومن هنا برزت التوراة التى فى أيدى اليهود مليئة بالأساطير حافلة بالخرافات طافحة بالشعبذات ونرجح أن مرده: محاولة ملء الفراغ وإلهاء المخاطبين عن الإخلال الذى اعتورها نتيجة لازمة لإنحدارها من عَلِ دفعة واحدة ومن ثم فهذا هو سبب اقتصارها على المعجزات والمدهشات والمخاريق.



*******



إن التمييز بين القرآن المقروء / المتلو ـ المحفوظ فى صدور الصحبة وبين القرآن المدون فى عهد عثمان الأموى ليس بدعة حسنة بل أمر مقرر التفت إليه البُحاث القدامى وسطروه فى مؤلفاتهم وبداهة ليس من الضرورى ذكر التفرقة بفصها ونصها بل يكفى إدراكها من جماع ما رقموه.



أورد الإمام شهاب الدين القسطلانى فى كتابه " لطائف الإشارات لفنون القراءات": " فتلقاه" يعنى " القرآن المجيد" أصحابه " أى الأمين المأمون" منه غضًا وأدوه إلى من تلقاه عنهم خالصًا محضًا". [ لطائف الإشارات لفنون القراءات : للإمام شهاب الدين القسطلانى 851 /923هـ ـ الجزء الأول ـ ص21 ـ تحقيق وتعليق الشيخ عامر السيد عثمان و دكتور عبد الصبور شاهين ، من إصدارات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ لجنة إحياء التراث الإسلامى ـ الطبعة الأولى 1392هـ/ 1972م ].



والقسطلانى من علماء القرن العاشر الهجرى أى انصرمت على تدوين مصحف عثمان الأموى تسعة قرون وقرابة ربع قرن عند وفاته, بيد أنه يحدد بمنتهى الدقة القرآن النص الخالص المحض الذى كَنَّه الصحاب فى صدورهم ثم تلوه على التابعين كما تلقوه من ( الإنسان الكامل / لابس الصوف).



وهى عبارات صريحة النص والدلالة معًا على ذيّاك التمييز الذى نسخناه فى بدىّ هذه الفقرة وليس ضربة لازب أن يسطره القسطلانى بحروفه.





*******

[ 5 ]
السيوطى وبحثه فى أسباب النزول


أما الإمام السيوطى فله ثلاثة مصنفات تناول فيها " أسباب النزول" خصّص أحدها لها والثانى عنوانه:" الحبير فى علم التفسير" تناولها فيه فى النوع الحادى عشر والثالث أشهرها:" الإتقان فى علوم الدين" وقد أفرد فيه لها النوع التاسع سماه" معرفة النزول" ودرسها بتوسع.



وهو أيضًا من علماء القرن العاشر الهجرى مثل القسطلانى وفى كتابه الأخير سلط حزمة من الضوء الباهر على الصحابة الذين شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب التى لا تصح إلا بالرواية عنهم والسماع من شفاههم ثم حمل إلينا خبرًا غنيًا بالدلالات والمعطيات وهو أن محمد بن سيرين سأل عبيدة عن آية من القرآن فقال له:" اتق الله وقل سدادًا, ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن". [ " الإتقان فى علوم القرآن" للسيوطى ص 41 ـ الطبعة الرابعة 1398هـ /1978م. نشرته مكتبة مصطفى البابى الحلبى بمصر].



السيوطى يخلص إلى أن الصحابة هم الذين حظوا برؤية السور والآيات وهى تشرق, ومن ثم وقفوا على معرفة أسباب بزوغها وأن عبيدة لما سأل محمد بن سيرين عن آية كريمة" يعنى سبب ظهورها" رد عليه بأن الصحابة الذين عاصروها وتحققوا منها انتقلوا إلى رحمة الله.



إشارة واضحة لا تخفى على الفطن اللبيب إلى القرآن الذى حفظته صدورهم ووعته قلوبهم وقد سبقت تلك المحاورة الموحية التى جرت بين عبيدة وابن سيرين تأليف الكتب فى فرع " أسباب النزول" أحد فروع" علوم القرآن". وإلا لرجع ابن سيرين إلى أحدها إنما الذى يهمنا أن ما طلع به علينا السيوطى ترميز جلى للقرآن المتلو المحفوظ فى حنايا صدور الأصحاب.



والسيوطى, كما أسلفنا, من علماء القرن العاشر ولدى وفاته مضت تسعة قرون وعقد على كتابة مصحف الأموى عثمان بن عفان ومع ذلك سيطر على وجدانه القرآن المجيد الذى وصفه نديده ومعاصره القسطلانى بأنه غض ومحض وخالص.



ونكتفى بشهادة هذين الإمامين العالمين العلمين لإزالة ما قد يحيك فى قلب أى قارئ أو يسوط فى صدره أو يشوش عقله القول بضرورة التمييز بين القرآن المتلو المقروء / لمحفظ وبين المدون بمعرفة الأموى عثمان بن عفان وتحت رقابته وإبان خلافته التى أثبتنا بالأدلة فى كتاب لنا سابق أنها بدأت التحول إلى ملك عضوض ثم تم على الأيادى المباركة لأبناء عمومته من الفرعين الأموى والسفيانى.



وعسى أن تولدت عند القارئ قناعة كاملة بهذه الحقيقة البالغة الخطر نكرر ما سلف ورقمناه أنهما قرآن واحد مجيد بيد أن النظرة لأحدهما تفاصل النظرة للآخر, إنما هذا لايعنى بحال أنهما اثنان ونعوذ بالله تعالى منه ونبرأ ممن يذهب إليه.



ولسنا بصدد تأليف كتاب فى " أسباب النزول" فهذا الفرع الهام من فروع علوم القرآن أخذ حظًا لابأس به من العنايى وإن لم يصل إلى مستوى علم التفسير, إذ كتب فيه قدامى ومحدثون أو سلف وخلف بيد من أبرزها كتاب " أسباب النزول" لأبى حسن على بن أحمد النيسابورى المتوفى سنة 468هـ وقد طبع فى مصر وغيرها عدة طبعات, وفى الصفحات الأولى يذهب إلى أن " أسباب النزول هى أوفى ما يجب الوقوف عليها وأولى ما تصرف العناية إليها لإمتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها" [ أسباب النزول للواحدى ـ ص4 ـ طبعة 1388 هـ / 1968م ـ مؤسسة الحلبى مصر ].



إنما سوف نتكئ عليها بدرجة ملحوظة لما لها من دلالات متعددة فى مقدمها زون حدوث النص ومكانه " إن تيسر" والفاعلون, أو بمعنى أشد وضوحًا أبطال الخبر أو القصة أو الواقعة ونوعية الموضوع الذى بزغ النص بشأنه أهو أمر أم نهى أم تشريع أم فتوى فى نازلة أم تفريج لضائقة أم فك لعقدة أم توضيح لغامضة أم حل لمشكلة ... أم تبيين لمبهمة .... إلخ.



جِماع هذا بهدف جوهرى وغرض رئيسى وقصد أصيل هو تأكيد أن " البصائر / القرآن" أسس نصوصه وينى آياته وأقام عُمُد مَتْنَه ضمن التاريخ وفى داخل مسيله وفى قلب تياره وفى باطن مجراه, فهو إذن ليس مجردًا أو مفارقًا أو مغايرًا أو مباينًا أو ما شئت من هذه الكلمات التى تدل على القطيعة وتجزم بالتباعد وترمز إلى البينونة........... نقول ليس مفاصلاً للتاريخ الذى واكبه وللزمن الذى تولد فبه كحال الكتابين المقدسين اللذين سبقاه فى البزوغ أو الظهور لا فى القيمة أو المحتوى أو المضمون أو اللب.



وإلتحام القرآن الكريم بتاريخ شروقه وامتزاجه بزمن طلوعه هو فى نظرنا من بين أبرز أسباب شدة نفاسته وارتفاع قدره وشموخ مكانته وسمو رتبته وعلو جاهه. لماذا؟.



لأنه التحم بالواقع ومس الحياة وخالط المعاش وجميعه نفحه المصداقية ووهبه الحيوية وأعطاه النضارة ومنحه الشباب وتولدت عنه الإستمرارية ونتجت عنه الديمومة وانبثق عنه الخلود.



وهذا الكتاب محاولة غير مسبوقة لرفع الستار وكشف الغطاء عن هذه الجوانب المبهرة فى الذكر الحكيم وخاصة فى القرآن المتلو الذى حفظته صدور الصحابة ووعته قلوبهم وجمعته ذاكرتهم.



فى مذهبنا لا يكفى أن ندعى أنه أشرق ضمن التاريخ وطلع فى حنايا الزمن فهذه دعوى بغير دليل, وقول بلا حجة , ومعطى بدون برهان , وكل منها إذا قدم بصورته هذه لا يلتفت إليه.



ومن ثم انتصبت الحوجة وقم الإفتقار وبرزت الضرورة إلى مؤلف يسد هذه الثلمة ويغطى هذه الثغرة, ويملأ هذه الفجوة بأن يضع فى حجر القارئ الأدلة القواطع والبراهين السواطع والحجج الدوامغ على صحة هذه الدعوى وابتنائها على أسس ثوابت وعمد رواسخ وقواعد صلبة, ويبتدى هذا فى أيأة "هيئة" التوثيق المبلغ فيه إذ هو أى مراء سقيم أو لجاج عنيد أو محاجة شكسة.



وبداهة هو ليس كتابًا فى التفسير لأنه من ناحية نحن فى نظر حلاس الإسطار المقدس لانملك أدوات المفسر ومن أخرى فإن منهج البحث والدراسة فيه يغاير منهج التفسير.



وكما سطرنا فى عدد من مؤلفات لنا سوابق أن المحاولات الرائدة ـ رضى أصحابها أم سخطوا ـ فمن الحتم اللازم أن تبوء بقصور وأغلاط وهنات ربما غير هنات إنما الذى لا مشاجة فيه أنها الثمن الذى لابد أن يدفعه الرواد كيما ينالوا شرف الريادة.



هذا والله وحده وراء القصد وهو سبحانه ولى التوفيق,,,,



27 جمادى الآخر 1421هـ / 17 أغسطس 2000م.



خليل عبد الكريم





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





الباب الأول
آيات كريمة أشرقت تحقيقًا لِرغبة القائد
وأخرى تلبية لرجاوات تبعه


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





الفصل الأول
آيات كريمة أشرقت تحقيقًا لِرغبة القائد


[ 1 ]
موادعة اليهود

ظل " سيد الناس وذؤابة العرب" ثلاثة عشرة عامًا يدعو ويبشر بالديانة الجديدة " الإسلام" بيد أن المرازبة الجحاجح صناديد قريش أعرضوا عنها ومنهم نفر من بنى هاشم الفرع الذى ينتمى إليه أو رهطه وحذا حذوهم طواغيت ثقيف بالطائف وصدوه صدًا جافيًا غليظًا نم عن الجلافة وكشف عن الغلظة وأثبت البداوة.



ولأسباب تند عن هذه الدراسة رحب بنو قيلة " الأوس والخزرج" وفيما بعد سماهم " الأنصار" بدعوته وطلبوا منه أن ينتقل إلى قريتهم وفيها سيجد المنعة وتعهدوا له بحمايته وحراسته وفعلاً نزح إلى يثرب وسبقه إليها العدد المحدود الذى صدقه.



امتازت تلك القرية بكثافة يهودية سيطرت على المقدرات الإقتصادية حصرً وتحديدًا بالإضافة إلى أن بأيديهم إسطيرًا مقدسًا وهو أقدم الإسطيرات المقدسة ويزعم أصحابه أنه أصل الأصول ومن معينه استقى من جاء بعده ومتح من بيره ونهل من منيعه ولعل هذا شكّل أحد أسباب غطرسة اليهود وغرور أولاد يعقوب وعنجهية بنى إسرائيل.



و" النذير البشير" عبقرى لايشق له غبار ولا يُلحق به فى مضمار, فرأى بثاقب نظره ووسيع أفقه ونافذ بصيرته أن يوادع يهودًا , فحاول استمالتهم وخطا خطوات حثيثة منها: أنه أقر بنى قيلة " الأوس والخزرج والأنصار" على عرف مستقر لديهم وغيرهم من القبائل القريبة من أثرب وهو الزواج من بنات يعقوب, وكالعادة نطرح دليلاً هو: كعب بن الأشرف الذى ناوأ " المنصور بالرعب مسيرة شهر" وحرض عليه بالقول " الشعر" والفعل حتى إنه لم يجد طريقة لإسكاته إلى الأبد سوى انتداب نفر من قيلة فإغتالوه وأراحواه من شره. هذا الكعب أمه يهودية, وفى شريعتهم لايعد منهم إلا من ولدته يهودية.



وأباح " من جُعلت له الأرض طهورًا" لأتباعه طعام ذرية يعقوب وهو إعتراف بأمر واقع لأن الخلطة بين بنى قيلة وبينهم متينة الأسر وتتخذ صورًا متباينة: الحلف والولاؤ والجوار والمصاهرة والشراكة فى التجارة والمعاملات الآخرى: الزراعة والصناعة ـ صناعة السلاح .. بل إن بعض بنى قيلة تركوا أولادهم ينشأون وسط بنى إسرائيل ومنهم من من اعتنق دينهم ورفض التخلى عنه والدخول فى الإسلام رغم الضغط عليه من خاصته وذويه ونفر منهم نزح مع يهود عندما أجلاهم " صاحب السيف".



فتحريم طعامهم لابد أن يجر على الأوس والخزرج بلوى عمومية تصيب حياتهم بالربك ومصالحهم بالمرج ومعيشهم بالإضطراب.



بيد أنه عندما أدرك " الأمين المأمون" ذاك أباح مطامعهم وقصد فى ذات الوقت التقرب إلى أبناء يعقوب, خاصة إذا وضعنا فى الحسبان أنه حرم على تبعه بنصوص باترة كحد السيف نكاح المشركات ومآكل المشركين.





[ 2 ]
صيام عاشوراء


عَلِمَ " الإنسان الكامل" إثر نزوحه إلى يثرب أن بنى إسرائيل يصومون العاشر من محرم يُسمى لدى العامة وغيرهم يوم " عاشوراء". بمقولة أن ربهم نجّى نبيهم موسى عند هروبه وتبعه من مصر بتلك الخارقة المُعجِبه والمعجزة المدهشة وهى شق البحر الأحمر لهم. فأمر " سيد الخلق" من تابعوه على دينه من النازحين واليثاربة بصومه لأنهم أحق به , إذ إنهم مثل اليهود يؤمنون بنيوة موسى الذى حظى بتكليم ربه إياه, والقصد الخبئ والغرض الخفى والهدف المستتر من ورائه هو المشى خطوة أو عدة خطوات نحو استئلاف أولاد يعقوب.



" وقال القرطبى: لعل قريشًا كانوا يستندون فى صومه " يوم عاشوراء" إلى شرع من مضى كإبراهيم, وصوم رسول الله يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما فى الحج

وأذن الله له فى صيامه على أنه فعل خير, فلما هاجر ووجد اليهود يصومون وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل أن يكون استئلافًا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم ويحتمل غير ذلك.

وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم فإنه كان يصومه قبل ذلك, وكان ذلك فى الوقت الذى يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنه عنه .." [ المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: لشيخ الإسلام القسطلانى ـ المجلد الثانى ـ ص 453, 454 ـ 1421هـ / 2001م ـ دار الغد العربى بمصر].



فى هذا النص نجد أن القسطلانى نقل عن القرطبى وهما إمامان كبيران ونجمان ساطعان فى فلك العلوم الإسلامية أن " سيد ولد عدنان" عندما وصل إلى يثرب وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فصامه وكلف تبعه بصيامه, وأن فعله الشريف هذا من الجائز قصد به استئلاف بنى إسرائيل مثلما استألفهم باستقبال قبلتهم أى بيت المقدس ـ فى الصلاة ـ وأنه فى ذياك الإبان دأب على موافقة أهل الكتاب فى مالا يخالف الديانة الشريفة التى يبشر بها.



إن هذا الأثر بالغ الثمانة, عالى القيمة, موفور القدر. فضلاً عن أنه ثر بالدلالات عنى بالمعانى ملئ بالإيحاءات.



إنه يؤكد ما سبق أن زبرناه أن السلف من المؤلفين والمصنفين بعكس المحدثين المفاصرين على درجة رفيعة من المسئولية الفكرية, ورتبة عالية من الأمانة العلمية, ومستوى منيف من الإلتزام بالموضوعية.





[ 3 ]
لماذا يوم الجمعة


فى الإسطير المقدس عند إسرائيل أن ربهم أنجز الخلق وفرغ منه فى ستة أيام واستراح فى اليوم السابع.



سبق أن رقمنا أن العدد سبعة له قداسة لدى الديانات الإبراهيمية الثلاث نقلاً عن الديانات السامية القديمة التى خيمت على شعوب المنطقة قرونًا متطاولة.



ومن ثم فإنه يعتبرون السبت ( اليوم السابع ) يوم بطالة وعطالة وراحة وفيما بعد أطلق عليهم القرآن المجيد أصحاب السبت.



وكبادرة وداد قرر " سيد ولد عدنان" اعتبار يوم الجمعة يوم اجتماع عام فغدت له نكهة خاصة ومذاق متميز وطعم منفرد عن سائر أيام الأسبوع, وحتى الآن وبعد مرور أربعة عشر قرنًا وقرابة ربع قرن يتخذ المسلمون منه يوم عطلة تغلق فيه المصالح الحكومية والمتاجر ...إلخ.



ويوم الجمعة هم اليوم السابق مباشرة ليوم السبت ومن يحاج فى أن هذه خطوة موادعة لبنى يعقوب من قبل " المعصوم من الناس" لنا لأن نسأله: لماذا لم يتخذ يومًا آخر مثل الإثنين أو الثلاثاء أو الأربعاء أو الخميس يوم اجتماع عام, خاصة يوم الإثنين, فقد حُفظ عنه أنه فيه ولد وفى ليله التقى ملاك الرب جبرائيل لأول مرة فى مغارة حَرَى ؟!.



هذه واحدة.



أما الأخرى فهى أن " سيد الخلق" ظل بعد أن أعلن ديانة الإسلام فى قرية القداسة بكة ثلاث عشرة سنة فلماذا لم يأمر باتخاذ يوم الجمعة يوم اجتماع عام؟.



ذكرت مؤلفات سيرته المعطرة أن أول جمعة أقيمت فى قرية يثرب فى محلة بنى سالم بن عوف بعد أن نزل بقباء على شيخ بنى عمرو بن كلثوم بن الهدم, وطفق يجلس مع اليثاربة ويحادثهم فى بيت سعد بن خيثمة لأنه عزب " غير متزوج" وقضى بها ( = قباء ) عدة أيام بنى فيها مسجدًا أسس على التقوى, ولاشك أنه إبانها خبر أحوال أثرب ونقه ثِقل وخطر يهود فيها, فسنة موادعتهم والتقرب إليهم واتحاذ خطوات فى هذه السكة ومنها " التجميع".





[ 4 ]
الصحيفة

عندما استقر" سيد الكائنات" فى يثرب كتب ما يُسمى بالصحيفة, وقد وصفها البُحَاث بأوصاف لا تنطبق عليها فعل سبيل المثال أطلق عليها الشيخ محمد سيد طنطاوى [ حاليًا يتربع على دست رئاسة شئون التقديس فى مصر المحروسة ] " معاهدة", وهذا توصيف خاطئ, لأن شروط المعاهدة لا تنطبق عليها, فاليهود لم يوقعوا عليها, وقد أورد ذلك فى الرسالة التى تقدم بها لنوال إجازة العالمية [ يسميها الأزهريون الآن الدكتوراه متابعين فى ذلك الفرنجة ]. وعنوانها " بنو إسرائيل فى القرآن والسنة" , وقد مشى الشيخ طنطاوى وراء عبد الرحمن عزام الذى وصفها بأنها من أنفس العقود الدولية وأمتعها وأحقها بالنظر. [ الرسالة الخالدة : لعبد الرحمن عزام ـ ص 65 نقلاً عن ( بنو إسرائيل فى القرآن والسنة ) لمحمد سيد طنطاوى ـ ص 144ـ طبعة نوفمبر 1997م ـ دار الشروق بمدينة نصر القاهرة ].



لاحظ وصف للصحيفة التى أطلق عليها معاهدة بأنها متعة وهو وصف لايليق بها, وهذا يؤكد ما سنذكره بعد قليل أن عزامًا هذا ليس له فى الفكر نصيب, وفى صعيد مصر ينعتون المرأة التى ترضى الرجل عند المفاخذة أنها " مَرَة مِتْعَة" بكسر الميم.



وعبد الرحمن عزام, الذى تابعه طنطاوى, رجل سياسة " تولى منصب أمين عام جامعة الدول العربية" وليس له فى العلم عير ولا نفير وبعض الكتبة نفح " الصحيفة" لقب دستور وزايد عليه غيره فقال إنها أول دستور فى العالم.



ثم نرجع بعد هذه التفريعة إلى سياقة التنقير: { ذكر ابن كثير: قال محمد بن إسحق وكتب رسول الله كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود} [ البداية والنهاية لابن كثير ـ جء 3 ـ ص 224 نقلاً عن ( بنو إسرائيل فى القرآن والسنة ) لمحمد سيد طنطاوى ـ ص 138 ].



والذى يهمنا فى هذه الفقرة المنقولة عن ابن كثير أنه سماها ( كتابًا ) لامعاهدة ولا دستورًا كما تصنع جوقة التعظيميين والتفخيميين من الكتبة المحدثين, ولا شك أن " أول من تنشق عنه الأرض" استهدف من الكتاب أو الصحيفة موادعة أولاد يعقوب.





[ 5 ]

بيت المقدس قبلة الصلاة


توالت مبادرات التواد والموادعة من ناحية " أول من يفيق من الصعقة" إلى بنى إسرائيل, وهنا نصل إلى المحطة الأخيرة وهى استقبال بيت المقدس فى الصلاة وهى قبلة اليهود:

{ أخرج الطبرى والنحاس والواحدى وغيهم عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نُسِخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله ـ ص ـ لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود, أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس, ففرح اليهود, فاستقبلها رسول الله ـ ص ـ بضعة عشر شهرًا, فكان رسول الله ـ ص ـ يحب قبلة إبراهيم ـ عليه السلام ـ فكان يدعو وينظر إلى السماء.

فأنزل الله تبارك وتعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [ البقرة 144].

فإرتاب من ذلك اليهود وقالوا: " ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها؟!".

فأنزل الله عز وجل:" قل لله المشرق والمغرب" وقال:" فأينما تولوا فثم وجه الله" }. [ المقبول من أسباب النزول: تأليف الدكتور / أبو عمر نادى بن محمود حسن الأزهرى ].



وهناك مصدر آخر يؤكده:



{ عن ابن عباس, كان أول ما نُسخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله ـ ص ـ لما هاجر إلى المدينة وكان اكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ـ ص ـ بضعة عشر شهرًا وكان يُحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله " قد نرى تقلب وجهك فى السما" } [ التيسير ـ خلاصة تفسير ابن كثير : تأليف 774 هـ بقلم الشيخ محمود محمد سالم ـ الجزء الأول ـ ص 67ـ الناشر: دار الشعب مصر ].



هذا الخبر الذى حملته إلينا مصادر من الوزن الثقيل صريح فى أن " الصادق المصدوق" ما إن وطئت قدماه الشريفتان أرض يثرب وأحيط علمًا بمكانة اليهود فيها أخذ يوادع يهودًا وطرح المبادرات التى ذكرناها وياتى فى مقدمها أنه استقبل قبلتهم فى الصلاة وتحول صوب بيت المقدس وظل عليها ثمانية عشر شهرًا.



إبانها لم يبادل أولاد يعقوب " البشير النذير" موادعة بموادعة أو ودادًا مقابل وداد, ولم يدخلوا الديانة التى بشرهم بها بل ادعوا فى صلف أنهم الأصل والجرثومة والأس, وجادلوه فأكثروا, وحاوروه فأطالوا, وناقشوه فأبعدوا, ولم يكتفوا بل لجأوا إلى الدسائس وما هو أوعر, والمؤامرات وما هو أشنع, والمكائد وما هو أفظع, وأثبتوا أنهم يستحقون اللقب الذى وسمهم أو وصمهم به آخر البطاركة عبدالله وابن أمته عيسى ابن مريم " أولاد الأفاعى".



*******



تيقن " سيد ولد قُصىّ" أنه لافائدة من بنى إسرائيل فلا هم سيتركون عقيدتهم ويسلمون ولا سيكفون عن مسلكهم الأثيم وأفعالهم وممارساتهم الدنيئة, وغدت متابعتهم على قبلتهم أو الإقتداء بهم فى التولية نحو بيت المقدس والتأسى بهم فى التوجه صوب إيلياء غير مجدية, خاصة أن الذرية المباركة لبنى يعرب بن يشجب لم تسترح نفسياتها ولم تطمئن صدورها ولم تهدأ قلوبها من جرائه, فغدا من الضرورى ترك قبلة أولاد الأفاعى واستقبال الكعبة إرث إبراهيم كبير البطاركة وحامل لوائهم وإسماعيل أبى العرب المستعربة ... وهنا أصبح شروق آية تقضى على طقس الإتجاه نحو بيت المقدس وتأمر باستقبال القبلة الحبيبة حتمًا لازمًا وحاجة ملحة.



وهذا ما نقلته إلينا كتب " أسباب التنزيل".



{ عن ابن إسحق عن البراء قال: كان رسول الله ـ ص ـ يصلى نحو بيت المقدس ويُكثِر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله " قد نرى تقلب وجهك فى السماء..."} [ لباب النقول فى أسباب النزول: للسيوطى ـ ص 19ـ طبعة 1382هـ كتاب التحرير 2 دار الشعب بمصر ].



وهنا نرى واجبًا علينا أن نلفت نظر القارئ إلى مسألة على درجة خطيرة من الأهمية وبدون فهمها يظل استيعابه لمضمون كتابنا هذا غائمًا ويغدو إدراكه لطروحاته مشوشًا وتصبح معرفته بمراميه مُضببة وهى الإنتباه إلى كلمة أو عبارة " فأنزل الله" إذ أنها تُصبغ النص " الآية" بصبغة تعاقبية للنازلة أو الواقعة أو المسرودة التى هلَّت بسببها, وبمعنى أوضح التى شكلت علة بزوغها أو ظهورها, لأن الفاء فى " فأنزل الله" إما هى فاء السببية فتمسى هى إلى ما صدق لما طرحناه, وإما هى للتعاقب مثل توضأت فصليت وهنا نوثق ما رقمناه من قبل أن النص أو الآية ترسخت على التاريخ " تاريخ الحدث" وانسابت مف مسيله الزمنى وعامت فى نهره وسبحت فى تياره.



ولك أن تختار أى الوجهين: السببية أو التعاقب, فكلاهما سقبت أن النص أو الآية لاينفكان عن سلسال التاريخ وحركة الزمن, ونأمل وضوح هذه النقطة الجوهرية, لأن حكمها يجرى على سائر الآيات أو النصوص التى سوف نسوقها فى الفصول القوادم.



*******



وساهمت كتب التفسير سنية أو معزلية " نسبة إلى المعتزلة" تراثية أو حدثية فى تأسيس ما سلف : { كان رسول الله ـ ص ـ يتوقع من ربه أن يحول القبلة إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم وادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ولمخالفة اليهود فكان يراعى جبريل ـ س ـ والوحى بالتحويل }. [ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل: لأبى القاسم جارالله الزمخشرى 467 ـ 538 هـ ـ طبعة دار المعرفة بيروت ].



وإذ إن صاحب الكشاف " الزمخشرى" من المعتزلة الذين بنعتون بأنهم ( فرسان العقل ) لذا نجده يذكر أن ( سيد الحاضر ـ البادى ) توقع من ربه أن يحول القبلة إلى الكعبة لأن لفظه ( يتوقع ) أبلغ فى الدلالة من الكلمة التى خطها زميله السنى ابن جزّى الكلبى " رجاء" ففى فقه اللغة الرجاء أضعف من التوقع بما لايُقاس, لأن من يتوقع لديه قدر من اليقين على تشيؤ أو تموضع ما يتوقعه بخلاف من يترجى : { كان النبى ـ ص ـ يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة }. [ التسهيل لعلوم التنزيل : لمحمد بن جزّى الكلبى ـ نشر دار الكتاب العربى بيروت ].





*******



ومن أحدث التفاسير التى ظهرت " تفسير القرآن الكريم" لعبدالله محمد شحاته , ومثل ضروبه من كتب التفسير الحديثة توكأ على القدامى أو السلف, بيداننا نورد ما نقشه فى شأن تفسير آية تحويل القبلة لأنه جاء بعبارات تؤكد ما وضعناه عنوانًا لهذا الفصل وهو إشراق آيات تحقيقًا لرغبة القائد, بل إن شحاته إستخدم لفظًا أكثر جرأة, فهو يؤكد أن آية التحويل هلّت علينا بطلعتها المضيئة إجابة لما طلب ( صاحب الخاتم ) وتلبية لما سأل: { قد رأيناك تتجه بوجهك إلى السماء دائمًا تصرفه فى أرجائها مرددًا بصرك فى ضراعة ورجاء تطلعًا للوحى بتحويل القبلة إلى الكعبة وها نحن قد أجبناك إلى ما طلبت وأعطيناك ما سألت ووجهناك إلى قبلة تحبها وتميل إليها .. } [ تفسير القرآن الكريم: لعبد الله محمد شحاته ـ الطبعة الأولى 2000 ـ الناشر دار غريب ت الفجالة ـ القاهرة ].



هذا هو المثل الأول الذى وضعناه فى يد القارئ للآيات التى تهادت بناء على تطلع أو رغبة أو تشوق " المخصوص بالمجد" وقد رأينا وسنرى فيما يتلوه أن الإستجابة لاتتأخر والتلبية لاتتوانى وتحقيق الطلب أو الرجاء لايغيب.





*******



[ 6 ]
محمد وزيد وزينب بنت جحش


زيد بن حارثة بن شراحبيل الكلبى ـ صحبته أمه سعدى لزيارة قمها فأغارت عليهم خيل لبنى القين بن جسر فاحتملوه وهو غلام يفعة فأتوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة درهم فلما نكحت " مقدم بنى هاشم" وهبته له فبحث عنه أبوه حارثة حتى اخبره حاج بنى كلب أنه بمكة فخرج هو وأخوه كعب لفدائه وطلبوا من " أبى القاسم" أن يمن عليهم ويحسن فى فدائه فعرض عليهم أن يخيّروا زيدًا فإن اختارهم دفعه لهم بغير فداء فاختار " الحبيب المصطفى" عليهما, فردًا على ذلك أعلن أن زيدًا ابنه يرث أحدهما الآخر ومن ذياك الوقت دعى ( زيد بن محمد ) وبعدها قال له: يا زيد أنت مولاى ومنى وأحب الناس إلىّ, وقال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد.



ومن حبه له زوجه ثلاث قرشيات هن: أم كلثوم بنت عقبة, ودرة بنت أبى لهب, وهند بنت العوام أخت الزبير.



ثم أنكحه زينب بنت جحش وهى نصف قرشية, لأن أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة" أول شافع ومشفع". [ باختصار وتصرف من كتاب " الإصابة فى تمييز الصحابة" للحافظ شيخ الإسلام وقاضى القضاة أبى فضل شهاب الدين ـ المشهور بابن حجر العسقلانى ـ 772هـ /852 هـ ـ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ ص22 ـ وما بعدها ـ المجلد الثالث ـ بدون تاريخ ـ الناشر: دار الغد العربى بمصر ].



ونضيف أن قبيلة " كلب" من بين القبائل التى انتشرت فيها النصرانية قبل الإسلام.



*******



عن الشعبى قال:

{ مرض زيد بن حارثة فدخل عليه رسول الله ـ ص ـ وزينب ابنة حجش إمرأته عند رأسه فقامت لبعض شأنها فنظر إليها رسول الله ـ ص ـ " كذا" ثم طأطأ رأسه فقال: سبحان الله مقلب القلوب و الأبصار, فقال ذيد أطلقها لك يا رسول الله؟, فقال: لأ, فأنزل الله عز وجلّ: " وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه" إلى قوله: " وكان أمر الله مفعولاً ". [ السيرة النبوية: لابن إسحق تحقيق طه عبد الرؤوف سعد وبدوى طه بدوى ـ المجلد الأول ـ ص 339 ـ الطبعة الأولى 1419هـ / 1998م الناشر: القطاع الثقافى بدار أخبار اليوم ـ القاهرة ].



يصف المحققان " سيرة ابن إسحق" بالآتى:

أعظم الكتب التى عنيت بسيرة أعظم العظماء ـ ص ـ ومن أقد كتب السيرة الجامعة وأهمها .. ومن أوائل أمهات المراجع وأهمها فى السيرة النبوية العطرة . [ المصدر ذاته ـ ص 4 ].



ولقد عول عليه أبو محمد عبد الملك بن هشام فى مصنفه المشهور بـ " سيرة ابن هشام" والذى يعتبر ذروة سنام السير.



وأبرز المحققان المكانة العلمية السامقة لابن إسحق, فهو ثبت فى الحديث عند أكثر العلماء ولا تجهل إمامته فى المغازى والسير ثم أوردا ثناء كبار العلماء عليه منهم الزهرى والبخارى والشافعى وشعبة بن الحجاج, وأضافا أن كلاً من يحيى بن معين والإمام احمد بن حنبل ويحيى بن سعد القطان وثّقوه واحتجوا بحديثه. [ المصدر ذاته ـ ص1].



وذكرنا لمكان محمد بن إسحق العلمية ولمقام سيرته مآبه قطع الطريق على أى طعن على ما أورده فى شأن خبر زينب بنت جحش.



*******



لم ينفرد ابن إسحق بل ساقه موثقًا عدد من أصحاب الأسماء اللوامع فى سماء العلوم الإسلامية: إخباريين, ومؤرخين, ومفسرين.



رقم الإمام الإخبارى النسابة أبو جعفر محمد بن حبيب الهاشمى المتوفى سنة 245 هـ فى مصنفه الذائع الصيت " المجبر" ما يلى:

{ ثم تزوج ـ ص ـ زينب بنت جحش ... وكانت قبله عند زيد بن حارثة الكلبى مولى رسول الله ـ ص ـ وكان سبب تزويجها أن النبى ـ ص ـ أتى زيدًا ذات يوم فوقف على بابه ثم نادى زيدًا. فنظر إلى زينب وعليها قميص لها مردع بالزعفران فوقعت فى نفسه فقال سبحان مقلب القلوب ـ ثلاثًا, فسمعه زيد وهو يتوضأ فعرف أنها وقعت فى نفسه فخرج زيد إلى النبى ـ ص ـ فمكث أيامًا ثم قال: يا رسول الله أنا أطلق زينب, قال: ولم؟, قال: قد ساء خلقها وآذيتنى بلسانها, فقال: اتق الله وأمسك عليك زوجك, فطلقها فتزوجها النبى ـ ص ـ وفيها أنزل الله تبارك وتعالى " وإذ تقول .. إلى آخر الآية" [ المحبّر: لأبى جعفر بن حبيب ـ تحقيق سيد كسروى ـ ص 108 ـ طبعة 1421هـ / 2000م ـ الناشر: دار الغد العربى ـ مصر ].



وقد قال محقق الكتاب عنه " أما عن كلام علماء الجرح والتعديل عن ابن حبيب وحكمهم على تلقى العلوم عنه من ناحية القبول أو الرد أو التوقف فيها فقد قال جماعة إنه ثقة حافظ, وقال آخرون إنه صدوق وهى درجة تجعلنا نطمئن لما يروى لنا من أخبار عن الثقات من طرقه هو" [ المصدر ذاته ـ ص 16].

وأضاف أنه ألف اثنين وأربعين كتابًا منها ما هو فى القرآن والحديث.



*******



أجمعت أمة لا إله إلا الله أن صحيح البخارى هو أصح كتاب بعد القرآن العظيم وقد جاء فيه: { عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ أن هذه الآية:" وتخفى فى نفسك ما الله مبديه" ... نزلت فى زينب بنت جحش وزيد بن حارثة }. [ صحيح البخارى ـ كتاب التفسير ].



*******



أبو جعفر بن محمد بن جرير الطبرى فقيه صاحب مذهب ولكن لم يجد من ينشره فاندثر وغدا من المذاهب الدارسة التى تقرب من العشرين, كما أنه مفسر عظيم وكتابه فى التفسير يُعد عمدة فى هذا العلم ومؤرخ ثبت ومؤلفه " تاريخ الرسل والملوك" المعروف ب ( تاريخ الطبرى ) لايشق له غبار ويعتبر مقدم كتب التاريخ الإسلامى ومثله من المستحيل أن تحمل مصنفاته أخبارًا غير صحيحة أو مشكوكًا فيها وقد نقل إلينا بشأن زينب وزيد الخبر الآتى:

{.. عن محمد بن يحيى بن حسان قال: جاء رسول الله ـ ص ـ بيت زيد بن حارثة وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد, ربما فقده رسول الله ـ ص ـ الساعة, فيقول: أين زيد؟, فجاء منزله يطلبه فلم يجده, فقامت إليه زينب بنت جحش فُضُلاً " بضم الفاء والضاد " فأعرض عنها رسول الله ـ ص ـ فقالت: ليس هو ها هنا يا رسول الله فادخل بأبى أنت وأمى, فأبى رسول الله ـ ص ـ أن يدخل وإنما عجلت زينب أن تلبس إذ قيل لها رسول الله ـ ص ـ على الباب, , فأعجبت رسول الله ـ ص ـ فولى وهو يهمهم بشئ لايكاد يُفهم إلا أنه أعلن: سبحان الله العظيم, سبحان الله مصرف القلوب!!.

قال: فجاء زيد إلى منزله فأخبرته إمرأته أن رسول الله ـ ص ـ أتى إلى منزله, فقال زيد: ألا قلت له: ادخل؟!, فقالت: قد عرضت عليه ذلك فأبى, قال: فسمعته يقول شيئًا؟, قالت: سمعته يقول حين ولى: سبحان الله العظيم, سبحان الله مصرف القلوب, فخرج زيد حتى أتى رسول الله ـ ص ـ فقال: يا رسول الله بلغنى أنك جئت منزلى فهلا دخلت بأبى وأمى.

يا رسول الله, لعل زينب أعجبتك فأفارقها!, فقال رسول الله ـ أمسك عليك زوجك ـ فما استطاع زيد إليها سبيلاً فكان يأتى رسول الله ـ ص ـ فيخبره, فيقول له رسول الله ـ ص ـ أمسك عليك زوجك ـ ففارقها زيد واعتزلها وحُلَّت.

فبينما رسول الله ـ ص ـ يتحدث مع عائشة إذ أخذت رسول الله ـ ص ـ غشية فسرى عنه وهو يبتسم ويقول: من يذهب إلى زينب يبشرها, يقول إن الله زوجنيها ؟ وتلا رسول الله ـ ص ـ : " وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك .....} القصة كلها.

قالت عائشة: فأخذنى ما قرب وما بعد لما بلغنا من جمالها وأخرى هى أعظم الأمور وأشرفها ما صنع الله با زوجها فقلت تفخر علينا بها.

قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله ـ ص ـ تخبرها بذلك فأعطتها أوضاحًا عليها } [ تاريخ الطبرى: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ الجزء الثانى ـ ص 562, 563 ـ الطبعة السادسة 1990م ـ دار المعارف بمصر].



وفى الهامش إمرأة فُضل: أى تلبس ثوبًا واحدًا.

والأوضاح: جمع وضح وهو حلى من الفضة.



ثم سرد الطبرى رواية لايند مضمونها عن هذه.

ومما هو جدير بالذكر أن عائشة فى ذلك الوقت لم تجاوز الثالثة عشرة.





*******



ثلاثة من المفسرين القمم الشوامخ


آن الأوان للمفسرين كيما يطلعونا على ما سطروه فى هذه الخصوصية ومنعًا للإطالة ودرءًا للإملال فإننا نكتفى بثلاثة منهم وقطعًا لطريق المشاكسة فقد اخترناهم من القمم الشوامخ والذرى السوامق والقُلل العوالى.



1 ـ الإمام ناصر الدين البيضاوى:

{ أمسك عليك زوجك زذلك أنه ـ ً ـ أبصرها بعدما أنكحها إياه فوقعت فى نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن ذلك ووقع فى نفسه كراهة صحبتها فأتى النبى ـ ص ـ وقال: أريد أن أفارق صاحبتى, فقال: مالك أرابك منها شئ؟ قال لا و الله ما رأيت منها إلا خيرًا ولكن لشرفها تتعظم علىّ, فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله فى أمرها فلا تطلقها ضررًا لها وتعللاً بتكبرها وتخفى فى نفسك ما الله مبديه ونكاحها إن طلقها وإرادة طلاقها } [ أنوار التنزيل وأسرار التـأويل المسمى تفسير البيضاوى: للإمام ناصر الدين أبو الخير عبدالله بن عمر الشيرازى البيضاوى ـ دون تاريخ ـ دار الفكر ].



نرى المفسر البيضاوى يذهب إلى أن ما أخفى فى النفس هو إرادة طلاق زينب من زيد لنكاحها بيد أنه سيظهر أو يبدو أو سيعلن وهو ما جاء فى الآية بعد " زوجناكها" وهو تحقيق للرغبة الكامنة والمدسوسة فى حنايا الصدر وفى داخل النفس.



2 ـ الإمام فخر الدين الرازى:

{ " وتخفى فى نفسك ما الله مبديه" من أنك تريد التزوج بزينب } [ مفاتيح الغيب أو التفسير: للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازى 544/606هـ ـ المجلد الثانى عشر الطبعة الأولى 1412هـ/1992م ـ الناشر: دار الغد العربى: مصر ].

والفخر الرازى من أعلام المفسرين وكتابه ( مفاتيح الغيب ) موسوعة فى التفسير حتى اشتهر بـ " التفسير الكبير".

وهو يؤكد أن إرادة نكاح زينب دون غيرها هى مقصود ما نص عليه " وتخفى فى نفسك ما الله مبديه " وهو عين ما خلص إليه البيضاوى فى أنواره.

وهذا أفحم رد على جوق الطبالين الذى يلوون أعناق الآية ويزعمون على خلاف السياق وما تقضى به ضرورات اللغة العربية هو أن المقصود به الخوف من مخالفة العرف الراسخ آن ذاك وهو تحريم نكاح الأب لمنكوحة ابنه بالتبنى تمامًا مثل تحريم زواجه بحليلة ابنه الصلبى التى دخل بها وعاشرها.



3 ـ أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى:

{ إختلف الناس فى تأويل هذه الآية فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبرى وغيره إلى أن النبى ـ ص ـ وقع منه إستحسان لزينب بنت حجش وهى فى عصمة زيد وكان حريصًا على أن يطلقها فيتزوجها هو, ثم إن زيدًا لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظيمًا بالشرف قال له: اتق الله ـ أى فيما تقول ـ وأمسك عليك زوجك وهو يُخفى الحرص على طلاق زيد إياها وهذا الذى كان يُخفى فى نفسه ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف؟.

وقال مقاتل: زوج النبى ـ ص ـ زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حينًا ثم إنه عليه السلام أتى زيدًا يومًا يطلبه فأبصر زينب قائمة وكانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش فهويها, وقال: سبحان مقلب القلوب, فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن زيد فقال: يا رسول الله إئذن لى فى طلاقها فإن فيها كبرًا تتعظم على وتؤذينى بلسانها, فقال عليه السلام: أمسك عليك زوجك واتق الله.

وقيل: إن الله بعث ريحًا فرفعت الستر ( ؟؟؟!!! ) وزينب متفضلة فى منزلها فرأى زينب فوقعت فى نفسه ووقع فى نفس زينب أنها وقعت فى نفس النبى ـ ص ـ وذلك لما جاء يطلب زيدًا فجاء زيد فأخبرته فوقع فى نفس زيد أن يطلقها.

وقال ابن عباس " وتخفى فى نفسك" الحب لها, و" تخشى الناس" , أى تستحييهم وقيل تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طلقها ويقولون أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها }. [ الجامع لأحكام القرآن: المشهور بتفسير القرطبى ـ لأبى عبدالله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى, المجلد الثامن ـ كتاب الشعب بمصر ].





*******



هذه الفقرة على طولها ثَرّة بالدلالات حتى إنها فى غُنية عن أى تعليق وليست فى حوجة لتحليل , فعبارات مثل: ... وكان حريصًا على أن يطلقها زيد فيتزوجها ... وهو يخفى الحرص على طلاق زيد إياها وهذا الذى كان يخفى فى نفسه .... وكانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش فهويها فوقعت فى نفسه... ووقع فى نفس زينب أنها وقعت فى نفسه ..... وتخفى فى نفسك .... الحب لها .... لائمة المسلمين لو قلت طلقها ( أى لزيد ) ويقولون أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها .. إلخ. صريحة النص والدلالة معًا على أن " زوجنكها" تحقيق لإرادته نكاحها.



*******



أما الذى جاء فى السياق ( ..... ووقع فى نفس زينب أنها وقعت فى نفس النبى ـ ص ـ فيؤكده وغيره مما قرأناه فى سائر الأخبار من أقوال بنت جحش لزيد بن محمد " حتى ذياك الحين" عن واقعة زيارة " أعظم الكائنات" لمنزلهما وإحاطة زوجها ( الذى ) امتعضت هى ورهطها من زواجه إياها ثم أذعنت وإياهم بعد أن تلا " أبو القاسم" عليهم آية حاسمة تأمرهم بالإمتثال بالعبارات التى سمعتها من " الزائر العظيم" عند انصرافه خاصة " سبحان مقلب القلوب" ودلالتها لا تستبهم على زيد ... نقول يؤكده أن بنت جحش تشوقت منذ بدىّ الوقائع إلى نكاح " ذوؤابة ولد إسماعيل".



{ وأخرج الطبرانى بسند صحيح عن قتادة قال: خطب النبى ـ ص ـ زينب وهويريدها لزيد فظنت أنه يريدها لنفسه قلما علمت أنه يريدها لزيد أبت فأنزل الله { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا } [ سورة الأحزاب: 36 ] }. [ لباب النقول فى أسباب النزول: للسيوطى ـ ص 139 ـ طبعة 1382هـ ـ كتاب التحرير ـ مصر ].



إن ما نهدف إلى توضيحه هو أن موقف زينب بعيد عن السلبية بل إنها ساهمت بقدر ملحوظ فى إيقاع الطلاق من قبل زيد لتحل لنكاح " أول من يفيق من الصعقة" وتحقق حلمها وتحظى بهذا الشرف الباذخ وتحمل اللقب المنيف " أم المؤمنين" الذى يحلى جيد من هن أقل منها جمالاً وحسنًا وبهاءً وأخفض منها حسبًا ونسبًا.



*******



وسواء لقى هذا التحليل القبول أم أبدى القارئ عليه تحفظًا أو اكثر, فالثابت أنه بعد تمام ما حدث هلت آية كريمة" ........ زوجناكها" حققت رغبة " المزمل" ووفت بمنيته وموضعت طِلبته على أرض الواقع.



وهذا الملحظ الدقيق أدركته التيمية ابنة أبو بكر وصرحت به علانية ولا يتاح لغيرها لا من الزوجات ولا حتى من أكابر الصحابة أن يفعله معتمدة على قسامتها وحلاوتها وصغر سنها وحبه الشديد إياها: { .... حدثنا أبو أسامة قال هشام حدثنا أبيه عن عائشة ـ رضى ـ قالت: كنت أغار على اللآتى وهبن أنفسهن لرسول الله ـ ص ـ وأقول أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى :" ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك" قلت ما أرى ربك إلا يسارع فى هواك } [ صحيح البخارى : كتاب التفسير ].





*******



على هامش هذا الخبر برواياته المعتمدة وبمصادره الغزيرة تسيل الحواشى أو التعليقات الشديدة الآصرة به:



أولاً: مقام المفسرين الثلاثة ومكانة مؤلفاتهم كما رقمها الشهيد محمد حسن الذهبى ـ عطر الله مرقده:
1 ـ الرازى ومفاتيح الغيب:

{ .. كان رحمه الله فريد عصره ومتكلم زمانه, جمع كثيرًا من العلوم ونبغ فيها, فكان إمامًا فى التفسير والكلام والعلوم العقلية وعلوم اللغة, ولقد أكسبه نبوغه العلمى شهرة عظيمة فكان العلماء يقصدونه من البلاد ويشدون إليه الرحال من مختلف الأقطار... وإن تفسير الرازى ليحظى بشهرة واسعة بين العلماء وذلك لأنه يمتاز عن غيره من كتب التفسير بالأبحاث الفياضة الواسعة فى نواح شتى من العلم } [ التفسير والمفسرون: لمحمد حسن الذهبى ـ الجزء الأول ـ ص 278 ـ 279, الطبعة الثالثة 1405هـ/1985م ـ مكتبة وهبه بمصر ].



2 ـ قاضى القضاة البيضاوى وأنوار التنزيل:

{ ... صاحب المصنفات وعالم أذربيجان وشيخ تلك الناحية.

وقال السبكى: كان إمامًا نظارًا خيرًا صالحًا متعبدًا.

تفسير العلامة البيضاوى, تفسير متوسط الحجم جمع فيه صاحبه بين التفسير والتأويل على مقتضى قواعد الغة العربية وقرر فيه الأدلة على أصول أهل السنة }. [ المصدر ذاته والجزء نفسه ص 282,283].



3 ـ الإمام القرطبى والجامع لأحكام القرآن:

{ ...... كان رحمه الله من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الزاهدين فى الدنيا, المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة ....

وصف العلامة ابن فرجون هذا التفسير فقال: هو من أجل التفاسير وأعظمها نفعًا أسقط من القصص والتواريخ وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ }.[ المصدر ذاته والجزء نفسه ص 438,437].



*******



مؤلف كتاب ( التفسير والمفسرون ) هو الشيخ محمد خسين الذهبى أستاذ علوم القرآن والحديث بكلية الشريعة ـ جامعة الأزهر وتولى فيما بعد منصب وزير الأوقاف فى عهد الرئيس السادات وقامت بتصفيته جسديًا بطريقة دموية إحدى الجماعات المتطرفة [ جماعة التكفير والهجرة بقيادة مصطفى شكرى ] لتصديه للإرهاب ـ رحمه الله وأنزله منازل الشهداء.



وكتابه المذكور من أميز المؤلفات الحديثة فى بابه شمولاً وعمقًا وغزارة مادة وإحاطة بالموضوع منذ عصر الصحابة حتى الأستاذ محمد عبده وتبعه الشيخ محمد رشيد رضا.



ولعل القارئ بعد جماع ما قدمه الذهبى فى حق المفسرين الثلاثة ومؤافاتهم اطمأن قلبه وهدأ فؤاده وثلج صدره للأخبار التى نفحنا بها اولئك العلماء الأماثل والأئمة الأفذاذ والشيوخ الكُمَّل, إذ يستحيل دينًا ويستبعد عقلاً ويتعذر منطقًا أن أمثالهم يتورطون فى سرد وقائع مكذوبة أو طرح أحداث منحولة أو ذكر نوازل زيوف.



وإذا نسب واحد من المتشنجين لأى منهم ضعفًا فى النقل أو وهنًا فى الإستقراء أو هُزالاً فى الإستنباط أو تخليطًا فى التخريج أو رَبكًا فى الإستنتاج فهذا ليس طعنًا فيهم فحسب ولكنه بمثابة هدم للتراث الفكرى الإسلامى برمته.





*******



ثانيًا: اختلاف روايات الخبر هل هو علة قادحة؟
يمتاز التاريخ الإسلامى خاصة فى الفترة الباكرة بالإختلاف البين سواء فى أسماء الأشخاص أو رواية الأحداث ومرده إلى الأمية التى هيمنت على الأفراد وجهلهم بالتدوين كما درجت عليه الأمم المتحضرة مثل مصر القديمة ولا يعنى ذلك كذبًا أو اختلافًا أو تزويرًا.



ضرب هذا التباين كافى المناحى وإذ أن السيرة المحمدية العظيمة هى البدء الحقيقى لمسيرة التاريخ الإسلامى فنلفى أنه رافقها منذ فاتحتها, فمثلاً أولاده الذكور من خديجة هل هم القاسم وعبد الله والطيب والطاهر أم هما اثنان القاسم ( وبه كنى ) وعبد الله الذى لقب بالطيب والطاهر؟.



وبعد وفاة خديجة هل تزوج فى مكة قبل نزوحه إلى يثرب اثنتين هما سودة بنت زمعة والتيمية عائشة بنت أبى أبى قحافة أم ثلاثًا أضاف إليهما غزية بنت دودان ابن عوف؟.



أما عندما عَدَن فى أثرب فعدد وأسماء من تزوجهن وخطبهن وفارقهن بخلاف التسع المشهورات لايعلمه إلا الله وحده لابسبب الكثرة فقط وإنما مآبه لاختلاف كتاب السيرة المعطاءة والمؤرخين والإخباريين بشأنهن.



وذات الأمر مع غزواته وسراياه وتواريخها وترتيبها وعددها وأسامى من استخلفهم على قرية أثرب عند خروجه وأعداد من رافقه فى كل منها سواء من النازحين ( المهاجرين ) أو من قيلة " اليثاربة أو الأنصار" وأمراء السرايا وعدد القتلى إن من تبعه أو من عدوه والغنائم التى ظفروا بها والمدة التى استغرقتها كل واحدة منها بداهة باستثناء الغزوات ذات الصيت المدوى مثل بدر وأحد والخندق وتبوك علمًا بأنها لم تفلت من الإختلاف فى اجوانب الفرعية وإن اتسمت بقدر من الأهمية مثل عدد المقاتلين والفارين. [ نفر من كبار الصحابة أطلقوا لأرجلهم عنان الفرار فى بعض الغزوات فى مقدمها أحد وحنين واعترف العدوىّ عمر بن الخطاب بأنه ارتكبه يوم أحد " ا.هـ ].



كذا وقع عدم إتفاق على الأسماء حتى لبعض كبار الصحابة وأشهرهم فى هذا المجال أبو ذر الغفارى فقد أغدقت عليه " تب الصحابة" مثل " أسد الغابة والإستيعاب والإصابة" عدة أسماء, وما توافقت عليه فحسب هو كنيته: " أبو ذر الغفارى" الزاهد المشهور الصادق اللهجة ـ مختلف فى اسمه واسم أبيه والمشهور أنه جندب بن جنادة بن سكن وقيل ابن عبدالله وقيل ايمه بربر وقيل بالتصغير, والإختلاف فى أبيه كذلك إلا فى السكن قيل: يزيد وعرفه وقيل اسمه هو السكن بن جنادة بن بياض .. إلخ . [ الإصابة: المجلد السابع ص 155 ].



*******



إن الإختلاف وصل إلى بعض سور القرآن الحكيم من ناحية تواريخ وامكنة شروقها ووصل إلى سورة الفاتحة ذاتها وهى أم الكتاب, فقال بعضهم إنها مكية والآخر مدنية, وحتى يحل الإشكال ذكر ثالث أنها نزلت مرتين أى بقرية القداسة أولاً ثم بيثرب, ورابع طلع علينا برأى فى غاية الطرافة إذ قسمها شطرين أولهما ببكة والآخر بأثرب { ... وذهب قوم إلى أن الفاتحة مدنية وقال آخرون نزلت مرتين وقال بعضهم نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة, وقال أبو الحسن الحصار فى كتابه " الناسخ والمنسوخ" المدنى عشرون سورة ونظمها مع السور المختلف عليها }. [ التحبير: للسيوطى ص 43 ].



ونشد بصر وبصيرة القارئ إلى ما تضمنه عجز الفقرة " ونظمها فى السور المختلف عليها" وهو شأن معروف لمن لديه أدنى ذرة أو مُسكه فى علوم القرآن وأقرب كتابين متاحين للقارئ هما " الإتقان" للسيوطى, و " البرهان" للزركشى.



*******



نخلص من جماع ما وضعناه تحت أعين القراء أن اختلاف روايات الخبر, بخاصة, حوادث الفجر ووقائع المبتدأ ونوازل المفتتح لا يشكّل علة تقدح فى الخبر, ولا عيبًا يفسده, ولا منقصة تشينه, ولو اتخذنا الإتفاق مقياسًا للصحة ومعيارًا للصدق وميزانًا للإطمئنان إليه لإنهارت مئات بل ألوف الأخبار والآثار التى هى بمثابة ركيزة التراث الإسلامى.





*******



ثالثًا: التدرج فى تحريم الربا والخمر والفورية فى تحريم التبنى:
اتخذ القرآن المجيد منهجًا سديدًا فى تحريم عادتين متأصلتين فى المجتمع آنذاك هما الربا و معاقرة الخندريس " شرب الخمر" على الوجه الآتى:



1 ـ تحريم الربا:

فى البدء { وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [ الروم: 39].

فهنا لم يأت حكم فى الربا بل توجيه إلى الفرق بينه وبين الزكاة فهى تتضاعف وتزيد إذا أريد بها وجه الله تعالى فى حين هو ( = الربا ) على النقيض.

ثم تشرق آية كريمة أخرى فى ذات المحجة { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ النساء 160, 161].

هاتان الآيتان الكريمتان لم تحظرا الربا إنما سارتا شوطًا ملحوظًا فى درب تحريمه فقامتا بتبشيعه فهو صد عن سبيل الله وظلم وأكل أموال الناس بالباطل ومن يستحله فجزاؤه عذابب أليم.

ثم تضئ آية النهى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آل عمران 130].

ثم طلعت آيتان حاسمتان لاتدعان مجلاً لأى شك فى التحريم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة 278, 279].

وبعدها غدا الربا حرامًا على من تبع " الأمين المأمون".



*******

2 ـ تحريم الخمر:

عمومًا شربًا وبيعًا وشراءً, بيد أننا ذكرنا المعاقرة لأنها الأصل الذى يتفرع عنه سائر الأفعال فلولا الإقبال على المزّة لما دارت حولها تجارة أو خدمة.

فى أول الأمر نهى القرآن الكريم الصحابة عن الصلاة فى حالة السكر لأن واحدًا من المتقدمين أمّ نفرًا منهم خربق فى تلاوة سورة " الكافرون" فظهرت الآية لكريمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا ... } [ النساء 43].

والتى جاءت بتحريم جزئى أو وقتى وهو عدم الإقتراب منها عند العزم على الصلاة.

يبدو أن البعض سأل " المزمل" عن الخمر والميسر معًا فأجابت آية: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ َإِثْمُهُمَاأَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا .... } [ البقرة 219].

فذكرت أن إثم احتساء القهوة ( الخمر ) كبير وكأنما هى وطّأت الطريق أمام آية التحريم كيما تُقبل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 90, 91].

وما إن سمعها أحد متنفذى الصحاب حتى صاح: انتهينا يارب, ومنذ تلك الساعة جُرِمت الخمر على المسلمين.



*******



لماذا عدل القرآن المجيد عن منهجه التدرجى فى تحريمه للربا وللخمر واتخذ المنهج الفورى فى تحريم التبنى وما استتبع ذلك من رحلّية منكوحة الإبن المتبنى ( سورة الأحزاب ) الذى حطم نسقًا اجتماعيًا راسخًا فى مجتمع شبه جزيرة العرب؟.

من الجائز وجود بصيص من النور يساعدنا على الإجابة الصحيحة على هذا السؤال لو فى مقدورنا معرفة الفارق أو المسافة الزمنية بين تبغيض الربا والميسر والتحريم القاطع, بيد أنه يحول بيننا وبينه تعذر معرفة الترتيب التاريخى لظهور السور والايات. والعمل الذى أنجزه نولدكه فى هذه الدائرة لم يترجم إلى العبية حتى لالآن.

والأرجح فى مجال الرد على السؤال أن الربا ضفيرة من نسيج النظام الإقتصادى السائد آنذاك والذى يتمحور حول التجارة النشاط اليتيم فى أم القرى والمشارك فى قرية اليثاربة وأبناء يعقوب, فتحريمه دفعة واحدة سوف يصيب المعاملات المالية بتصدعات غوائر ومن ثم فإن الحكمة استلزمت التدرج ؟؟.



*******



أما من رجا ( = ناحية وجمعها أرجاء ) السلسبيل فى كتب التراث بما حملته من آثار بشانها تؤكد أنها تمكنت من كثير من الصحابة بل من بعض الأماثل إن من بنى قيلة اليثاربة أو من النازحين من قريش أم دونها من القبائل ومن ثم فإن تحريمها فجأة سوف يصيب نفوسهم بالحبوط ومزاجهم بالعكر ووجدانهم بالإنقباض و" المنتصر" حرص على إرضائهم ودأب على مداراتهم وتوخى تأليف قلوبهم, وهذا أمر طبيعى بل بديهى لأنهم أعوانه المخلصون وشيعته المؤازرون وجنده المقاتلون ومن فجاج هذه الأرضية انفجرت علة التدرج فى تحريمها وغدا من الحتم اللازم تهيئة ذواتهم للحظر المقبل والنهى القريب والمنع الوشيك.



*******



على نقيض ذياك جماعه فتحريم التبنى وإباحة الدخول بمنكوحة الابن الدعى فهو خفيض الشأن هزيل المنزلة نحيف الخطر فلا يُحدث زلزلة فى سوق المال ودوائر التجارة ولا هو تمكن من النفوس أو تغلغل فى الوجدان أو تعمق فى الشعور الجمعى. ورغم الحوجة إلى إحصائية بعدد الأبناء الأدعياء ليغدو الحكم صحيحًا فإن ما تناثر من آثار بخصوصهم ينبئ بضمور العدد.



ولعلنا: بذلك أفلحنا فى أن نلقم حجرًا من يغمزون ويلمزون مباينة ( الموعظة = القرآن ) المنهاج الذى استقر عليه فى موضوع التبنى وزواج منكوحة الدعىّ ونذكرهم بأن الذكر الحكيم حرم فورًا وأد البنات لأنه أيضًا أمره هامشى فحالاته عوارض وحوادثه طوارئ ووقائعه خمائص.





*******



رابعًا: شُرِّف الكلبى بذكر اسمه فى ( البلاغ/ المبين ) فى حين أنه خوى من ذكر اسم أو كنية أو لقب التيمىّ عتيق:
فى رحلة النزوج من مكة إلى يثر رافق " خير من مشى على الأرض" التيمىّ ابن أبى قحافى واسمه عتيق وكنيته أبو بكر ولقبه الصديق ومكث معه فى غار ثور وسجلته آيات كريمة من القرآن المجيد, ولهذا يذهب الفقهاء إلى أن من ينكر صحبة أى واحد من الصحابة فلا تثريب عليه إلا هو لأن عدم الإعتراف بصحبته تكذيب لما ورد فى الذكر الحكيم ـ نعوذ بالله تعالى من ذلك.



بيد أن الآيات خلت من اسمه أو لقبه أو كنيته فى الوقت الذى نصت على اسم الدعىّ الكلبىّ وهى مفارقة معجبة لعدة أمور منها:

1 ـ أن أبا بكر ولو أنه من فرع هزيل من قريش إلا أنه قرشى فى حين أن زيدًا كلبى ولا وجه للمقارنة بين قريش وكلب.

2 ـ أن الخدمات التى قدمها التيمى لـ ( المحمود فى السماء والأرض ) وللديانة التى بشر بها لا يقاس بها كل ما قدمه الكبىّ, بل إن ( الجامع لأنواع الخير ) نفح الأخير ( = الكلبى ) أفضالاً لا تُقدر.

3 ـ أن رحلة النزوح علامة فارقة بل هى ذروة سنام العلاقات الفوارق فى مسيرة الدين الذى دعا إليه " أحمد" ولا تعد منا مغلاة إذا رقمنا أنه لولاها لتغير تاريخ جزيرة العرب.



وليس من الإنصاف فى شئ أن توضع فى رتبتها واقعة طلاق الكلبىّ لابنة جحش, بعد أن حدّس أن ط سيد الأولين والآخرين" يريده وغِبّ إن اوحت إليه ( =إلى الكلبى زيد ) زينب يه, ما زال الاستفسار يحك قذاله ( = مؤخرة رأسه ) لأنه لم يتلق إجابة شافية أو حتى قطرة ماء يبل بها ريقه النشف.



من وجهة نظرنا أن الحرص من جانب ( البُشرى = القرآن ) على تعيين الاسم وتحديده هو قطغ الطريق على أى لبس أو شك فى أن الزوجة التى بشره بنكاحها هى زينب بنت جحش دون غيرها ليحقق رغبته كما توصل إليه المفسرون الكُمَّل والإخباريون الأثبات وكتاب السيرة المحمدية المعطار الذين ألمعنا إليهم.



فلو قال الذكر الحكيم " فلما قضى منها وطرًا" أو " فلما قضى منها زوجها وطرًأ" لتساءل أحدهم من الذى قضى منها وطرًا؟, أو من هو ذلك الزوج؟, ولو تزوج " سيد ولد قصىّ" ابنة جحش دون هذا التحديد الدقيق لأحدث ذياك النكاح ربكًا وأوقع بلبلة وأثار إضطرابًا فى مسألة على قدر وفير من الدقة ونصيب كبير من الحساسية وحظ غزير من الحروجة.



ونأمل أن يصح هذا التحليل فهو نتاج مكث طويل على باب الموضوع ولبث مديد أمام الواقعة متأن عند الخبر.



وبداهة فإن للقارئ الحق فى قبول هذا التحليل أو ملاقاته بنظرة زوراء, إنما الذى لامجاحة فيه أن الكلبىّ نال شرفًا تقطعت دونه أعناق أكابر الصحاب وتشوف إليه أعاظمهم وتمنته ذؤايهم وأنه جاء من ( القصص / القرآن ) مكافأة له جزاء وفاقًا على إقدامه على فراق الزوجة الحسناء الفاتنة ليحقق رغبة أبيه بالتبنى ومولاه فيما بعد.





*******



خامسًا: رد بنت الشاطئ المفحم على جوق الطبالين ومايسترهم هيكل:
خرجت من قراءتى لعشرات كتب السلف التراثية فى السيرة أن القدامى اتصفوا بالأمانة العلمية وامتازوا بالضمير الفكرى ومن ثم اتسموا بالموضوعية والنزاهة, فى حين أن المحديثين نفضوا أيديهم من ذلك كله وآثروا النفاق واختاروا الانتهازية وانحازوا إلى الذبذبة, ومن ثم حفلت كتاباتهم بالتلفيق وطفحت بالإنتقائية واكتظت بالترقيع وامتلأت بالتبرير وتضلعت من التعمية وارتوت بالتضبيب ونهلت من الغطرشة ( التعالى عن الحق ), ولهذا فهى توسم بالنفاق الفكرى ومجافاة الأمانة العلمية ومخاصمة الضمير الثقافى, ولسنا فى حوجة إلى تبيين العلة الكامنة وراء سلوك المحدثين لهذا المنهج الفسيد والسير فى هذا الطريق المعوج والمشى فى هذه الجادة الملتوية.



ولو أنك رسمت خطًا بيانيًا للأمانة الفكرية لهذا الفرع من العلوم لجاء منحدرًا وهابطًا لأن القدامى أوردوا الوقائع كما سمعوها والأحداث كما تلقوها والآثار كما زويت لهم مهما حملت من صدمة للقارئ أو دهشة للمتلقى أو إستنكارًا لدى السمع, وكان منطقهم وهم يصنفون: { ليستحسن من يستحسن وليستهجن من يستهجن وليستغرب من يستغرب فهذا ليس من شأننا ولسنا مسئولين عنه. ثم خلف من بعدهم خلف أمعنوا فى الغواية وأسرفوا فى الضلالة وبلغوا فى النكراء فأخفوا وغطوا وسوغوا على حساب الضمير والمسئولية والأمانة التى حملها الإنسان الظلوم الجهول }.



والذى حيرنى فى موقفهم هذا أمران:

الأول: أنهم ليسوا بحال من الأحوال بأنقى من سلفهم الصالح ولا أشد خوفًا من الله تعالى هذا من جانب, ومن جانب آخر أن علمهم ـ الحق أننى أقولها تجاوزًا ـ بجانب علم السلف مثل قطرة فى محيط فمن منهم يصل إلى مستوى ركبة ابن إسحق أو الطبرى أو الرازى أو البيضاوى أو القرطبى .... إلخ؟.

الآخر: من المفروض أننا مرقنا من العصور الوسطى وخرجنا من عهود الظلام وغادرنا زمن القيود والسدود ونعيش الآن فى أيام حقوق الإنسانن وحرية الفكر والإبداع والكتابة وغدا العالم قرية كبيرة هذا من رجا, ومن ىخر لم تعد المؤلفات السوابق أسرارًا مكتومة ولا أحاجى ولا ألغازًا مستورة مخبوءة, وبأى صورة تغدو كذلك ونحن ننعم بثورة الإتصالات. لكن فيما يبدو وبأيأة هيئة جلية أنهم عندما يغمضون عيونهم يتوهمون أن غيرهم لايراهم.



*******



بعد هذه الفرشة التى نأمل عدم تململ القارئ من طولها النسبى ندخل فى صميم الموضوع:

محمد حسنين هيكل بدأ كاتبًا ليبراليًا مستنيرًا وأصدر مؤلفات محترمة, أما عندما خاض فى خضم بحر الإسلاميات فقد فَكّ صمولة [ كلمة عربية أصيلة أقرها مجمع اللغة العربية فى مصر وأدرجها فى الوسيط والوجيز ] ضميره العلمى لأسباب لا تخفى على الفطن ولا تغيب عن اللبيب ولا تتوارى عن الذكى . [ عباس محمود العقاد قام بذات الصنيع ].



*******



ومن أشهر ما طلع به على القراء فى ذات المضمار كتابه " حياة محمد" ويند عن جوهر دراستنا تقييمه أو غيره من الإسلاميات الهيكلية, إنما الذى يهمنا ما خطه بشأن خبر الكلبى وطلاقه لابنة جحش:

{ أفيبقى بعد ذلك أثر لهذه الأقاصيص التى يكررها المستشرقون والمبشرون ولكنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم أخرى والخصومة القديمة للإسلام هى التى تملى على هؤلاء جميعًا ما يكتبون وتجعلهم فى أمر زواج النبى وفى أمر زواجه من زيبن بنت جحش يتجنون على التارخ ويلتمسون أضعف الروايات فيه مما دُسّ عليه ونُسِب إليه }. [ حياة محمد: لمحمد حسنين هيكل ـ ص336 ـ الطبعة الحادية عشرة ـ دار المعارف بمصر ].



هذا كلام يصيح به بأعلى طبقات صوته المهيب فى خطبة منبرية فى يوم جمعة واعظ فى مسجد إحدى القرى أو الأحياء الشعبية ولا يستقيم بحال صدوره من باحث جاد.



ونحن هنا إزاء احتمالين لاثالث لهما:

أولهما: أن هيكلاً لم يطلع على أمهات كتب السيرة والتاريخ وأسباب النزول والتفسير والأحاديث والأخبار .... إلخ. وهذا عيب قادح وقصور فادح ونقص واضح.

آخرهما: أو أنه قرأها وسمح له ضميره العلمى أن يرقم هذه العبارات الفلوت وهنا يثبت أنه تخلى عن أمانة القلم.



*******



هذا المسلك من جانب هيكل أثار ثائرة الدكتورة عائشة عبد الرحمن " بنت الشاطئ" ويعرف الجميع عنها أنها باحثة رصينة فضلاً عن أنها سلفية تقليدية لأقصى درجة ـ فهلهلته [ فندت جميع حججه حتى أعيته واضطرته للصمت ] وبهدلته ( = كلمة عربية فصيحة ) ولم تترك له جنبًا يرقد عليه.



وردت فى كتابها " نساء النبى " دار الهلال بمصر قائلة:

{ إن قصة إعجاب الرسول بزينب وحكاية الستر من الشعر الذى رفعته الريح وانصراف الرسول عن بيت زيد وهو يقول: سبحان الله مقلب القلوب, قد كُتِبت قبل أن تسمع الدنيا بالحروب الصليبية بأقلام نفر من مؤرخى السيرة ورواة السيرة لايرقى إليهم اتهام بعداء النبى والدس للإسلام.

فمن الحق أن ندع المستشرقين والمبشرين وأمثال موير ومرجليوث وإرفنج وسبرنجر لنقرأ القصة على مهل فى تاريخ الطبرى وفى الإصابة وفى كتب التفسير وفى السمط الثمين [ ص 140].

وفى الهامش: راجعها بالتفصيل فى تاريخ الطبرى 3 /42 ,43 وفى النهاية لابن الأثير/ حوادث السنة الخامسة للهجرة / وفى السمط الثمين 107 / وفى الإصابة ج8 .

وأضافت بنت الشاطئ:

..... فيكفى للرد عليه أن ننقل هنا تفسير الزمخشرى للآية منذ أكثر من ثمانية قرون بأن رسول الله أبصر زينب بعد ما أن أنكحها زيدًا فوقعت فى نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب " [ ص 141, 142].

ثم انتهت إلى نتيجة حاسمة وهى:

...... أن الدكتور هيكل أخطأ من حيث أراد الدفاع عن الرسول ذلك أنه بإنكاره ميل الرسول إلى زينب ورفضه أن يكون ـ ص ـ تعلق بها ألقى على المسألة ظلالاً من الريبة توهم أن هذا التعلق خطأ لايجوز على الرسول ومنقصة يجب أن ننزهه عنها .... } [ ص142 ]



*******



وختامًا فهذه الفاصلة التى انضوت على قصة الكلبىّ وبنت جحش وإن طالت بعض الشئ فإنها تضع فى حجر القارئ دليلاً على صحة ما جاء بالشطر الأول من العنوان وهو أن الفرقان خصص نصوصًا لتحقيق رغائب محمد وكيف لا أليس هو " سيد الخلائق" على بكرة أبيها؟.





[ 7 ]
نكاح عائشة التيمية


أطبقت كتب السيرة المحمدية الشريفة أن " صاحب النسب الموصول" نكح عائشة بنت أبى بكر التيمىّ وهى بنت ست أو سبع سنين, وأنه بنى بها " دخل عليها" وهى إما فى الثامنة وإما فى التاسعة, وهوفى ذياك الوقت جاوز الخمسين بثلاثة أعوام من عمره الشريف, وأنها ( = التيمية عائشة ) أخذتها والدتها ام رومان من على أرجوحة تلعب هى ولداتها عليها كيما ئهيئها لما هى مقبلة عليه فى حين أنها لم تستوعب جلية الأمر.



ولصغر سنها وجمالها ولأنها البكر الوحيدة بين نسائه العديدات, فقد حظيت عنده وبلغت فى نفسه درجة لم تصل إليها إحدى زوجاته بإستثناء سيدة نسون قريش خديجة بنت خويلد, وفى لإحدى المرات حاولت أن تنال من مكانة خديجة لديه فزجرها زجرًا شديدًا حتى قررت فيما بينها وبين نفسها ألا تعود لمثلها وأيقنت أن المقام المحمود الذى بلغته قريش عنده لم يلحقه رجل أو إمراة. [ فضلاً ارجع فى هذه الخصوصية إلى كتابنا ( فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين ) نشرته دار ميريت سنة 2001, وظهرت له طبعتان فى أقل من ستة أشهر ].



*******



وطفق " من تنام عيناه ولاينام قلبه" يدلل الزوجة الصغيرة ويحملها على عاتقه [ نساء النبى: لبنت الشاطئ ص 74 السطر قبل الأخير ], وكثيرًا ما ردد على مسامعها " حبك يا عائشة فى قلبى كالعروة الوثقى, وعندما سأله عمرو بن الاص , ذلك الذى فعل الأفاعيل فى مصرعندما غزاها استيطانًا, عن أحب الناس إليه أجاب على الفور: عائشة ". [ صحيح البخارى نقلاً عن " نساء النبى" لبنت الشاطئ ص 92].



*******



أدركت التيمية مكانتها فى قلب " صاحب الخلق العظيم" فأخذت هى من جانبها تتدلل عليه مما دفعها إلى أن تأتى بتصرفات فيها جراة لم تقدم عليها واحدة من نسونه حتى الحسناوات منهن مثل أم سلمة وزينب بنت جحش.



ففى مرة وهو يجلس مع نفر من صحبه فى حجرتها بعثت إليه صفية بنت حيي بن أخطب طبقًا به طعام, وإذ إنها يهودية ومن بيت رفيع فقد عُرف عنها أنها تجيد الطهو فما إن رأت التيمية الصفحة حتى ألقتها على الأرض فاندلق ما بها وانكسرت, كل ذلك أمام الحاضرين, كل ذلك أمام الحاضرين من تبعه, فتبسم ولم يزد على قوله " لقد غارت أمكم" بيد أنه ألزمها أن تبعث لضرتها صفية بصفحة عوضًا عن تلك التى حولتها إلى فتات أو فتيت. وباستقراء سيرته الباذخة المنيفة نؤكد أنه ما من رجل مهما بلغ خلاطه به أو مَرَة زوجة أو غيرها يبلغ به أو بها الجُسُور ( بضم الجيم والسين ) أن يفكر مجرد تفكير فى الإقدام على مثل ذاك العمل.



وسبق أن رقمنا قولها له: " ما أرى ربك إلا يسارع فى هواك أو مرضاتك" وتعقيبنا عليه ولقد ذكرت الدكتورة عائشة عبد الرحمن أن التيمية فاهت بهذه الصيحة عندما هلت الآية الكريمة بنكاحه بنت جحش " الهاشمية الحسناء". [ نساء النبى ص 79].



وإذ إن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة فإن بنت الشاطئ فى هذا الموضع غلطت مرتين:

الأولى: أن ابنة جحش ليست هاشمية ولا حتى قرشية فأبوها جحش بن رئاب من بنى أسد بن خزيمة وأمها هى التى من بنى هاشم فهى أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم والعرب لاينتسبون إلى الأم بل إلى الأب لأن مجتمعهم ذكورى بطريركى.

الأخرى: أن العبارة الفلوت التى جابهت بها التيمية بنت أبى قحافة " سيد الأولين والآخرين" ليست بسبب إشراقه آية من الذكر الحكيم بنكاحه زينب وإنما قالتها ابنة أبى بكر عندما أقدم بعض النسون على هبة أنفسهن له فإنبثقت آية :{ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء } [ الأحزاب 51 ].

ويبدو أن الدكتورة عائشة عبد الرحمن اعتمدت على الذاكرة وهى خؤون, وقد نصحنا البُحَّاث ألا يفعلوا وأن يرجعوا فى الصغير والكبير إلى المصادر.





*******

عامر بن الطفيل وقتل حفظة القرآن


بعد إنكسار المسلمين فى غزوة أحد ظن الأعراب الجفاة أن نجمهم دخل فى فلك الأفول ـ وقد خاب فألهم ولجهلهم وبداوتهم ولم يقدروا " أبا القاسم" حق قدره وضاق أفقهم عن إدراك عبقريته وقصر فهمهم عن معرفة ملكاته, فطفقوا يتحرشون به ويناوئونه, وأول من بدأ ذلك جلف يقال له عامر بن الطفيل وتعاقد معه بطنان من سلم هما عصية ورعل فعدوا على سبعين رجلاً شببة " شبان" من القراء أى حفظة القرآن الكريم وكلهم من اليثاربة بنى قيلة لايوجد بينهم من النازحين " المهاجين" أحد فقتلوهم عن آخرهم عند ماء يُقال له " بئر معونة" وأحزن ذلك المصطفى لأنه من ناحية تم غدرًا وخيانة, ومن آخر الخسارة فى أولئك الشببة القراء الحفاظ ثقيلة, فأخذ يدعو عليهم ومن عاضدهم من الأفخاذ وأفناء القبائل فى صلاة الصبح.



وبحيلة دنيئة مشابهة تمكن بنو لحيان من عضل والقارة من استدرج سبعة من القراء الحفاظ أيضًا فما إن فارقوا قرية بنى قيلة / أثرب وعند ماء لهذيل قريب من الهدة يقال له الرجيع قتلوا بعضهم وأسروا من إستطاعوا أسره وأحدهم يسمى عاصم بن ثابت حدثت معجزة بشأنه إذ بعد قتله لم يستطيعوا أن يصلوا إلى جسده إذا انتصبت حوله كتيبة من الدبر فكلما اقترب من أحد الأعاريب الخونة لدغته فأطلقت عليه كتب السيرة المحمدية المعطرة " حمى الدبر".



وبالمثل حز هذا الغدر الذى راح ضحيته سبعة من خيرة القراء فى نفس " الأمين المأمون".



بيد أن إنتصاره الساحق على بنى النضير وهم من أبناء يعقوب والقبيلة القوية الغنية والتى تتنافس القبيلة الأخرى بنى قريظة فى المنعة والثروة وتمكنه من إجلائهم من أثرب واحتياز دورهم وأموالهم ارتفعت أسهمه إلى عنان السماء, فمن ناحية ما انفكت القبائل البدوية الجافية, سواء حول بنى قيلة أو فى سائر أنحاء شبه جزيرة العرب, تعيد حساباتها وتعمل لـ " صاحب العلو والدرجة" ألف, كما أن الغنائم التى غنمها من اولاد الأفاعى بنى النضير ساهمت فى مضاعفة قوته لأن المال كما هو عصب التجارة فهو مدماك الحرب.



كذا فإن تبعه من المنازيح واليثاربة معًا بدأت الثقة تعود إلى نفوسهم سواء من الناحية القتالية أو العقائدية.



كيف؟.



بعد انتصارهم الساحق فى غزاة بدر الكبرى قويت روحهم المعنوية بدرجة مذهلة إن فى الشق الحربى أو فى الجانب الإيمانى, أما عن الأول فقد هزموا صناديد قريش الذين بلغوا ثلاثة أضعافهم هزيمة نكراء, وعن الآخر فقد ترسخ فى عين يقينهم أن دينهم هو الحق ومن ثم فإن الله أعلى رايتهم ورفع لواءهم وجعل كلمتهم هى العليا وكلمة عدوهم فى أسفل سافلين كما عزز مكانتهم فى يثرب, وقمع مشاكسيهم من اليهود والمنافقين والذين اتخذوا موقف التربص وسلكوا درب التردد واخذوا يقدمون رجلاً ويخنسون الأخرى, وأقنع الأعاريب الغلاظ حولها أنهم بخلاف ما حدسوه قوة لا يستهان بها ومن العبط تجاهلها.



بيد أنه بعد الوجيعة التى نالتهم فى أحد طفق الخط البيانى للثقة فى النفس يتدحرج إن من الناحية العسكرية أو من الجانب الإيمانى. أما الأولى فهى ليست فى حوجة إلى كشف الغطاء عنها أما الآخر فيتمثل فيما راودهم من تساؤلات كيف يهزم جند الله مع أن البلاغ أكد أن جند الله هم الغالبون, وهم كذلك!!.



إنما بعد سحق بنى النضير واستصفاء أموالهم وما فتئ الشعور الذى هيمن عليهم بعد غزاة بدر الكبرى يحتل مكانه الذى غادره ويعدن فى الموطن الذى فارقه ويتربع على الكرسى الذى هجره.



ويمكن أن نرقم أن جلاء بنى النضير شكّل علامة فارقة ورسم طريقًا جديدًا وفتح مغايرة.



فأرسل " المنصور بالرعب " قرابة شهر نفرًا من تبعه إلى أبى رافع اليهودى الذى دأب على إيذائه والتطاول عليه فقتلوه فى عقر داره وفى خيبر المعقل اليهودى الحصين والتى تخبرنا مصنفات السيرة المحمدية البالغة ذروة المجد والسؤدد أن بها أربعة آلاف مقاتل فهل توجد ثقة بالنفس أعمق؟.



*******



سمع " الإنسان الكامل" من عيونه الذين دأب على بثهم فى كافة الأرجاء أن ثعلبة وأنمارًا من القبائل البدوية التى تحتل قطاع نجد تحدثها نفسها بالاحتكاك به وبالمسلمين فخرج فى جيش كثيف عدته ثمانمائة, وفى روايات أخرى أقل, يريدهم بيد أنه ركبهم الهلع وشملهم الخوف وسيطر عليهم الرعب. ومعروف عن هؤلاء البدو أنهم لا يستأسدون إلا على من يوقنون أنه أضعف منهم ناصرًا وأهزل منهم عددًا وأنحف عُدّة شان الجبناء وهم على رأسهم فأرقلوا إلى رؤوس الأجبل وتركوا نساءهم فى محالهم فسباهم المسلمون وسميت هذه الواقعة " ذات الرقاع" ولم تحقق كسبًا ماديًا بل ظفروا معنويًا إذ أيقنت القبائل المتبدية أن المسلمين أمسوا قوة غلابة لا قدرة لهم على الوقوف فى وجهها.



*******



ثم غزا " سيد الناس" دومة الجندل وهى طرف من أفواه الشام قاصدًا أن يفزع قيصر الروم من تبعه ألف مقاتل ولما تناهى الخبر إلى مسامع الجنادلة أخلوها فلما وطئها لم يلق بها أحدًا فشنوا الغارة على الماشية ورعائها فاحتازوها زأسروهم وكرة أخرى حقق الجيش المسلم نصرًا معنويًا فحسب.



بيد أنه بخلاف من سبقه ولأول مرة فى تاريخ جزيرة العرب المبروكة يرى أو يسمع أعرابها الجفاة أن عربيًا واتته الجرأة على إرهاب قيصر الروم والاقتراب من تخوم إمبراطوريته ومن منظورهم أنه ضرب من المغامرة غير المحسوبة.





*******



غزوة بنى المصطلق
ثم نصل إلى المحطة النهائية لهذه الرحلة التى تفوح من جنباتها رائحة الإطالة وهى " غزوة المصطلق أو المريسيع" التى وقعت فى مختتمها حادثة الإفك وموجز مفاصل الوقعة أن الحارث بن أبى ضرار سيد بنى المصطلق من خزاعة ومنازلهم جمع من قومه وممن قدر عليه من أوباش الأعراب جيشًا لمهاجمة " المدثر" والمسلمين فى يثرب, ويبدو أنه من هذه النوعية من البشر التى ينعت الفرد منها بـ " الأحمق المطاع" إذ سرعان ما طارت الأخبار إلى قرية اليثاربة بنى قيلة, فندب " الحبيب المصطفى" الناس للقائه فما إن سمعوا الهيعة حتى سارعوا طائعين ملبين, ومما له دلالة عميقة أن شطرًا وسيعًا من عصبة المنافقين الذين أدمنوا التخلف سارعوا هذه المرة إلى الخروج معه, ومرجعه فى نظرنا طابور من الدوافع نقتصر منها على ثلاثة نذهب إلى أنها جوهرية.



الأول: الرهبة من سلطان "من جُعِلت له الأرض طهورًا" الذى غدا قويًا, ويأسهم من معرضته أو مناوأته.

الثانى: الرغبة فى الحصول على نصيب من الغنائم, لأن السلب والنهب والغارة على العدو وهم نيام, يقولون " صبحناهم" وهذا من سمات الجبن والخسة والنذالة التى امتاز بها أولئك الأعاريب, والحصول على الأسلاب والغنائم وسبى النسون.. جماعها مكون رئيسى فى بنيتهم النفسية, فى حين أنه على النقيض يُشكل الزرع والحصد والرى وجمع المحصول والبناء والتشييد والإعمار عناصر ومقومات شخصية المصرى القديم, ومن ثم ترك حضارة بازخة لا ضروب لها حتى الآن, فى حين خَلّف أولئك الأعاريب الأجلاف قصصًا أليمة عن التصبيح وشن الغارات فى غفلة المهاجَمين" بفتح الجيم" ونوازل فواجع عن القتل والاغتيال وروايات دامية عن أسر الرجال وسبى النسوة والفتيات إما لبيعهن فى أسواق الرقيق إماء وجوارى وإما لاتخاذهن محظيات وسرارى.

الثالث: إذا ظهرت بوادر هزيمة أو تراجع أو تقهقر لدى المقاتلين اهتبل " المنافقون وقود الدرك الأسفل من النار" وبدأوا بفتح بوابة الفرار من العدو ليلجها الباقون وأشاعو البلبلة والتخذيل وأذاعوا أخبارًا كواذب لتثبيط عزم من يقاتل من المسلمين, وجِماعة تنفيس عن الحقد الكامن فى نفوسهم والبغضاء المشتعلة فى صدورهم والشنآن الخبئ فى قلوبهم نحو " حامل لواء الحمد", ومن رأينا أن النفاق ما هو إلا المعارضة السياسية, بدليل أنه لم يفرخ بيضه الفسيد إلا بين بعض بنى قيلة, أما فى قرية القداسة قلم يوجد لأنها إنضوت فحسب على معارضة عقائدية أُساسها الخوف على المكانة الإجتماعية, وجرثومتها الحفاظ على المكاسب المالية وسندها العض بالنواجذ على المصالح الإقتصادية ودليل الثبوت على أنها ( المعارضة المكية ) عقائدبة قبلية تتمثل فى التمسك بدين الآباء لاشبهة فيها للرجا السياسى هو أن الصناديد المكاكوة أو ملأ قرية القداسة عرضوا على الأمين الرئاسة بشرط أن يهجر الدين الجديد الذى جاءهم به وبداهة رفضه بشدة.





*******



نكاح جويرة بنت الحارث


كما أن البهان على أن المنافقين اليثاربة معارضون سياسيون فقط, هو أنهم لم يعلنوا تمسكهم بعقائدهم السابقة فضلاً عن أن يدعوا إليها احدًا, ولم تخبرنا مدونات السيرة المحمدية انهم فى اجتماعاتهم الخاصة بشروا بديانة مغايرة للإسلام أو حاولوا إقناع مسلم بمفارقة ديانته والولوج فى دينهم, إذ ليس لهم دين خلاف الإسلام " عن طريق التظاهر" ولم يطعنوا فى العقيدة الإسلامية ولا فى العبادات, بل بالعكس عرف عنهم القيام بها وم ثم حُقنت دماؤهم وأعراضهم وأبشارهم وذراريهم ونسوانهم, فقط عِيب عليهم أنه كله صدر عنهم من قبيل المداهنة دون إخلاص, وهذه مسألة متروكة للهوحده, ومن هذا المنطلق عاملهم " الرحمة المهداة" معاملة تبعه المسلمين وأوكل حسابهم إلى ربه, وما حملته مصنفات السيرة المحمدية هو غمزهم ولمزهم لذاته مثل قول بعضهم فى غزاة الخندق: يعدنا بكنوز قيصر وكسرى, فى حين أن أحدنا لالايأمن على نفسه وهو ذاهب لقضاء حاجته, فهذا نقد خسيس لكنه معارضة سياسية م تمس عقيدة أو عبادة وقبلها رغب غزاة أحد وما حدث فيها, صرح رأس النفاق عبداله بن أبى سلول: خالفنى " رأيه عدم الخروج من يثرب لقتال المكاكوة" وأطاع الصبيان " الشببة الذين اقترحوا العكس" فهذا أيضًا تقييم لخطة عسكرية وليس طعنًا فى الديانة, الخلاصة أن النفاق معارضة سياسية. ثم بعد نستأنف السياق:



سمع الأعراب الجبناء بجيش المسلمين فغدروا بالأحمق المطاع الحارث بن أبى ضرار وخانوا عهدهم وميثاقهم معه وتخلوا عنه وتركوه هو وبنى المصطلق ينالون هزيمة ساحقة وذلك فى العام السادس الهجرى, وغنم " السيد المنتصر" والمسلمون مغانم كثيرة وسبيًا كثيفًا, وبين السبايا وقفت بنت السادة الرافلة فى النعيم, زوجة مسافع بن صفوان المصطلقى ( جويرة بنت الحارث ) سيد المصطلق, تنتظر دورها [ الروض الأنف فى تفسير السيرة النبوية لابن هشام : السهيلى دار المعرفة, بيروت 1978 المجلد الرابع ص 9 ]. فتقع فى سهم جندى مسلم اعتيادى هو ثابت بن قيس بن الشماس, ومن ثم تحكى لنا جويرة وهى ترى ما آلت إليه, باحثة عن مخرج يلائم مكانتها: { رأيت قبل قدوم النبى ـ ص ـ بثلاث ليال, كأن القمر يسير من يثرب, حتى وقع فى حجرى, فكرهت أن أخبر بها أحدًا من الناس ( لاحظ لا يوجد شهود يؤكدون كلامها وهى الراوية الوحيدة لهذه الرؤية المزعومة ) , حتى قدم رسول الله ـ ص ـ فلما سبينا , رجوت الرؤيا !!! [ البيهقى: دلائل النبوة ـ تحقيق عبد المعطى قلعجى ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت 1988ـ جزء 5 ص 50].



ولتحقيق الرؤيا, ساومت آسرها ثابت بن قيس, على أن تدفع له فداءها عن نفسها ويطلقها حرة, بموجب مكاتبة على العتق بذلك, وهى تعلم يقينًا أنها أسيرة لا تملك شيئًا تشترى به نفسها, فذهبت إلى النبى لتطلب من إعانتها فى مكاتبتها !!



وهنا تقول لنا التيمية عائشة الغيور: " فوالله ما أن رأيتها على باب حجرتى, فكرهتها وعلرفت أنه ـ ص ـ سيرى منها ما رأيت. أما ماذا رأت التيمية ؟, فهو ما توضحه فى قولها: كانت امرأة حلوة ملاحة, لايراها أحد إلا أخذت بنفسه .

ويشرح لنا السهيلى شارح السيرة المعنى لقوا عائشة التيمية الغيور:

الملاح أبلغ من المليح...

والملحة هى البياض...

وملاحة: فى العينين ...

وقال الأصمعى: الملاحة فى الفم..

وقول عائشة .. من الغيرة عليه والعلم بموقع الجمال منه ـ ص ـ

ونتابع الحدث وهو يتحرك, فنرى جويرة الأسيرة تدخل على النبى لتقول: يا رسول الله أنا جويرة بنت الحارث بن أبى ضرار, سيد قومه, قد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك, فوقعت فى السهم لثابت بن الشماس , فكاتبته على نفسى, فجئتاستعينك فى كتابى.

وهنا يتطلع " سيد الخلق" , العارف بمواطن الجمال والملاحة, ويملأ عينيه منها, ليعقب السهيلى على ذلك التطلع الطويل بقوله: أما نظره عليه السلام لجويرية, حتى عرف من حسنها ما عرف, فإنما ذلك لأنها إمرأة مملوكة, ولو كانت حرة, ما ملأ عينه منها, لأنه لايكه النظر إلى الإماء, ويجوز أن يكون نظر إليها, لأنه نوى نكاحها, كما نظر إلى المرأة التى قالت له: وهبت نفسى لك .. وقد ثبت عنه عليه السلام الرخصة فى النظر إلى المرأة, عند إرادة نكاحها.

وكان ما توقعته جويرية الحسناء.... حين قال لها النبى بعد تأمله الطويل: فهل لك فى خير من ذلك؟

قالت: وما هو يا رسول الله؟,

قال: أقضى عنك كتابك وأتزوجك.

قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت.

فوافقت وتم العتق والنكاح.

وهنا تعقب التيمية الغيور:" وخرج الخبر إلى الناس, أن رسول الله ـ ص ـ قد تزوج جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار, فقال الناس: أصهار رسول الله ـ ص ـ وأرسلوا ما بأيديهم, قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق, فما أعلم إمرأة كانت أعظم على قومها بركة منها" [ الروض الأنف فى تفسير السيرة النبوية لابن هشام : السهيلى دار المعرفة, بيروت 1978 المجلد الرابع ص8, 9 , 18, 19].





*******



حادثة الإفك


دأب " المعصوم" على إصطحاب زوجة أو أكثر بطريق الإقتراع عند الخروج إلى أى غزاة, وفيها اصطحب أم سلمة وعائشة وهما من أجمل زوجاته وتلحق بهما فى البهاء والحسن زينب بنت جحش.



فى طريق الرجوع وقرب أثرب بات " أبو القاسم" ومن معه ثم أدلج وأذن بالرحيل, بيد أن التيمية بنت أبى بكر بن أبى قحافة شعرت بضرورة قضاء الحاجة فمشت مسافة حتى جاوزت المعسكر وعند عودتها تحسست عقدًا من جزع ظفار فلم تجده فعادت تبحث عنه , إنما عندما وصلت إلى المعسكر فوجئت بأن الموكلين بجملها الذى عليها هودجها قد ظنوا أنها به فقادوه وارتحلوا مع الآخرين ومن ثم لم تجد أحدًأ, والحل الذى توصلت إليه بقاؤها فى مطرحها حتى يتبينوا خطأهم وعندئذ سوف يعودون لأخذها. فبينما هى جالسَةٌ في منزلها غلبتها عيينها فَنامت . وكان صفوان بن المعطِلِ السلميُّ ثم الذَكْوَانِيُّ من وراء الجيشِ , فادلج , فأصبح عند منزلها ; فلما رآها استجع" قال: إنا لله وإنا إليه راجعون" إذ عرفها وهو أحد الصحب لـ" سيد ولد قصىّ" , فأناخ لها بعيره وأركبها عليه وسار حتى لحقا بالباقين شدّ الضحا.



رأى المنافقون وعلى رأسهم كبيرهم عبد الله بن اُبى هذا المنظر أطلقوا ألسنتهم بحديث فى حق عائشة وصفوان سمى فيما بعد " حديث الإفك"

مستغلين حالة الغيرة القاتلة التى تعانيها التيمية إثر زواج " صاحب مكارم الأخلاق" من جويرية بنت الحارث.



وساهم نفر من المسلمين فى لوك هذه الحكاية , منهم حسان بن ثابت الذى طالما نافح عن " سيد الخلق" وهجا أعداءه وخصومه ودعى فيما بعد بشاعر النبى, ومسطح بن أثاثة, ومن العجيب أنه يمت بصلة لأبى بكر التيمىّ, وحمنة أخت زينب بنت جحش ربما إعتقادًا منها بأن ذلك يخدم أختها, فى حين أن هذه ـ وهى الضرة ـ جاء موقفها على النقيض وشهدت فى حق التيمية شهادة رائعة رغم أنها كانت تنافسها فى الجمال والزوج.



ومما عقد المشكلة أن عائشة فى ذياك الوقت لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرها فقد ذكرت جاريتها بريرة أنها لصغر سنها ترقد عن العجين حتى تأتى الشاه فتأكله. وهى نفسها وصفت ذاتها أنها جارية حديثة السن لاتقرأ كثيرًا من القرآن وغاب عن ذاكرتها اسم يعقوب , فقالت والله ما أجد لى مثلاً إلا أبا يوسف.. وصغر سن الفتاة مدعاة إلى الظن بها الطيش وعدم التعقل والإندفاع والبعد والتروى ومخاصمة قراءة العواقب.. إلخ, أى أن هذا العنصر فى جانبها أعطى المنافقين فرصة لمزيد من الإتهامات والشك والمزاعم.





صفوان بن المعطل


وفى نفس الوقت كان معروفًا عن صفوان بن المعطل أنه رجل شاب لا يصبر , وجاء ذلك فى سنن ابو داود, باب الصوم [ حديث 2103] : { ......‏ ‏عن ‏ ‏أبِي صالح ‏ عن ‏ ‏أبي سعيد ‏ ‏قَال : ‏جاءت امرأة إِلى النبِي ـ‏ ‏ص ـ ‏ ‏ونحن عنده فقالت يا رسول اللَّه إِن زوجي ‏ ‏‏صفوان بن المعطلِ ‏يضربني إِذا صليت ويفطرنى إِذا صمت ولا ‏ يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس قَال وصفوان‏ ‏عنده قَال فسأَله عما قالت, فقال يا رسول اللَّه أما قولها يضربنى إذا صليت فإنها تقرأ بِسورتين وقد نهيتها قَال, فقال لو كانت سورة واحدة لكفت الناس وأما قَولها يفطرني فإنها تنطَلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر فقال رسول اللَّه ـ‏ ‏ص ـ ‏ يومئذ ‏ ‏لا تصوم إمرأة إِلا بإذن زوجها وأما قولها إنى لا أصلى حتى تطلع الشمس فإنا أهل بيت قَد عرف لنا ذاك لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس قال فإِذا استيقظت فصلِ. ‏قَال ‏ أبو داود ‏ ‏رواه ‏حماد يعنى ابن سلمة ‏ ‏عن ‏ ‏حميد ‏ ‏أو ‏ ‏ثَابِت ‏ ‏عن ‏ ‏أَبِي المتوَكلِ }





*******



عبد الله بن أبى بن سلول رأس النفاق


تولى كبر حديث الإفك والبطلان عبد الله بن أبى بن سلول رأس النفاق وزعيم المنافقين وخبّ فيه ما شاء له خياله المريض ونفسيته الخبيثة.

والنفاق حسبما ألمحنا: معارضة سياسية, أمسك بزمامها ابن سلول لأنه قبيل أن ينزح " المعطى جوامع الكلم" إلى يثرب أطبق بنو قيلة أوسهم وخزرجهم على تنصيبه ملكًا عليهم, بيد أن وصول " المعروض عليه مفاتيح خزائن الأرض" خربق التدبير وأفسد الخطة وبعزق الرصيص, فخاب أمله وطاشت طلبته وتبددت منيته, فكيف لايترسب الحقد فى فؤاده وتتغلغل الضغينة فى أضلاعه وتتعمق البغضاء فى حناياه نحو " أحمد". وإلتفت حوله نفر من الذين أصابهم الجزع على مصالحهم لعدون النازحين معهم بين الحرتين وكذا من لهم علائق مع أولاد الأفاعى اليهود وأسسوا مانستطيع أن نطلق عليه حزبًا معارضًا. أخذ ابن سلول ومن سار معه فى دربه يضايقون " إمام الأولين والآخرين" وتبعه بالأقوال والأفعال, وما انفك بعض صالحى المسلمين من رهط عبد الله بن أبى يعتذرون عن أفعاله ويقولن لـ " صفوة البشر" ارفق به إذ عند تشريفك قريتنا طفقنا ننظم الخرز له توطئة لتتويجه. وكلما ارتفع نجم " أحمد" وعلت مكانته وقوته وصعد فى الخافقين مقامه تميز رأس النفاق غيظًا وامتلأ كراهية وتأجج بغضًا.



*******





وفى وقعة المريسيع أو بنى المصطلق أصيب ابن سلول بالكمد وعلاء الغم وأحاط به الهم من أخمص قدمه حتى ذؤابة رأسه العفن لفلج المسلمين الساحق على عدوهم. لأن كبير المنافقين اعتقد أن الأحمق المطاع الحارث زعيم بنى المصطلق, وقد جمع الألوف ؟؟؟ من الأعاريب ـ كما وصلت إليه الأخبار ـ سوف يكتب له الظفر فلما حدث العكس تضاعفت مرارته فانتهز فرصة نزاع بين سقاء النازحين ونديده الذى يعمل لحساب بعض اليثاربة فأراد أن يوقع فتنة هوجاء بين الطائفتين وصدرت منه عبارات طائشة كشفت عن مكنون ذاته مثل" والله ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل = سمن كلبك يأكلك ... ولئن رجعنا إلى المدينة = يثرب ليخرجن الأعز منها الأذل .... إلخ.



وتركت هذه العبارات الفلوت أثرًا غائرًا فى نفوس المنازيح حتى العدوىّ عمر بن الخطاب اقترح على " رحمة الأمة" أن يأمر واحدًا من رهط عبدالله بن أُبى بقتله لكنه رفض هذا العرض النزق الذى لو اخذ به لاشتعلت حرب أهلية بين النازحين وبنى قيلة.



وبحكمته الرائعة وأفقه الوسيع وحلمه اللامحدود ؟؟؟؟ وخلقه الكريم ؟؟؟ استطاع " صاحب العلو" أن يخمد نيران ويطفئ أوارها ويكتم لهبها ... غبها ازداد رئيس المنافقين تحفزًا زغدا أكثر تربصًا وأشد توقانًا لأى نهزة وأعمق تشوقًا لأقا فرص للانتقام من " صفوة البشر" الذى قطع تشريفه أثرب عليه طريق الملكية ولا أمل ولا رجاء فى ظعنه عنها كما أن سهمه فى ارتفاع مستمر ومن أتت إليه حادثة الإفك من حيث لا يحتسب وظلت تتدحرج حتى قرت قُرورًا مكينًا فى حِجره فكيف لايوسع فوهة فتنتها ولا يعرّض جوانب بلبالها ولا يعمق غور مرجها ولا يكشف طباق هرجها؟. [ كتاب المغازى: لمحمد بن عمر بن واقد المعروف بالواقدى المتوفى سنة 207 هـ ـ تحقيق د/ ارسدن جونس د.ت.ن. من منشورات مؤسسة الأعلمى / بيروت لبنان ـ وهو فى ثلاثة أجزاء ويقال: الناس عيال فى المغازى على الواقدى وهو شيخ محمد بن سعد صاحب " كتاب الطبقات الكبرى" وقد اشتهر ب " كاتب الواقدى" ].





*******



معاناة محمد


رغم ثقة من " أعطى الشفاعة" الكاملة فى طهارة وإخلاص زوجته الصبية الجارية " آنذاك" عائشة وشكه فيما قال " الإفكيون" عنها ظلمًا وخسة ونذالة فإن النازلة قد أصاببته بقدر غير قليل من الضيق والمعاناة والمكابدة حتى إنه أبدى جفاء لها فاضطرت إلى أن تطلب منه أن تنتقل إلى بيت أبيها لتتولى أمها تمريضها لأنها عليلة فأذن لها. [ السيرة النبوية : لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 116 سابق ].



ويبدو أن المنافقين قد اوغلوا فى الوقاحة وضاعفوا من إطلاق ألسنتهم فى حق التيمية وصفوان فاضطر إلى صعود المنبر وخطب " أيها الناس ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى ... ويقولون ذلك لرجل ( = صفوان بن المعطل ) ما علمت منه إلا خيرًا وما يدخل بيتًا من بيوتى إلا معى" [ المصدر السابق ص 117 ].



ولكن عقب هذه الخطبة أوشك الأوس والخزرج أن يتقالا, لأن أحد زعماء الأوس ألحن إلى قتل ابن سلول " الخزرجى" فتعصب له رهطه ولولا دبلوماسية الرسول وحنكته لدخل بنو قيلة فى عركة دامية وتمكن بعد لأى من فض الاشتباك بينهما.



إنما هذا الشروع من جانب اليثاربة فى العودة إلى حالتهم قبل نزوحه إليهم منذ ما يقرب من خمسة أعوام وكأنما ما بذله من جهود لتأليف قلوبهم غدا على جرف سرعان ما ينهار وسببه حديث الإفك, جِماعه ضاعف ألمه, خاصة أن هذه الأحداث توالت الواحدة إثر الأخرى وهو فى قمة انتصاراته الحربية.



ويضاف إليه أن هذا الإتهام لم يُلصق إلا بابنة أخلص أعوانه وصاحبه فى الغار إبان رحلة النزوح ومن قدم له من الأيادى والخدمات دون منٍ وكثيرًا ما صرح هو به .. فاستنفر ذلك مزيدًا من الاضطراب والتمزق, وبيت التيمىّ أبى بكر ذاته دخل عليه ما لم يدخل على بيت من العرب كما أكدته عائشة وتصف لنا أنه قبيل أن يقرأ عليهم " من تنام عيناه ولا ينام قلبه" آيات براءتها أوشكت روحا أبويها أن تخرجا مما يشف عن سوء الأحوال النفسية الذى ضرب أبطال القصة.



*******



من أجله أصبح من ألزم اللازم تنزيل أو استنزال آية أو آيات تحقق رغبة " خيرة خلق الله" فى إظهار براءة عائشة التى داخله بشأنها بعض الشك وليسترد وزيره الأول ـ ونعنى به التيميّ ـ كرامته ومكانته ولينقمع الخبيث الدنئ عبد الله بن ابى بن سلول ومشايعوه وليغلق هذا الملف المرعب كيما يتفرغ لمهامه الجسيمة وليواصل تثبيت دولة قريش فى أثرب والتى بها حقق حلم جدوده قصىّ / هاشم / عبد المطلب, وهذا ما حث.





*******



عائشة تحكى عن آيات الفرج


{ قالت عائشة ... ‏ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم أني حينئذ بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله ‏ ـ ‏ص ـ ‏ ‏في النوم رؤيا يبرئني الله بها فوالله ما ‏ ‏رام ‏ ‏رسول الله ـ‏ ‏ص ـ ‏ ‏مجلسه ولا خرج أحد من أهل ‏ ‏البيت ‏ ‏حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من ‏ ‏البرحاء ‏ ‏حتى إنه ‏ ‏ليتحدر ‏ ‏منه من العرق مثل ‏ ‏الجمان ‏ ‏وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت فسري عن رسول الله ‏ ـ ‏ص ـ ‏ ‏وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة ‏‏أما الله فقد برأك, قالت فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله عز وجل قالت وأنزل الله تعالى ‏ " ‏إن الذين جاءوا ‏‏ بالإفك ‏ ‏عصبة ‏ ‏منكم " ‏العشر الآيات ثم أنزل الله من سورة النور ـ رواه البخارى ومسلم } [ أسباب النزول: للواحدى ـ ص 217ـ مصدر سابق./ لباب النقول فى أسباب النزول: للسيوطى ـ ص 123 وما بعدها ـ مصدر سابق./ وأثبت أنه أخرجه الشيخان أى البخارى ومسلم./ وأضاف : فى الباب عن ابن عباس وابن عمر عند الطبرانى ـ وأبى هريرة عند الطبرانى وأبى اليسر عند ابن مردويه./ والمقبول فى أسباب النزول : لأبى عمر نادى بن محمود حسن الأزهرى ص 482 وما بعدها مرجع سابق ـ وقال أخرجه البخارى ومسلم وأحمد فى السند وابن جرير فى التفسير والبيهقى فى الدلائل والواحدى فى اسباب النزول ].





*******



توثيق الحديث


ندر أن يجتمع لحديث شريف مثل هذا التوثيق, ومن ثم فإنه قُلة درجات الصحة وهو ثَرب المعطيات, غنى بالمعانى, ملئ بادلالات متضلع بالمضامين. التيمية عائشة على لسانها جاء كرتين: " وحى يتلى" و " أمر يتلى" لا " يدون أو يكتب أو يرقم أو ينسخ" أى أن الأصل فى القرآن الكريم التلاوة والقراءة والحفظ فى الصدور.



وفى الحديث أن " الحبيب المصطفى" بعد أن هلّت آيات البراءة طفق يضحك ونقل إليها البُشرى وحق له أن يفعل وأن يقول فقد حققت الأيات البينات أمنيته لا فى براءة زوجته الحبيبة فهو لم يساوره فى ذلك ريب وإنما لأنها آيات لإعلام الكافة بها ومن ثم فإن ما فاهت به التيمية عائشة من تطلعها أن يرى الأمين رؤيا تبرئها فى غير محله لأن البراءة لو سيقت عن هذا الطريق لما كفت ولعقب المنافقون الحاقدون: إن الرؤى تخضع لتعبيرات مختلفة وتفسيرات شتى وتأويلات متباينة بعكس الآيات الحاسمة التى قطعت دابر أى شك وقضت على كل التباس وأنهت سائر ضروب الريب, هذا من أهم دوافع سرور " حامل لواء محمد" وضحكه.



فقد قمعت هذه النصوص ابن سلول وتبعه ودحرتهم, وأكدت أن مقامه السامى لا تنال منه هذه المزاعم العفنة والإقتراءات الحقيرة والإدعاءات الباطلة, ومن جا آخر وثقت طهارة بيت صاحبه ووزيره الأول التيمى ورُدَّت إيه كرامته الت حاول المبطلون خدشها ورفعت رأسه وأعادت إليه مكانته, ولم تكتف الآيات به بل كنتيجة حتمية لها أهدى للمسلمين الذين خاضوا فى موحل الإفك عقابهم: حسان ومسطح وحمنة بنت جحش إذ أقيم عليهم حد القذف ... وهكذا حققت الآيات التى ظهرت كل ما امله " المدثر" وزوجته وأبواها وهطاهما بل وكافة المسلمين.





*******

No comments: