Thursday, May 24, 2007

الثائر الأحمر - علي أحمد باكثير(1)ا

الثائر الأحمر



ــ علي أحمد باكثير

جدول المحتويات

جدول المحتويات 2
السفر الأول 4
السفر الثاني 53
السفر الثالث 72
السفر الرابع 115

الثائر الأحمر




(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) (قرآن كريم)
السفر الأول
1


في ضاحية من ضواحي قرية الدور، إحدى القرى المنتشرة حول الكوفة مما يلي البطائح، وعند الظهيرة من أحد أيام الصيف القائظة، طفق حمدان يمسح بأطراف أصابعه العرق المتصبب من جبينه، وهو يعمل في حقله، وإحدى رجليه على سنة المحراث والأخرى يرفعها عن الأرض حيناً، ويلمس بها الأرض حيناً، وقد أمسك بخطام الثور الذي يسير أمامه يجر خطوه جراً ثقيلاً، والسوط في يمنيه ينكت به مترفقاً على ظهر صاحبه الأعجم كلما توقف عن المسير أو تثاقل فيه، وكأن لسان حاله يقول: (أيها الثور الحبيب، كلانا محكوم عليه أن يعيش في هذا الشقاء، وهذا السوط في يميني، ويعز عليَّ أن يقع على ظهرك، فلا تحوجني إلى استعماله).
ويبلغ حمدان نهاية الشوط، فيدير الثور ويكر بالمحراث راجعاً، فيتنفس الصعداء إذ تقع عينه على تلك الأخاديد التي خطها بالمحراث على وجه الأرض صفوفاً مستقيمة مستوية، كأنها سطور خطها قلم كاتب صناع، وترتاح نفسه لرؤية الصنيع الذي قام به وجه يومه ذاك، وغداً يبذر فيها الحب، ويرسل إليها قنى الماء من فروع الرافد الغربي، فترتوي تلك الأرض العطشى، ثم لا تلبث إلا أياماً حتى يكسوها النبت، فتصبح جنة خضراء تسر الناظرين.
ولكنه ما لبث أن شعر بالأسى يعصر قلبه فترتعش له أوصاله حين يثب به خاطره إلى يوم الحصاد، فيتذكر أن ليس له من هذا العمل الدائب والجهد الناصب الذي يقوم به وأهل بيته طول يومهم في لفح الهجير وتحت الشمس المحرقة، وزلفاً من ليلهم متعرضين للبرد القارس في ذلك الجو القاري، إلا نصيب ضئيل لا يكاد يقوم بأودهم من جشب الطعام وخشن الملابس، ولا يضمنون به أن يمر عامهم ذاك دون أن يجوعوا يوماً لا يجدون فيه حتى ذلك العيش الكفاف، حين يلم بأحدهم ما يقعده عن العمل من مرض أو مشغلة.
على حين يذهب معظم ما ينتجه عملهم المتواصل إلى خزائن شاب قاعد عن العمل مشغول بملذاته وملاهيه في قصوره المتعددة وجواسقه المنتشرة في ضواحيها، لا يدري كيف ينفق ماله من كثرته، أو كيف ينفق وقته من فراغه، ولا يحول عليه حول حتى تضاف إلى أملاكه الواسعة أملاك جديدة يعمل فيها عشرات من أمثال حمدان وأهله ليسدوا جوعهم وليضاعفوا ثروته أضعافاً مضاعفة، ذلك هو سيدهم ابن الحطيم مالك الأرض التي يعمل فيها حمدان والأراضي الواسعة حولها التي تمتد من جهاتها الأربع أميالاً وأميالاً حتى لا يكاد العاملون فيها يعرف بعضهم بعضاً.
إن هذا الشاب الثري الذي قضت الأيام على حمدان أن يعمل في أرضه فصار بذلك سيده، والذي لم ير حمدان له وجهاً إلى يومه ذاك ولا يعرف عنه إلا اسمه المشهور في تلك الأنحاء وسيرته الخليعة التي يتحدث بها أهل تلك المنطقة، ويروونها فيما بينهم كما يروون أساطير الأقدمين –لهو إنسان مثل حمدان، قد خرج إلى هذه الدنيا من صلب آدمي مثل والده وترائب أنثى كأمه، لا يمتاز عنه بشيء إلا أن أباه الحسن الحطيم قد ترك ضياعاً واسعة في تلك الجهة، فكفاه بها مشقة العمل، وملكه رقاب عباد الله المحتاجين إلى العمل فيها ليقيموا به أصلابهم.
كان الحسين الحطيم – فيما يروي حمدان عن أبيه- يملك خمس ضياع متفرقة في تلك الناحية يفصل بين بعضها وبعض ضياع صغيرة لغيره من صغار الملاك والمزارعين، كان جدهم يعمل في أرضه بنفسه ويستغلها لحسابه، فجعل الحطيم يستخدم ماله وجاهه عند السلطان في الإحاطة بأولئك الملاك الصغار والتضييق عليهم بمختلف الوسائل وشتى الطرق، فحيناً يدفع الأشقياء إلى إتلاف القنى التي تسقي تلك المزارع وحيناً يغري اللصوص ليسطوا على ثمارها ليلاً أو يفسدوا زرعها أو يشعلوا النار في سنابلها قبيل الحصاد، وحيناً يرشو عامل القرية ليوعز إلى جباته الغلاظ أن يفرضوا على أولئك المساكين خراجاً أكبر رمما تحتمله أرضهم، ويشتطوا في مطالبتهم بذلك حتى يرهقوا كواهلهم ويضطروهم إلى الاستدانة، إما من يهودي القرية بالربا، أو من أحد تجارها على أن يستولي التاجر على غلات أرضهم أو ثمارها بالأسعار التي يقترحونها، فما لبث الملاك أن رهنوا أملاكهم، ثم ما لبثت الرهون أن غلقت، فيتقدم سماسرة الحطيم لشرائها واحداً بعد واحد بأثمان مبخوسة، فما هي إلا أعوام معدودة حتى اتصلت ضياع الحطيم بعضها ببعض، وصارت تلك الناحية كلها ملكاً خالصاً له، وما ينس حمدان من الأشياء فلن ينسى أن والده كان أحد أولئك الملاك الصغار الذين سقطت أملاكهم في يد ذلك المالك الكبير، ولو بقيت لوالده ضيعته الصغيرة لورثها عنه، فاستطاع أن يعيش فيها عيشة طيبة هو وأهله وعياله، ويتمتعوا بثمرات عملهم وكدهم.
ولم يثبت للحطيم في ميدان الصراع على امتلاك أراضي تلك المنطقة وانتزاعها من أيدي أهلها الصغار إلا مالك كبير آخر هو أبو الهيصم ابن أبي السباع من وجهاء تلك القرية، له مثل مال الحطيم وجاهه ونفوذه مطامعه، وقد سلك مثل السبل التي سلكها منافسه، وتم له من الاستيلاء على أملاك جيرانه الضعفاء قريب مما تم للحطيم، وهكذا أصبح هذان المالكان سيدي القرية، يتنازعان النفوذ فيها لدى ذوي السلطان من عامل القرية إلى والي الكوفة إلى الوزراء ورجال البلاط في عاصمة الخلافة.
وقد أدى التنافس المستعر بين هذين المالكين، ثم بين وارثيهما بعدهما، إلى انقسام أهل القرية وما حولها إلى حزبين كبيرين يتعصب أحدهما لآل الهيصم والآخر لآل الحطيم، وقلما يمضي يوم دون أن يتشاجر اثنان من أتباعهما أو يتسابان في سوق القرية أو في جامعها أو في أحد أزقتها. وقد يعظم هذا الشجار فيشمل أهل القرية جميعها، ولا سيما في الأعياد والمواسم أو الولائم الكبيرة التي يولمها أحد البيتين فتصبح القرية ميدان قتال بين الفريقين بالعصي والحجارة والخناجر والسيوف، تسيل فيه الدماء، وتنهب الحوانيت وتتعطل مصالح الناس يوماً أو يومين حتى يتمكن عامل القرية وشرطته من الحيلولة بين الفريقين ووضع الأمور في نصابها. ولا يقتصر هذا التحزب والخصام على سكان القرية، بل يتعداهم إلى الفلاحين والأكارين الذين يعملون في أرض المالكين الكبيرين، فكثيراً ما يقع العراك بينهم فيسقط منهم صرعى كثيرون في سبيل الشيطان إرضاء لنزوات هذين السيدين اللذين يتحكمان في رقابهم بامتلاكهما الأرض التي فيها يعملون.
وتلي هذه المشاجرات مقاضيات ومحاكمات وأحكام تصدر بالسجن على بعض والغرامة على بعض والجلد على آخرين، ولكن السيدين الكبيرين اللذين كانا مصدر البلية كلها يبقيان بمعزل لا تمتد إليهما يد القضاء، وقد يقضي أحدهما ليلته المشئومة بأحد أبهاء قصره في قصف وشراب مع خلصان ندمائه وفهيم عامل القرية، لا ينهنههم عما هم فيه من اللهو والمرح ما يحمله الظلام إليهم من عويل النوادب في القرية وهي تنوح على موتاها.
وقد اكتوى حمدان بهذه النار فيمن اكتوى، فإنه ليذكر ما أصابه وأصاب ابن عمه عبدان ذات ليلة وهما يزوران صديقاً لهما من الفلاحين الذين يعملون في أرض الهيصم، فبينما يسمران عنده إذا بنبأ سرى في الضيعة بأن قتالاً يدور في القرية حينذاك بين أتباع سيدهم وأتباع ابن الحطيم، وإذا عصبة من الفلاحين يقتحمون كوخ المضيف بعصيهم وفؤوسهم يريدون أن يضربوا حمدان وعبدان على الرغم من توسلات المضيف إليهم أن يكفوا عنهما لأنهما في ضيافته، ولا يجوز الاعتداء على الضيف، فاضطر حمدان وعبدان أن يقاتلاهم دفاعاً عن أنفسهما حتى تمكنا من الهرب، واتفق أن أصاب حمدان أحدهم بضربة في فمه سقطت لها أسنانه فكان أن حكم عليه بدفع غرامة ثقيلة ظل يشكو عقابيلها عاماً كاملاً.
كان حمدان في نحو الخامسة والثلاثين من عمره قوي البنية جلداً على العمل، بشوشاً لا تكاد الابتسامة تفارق شفتيه حتى في أحلك الساعات وأهول الخطوب، ولكنه يحمل وراء هذا الخلق الرضي، وهذا الثغر البسام، قلباً يضطرم بالثورة على تلك الأوضاع التي يراها جائرة لا يجوز لبني جلدته أن يتحملوها صابرين، ولا يعتبرها إلا فترة من فترات الظلم والاضطراب لا يمكن أن تستقيم عليها حياة الناس، فلا ينبغي أن تستمر طويلاً.. كان يعتقد أن ما بناه المال والنفوذ لا يمكن أن يهدمه إلا المال والنفوذ، فأنى له هذان وهو لا يكاد يملك عيشة الكفاف لنفسه ولعياله إلا بمشقة وجهد، وبعد أن يقدم لسيده ابن الحطيم أضعاف أضعاف ذلك من كد عامهم.
إنه ليسائل نفسه أحياناً: أحر هو أم رقيق؟
نعم إن ابن الحطيم لم يشتره من النخاسين ولم يدفع ثمناً له فهو لذلك حر في عرف الناس، ولكن ابن الحطيم يملك ناصيته ويتحكم في رزقه، فجعله بذلك كأنه من رقيقه، بل عسى أن يكون الرقيق أحسن حالاً منه وأطيب بالاً إذ يشعر أن مولاه لا بد أن يعنى بشأنه لئلا يخسر قيمته حين يصيبه مكروه، وليس الأجير الحر كذلك، فما أكثر ما تخدع الأسماء.
كانت تدور هذه الخواطر وأمثالها في رأس حمدان، وهو يشق الأرض بمحراثه في ذلك اليوم الشديد الحر، فلا يعوقه ذلك شيئاً عن الاجتهاد في عمله وبلوغ الغاية فيه، وفي جانب آخر من الحقل غير بعيد منه، كانت شقيقتاه عالية وراجية تعملان في تكسير الركام وتسوية التربة التي كان أخوهما قد حرثها من قبل، وكان الحديث يدور بينهما بصوت خافض ويتناول ما يطيب لهما الخوض فيه من شئون جارتهما من نساء الفلاحين وفتياتهم، فهذه الجارية فلانة قد خطبها فلان ولكنه عجز أخيراً عن دفع ما بقي عليه من مهرها فانتهى أمره بفسخ الخطبة، وأخذ يطالب أباها بالجزء الذي دفعه من المهر فلم يعطه شيئاً، مدعياً أنه قد أنفقه في تجهيزها، فرفع أمرهما إلى قضاء القرية، وهذه فلانة امرأة فلان قد وضعت ثلاثة توائم، وإنهما لتعجبان من ذلك الرجل القمئ الضعيف المتضائل كيف استطاع أن يولدهما ثلاثة في بطن، وتلك فلانة ابنة صديقة أمهما، وقد طلقها زوجها لأنها لم تحبل بعد أن عاشت معه سبع سنوات، ثم تبين له بعد تطليقها أنها حملت منه، فليت شعري هل يراجعها بعد ما تزوج امرأة أخرى.
كانت الفتاتان تتحدثان وهما منهمكتان في عملهما، ولا تنقطع إحداهما عنه إلا ريثما تسوي ما اختل من نظام شعرها بين الفينة والفينة، أو تصلح العصابة التي تمسكه أن يتهدل على وجهها، أو ريثما تدير –اتقاء للشمس- المظلة التي تلبسها على رأسها من خوص النخل، أو ترفع جيب قميصها عن صدرها الناهد وقد لصق به لصوقاً شديداً من العرق فيبرز نهداها بروزاً صارخا يشعرها بالخجل إذ يخيل إليها –إن حقاً وأن وهماً- أن قميصها على سواده قد يشف عن سواد حلمتيها.
قالت عالية: لأختها، وقد نظرت إلهيا فرأت على ثغرها ظل ابتسامة عابثة: (ما خطبك يا راجية؟ ما سنح ببالك؟).
- أتعرفين ثمامة ذلك الفتى الداعر؟
- نعم أعرفه ولا أظنه كما تصفين، فما باله؟
- إنه يستحق قطع رأسه.
- ماذا فعل؟
- تعقبني اللعين في ذهابي إلى القرية أمس.
- نعم.
- وعند رجوعي منها أيضاً.
- نعم.
- وغازلني ودعاني يا حمراء العينين، أرأيت إلى جرأته ووقاحته، لقد هممت أن أشدخ رأسه بالفأس التي كانت معي.
- هل ساءك أن وصفك بحلية استلطفها فيك؟ إنك وحمدان قد نزعتما في لون العينين إلى الوالد رحمه الله، بيد أني أخذت عن أمي لون عينيها.
- ولكن عيني لا تبلغان مبلغ عيني حمدان من الاحمرار.
- أجل ولكنهما بعد لحمراوان، لوددت لو أنهما كانتا لي فإني أراهما أجمل وأملح، وماذا قال لك ثمامة بعد؟
- ماذا عسى أن يقول مثل هذا الفتى الخبيث لفتاة مثلي إذا أراد أن يختلها؟ قال لي إنه يهواني وإنه يتمنى لو أقبله بعلا لي.
- فماذا قلت له؟
- أردت أن أصرفه عني فزعمت له أنني مخطوبة لعبدان ابن عمي.
- فماذا قال؟
- ما صدقني بل ضحك ضحكة فاجرة وقال: (تلك أختك عالية فلا تدعي ما ليس لك).
فأسبلت عالية جفنيها فظهر واضحاً جمال أهدابها السود وهي تكاد تلامس وجنيتها من طولها، وانكفأت تقول: (ألم يقل عني شيئاً غير هذا يا راجية؟).
فترددت راجية قليلاً ثم قالت: (لا، لم يقل شيئاً آخر).
فرفعت عالية جفنيها فطفقت عيناها تلمعان كأنهما نجمان وجعلت تنظر في عيني أختها كأنها تشك في صدق ما تقول ثم قالت:
بحياة أمي يا راجية وحياة حمدان!
فرجعت راجية تقول: (الحق أقول لك يا أختي إنه أراد أن يغيظني لما أغلظت له الرد وقطعت عليه السبيل فقال لي: لولا أني أعلم أن أختك قد خطبها ابن عمها فهل تظنين أني أوثرك عليها وهي أجمل فتاة قبل شفتيها ماء الفرات؟).
قالت عالية وقد ازدادت عيناها صفاء ولمعاناً: (أوقد قال ذلك؟ إني لأخال صاحبك هذا شاعراً يا راجية!).
قالت راجية وقد سرى في جبينها طائف من العبوس: (أو يروقك الشعراء بعد يا عالية؟ أليس بحسبك عبدان ابن عمي؟ إنه والله لخير منه ألف مرة. أما والله لو كنت مكانك لقصرت همي عليه، ولما عناني أن يطريني سواه ولو كان أشعر الشعراء).
قالت عالية وهي تبتسم: (لو لم تكوني أختي لغرت منك على عبدان، ولخلت أن تحمسك له لم يصدر من قلب سليم قط).
فأجابت أختها وهي تصطنع الابتسام: (إنما نافحت عن ابن عمي لما آنست أنك تعدلين به غيره، وما قلت إلا ما ينبغي لي أن أقول عنه).
فنظرت إليها عالية نظرة تفيض بكثير من الحب وقليل من العتب وقالت: (والله إني لأحب عبدان ولا أعدل به أحداً غيره. ولكنك يا أختي ما زلت حديثة السن ويغيب عنك كثير من شئون الحب!).
وما قطع حوار الأختين إلا صوت أمهما العجوز تناديهما من خلفهما على بعد منهما، فألقت راجية مضربها وانطلقت لترى أمها ماذا تريد. وكانت العجوز جالسة على مصطبة كبيرة أمام كوخها، تظللها أيكة من النخل تجري حولها أنابيب من الماء، ثم تنطلق إلى حيث تسقي صفوف النخل المتفرقة في أطراف المزرعة، وكان أمامها كومة من التبن وحزم من قصب الذرة الجاف وشيء من البرسيم الأخضر، فهي تقصف من القصب عيداناً قصيرة وتضع بينها شيئاً من التبن، ثم تلف عليها حزاماً من البرسيم، تعد ذلك لغذاء الثور وغيره من الماشية التي عندهم.
- ماذا تريدين يا أماه؟
- انطلقي إلى أخيك حمدان فقولي له قد آن أوان الغداء. وارجعي أنت وأختك فساعدا أم الغيث في إعداد الطعام.
- وماذا تفعل أم الغيث من الصبح؟
- شغلها ولدها يا بنيتي عن كل شيء، فعليكما أن تساعداها ولا تغضبا أخاكما في امرأته.
- قوم ينامون في الكوخ وقوم يعملون في حر الشمس!
- إن شئت عنيت أنت بولديها وهي تعمل مكانك.
- أما الغيث فخطبه سهل، ولكن أنى لي اللبن أرضعه لفاخته؟
فرفعت آلام حاجبيها المتهدلين من الكبر ونظرت إلى ابنتها بعينين واسعتين لعلهما كل ما بقي لها على حاله من عهد الشباب بعد ما تغير كل شيء فيها وقالت في صرامة: (إذا فاهتمي بشأنك ودعي شئون الآخرين).
وانصرفت راجية لتدعو أخاها وأختها وهي تقول بلهجة لا تخلو من التبرم: (سمعا لك يا أماه، سأظل أعمل في حر الشمس حتى تصبح عيناي بلون الدم).
فابتسمت العجوز ابتسامة خفيفة وهي تشيع راجية بعينيها وطفقت تقول: (ومن يشابه أباه فما ظلم، رحم الله أباك! ما لقبه الناس بقرمط إلا لحمرة عينيه).
2


أما عبدان فكان شاباً في الثالثة والعشرين، نحيف الجسم دقيق الأطراف، قضى أيام طفولته الأولى في (قرية الدور) حيث كان أبوه تاجراً ذا حانوت صغير في القرية، يبيع فيه أنواع الأقمشة الرخيصة للفلاحين الذين يأتون إليها من ضواحيها وأريافها. ماتت أمه وهو صغير لم يعد التاسعة فتزوج أبوه امرأة أخرى ذات ولد من غيره، فلم تطب حياة الصبي في المنزل لأن زوجة أبيه كانت قليلة العناية به لا تهتم إلا براحة أولادها، فكانت تعامله معاملة الخادم، وتكلفه القيام بأعمال مرهقة، وتضربه كلما قصر في أدائها ضرباً مبرحاً، قضى عبدان أربعة أعوام في هذا العذاب. وما أنقذه من ذلك إلا وفاة والده فأخذه ابن عمه حمدان ليكفله عنده بمقتضى وصية أبيه.
لم يستطب عبدان حياة الريف في أول الأمر لاختلافها عن حياة البلد التي نشأ عليها من قبل، ولكنه ما لبث إلا قليلاً حتى أخذ يألفها شيئاً فشيئاً إلى أن أحبها آخر الأمر، وصار يقوم بمساعدة ابن عمه في أعمال الفلاحة والزراعة، وكان الفضل في ذلك يرجع إلى ما وجده عند حمدان ووالدته من البر به والعطف عليه بعد ذاك الهوان الطويل الذي لقيه من زوجة أبيه.
وقد أنس بالطفلتين الجميلتين عالية وراجية. فكان يلعب معهما في الحقل وعلى ضفاف القنى، ويساعدهما في جمع الثمار وفي تحويل مساقي الماء من حقل إلى حقل أو من شجرة إلى أخرى.
كان عبدان يكبر عالية بثلاث سنوات وتصغره راجية بسبع، وكان يحمل لهما حب الأخ لأختيه، وكذلك كان شعورهما نحوه، غير أن هذه العاطفة تطورت على الأيام فأصبحت حباً قوياً بينه وبين الأخت الكبرى أيده حمدان بأن عقد خطبته عليها، فلما بلغ عبدان رشده خيره حمدان بين البقاء عنده، والرجوع إلى القرية ليفتح له دكاناً فيها برأس المال الذي ورثه عن أبيه، فاختار عبدان الثانية، وقد صادف اختياره هوى في نفس حمدان، فإذا رأى أن حياة الفلاحين على ذلك الوضع الجائر جحيم لا تطاق، فهو يتمنى لابن عمه حياة أهنأ وأرغد، تنعم بها أخته معه، ومن يدري لعل عبدان إذا نجح في تجارته أن يمد إليه يد العون فينقذه من الوهدة التي يتردى فهيا هو أسرته.
وصح ما توقعه حمدان، فقد أفلح عبدان في تجارته.. وما مضى عامان منذ اشتغل بها حتى تضاعف رأس ماله وكثر عملاؤه من الفلاحين وغيرهم،لما اشتهر به بينهم من الصدق والأمانة وحسن المعاملة والإخلاص في النصح، ولما كان يقوم به حمدان من الترويج له في أوساط جيرانه الأكارين.
وكان عبدان كثيراً ما يتعهده بالزيارة، فيقضي ليلته ضيفاً عليه ويأتي معه بهدايا من الملابس والطيب والأحذية يتحف بها خطيبته وسائر أفراد الأسرة، فيتقبلونها منه بالشكر والامتنان، وكان في خلال ذلك يلح على حمدان بالتعجيل بزفاف عالية إليه، غير أن حمدان كان يستأذنه في ذلك خشية أن يرزأه في رأس ماله بنفقات العرس قبل أن يشتد ساعده ويقف على قدميه، وما كان أشد فرح عبدان إذ رضي ابن عمه أخيراً أن يتسلم منه صداق أخته ويعين له موعد الزفاف، فأخذوا من ذلك اليوم يعدون جهاز العروس، ويهيئون لليلة الزفاف السعيدة، وإنهم لفي ذلك إذ جاء ثمامة ذات ليلة إلى كوخ حمدان والتمس مقابلته، فلما اختليا صرح لحمدان بأنه جاء ليخطب منه أخته راجية، فاعتذر حمدان إليه بأن أخته ما تزال صغيرة السن، وأنه لا يستغني عن معاونتها له في أعمال الحقل.
ولكن ثمامة ألح عليه في الطلب، وعرض عليه استعداده للانتظار عاماً أو عامين حتى تبلغ السن التي يشاء حمدان فيها أن يزفها إليه. فلم يسع حمدان إلا أن يعده خيراً، وهو ينوي أن يصرفه عن ذلك بطريقة من الطرق، فقال له: (إني سأؤامر الفتاة وأستشير أهل بيتي في أمرك، فإذا قبلوا فسأبعث إليك من يخبرك). ورضي ثمامة منه ذلك فودعه وانصرف.
وكاشف حمدان أهل بيته بما تقدم به ثمامة من الخطبة فقالت أمه العجوز: (إن يكن لها نصيب فيه فهيا يا حمدان لنزفهما معاً في ليلة واحدة).
قال حمدان: (إنني لا أعرف عنه شيئاً يا أماه، فلا بد أن أستقرئ عنه أولاً، ثم لا بد قبل ذلك من رضى راجية). فتوردت وجنتا الفتاة، وخفضت رأسها حياء، وجعلت تبتغي وجهاً تلجأ إليه وتتقي به العيون، فلما رفعت رأسها استقرت عيناها على وجه أختها عالية فوجدت على ثغرها ابتسامة ذات معنى كأنها تقول لها: (ويلك يا ماكرة! أليس هذا الذي غضبت منه إذ دعاك حمراء العينين؟ فماذا يمنعك الآن من رفض طلبه؟).
قال حمدان: (أتعرفين هذا الشاب يا راجية؟).
فجمعت راجية شعاع نفسها وقالت له: (لا يا أخي لست أعرفه ولكني كثيراً ما رأيته).
- أين كنت ترينه؟
- كان يجمعني به الطريق إلى القرية أو منها.
سكت حمدان قليلاً وهو ينظر إليها ثم قال: (ما رأيك فيه هل تقبلينه زوجاً لك؟).
فسرى عن الفتاة كأنما نجت من قارعة كانت توشك أن تنزل بها، وقالت:
(إن رضيت به لي يا أخي رضيت به لنفسي).
فظهر السرور على وجه حمدان وقال لها: بارك الله فيك يا أختي، سأستقرئ عنه فإن وجدته صالحاً قبلت طلبه.
أخذ حمدان يتحرى عن ثمامة، فما طال به التحري، إذ سرعان ما علم عنه أن أباه كان مزارعاً ميسور الحالة، حتى شب ابنه هذا فاتصل به رفقاء السوء فجروه إلى حياة اللهو والخلاعة فكان يسطو على مال أبيه ليبدده في حانات الكوفة ومواخيرها، فإذا فرغ ما عنده رجع إليه ليسلبه مقداراً آخر حتى انتهى الحال بأبيه إلى الإفلاس وبيعت أرضه  للهيصم أما هو فقد صار يعيش منذ ذلك الوقت عيشة الشطار والعيارين.
عجب حمدان لما هداه إليه بحثه، واستغرب أن يكون مثل هذا الشاب الوسيم الطلعة الجميل البزة عياراً، وحمد الله على أن منظره لم يخدعه عن مخبره، ولم يشأ أن يسترسل في استقراء أحواله بعد ليعلم عنه أكثر مما علم، فما كان فضولياً وليس في وقته متسع للاهتمام بما لا يعنيه، فبعث إليه رسولاً يخبره برفض طلبه، فرجع الرسول يحمل إليه التهديد من ثمامة والوعيد، فلم يعبأ به حمدان كثيراً لثقته بقدرته على الدفاع عن نفسه، ولعلمه أن جماعة الشطار لا يجدون عنده ما يطمعون فيهز بيد أنه كان أحياناً يجد في نفسه شيئاً من هذا الأمر فيغم قلبه وينقبض صدره.
وكان عظيماً على راجية أن تصدم في حبها الأول، فمهما سرها أن نجت من الوقوع في فخ هذا الصائد الماكر، فقد عز عليها ألا تهديها بصيرتها إلى الحقيقة في أمره أول ما وقعت عيناها عليه، وكانت تعتقد أنها صادقة الحدس جيدة التمييز فقد تبين لها الآن أنها لا تكاد تدرك في هذا الشأن شيئاً.. أترى ذلك لحداثة سنها بعد؟ فما بالها إذن لا تقل عن أختها عالية نضجاً واستواء، ولا تنقص عنها بروز نهد أو رباوة كفل أو امتلاء ساق؟
وكانت تحرص أشد الحرص على كتمان شعورها هذا عن كل أحد من أهلها، وتبدي قلة الاكتراث لما انكشف من حقيقة هذا الخاطب العيار، بل إنها لتتعمد أن تقع فيه بكل ما يسعفها به لسانها السليط من كلمات القدح والتحقير، لتنفي بذلك الظنة عنها ولتوهم نفسها أنها لم تنخدع به قط وإنها إنما أذنت لأخيها في قبوله إذ شاء اتكالاً على أن تحري أخيها عنه سيكشف له من أمره ما يدفعه إلى رفض طلبه.
بيد أنها لم تستطع أن تكتم حقيقة شعورها عن أختها عالية، فهذه تعلم من سرها ما يجهله الآخرون، وتعرف أن راجية قد شغفت بهذا الشاب وإنها ما تزال تحبه على رغم ما انكشف لها من أمره. وأن عالية لتتجاهل هذا السر وتتجنب الإشارة إليه من قريب أو من بعيد، ولكن ذلك لا يزيد راجية إلا إحساساً بالهزيمة والضعة أمامها، فأخذت تتجنى عليها وتتعمد الإساءة إليها بأساليب مختلفة، فلا تقابلها عالية إلا بنظرتها الساجية وابتسامتها الصامتة التي تحمل في أطوائها مزيجاً من الشفقة والسخرية وقلة الاكتراث، فيكون في ذلك أشد ما يؤلم راجية ويملأ صدرها غيظاً. وكثيراً ما حاولت راجية أن تخرجها من هذا الصمت المطبق، فتحوم بها حول هذا الموضوع لتخوض فيه، عسى أن يزل لسانها بكلمة نابية في حقها، فتصب عليها شواظاً من غيظها المكبوت تريح به صدرها، وتجد به فرصة للدفاع عن نفسها ولرد اعتبارها أمام هذه المخلوقة الوحيدة التي تعرف خبيئتها. ولكن عالية لا تمكنها مما تريد إذ تعدل بالحديث في لباقة ويسر إلى غير ما قصدت راجية أن توجهه إليه. فلا تجد راجية أمامها بعد الجهد والمحاولة إلا تلك النظرة الساجية والابتسامة الصامتة.
ولم تعف راجية في سبيل إيذاء أختها حتى عن التعرض لعبدان بالملاطفة والتحبب كلما حضر لزيارة أهلها، وتتخذ في ذلك أساليب تختلف باختلاف من يحضرهما عند ذاك، فطوراً تبالغ في الترحيب به حين يكون أخوها حاضراً أو امرأة أخيها، وطوراً تعانقه معانقة الأخت لأخيها حين لا يشهدهما إلا أمها وأختها، وطوراً تكسر له الطرف وتخضع له بالقول حين لا يكون بينهما إلا عالية، تريد بهذا كله إحراج صدرها وإخراجها من هدوئها الغائظ لها، فإذا اعترضت عليها عالية في شيء من ذلك ولو بكلمة لينة هبت في وجهها واندفعت تلومها على ما جبلت عليه من سوء الظن وتتهمها بالغيرة العمياء على خطيبها حتى من أختها التي لا تنظر إليه إلا كما تنظر إلى أخيها من أمها وأبيها، ولما أدركت عالية ما ترمي إلهي أختها الموتورة صارت لا تعبأ بعد ذلك بهذه الهنات التي تأتيها أختها نحو عبدان، ولا تقابلها إلا بتلك النظرة الساجية والابتسامة الصامتة.
وقد كانت راجية تنفس عبدان على أختها من قبل، وتتمنى لو كان من نصيبها هي، إلا أنها كانت تكتم ذلك في أعماق ضميرها، ولا تجرؤ الاعتراف به حتى أمام نفسها، فكانت دائماً تتحامى جانب عبدان إذا حضر عندهم، إلى أن كان حادث ثمامة، فانقلب سلوكها نحوه هذا الانقلاب المبين.
غداً تزف عالية إلى عبدان وتبقى هي وحدها أمداً طويلاً في منزل الأهل تعاني من ألم الحسرة على عبدان ما تعاني فما ضر الدهر لو لم يجعل ثمامة عياراً فلم يرفض طلبه؟ إذاً لكان لها في زفافها إلى هذا الشاب الذي يفرع عبدان طولاً ويفوقه وسامة وأناقة، ما يعوضها عن ابن عمها الذي قضى سوء حظها أن يكون من نصيب أختها دونها.
بل ما ضر الدهر لو أخفى حقيقة ثمامة عن أخيها حتى تم زفافها إليه؟! أواه.. لقد كان ذلك في الإمكان فلم يكن! يا ليته كان! إذاً لأراحها ذلك من هذا العذاب الذي هي فيه، ولا بأس بعد ذلك أن تكون زوجة عيار جميل، إن العيارين بعد لمعروفون بالشهامة والنجدة وشدة البأس والمروءة، وأنهم ليعتدون على القوي، وينصرون الضعيف، يسطون على مال الغني ويعفون عن مال الفقير، وأنهم ليجيرون النساء ويغارون على الحرمات، ولئن كان بينهم من يشذ عن هذه الخلائق الكريمة، فالشواذ في كل قوم وكل قبيل.
ويستبد بها الخيال فيتصوّر لها أنها قد أصبحت حقاً زوجة ثمامة، تحيا معه حياة ملأى بالمغامرات والمخاطرات المثيرة وتنتقل معه من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد، ويأتيها كل يوم بنصيبه من الأسلاب والغنائم فيرميه تحت قدميها لتتصرف فيه ليومها بدون حساب وبدون اهتمام لما يتمخض عنه الغد فالغد عند هؤلاء مضمون ما دام في الدنيا غني يفيض ماله عن حاجته وفقير لا يجد ما يسد به جوعته.
وإذا قعد بزوجها سبب من عجز أو مرض أو خانه يوماً حظ عاثر فلم يأت بكسب جديد فإن له من عصابته المتكافلين في السراء والضراء من يسعفونه ببعض ما لديهم، ويبيحونه من ذلك ما شاء.
وها هو ذا ثمامة قد أقبل ليودعها متأهباً للخروج إلى سرية كبيرة في ليلة من ليالي الشتاء شديدة القر حالكة السواد، وقد لاث عمامته على طريقة خاصة بجماعته، وتقلد سلاحه وأرخى على وجهه اللثام الأسود فلا يرى إلا عيناه البراقتان، فأخذها بين ذراعيه القويتين فضمها ضمة شديدة رسمت ببالها في مثل لمح البرق صورة منه وهو يصارع من يقاومه من فرائسه ويأبى لسوء حظه الخضوع والاستسلام، ثم حسر القناع عن شفتيه الغليظتين فأهوى بهما على ثغرها حيث استقرتا لحظة ثم زحف بهما رويداً رويداً حتى أغمض بهما إحدى عينيها وهو يقول بصوت المغرم الولهان: "يا حمراء العينين أحبك.. أحبك!..".
وها هي ذي قد طال بها انتظار أوبته من السرية فهي تتقلب على فراشها من قلق عليه، ويخيل إليها أنها تسمع خفقاً لدى الباب الخلفي في الزقاق المهجور، فتنهض من فراشها وتقف أمام باب حجرتها حابسة أنفاسها تتسمع وتتنصت فإذا الوقت يمر بطيئاً بطيئاً دون أن تسمع لزوجها صوتاً أو ترى له وجهاً فترتد متثاقلة نحو فراشها فتستلقي عليه، ترى ماذا فعلت الأقدار بثمامة؟ في أي أرض هو الآن وتحت أية ناشئة من نواشئ السحاب؟ أمعافى هو الآن يطوي الظلام بين رفقائه فرحاً بنجاح السرية مزهواً بما يحمل من الغنيمة غلى ظهره فلا يلبث أن يقتحم عليها الباب بعد لحظة فيرمي الوقر بين قدميها كعادته، فيخلع شارة العيارين ويغسل عن وجهه الغبار ويرتدي قميصه الحرير الفضفاض فينقلب زوجاً لطيفاً أنيساً يريح جنبه معها على الفراش ويقص عليها حديث الليلة، فما باله إذن أبطأ في العودة، وقد انقضى الليل إلا أقله وكادت نجوم السماء تغور؟ أم خانه الليلة حظه ففتك به فاتك ممن تسوروا داره أو نقبوا حائطها أو هاجموا قافلته فهو الآن قتيل بين الجدران، أو صريع في العراء ترقبه النجوم الباقية، وتحوم حوله الذئاب العاوية وقد تفرق عنه رفاقه بدداً وانتشروا في كل مهرب يبغون النجاة؟ أم تراه أحيط به فوقع أسيراً في أيدي الشرطة والعسس فهو الآن مكبل بالأصفاد قد ألقي به في قعر سجن ضيق؟
فإذا وصل بها التخيل إلى هذا الحد اقشعرّ بدنها وانتفضت انتفاضة المروع فإذا هي ما تزال عذراء في منزل أخيها ليس بينها وبين ثمامة من صلة أو سبب، فتتنفس الصعداء أن كل ما تصورته الساعة حقيقة باطلاً كله من صنع الوهم والخيال.
3


رجع عيدان ذات ليلة إلى بيته بعد أن صلى العشاء في جامع القرية، فأسرج بغلته وألجمها ثم ركبها وسار بها في أزقة القرية حتى خرج من بابها الجنوبي المتهدم فوكزها بعصاه وانطلق بها في الخلاء الواسع وهو رخي البال منشرح الصدر يشعر بخفة عجيبة حتى ليخيل إليه أن البغلة قد ركبت لها أجنحة تطير به في الفضاء لتصل به إلى منزل الحبيبة بأسرع الأسباب، إنه سيسمر الليلة عند حمدان وسيستمتع برؤية عالية وسماع حديثها في منزل أهلها ثم لا يراها في المرة التالية إلا عروساً تجلى عليه في بيته.
وكان الهواء منعشاً يتندى بالنسيم العليل الذي يتهادى في ذلك الفضاء ليمسح بأذياله الناعمة الخضلة تلك الرمال المكدودة التي ظلت تتلوى من حر النهار الطويل، وليروح بأنفاسه اللطيفة عما يكتنفها من القريات والدساكر حيث يوزع بلسمه الشافي على فلاحيها المجهدين، ومواشيها اللاغبة حتى ينعم الجميع بلذة النوم الهنيء الذي جعله الله مشاعاً بين الخلائق، لا سبيل للغني أن يحجبه دون الفقير ولا للقوي أن يغتصبه من الضعيف.
وكان بدر التمام مطلاً من علياء سمائه بكل روائه وكامل ضيائه على ذلك الكون المسحور حيث استحال كل حقيقة إلى خيال، وكل خيال إلى حقيقة، فالرمل الأبيض الناعم قد أمسى ذروراً من الفضة تغوص حوافر البغلة فيه، وظلال الأشجار على جانبي الطريق كأنها شخوص من الجن أدركها النعاس وهي تهيم في تلك البطاح فتمددت حيثما حلا لها من الأرض، وقد ارتفع كل حجاب وشف كل شيء حتى أوشك عبدان أن يرى خواطره تتمثل أمامه في صور شتى قوامها من ضوء القمر.
ويمر عبدان بين الفينة والفينة بفارس يركض به جواده، أو فلاح يخفق على حماره، أو رفقة من الناس يمشون الهوينى مستعينين بالحديث على قطع الطريق، فما هو إلا أن يحيي أحد أولئك أو يرد تحيته حتى يلتفت وراءه فلا يكاد يرى أحداً كأنما سدل من الضياء سجف أبيض كبير ستر أولئك الناس عنه.
وعاد عبدان فتخيل السمر الذي سينعم به وشيكاً على الدكة الخارجية من كوخ حمدان حيث يتجاذب معه ومع والدته العجوز وأختيه وزوجته أطراف الحديث، وجعل يزور في نفسه ما هو قائل لعالية أول ما تستقبله عند باب الكوخ وحين يستقر به مجلسه إلى جانبه، ولكن الحديث ذو شجون فأولى به أن يترك نفسه على سجيتها ليملي الموقف عليه ما ينبغي له أن يقول.
وتذكر عند ذلك موقف راجية ومسلكها الغريب نحوه في الأيام الأخيرة، فانقبض صدره قليلاً، وسرح يستعرض صورها وهي تلاطفه أو تعانقه أو تتغنج له أو توري له في القول، على غير مألوف عادتها معه في كل ذلك، وجعل يتلمس لذلك تفسيراً يريح به صدره وينفي به سوء الظن عنها، فأعياه بعد الجهد أن يجد من ذلك ما يريد، ترى ماذا يدفعها إلى هذا السبيل! أهيام به قد بلغ من الشدة أن خلع عنها ربقة الحياء؟ أم كيد لأختها أملاه الحسد والبغضاء حتى جشمها كل هذا العناء؟ ليس أمامه إلا أحد هذين التفسيرين، ولكنه لا يستطيع أن يجزم أي هذين هو التفسير الحق.
ثم أخذ يسائل نفسه كيف ينبغي له أن يعاملها؟ لقد كان يكتفي في ذلك بالتجاهل والإغضاء، أفيبقى على إغضائه وتجاهله؟ إلى متى هذا الحال؟ إن الفتاة لتزداد في جرأتها يوماً بعد يوم، ألا يزجرها عن ذلك؟ أولا ينبه أمها إليه؟ ولكن هل تستطيع أمها أن تصلح من حالها شيئاً؟ إن راجية لجارية شموس لا تبالي ما تأتي وما تدع وإنها لسليطة اللسان فماذا يكون أمره أو سلقته بكلمة نابية أو افترت عليه فرمته بدائها وانسلت؟ أفلا يخشى أن يفسد ذلك ما بينه وبين عالية أو يكدر الصفو بينهما على الأقل؟
وإن عجبه من مسلك عالية لا يقل عن عجبه من مسلك راجية؟ كيف ترى عالية كل هذا فلا يثور لها عرق من عروق الغيرة؟ وبعض هذا كان حرياً أن يزلزل قلب غيرها من النساء لو كانت مكانها؟ ماذا يضطرها إلى هذا السكوت؟ أحبها الشديد لأختها؟ أم حرصها على سمعة أهلها أن تلوكها الألسن؟ أم ثقتها التامة بمكانها عنده أن تحيك فيه مثل هذه الهنات؟ أم أنها لا تبالي كثيراً أن يكون لها أو لأختها ليقينها أنه لو تخلى عنها لتهافت عليها كثير من الخطاب كلهم يفوقه جمالاً، ومالاً وجاهاً ونسباً؟ إنه يعلم علم اليقين أن عالية لا تكرهه، بل عنده من الدلائل القوية ما يثبت أنها تحبه وتعزه، ولكن ما يدريه أن لا يكون ذلك الحب الذي ظهر له منها راجعاً إلى حرصها على مجاراة أهلها فيما يرون وتحقيق ما يحبون؟ ألا يصح أن يتخذ دليلاً على هذا أنه قد مر على خطبته لها زهاء عامين ولا يذكر أنه سمع منها في خلالها كلمة حب قط؟.. ولكن ذلك قد يرجع إلى أنها حيي صموت فضلاً على أنها مدللة متثاقلة، وأنه ليأتي لها بالهدايا الثمينة من حلل وحلي فتقبلها منه بالشكر ويفتر ثغرها عن ابتسامة هادئة، ولكنه لا يذكر أنها اهتزت فرحاً لشيء من ذلك قط، كما تصنع الفتيات، قد يكون هذا لأنها لا تحبه حباً صادقاً، ولكن قد يكون أيضاً، لأن قلبها الكبير لا تستخفه أمثال هذه الأشياء الزائلة، ومهما يكن من شيء فإن صنيع راجية هذا قد كدر الصفو الذي يشعر به في الحاضر، وجعله يتوقع متاعب يخشى أن تعصف بسعادته في المستقبل.
كانت هذه الخواطر تتلاعب برأس عبدان، إذ لاحت له أبراج الحمام التابعة لكوخ حمدان فطامن من سير البغلة وأخذ يصلح من قميصه وجبته وعمامته، وطرد ما بقي من الوساوس في قلبه ليلقي القوم بشوش الوجه باسم الثغر، وخفق قلبه خفوقاً شديداً حين ترجل من دابته دون الزرع النابت حول الكوخ، وأخذ يقودها في الممشى الموصل إليه خلال الزرع، ورمى بطرفه إلى الكوخ فرأى الدكة الخارجية وقد دثرها ضوء القمر النافذ من خلال الغصون، فراعه أنه لم يلمح حمدان ولا أحداً من أهله ينتظره كما كان متوقعاً، وأنه لما اقترب من الكوخ سمع أصواتاً مختلفة يشوبها شجو كالبكاء فانقبض صدره واستعاذ بالله من سوء ما يضمر الليل، ووقف فنادى: حمدان حمدان! فأجابه صوت داخل الكوخ تبين أنه صوت الأم العجوز: من أنت؟ من المنادي؟
- أنا عبدان.
- مرحباً بك يا عبدان.. افتحي له يا راجية.
وتبين عبدان في صوتها نشيج البكاء، فزاد اضطرابه وقلقه وأسرع فربط دابته في المربد عن يمين الدكة.
وفتح باب الكوخ فإذا هو براجية قد وقفت وانية الحركة على غير عادتها، ونظر إلى وجهها في النور الخافت، فرآها تنشج والدموع تنهمر من عينيها، فخطر له أول ما خطر له أن صبر عالية على أختها الرعناء قد نفد، وأن غيظها المكتوم قد انفجر، فوقعت الواقعة بين الأختين، وصلى بنارها أهل البيت جميعاً.
- أين أخوك حمدان يا راجية؟
فأجابته بصوت متهدج: "ألم تعلم بما حدث يا عبدان؟".
- ماذا حدث؟
لم تجبه راجية بل انكفأت راجعة إلى داخل الكوخ، فتبعها عبدان فهاله أن رأى أم حمدان وأم الغيث جالستين تبكيان، ولم ير عالية بينهما، فهجس بباله أن الخطب أعظم مما ظن، فتهيب السؤال ووقف ينظر إليهما واجماً، ثم مد يده إلى العجوز فقبل يدها، وعندئذ مسحت العجوز دمعها وقالت له: "ويحك يا عبدان، ألم تعلم بما حدث لعالية؟".
- ماذا حدث لها؟ وأين هي الآن؟ وأين حمدان؟
- خرجت تحتطب من العصر فلم تعد، وبحثنا عنها في كل مكان فلم نجد لها أثراً.
- هل كانت وحدها في المحتطب؟ هل خرجت وحدها تحتطب؟
- بل كانت معها أختها راجية، ولكنها أبعدت عنها فلم ترجع إليها.
- كانت راجية معها إذن؟
- نعم..
- هذا عجيب!
قال عبدان هذه الجملة وغرق في بحر من الظنون تتدافعه أمواجه المتلاطمة، فإذا ما انتهت به إلى الشط أو ما يشبه الشط وجد راجية واقفة تبكي هناك، وقال في نفسه إنها تتصنع البكاء لتصرف به العيون عن سر رهيب تعلمه هي وحدها ولا تريد أن تبوح به.
وطفق عبدان يسترق النظر في وجه راجية بارتياب لم يستطع إخفاءه حتى صاحت في وجهه محتدة: "ما بالك تنظر هكذا إلي؟ أتتهمني بأن لي ضلعاً في اختفاء خطيبتك؟".
فنهرتها أمها قائلة: "ويلك يا راجية ماذا تقولين لعبدان؟".
قالت راجية: "أما رأيته يا أماه كيف ينظر إلي؟".
فقال عبدان معتذراً: "معاذ الله يا ابنة عمي أن أتهمك بالكيد لأختك وإنما تعجبت من اختفائها وكنت معها!".
- لقد قالت لك أمي إنها أبعدت عني فلما التمستها لم أجد لها أثراً.
- أما رأيت أحداً مر بكما إذ كنتما تحتطبان؟
فسكتت راجية قليلاً ثم قالت: "بلى، رأيت كوكبة من الفرسان مروا بنا منطلقين في عرض الطريق".
فقال لها عبدان: "أكان اختفاؤها عقب مرور أولئك الفرسان؟".
فأشارت راجية برأسها أن نعم.
- أما رأيت فيهم من أحد تعرفينه؟
- أنى لي أن أعرفهم وهم كانوا ملثمين؟
- على هيئة الشطار؟
- كان بعضهم كذلك.
- أما ارتبت بأحدهم أن يكون ثمامة؟
فسكتت راجية هنيهة وبدا عليها شيء من الارتباك، ثم تطلق وجهها قليلاً وهي تقول: "يخيل إلي أن ثمامة كان بينهم ولكني لا أستطيع الجزم بذلك".
فنظرت إليها أم الغيث متعجبة: "لولا ذكرت هذا لأخيك حمدان ليسهل عليه البحث!" فظهر الغضب في وجه راجية وقالت: "ما سألني حمدان هذا السؤال، وبعد فعرضي بي يا أم الغيث ما شاءت لك الضغينة، ولكن لا تنسي أن عالية أختي فلا غرو أن أنساني قلقي عليها كل شيء".
قالت أم الغيث: "حتى ما يعين أخاك في البحث عنها؟".
فصاحت راجية قائلة: "نعم حتى ذاك ما شأنك أنت؟ حسبك أن تنامي في الظل ونحن نعمل في حر الشمس من أجلك!؟.
فقالت لها أمها: "كلا يا راجية، إن أم الغيث لم تقل شيئاً يسيء إليك ولم تقصد إلا الخير".
وأيدها عبدان قائلاً: "أجل لا ينبغي لك أن تغضبي من كل سؤال يوجه إليك".
فقالت راجية: "وأنت أيضاً يا عبدان!" ثم طفقت تنشج بالبكاء وهي قول: "أواه عليك يا أختي يا عالية! ليت الذين اختطفوك اختطفوني مكانك" وما أتمت كلمتها حتى دفنت وجهها في حجر أمها وهي تنتحب.
وانتبه عبدان لهول الحقيقة التي نطقت بها راجية في هذه الجملة الصريحة، وذهب عنه التماسك الذي تصنعه لذلك الحين وهو يستنطقها ليعرف منها جلية الأمر، فدنا منها وأخذ بكتفيها يهزهما هزاً قوياً وهو يقول بصوت متهدج: "إذن فقد أيقنت أنهم اختطفوها؟".
- نعم اختطفوها.. لا ريب عندي أنهم اختطفوها.
- من هم؟
- لا أدري من هم.. دعني.. لا تهزني هكذا..
- قلت إنك رأيت ثمامة بينهم؟
- نعم رأيته بينهم.. هو الذي اختطفها.. لابد أنه هو.. لعنة الله عليه، ليته اختطفني مكانها، إذن لكان ذلك أهون على نفوسكم!
- أما سمعتها تستغيث إذ حملوها؟
- لا..
فعاد عبدان يهز كتفيها بشدة وهو يقول: "ماذا تعنين؟".
- قلت لك لا.. أما تفهم معنى لا؟ دعني.. فقد أوجعت كتفي.. أم تريد أن أكذبك فأزعم لك أنني سمعتها تستغيث؟
- أتعنين أنها استغاثت فما سمعتها أم أنها لم تستغث البتة؟
- من أين لي أن أعلم الحقيقة؟
- هل كان ثمامة يعرف عالية؟
- لو لم يعرفها لما قال فيها يوماً إنها أجمل فتاة قبّل شفتيها.. ماء الفرات!
- هل آنست لديها شيئاً من الميل إليه؟
- ويلك ماذا تريد أن تقول عن أختي؟
- لا شيء.. وإنما أريد التحري فحسب.
- إنها بعد لكتوم قلما يعرف أحد ما يدور غي خلدها.
- بل تعرفين الحقيقة وتتعمدين إخفاءها!
فنهرته العجوز قائلة: "كفى يا عبدان! لقد استطلت على ابنة عمك وتجاوزت حدك!" فرفع عبدان يديه عن الفتاة وابتعد عنها وقد احمر وجهه خجلاً مما أغضب العجوز ثم جعل يقول لها: "معذرة يا خالتي أمينة.. لقد ركبني من هذا الأمر ما ركبني فأخرجني عن طوري وأسلمني إلى ما رأيت".
فقالت له وهي تمسح الدمع عن عيني راجية وتواسيها: "كلنا في المصاب بعالية سواء، فعلينا أن نستشعر الصبر عسى الله أن يعيدها إلينا دون أن يمسها سوء".
فقال عبدان متأثراً: "سمع الله لك يا خالة واستجاب دعاك".
واستأذن عبدان خالته في الانصراف ليبحث هو أيضاً عن عالية، فأشارت عليه بأن يبقى في المزرعة ليكون في بقائه طمأنينة لهن وتسكين لخوفهن، حتى يعود حمدان فيرى ما يكون منه ويتفقا على القيام بما يجب، فاستصوب رأيها وقال لها إنه سيبقى خارج الكوخ على كثب منهن.
4


وما إن خرج عبدان من الكوخ حتى قالت أمينة لابنتها: "إنك بحاجة إل الراحة يا بنيتي على فراشك" ونهضت العجوز متحاملة على نفسها، وأخذت بيد ابنتها.. لتنهضها، فأعانتها أم الغيث فقادتا راجية إلى فراشها حيث استلقت عليه.
ثم عرضت أمينة على زوج ابنها أن تأوي هي أيضاً إلى فراشها، فأبت وقالت لها إن ولديها قد ناما وإنها لن تدعها وحدها حتى يرجع حمدان، وعادت المرأتان إلى مجلسهما وأخذتا تتحدثان ولا مدار لحديثهما إلا عالية.
وكان صدى حديثهما يبلغ إلى سمع راجية لولا أنها كانت في شغل عنهم بكل ما يضطرب في قلبها من الخواطر، ويدور في رأسها من الأفكار، لقد قلقت كما قلق سائر أهلها لفقد عالية، ولكنها لا تستطيع أن تكذب نفسها، فهي تشعر بشيء من الارتياح لغيابها لا تدري على وجه التحديد ما سببه، فلعله الحسد الذي تبطنه لأختها، أو الطمع في أن يخلو وجه عبدان لها، ولكنها لا تكاد تذكر ما قد تتعرض له أختها من ألوان السوء والابتذال على أيدي أولئك الأثمة الفجرة حتى يقشعر بدنها إشفاقاً على أختها من هول ما تلقى، ويستيقظ ضميرها فيوبخها على ما حدث، كأن لها يداً في حدوثه أو كأنما كان في وسعها أن تحول دون وقوعه فلم تفعل. ويتعاظم شعورها بالذنب حين تذكر ما قالت في حق أختها أمام عبدان إذ عمدت جهدها إلى تشكيكه في براءتها، وإيهامه بأنها استسلمت لخاطفيها ولم تستغث لما بينها وبين ثمامة من صلة قديمة، وهي تعلم حق العلم أنها لبريئة. أي حقد دفين دفعها إلى هذا الكيد الأثيم لأختها وهي في موقف يرثي لها فيه أشد الناس عداوة لها وحسداً! إنها الآن لتعجب من نفسها كيف انطلق لسانها أمام عبدان بما انطلق به دون أن تزن كلامها أو تتروى فيه، بل دون أن تعي ما ينطوي عليه من خطر عظيم. لقد ساءلها أخوها حمدان قبله، فاكتفت بقص ما شهدت دون أن تزيد من عندها شيئاً لا برهان لها عليه، ودون أن تتعرض لذكر ثمامة، إذ ليس في وسعها أن تقطع بأن أولئك الفرسان هم الذين اختطفوا عالية. فكيف تغيرت شهادتها أمام عبدان فجأة، فصار الوهم فيها ظناً وتحول الظن فيها إلى يقين؟ أجل لقد رجح عندها الآن أن أولئك الفرسان هم الذين اختطفوا أختها، وغلب على ظنها أن ثمامة كان قائدهم ولكنها لا تدري لم لم يغلب عليها هذا الظن عندما كان حمدان يسائلها، ولم يستبن لها هذا الأمر إلا حينما وقف عبدان أمامها يستنطقها ثم ازدادت به يقيناً بعد أن أفضت به إليه؟
وإن موقفها من ثمامة بعد لعجيب. أنها لتحس في أعماق نفسها برغبة خفية تود بها لو أن ثمامة اختطفها هي دون أختها.. وكأنها تحسد عالية على ما نزل بها من هذا المكروه اللطيف. أفما كفى عالية أن يصطفيها عبدان من دونها حتى يصطفيها ثمامة أيضاً؟ لا ريب عندها أن ثمامة إنما أتى هذا انتقاماً من أخيها إذ رفض خطبته إياها؟ فما بال الأعمى يتعداها إلى أختها؟ أكان هذا من عمل الحظ الذي لم يزل يدابرها ويحالف عالية؟ أم كان ثمامة يعني ما يقول إذ قال لها يوماً إنه ما كان ليلتفت إليها لو لم تكن أختها عالية قد سبقه إليها عبدان.
ثم يعود بها الفكر. إلى ما نزل بأختها من المكروه فتتصور ما تعانيه الآن من القلق والحيرة والذعر، وما ينتظرها من المصير المجهول، فإذا عاصف من التوجع والإشفاق والحسرة والندم يعصف بها ويكاد يقصف أضلاعها قصفاً، وتلوذ بالنعاس لعلها تجد فيه مهرباً من هذه الأفكار التي تترامى بها شرقاً وغرباً، وتصعد بها إلى حالق ثم تهوي بها إلى قرار سحيق، فإذا الأحلام المزعجة تتلقفها، وتسلمها من رعب إلى رعب ومن هول إلى هول لا يعد بجانبه ما تلقاه في اليقظة شيئاً مذكوراً.
أما عبدان فقد خرج حين خرج من الكوخ بقلب مفعم بالهم لا يكاد يعي مما دار أمامه شيئاً فقد كان الخطب أعظم من كل ما يستطيع ذهنه أن يتصوره. كان قصارى ما يخشاه أن تعكر صفوه تلك الهنات التي كانت راجية تأتيها برعونتها وطيشها حين تبلغ حدها الأقصى. فأين هذا المحذور الهين الذي لم يقع بعد من ذاك المصاب العظيم الذي وقع الليلة من وراء كل توقع وكل حسبان؟
أحقاً خطفت عالية الحبيبة فلن يراها عروساً تهدى إليه بعد ثلاث ليال؟ من هم أولئك السفلة الأشرار الذين لم يتورعوا عن اختطاف فتاة بريئة توشك أن تشهد ليلة عرسها التي ظلت تحلم بها طوال السنين، فتتعزى بها عن المعيشة الضنك التي تحياها في العمل الكادح والجهد الفادح بين لفح الهجير وقرس الزمهرير؟
إنه قد سمع كما سمع الناس بأنباء الثائر في سباخ البصرة وجماعته من الزنج الذين استنفرهم فوثبوا على أموال الناس واستصفوا أملاكهم وسبوا نساءهم وأتوا من الفظائع والفضائح ما تقشعر لهوله الأبدان وتنخلع له القلوب. فكان هو وحمدان يحمدان الله على أن كان أهلهما بمنجى منهم، مهما ضاقت بهم المعيشة وعضهم الجوع والحرمان، واشتد عليهم ظلم المالك وقسوة الجباة وجور الولاة. فكل خطب يهون ما صينت الأعراض وسلمت حرمات البيوت. وها هو ذا البيت المصون قد انتهكت حرمته الليلة واجترأ المجرمون في هذه المنطقة الآمنة أن يختطفوا فتاة عذراء من دائرة حيها بين سمع أهلها وبصرهم، فينطلقوا بها إلى حيث لا يعلم إلا الله ماذا هم بها فاعلون، أفهذه طلائع صاحب الزنج قد بدأت تنقص من أطراف هذه المنطقة؟ فما بالها تصدف عن قصور الأغنياء ولا تنقض إلا على أكواخ المعدمين؟ أين هم من قصور الهيصم وابن الحطيم وأشباههما في قرية الدور وفي الكوفة وجواسقهم المنتشرة في الضواحي والأرياف، بما ضمنت من أموال ومتاع وحور حسان وجوار وقيان؟ أفصفحوا عن كل ما هنالك ليغيروا على أخت فلاح مسكين كحمدان يوشك أن يزفها إلى ابن عم لها مسكين كعبدان؟
كلا، إن أولئك الزنج، مهما قيل عن توحشهم وتهورهم، لألبُّ وأكيس من أن يأتوا مثل هذا. وإن أنباءهم لحرية أن تسبقهم إلى هذه البقاع بالرعب والهلع لو تقدموا إليها مغيرين. وإن جنود الدولة على الحدود لواقفة لهم بالمرصاد لا يمكن أن تغفل عن حركاتهم أو تنام، وإن آخر ما تنوقل من أخبارهم أن الموفق أخا الخليفة حشد لهم جموعاً هائلة كسرت من شرتهم، وحدت من نشاطهم وحصرت مجال حركاتهم. فأنى لهم أن ينفذوا إلى هذه البقاع وبينهم وبينها مسيرة شهر.
فمن هم أولئك السفلة الأشرار الذين اختطفوا عالية؟ هذه راجية –وأواه من راجية!- تقول إنها شهدتهم كوكبة من الفرسان الملثمين مروا بها في عرض الطريق، وإنها افتقدت أختها عقب مرورهم، فإن يكونوا من جماعة العيارين كما تزعم راجية فما لهم ولعالية؟ إن الشطار –ما عهد الناس- لا يصيبون إلا ذوي الغني والطول ليسلبوا بعض ما احتجنوا من أموالهم. وإذا اختطفوا نساء هؤلاء أو أولادهم – وقلما يفعلون- فلكي يتخذوهم رهائن تبقى عندهم في عز وصون حتى يفتديها أهلها بالمال. فهل خطفوا أخت حمدان ظناً منهم أنه من كبار الأغنياء؟ هذا لا يعقل البتة فإن هؤلاء الشطار لأعرف الناس بأحوال القاطنين في منطقتهم بل إنهم ليكادون أن يحصوا ثروات الأغنياء وكم يملك فلان منهم وماذا يملك فلان.
فهل فعلوا ذلك انتقاماً من حمدان؟ ولكن ماذا بين حمدان وبينهم؟ إن حمدان لمن أشد الناس عطفاً على هذه الطائفة من الناس، طالما ذكرها، بخير، وطالما التمس لها المعاذير كلما ضاق صدره بمظالم الأغنياء كبار الملاك وشدة وطأتهم على المساكين والفقراء من الفلاحين والأجراء.
ما باله نسي ثمامة؟ إن راجية تقول إنها لمحته بين أولئك الفرسان الملثمين. أفلا يجوز أن يكون ثمامة هو السبب؟ لم يقل له حمدان ذات يوم إن ثمامة توعده لما رفض تزويجه راجية؟ ومن هم الذين كانوا معه؟ أهم من جماعة الشطار التي ينتسب إليها؟ إذن فكيف رضي رئيسها أن يسخر جماعته لقضاء شهوة دنيئة كهذه قامت في نفس ثمامة؟ لعله زعم لهم أن أخت حمدان ترغب في الزواج به وأن أخاها أعضلها عنه فجاءوا معه لإنقاذ هذه الفتاة المظلومة.
ولكن فيم خطف ثمامة عالية ولم يخطف راجية؟ لعله قصد راجية فأخطأها وأصاب عالية. فماذا هو صانع حين يدرك خطأه؟ أيبني بها مكان أختها فهي أجمل منها أم يتخذها رهينة عنده حتى يزوجه حمدان من راجية؟
كانت هذه الأفكار تهدر في رأس عبدان وهو يجوس خلال المزرعة حيثما تنقله قدماه دون قصد معلوم، وقد تصطدم رجله بجذع نخلة منقعرة، أو يضرب في وجهه غصن شجرة أو تغوص قدمه في تربة موحلة، فلا يصده شيء من ذلك عن المضي في جولاته لأنه لا يدري ماذا يأتي وماذا يدع.
وكان النسيم عليلاً يوسوس بين الغصون كما كان عند ما خرج من قريته على بغلته ولكنه يحس له الآن قشعريرة تسري في ظهره، وكأن حفيفه أنين خفي ما زالت تردده الثواكل حتى بحت به حناجرها. وهذا القمر ما زال مشرقاً في سمائه يرسل خيوطه الفضية على ما حوله من فضاء وشجر. ولكن عبدان لا يرتاح لنوره الساطع فيلوذ منه بأكناف الشجر وظلال الأيك؟ ودار في جولاته حتى اقترب من المربد فرأى بغلته حيث ربطها هناك لم تتحلحل من مكانها. وتأمل وجهها في ضوء القمر فلم يتغير من ملامحه شيء. وكل ما يشغلها ذباب أو قراد يقع على عنقها أو في مراق بطنها أو على كفلها فتهتز رأسها أو تنفض عرقها أو تضرب بإحدى قوائمها أو تخبط بذنبها لتذبه عنها، فلو تخلصت من أذاه لما همها بعد ذلك شيء.
وانتقل طرفه إلى باب الكوخ فتصور –وملء فؤاده الحسرة- كيف خرجت عالية منه عصر اليوم ثم لم تعد. والله يعلم وحده هل تعود ومتى تعود؟ وتذكر كيف فتحت له راجية آنفاً فوقفت له على هذه العتبة والدمع على خديها يسيل. كانت وقفتها تلك نذير سوء. فأشاح بوجهه عن الباب، إذ خيل إليه أن راجية ما برحت واقفة هناك لتكون أول من يبشره بالمصاب الأليم.
وطفق يستعيد الحوار الذي دار بينه وبينها الليلة فإذا هم ثقيل يهبط كالصخرة على صدره حتى يكاد يسد مخرج أنفاسه، وتمثل في ضميره ثمامة حينئذ وهو يحمل عالية بين ذراعية فيثب بها على ظهر جواده فينطلق بها بين فرسانه الملثمين، وهي لا تصيح ولا تستغيث. لعل المباغتة أعجلتها عن الاستغاثة، أو لعل الدهشة عقلت لسانها. أو لعلها.. ألم تقل راجية إن ثمامة يعرفها ويطري جمالها؟ فماذا يمنعها أن تعجب به وتميل إليه؟ إنها فيما تقول راجية لكتوم قلما يعرف أحد ما يدور في خلدها. فأي شيء كان يدور في ذاك الخلد؟.
لطالما رأبه منها ذلك الزهد العجيب فيما يحمله إليها من الهدايا وقلة الاكتراث لما تعلنه لها أختها من التحبب والملاطفة على مرأى منها ومسمع. أفكان ذلك من جراء هذا السر الذي كانت تحمله تلك الكتوم؟ ومن يدري لعل راجية ما بدأت تتحبب إليه على ذلك الوجه السافر إلا حينما ألمت بطرف من سر أختها، فأيقنت أن أختها لن تعترض عليها أو تثور. بل من يدري لعل ثمامة الفاجر ما طلب يد راجية إلا ليجمعه بالتي يهواها وتهواه سبب من الأسباب. أين أنت الآن يا حمدان؟ كأني بك تبحث عن أختك الضائعة في كل مكان. آه لو تعلم لأرحت نفسك من عناء لا غناء فيه. وتركت الضائعة وشأنها. فقد وجدها من هو أولى بها منك ومن هذا الأحمق المأفون الذي يدعونه عبدان؟ كلا لا تتركها تعبث بشرف بيتنا وتدنسه بالعار دون أن تلقى الجزاء الذي تستحقه. أمض يا حمدان في البحث عنها حتى تجدها. إنها عند ثمامة. ويل لها مني.. ويل لثمامة مني.
وما وصل عبدان إلى هذا الحد حتى خارت قواه وشعر بالأرض من حوله تدور وكان قد بلغ في جولاته إلى حيث تقوم صفوف النخل على غلوة سهم من الكوخ فاعتمد بيديه على جذع نخلة ولبث كذلك هنيهة. ثم تخاذلت ساقاه فأسلمتاه إلى حيث ارتمى متمدداً على الأرض وقد غاب عن وعيه كل شيء. وطال انتظار حمدان على أمه وزوجه وافتقدتا حس عبدان فاستوحشتا وقلقتا. فقامت أم الغيث لتفتقده وتدعوه ليؤنسها في الكوخ. ففتحت الباب وطفقت تجيل بصرها في أرجاء المزرعة فلم تر له أثراً. فجعلت تناديه يا عبدان.. يا عبدان فلا يجيبها إلا صدى صوتها. فشعرت بخوف شديد جعلها توصد الباب مسرعة وتغلقه بالمزلاج وعادت إلى مجلسها مع أم حمدان حيث باتتا ساهرتين في قلق وخوف.
ورجع حمدان عند منتصف الليل وقد نهكه الجهد وأمضه الحزن فنزل عن ظهر حماره عند مدخل المزرعة. وكان قد طاف بجميع الضياع والمزارع المجاورة وسأل أهلها عن أخته فلم يجد عنها من خبر. وسأل الذاهبين والرائحين في تلك الطرق والدروب هل بصروا في طريقهم بفتاة بيضاء تلبس السواد وجعل ينعتها جهده لهم فلم يجد عند أحد منهم جواباً يشفيه.
وكان في نيته أن يواصل السير والبحث فيما وراء تلك الأمكنة التي وصل إلهيا، أولاً إنه خشي أن يقلق أهله عليه إذ طال بهم انتظاره أو أن يمسهم مكروه في غيبته فآثر أن يعود إليهم ليستأنف بحثه من الغد.
وإنه ليقود حماره ناحية الكوخ وكلاهما ثقيل الخطو يترنح من الإعياء إذ نظر حمدان إلى حيث تقوم صفوف النخل عن يمينه فبصر بينها بسواد شخص ممدود على الأرض لم يستطع أن يتبينه على البعد أذكر هو أم أنثى فهفا قلبه وذهب به الظن مذاهب شتى ودب فيه النشاط فأرسل لجام حماره وانطلق يعدو حتى دنا من الشخص فراعه أن يجد عبدان مستلقياً على ظهره في تلك البقعة. فجثا عليه ووضع يده على جبهته فوجدها محمومة تندى بالعرق اللزج. فلبث برهة يحركه ويهزه حتى أفاق من غشيته. فأنهضه ومشى يقوده صوب الكوخ.
وكان في عزم حمدان لكي يدخل على أهله شيئاً من الطمأنينة فيأووا إلى مضاجعهم تلك الليلة أن يزعم لهم أنه اهتدى إلى مقر عالية وأن لا بأس عليها هناك، وأنه لولا خشيته أن يقلقوا لتأخره بالليل لركب إليها فعاد بها معه، ولكنه لما حدثه عبدان عما سمع من راجية من احتمال أن يكون ثمامة بين أولئك الفرسان الملثمين الذين مروا بها في المحتطب، فاختفت عالية على أثر مرورهم، لم يستطع أن يصبر على استنطاق أخته الصغرى إلى الغد، وكانت راجية قد هبت من فراشها عند قدوم حمدان لتشوقها إلى سماع ما أسفر عنه بحثه، فجلس الجميع يستمعون إلى حمدان وهو يقص عليهم بعض ما كان منه، ثم طفق يسأل راجية أسئلة مختلفة عن الفرسان الملثمين وهيئتهم وكيف عرفت ثمامة بينهم وعاتبها على أن لم تذكر له ثمامة من قبل، فاعتذرت إليه بأنها ما عنَّ لها هذا الخاطر وتوضح لها إلا بعد لأيٍ، حينما حضر عبدان وأخذ يستعلمها عن الحادث.
وتشقق الحديث وتجاذبوا أطرافه بين إعادة لقص ما حدث وتوقع لما يحدث واقتراح لما ينبغي أن يعمل، تتخلل ذلك كله ذكريات مؤثرة، يتبادلون حديثها عن عالية، فتفيض عيونهم بالدمع، ما خلا عيني حمدان الحمراوين، فليس للبكاء إليهما من سبيل.
وهكذا قضى أهل الكوخ ليلة نابغية لم يغمض لهم فيها جفن.
5


مضى أسبوع منذ اختفت عالية لم يهدأ لحمدان جنب ولم يقر له قرار. وقد شغله هذا الخطب عن كل شيء، فترك عمله في المزرعة لاثنين من الأجراء يتناوبان القيام به. ولم يدع سبيلاً من سبل البحث عن أخته الضائعة إلا سلكه، فقد اتصل بعامل قرية الدور فأعلنه بالحادث ليوعز إلى الشرطة بالبحث عنها وأعطاه كل ما عنده من بيان وتفصيل.
وبدا له أن يزور سيده ابن الحطيم ليشكو له ذات أمره ويستعين بجاهه ونفوذه ليحث عامل القرية رئيس شرطتها على الاهتمام بالحادث. ولم يسبق لحمدان أن زار قصر ابن الحطيم أو رأى له وجهاً، إذ كان يزهد في ذلك ويعد السعي إليه ضرباً من ضروب التزلف يربأ بنفسه عنه، حتى إنه كان يتخلف عن الولائم العامة التي يقيمها المالك الكبير في مواسم خاصة يدعو إليها الجمع الغفير من الفلاحين الذين يعملون في أراضيه الواسعة.
واستأذن عليه في القصر الكبير الواقع في الطرف الشمالي من القرية، فقابله قيم القصر وأخبره أن سيده في قصره بالكوفة منذ أسبوع، ولا يدري أحد متى يعود، ثم سأله ماذا يريد منه، فحكى له حدان قصة أخته، وما يلتمس من العون عند سيده، فتلطف معه القيم في الحديث وأخذ يواسيه ووعده بأنه سيبلغ رسالته إلى سيده حين يقدم من المدينة، ولكن حمدان قال له إن الخطب لا يحتمل التأجيل، وإنه عازم على السفر إلى الكوفة ليقابل ابن الحطيم هناك. فجعل القيم يثبطه عن عزمه ويقول إنه لا حاجة به إلى تجشم عناء السفر ففي استطاعته هو أن يقوم مقام سيده في هذا السبيل فرضي حمدان منه ذلك وشكره وانصرف.
ولم يتكل حمدان على هذا المسعى الذي قام به عند عامل القرية أو عند ابن الحطيم لعلمه أن ذلك قليل الغناء.
إن عليه ألا يعتمد في البحث عن أخته الضائعة إلا على نفسه وأن سبيل الاهتداء إلهيا لصعب في هذا الظلام الدامس الذي يحيط بمعالم القضية. بيد أنه لا يعدم بصيصاً من النور يشع في جوانبه فيكشف له عن سواد ثمامة يظهر له ويختفي من بعيد فليقتف أثر ثمامة، فإنه متى اهتدى إليه فقد وجد السبيل إلى اتصاله.
وكان عبدان حرياً أن يكون عونا له في هذا الوجه. ولكن عبدان ما زال عليلاً منذ تلك الليلة تنتابه الحمى وتعروه البرداء وكان حزنه الممض لفقده عالية عوناً للعلة عليه يزيد في شدتها ويطيل من أمدها. وقد أراد أن ينتقل إلى داره بالقرية ولكن حمدان أبى عليه ذلك. وألزمه أن يبقى في كوخه ليعنى به أهله حتى يبرأ من علته.
وكان حمدان قد تحرى قليلاً عن ثمامة فيما مضى حينما تقدم ثمامة يخطب أخته راجية فعرف عن سيرته ما دفعه إلى رفض خطبته، فكان يسيراً عليه الآن أن يستأنف التحري عنه بالرجوع إلى أولئك الأشخاص الذين سألهم عنه من قبل وأشخاص آخرين من أهل القرية التي نشأ فيها ثمامة. واستطاع بعد لأي أن يعرف عصابة العيارين التي انضم إليها ثمامة ويعرف اسم رئيسها الشيخ سلام الشواف. وكان قد سمع من قبل بهذا الرجل الذي طالما ألقى الرعب في قلوب الناس بجرأته وشدة بأسه وكثرة مغامراته في السطو على الأموال ونهب القوافل وتسور القصور العالية ونقب حوانيت التجار. كانت له في ذلك تدابير محكمة وخطط عجيبة أعيى أمرها رجال الشرطة والعسس، حتى ذهب كثير منهم صرعى بطشه وحيلته. فكانوا يتقون جانبه ويتفادون من لقائه.
وكان على ذيوع صيته قلما رآه أحد رأي العين أو عرف له مقراً ثابتاً، وإن كان الناس يتحدثون عنه أنه يغشى الأسواق ويحضر الصلوات في المساجد ويشهد المواكب في أزياء مختلفة وهيئات شتى، حتى قيل إنه قد يندس في مجامع الناس متخذاً زيَّ امرأة.
أغتم حمدان لما علم أن ثمامة من عصابة هذا الشيخ وتضاءل أمله في سهولة الاهتداء إليه بله استرداد أخته منه، فرجع إلى كوخه كسيراً حسيراً يكاد ينفض يده من الوصول إلى مطلبه من هذا السبيل. وتعلق أمله بعامل القرية ورئيس الشرطة من جديد عسى أن يأتيه الفرج من قبلهما، فجعل يتردد عليما مرة بعد مرة فيخبرانه بأن الشرطة مجتهدون في البحث عن ضالته وأن عليه الصبر حتى يهتدوا إليها.
وبلغه ذات يوم أن ابن الحطيم في القرية فخف إليها وانطلق إلى قصره الكبير ليقابله، فلما استأذن عليه برز له قيم القصر وقال له إن سيده متعب لا يريد أن يقابل أحداً، فلما ألح عليه في طلب مقابلته نهره القيم وتأفف منه وقال له إنه قد أوصى العامل بالاهتمام بأمر أخته الضائعة قائماً في ذلك مقام سيده ولا يستطيع أن يصنع بعد هذا شيئاً.
فكظم حمدان غيظه وقال له: (لعل سيدي ابن الحطيم إذا سمع بقصتي يستطيع بجاهه أن يصنع لنا شيئاً، وإن لنا لحقاً عليه فنحن من خدام أرضه). فضحك القيم ساخراً ثم قال: (إن لكم حقاً أن لا يطردكم من أرضه ما قمتم بإصلاحها واستثمارها وتأدية حقه فيها إليه وحسبكم ذلك الفضل منه. وليس عليه أن يحرس لكم أخواتكم وأمهاتكم أن يختطفهن اللصوص، ولا يستنقذهن لكم من أيديهم).
فقال حمدان محتداً: (لا حق لك أن تسخر بي في قصر سيدي. إني ما أطلب منه إلا أن يوصي العامل بالاهتمام بقضيتي وخلاه ذم).
فقال القيم: (هو اليوم متعب لا يقابل أحداً).
-   فسأجيء له غداً
-   غداً سيعود إلى الكوفة.
-   فاليوم إذن.
فقال القيم: (ما أبلد الفلاحين! أما تستطيع ويلك أن تفهم ما أقول؟).
فنفد صبر حمدان ونظر إليه بعينيه الحمراوين وقد زاد احمرارهما فكأنهما جمرتان تتلظيان. ثم قال له بصوت أجش لا أثر للضعف والاستكانة فيه: (لولا بلادة هؤلاء الفلاحين لما استطاع مثلك أن يستمتع دونهم بثمرات كدهم فيقيم في مثل هذا القصر متقلباً في أعطاف النعيم، وهم يكدحون طوال نهارهم في الشمس ويبيتون في الأكواخ من جوع يتضورون).
- هذا ما يقوله صاحب الزنج لأصحابه العبيد
- إن يكن هذا ما يقوله ذلك الرجل فلم يقل إلا صواباً.
- حذار أن يعرف عنك التشيع لمذهبه فيمسك الأذى من السلطان.
- مالي ولصاحب الزنج؟ لا أعرفه ولا أعرف مذهبه. ولكني أقول الحق ولا أخشى في الحق أحداً.
- خير لك أن تنصرف الآن بعافيتك وتدع الخوض فيما لا يعنيك.
فانتفض حمدان غضباً وصاح قائلاً: (ولكن هذا يعنيني؟).
- هل أردت أن تقابل السيد لتقول له مثل هذا ويحك؟
- إنني أعرف ما ينبغي أن أقول له وليس من حقك وأنت خادم مثلي أن تمنعني من مقابلته.
وخشي القيم من بوادر هذا الأكار الذي تقدح عيناه شرراً، فقال له بلهجة لينة:
- صدقت ليس ذلك من حقي وإني ما منعتك مما تريد وإنما أطيع أمر السيد.
- إنك لم تعلمه بمجيئي.
- لأني أعرف أنه متعب.
- عجباً هل جئت لأكلفه أن يحرث الأرض مكاني؟ أما يقدر أن يراني بعينيه؟
- سأبلغه اليوم حاجتك فيحقق ما تريد.
- فبلغه الآن رغبتي في مقابلته. قل له إني هنا ولا أريم مكاني حتى أراه.
ولم يسع القيم حين رأى من تصميم حمدان ما راعه إلا أن يتوجه إلى داخل القصر وهو يقول: (انتظر قليلاً، سأفعل ما تحب).
وانتظر حمدان في حجرة الاستئذان الخارجية وهو يرى سور القصر وسدته الحديد عن يمينه والباب المؤدي إلى داخل القصر عن يساره فوقف يتأمل النقوش البديعة على جدران الحجرة محلاة بماء الذهب والزخارف الدقيقة على الباب المنجور من الأبنوس الفاخر المطعم بالعاج الثمين. ترى كم بدرة من الذهب أنفق على هذه التصاوير والتخاطيط التي لا تكسو من عري ولا تشبع من جوع.
وهذه البسط الثمينة التي تطؤها نعلاه التربتان ما أحوجه وأحوج أمثاله إلى قطعة منها ليفرشها لضيوفه في الولائم والأعياد فإن كان هذا كله في حجرة الاستئذان الخارجية فكيف يكون داخل القصر وكيف تكون غرفه العليا وماذا يوجد فهيا من زينة ومتاع؟
هذا كله لابن الحطيم الذي ما حمل قط في حياته فأساً ولا وقف بقدمه على سنة محراث ولا يعرف كيف يؤبر النخل أو يبذر الحب أو يسقي الزرع ثم يقال إنه متعب لا يقدر أن يقابل أحداً.
وهنا اختلجت بسمة دانية حول شفتيه الغليظتين سرعان ما وأدها بينهما إذ ذكر أن ابن الحطيم قد يقبل في تلك اللحظة فيراها ويرى من ورائها ما يجول في صدره. ثم عاد فشك هل يخرج له ابن الحطيم إلى حيث هو أم يأمر فيدخلونه إليه. ثم تذكر أنه ما رأى ابن الحطيم من قبل قط فهو لا يعرفه إذا رآه وإنه ليخشى حين يدخل عليه أن يكون معه بعض رجال حاشيته فلا يميزه من بينهم.
وسمع خفق النعال من الداخل فأصلح من هيئته وتوقع أن يظهر له ابن الحطيم أو قيم القصر ليوصله إليه. فما راعه إلا أن برز له رجل ما رأى في حياته مثله ضخامة وطولاً حتى ليكاد الباب الكبير يضيق دون ولوجه. وكان أسود اللون كريه المنظر، له عينان صغيرتان يؤودهما جفنان ثقيلان، كأنه نعسان يريد أن ينام. واضطرب حمدان قليلاً لرؤيته ولعبت بباله خواطر شتى. ولكنه تماسك وتجلد ليرى ما يكون من أمر هذا الهولة وقد أدرك من هيئته وملابسه أنه أحد خدام القصر. ولعله الحاجب الخاص لابن الحطيم وقد جاء ليأذن له في الدخول عليه.
وقف الرجل هنيهة يرنو إليه بعينيه الصغيرتين وهو يحرك مشفريه الغليظين كالذي يتلمظ لرؤية الطعام الشهي. وانتظر حمدان أن يبدأه بالتحية أو بالقول، ولكنه بقي صامتاً ثم مشى متثاقلاً نحو حمدان حتى دنا منه – وحمدان لا يدري ما يصنع- فقبض بيديه الضخمتين على معصمي حمدان فكأنما طوقهما بقيد غليظ.
فصاح حمدان قائلاً: (ماذا تريد أن تصنع بي يا هذا؟).
فلم يقل له الرجل شيئاً وإنما جره نحو سدة السور فأدرك حمدان أن ابن الحطيم أو قيم القصر قد بعث هذا المارد ليطرده من القصر. فثار به الغيظ فدفع بإحدى رجليه في فخذ المارد فظهر الغضب في وجهه وشدد قبضته حتى أحس حمدان أن عظام معصميه قد رضت. ورأى أن المقاومة لا تغني، فأسلس له القياد ومشى معه في ممر الحديقة التي تفصل بين السور والقصر فرأى الورود والرياحين متفتحة في ضوء الشمس وكأنها تبتسم شماتة به، والتفت خلفه –وهو يسير أمامه في قيادة المارد- فلمح بعض النقوش والتصاوير التي كان يتأملها في حجرة الاستئذان منذ قريب باقية كما هي. ورفع بصره صوب الطبقة العليا من القصر فبصر في إحدى شرفاتها بوجه قيم القصر، وإلى جانبه شاب أبيض الوجه حالك سواد الشعر مرجله، كأنه من وبيصه يقطر دهناً ينظران إليه ويتضاحكان. حتى إذا انتهى به المارد إلى السدة أرسل معصميه وأومأ له أن ينصرف لسبيله دون أن يقول له شيئاً، فخطا حمدان عتبة السدة ثم استدار خلفه ليرى وجه ذلك الشاب المطل من الشرفة كرة أخرى فوجد العملاق قائماً دن السدة قد حجبه عن كل شيء داخلها، فاتخذ سبيله أمما في الطريق وهو يشعر بالخزي وخيبة الأمل، ويلعن ابن الحطيم في سره، ورأى ظل السور ممدوداً، فما مشى فيه إلا قليلاً حتى ازور عنه إلى الشمس مؤثراً حرها على برده. كيلا يكون لهذا الغني اللئيم من فضل عليه.
6


وسار حمدان في طريقه غضبان أسفاً حتى بلغ سوق القرية دون قصد منه، فتذكر أنه يريد شراء بعض الحوائج لأهله قبل أن يعود إلى المزرعة، فأخذ يمشي في أزقته الضيقة بين الحوانيت الصغيرة، وقد بدأت حركة الناس تخف في السوق من أجل الحر، وطفق الباعة يرتبون بضائعهم أو يرشون الماء أمام حوانيتهم ليخففوا وقدة الشمس، وجلس بعضهم قدامها يتحدثون.
ثم وقف أمام حانوت صغير مغلق هو حانوت ابن عمه. فجاش صدره بالشجون ومر في خياله عبدان وعالية وثمامة وابن الحطيم وعامل القرية متتابعين في صف واحد، فإذا شخص يناديه باسمه. فالتفت إليه فوجده صديقاً لعبدان تاجراً يواجه حانوته حانوت عبدان، فحياه الرجل ودعاه ليستريح قليلاً عنده، فلما جلسا في الحانوت سأله صاحبه عن عبدان فأخبره بأنه يتماثل من علته وسيفتح حانوته وشيكاً، وما مضيا في الحديث إلا قليلاً حتى أدرك حمدان من لحن قول جليسه أنه قد ألم بطرف مما حدث لعالية، وإنما يمنعه الإشفاق عليه أو الحياء منه أن يبدأه بحديثها، فلم ير حمدان بأساً أن يقص عليه قصتها لعله يجد رأياً ينفعه، وعجب حمدان لما رأى الرجل يصغي إلى قصته وهو يتوجع توجعاً شديداً، ويصعد الزفرة تلو الزفرة، فحسب في أول الأمر أنه يتصنع ذلك مجاملة له وتطييباً لخاطره ولكن الرجل ما لبث أن اغرورقت عيناه بالدمع ثم جعل يبكي بكاء حاراً وينتحب انتحاباً حتى أشفق حمدان عليه، وعجب من نفسه كيف لا يجد الدمع سبيلاً إلى مآقيه حتى إنه لم يذرف دمعة واحدة على أخته الضائعة، وإن حديث مصابها ليبكي الأباعد عنها إذا سمعوه.
وأحس الرجل بما دار بخلد حمدان فكفكف دموعه وقال له بصوت متهدج:
(لا تعجب يا حمدان لما ترى مني فإني مصاب مثلك)، وحار حمدان كيف يجيب الرجل لأنه لما يفهم قصده من هذه الجملة المبهمة، وعاد الرجل ليوضح حديثه فقال: (إن ما وقع لأختك قد وقع لابنتي من قبلها).
ومضى الرجل يحدث حمدان كيف اختطفت ابنته منذ ثلاثة أعوام وكيف أنه لم ير وجهها منذ ذلك اليوم أهي الآن في الأحياء أم في الأموات.
- أما بلغت أمرها إلى الشرطة؟
- بلى ولكنهم ما أغنوا عني شيئاً.
- ويلهم.. أما استطاعوا في هذه المدة الطويلة أن يعثروا على المجرم.
- ما أشك أنهم عرفوه فستروا عليه وأعرضوا عنه.
- أواه.. أوقد أصبح السلطان عاجزاً لا يقدر على شراذم العيارين والشطار؟ إنها والله لبلية كبيرة.
- لكن هؤلاء لا يخطفون بنات الناس ولا يسطون إلا على أموال الأغنياء.
- تلك كانت سنتهم فيما مضى وقد كنت مثلك حسن الرأي فيهم، فلقد تغيروا اليوم فما يفرقون بين غني وفقير ولا يتذممون من هتك الحرم.
وحكى له حمدان ما كان من ثمامة وانتمائه إلى عصابة الشيخ سلام الشواف وأنه لا يشك أن ثمامة هو الذي خطفها انتقاماً منه لرفض خطيبته لأخته الثانية، فقال له عبد الرؤوف: (إنني أعرف العيارين وخالطت كثيراً منهم حين كنت أبحث عن ريا ابنتي. فأيقنت أنهم لا يمكن أن يأتوا مثل هذه الأعمال الدنيئة. فإن صح أن ثمامة فعلها فبدون علم من جماعته ولا رضاهم).
- ولكنهم ركبوا معه وعاونوه على ارتكاب الجرم.
- فلا بد أنه كذبهم  ولم ينبئهم بحقيقة الأمر.
ودهش حمدان لما استطرد عبد الرؤوف فحدثه بأنه ما كشف له عن الذي اختطف ابنته إلا العيارون.
- أو تعلم الذي اختطف ابنتك؟
- نعم.
- من؟
- أحد أغنياء القرية.
- أيهم؟
- أتحلف لي أنك لا تقول هذا لأحد؟
- نعم أحلف لك.
- مالك الأرض التي تعمل فيها يا حمدان؟
- أتعني..؟
- نعم أعني ابن الحطيم!
فذهل حمدان وشعر برجفة خدرت لها أوصاله. وظل برهة وهو لا يسمع إلا هذا الاسم يطن في أذنية، وكأن أرجاء الأرض وأجواز السماء تدوي به وتردد صداه: ابن الحطيم.. ابن الحطيم.. ابن الحطيم..! وتمثل لعينيه وجه ذاك الشاب المطل من الشرفة بشعره المرجل اللامع، في وضمات خاطفة متقطعة تواكب ما يطن بأذنيه!
وما أخرجه من ذهوله إلا صوت جليسه يقول له وهو يضر بيده على كتفه: (لا تعجب يا حمدان فما هذا بأول جرم ارتكبه هذا الغني الفاسق. وله وللهيصم جرائر كثيرة من هذا القبيل).
فسأله حمدان وهو يبل بريقه ما شعر به جفاف شفتيه: (هل تحققت أن ابن الحطيم هو الذي..؟).
- نعم لقد سمعت ذلك من بعض خدم قصره بالكوفة وسماها لي ونعتها فلم يبق عندي شك أنها ابنتي ريا.
- هلا شكوته إلى السلطان؟
- ما أغنى عني ذلك شيئاً. فما كانت لي بينة عليه، ولا كان في وسعي أن أحمل الوالي أو رئيس الشرطة على تفتيش قصره وهما من ندمائه وله عليهما أياد وأفاضل.
فسكت حمدان قليلاً كأنه يوازن بين ما كان من أمر هذا التاجر المنكوب وأمره هو ثم قال له: (لماذا لم تشهر به وتفضح أمره في الناس؟ وعلام استحلفتني ألا أقول هذا لأحد؟).
- (ويحك يا حمدان لقد دأبت زمنا على التشهير به حتى لقيني بعض غلمانه الأشقياء ذات ليلة فتوعدني ليقتلنني قتلة الكلب إذا لم أكف عن التشهير بسيدهم. وبعد فماذا يضيره ذلك أو يجدي؟ لقد رأيت خيراً لي آخر الأمر أن أواري سوأة ابنتي عن عيون الناس. ولأن يقولوا إنها اختطفت وضاعت أهون عندي من أن يقولوا إنها عند ابن الحطيم يمسكها على سفاح) وما أتم التاجر كلمته حتى انفجر باكياً. ولما مسح دمعه نظر إلى حمدان فبصر بدمعتين تترقرقان في عينيه الحمراوين، فقال له مشفقاً مرتاعاً: (ويحكك يا حمدان إنك لتبكي دماً)!..
فتبسم حمدان من قول صاحبه ومسح عينيه بطرف كمه فما بدا عليه أثر لدم، وإنما هو قليل من الدمع. ففطن الرجل لما وقع فيه من الوهم، فتبسم ضاحكاً وما يزال في عينيه آثار البكاء، فكان منه ما يكون من الطفل بكى لشيء أغضبه أو لأمر عز عليه فجئ له بغتة بما اشتهي فغلبه الفرح فطفق يضحك هو بعد على حاله يبكي!
وتذكرا ما هما فيه فعجبا كيف تسلل الابتسام إلى شفاهما.
قال حمدان وهو يتنهد: (يجب أن يثور الناس على هذه الحال ويجب أن ننقذ ابنتك من يد هذا الفاسق).
فقال عبد الرؤوف بصوت حزين مؤثر:
- (هيهات يا حمدان فقد كان آخر ما بلغني من خبرها عن ذلك الخادم أنها اختفت من القصر منذ عامين فلم يعرف أحد عنها شيئاً؟).
- فأين ذهبت؟
- لا أدري –لعلها ماتت أو قتلت أو رحلت إلى جهة نائية. فقد بلغني أنهم يفعلون بعض هذا بالفريسة حين يستغنون عنها.
قال له حمدان: (أما قلت لي إنه حبسها في قصر الكوفة؟).
فقال عبد الرؤوف وهو يحسب أن حمدان يريد بسؤاله هذا أن ينقذها (بلى ولكن لا تشغل نفسك بأمرها فليست اليوم هناك).
وتذكر حمدان أن ابن الحطيم قضى الأيام التي تلت اختطاف عالية في قصره بالكوفة كما حدثه بذلك قيم قصره. فخطر له أن عالية قد تكون هناك. ومن يدري لعلها تنزل في نفس الغرفة التي كانت فيها ريا. فأزعجه هذا الخاطر المخيف ولكنه سرعان ما طرده من قلبه إذ ذكر ثمامة وجماعته العيارين. فأنى يصح أن تصير من عند هؤلاء إلى ابن الحطيم؟.
وما انتهى من هذا الخاطر حتى تذكر أن جليسه قد ظن به الاهتمام بإنقاذ ابنته ريا. فخجل حمدان في سره وأراد أن يداري هذا الخطل فقال له: (أما نستطيع أن نصنع لابنتك شيئاً؟).
فقال له عبد الروؤف (شكراً لك يا حمدان. لا فائدة من محاولة المستحيل. إني قد يئست من ابنتي ولم يعد لي فيها مطمع وعددتها كأنها لم تكن. فدعنا نهتم الآن بأختك عسى الله أن يأذن بردها إليك ويومئذ أشعر بأن ابنتي رجعت إلي).
فتأثر حمدان من مقالته وجعل يشكره شكراً بليغاً ثم قال له: لو أعلم أن أختي عند ابن الحطيم أو عند الهيصم لاقتحمت القصر عليه وليكن ما يكون. ولكنها –وأسفاه- بأيدي العيارين من جماعة الشيخ سلام الشواف فكيف السبيل إلى هؤلاء؟.
فسكت عبد الرؤوف هنيهة ثم قال له: إن تكن حقاً عند هؤلاء فأيقن أنها بمأمن من السوء وأنها عما قريب سترد إليك، بيد أني ما زلت أشك أن يتعرض هؤلاء لفقير مثلك لا يطمعون عنده في مال أو فدية.
- لا تنس ثمامة وانتقامه مني.
- إن فعلها ثمامة فلا شك عندي أنه خدعهم.
- إني أراك مصراً على هذا الرأي.
- لأني لا أستطيع أن أؤمن بخلافه.
- فماذا تنصحني أن أصنع؟
- أن تتصل بهم فترى ما عندهم.
- لو كان في مقدوري ذلك لقد فعلت. ألا تستطيع أن تدلني على أحد منهم؟ فارتبك الرجل واعتراه خجل شديد إذ تذكر أنه قد أخبر حمدان آنفاً أنه يعرفهم وأنه قد خالط كثيراً منهم. وأحس أن حمدان يستنجد به الآن ويلتمس معونته في هذا السبيل فكيف يسعه أن يتنصل مما قال؟ وزاد ارتباكه لما نظر في وجه حمدان فرأى في عينيه بريقاً ينطق بكثير من الاستعطاف وقليل من العتب الجميل، فما كان منه إلا أن دنا من حمدان فهمس في أذنه قائلاً: (في وسعي أن أجمعك بأحدهم ولكن حياتي وحياتك ستكونان معلقتين بكتمانك هذا السر فهل تحلف لي على هذا يا حمدان؟ فأقسم له حمدان أغلظ الإيمان أن (لا يخرج هذا السر من صدره أبداً).
فلما وثق به صاحبه قال له: (فقم بنا الساعة لنشهد صلاة الظهر في الجامع وليقضي الله بعدها ما يشاء).
وما لبث الرجل أن أغلق باب حانوته. فطفقا يمشيان ناحية الجامع، وحمدان منشرح الصدر طيب النفس يشعر برغبة شديدة في الصلاة ليشكر الله على أن ساق إليه هذا الرجل الطيب يواسيه ويعينه في مصابه. وما يدري لعل الله أراد بأخته خيراً فقيض له هذا المعين الصالح من حيث لم يحتسب.
وبلغا الجامع فدخلا من بابه الخلفي إلى الميضأة فوجدا خلقاً يتطهرون فانتظرا قليلاً حتى جاء دورهما فتوضآ للصلاة ثم أفضيا إلى صحن الجامع فجازاه إلى الشطر المسقوف منه حيث ألفيا جمعاً ينتظرون الصلاة أن تقام وهم بين قائم يتنفل، وجالس يسبح أو يتلو القرآن، وداخل مثلهما يبحث عن فرجة يشغلها في الصفوف.
وأومأ عبد الرؤوف لحمدان أن يتبعه فتخللا الصفوف حتى وقفا إلى جنب سارية قد جلس إليها شيخ مهيب الطلعة يرتدي جبة خضراء وعلى رأسه عمامة كبيرة بيضاء كأنها غمامة، فصليا ركعتي التحية وما إن سلما من صلاتهما حتى التفت عبد الروؤف إلى الشيخ الجالس على يساره فحياه وأكب على يده يقبلها. وتوقع حمدان حينئذ أن يقدمه صاحبه إلى الشيخ ولكنه لم يفعل بل أخذ يساره والشيخ يميل أذنه إليه ويسترق النظر إلى حمدان مرتين أو ثلاثاً فيخفض حمدان بصره كلما وقعت عين الشيخ عليه إذ يحس أن لها شعاعاً غريباً نفاذا يكاد يخترق حجاب قلبه. وأدرك حمدان أن صاحبه يحدث الشيخ عنه دون أن يسمع شيئاً مما يقول: وخالطه شيء من الارتياب من جراء هذا الهمس. فلولا اطمئنانه إلى صاحبه التاجر لظنهما يأتمران به.
وإن حمدان ليدافع هذا الخاطر عن نفسه إذ التفت إليه عبد الرؤوف قائلاً: (هذا الشيخ بهلول السمرقندي يا حمدان) وإذا الشيخ يمد إليه يده ليصافحه فأهوى عليها حمدان فقبلها وهو يقول: (ادع الله لي أيها الشيخ الصالح عسى أن يرحمني ببركتك) وجذب الشيخ يده منه فأحس حمدان بثقلها وقوتها وشثانة أصابعها فتعجب منها، ولكن صرفه عن التفكير في أمرها ما رأى من أثر السجود على جبهته الواسعة وقد افتر فمه عن بسمة جعلت تضيء من خلال شاربه وعنفقته وعارضيه، وسمعه حمدان يقول بصوت خافت: (تقضى حاجتك إن شاء الله).
وكان حمدان قد سمع بالشيخ بهلول الذي يعظ الناس فيبكيهم من خشية الله ويقص عليهم سير الأنبياء والرسل والصالحين فيشوقهم إلى عبادته ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الدار الآخرة. وطالما اشتاق إلى سماعه ورؤيته فلم يقدر له ذلك لكثرة مشاغله، وإذا هو اليوم يحظى بمعرفته والاتصال به من طريق صاحبه التاجر، فما أسعده لولا ظل الشك الذي يساوره من مسارة التاجر للشيخ آنفاً واستراق الشيخ النظر إليه.
وقامت الصلاة فكبر الناس وكبر حمدان واجتهد أن يتخشع في صلاته ويتجرد من كل ما يشغله من الخواطر، ولكن عز ذلك عليه فقد ظل التفكير في أمر الشيخ وما همس به التاجر إليه شاغلاً باله طوال الصلاة، فتشاءم من ذلك ووقع في روعه أن الله لن يظفره بحاجته لأنه لم يستطع أن يخلص له الدعاء.
واخذ الناس ينصرفون إلى بيوتهم بعد انتهاء الصلاة، وأقبل جماعة منهم فطفقوا يصافحون الشيخ ويلتمسون بركته ودعاه بعضهم إلى الغداء في بيوتهم فكان يشكرهم معتذراً بأنه قد وعد عبد الرؤوف التاجر بأن يتغدى اليوم على مائدته، فلما سع حمدان هذا منه خف عنه شعوره بالارتياب، إذ جوز أن تكون هذه الدعوة إلى الغداء بعض موضوع المسارة، بيد أنه تضايق من وجه آخر لأن غداء الشيخ عند صاحبه سيشغل التاجر وقتئذ عن الأخذ فيما وعده به أن يجمعه بعد الصلاة بأحد العيارين. وتذكر أنه وعد أهله بالرجوع من القرية قبل وقت الغداء، فلا بد أنهم ينتظرون مجيئه الآن. وسيقلقون عليه إذا تأخر فقد صار القلق لأيسر الأسباب ديدنهم منذ ألم بساحتهم حادث الاختطاف الأليم.
7


ونهض الشيخ من مقعده فنهض الرفيقان معه، وخرجوا من باب الجامع وهم صامتون. حتى إذا أخذوا في بعض الطريق وهم حمدان أن يستأذن صاحبه في الانصراف على أن يعود إليه قضاء مهمته في وقت آخر، بدره صاحبه فقال له: (إنك ستتغدى معنا اليوم). فحاول حمدان أن يعتذر فأخذ عبد الروؤف بطرف كمه يجره إليه وهو يقول: (ويحك يا حمدان أنسيت الحاجة التي مضينا من أجلها اليوم؟). لم يسع حمدان إلا الانصياع لأمره الجازم دون أن يراجعه ليفهم ما عناه ولا سيما إذ نظر إلى الشيخ فوجده يبتسم له كأنما يقول له (ألا تريد أن تشهد الغداء معي؟)
وساروا في طريقهم صوب الجنوب وهم يلوذون بظلال البيوت. فاخترقوا زقاقاً ضيقاً، ثم انتهوا إلى شارع متعرج أفضى بهم إلى ميدان فسيح يقوم في جانبه منه قصر كبير قد برزت شرفاته من سور الحديقة التي تحيط به فعرف حمدان أنه قصر الهيصم. وما يدري حينئذ لماذا خطر له أن يدع رفيقيه فينطلق إلى القصر فيقتحمه على حراسه وحجابه عسى أن يجد أخته عالية محبوسة في إحدى غرفه. وكان الثلاثة يعبرون الميدان من الجانب الآخر فلما توسطوه بدا لحمدان فنظر عننا إلى وجه الشيخ، فإذا عيناه ترنوان جهة القصر من تحت الرداء الذي ألقاه على عمامته ليتقي به حر الشمس، وإذا شعاع غريب يتطاير منهما تطاير الشرر من الجمر. فطارت من ذهن حمدان معاني الإصلاح والتقوى، وحل محلها ما كان يتخيل في طفولته أن يراه في عيون القتلة والسفاحين.
وما نقله من خاطره هذا إلا صوت عبد الروؤف يقول له: (هذا قصر الهيصم لعلك تعرفه يا حمدان. ألا تراه أفخم من قصر سيدك؟).
فأومأ حمدان برأسه أن نعم ولم يقل شيئاً إذ لمع في ذهنه كالبرق حينذاك قصر ابن الحطيم ووجه الشاب المطل من الشرفة يقطر شعره المرجل دهناً. وما راعه إلا أن التفت الشيخ إليه قائلاً: (إن حمدان لراض بكوخه.. راض بكوخه لو تركوه).
نالت هذه الكلمة من حمدان ما لم ينله أي كلام آخر. فاهتز لها قلبه اهتزازاً شديداً. وخيل إليه أن هذا الشيخ يعلم من قصة حياته ومكنون سره ما لا يمكن لعبد الروؤف أن يكون قد ساره ببعضه في تلك النجوى القصيرة بالجامع.
ثم عاد الشيخ فقال وهو يتكفأ في مشيته الهويني (فاز المخفون يا حمدان! فاز المخفون يا عبد الروؤف!) وما زال يرددها حتى انتهوا إلى زقاق طويل فساروا فيه نحواً من ثلثيه، فانعطفوا يميناً إلى حارة ضيقة مسدودة. فقال عبد الرؤوف حينئذ: (ها نحن أولاء قد وصلنا) وتقدمهما إلى باب غليظ قد بان عليه القدم، واسودت زوافره العليا من طول اللمس. فما كاد يضع يده على مقرعته حتى سمع صوت المزلاج. فدفع الباب قليلاً ومال برأسه داخله ولبث هنيهة ثم فتحه على وسعه وأذن لضيفيه فدخلا معه. وصعد بهما الدرج حتى قادهما إلى غرفة متوسطة لا بأس بزينتها وأثاثها. فقد كانت مفروشة بطنفستين إحداهما ثمينة هي التي في صدر الغرفة وفوقها الأرائك والوسائد، والأخرى دونها قيمة وهي الموضوعة فيما يلي الباب.
فلما استقر بهم المجلس أخذ صاحب البيت يرحب بضيفيه ويؤانسهما ويدني الوسائد إلى ظهرهما ويقدم لهما المراوح، ويروح بإحداهما عليهما.
وكان حمدان إذ ذاك يقلب عينيه فيما يرى. فيأخذه العجب أن لا ينم منظر الدار من الخارج عما داخلها من النظافة والأناقة والمتاع.
وفتح الباب فدخل غلام صغير يحمل مجمرة فوضعها بين يدي سيده ثم انصرف فأخذها الرجل فأصلح نارها قليلاً ثم رمى عليها قطعة من العود الجيد فجعل يتصاعد منها دخان أبيض ينفح بالعرف الطيب. فقدمها إلى الشيخ فأدناها من أنفه يستنشق دخانها ثم جعل يطيب بها ثيابه وعمامته. فلما انتهى من ذلك وضعها دون صدره فجعل الدخان يتصاعد إلى لحيته وعارضيه. ويتسرب خلال الشعر الأبيض. فيخيل إلى العين أن الشعر يتناثر من لحيته وعارضيه في الهواء. ثم قدمها إلى حمدان فاستجمر بها ملياً ولسان حاله يقول: (أنى لي أن أظفر بمثل هذا غير اليوم؟) حتى عرق جبينه من حر المجمرة فسره ذلك وأسر في نفسه أن هذا العرق سيكون أعقد للطيب في جسده.
وحين قضى منها لبانته، دفعها لصاحب البيت وما كاد أن يفعل. وإن عبق العود ليفعم خياشيمه بعد إذ وسوس له خاطره فتسلل به إلى يحث يرى بعين خياله ربة الدار وقد فرغت من تهيئة الطعام وتسوية شؤون الدار، فارتدت حلتها الحرير وسوت شعرها وتطيبت وتجملت بحليها من الذهب والفضة والجواهر، ووقفت على الشباك تنتظر مجيء زوجها التاجر لتستقبله عند باب الدار ثم تحضر له الطعام فتواكله لولا وجود الضيف عنده اليوم. ثم طار به الخيال إلى ابن عمه التاجر عبدان. وكيف كان يأمل أن تعيش معه أخته عالية حين يتزوجها عيشة أرغد وأهنأ من العيشة التي يحياها هو وأهله في المزرعة. وماذا يمنع عبدان وهو تاجر مثل عبد الرؤوف حين يتقدم في تجارته أن يسكن عالية في دار كهذه ويلبسها من الحلل والحلي ما تلبسه زوجة مضيفة فيما تخيلها عليه؟
ولكن أواه! أين عالية الآن؟ لقد خطفها اللصوص قبل زفافها بأيام قلائل. وتذكر ثمامة فتحرق قلبه موجدة عليه. أواه.. كيف السبيل إلى ثمامة؟ ثم تذكر أنه ما سار مع عبد الروؤف إلى حيث سار إلا ليجمعه عبد الروؤف عقب الصلاة بأحد العيارين عسى أن يدله على ثمامة اللعين. وإذا هو الساعة قاعد في بيت عبد الرؤوف ينتظر الغداء مع هذا الشيخ الواعظ ولا يدري متى ينصرف الشيخ لسبيله فيفرغ عبد الروؤف له. وخيل إليه أنه قد انتظر دهراً دون أن يأتي الغداء، واستبد به الضيق وتذكر انتظار أهله إياه في المزرعة فندم على أن خضع لعبد الروؤف ولم يرفض دعوته منصرفهم من الجامع. وحدثته نفسه أن ينهض ساعتئذ مستأذناً للانصراف بعذر يختلقه اختلاقاً لكي يذكر عبد الروؤف بما نسي من حاجته على الأقل، فما راعه إلا الشيخ يميل رأسه إليه ويقول له بصوت خافض لا يكاد يسمعه سواء: (أتعرف ثمامة يا حمدان؟).
فارتبك حمدان لما فوجئ به من سؤال الشيخ من حيث لم يتوقعه فسكت قليلاً لا يدري كيف يجيبه ونظر إلى صاحبه التاجر كأنه يستنجد به. فرآه مبتسماً كأنه يشجعه على الجواب فلما أعاد الشيخ السؤال عليه قال له حمدان: (نعم.. قد جاءني يوماً يخطب أختي الصغرى فلما رفضت خطبته انتقم مني فاختطف أختي الكبرى المخطوبة لابن عمي).
فقال الشيخ: (إذاً فما اختطف تلك التي خطبها؟).
فأجابه حمدان قائلاً: (لا يا سيدي الشيخ. إنه خطب راجية وخطف عالية).
- فكيف علمت أن الذي فعل ذلك هو ثمامة؟
- لا أحد سواه. وقد رأته راجية راكباً في كوكبة من الفرسان الملثمين على هيئة الشطار. فما لبثت أختها أن اختفت عقب مرورهم.
فنظر إليه الشيخ ملياً ثم اقترب منه حتى كاد فمه يلامس أذن حمدان فقال له: (هل رأيتني أو سمعت بي قبل اليوم؟).
فتعجب حمدان من هذا السؤال. ولكنه أجابه قائلاً: ما رأيتكم من قبل، ولكن طالما سمعت الناس يتحدثون عن صلاحك وحسن وعظك.. وأراد حمدان أن يستطرد في الثناء عليه. فقاطعه الشيخ قائلاً: (حسبك يا حمدان.. إن عبد الرؤوف حدثني ببعض أمرك وأخبرني بأنك أهل للثقة وقمين بكتمان السر فهل أنت كذلك؟)
فخفق قلب حمدان وتذكر استحلاف عد الرؤوف له على ذلك. وتوقع أن يسمع الساعة أمراً بالغ العجب من ذاك الشخص الغريب. فقال له: (أرجو أن أكون كذلك. وقد حلفت لعبد الرؤوف، وإني على الأسرار لأمين).
- هل سمعت بالشيخ سلام الشواف وعصابته؟
- نعم وقد بلغني أن ثمامة منهم.
- أرأيت لو أرادوا الفتك بك أيعصمك منهم أحد؟
- لا عاصم من هؤلاء فيما سمعت. ولكن ماذا يحملهم على قتلي؟ اللهم إلا أن يكون ثمامة.
- دع عنك ثمامة فإنه لا يقدر على ذلك.. ولكن إن أفشيت لهم سرا ائتمنوك عليه فلا تلومن إلا نفسك.
ودهش حمدان لكلام الشيخ وعجب من شدة لهجته، وهو ينطق بهذه الكلمات الأخيرة. وأيقن أنه أراد بها تهديده. ولكنه رأى أن يمضي في تجاهله لحقيقة مقصد الشيخ حتى يصرح به. فقال له: (وأنى لي أن أؤتمن على سر لهم؟).
فنظر الشيخ نظرة إلى عبد الروؤف ثم ابتسم لحمدان ابتسامة غريبة دب لها الرعب في قلبه. وقال: (فاعلم يا حمدان أنني منهم. وقد ائتمنتك على سري وأوليتك ثقتي، فحذار يا هذا أن تخونني فتخسر حياتك).
ولم يدهش حمدان كثيراً لسماع هذا القول العجيب. فقد توقع أن يسمع شيئاً كهذا منذ ألقى عليه الشيخ أسئلته الغريبة بل أحس الآن بالطمأنينة إليه والقرب منه بعد ذاك الارتياب الخفي الذي ظل يساوره منذ رأى عبد الرؤوف يساره في الجامع وتذكر ما رابه من صلابة يده وشثانة أصابعه وما أنكره من ذاك الشرر الذي تطاير من عينيه عند مرورهم بقصر الهيصم... فاستراح الآن قلبه من كل حيرة كانت تنوء به.
قال حمدان وقد تطلق وجهه وانطلق لسانه: (اطمئن يا سيدي، فسرك في قلبي لا يجيزه حلقي ولو جازت الشفار عليه)
وسمعت حركة من خلف الباب فوضع الشيخ يده على فمه إشارة السكوت وقام صاحب البيت فخرج من الباب ثم عاد فقال: (هلما إلى الطعام فقد أعد). فقاما معه إلى قاعة الطعام في وسط الدار، فإذا خوان كبير ممدود قد صفت عليه أطباق الطعام أصنافاً وألواناً. فطفقوا يأكلون وصاحب البيت يباسطهما ويقدم لهما اللون تلو اللون، وكان حمدان قد اطمأن قلبه فتفتحت شاهيته، ورأى طعاماً لا عهد له بمثله فجعل يأكل ويأكل حتى كاد يعجز عن النهوض شبعاً، وقد لوحظ أن الشيخ يأكل أكلاً ذريعاً لا يكاد يستقر على طبقه شيء حتى يأتي عليه. فلم يعجب من صنيعه بعد إذ عرف حقيقته، وإنما أخذه العجب من جمال القاعة وازديانها بالأمتعة والرياش والستائر والبسط الثمينة، ومن ذلك الخوان وما عليه الآكال المتنوعة والأطباق البديعة والأكواب الفاخرة، فتفكر في أمر هذا التاجر كيف يكون عنده كل هذا المتاع والزينة، وكيف يتيسر له الإنفاق على كل هذا الترف، وأن حانوته الصغير وما فيه من البضائع القليلة لا يعقل أن يدر عليه ما يقوم ببعض ما رأى عنده، فلا بد أن يكون لديه مورد آخر للرزق. وما لبث أن ذكر صلته بالشيخ بهلول الذي اتضح له الآن أنه أحد العيارين من أتباع الشيخ سلام الشواف، وقد اتخذ عبد الرؤوف موضع سره.
فماذا يمنع عنده أن يكون عبد الرؤوف عياراً في صورة تاجر كما كان الشيخ بهلول عياراً في صورة واعظ؟ حقاً إن أمر هؤلاء القوم لعجيب وعسى أن يطلع غداً من أمورهم على ما هو أعجب وأغرب.
ومما قوى عنده صدق ظنه هذا ما أطرد عنده من أن ما يظهر للناس من حال عبد الرؤوف يقل دائماً عما يخفى منه. فحانوته أقل من داره. وخارج داره أقل من داخله، وغرفة الضيوف أقل من قاعة الطعام، وهكذا دواليك، فلما اقتنع بصحة ما ذهب إليه أو كاد، انبثق له سؤال آخر: ترى ما الذي حمل التاجر والشيخ –وهما ما هما- على الاهتمام بأمره كل هذا الاهتمام حتى أفضيا بسرهما إليه دون غيره من الناس، وحاول جاهداً أن يجد جواباً يستريح إليه فأعياه، ولكنه موقن أن هذا السر لا يلبث أن ينكشف له غدا، ولعله لا يبرح الدار اليوم حتى يكون قد عرفه فإن الشيخ لما يقل كل ما أراده، إذ حضر الطعام فقطع حديثه، فلينظر قليلاً ولا يتعجل.
ولما فرغوا من طعامهم دار الغلام عليهم بمغسلة فضية فجعل يفرغ الماء على أيديهم من إبريقها الرشيق اللامع كأنه إوزة مصنوعة من الفضة. وقد أحس حمدان وهو يغسل يده ويتمضمض بالإشفاق على ذلك الإناء الثمين أن يغسل الوضر عليه أو ينفث الماء فيه.
وكان يتوقع أن يعودوا بعد الطعام إلى الغرفة التي كانوا فيها فإذا بصاحب البيت يقودهما في ممر طويل ينتهي بدرج ضيق نزل بهما فيه حتى دخل بهما إلى حجرة واسعة تفوق في زيتنها وأثاثها ورياشها كل ما رأى في الدار من قبل. ولها ثلاثة أبواب من داخلها مرخاة عليها ستائر من الحرير الأسود، رفعها عبد الرؤوف وفتح الأبواب فإذا صحن واسع في وسطه فسقية يتفجر الماء من نافورتها، ومن حولها أصص مختلفة الأحجام والأشكال تحمل أشجار الورد والريحان والفل والياسمين وغيرها من الزهر.
وما أفاق حمدان بعد من دهشته حين أقبلت جارية كهلة لا تخلو من آثار الملاحة ففرشت أمامهم بساطاً من الجلد الأصفر الناعم عليه نقوش بديعة وتصاوير. ثم خرجت وما لبثت أن عادت تحمل أكواباً وأباريق فصفتها على البساط، ووقفت قليلاً كأنها تنتظر أمر سيدها. فأومأ لها سيدها فانصرفت وأغلقت الباب من خلفها. ولم يدر حمدان ماذا يضطرب في قلبه من الخواطر إذ ذاك، ولكنه ازداد يقيناً بصدق ما ظن في حال عبد الرؤوف.
قال بعد الرؤوف حين خرجت الجارية: (الآن نستطيع أن نتحدث فيما نشاء كما نشاء دون رقيب إلا هذا الشراب).
فقال الشيخ: (قد يكون الشراب رقيباً عليك حين تأذن له أن يلعب برأسك).
فقال عبد الرؤوف وقد ملأ ثلاثة أقداح وضعها أمامهم: (أما إنه ليعلم أنا لا نأذن له بذلك أبداً).
ورفع الشيخ قدحه فجعل يتحساه تحسياً، وكذلك فعل عبد الرؤوف. واعتذر حمدان بأنه لا يشرب الخمر أبداً، ولكن الشيخ نظر إليه مبتسماً وقال له: (ويحك يا حمدان إنه شراب منعش يزيل عنك الهم، ولا يبلغ بك حد السكر، فاستمتع به ولا تخف).
فرأى حمدان أن ينتهز هذه الفرصة فيذكره بأمره ليصل ما انقطع من حديثه، فقال: (إن همي لا يزول يا سيدي عني حتى أسترد عالية أختي).
فقال الشيخ: (سنتحدث الساعة في أمرها فاشرب).
ونظر فرأى وجه عبد الرؤوف تجلله غاشية من الكآبة فقال في نفسه: (لا بد أنه ذكر ابنته الضائعة) وهم أن يقول للشيخ: (فما بال عبد الرؤوف لم يزل الشراب همه؟!) ولكن عبد الرؤوف ما لبث أن سري عنه وعاد إلى حاله من البشاشة والارتياح..
فرفع حمدان القدح إلى فمه فلما ذاق مرارته عبه عباً حتى أفرغه كما يشرب المريض الدواء على كره منه، فلما انتهى منه نظر فإذا صاحباه ينظران إليه ويتضاحكان.
وعرض عليه عبد الرؤوف أن يملأ له قدحاً آخر، فشكره حمدان واستعفاه.
فقال الشيخ: (دعه يا عبد الرؤوف فحسبه اليوم قدح واحد). ثم التفت إلى حمدان قائلاً: (أرجو ألا يتغير حسن رأيك فينا بعد ما عرفت حقيقة أمرنا يا حمدان).
فقال له حمدان متأثراً (أنكما واسيتماني وأطعمتماني ووعدتماني بمساعدتي في أمر أختي. فكيف يتغير فيكما حسن رأيي؟ هذا لا يكون أبداً).
- فما تقول في العيارين؟
- قوم يقسون على الأغنياء ويرحمون الفقراء.
- أتقول هذا مجاملة لنا؟
- لا والله لقد كنت حسن الرأي فيهم، ولا أدري إلا أن الله سلطهم على الأغنياء عقاباً لهم على منعهم الزكاة والإحسان وهضمهم حقوق أمثالي من العاملين في أرضهم. فاستنار وجه الشيخ وطرب عبد الرؤوف فقال: (زه! لكأنك يا حمدان ولدت عياراً!).
فقال الشيخ: (كلا يا عبد الرؤوف. إنه ما صار عياراً بعد. العيار مظلوم يشعر بظلمه فينتصف لنفسه من ظالمه بيده. وهذا مظلوم ولكنه لا ينتصف، فهو نصف عيار).
فقال عبد الرؤوف: (فليس بينه وبين أن يصبح عياراً إلا خطوة واحدة!).
فسكت الشيخ قليلاً ثم قال لحمدان: (فما يمنعك يا حمدان أن تكون عياراً، فإني لأراك تصلح أن تكون معنا؟).
قال عبد الرؤوف مؤيداً كلام الشيخ (أي والله إنك لذو أنف حمي وقلب ذكي وساعد قوي!).
فتردد حمدان قليلاً ثم قال: (لكني لا تطوع لي نفسي أن أسطو على أموال غيري).
فقال الشيخ: (ويحك يا حمدان أن نسطو على أموال غيرنا ولكنا لا نسطو أبداً على حقوقهم).
فقال حمدان: (أليست أموالهم حقوقاً لهم؟).
فالتفت الشيخ إلى عبد الرؤوف قائلاً: (أرأيت يا عبد الرؤوف إنه ما صار عياراً بعد؟).
ثم قال لحمدان: (اهيصمي أنت أم حطمي؟).
- بل حطمي.
- أرأيت قصور ابن الحطيم وما تحوي من أموال ومتاع؟.
- ما رأيت إلا قصره الذي هنا بالقرية.
- فحسبي هذا فاعلم أن ما فيه ليس كله حقاً له، فإن فيه حقوق الفقراء والمساكين في الزكاة والصدقة، وأن فيه حقك يا حمدان وحقوق أمثالك من الأكارين الذين يستثمرون له أرضه، وهو قاعد يلهو ويلعب، فيستأثر دونكم بثمراتها ولا يترك لكم منها جزاء عملكم وكدكم إلا نزراً يسيراً لا يكفيكم، فذلك ماله وملكه فيما يقول الناس. ولكن ليس حقه فيما يقول الله.
- وليس حق العيارين كذلك، فكيف يحل لهم أن يأخذوه؟
- ما تقول في القوم المحتسبين؟.
- رجال تطوعوا لله ألا يروا معروفاً إلا أمروا به، ولا منكراً إلا نهوا عنه، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم.
- فكذلك العيارون، بيد أن العيار يعتمد في ذلك على الفعل إذا اعتمد المحتسب على القول.
- ولكن المحتسبين لا يأخذون شيئاً لأنفسهم.
- فذلك شأنهم، لا ضير عليهم أن يحتسبوا عند الله ثواب ما يعملون. ولكن ما تقول في العاملين على الصدقات؟. ألم يجعل الله لهم فيها حقاً فهم يأخذونه؟.
- بلى..
- فنحن معشر العيارين كهؤلاء في هذا السبيل، نأخذ حقنا فيما نغنمه من أموال الأغنياء بقوتنا واقتدارنا، ثم ننفق ما يفضل عن حاجتنا على المستحقين من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وابن السبيل..
- ولكن العيارين فيما أعلم لا يأخذون نصيبهم من ذلك المال بالمعروف، بل يسرفون في الإنفاق على أنفسهم ولا يقتصدون.
- حسابهم في ذلك على الله. إن شاء عاقبهم وإن شاء غفر. وما هم إلا بشر ولا يدعون العصمة، ومثلهم في ذلك كمثل من يغل في الصدقات من العاملين عليها وهم كثيرون، وقد جاء في حقهم وعيد شديد في الكتاب والسنة، وأنا بعد لنطمع في عفو الله وتجاوزه، من حيث إن لنا في أخذ النصيب المعروف مجالاً للتأويل وسعة في التقدير.
- وكان حمدان قد عجب من نفسه كيف جرؤ على محاورة الشيخ ومناظرته، وكيف انطلق لسانه في هذه الشئون يلهم ما يقول إلهاماً. ترى أكان ذلك من فعل ذلك القدح من الشراب المر؟.
ولم تبهره بلاغة الشيخ كثيراً لأن الشيخ كان رقيقاً في جداله لطيفاً معه، ولأن حمدان كان مأخوذاً بما وفق هو إليه في الحوار من المنطق الصائب والقول السديد. أما عبد الرؤوف فقد كان يصغي إليهما بلذة وشغف، وقد ملكه العجب من براعة حمدان في القول وقوة حجته حتى ساءل نفسه مراراً: أفلو كان مكان حمدان أكان يقدر أن يقول مثله؟.
انقطع حمدان آخر الأمر عن مجاراة الشيخ إذ لم يستطع أن يعقب على كلامه الأخير بشيء. ولكنه لم يجد في نفسه غضاضة من هزيمته، ولم ينقص ذلك من زهوه بما أعجبه من توفيقه في جولاته الأولى إلا قليلاً، لا بل شعر حمدان في دخيلة نفسه بالارتياح لهزيمته، فقد كانت بعض تلك المعاني التي أفصح عنها الشيخ تجول في فكره من قديم ولكن على حال من الغموض والإبهام. فكان موقفه وهو يجادل الشيخ موقف من يعارض في الرأي ليستوضحه ويزداد به اقتناعاً.
وسر حمدان كذلك إذ خيل له أنه قد أدرك الآن السبب الذي دفع هذين العيارين إلى الإفضاء بسرهما إليه. فقد أرادا أن يدخلاه في جماعتهما لما توسما فيه من الاستعداد لذلك: أليس هو مظلوماً ثائر النفس؟ فهو الآن نصف عيار كما قال الشيخ، فإذا انتصف لنفسه من ظالمه بيده صار عياراً.
بيد أنه سرعان ما اغتم حين ذكر أنهما لم يعطفا عليه لوجه الله، بل لمنفعة يبتغيانها من ورائه باجتذابه للانضمام إلى العصابة. وتذكر أخته عالية وكيف نسيا ما يشغله من أمرها وما اهتما إلا بما يعنيهما من أمره. وإنه ليهم بأن يذكرهما بذلك إذ قال عبد الروؤف وقد رأى انقطاع حمدان عن التعقيب على كلام الشيخ: (لعلك اقتنعت الآن يا حمدان بأن العيارين قوم صالحون لا ينبغي لمثلك أن يتحجر من الانتساب إليهم).
فرأى حمدان الفرصة قد سنحت ليدلي بما أراد فقال (إني إن اقتنعت بحجة الشيخ فيما قال فقد بقي في نفسي شيء من الانتساب إلى قوم يتخطفون نساء الناس).
فتمعر وجه الشيخ قليلاً وقال: (من قال لك هذا؟ حاشا للعيارين أن يأتوا مثل هذا العمل الدنيء).
فقال عبد الرؤوف: (إن حمدان يا سيدي يعني خطف أخته).
فقال الشيخ: (لا حق له أن يرمي العيارين بما يخالف ما درجوا عليه قبل أن يتثبت من الأمر).
قال حمدان عند ذلك: (لا يغضبنك قولي يا سيدي الشيخ فما زلت أعتقد أن العيارين لا يتعرضون لنساء الناس حتى كان ما كان من ثمامة. وما كان ثمامة ليجرؤ أو يقدر على ما فعل لولا انتسابه إلى جماعتكم).
فقال الشيخ: (لو تريثت قليلاً حتى أحدث بأمر ثمامة، لعلمت أننا براء مما فعل، وأنه فعل ذلك من أجل غيرنا لا من أجلنا، وأن الفرسان الذين كانوا معه ليسوا من جماعتنا).
فقال حمدان متلهفاً: (فمن كانوا؟).
فأجابه الشيخ بهدوء: (كانوا نفراً من غلمان سيدك ابن الحطيم!).
فذهل حمدان من هذا النبأ الذي لم يتوقعه قط. وأراد أن يقول شيئاً فوقف الكلم في حلقه الذي أصابه جفاف شديد وأحس كأن الحجرة تدور به. وفي هذه الغمرة تمثل لعينيه في مثل ومضات البرق وجه ذلك الشاب المطل من شرفة قصر ابن الحطيم بشعره المرجل المدهون، وأشفق عبد الرؤوف على حمدان مما غشيه من الكرب حتى جعل العرق يتفصد من جبينه في مثل حبات البرد، فقدم له شيئاً من الشراب شجه بقدره من الماء، فشربه حمدان دون أن يقول شيئاً. وما هي إلا هنيهة حتى بدا حمدان كأنما أفاق من غشية ألمت به، وأخذ يمسح العرق عن وجهه بأطراف ثيابه ثم نظر إلى الشيخ فقال: (كيف عرفت هذا؟).
فقال الشيخ: (إننا نعرف كل شيء. لنا عيون في كل مكان تنقل إلينا الأخبار).
- أليس ثمامة من جماعتكم؟ فكيف اتصل بغلمان ابن الحطيم؟.
- لم يبلغ ثمامة أن يكون من الجماعة، وإنما كان من غلماننا الذين نستعين بهم في صغار الأمور. وقد اختفى عنا منذ ارتكب حادث أختك، ونحن في طلبه حتى نبطش به جزاء خيانته لنا وإفشائه سرنا.
- ويله.. أوقد أفشى سركم؟.
- لا ترع! فما كان يعرف إلا نفراً من غلماننا الذين هم في مثل درجته، وقد قبض على اثنين منهم بسعيه ووشايته.
- أفليس عليكما منه خوف؟.
- لا يا حمدان فليس يعرفني ولا يعرف عبد الرؤوف ولا أحداً من الجماعة غير الغلمان.
- أليس يعرف الشيخ سلام الشواف؟.
- ويحك يا حمدان، ذاك رئيسنا لا يعرفه إلا سبعة منا ليس عبد الرؤوف أحدهم. فدهش حمدان وقال: (حتى عبد الروؤف لا يعرفه!).
- فابتسم الشيخ وقال: (حتى عبد الرؤوف، إنما يتصل به من طريقي، وستكون أنت معي مثل عبد الرؤوف، ليس بينك وبين الرئيس إلا شخص واحد هو أنا. فانظر يا حمدان كيف نلت من ثقتنا من أول ما عرفناك ما لم ينله سواك).
- وحينئذ قال له عبد الرؤوف: (فهل بقي في نفسك شيء بعد يا حمدان؟) فقال حمدان: (لا والله ما بقي في نفسي شيء، ولكن لا أجدني أستطيع أن أنفعكم في شيء حتى أجد أختي عالية أو أعرف مصيرها).
قال الشيخ: (فقد عرفت مصيرها الآن. إنها في قصر ابن الحطيم بالكوفة، وإنما ثمامة الذي اختطفها له لمعتصم هناك في القصر).
فجن جنون حمدان وصاح وهو يتميز من الغيظ: (والله لأسرين الليلة إلى الكوفة فلأقتحمن القصر وأستنقذن أختي!).
- خفض عليك يا حمدان، فليس ذلك بالأمر الهين. إن للقصر لحراساً أشداء.
- فلأشكونه إلى السلطان!
- افعل إن شئت ولن تجديك الشكوى شيئاً، إن للمال لسلطاناً على السلطان.
- فماذا أصنع؟ قولوا لي ماذا أصنع؟.
- كن عياراً. حارب معنا طغيان المال. كن معنا حرباً على الأغنياء، تنقص أموالهم فتنقص من قوتهم وطغيانهم. انتقم منهم لنفسك ولآلاف المظلومين أمثالك. أسلب منهم ما استطعت كما يسلبون الفلاح ثمرة كده. والأجير جل أجره على جهده والفقير معلوم حقه.
فصاح حمدان حينئذ: (ويل للمال ويل للأغنياء؟ خذوني معكم أنا منكم! أنا منكم!).
فبسط الشيخ إليه يده فصافحه ثم ضرب بها على صدره، وقال: (أبشر يا حمدان فلن تجوع بعد اليوم ولن يهضم حقك وهذا أخوك عبد الرؤوف سيلقنك دستورنا ثم يبلغك ما يجب عليك عمله).
- والمزرعة أعلي أن أتركها؟
- لا بل تبقى فيها كما أنت.. ستكون عياراً في صورة فلاح.
فسكت حمدان قليلاً ثم قال وفي صوته رنة الحزن: وأختي عالية يا سيدي الشيخ؟
فقال الشيخ: (سنبذل جهدنا في استنقاذها إن كان إلى ذلك سبيل).
- إن كان إلى ذلك سبيل!
- أجل يا حمدان. لسنا جيشاً يقاتل للفتح والغلبة في وضح النهار، وإنما نحن جماعة تعمل في الخفاء وتغير على أهدافها في الظلام.
- فما يمنعنا أن نكون جيشاً؟
- ويلك يا حمدان أتريد منا أن نحارب السلطان؟
- لم لا؟ ألسنا نحارب طغيان المال؟ فما ذا يحميه من بأسنا إلا السلطان؟
فنظر الشيخ ملياً إليه ثم التفت إلى عبد الرؤوف قائلاً: (أرأيت يا عبد الرؤوف إن أخاك ليس عياراً وإنما هو ثائر).
فقال عبد الرؤوف: (أعذره يا سيدي فإنما به هم أخته، فهو يحلم بغزو الكوفة لتخليص أخته من قصر ابن الحطيم، وقد كنت في مثل حاله يوم اختطف هذا اللعين ابنتي وعلمت أنها في قصره ولم أجد إليها سبيلاً. وغدا تهدأ ثورته ويستمر مريره ويكون عياراً صالحاً).
8


خرج حمدان من عند عبد الرؤوف، واتخذ سبيله راجعاً إلى مزرعته، وقلبه مفعم بالخواطر والشجون تذهب به كل مذهب، وشعر بالشوق الشديد إلى لقاء أهله بالكوخ، كأنما غاب عنهم دهراً طويلاً، لكثرة ما مر به من الحوادث في يومه هذا وما رأى وما سمع من الغرائب والعجائب، حتى لم يكد يصدق أنه ما فارقهم إلا في صباح ذلك اليوم.
وكانت الشمس قد مالت للغروب، فنفضت على رمال الطريق، وعلى السهول والتلال عن يمينه وشماله، وعلى المزارع وما فيها من أكواخ وجواسق، وعلى غصون الأشجار وفروع النبات ذلك اللون الذهبي الرائع، فخيل إلى حمدان أنه يسير في عالم جديد غير ذلك العالم الذي سار فيه حين خرج من كوخه يؤم القرية في حاشية الصباح.
وما كان هذا المنظر بجديد على حمدان، فطالما رآه في ساعة الأصيل وهو يسير على هذا الطريق عينه من القرية إلى المزرعة، دون أن يثير في نفسه هذا الإحساس الغريب على هذا الوجه من القوة والوضوح، ولكنه كان يشعر حينئذ بأنه قد استحال شخصاً جديداً منذ اتصل بالشيخ والتاجر وعرف منهما من أسرار الحياة وأحوال الناس ما عرف. فلعل شعوره بهذا التبدل العجيب في نفسه هو الذي فتح عينيه ساعتئذ على ما في منظر الكون في وقت الأصيل من الغرابة والروعة.
وكان عبدان قد وجد في نفسه شيئاً من القوة والنشاط، فنهض عن فراشه وخرج يتفقد عمل الأجيرين في المزرعة، فلما رأى حمدان قادماً أقبل يسعى إليه. فعنفه حمدان على خروجه وهو بعد واهن القوة. فقال له عبدان: (كلا يا حمدان إنني الآن بخير وما عدت أشكو شيئاً) فسر حمدان لما رأى من برئه وخفته، وانطلق معه صوب الكوخ، واستقبله أهله فرحين مستبشرين بمقدمه كأنما كان ضائعاً فوجدوه.
وما كاد يخلع جبته حتى أقبلت عليه أمه وزوجته وأخته يسألنه هل وجد أثراً لعالية أو سمع عنها نبأ جديداً. فجعل يقص عليهن وعلى عبدان ما وقع له في ذلك اليوم حتى إذا وصل إلى خبر التاجر والشيخ أمسك عنه، واكتفى بأن حدثهم أنه اتصل بجماعة من العيارين، وعرف منهم أن عالية في قصر ابن الحطيم بالكوفة قد اختطفها ثمامة له، وأن الذين كانوا مع ثمامة ليسوا من العيارين بل من غلمان ابن الحطيم وأن العيارين وعدوه بمساعدته في استنقاذ أخته.
وقد تألموا جميعاً لمصير عالية، وطفقوا يلعنون ابن الحطيم، ويدعون عليه وعلى ثمامة إلا أنهم وجدوا شيئاً من الطمأنينة لما تجدد عندهم من الأمل في استرداد عالية، فباتوا تلك الليلة يحلمون برجوعها.
إلا راجية فإنها أرقت وباتت تتقلب على فراشها والهواجس تلعب بها، فقد آلمها ما ظهر من ثمامة من الخسة والنذالة، إذ اشتغل قواداً لابن الحطيم حتى تبرأ منه العيارون ونذروا دمه. ولكنها تشعر بنسمة من الارتياح تتسلل إلى قلبها لأن ثمامة ما اختار عالية دونها لحب أو إعزاز. ثم انتقل خاطرها إلى عبدان فجعلت تتحسر إذ خاب أملها في اجتذابه إليها، فما زاده غياب عالية إلا تعلقاً بها ونفوراً من راجية على فرط تحببها إليه، وعنايتها به في أيام مرضه. فلتعد عالية على الرحب والسعة فما في غيابها أي نفع لها، وإنها بعد لفي شوق إلى رؤية أختها الجميلة.
وطار بها الخيال إلى قصر ابن الحطيم، وأخذ يصور لها ما فيه من نعيم ومتاع فقالت لنفسها: (إن عبدان مستهام بعالية يذوب شوقاً إليها وينفر مني ولا يطيق وجهي. فلولا كنت مكانها في قصر ابن الحطيم فيجتمع شملها بشمل حبيبها وليكن مصيري هناك ما يكون. فداء لأختي وقل لها الفداء!).
ما كاد عبدان يشعر بالإبلال من علته حتى عاد إلى القرية ليقيم في داره ويفتح حانوته، إلا أنه كان يلتقي بحمدان دائماً ولا ينقطع عنه يوماً واحداً. وظل حمدان أياماً يكتم عنه قصة انضمامه إلى العيارين ثم لم يجد بدا من أخباره بذلك دون أن يفضي إليه بسر الشيخ بهلول ولا بسر صديقه التاجر عبد الروؤف. وأن عبدان ليرى اتصال حمدان بجاره عبد الرؤوف واجتماعهما بحضوره تارة وفي غيابه أخرى. فلا يعدو ذلك عنده أنها صداقة وقد تولدت بينهما من سابق الصلة التي بين عبدان وبعد الرؤوف ثم قواها ما يبديه عبد الرؤوف من التألم لخطب عالية والاهتمام بأمرها.
أما أهل بيته فظلوا يجهلون حقيقة أمره، وإن أنكروا شيئاً من التبدل في طباعه وعاداته. ولحظوا كثرة خروجه ليلاً وتأخر مجيئه إلى ما بعد منتصف الليل. وأحياناً إلى قرب طلوع الفجر، وأنكروا كذلك وجود الأسلحة الماضية عنده وتقلده بعضها عند الخروج، وإن كان يوهمهم أنه إنما يفعل ذلك كله سعياً لاستنقاذ عالية. ولحظوا امتلاء يده بالمال وسخاءه في الإنفاق عليهم، حتى رفع عيشهم وحسن ما يأكلون وما يلبسون، وكثر اعتماده على الإجراء والأجيرات في عمل المزرعة دون أن يشترك معهم أو يشرك أخته وزوجته في العمل إلا قليلاً، فإذا قيل له في ذلك من غير أهله قال لهم إنه أصبح شريكاً لعبدان في تجارته فذلك نصيبه في ربحها، أما أهله فكان يقول لهم: (هذا رزق ساقه الله إلينا من فضله، فكلوا واشربوا ولا تسألوا عما لا يعنيكم) فكانوا يتعجبون من أمره ويسكتون.
وكان يحسن إلى إجرائه ويعطف عليهم ويعطيهم أجوراً أفضل مما يجدونه عند غيره، فكانوا يحبون العمل عنده ويجتهدون فيه، فكان إذا رأى منهم ذلك تنهد وقال في نفسه: (ويحكم. ما يجني من اجتهادكم هذا إلا اللعين ابن اللعين).
وما انقضت ثلاثة أشهر منذ اشتغال حمدان بالعيارة حتى صار يعرف سننها وأسرارها وحيلها وخططها، وبرع في ركوب الخيل كراً وفراً، وأتقن الرماية وسائر فنون القتال، وسرعان ما تقدم عند جماعته وعرف بينهم بالبطولة والإقدام، فكانوا يعتمدون عليه في المهمات. وكأنما وجد في هذه الحياة الجدية الحافلة بالمغامرات العظيمة والمفاجآت العجيبة تعزيه له عن مصاب أخته، فمضى فيها مضي الهارب من شر يطارده إلى أي ملاذ يصل إليه، لا يخاف في طريقه شيئاً لعلمه أنه لن يكون أهول مما خلفه، فكان ذلك سر نجاحه الباهر في هذا اللون الشاق من ألوان الحياة، وبه استطاع أن ينسى همه إلى حين.
9


أما عبدان فلم يجد مهرباً من همه غير عمله الممل في حانوته الصغير، لا يحصي ما يخرج منه وما يدخل إليه، ولا يدري كم يربح وكم يخسر، ولا يبالي أكثر الشارون منه أم قلوا، ويقضي جل وقته بالجلوس إلى جاره عبد الرؤوف يستريح بالشكوى إليه، حتى إذا لقي حمدان في حانوته أو حانوت جاره أو في المزرعة سأله ما فعل في شأن عالية، وماذا تم من سعيه في استنقاذها. فيعلله حمدان بأن ذلك سيتم وشيكاً، ثم يشرح له ما يقوم دون ذلك من العقبات ويوصيه بالاصطبار قليلاً حتى ينجح التدبير الذي يريد القيام به من جماعته لمباغتة حراس القصر واقتحامه، أو مغافلتهم والتسلل إليه ثم الفرار بعالية. فكان عبدان يطوي صدره على ألمه ولا يقول شيئاً.
حتى عيل صبره من طول الانتظار وضاق صدره بمطاولة حمدان فقال له يوماً وقد أختليا في دار عبدان وليس معهما أحد: (بل نسيت أختك يا حمدان وشغلك عنها هؤلاء العيارون وما تغنم من كسبهم الحرام).
فهم حمدان أن يثور على ابن عمه لهذه الكلمة الجارحة، ولكنه آنس من شدة التياعه ونفاد صبره ما جعله يشفق عليه فقال متلطفاً: (لا والله يا ابن عمي ما نسيتها، وما خالطت هؤلاء القوم إلا من أجلها لعلي أستنقذها بعونهم وبريحهم).
- فأين هذا العون وهذا الريح؟.
- أحسبني قد حدثتك بكثير مما فعلنا، لقد حملنا حملات موفقة على ذلك اللعين ابن الحطيم فنهبنا دوره ونقبنا مخازن غلاله وسطونا على قوافله ورزأناه أموالاً جسيمة ولن ندعه حتى نلصق أنفه بالرغام.
- فهل أفردتم ابن الحطيم بذلك؟ إنكم لتسطون على غيره كما تسطون عليه.
- نعم فكل أولئك من طغاة المال، وقد آلينا أن نحارب طغيان المال حيث كان.
- فما صنعت شيئاً ما تركت أختك قاعدة في قصر ابن الحطيم يفعل بها ما يشاء من المنكر وأنت لاه عنها بالسطو على أمواله مع عصابتك. ووالله ما ترزأون من ماله بما تفعلون إلا مقدار ما يرزأ الطائر من النهر العظيم يغمس منقاره فيه. إن هؤلاء العيارين إنما غرضهم المال، فلتجعل أختك ليلة واحدة غرضك!.
- إن اقتحام القصر ليس هيناً كما تظن.
- إن عجزتم عن ذلك فدعنا نشكه إلى السلطان.
- لن يجدينا ذلك شيئاً، فوالي الكوفة وعامل القرية ومن دونهما من أولي الأمر كلهم صنائع لابن الحطيم.
- فلنفضحه ولنعلن سوء عمله في كل مكان.
- إن نحن فعلنا هذا فسيأخذ ابن الحطيم حذره وينقلها من قصر الكوفة إلى مكان مجهول فلا يبقى لنا إلهيا سبيل، ولكن أمهلنا بضعة أيام أخرى فسترى ما يسرك.
كان حمدان قد تأثر من كلام ابن عمه وشعر بأنه قد فرط حقاً في جنب أخته، فكلم جماعة العيارين كلاماً شديداً في هذا المعنى، وهددهم بالانفصال عنهم إذا لم يعجلوا باستنقاذ أخته، فرفعوا أمره إلى رئيسهم فتولى تدبيره بنفسه، فبث عيونه لرصد حركات ابن الحطيم حتى علم أنه سيخرج بحريمة إلى جوسق له بقرب النجف، فندب فرقة من أشد رجاله وأمهرهم فيهم حمدان، فاقتحموا الجوسق ولم يكن معه إلا قليل من الحرس فكتفوا أيديهم وقتلوا واحداً منهم هم بالمقاومة والبطش ثم اندفعوا في البيت فوجدوا ابن الحطيم سكران بين قيانه لا يكاد يعي ما يدور حوله وهن يسقينه ويرقصن بالدفوف والصنوج بين يديه.
وما وقع بصر حمدان على وجهه الأبيض وشعره اللامع المرجل حتى عرفه، فرفع سيفه وهم بقتله فاعترضه جماعته ومنعوه من ذلك وذكروه بأوامر الرئيس القاطعة بألا يقتلوا إلا من قاوم ولا يتعرضوا للنساء، فأطاع حمدان على مضض وتصايح النسوة حين رأينهم واستولى عليهن الذعر فتكأكأن على سيدهن يلذن منه بركن ضعيف. فصاح فيهم قائد الفرقة بأن يسكتن وإلا خوف عليهن ما بقين في مكانهن والزمن السكوت، فخضعن للأمر طائعات وجلات. وقام أحدهم بالسيف على رأس السيد المخمور وقد أيقظه الذعر من خماره فجعل ينظر إليه فاغراً فاه وفرائصه ترعد.
وتفقد حمدان أخته فوجدها بينهن، فانطلق بعضهم إلى الغرف الأخرى يتفقدونها. ووجدوا إحداها مغلقة فاقتحموا بابها فإذا مخدع وثير الفراش يتضوع الطيب فيه، وإذا امرأتان إحداهما جالسة وعليها حلة لازوردية والأخرى قائمة على رأسها تمشطها وتزينها، فهبتا مذعورتين ووقف حمدان لحظة كالمذهول ثم تقدم إلى أخته فتراجعت خائفة فحسر لثامه فاندفعت إليه وهمت أن تصيح باسمه لولا أنه أشار لها بالصمت. ونظر حوله فوجد عباءة من الخز فألقاها عليها وانطلق بها. وما هي إلا لحظات حتى فرغ القوم من نهب ما في الجوسق من النفائس وسلب ما على القيان من الحلي فقفزوا على جيادهم فانطلقوا بها كالريح في جنح الظلام.
وخشي ابن الحطيم من افتضاح أمره فلم ينه إلى السلطان إلا أن جماعة من العيارين قد اقتحموا جوسقه فنهبوا ما فيه. وقد غلب على ظنه أن حمدان هو الذي أوعز إلى العيارين باسترداد أخته عالية ولكنه لم يشأ أن يتعرض له لئلا تتكشف فضيحته.
10


رجعت عالية إلى أهلها ففرحوا بها أشد الفرح كأنما ماتت فبعثت من قبرها حية ولكنها كانت تبدي الفرح معهم وتخفي في نفسها هماً لاعجاً لا انفكاك لها عنه لا حيلة لها فيه. وكذلك كان عبدان فما كاد يقضي حظه من فرحة اللقيا حتى دب إليه الهم وساورته الريبة ولعبت به الظنون والوساوس فأخفى كل ذلك جهده عمن حوله، بيد أن هذا الهم المكنون ما لبث أن تسلل من قلبيهما فدب في قلوب الآخرين حتى خيل إلى بعضهم أنهم كانوا قبل رجوعها أسعد منهم بعده.
وانتبهوا ذات صباح فلم يجدوا بينهم عالية، فكأنها كانت حلماً سنح لهم في المنام ثم انطوى عند اليقظة. وكان حمدان غائباً تلك الليلة عن داره في إحدى خرجاته البعيدة مع العصابة ولم يعد إلا في الليلة التالية فذهب يبحث عنها في كل مكان فلم يجد لها أثراً.
واتفقوا جميعاً في التألم لاختفائها، ولكنهم اختلفوا في تقديره وتفسير ما دفعها إليه، بين رفيق يلتمس لها المعاذير، وشديد عليها يرميها بأشنع التهم، ومتردد بين بين لا يدري ماذا يقول. وكان يجمعهم من وراء ذلك إحساس غريب بأنهم قد فقدوها هذه المرة إلا الأبد فلن يروا لها وجهاً آخر الدهر.
وكان عبدان يشعر دونهم بأن بعض التبعة في اختفائها واقع عليه، فهو يذكر أن عالية جلست إليه ذات عشية فأخذت تتلطف معه وتسأله عن حال تجارته كأنها تقول له متى زواجنا وأنه رد عليها بأجوبة مقتضبة تنم عما في قلبه من التردد في قبولها زوجة له بعد انثلام شرفها فكأنه بذلك يؤاخذها بأمر لا ذنب لها فيه. وأنه ليعلم أن عالية دقيقة الحس تنفذ عيناها إلى ما يجول في خاطر جليسها فتستغني به عن كلامه. فلا ريب عنده أنها لما رأت منه ذلك آثرت الفرار بنفسها خشية أن يتزوجها على غير رغبته مجاملة لأهلها وستراً لعرضها. كان هذا الشعور بالتبعة ثقيل الوطأ على عبدان وكان مما يزيد عذابه به أنه لا يستطيع أن يكاشف به أحداً.
واشتد الحزن بأمها فأسلمها إلى مرض لم تقو شيخوختها الواهنة على احتماله فما لبثت أن قضت نحبها دون أن تعرف أن ابنها حمدان الأكار قد انقلب عياراً. ولم يجد حمدان بعد وفاة أمه التقية الصالحة من سبب يدعوه بعد إلى كتمان مهنته الجديدة عن أهله فباح لهم بسرها فما عجبوا له ولا دهشوا منه كأنما كانوا على علم به من قبل.
11


وتنوسي أمر عالية شيئاً فشيئاً كأنما ماتت مع أمها في يوم واحد فحزنوا عليهما ثم ما لبث الحزن أن بلي بعد حين. ولكن الأيام لم تستطع أن تبلي حقد حمدان وعبدان على ابن الحطيم، فظلا يفكران كيف ينتقمان منه وكان عبدان أشدهما في ذلك. وكانا يعلمان أن الناس في قرية الدور وما حولها يعرفون كثيراً من فضائح ابن الحطيم وقبح سيرته، ولكنهم لا يجرؤون على الجهر بإنكارها خوفاً من قوة جاهه واتقاء لأذاه. فاتفقا على أن ينتدب عبدان لإعلان فضائحه على رؤوس الأشهاد وتأليب الناس عليه ويبقى حمدان ردءاً له من ورائه.
وتناقل الناس أخبار ابن الحطيم وتجاهروا بحكايتها عن عبدان التاجر فصارت حديث المجالس والأسمار. وشق ذلك على ابن الحطيم فأوعز إلى رجال السلطان فضربوا عبدان وعزروه وتوعدوه بالعقاب الشديد إن عاد إلى التشهير بابن الحطيم. فكف عبدان عن التشهير به جهاراً ولكنه استمر يحرض عليه ويندد بعمله سراً، وبلغ ذلك ابن الحطيم فأرسل إليه من غلمانه من هدده بالفتك فما بالى عبدان بذلك إلا أنه أخذ حذره فصار يحمل السلاح دائماً في ثيابه.
وكان ابن الحطيم قد صب نقمته على حمدان أيضاً لقرابته من عبدان فطرده من العمل في مزرعته، فانتقل حمدان بأهله إلى قرية الدور فسكنها وابتاع له أثواراً فكان يحمل عليها غلات السواد إلى القرية، متخذاً ذلك عمله فيما يظهر للناس ليخفي به عنهم أنه عيار، فإذا كان الليل ارتدى زي العيارين وخرج مع عصابته كعادته. وكان كثيراً ما يعرج على دار عبدان فيتحدث معه قليلاً قبل انطلاقه إلى جماعته.
وإنه لفي دار عبدان ذات ليلة فإذا أحد أتباع ابن الحطيم قد طرق الباب ومعه شرطيان ليقبضا على عبدان بدعوى أنه قذف ابن الحطيم على مشهد منهما فأخذا يجرانه وهو يتأبى عليهما – وكان حمدان قد اختبأ في الدار لما سمع الطرق – فلما سمع المشادة برز لهم وهو شاكي السلاح وقد ثار غضبه فجرد سيفه وأهوى به على التابع فأراده. فلما رأى الشرطيان ذلك أرسلا عبدان ودلفا إليه فما أمهلهما أن فلق هامة أحدهما بالسيف ووثب على الآخر فطرحه على الأرض ثم ذبحه.
وقف حمدان وعبدان على الجثث الثلاث ملقاة أمامها فخشيا المغبة وحارا ماذا يصنعان. ولبثا برهة يتشاوران ويقلبان وجوه الرأي حتى استقر عزمهما آخر الأمر على أن يتركا الجثث مكانها ويبرحا الدار فأما عبدان فيختفي ويترك القرية إلى بلد بعيد لا يعرفه فيه أحد وأما حمدان فيبقى عند أهله يعولهم ويرسل لعبدان سراً بعض ما يحتاج إليه من نفقة إن تيسر له ذلك.
وأسرع حمدان فانطلق بابن عمه إلى بيت أحد أصحابه العيارين فأخذ من عنده ثياباً مما يتزين به طلاب العلم فأمر عبدان فلبسها ثم انطلق به خارج القرية فانتظرا عند تل هناك فإذا بصاحبهما العيار قد وافاهما على جواد مطهم فانتبذ حمدان بعبدان ناحية فتناجيا قليلاً ثم عانقه حمدان وودعه. ثم دنا من الفارس العيار فقال له: هذا ابن عمي فأردفه معك وانطلق به في طريق واسط حتى تنزله حيث يبلغ بك السير عند الثلث الأخير من الليل فتدعه هناك وتعود.
فلم يقل العيار شيئاً وإنما مد يده إلى عبدان يساعده على امتطاء الجواد خلفه فلما استقر عبدان في موضعه همز العيار جواده فاضطرب في عيني حمدان لحظة ثم اختفى!
السفر الثاني

(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون).
(قرآن كريم)
1


في ليلة من ليالي بغداد الشاتية، وقد خلت الشوارع من المارة، وأطفئت مصابيح البيوت، وأوى الناس إلى مضاجعهم وهم يرتجفون من تحت الأغطية واللحف الغليظة فلا ينجيهم من عذاب البرد إلا أن تثقل جفونهم فيناموا – كان نور ضئيل ينبعث من مصباح تخفق ذبالته في غرفة صغيرة بخان كبير يقيم فيه الغرباء من طلاب العلم ببغداد على مقربة من جامع أبي جعفر المنصور، وقد جلس اثنان من الطلاب يتدارسان الفقه ويتباحثان في مسائله بهمة وحماسة، لا يكترثان لذلك البرد القارس تضاعف من شدته الريح البليلة التي تتسرب إلى غرفتهما من خصاص بابها ونوافذها، وكأنهما يستدفئان بلهب ذلك المصباح الضئيل، أو يجدان في حماستهما المتوقدة للعلم ما يرد عنهما مس الزمهرير.
وإنهما لكذلك إذ اختلفا في مسألة فاشتد الجد بينهما دون أن يقدر أحدهما على إقناع أخيه بصواب رأيه وسداد حجته، ثم اتفقا على أن يحتكما فيها إلى جارهما الأهوازي لحسن رأيهما فيه واعترافهما ببراعته وسعة اطلاعه ونفاذ ذهنه في الفقه ولا سيما في ذلك الباب الذي اختلفا فيه.
ولما عزما القيام إليه استدرك أحدهما قائلاً: (ولكن عبدان قد نام فكيف نزعجه من نومته؟) فأجابه الآخر مصمماً على عزمه: (إنه يحب المناقشة فلا بأس إن أيقظناه).
ذلك ما كان من عبدان بعد أن قضى زهاء عام يطلب العلم ببغداد، وقد تغير زيه وسمته وطريقته في المشي وفي الكلام فلو رآه أحد معارفه من قرية الدور لما عرفه إلا أن يدله عليه صوته الذي ظل كما كان لم يتغير فيه شيء.
وكان قد قضى عامين في واسط حيث استقر به المقام عقب فراره من قريته متنكراً في زي طلاب العلم، فاشتغل بطلب العلم محمولاً عليه في أول الأمر. ولكنه لم يلبث أن لذ له ذلك فلازم شيوخ العلم بها وجد واجتهد في الدرس والمطالعة يساعده في ذلك فرط ذكائه وتوقد ذهنه وصفاء قريحته، فما تم له عامان حتى ظهر نبوغه وتقدمه على الأقران في كل ما اشتغل به من فروع العلم ولا سيما في الفقه.
وإنه ليقرأ اليوم في باب الزكاة أو باب المزارعة والمساقاة أو باب الأجير أو باب الجعالة أو غير ذلك من الأبواب التي تبحث في معايش الناس ومعاملاتهم وترشد إلى تنظيمها على وجه يكفل العدل والخير لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم وقطع دابر الظلم عنهم، فيرى وجه حمدان يطل عليه من خلف السطور، ويكاد يسمع أقواله وهو يشرح ما يلقى الفلاح من ظلم مالك الأرض واستئثاره بثمرات كده، والعامل أو الصانع الأجير من ظلم صاحب العمل، والفقير من قسوة الغني وامتناعه عن أداء حقه إليه. وما كان حمدان إلا فلاحاً جاهلاً ولكنه فقه معنى العدل في مختلف صوره فذهب يلتمسه بين الناس وبين الراعي والرعية فلم يجده، فكيف به لو قدر له أن يتفقه في الدين ويقرأ هذه الأبواب التي تفصل العدل الذي أمر الله به تفصيلاً؟
وقد أحس عبدان من أول ما بدأ يدرس العلم بانجذاب قوي إلى هذا الفرع من فروع الفقه فكان أشد به اهتماماً وأمضى فيه ذهنا وأحفظ لمسائله وقضاياه مما سواه حتى كاد يختص به دون غيره، وحتى لامه بعض شيوخه على ما رأوا من قلة اهتمامه بالفروع الأخرى، فكان يقول في سره: (مالي ولأبواب الحيض والاستحاضة والطلاق والعدة أضيع فيها وقتي وأشغل بها قلبي عن فهم القسطاس الذي عليه مدار حياة الناس وبه قوام سعادتهم؟).
ولما ضاقت به واسط ولم يجد فيها ما يرضي طموحه ويشفي غليله رحل عنها إلى بغداد كما كان يفعل ألوف من أمثاله في كل عام يأتون من الآفاق ويقطعون الفراسخ سعياً على أقدامهم، أو يضربون أكباد الإبل ليتعلموا في مدينة العلم والعلماء أو يستزيدوا علماً.
2


ولم يكد يخالط الطلاب المقيمين في الخان وفي غيره ويجالس العلماء في حلقات التدريس ويباحثهم في المعضلات حتى عرفوا عبدان الأهوازي –وكان هذا هو اللقب الذي انتحله لنفسه منذ جاء إلى واسط– واشتهر بينهم بعلو الهمة والجد في التحصيل والفطنة الخارقة والذكاء النادر.
وكان أول مقدمه إلى بغداد قد بهرته وفرة حلقات العلم في مساجدها العامة. فكان يختلف إلهيا كلها ليحضر جهد ما استطاع منها، فيأخذ عن هذا العالم وعن ذاك، وكلهم من الفطاحل الذين طالما سمع من قبل بأسمائهم وتواليفهم حين كان في واسط، ثم أدرك بعد ذلك أن المعارف والعلوم أوسع من أن يحاط بها وأن السعي إلى ذلك عمل ضائع وجهد غير نافع.
وتمثل له خيال حمدان وأخذت أقواله ترن في أذنيه فيقول لنفسه (لم لا أقصر جهدي على القسطاس الذي عليه مدار حياة الناس وبه قوام سعادتهم؟ فصار بعد ذلك يتنقل في الحلقات ولا يشهد إلا الدروس التي تتصل بما يريد عند هذا الشيخ أو ذاك. وكان الشيخ من هؤلاء يعجب بحسن تلقي عبدان وغوصه على الدقائق وبراعته في المناقشة، فكان كثيراً ما يشفق على غيره من الطلاب أن يستأثر عبدان بانتباهه دونهم، ثم أخذوا يضيقون بمناقشاته حين بدأ يميل على النقاش النظري في المسائل إلى السؤال على مدى تطبيقها في أحوال الناس ومعاملاتهم فكان يقول لهم مثلاً: (ألا ترون أن الأغنياء لو أدوا حق الزكاة في أموالهم لما بقي في أرجاء الدولة من يجوع أو يعرى؟).
فيقولون له: (بلى) فيقول لهم: (ففيم يعرى الفقراء ويجوعون؟ لم ترك هذا الركن معطلاً؟) فيقولون له: (ماذا نصنع" قد فسد الزمان. إن علينا تبيان الأحكام وعلى غيرنا تنفيذها فإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) فيقول لهم: (فلم لا يقوم أولو الأمر بتنفيذه وعقاب من يخالفه؟) فيقولون له: (هذا سؤال يوجه إليهم لا إلينا، نسأل الله أن يخمد نيران الفتن في أطراف الدولة حتى يتفرغ رجالها للنظر في إصلاح أحوال الناس) فإذا قال لهم: (أليس عليكم أن تنكروا هذا الفساد وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر؟) قالوا له: حسبك يا عبدان دعنا نمض فيما نحن فيه من درسنا هذا).
وذات يوم استبقاه أحد الشيوخ ليكلمه وحده بعد انصراف الناس من درسه، وكان قد بعل بمناقشات عبدان تلك، فلما اختلى به قال له: ويلك يا بني أتريدنا أن نفعل ما تقول فيحبسنا السلطان وإن لنا لأولاداً فمن يعولهم إذا حبسنا الخليفة؟.
فقال عبدان: (لكن علام يحبسكم)؟
- كما حبس صاحبنا أبا البقاء البغدادي. ألم تسمع بأمره؟
وكان عبدان قد سمع شيئاً عن هذا العالم واشتاق إلى معرفة خبره ولكنه وجد الناس يجتنبون الكلام عنه خيفة السلطان، فأحب أن يسمع قصته من الشيخ فقال له: (لا والله ما أعرف قصته).
- متى قدمت إلى بغداد؟
- منذ عام.
- إذن فما شهدت أيامه. غنه حبس قبل مجيئك.
- فيم حبسوه؟
- كان يجمع الفقراء ويسير بهم للمطالبة بحقهم من الأغنياء ويجمع العمال والصناع والأكارين ويحرضهم على المطالبة برفع أجورهم وزيادة نصيبهم من ريع الأرض أو ريع العمل.
- وماذا يغضب السلطان من مثل هذا؟
- إن الموفق أخا الخليفة رجل قوي، وقد وجد الدولة مضطربة فوضى فأراد أن يرجع إلهيا قوتها واستقرارها فعني بكسر شوكة الأجناد الترك وبالقضاء على فتنة يعقوب الصفار في سجستان وفتنة صاحب الزنج في البصرة، فأغضبه أن يثير أبو البقاء شغباً في العاصمة يشغل الدولة عن التفرغ لمهامها ولذلك حبسه الموفق وفرق جموعه.
- فسكت عبدان قليلاً ثم قال: (قد كان على الموفق أن ينصف هؤلاء من ظالميهم، إذن لبطل الشغب ولكانوا قوة معه). فحرك الشيخ رأسه متعجباً من ذكاء عبدان وقال له: (كانوا يطالبون السلطان أيضاً بتخفيف الضرائب والرسوم وإسقاط بعضها جملة. ولا يستطيع الموفق أن يوافق على هذا وهو محتاج إلى الأموال للقضاء بها على الفتن. ثم لا تنس أن الأغنياء ذوو نفوذ ولا بد له من مصانعتهم). فتمثل له وجه حمدان حينئذ وتذكر ما كان يقوله دائماً عن سلطان المال ووجوب محاربته إذا أريد إصلاح الأحوال وذلك لعظم سيطرته حتى على السلطان نفسه. والله لقد صدق حمدان فيما كان يقول.
وقد كف عبدان منذ ذلك اليوم عن مناقشاته المحرجة للشيوخ، ثم انقطع عن حضور حلقاتهم إلا قليلاً، فقد رأى قلة غنائها، واشتاقت نفسه إلى غزو ميادين أخرى للنشاط العلمي ببغداد. وكان يسمع أن للعلماء والأدباء وعشاق الحكمة مجالس خاصة يتسامرون فيها، ويتقابسون نفائس العلم وطرائف الحكمة، وقد يتذاكرون أخبار الخاصة والعامة، ويخوضون في شئون الدولة وسياسة الخليفة وأعمال الوزراء والقواد، وفي الفتن القائمة وما يبلغهم عنها من جديد الأخبار، فسعى عبدان طويلاً يلتمس السبيل إليها فعزت عليه حتى اتصل به رجل من الأهواز تدل ملامح وجهه على أنه فارسي الأصل وتنم هيئته وثيابه عن السراوة وحسن الحال. وكان عبدان يراه أحياناً يشهد بعض حلقات الدرس، وبيده سبحة يحرك حباتها وهو مطرق قلما يرفع عنها رأسه. وربما التفت إليه عبدان، فرآه ينظر إليه فإذا التقى بصراهما ظهر في عينيه كأنه يريد أن يقول له شيئاً، ثم لا يلبث أن يخفض بصره.
وإنه لجالس في غرفته بالخان ذات يوم إذ حضر الرجل إليه فسلم عليه باسمه، وعرفه بنفسه قائلاً: (أنا جعفر بن أحمد الكرماني، جئت أزورك لأنك أهوازي مثلي).
فرحب به عبدان وأوسع له. ولما استقر بهما المجلس سأله الرجل: (من أي حي في الأهواز أنت؟) فتردد عبدان قليلاً، فاستدرك الرجل قائلاً: (استغفر الله.. أردت أن أسألك: متى عهدك بالأهواز؟) فأجابه عبدان متلعثماً: (إني ما رأيت الأهواز قط، وإنما هذا لقب أسرتنا)، فاظهر الرجل الاقتناع بجواب عبدان. وقال له: (لا ضير فأحد آبائك إذن كان من الأهواز. لقد سمعت بعض مناقشاتك في حلقات الدرس فأعجبت بذكائك، ثم علمت أنك أهوازي فتملكني الزهو بك، فرغبت منذ ذلك اليوم أن تكون بيننا صلة ومعرفة). فخجل عبدان من ثناء الرجل عليه وشكره على حسن ظنه به. قال الرجل (إنك لأهل للثناء، وإني لأرجو أن يكون لك في العلم النافع شأن. بيد أني افتقدتك في حلقات الدرس منذ حين، فما الذي قطعك؟).
فشرح له عبدان خبره ورغبته في حضور المجالس الخاصة وامتناعها عليه، فإذا الرجل يقول له: (إني سأوصلك إليها فلن يمتنع عليك منها مجلس). ودعاه الرجل لزيارته في بتيه فلم يتردد عبدان في قبول دعوته.
وما خطر لعبدان حين وعد الرجل بالزيارة، ولا حين وافاه الرجل عشية ذلك اليوم عقب صلاة المغرب ليستصحبه إلى بيته أنه سيجد هناك مجلساً من تلك المجالس الخاصة التي يشتاق إليها قلبه فسر لذلك كثيراً وعده من بسمات الحظ السعيد.
3


توثقت من خلال ذلك صلة عبدان بالكرماني وزاد تعلقه به فصار يكثر التردد عليه في منزله ويتغدى أو يتعشى على مائدته، وإنه لعند الكرماني ذات صباح وكان يوماً من أيام الربيع وقد رق النسيم وفاح عرف الزهر والرياحين من حديقة المنزل إذ قال له صاحبه: هلم بنا يا عبدان ننزل الحديقة فإن الجلوس بها لأمتع.
وصارا إلى الحديقة فجلسا على مقعد مفروش ببساط من المخمل، في ظل أيكة ملتفة الغصون على هيئة الأريكة يتدلى منها الزهر، وأمامها بركة لطيفة مملوءة بالماء تحيط بها أشجار الحديقة من كل جانب. وبينا عبدان يسرح طرفه فيما حوله ويعجب لجمال الحديقة وتنسيقها، وصاحبه ينظر إليه كالمسرور بإعجاب عبدان بحديقته، إذ سمعت حركة من خلف الأيكة برزت لهما على أثرهما فتاة باهرة الحسن رشيقة الحركة، فلما لمحتهما أجفلت فارتدت إلى الوراء، فخفق قلب عبدان وتحرك في مقعده وقد بان الخجل في وجهه، فإذا الكرماني يقوم من مقعده وينادي الفتاة (هلمي يا شهر.. ليس عندي أحد غريب.. إنما هذا ابن عمك الأهوازي عبدان) واختفى لحظة ثم أقبل بالفتاة تتهادى في مشيتها وقد تورد خداها وهي تقول بصوت رقيق: (ما كنت أعلم أن أحداً هنا في الحديقة) فقال لها الكرماني: (إنما هذا عبدان الأهوازي  وهو منا ولا يستحى منه) ثم التفت إلى عبدان –وكان واقفاً قد غلبه الحياء فأرخى بصره إلى الأرض – وقال له (هذه أختي شهر يا عبدان جئت بها لتسلم عليك). فرفع عبدان بصره ومد إلهيا يده المرتعشة فصافحها. وقال الرجل لأخته: (أجلسي معنا قليلاً يا شهر) فجلس الثلاثة وبقي عبدان صامتاً متطرقاً لا يدري ماذا يفعل أو يقول.
قال الكرماني وهو يضحك: (انظر يا عبدان إلى وجه شهر لترى جمال الأهوازيات لعلك أن تشتاق إلى بلدك فتتزوج إحداهن هناك).
فما سمع عبدان ذلك حتى غلبه الضحك، وحاول جاهداً أن يمنعه فلم يقدر، وما كف الضحك عنه إلا حين سمع الكرماني يقول: (انظر.. أليست جميلة رائعة؟).
فنظر عبدان إلى الفتاة فرآها تبتسم وعيناها متطلعتان كأنما تنتظران جوابه فقال: (بلى والله إنها لكما وصفت وأكثر).
فاستضحكت الفتاة وقالت له وهي تكسر من جفنيها: (لو آثرت الحق لقلت إنك لن تتزوج أهوازية أبداً بعد ما رأيتني!)
قال عبدان وقد انبسطت أساريره وحلت عقده لسانه: (صدقت!).
وإذا بسحابه من العبوس بدت في وجهها ثم اختفت في مثل لمح البصر فقالت وهي تبتسم:
- لأني عنوان سيئ لنساء بلادي!
- كلا.. ما هذا قصدت.
- فماذا قصدت؟
- لم يبق لي فيهن من إرب.
- من أين تعلمت هذا كله يا نزيل الخان؟
- من عيـ....!
ولم يكمل عبدان كلمته إذ تذكر أنه في مشهد أخيها فخجل وتلعثم..
ولكن الكرماني ابتسم يشجعه وقال: (ويلك إن الكلمة التي ما أكملت نطقها هي أجمل شيء في هذه الحورية الأهوازية!!).
فتشجع عبدان وقال: (فلقد صنتها عن الابتذال في لساني!).
قالت شهر: هلا قلت صنتهما فهما اثنتان!
فقال عبدان: (لكن واحدة منهما تكفي لفتنة ألف نزيل خان!).
فضمت فمها الأرجواني الصغير بقوة لئلا يبض بالابتسام، فجعل الابتسام يتفيض من عينيها وأسارير وجهها ثم ما لبث أن طغى على فمها فتدفق ثم سأل!
والتفتت إلى الكرماني تقول: إن صاحبك الطالب يا.. يا أخي ليجيد الغزل!
ورجع عبدان إلى خانه وهو متبول القلب وظل باقي يومه وشطراً من ليلته لا يفكر إلا في شهر ولا يغيب عنه خيالها، وكان عبدان قد زهد في النساء منذ فقد ابنة عمه عالية، ووجد في انصرافه لطلب العلم وانهماكه في الدرس ما أنساه ما بقي من ذكراها الأليمة في قلبه وما شغله عن التطلع إلى غيرها بعد ذلك.
ولم يخطر بباله قط أنه سيغرم يوماً بإحداهن، وأنى يخطر له ذلك وشتان بين سبيل العلم وسبيل الغرام؟ ولكن هذه الحورية الأهوازية قد قعدت له في وجه الطريق الذي يسلكه، وجاء أخوها الذي ما جمعه به إلا هذا الطريق فجلاها عليه، وأتاح له أن يحادثها وتحادثه، فأين المهرب من قدر كان مقدوراً عليه؟
ها هي ذي تتخطر في قلبه فارعة القوام، ممشوقة القد، مشرئبة الصدر، ناضجة تكاد تقول لرائيها: كلني! لقد عرف حب عالية من قبل. وإنها لمن أجمل من رآهن من النساء، ولكنه ما كان يجد فيها هذا الشيء الذي يتلهب في وجنات هذه الأهوازية ويتوقد في عينيها ويتسعر في كل جارحة فيها فيتضرم لها ما بين جوانحه ناراً.
وكثر تردده على بيت الكرماني أو بالحري بيت شهر، فقد صار يؤم بيتها لا بيته –فكانت تلقاه كلما جاء، وتجلس إليه مع أخيها وإذا حضر وقت الطعام شهدته معهما على المائدة.
ثم صار الكرماني بعد ذلك لا يرى باساً أن يخرج لبعض حاجته فيتركهما في البيت وحدهما.
وفي غمرة هذا الشاغل الجديد لم يجد عبدان وقتاً للتفكير في أمر الكرماني وتساهله معه في لقاء أخته والاختلاء بها، فاكتفى بأن حمل ذلك محمل الثقة من الكرماني بدينه وتقواه والرغبة في تزويجها له إذا طلب منه ذلك، وما يدريه لعل تلك عادة الأهوازيين قبل الزواج. وبعد فهذه متعة قد ذاقها ولم يعد يستطيع الصبر عنها. فعلام يحاسب من ساقها إليه؟
بيد أنه خشي عل نفسه يوماً أن تخون الأمانة. وأن النفس لأمارة بالسوء، وأن السبيل إليه لمهيأ. وأن الإغراء به لشديد. وقد امتدت يده إلى بعض ما لا يرضاه من نفسه ووجد من الفتاة مقاومة ولكنها مقاومة تغري بالهجوم!! فأيقن عبدان انه هالك لا محالة إن لم يتدارك أمره، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يتزوجها، وقد أحبه الرجل ووثق به فلم لا يطلب يدها منه؟ وليس بضاره أن يكون أبوها غنياً وهو فقير، فلولا أن أباها يرغب في مصاهرته على علاته لما خلى بينه وبينها على ذلك الوجه الغريب.
وتشجع يوماً فقال له: في نفسي حاجة أريد منك قضاءها ويمنعني من الإفضاء بها حيائي منك.
فقال الكرماني: (قلها يا عبدان فوالله إن تكن في وسعي لأقضينها لك).
قال عبدان: (فما يقدر عليها غيرك).
- فأخبرني ما حاجتك؟.
- أختك شهر.
- فهي بين يديك.
- أريد أن أتزوجها.
- لم تريد أن تتزوجها؟
فتردد عبدان قليلاً ثم قال: (لأني أحببتها!).
فقال الرجل: (فهل منعتها عنك يا عبدان؟).
فدهش عبدان لقوله ولم يفهم مراده فأطرق واجماً.
وعاد الرجل يقول: (أليست بين يديك تراها كل يوم وتراك؟).
فسري عن عبدان قليلاً وقال: (ولكن ذلك لا يكفيني).
فبدره الرجل قائلاً: (إن كان ذلك لا يكفيك فخذ منها ما يكفيك!).
فما سمع عبدان هذا منه حتى احمر وجهه خجلاً وعراه الدهش فظل هنيهة صامتهاً لا يدري ما يقول، ثم عاد إليه صوابه فقال: (إن ما يكفيني منها لا سبيل إليه إلا بالزواج).
فضحك الرجل وقال: (ما يدعوك إلى الزواج وهي ميسرة لك بدونه؟).
فتغير وجه عبدان وقال له: (كأنك يا سيدي تسخر بي وتهزأ بطلبي!!).
فقال الرجل بلهجة جادة: (كلا والله ما أسخر بك، وإني لأعني ما أقول).
- فكيف تقول هذا الذي لا يعقل؟
- لقد عقلته ولا أقول إلا ما أعقل.
- والله ما فهمت مقصدك.
- ولكني فهمت مقصدك يا عبدان، إنك لا تريد شهراً وإنما تريد أن تستأثر بها دوني!
- ماذا تقول؟
- ليس لي غيرها فمن ذا يقوم بشئوني إذا أنت أخذتها مني؟
فقال عبدان وقد انبسطت أساريره: (فسأبقيها عندك إذا شئت، وأنت تعلم أن هذا سيكون أحب إلي لما يخفى عليك من رقة حالي).
فقال له الرجل: (ما يضمن لي ألا يبدو لك يوماً فتقاضيني بما في يدك من وثيقة الزواج فيحكم لك بما تريد؟).
قال عبدان: (أفهذا هو الذي يمنعك من تزويجي؟).
فقال له الرجل: (إن أردت الحق فليس هذا فحسب هو الذي يمنعني!).
- لقد فهمت ما تريد. إنك تعني فقري.
- كلا، ما هو بذاك ولكن ظننتك حراً تنشد إصلاح أحوال الناس وتبغي سعادتهم، ولا تخضع إلا لحكم العقل، فإذا أنت كسائر الناس ترسف في أغلال العقائد الموروثة وقيودها.
- نسي عبدان عند ذاك مسألة الفتاة واستحوذ عليه حبه للجدل العلمي فقال:
- ولكن لا غنى عن بعض هذه القيود التي فرضها الدين لصلاح البشر واستقامة أمورهم.
- متى صلحت أحوال الناس بالدين يا عبدان؟ لقد وجد الدين من قديم وما برح الفقير يموت من الجوع، والغني يموت من البطنة، والقوي يسطو على الضعيف، والسلطان يجور على الرعية، والرعية تخضع لهذا الجور.
- ولكن الدين لا يرضى بهذا.
- فأين الدين؟ أليس في صدور حملته من العلماء؟
- بلى..
- فهل كانوا إلا أعواناً للظلام، يتأولون نصوص الدين بما يرضى السلطان لكي لا ينالهم أذاه، وبما يرضي ذوي الجاه والمال لينالوا نصيباً من جاههم ومالهم، ويوصون الفقراء ومهضومي الحقوق بالصبر على ما يلقون والقناعة بما يجدون والرضا بقضاء الله وقدره لئلا يثوروا على ظالمهيم، فيأمن هؤلاء جانبهم ويعيشون مطمئنين وادعين؟
- ليسوا جميعاً كما وصفت، فذاك أبو البقاء البغدادي مثلاً قد قام بما أوجبه الدين عليه، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وجمع المظلومين من الفقراء والفلاحين والعمال والصناع ليطالبوا بحقوقهم ويرفع الظلم عنهم.
- لا يخدعنك هذا وأمثاله، فإن أبا البقاء لأخطر على العدل الشامل الذي ينشده الأحرار للناس جميعاً وأعون على بقاء الظلم والفساد من غيره من العلماء المتقاعدين. فقد رأى النفوس المظلومة تغلي بالحقد على ظالميها، وتتحفز للوثوب بهم في قومة واحدة لا تبقي منهم ولا تذر، فجاء يقودها إلى المطالبة ببعض حقوقها في لين وهوادة لكي يكسر من شرتها ويخفف من غليائها فلا تنفجر. وها هو ذا قد قام بما قام فلم يصنع شيئاً.
- إن لم يصنع شيئاً فلأن السلطان حبسه فحال بينه وبين ما أراد.
- والله لهذا خير عمل قام به السلطان، فلو قد أفلحت حركة أبي البقاء لقضى على الثورة التي تضطرم في نفوس المظلومين فضاع كل أمل لنا في تحقيق العدل الشامل؟
- ماذا تعني بالعدل الشامل؟
- أن تكون الأرض كلها لله يشترك فيها الناس جميعاً لا يحتجنها أحد دون أحد، فلا يكون بينهم غني ولا فقير، إذ يصيب كل امرئ حاجته وحاجة عياله بالمعروف دون إسراف ولا تقتير.
- إن في الناس القاعد والمجتهد وليس من العدل أن يتساويا فيأكل القاعد من كد المجتهد وعمله.
- كلا بل سيكون الناس جميعاً عاملين مجتهدين، كل يعمل على قدر طاقته ويأخذ حسب حاجته، ولن يبقى فيهم قاعد عن عمل يقدر عليه إذ لا يؤذن لمثله بأن يعيش.
- والمال؟
- حكمه حكم الأرض، لا يأخذ منه أحد إلا قدر حاجته.
- هذا حسن ولكن كيف السبيل إليه؟
- لا سبيل إلا هدم الدولة القائمة على الظلم وتأسيس دولة جديدة على أساس العدل الشامل.
- فمن يتولى أمر الدولة الجديدة؟
- يتولاها الرجال الذين يؤمنون بهذا الأساس.
- فكيف تضمن ألا ينحرف هؤلاء الرجال عنه إذا صار في أيديهم النفوذ والسلطان فيستمرئوا ظلم الرعية كما استمرأه سلفهم من قبلهم؟
- سوف تسن قوانين صارمة لعقاب من ينحرف عن النهج. ولتعلم يا عبدان أن الطغيان مصدره النفوذ، وأن النفوذ مصدره امتلاك الأرض والمال، وحيث لا امتلاك لهذين فلا نفوذ ولا طغيان. ثم إن وجد الطغيان بعد هذا فلا بقاء له إلا ريثما ينزع النفوذ من يد من طغى ويسند إلى من هو أصلح منه من السائرين على المنهج المتمسكين بالعدل، ولن يستطيع الطاغي أن يقول حينذاك: هذا حقي أو إرث ورثته عن أبي.
- إن حجتك لقوية وإن منطقك لسديد، بيد أنه لو كان هذا المنهج مما يستقيم عليه أمر الناس ويصلح به حالهم لجاء الدين به.
- أما تزال تحتج علي الدين؟ فلم لا تقول: لو كان الدين صحيحاً لجاء بهذا الذي قد أقررت أنت بحسنه؟؟.
- إن الدين لا يجيء بشيء لا يمكن تحقيقه مهما يكن حسناً.
- فقد جاء دينك بأشياء ما أمكن تحقيقها كذلك. خذ مثلاً لذلك أنه فرض الزكاة على الأغنياء فهل أدوها؟ وأوجب العدل الجزئي على ولاة الناس ورعاتهم فهل قاموا به؟
- ليس هذا ذنب الدين وإنما هو ذنب الذين قصروا في تنفيذ أحكامه.
- فكذلك هذا المنهج لا يعيبه ألا يسير الناس عليه ما دام العقل قد حكم بحسنه وصلاحه.
- فسكت عبدان قليلاً ثم قال: (مالي ولهذا الجدل؟ إنما جئتك في أمر شهر لتزوجني بها، فما تقول في طلبي؟).
- فقال الرجل: (عد إلى رحلك الآن ففكر فيما حاورتك به، فإذا رأيت عقلك قد عتق من رق التقليد والوهم فاستطعت أن تدرك صواب ما بينت لك فجئني حينئذ لتكلمني في شهر).
4


لبث عبدان أياماً وليالي لا ينقطع عن التفكير في أمر هذا الأهوازي العجيب الذي يتكشف له كل يوم من سره ما هو أعجب وأعجب. إنه ليعرف له الفضل فيما سلف من إحسانه إليه وعطفه عليه، وأنه ليحبه حباً صادقاً منذ استولى عليه حب أخته شهر، ولكنه أصبح يشعر نحوه الآن بشيء من الكراهية، لأنه عمد إلى ما يدين به من المثل العليا فهدمها، وإلى ما يحلم من رؤى جميلة وأطياف محببة فأطارها، وجاءه بآراء جديدة كان بدنه يقشعر لمحض سماعها، ففرضها عليه بقوة حجته وحسن بيانه وأحلها محل الإيمان من قلبه، نعم قد كان الشك يدب إلى عقيدته إذا حضر مجلساً من المجالس الخاصة ودار به النقاش في الألهيات وأمور الغيب أو في خلق العالم ومباحث الروح والمادة، أو في حقيقة الوحي وعصمة الأنبياء والموازنة بينهم وبين الفلاسفة أو ما أشبه ذلك، ولكن الشك لا يلبث أن يزول عنها، فمثل كمثل الريح تهب على سطح الماء دون أن تبلغ إلى قراره، فتثير أواذيه وتتلاعب بأثباجه حيناً، ثم لا تلبث أن تركد فإذا هو والبساط سواء.
أما هذا الذي جاء به الكرماني فقد عصف بعقيدته من الأعماق فقلب عاليها سافلها، فكأنه إعصار قلب سفينته قلباً وحطمها تحطيماً، ثم أسلمه إلى دوامة شديدة تدور به وبحطام سفينته علواً وسفلاً في حركة دائبة لا تنقطع، وبعض الحطام يصدم رأسه أو ظهره أو بطنه، فلا يجد وقتاً للتوجع والتألم من فرط إلحاح الدوامة عليه، ولا مهرب له منها إلا أن يتعلق بحبل قد مد له من سفينة أخرى في معزل عن الدوامة يصل إلى سمعه من ظهرها صوت صاحبه الكرماني يناديه: (الحبل! الحبل!).
وما أشبه هذا الذي عصف بعقيدته من إعصار الشك إذ فتنه كلام الكرماني بذاك الذي عصف بقلبه من إعصار الحب حين فتنة جمال أخته! وما يدريه لعل الإعصارين كانا متظاهرين عليه أو لعلهما كانا إعصارا واحداً هب من جهتين.
وجعل خيال شهر الجميلة يتشفع لأخيها عنده، ويعاتبه على ما تحول من وده عنه وتغير من قلبه عليه، لغير ذنب جناه أخوها إلا انه أراد أن يهديه من ظلمة الجهل إلى نور العقل وأن يهدي إليه الحورية التي يتمناها قلبه ويذوب إليها شوقاً. وما زال به خيالها الحبيب حتى لان واستعتب ثم خضع واستسلم.
وغدا إلى الكرماني بعد ما انقطع عنه بضعة أيام. فرحب به وبالغ في تكرمته ثم سأله متلطفاً: (ليت شعري ماذا فعل الله بك يا عبدان؟ لعلك اهتديت إلى سبيل الرشد وآمنت بالعدل الشامل).
فقال عبدان: (نعم قد شرح الله صدري لهذا المذهب الحق، فوالله لأكونن من دعاته المخلصين حتى يزول الظلم ويتحقق العدل الشامل).
فقام إليه الرجل فاحتضنه وقبل بين عينيه وقال له: (بأبي أنت وأمي لقد علمت أنك ستستجيب لدعوة الحق يوماً بما رزقت من رجاحة العقل وقوة التمييز وسلامة الإدراك).
فتأثر عبدان تأثراً شديداً وقال له: (إنما كان ذلك بفضل إرشادك وهدايتك). ولو أنه قال: (بفضل جمال أختك) لكان أدنى إلى قول الصواب.
ولعل هذا المعنى اختلج في خاطره إذ دخلت عليهما شهر حينئذ لتقدم لهما قدحين من شراب اللوز فلما رأته حيته وقالت له: (تغيب عنا أياماً يا عبدان أفتراك نسيتنا؟)..
فقال عبدان والقدح يضطرب في يده: (لا والله ما نسيتكم وكيف أنساكم؟).
قال الكرماني: (إنما غاب ليؤامر نفسه. وقد جاء اليوم مهتدياً).
فلم تقل شهر شيئاً وإنما نظرت إليه نظرة تنطق بالفرح والتيه ويرنق فيها ظل من السخرية الناعمة كأنها تقول: (ويحكما.. إنما آمن هذا بالمذهب من أجلي!).
وتناولت القدحين الفارغين وانصرفت بهما.
قال عبدان عقب انصرافها: (فهل لي أن أكلمك الآن في أمر شهر؟).
فقال الكرماني: (حباً وكرامة).
- ألا تزوجني بها؟
- علام هذا العناء؟ لقد صارت اليوم حلالاً لك فافعل بها ما تشاء!.
- ولكن هذا يخالف.
- الدين؟ أما برحت تؤمن بالدين؟ أتريد أن تعود إلى حالك القديم؟
- لا بل أردت أن أقول إنه يخالف العدل الذي ندين به.
- كيف؟
- سيكون ذلك عدواناً مني على ما ليس لي بحق.
- إنما ذلك حق شهر وحقي، فمتى سمحنا لك به فهو حقك. أما أنا فقد علمت رضاي وأما هي فتلتمس رضاها ولن يعجزك!
- ولكن أجد من ذلك في نفسي شيئاً بعد.
- ويحك يا عبدان، أليس قد جلست إلهيا كثيراً وحادثتها؟
- بلى.
- فهل كان ذلك يتاح لك لولا رضاها ورضاي؟ خبرني يا عبدان أما قبلتها قط؟
- فاحمر وجه عبدان خجلاً ولم يجب. وأصابه كرب عظيم.
فعاد الكرماني يقول: (قل الحق يا عبدان ولا تخف. أما قبلتها قط؟).
فقال عبدان بصوت مرتجف: (بلى وأعتذر إليك. فوالله ما كان ذلك عن قصد مني وإنما غلبتني نفسي فزللت. فبالله عليك ألا ما عفوت عني وأغضيت).
- دع عنك هذا فلست من يؤنبك على مثل ما فعلت، وإلا لما خليت بينها وبينك. وحسبي أنك اعترفت بالقبلة واعتبرتها زلة منك لجهلك برضاي. فما يمنعك منها الآن وقد أذنت لك؟
- لكني لا أريد التقبيل فحسب؟
- التقبيل وما وراء التقبيل سواء قد سمحت لك بكل شيء فكل ما عليك ألا تكرهها على ما لا تريد.
- ولكن..
- ويلك يا عبدان، لقد فهمت مرادي. فحرام عليك أن تحوجني إلى التصريح بما لا يجمل بكرام الناس ذكره.
*   *   *
كان هذا في وقت الضحى، فما غابت شمس ذلك اليوم حتى ذاق عبدان الثمرة التي حرمها الله وأحلها قوم كانوا يبغون أن ينشروا العدل الشامل بين البشر! وماذا على عبدان ان يجده تذوب في فمه ليناً دون أن تحوجه إلى خضم وقضم؟ وقد كان اليسر بركة عليه في بداية الأمر ونهايته، ففيم يتوخى العسر أو يحزن عليه؟ وإنه لسعيد بالحاضر الموجود، فعلام يسأل عن الماضي المفقود؟ وما يفصل بين هذين إلا ليلة فما أهونها من فرق!
بيد أنه ذكر المستقبل فانتفض قلبه رعباً. ماذا يكون الحال لو طرق باب الجنة طارق جديد؟ أيكون رضا الحورية وحارسها كافياً لفتح أبوابها الثمانية له يدخل من أيها شاء؟ ولكنه عاد فقال لنفسه: (إن من العبث أن يشغلن خوف الغد عن نعيم اليوم) ثم عن له خاطر ما أعمل فكره فيه حتى استراح إليه-. لقد أصبح رضاه شرطاً ثالثاً لدخول الطارق الجديد وأنه لن يرضى أبداً. فما خوفه من أمر يملك هو ألا يقع؟.
ثم هيئت لعبدان غرفة في دار الكرماني لينزلها، فودع الخان ونزلاء الخان وأقام مع الكرماني يأكل مما يأكل ويلبس مما يلبس، فتبدل حاله وبدت عليه سمات النعمة واليسار حتى أنه ليصعب على من يراه أن يعرف أنه عبدان الأهوازي نزيل خان الغرباء. وقد وثق به الكرماني فأفضى إليه بسر حركته، فإذا هي حركة واسعة المجال دقيقة النظام، يرأسها في ذلك العصر أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح ومركزها (سلمية) بالشام بعد أن كان (الأهواز) ولها شعب منتشرة في أمهات المدن وسائر أصقاع الدولة. وما الكرماني في بغداد إلا أحد دعاتها،. وقد اختير ليدير شعبة العاصمة لسعة حيلته وعظم مقدرته وغزارة علمه فضلاً عن إخلاصه للحركة ونشاطه في خدمتها. وعلم عبدان أن أموالاً ترسل إليه من سلمية لينفقها في سبيل الدعوة، وأنه يتسلمها من تاجر يهودي كبير في العاصمة، وأنه قد اجتذب إلى مذهبه خلائق كثيرين من طبقات مختلفة ومشارب متعددة، وعقد أواصر الصداقة مع رجال كثيرين من الرؤساء والعلماء والفقهاء والأدباء، يجاري كلاً منهم في مشربه وعقيدته ولا يعرفون من حقيقته شيئاً، وهو يستعين بهم في تحقيق أغراضه من حيث لا يعلمون. وما جماعة إخوان الصفاء الذين يجمعهم في داره مرة في كل أسبوع إلا بعض هؤلاء. وقد آثرهم بالعناية فتعهدهم بالطاقة ووصل ذوي الحاجة منهم ببره لأنهم من دعاة التفكير الحر، فحسبه من عملهم أنهم يشككون الناس في عقائدهم الموروثة، فيمهدون بذلك سبيل النجاح للقداحيين إذ ثاروا على النظام القائم ليعصفوا به ويقيموا مكانه نظامهم الجديد.
وهكذا أفضى الكرماني بتلك أسراره إلى عبدان ما خلا سراً واحداً لم يره أهلاً لاحتماله بعد، فطواه عنه إلى حين.
وانقضت شهور تذوق عبدان فيها أفانين السعادة في ظل حبيبته الجميلة، وتجدد له بدخوله المذهب حلم كبير يسعى في تحقيقه بكل ما أوتي من قوة، فكان له في ذلك حافز يدفعه إلى الحركة والنشاط، ويعصم همته من شر الركود والإخلاد إلى النعيم.
وقويت به حركة الكرماني في بغداد وتعاظم خطرها. وصار لها أنصار متحمسون في مختلف الهيئات والطبقات، ولم يقتصر نشاطها على الرجال، بل امتد إلى النساء أيضاً. فكانت شهر تزور بيوتهن، وتتخير منهن العوانس والمطلقات والنواشز من أزواجهن المعلقات، فتدعوهن إلى بيتها حيث يجتمعن فيتشاكين ما يلقين من ظلم الأزواج والآباء لهن، واستبدادهم بهن، فتفضي إليهن شهر عند ذلك بأن عهد الظلم والاستبداد قد أوشك أن يزول، وأن عليهن أن ينضوين إلى لواء المهدي المنتظر الذي سينقذ النساء من ظلم الرجال وينقذ الرجال من ظلم بعضهم بعضاً فيسألنها: متى يظهر هذا المهدي؟ فتقول لهن: إن وقت ظهوره قد حان أو كاد.
ثم تصطفي من هؤلاء من تثق بهن، فتشككهن في دينهن وتدعوهن إلى الانطلاق من قيوده الثقيلة عليهن والاستماع بمباهج العيش ولذات الشباب. وتقول لهن إن الرجال هم الذين وضعوا تلك الحدود والأحكام ليخضعوا بها النساء لسلطانهم فيتقيدون بها وهم لا يتقيدون ويخشين الله وعذاب الآخرة وهم لا يخشون.
ثم صارت تجمعهن ببعض الرجال والفتيان من أنصار الدعوة، فيبالغ هؤلاء أمامهن في استنكارهم ظلم النساء، ويقسمون لهن الإيمان لا يقر لهم قرار حتى يرد إليهن ما استلب الرجال من حقوقهن وحتى يصبح الرجل والمرأة سواء في كل شيء.
وتسامع الفتيان والفتيات بنبأ هذا المنتدى الشائق العجيب فأخذوا يهرعون إليه. وسرعان ما نشأت له فروع في مختلف أحياء العاصمة كان الكرماني يتعهدها جميعاً بالإنفاق ويتخللها عبدان وشهر بالزيارة والتوجيه.
5


ولكن أنباء الحركة ما لبثت أن وصلت إلى سمع الخليفة المعتمد فهاله أمرها واستشار وزراء دولته فأشاروا جميعاً بألا بد من تطيير الخبر إلى أخيه الموفق وانتظار ما يشير به في هذا الصدد.
وكان الموفق غائباً عن العاصمة منذ شهور. إذ كان يتنقل في البلاد يتفقد حصونها، ويستطلع أخبار يعقوب بن الصفار والحملات التي وجهها إليه لإخضاعه، ويهتم في نفس الوقت بإرسال القواد والجنود جنوباً ليناوشوا صاحب الزنج ويعوقوا من تقدمه وتقدم رجاله إلى الشمال صوب العاصمة ريثما يتفرغ لحربه بعد القضاء على فتنة يعقوب. وكان أخوف ما يخاف الموفق أن يتصل صاحب الزنج بيعقوب فيكونا إلبا عليه، ومن أجل ذلك جعل وكده أن يضرب سداً بين الشمال والجنوب أقام على طوله المسالح والجنود تعهدها بنفسه ليحول دون اتصال الفتنتين.
وكان الموفق نازلاً في (عسكر كرم) حين بلغه أن يعقوب قد مات فخلفه عمرو أخوه وكان عمرو بن الصفار يميل إلى مسالمة الخليفة، فأرسل إلى الموفق يفاوضه في ذلك على شروط بينها له، فتردد الموفق في قبولها ورأى الفرصة سانحة للقضاء على الصفارين واستئصال شأفتهم حتى يتوجه بحملته بعد ذلك لمحاربة صاحب الزنج، لولا أن الأنباء وردت إليه بأن الزنج قد تقدموا من واسط وهدفهم بغداد، وجاءه أيضاً بريد بغداد يحمل إليه كتاب الخليفة الخاص بحركة الكرماني، فلم يجد الموفق بدا من قبول شروط عمرو بن الصفار فعقد الصلح معه ومضى يغذ السير قافلاً إلى بغداد.
وكان أهل بغداد قد روعتهم أخبار الزنج وما يرتكبونه في الناس من الفظائع، إذ يقتلون الشيوخ والأطفال، ويعتدون على أعراض النساء، ويبقرون بطون الحوامل، وينهبون المتاجر والأموال، ويأتون على الأخضر واليابس، وصاروا يترقبون أنباء تقدمهم بخوف وقلق. وبلغ بهم الهلع مبلغه إذ انتشرت بينهم إشاعة بأن طلائع الزنج قد وصلت إلى جرجرايا وما هي إلا أيام حتى يغيروا على العاصمة. فعرض كثير من الناس أملاكهم للبيع بأبخس الأثمان ليغادروا بغداد فرارً بأنفسهم وأولادهم، فما رضي بشرائها إلا نفر من تجار اليهود.
أما الكرماني فقد انتهز فرصة اضطراب الناس وجزعهم، فضاعف نشاطه ودفع أنصاره إلى الاجتهاد في حركته، وأفهمهم أن الله قد آذن بظهور الحق على أيديهم، فسلط على الناس صاحب الزنج وأصحابه، عقاباً لهم على ما سكتوا على الظلم، ورحمة بهم لأن صاحب الزنج سيقوم لهم بهدم هذا النظام القائم على الجور والطغيان، حتى إذا فرغ من ذلك أهلكه الله بظلمه وأتاح لأنصار الدعوة أن يبنوا نظامهم الجديد القائم على العدل الشامل.
وأسند إلى عبدان أمر الاتصال بسواد العامة من الفقراء والعمال والصناع وأرباب الحرف. فمضى عبدان يبث فيهم هذه الفكرة بنفسه وعن طريق دعاته، ويؤكد لهم أن عهد شقائهم وفقرهم قد آذن بالزوال، وأنهم عما قريب سيسكنون قصور الأغنياء ويقاسمونهم أموالهم.
وكثر اتصال الكرماني بتجار اليهود ولا سيما كبيرهم عزرا ابن صمويل الذي كان يمده بالنقود المحالة له من سلمية عليه.
فتواطأ معهم على نشر الشاعة المقلقة بالمدينة لكي يبيع الناس أملاكهم بأثمان بخسة فيشتروها منهم. وكانوا قد أكثروا من شراء الحبوب والأطعمة من الأسواق ليحتكروها، فانتظروا أن ترتفع أثمانها كلما زاد قلق الناس وخوفهم وانقطع ورود الميرة من خارج بغداد إلهيا، فيبيعوها للناس حينئذ بأغلى الأسعار. ومن أقدر على نشر الشائعة المقلقة في طبقات الناس من الكرماني الذي يملك جيشاً من الأعوان والأتباع منبثين في كل مكان، ويهيمن عليهم جميعاً بفضل نظامه الدقيق؟ فلا غرو أن اتفق التجار اليهود معه على ذلك التدبير وقبلوا أن يعطوا الكرماني وأتباعه ثلث ما يجنونه من الأرباح.
وبينما كان الناس على هذه الحال في بغداد، إذ وصل الموفق إليها عند الفجر، فتباشروا بمقدمه وشعروا بشيء من الطمأنينة ورجوا أن يقشع به الله عنهم هذه الغمة. وما كذب رجاؤهم في الموفق، إذ ما كاد يتصل بالخليفة ورجال الدولة ويستوعب ما عندهم من أنباء الحال حتى خرج بجنوده ليقودهم بنفسه، فغادر بهم العاصمة مغرب ذلك اليوم، وتوجه بهم جنباً صوب جرجرايا.
وكان أهل العاصمة يترقبون أنباءه بنافد الصبر، فقد أيقنوا جميعاً أنه إن هزم في هذه المعركة فلا مناص من سقوط العاصمة في أيدي الزنج، وباتوا يبتهلون إلى الله ويتضرعون له في البيوت والمساجد أن يؤيد الموفق بالنصر ويقطع به دابر الزنج. إلا الكرماني وأصحابه، فقد اكتأبوا لقدوم الموفق، وتطيروا من خروجه السريع لمناجزة الزنج، ولكنهم تجلدوا ومضوا ينشرون الشاعة في الناس بأن الموفق سينهزم لا محالة، وأن قوة الزنج أضعاف قوته، فلم يأبه الناس كثيراً لهذه الشاعة. ثم أشاعوا أنه قتل، فجزع الناس واضطربوا وتجهز كثير منهم للرحيل، واضطر الخليفة أن يخرج بموكبه في شوارع العاصمة لينفي للناس ما شاع بينهم من أنه قد برح بغداد مع أهله ورجال حاشيته.
وإنه ليطوف بموكبه في الشوارع إذ جاءته البشرى بأن الزنج قد كسروا كسرة منكرة في جرجرايا وارتدوا على أعقابهم منهزمين، وأن جيش الخلافة يتعقبهم ويوسعهم قتلاً وتشريدا، وأن الموفق عقد لابنه أبي العباس لواء الجيش المطارد، وأنه هو عائد إلى بغداد بعد غد. فأمر الخليفة رجاله فأعلنوا البشرى للناس، ومضى بالموكب لساعته إلى المسجد الجامع فصلى بالناس صلاة الشكر.
وكان أول عمل قام به الموفق بعد عودته بالموكب إلى بغداد أن أمر بإطلاق أبي البقاء البغدادي من سجنه. وذلك أن الموفق عقب هزيمة الزنج في جرجرايا قد انطلق مع نفر من خاصته فوصلوا بغداد ليلاً دون أن يعرفهم أحد إذ كانوا متنكرين في زي الأجناد. فلما وصل بهم الموفق إلى داره أمرهم فارتدوا زياً مما يلبسه العامة في بغداد. وفعل هو مثلهم فخرجوا معه إلى بعض أطراف المدينة واختلطوا بالصناع والعمال وهم في منتدياتهم يسمرون. فأدرك الموفق في جولته الليلية هذه أن أغلب أنصار الكرماني هم من الصناع والعمال الذين كانوا أنصار أبي البقاء من قبل. فرأى قبل أن يقبض على الكرماني وخاصته أن يفرق عامة أنصاره عنه. وأن خير سبيل لذلك أن يطلق أبا البقاء من سجنه ليعود أنصاره إليه، وذلك ما كان.
ولما بلغ الكرماني إطلاق سراح أبى البقاء توجس شراًن وأدرك أن ذلك تدبير من الموفق موجه إليه، فأوصى خاصة أتباعه بالتيقظ والانتظار لما يسفر عنه ذلك التدبير.
وما خرج أبو البقاء من سجنه حتى انطلق إلى مجلس الموفق فاستؤذن له عليه، فظن أهل المجلس أنه جاء ليسلم على الموفق ويشكره على إطلاق سراحه، فما راعه منه إلا أن حياءه الموفق تحية مقتضبة ثم جعل يعنفه على سوء تدبيره وحمله تبعة خروج صاحب الزنج وفتنته. إذ ما كان ذلك ليكون أو لينجح لو أنه عمل بنصائحه في إنصاف الفقراء والعمال والصناع والفلاحين من ظالميهم الأغنياء. وخشي الموفق أن يمضي أبو البقاء في توبيخه إلى حد يغض من مقامه في مجلسه، فأمر جميع من في المجلس بالانصراف. واختلى بأبي البقاء، فلما انتهى أبو البقاء من توبيخه اعتذر له الموفق عما كان من حبسه بأن سياسة الدولة قد اقتضت ذلك منه. ثم أخذ يحادثه في أمر الكرماني وبدعته التي تعاظم خطرها في الناس. وكان أبو البقاء يجيبه بأن تبعة ذلك أيضاً واقعة عليه، وأنه المسئول عنها أمام الله وأمام الأمة، فقد خشي سلطان الأغنياء فظاهرهم على الفقراء، فعرضهم بذلك للافتتان بمثل هذه الدعوة التي قام بها الكرماني وجماعته.
وكان مما قاله له أبو البقاء: (الآن أطلقتني من السجن لينضم أنصاري القدماء إلي وينفضوا عن الكرماني، حتى إذا تم ذلك أعدتني إلى السجن وفرقت شملهم. فلا والله ما أنا بتاركك تخدعهم أبداً).
فجعل الموفق يحلف له بأنه لن يفعل ذلك أبدا ووعده بأنه سينفذ لهم مطالبهم بعد ان يقضي على صاحب الزنج حين تهدأ الأحوال، وتقل حاجة الدولة إلى المال، فيستغني عن مجاملة أربابه. وما زال به حتى رضي أبو البقاء منه ذلك وانصرف.
وأثمر تدبير الموفق حقاً، فما كاد أنصار أبي البقاء يتسامعون بإطلاق سراحه حتى عادوا إليه زرافات ووحدانا، أعلنوا له توبتهم من بدعة الكرماني، فقبل توبتهم وأعاد تنظيم نقاباتهم وتوحيد صفوفهم.
ولما رأى الكرماني انفضاض أتباعه العوام عنه وانحيازهم إلى أبي لبقاء، أيقن أن الموفق سيقبض وشيكاً عليه، فعهد برئاسة الدعوة في بغداد إلى رجل من أتباعه المستورين يدعى أبا هاشم ابن صدقة الكاتب. أوصاه بالتربص إلى أن تصفو الأحوال ويهدأ الطلب ليقوم بتدبير الحركة من جديد وأسرع هو وعبدان وشهر ففروا خفية من بغداد وغايتهم مركز الدعوة في الشام.

السفر الثالث

(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي).
(قرآن كريم)
1


لما وجدت الجثث الثلاث في دار عبدان صبيحة ليلة فراره من قرية الدور جد الشرطة في البحث عنه، ففتشوا دار حمدان والتمسوه في كل مكن فلم يقفوا له على أثر، فاكتفوا بمصادرة ما وجدوه في حانوته.
واجتهد ابن الحطيم أن يثبت أن لحمدان يداً في الجريمة ولكنه لم يستطع، فأصدر أمره بمنع حمدان من ممارسة عمله الجديد في جميع تلك الناحية الداخلة في ملكه. ولم يكن حمدان بحاجة إلى ذلك العمل فقد كان يكسب من العيارة ما يغنيه عنه، ولكنه اغتاظ لتعنت ابن الحطيم عليه وقصده إياه بالمكروه فحلف لينتقمن منه انتقاماً مراً.
وكان قد صار قوي النفوذ لدى جماعته العيارين مسموع الكلمة بينهم، فدفعهم إلى تشديد الغارات على أملاك ابن الحطيم وموالاتها. فكانت لا تمر ليلة أو ليلتان دون أن يصاب ابن الحطيم في ماله أو يرزأ في ملك من أملاكه. وكان حمدان يقود جل تلك الغارات بنفسه، وقد أظهر في ذلك شدة ومهارة عظيمتين.
وكان لا بد له من الاستمرار في عمل يغطى به اشتغاله بالعيارة، وإذ لم يستطع أن يجده في تلك الناحية الخاضعة لنفوذ ابن الحطيم فقد اضطر أن يلتمسه في الجهات الدنيا من بطائح الكوفة شرقي القرية. وتلك البطائح كانت قبل عشر سنوات خلت إن هي إلا أراض غامرة لا يملكها أحد ولا يستثمرها أحد، حتى اضطر الخليفة إلى استقراض المال من عزرا اليهودي في بغداد لاستخدامه في القضاء على فتنة ابن الصفار وغيرها من الفتن الناشبة في أطراف الدولة، فأقطعه هذه البطائح في مقابل ذلك المال. وما لبث اليهودي أن وكل أمرها إلى صاحب له من كبار تجار اليهود بالكوفة يدعى إسرائيل بن إسحاق، فجزأها هذا قطعاً قطعاً ثم جعل يطمع أغنياء الكوفة وكبار ملاكها في استصلاح تلك الأراضي واستثمارها، فباعها لهم بأثمان طيبة تدفع له منجمة على بضع سنوات. ثم بدأوا في شق الترع والجداول إليها من النهر، فما مضت خمس سنين حتى انقلبت أراضي صالحة يجود فيها الزرع ويكثر فيها الضرع، وصارت عامرة بالسكان بعد أن أكانت يباباً مقفرة، فاشتغل حمدان حراثاً يحرث الأرض على أجر معلوم، فكان يبكر لعلمه في الصباح ثم يعود في المساء إلى بيته بقرية الدور.
وكان الفلاحون حين دعوا للعمل في إصلاح تلك البطائح قد وعدوا بأجور مغرية، وأعطيت لهم تلك الأجور في بداية الأمر فتكأكأوا عليها من كل فج. ولكن اليهودي ما لبث أن ضغط على الملاك في تقاضي أقساطه السنوية، فاضطر الملاك إلى الضغط على الفلاحين وإرهاقهم بالعمل والتقليل من أجورهم، فصار حال الذين يعملون في تلك الأراضي الجديدة مثل حال إخوانهم في غيرها أو أسوأ وأن حمدان ليرى ما يلقى الفلاحون هناك من ضروب القسوة والتسخير، على سوء الغذاء، وطول العناء، وانتشار الداء فما يسعه إلا أن يتنهد ويقول في نفسه: (ما دام سلطان المال قائماً فلا خلاص من الظلم ولا مطمع في عدل أو إنصاف).
وأنه ليرى ابن الحطيم خاصة عنواناً لطغيان هذا السلطان، فإذا نجح في هدم هذا الجانب المشمخر من بنيانه فربما يتيسر للناس أن يأتوا على سائر جوانبه من القواعد.
أما ابن الحطيم فقد اعتراه القلق منذ اقتحم العيارون عليه الجوسق في ظاهر النجف واختطفوا منه عالية. ثم تزايد قلقه وخوفه لما توالت الغارات على أملاكه بشدة لم يعهدها أحد من قبل، فأيقن أن العيارين لا يأتون ذلك من أجل الحصول على المال فحسب بل لديهم خطة مدبرة للنكاية به خاصة من دون غيره من الأغنياء. ووقع في نفسه إن ذلك قد يكون بتدبير من خصمه الهيصم يريد إضعاف مركزة ثم القضاء عليه ليتخلص من منافسته فأفضى بما يساوره من الظن إلى والي الكوفة ليبحث له هذا الأمر سراً على أن يكشف للهيصم يداً فيه. فحقق الوالي رغبته ثم أخبره بأنه لم يجد أي صلة بين الهيصم والعيارين، فلم يرض ذلك ابن الحطيم وعده ممالئاً للهيصم لرشوة أخذها فتغير ما بينه وبين الوالي من يومئذ.
وشق على الوالي أن يتغير قلب صديقه ابن الحطيم عليه، ويحرم بذلك منافع جمة كان يفيدها منه، فبقي يتحين الفرص ليعيد سابق الصفاء بينهما بخدمة كبيرة يؤديها لابن الحطيم، إلى أن جاءت الفرصة المطلوبة إذ روع ابن الحطيم بنبأ عظيم طار له صوابه وجن جنونه: إن العيارين قد خطفوا أخته من قصرها.
فاهتم الوالي بهذه الجريمة اهتماماً عظيماً، وأقام الدنيا وأقعدها، فحشد رجال الشرطة حشداً وعززهم بفرق من جنود الدولة ليقوموا بحملة كبيرة على العيارين، فانطلقوا في كل مكان يبحثون عن أوكارهم ومخابئهم في أحياء مدينة الكوفة وما حولها من القرى والدساكر يأخذون كل من يقع عليهم أي ظل من الشبهة فيسوقونهم إلى السجون. وقد دارت بينه وبين العيارين معارك حامية قتل فيها كثير من الفريقين. واستمرت الحملة أياماً وليالي ولم تقف إلا حين أيقن الوالي أن قد تبدد شمل العيارين في تلك المنطقة وذهبت ريحهم بعدما قتل زعماؤهم وأبطالهم، وقد عرف مصارع جماعة من رؤسائهم، ولكنه لم يستطع أن يتحقق هل كان الشيخ سلام الشواف بين أولئك الصرعى.
وكان حمدان عسياً أن يقتل أو يؤسر لو أنه اشترك في تلك المعارك، ولكنه كان قد انطلق إلى البصرة إذ ذاك في نفر من أصحابه ليهدوا الفتاة المخطوفة إلى طاغيتها صاحب الزنج وكان الإعصار قد هدأ حين عادوا إلى منطقة الكوفة خفية. فلما رأوا ما أصاب جماعتهم من القتل والتمزيق أخلدوا إلى السكينة ولزموا الصمت.
وكان ابن الحطيم حرياً أن يشتبه في حمدان. ولكنه قد التاث عقله من هول الصدمة فأصبح لا يعي شيئاً ولا يدري ماذا يأتي وماذا يدع.
وألقى في قصره يوماً كتاب مختوم، فلما فضوه له إذا هو من صاحب الزنج وإذا فيه بعد الديباجة: (إن أختك عاتكة قد أهديت لي فبنيت بها، وأنها مكرمة معززة عندي مفضلة على حظاياي الأخريات. فلا تقلقن عليها فسآتي بها معي حين أفتح الكوفة بجنودي وشيكاً وأخلصها من ظلم الخليفة الرافضي دعيّ بني العباس حامي الأغنياء ومذل الفقراء..).
فلما قرئ الكتاب عليه اشتد به جنونه، فصار يهذي كالمحموم، ويحطم كل ما تناله يده في قصوره من الأمتعة والآنية، ويضرب كل من يدنو منه من خدمه وحاشيته حتى اضطروا إلى تقييده وحبسه خوفاً منه وخشية عليه.
وانتهز وكلاؤه وقيمو قصوره ومديرو أملاكه هذه الحالة فصاروا ينهبون لأنفسهم كل ما يقدرون عليه من أعلاقه ونفائسه. فلما حجز عليه السلطان لم يجد شيئاً من العين عنده، ووجد عليه ديوناً عظيمة فبيعت معظم أملاكه وقصوره لقضائها، فانتقل كثير منها إلى ملك الهيصم خصمه القديم ومنافسه.
2


استمر حمدان يزاول عمله في البطائح وهو يرى ما وصلت إليه حال ابن الحطيم حتى كاد يشفق عليه. وقد هدأت في نفسه ثائرة الانتقام منه، فلم يعد يحمل له أي ضغينة. ولولا ما يرى من سوء حال الفلاحين الذين يغاديهم ويراوحهم لربما خبأ في نفسه ما كان يضطرم فيها من الحنق على الأغنياء جملة.
وتذكر عصابة العيارين فساءه ما أصباهم من البطش والتمزيق. وعز عليه أن يكون هذا جزاءهم بعد ما أفلحوا في هدم ذلك الركن العظيم من سلطان المال وتسويته بالأرض. وكبر عليه أن يحال بينهم وبين هدم أركانه الأخرى. وخطر بباله أنهم لم يصنعوا شيئاً ما بقيت تلك الأركان قائمة إلا أن شفوا ذات نفسه من ابن الحطيم ونقلوا سلطانه من يد ظالمة إلى يد ظالمة أخرى.
أواه! أين الشيخ سلام الشواف وأين أصحابه؟ لقد قتل منهم من قتل، ومن بقي إما فر وأما استتر. فقد خلا الجو إذاً لسلطان المال يظلم ويبغي كما يشاء دون أن ينتقم للمظلومين منه أحد. كلا والله لا يكون هذا وحمدان حتى يرزق لم يمسسه سوء. فلم لا يسعى في تأليف العصابة من جديد إنه على ذلك لقدير وبه زعيم.
ولم يكن رأى أحداً من العصابة بعد، إذ كان كل منهم حريصاً على أن يتجنب الاتصال بأحد من إخوانه خشية أن يثير الشبهة على نفسه. فلما عزم حمدان على استئناف تأليفها التمس صاحبيه القديمين الشيخ بهلول وعبد الروؤف التاجر ليشاورهما في الأمر، فوجد الشيخ بهلول في الجامع يعظ الناس كعادته لم يتغير من سمته شيء، ثم وجد التاجر في دكانه كدأبه، فاتعد الثلاثة على أن يذهبوا فرادى بعد صلاة العشاء ليجتمعوا في دار عبد الرؤوف.
وما كان أشد دهش حمدان حين أفضى إليهما بعزمه فوجدهما قد كرها العيارة وأعلنا له أنهما قد تابا عنها توبة نصوحاً. وجعل يحاورهما طويلاً ليقنعهما برأيه، فما أصاب منهما شيئاً بل انقلب الشيخ يعظه وعظاً مؤثراً ويدعوه إلى التوبة كما تابا عسى الله أن يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم، وأفاض الشيخ في حديثه فبين أن لإنصاف الفقراء المظلومين سبيلاً آخر غير هذا السبيل، وأن قصارى ما يفعله العيار إذا أخلص نيته أن يأكل الحرام، ويفسد النظام، ويروع الأنام، دون أن يعطف الظالم على المظلوم إن يزد من قسوته ليعوض ما رزئه من قبل العيار ثم أجمل كلامه في آخر الحديث قائلاً: (إن الظلم لا يرفعه الظلم وإنما يرفعه العدل).
ولم يسع حمدان أمام الحجج القوية التي أدلى بها الشيخ في بيان رصين وبلاغة متدفقة إلا أن ينقطع عن محاورته وإن لم يبد منه أنه اقتنع بصواب رأيهما خطل رأيه، ولما أراد الانصراف قال الشيخ: (إن كنت مصراً على معاودة هذا العمل يا حمدان فثق أننا سنبقى دائماً على العهد في كتمان سرك وحفظ مودتك، حتى يهديك الله إلى وجه الحق فيه فتتوب منه كما تبنا، وإنك لفاعل إن شاء الله)
وصمم حمدان على تنفيذ عزمه، فأخذ يتصل بغيرهما ممن بقي مستتراً من أفراد العصابة فلقي من بعضهم قبولاً وارتياحاً. وبينما هو منهمك في تدبير ما أراد إذا زوجته أم الغيث تحم في نفاسها، وقد ولدت طفلاً ميتاً، ثم ما أمهلتها الحمى أن ذهبت بها على أثره، فشغله موتها عن الأمر الذي بدأ يعد العدة له.
كانت أم الغيث امرأة ورعة وطالما نصحت زوجها بالإقلاع عن العيارة تقول له في ذلك: (ما أغناك يا حمدان عن أكل المال الحرام) وطالما حاول هو أن يقنعها بمنطقه العياري فما سمعت له قط. ولما يئست من هداية زوجها أصابها هم ثقيل أضوى جسمها وانضب بشاشة وجهها. وكان حمدان يحبها حباً عظيماً، فعز عليه ما تكابده من الهم الدفين، فصار يجاملها ويعللها بالكف عن العيارة حينما يتم له شفاء غليله من ابن الحطيم.
حزن حمدان لوفاة زوجته حزناً شديداً، وشعر لأول مرة في حياته بعزلة نفسية قاسية. فانطوى على نفسه وتذكر دنو الموت وحقارة الحياة، ومسه فيض من الخشية والندم فمال إلى النسك والتزهد، فصار يواظب على الصلوات لأوقاتهما ويحرص على شهودها في الجامع ما استطاع، فما صعب على الشيخ بهلول بعد هذا أن يقنعه بالإقلاع عن العيارة والتوبة منها.
وجعل حمدان يكثر من الصدقة على الفقراء يكفر بها عن سيئاته ويهدي ثوابها إلى روح زوجته حتى أتى على كل ما ادخره من المال، فاعتمد على أثواره في كسب قوته وقوت عياله إلا أنه ترك الحراثة بالبطائح وعاد إلى حمل غلال السواد على أثواره بعد أن ارتفع عنه حظر ابن الحطيم.
واستمرت الصداقة بينه وبين الشيخ بهلول وعبد الرؤوف وقويت أواصرها بعد توبته فكانوا يتزاورون. وبقوا على ذلك حتى اعتزم الشيخ بهلول حج بيت الله الحرام وسافر إلى الحجاز ثم انقطعت أخباره بعد ذلك.
أما عبد الرؤوف فما لبث أن اجتوى المقام بقرية الدورة فعزم على أن ينتقل إلى بلد آخر يبتدئ فيه صفحة جديدة من حياته فوقع اختياره على بغداد فرحل إليها بأهله وتجارته.
ولم يبق لحمدان من أهل بيته إلا أخته راجية وولداه غيث وفاختة. وكانت راجية تظهر الزهد في الزواج بعد اختفاء أختها وفي نفسها أنها لا تتزوج إلا عبدان أو ثمامة لغير سبب إلا أن كلا هذين قد رغب عنها وآثر عليها عالية.
وقد أنساها تقادم الأيام كثيراً من الحوادث الماضية، ولكنها لم تستطع أن تنسى هذه الحقيقة. كأنما لا تزال عالية أمامها وعبدان يؤثرها بالحب، وثمامة يطريها من دونها، ولا يخطبها هي إلا لأن عالية قد عزت عليه.
وكانت على ما تظهر من الزهد في الزواج عارمة الشهوة. قليلة الحظ من حياء العذارى واستمساكهن، مفتونة بما تسمع من غزل الرجال ومعابثتهم، لا يسرها شيء ما يسرها أن يكثر حولها عدد المعجبين من شباب القرية، فما لبث ذلك أن أزلقها إلى الاتصال بمن تهوى منهم، فكانت تتسلل لذلك في الليالي التي كان حمدان يتغيب فيها مع عصابته.
وكان حمدان شديد الرغبة في تزويجها، وطالما لامها على أعراضها عمن يتقدم لخطبتها، فكانت تنتحل لامتناعها شتى المعاذير، بيد أنه انقطع عن الإلحاح عليها بعد ما ماتت زوجه، حين شعر بحاجته إلى بقائها عنده لتقوم بشئون ولديه.
3


انقضت شهور على حمدان وهو على حاله من التزهد والإكثار من الصلاة والاستغفار، وما يزال مكلوم الفؤاد من موت زوجته كثير التذكر لها والترحم عليها. وكان قد عرف بقالاً في القرية يقع دكانه على رأس الزقاق الذي يقيم فيه. فأحبه لصلاحه وتقواه، ونشأت بينهما صداقة متينة. فكان حمدان لا يشتري حوائج بيته إلا منه، وكان كثيراً ما يعرج عليه حين يعود من عمله في المساء، فيقف على باب دكانه يحادثه، وقد يسوق أثواره إلى الحظيرة ثم يعود إليه فيجلس عنده حتى يؤذن لصلاة العشاء، فيهبان معاً إلى الجامع.
وكان البقال شديد الاعتقاد في الصالحين يزعم لحمدان أن بينهم قوماً مستورين لا يعرفهم أحد، لو أقسم أحدهم على الله لأبره، فطوبى لمن وفقه الله للاتصال بأحد هؤلاء، ولما أكثر من ذكر ذلك لحمدان وقع في نفسه أن صاحبه البقال يعرف واحداً من هؤلاء الأبدال، وأنه يكتم سره حتى يستوثق منه. فقال له يوماً وقد ظهر العتب في وجهه: (إنني كنت أظن يا ابن السماك أن قد كان بيننا من المعرفة والصداقة ما يجعلك تثق بي وبأمانتي، فإذا أنا مخطئ، إنك تعرف أحد هؤلاء ولا تأتمنني على سره).
فاضطرب البقال قليلاً ثم قال له: (من أخبرك بهذا يا حمدان؟ . فأدرك حمدان أن ما ظنه كان صحيحاً فقال له: (قد عرفت ذلك من لحن قولك، فوالله لئن كتمتني أمره بعد اليوم ليكونن هذا فراق بيني وبينك).
فما وسع البقال حينئذ إلا أن أخبره بأن رجلاً صالحاً من الأهواز قد ورد القرية منذ ثلاثة أشهر وأنه اتصل به واستكتمه سره ريثما يؤذن له بالظهور للناس، وأنه يصلي في اليوم خمسين صلاة، وأنه متقشف يسف الخوص ويأكل من كسبه ويتصدق بكل ما في يده.
- لقد شوقتني إلى هذا الرجل، فأين هو الآن؟
- في داخل هذا الحائط الذي تراه.
- هذا حائط آل العدوي، فماذا يصنع فيه؟
- جاءوني يوماً فسألوني أن أطلب لهم رجلاً يحفظ عليه ما صرموا من النخل، فدللتهم على هذا الرجل الصالح.
- فناظروه على ذلك، فأجابهم إلى حفظه بدارهم معلومة، فهو هناك يحرس تمرهم.
- هل من بأس في أن نذهب إليه الساعة فنزوره؟
- قلت لك إنه لما يؤذن له بالظهور للناس، فأرى أفضل أن أحدثه عنك أولاً وأستأذنه في تعريفك به، فإذا أذن ذهبت بك إليه.
فلما كان المساء من ذلك اليوم ترك البقال غلامه في الدكان وذهب هو وحمدان فدخلا حائط آل العدوي، فانتهيا إلى بيت صغير مبني بالمدر، فبصرا بالشيخ الأهوازي قائماً يصلي في فناء البيت على حصيرة بالية، فوقفا بعيداً عنه حتى سلم من صلاته فأقبلا نحوه وسلما عليه فرد عليهما السلام ثم قام ليصافحهما فقبلا يده ودعاهما للجلوس فجلسا معه على طرف الحصيرة البالية وهو يرحب بهما.
قال ابن السماك: "هذا يا سيدي الشيخ صديقي حمدان قرمط الذي حدثتك عنه قد جاء ليستمد من بركتك" فقال الشيخ: "أهلاً بك وبصديقك الصالح، إني لأرجو أن يرزقه الله الإخلاص وأن ينفع به".
وكان حمدان يحدق في وجه الشيخ يتأمل صورته في نور السراج الخافت الموضوع على رف محفور في جدار البيت خلف مقعد الشيخ، فلما سمع هذا القول منه غض من بصره خشية أن يكون الشيخ إنما دعا له بالإخلاص لما رآه يحدق فيه كالمرتاب في أمره، على أنه استطاع باختلاسه النظر إليه أن يأخذ صورة مجملة منه، فهو طويل القامة مستطيل الوجه، واسع العينين, رقيق الشفتين في نبرات صوته غنة محببة، وعلى رغم تشعثه توحي هيئته العامة إلى حمدان أنه كان ربيب نعمة خالية وتذكره بما سمع عن بعض ملوك الهند في قصص العامة أنه ترك عرشه وهرب من دار ملكه وآوى إلى صومعة في أحد الكهوف حيث انقطع للعبادة والتأمل.
وما لبث الشيخ أن تكلم في الزهد والتقوى فسمع حمدان منه كلاماً لم يسمعه من أحد من قبل، ولما بلغ من كلامه إلى ذكر الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وضرب لذلك أمثلة شتى، لم يملك حمدان أن خشع قلبه فغلبه البكاء، إذ وقع في نفسه أن الشيخ قد عرف سره عن طريق الكشف، فهو يوبخه ويدعوه للتوبة والاستغفار، وإلا فكيف ذكر العيارين في هؤلاء؟
ولما كفكف دمعه لم يشعر إلا وهو يقول للشيخ: "أجل يا سيدي قد كنت عياراً فيما مضى، ولكني تبت إلى الله فادع الله أن يتوب علي".
وعجب البقال لما سمع من حمدان، فما كان يخطر بباله قط أن هذا الأكار الصالح كان يشتغل بالعيارة، ولكن سروره بشهود هذه الكرامة الظاهرة من الشيخ طغى على عجبه فجلس ينصت إليه لعله أن يسمع منه كرامة أخرى.
قال الشيخ لحمدان: "لا تبتئس يا أخي فمن تاب تاب الله عليه، وأن هؤلاء الذين يعملون السيئات وهم يقصدون الخير ويتوهمون أنهم يحسنون صنعا لأقرب الناس إلى فعل الخيرات إذا هدوا إليها وبين لهم سبيل الخير من سبيل الشر، لأن الله قد فطرهم على حب الخير ولم يبق إلا أن يهديهم إلى طريقه".
ثم استطرد إلى الكلام في القضاء والقدر فوعى حمدان منه أن الله لا يحاسب الناس إلا على قدر ما يسر لهم من الأسباب لسلوك الخير والبعد عن الشر، فالفقير الذي تدفعه الفاقة إلى سرقة ما يقتات به لا يكون حسابه كحساب الذي يسرق ليتنعم في مأكله أو مشربه، إذ يقع شطر من تبعة الأول على جاره الغني الذي حرمه بعض حقه في العيش بما احتجبه عنه، فقد خلق الله الأرض وجعل فيها من الرزق ما يكفي أهلها جميعاً، ويزيد عن حاجتهم، ثم هيأهم للسعي في طلبه، لتنشط أجسامهم، وعقولهم، وليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فيحسن الغني إلى الفقير ويأخذ القوي بناصر الضعيف، لا ليجعل الغني ماله ذريعة لإجاعة الفقير وتضييق مذاهب العيش عليه، ولا ليتخذ القوي قوته وسيلة لإذلال الضعيف واضطهاده.
وبينما حمدان وصاحبه البقال يصغيان إلى كلام الشيخ إذا بالشيخ ينهض بغتة فيستقبل القبلة ويكبر للصلاة، فأومأ البقال لحمدان أن ذلك علامة الإذن بالانصراف، فانصرفا بهدوء.
رجع حمدان إلى بيته وهو يردد ما وعاه من أقوال الشيخ ويستذكر ما عزب منها عن ذاكرته، وأرق ليلته لما شغله من أمره فلم ينم إلا غراراً.
ثم أخذ يتردد عليه بعد ذلك مع صاحبه البقال أو وحده فما يزداد إلا إيماناً به وحباً له وإعجاباً بعلمه، وقد أحس –لا يدري كيف أحس- كأنه أصبح اليوم بعد اتصاله بالشيخ أقرب إلى نفسه الأولى قبل التوبة منه إلى نفسه بعدها، لقد أخذ حمدان التائب المنكسر يتضاءل، ويعود إلى مكانه حمدان الثائر الضعيف الذي يشعر أن له رسالة في الحياة عليه أن يؤديها لخير البشر.
ولما انتهى عمل الشيخ حسين الأهوازي في حائط آل العدوي انتقل إلى الجامع فاتخذ مقامه فيه، وما لبث أن اشتهر أمره فأخذ الناس يهرعون إليه من كل مكان يتبركون، ويتلمسون منه الدعاء، وكانوا يأتون إليه بالطعام والمال فيفرق كل ذلك على من يحضر عنده من الفقراء والمساكين، ويأبى أن يصيب إلا من طعامه الخاص من كسب يديه في سف الخوص يبيعه له صاحبه البقال فيشتري له بثمنه شيئاً من الخبز والتمر.
ولبث على ذلك مدة حتى وجدوه يوماَ عليلاً لا يستطيع الحركة، فعرض بعضهم عليه أن يحملوه إلى بيوتهم ليعالجوه، فأبى وسألهم أن يحملوه إلى صديقه البقال، فلما صاروا به إليه فرش له البقال حصيراً على أرض الدكان فأرقدوه عليه وانصرفوا وكلهم يحسد البقال على ما اختصه الشيخ به من رفيع المنزلة عنده.
وكان البقال يريد أن يحمله إلى داره ليعنى أهله بتمريضه، ولكن الشيخ كان يستأنيه في ذلك حتى أقبل حمدان يسوق أثواره راجعاً من عمله فلما رأى ما حدث للشيخ أقسم عليه ليحملنه إلى داره، فتنازع هو والبقال على ذلك والشيخ بينهما ساكت لا يقول شيئاً ثم قال لهما: "أنتما أخواي لا فرق بينكما عندي، ولكن حمدان قد أقسم فلا بأس أن نبر قسمه ثم جعل يطيب خاطر البقال حتى رضي.
4


وأنزله حمدان منزلاً كريماً في داره، وأوصى أخته راجية بأن تبذل غاية جهدها في تمريضه والعناية به، وشدد عليها في ذلك وأمرها ألا ترد له طلباً يسألها إياه، فضاقت راجية بمقدم هذا الرجل الغريب، وثقل عليها ما تلقى من العناء في علاجه وتمريضه، فعليها أن تدلك رجليه كل يوم وتدهنهما بزيت النعام ثم تلفهما بخرق الصوف، وإذا أراد القيام لقضاء حاجته أو للاغتسال أو التطهر له كتفها فتحامل عليها حتى توصله إلى المستراح أو المغتسل ثم تعود به إلى مرقده، وعليها أن تغسل ثيابه وترفوها وتهيئ له طعامه وتصلح له فراشه فوق ما كانت تقوم به من علاج شئون الولدين، ولكنها لم تلبث أن أنست إليه فقد وجدته –لا كما تخليته من قبل إذ وصفه لها أخوها شيخاً زميتاً لا عمل له إلا الوعظ والإرشاد والتوبيخ وهتك أسرار الناس من طريق الكشف –بل كهلاً جميل الصورة لطيف المعشر غزل العينين في حكمة وتبصر، جياش القلب في سكينة وهدوء، ولما يعد سن الشباب إلا قليلاً، وإذا خرج من المغتسل ومشط شعره وسوى لحيته وشاربه وتكحل وتطيب انقلب في عينيها فتى آنساً تلذه أكباد النساء.
وإنه ليصلي جالساً فلا يرى بأساً أن يقطع صلاته إذا أقبلت عليه ليبتسم لها ابتسامته العذبة، ويقول لها إن العلة التي ابتلي بها كانت نعمة من الله عليه إذ قيض له وجهاً جميلاً يؤنسه ويعطف عليه ويشمه أنفاس العافية من ردفيه، أو يسألها عن حال الغيث وفاختة ويحدثها أنهما أصبحا يحبانه ويتعلقان به، وقد يقول لها إنه يتمنى على الله أن يطيل أمد علته ليبقى له أنس هذا المكان.
وقد ظهر لها جلياً أنه يغازلها بأسلوب خفي. ولكنها ظلت مدة تتحفظ أمامه وتتجاهل قصده خشية أن يكون ذلك منه إنما هو من باب تطييب الخاطر والاعتراف بالجميل، فهي لا تراه إلا مصلياً أو مسبحاً، وهو يكثر الصوم ويقول لها لولا العلة لواظب عليه، بيد أنه كان يريبها من أمره أنه يستلذ مس راحتها حين تدلك له رجليه، ويهفو إلى جسمها حين يتحامل عليها في قيامه لحاجته. وعيناه الغزلتان: كيف يخطئها أن تفهم ما تنطقان به؟ إنها قد رأت شيئاً من ذلك في عيون عشاقها الأولين. وخطر لها ذات مرة أن تطالع حمدان بما رابها من أمره، ولكن هل يصدق حمدان مثل هذا في حقه؟ وتذكرت ماضيها الذي تطويه عن حمدان فعجب كيف خطر لها ذلك الخاطر السخيف. وعلام تسيء إلى رجل يلاطفها ويطايبها ولم يسيء إليها قط؟
مكثت راجية برهة يصطرع في قلبها عقيدة الناس في هذا الرجل الغريب وعقيدتها فيه، يعزز الأولى عندها إجماع الناس وما تشهد من صلاته ونسكه، ويؤيد الثانية ما يحس به قلبها وما تشهد من حديثه وسلوكه ونظرته. على أن حيرتها ما لبثت أن انجابت عنها إذ أيقنت أن إحساس قلبها هو الصادق الأمين.
كان قد انقضى شهر على مقام الأهوازي في دار حمدان، وكان قد تماثل قليلاً من علته فاستطاع أن يقوم بنفسه لقضاء حاجته. وكان حمدان على جاري عادته يبكر لعمله في الصباح ويعود من المساء فيجلس إلى ضيفه الصالح يخدمه بنفسه ويسمر معه طرفاً من الليل يستمع إلى حديثه. وقد يأتي صاحبه البقال فيحضر مجلس الشيخ معه. وكان الشيخ قد أوعز إليهما فكتما مقره عن الناس ريثما يبرأ من علته. ولما ضاق صدر البقال بكثرة سؤال الناس عنه أشاع فيهم أنه تركه في الدكان ليلة جاءوا به هناك، فلما أصبح الصباح وجده قد اختفى. فإذا تعجبوا من ذلك قال لهم لا عجب فهو من أهلي الطي. وإذا أظهروا التأسف لفراقه قال لهم لا تبتئسوا فإنه سيعود إلى الظهور لكم.
وذات يوم خرج حمدان مبكراً لعمله كعادته وترك الشيخ في صلاته التي لا تنقطع. ورجعت راجية إلى فراشها. لتستريح قليلاً حتى يطلع النهار، بعد أن قد هيات لأخيها بعض ما يحتاج إليه من الزاد ليأكله في طريقه.
وبينما هي مستلقية في فراشها ومن دونها الصبيان يغطان في نومهما إذا بالشيخ يناديها من حجرته، فخفت إليه ووقفت على باب الحجرة تسأله ماذا يريد، فأومأ إليها أن تدخل فترددت قليلاً ثم دخلت فأسرع هو إلى الباب فأغلقه. ولما رآها قد خافت قال لها في هدوء ولطف (لا تخافي يا راجية فإني سأفضي إليك بسر لا أريد أن يسمعه أحد غيرك).
وما كانت هذه الكلمة لتهدئ خوفها، ولكنها لم تستطع أن تصنع شيئاً، فقد اشتد وجيب قلبها، وملكتها الحيرة، وأذهلتها المفاجأة، وهي لا تدري ماذا يريد وإن شعرت أنه لا يريد بها خيراً. ولم يدع هو لها مجالاً للتحير والتردد، فقد أخذ بيده المرتعشة فأجلسها على طرف فراشه، فهمت أن تصيح، فبدرها قائلاً: (لقد عرفت سرك يا راجية، فتعرفي أنت سري).
فما سمعت ذلك منه حتى ظهر عليها الاستسلام والتوسل، فابتسم لها ابتسامته العذبة، وأنشأ يقول وهو يضرب على كتفيها بلطف: (لا يخطرن ببالك أنني سأفشي سرك أو أسيء إلي، ولا تحسبين أن سأوبخك أو ألومك على ما زلقت إليه من بدوات الشباب، فكل ابن آدم خطاء، وإنما العصمة للإمام المعصوم).
وانبرى يحدثها عن الإمام المعصوم الذي سيظهر وشيكاً فينشر العدل في الناس، ويرفع الظلم، ويملأ الأرض رخاء ورفاهية، ويغفر ذنوب الناس وخطاياهم، حتى يغبط التقى الورع منهم أخاه العاصي المذنب، ويود أن لو كان قد استوفى حظه من لذائذ العيش مثله.
فسرى عن (راجية) قليلاً، وذهب عنها الخوف، فلما رآها قد اطمأنت إليه أخبرها بأنه قد جاء إلى هذه القرية بأمر من الإمام المعصوم ليدعو أهل هذه الناحية إليه. ثم قال لها: (فهذا سري قد أطلعتك عليه لعظيم ثقتي بك ولم أطلع عليه أحداً سواك).
قالت له: (ولا أخي حمدان؟).
قال لها: (ولا أخاك حمدان.. إنك ستكونين حواريتي الأولى. وسيعرف الإمام لك هذا الفضل).
وسكت قليلاً وتركها تهيم في أودية خيالها هنيهة. ثم قال لها: (حذار أن تشكي في صدق ما أقول، فإني أعرف ما يدور في خلدك).
فنظرت إليه، فإذا عيناه تفيضان غزلاً وشوقاً، فاضطربت شفتاها وأغضت عنه طرفها ولم تجب..
قال لها: (أتذكرين ابن عمك عبدان؟).
فخفق قلبها لذكر عبدان، وقالت: (أو تعرفه؟).
-   إنه قد آمن بمذهبنا وأصبح من دعاة الإمام.
-   فأين هو الآن؟
-   في مركز دعوتنا بسلمية!
-   أو قد تزوج هناك؟
-   ما حاجته إلى ذلك وقد أبيح له ما شاء من الناس يستمتع بهن كما يريد؟
-   فانتفضت مذعورة وقالت: كيف ذاك؟
-   قال لها: (إنه من المخلصين للمذهب، وقد رفع عنه التكليف، فله أن يفعل ما يشاء).
- ونظر إليها فرأى على وجهها ظلاً من الكآبة. فقال لها: (لا تكتئبي فما أراك إلا قد آمنت بمذهب الإمام، فلك أن تفعلي ما تشائين مثله!).
- اهتزت راجية لهذا القول اهتزازاً عنيفاً أنساها كل شيء إلا أنها بين يدي رجل قد ذلل لها كل عقبة أمامها، فلم يبق إلا أن ترتمي عليه. ولكنها استمسكت متجلدة واجتهدت في أن تعدل بالحديث عن مجراه، فسألته: (وهل قد علم حمدان أخي أن عبدان هناك؟).
فأجابها: (ما زال هذا سراً مكتوماً عن حمدان وعن غيره، ولا يعلمه سواك. اعلمي يا راجية أن الذي يدور بيني وبينك الساعة سيبقى سراً مكتوماً بيننا، لا يعلمه حمدان ولا غيره أبداً).
وما قامت راجية من عنده لتتفقد ولدي أخيها النائمين حتى ارتبط سرها بسره فأصبحا سراً واحداً!
وما هي إلا بضعة أيام حتى التمس الشيخ من حمدان أن يأذن له بترك داره بعد ما برئ من علته، ولكن حمدان ألح عليه أن يبقى مقيماً عنده، فاعتذر الشيخ قائلاً: (لقد آن لي أن أظهر للناس، فإذا بقيت عندك فسيتوافد الناس لزيارتي، ولا آمن أن يكون في ذلك مشقة عليك ومشغلة لك عن عملك).
فسأله حمدان: (ألم تقل لي إنك مأمور بأن تقوم لإصلاح هذا البلد؟).
قال الشيخ: (بلى لقد أمرت أن أدعو أهله من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاوة إلى السعادة، وأستنقذهم من ورطات الذل والفقر، وأملكهم ما لا يستغنون به من التعب والكد).
فقال حمدان: (فإني قد وهبت نفسي لخدمتك، فقد لقيت بك القائد الذي طالماً تمنيت أن أجده لإصلاح هذا البلد).
فنظر إليه الشيخ ملياً، ثم قال له: (إن الأمر يا حمدان لأخطر مما تظن، وإني أخشى أن يلحقك في هذا السبيل أذى كثير).
قال حمدان: (فإني والله لا أبالي ما يصيبني في سبيل الخير ولول لقيت منيتي).
فابتسم الشيخ حينئذ وقال له: (لقد صدق عبدان فيما وصفك به).
- عبدان؟
- نعم عبدان ابن عمك.
- أين لقيته يا سيدي الشيخ؟. أهو حي يرزق؟
- ولم يشأ الشيخ أن يجيبه على سؤاله بل أخرج من بين ثيابه رسالة مختومة فدفعها إليه، فلما فضها عرف فيها خط ابن عمه وإذا فيها:
- (رسالتي هذه من سلمية يحملها إليك أخونا الشيخ حسين الأهوازي من دعاة الإمام المعصوم الذي سيجري الله على يده كل ما تصبو إليه نفسك ونفوس المخلصين من رفع الظلم وتحقيق العدل الشامل بين بني البشر. وقد أوصيته بك خيراً فأوصيك أن تأخذ بناصره وتؤيده في نشر دعوته وإنك لفاعل إن شاء الله. وإني قد حدثته بكل ما يهمك أن تعرفه عني منذ حللت واسط ثم انتقلت في طلب العلم إلى بغداد ثم استقر بي المقام في سلمية أواه ما أشوقني إليك يا حمدان وإلى سائر الأهل عسى أن يتاح لي الرجوع إليكم قريباً حين يأذن لي نائب الإمام والسلام).
وظل حمدان بعد ذلك أياماً وهو يتعجب من تصاريف القدر كيف دفعت بعبدان إلى طلب العلم ببغداد، وكيف وصلت أسبابه بأسباب الكرماني أحد دعاة الإمام المعصوم. وكيف انتهت به إلى سلمية حيث صار من فقهاء هذا المذهب الذي سينقذ الناس من الظلم وينشر بينهم العدل الشامل حتى يكونوا سواء ليس فيهم غني ولا فقير، وكيف كان عبدان هو الذي اقترح إرسال هذا الداعية إلى هذه الناحية.
لم يؤمن حمدان بالإمام المعصوم الذي يدعو إليه الأهوازي ولم يكلف نفسه عناء التثبت في أمره ليتحقق وجوده أو عدم وجوده. وإنما آمن بالهدف الذي ترمي إليه هذه الدعوة الجديدة إذ كان هو هدفه من قبل. هؤلاء قوم يدعون إلى هدم سلطان المال على هدي وبصيرة، ويسيرون في ذلك على خطة عامة واسعة لا تقتصر على بلد دون بلد. وقد أدركوا أن ذلك لا يتم لهم إلا بهدم هذه الدولة التي يقوم عليها وتقوم عليه. فليكونوا من يكونون وليكن مذهبهم ما يكون فحسبه أنه سيعمل على تقويض سلطان المال وكفى. وقد انضم قديماً إلى العيارين من أجل هذا الأمر فلن يكون العيارون خيراً من هؤلاء ولا أهدى سبيلاً.
وكان الشيخ الأهوازي قد تردد طويلاً في إطلاع حمدان على حقيقة أمره أو كتمها عنه، ورأى ألا يكتفي بما علم عنه من ابن عمه عبدان، فظل يعجم عوده بنفسه حتى بين له أن مصارحته بالحقيقة أجلب لمعاونته له وأكفل بتأييده لحركته، ولم يقل إعجاب حمدان بالأهوازي ولا حبه له لما تحول عن عقيدة الصلاح والتقوى فيه بعدما كشف له حقيقته، فقد رأى حمدان من بعد نظره وسعة حيلته وحسن تدبيره للأمور وصدق فراسته في الناس وعلمه بظواهر الحياة وبواطنها ما زاده إعجاباً وإيماناً بنجاح دعوته وكلفا بتأييده ومناصرته.
وكان الناس في قرية الدور وما حولها لا يزالون يتناقلون أخبار الشيخ الصالح ويروون خوارقه، ويتذاكرون سر اختفائه من دكان صاحبه البقال ويترقبون عودته على ما حدثهم ذلك البقال. فم يكد يتناهى إليهم أنه قد عاد وأنه نزل بدار حمدان قرمط حتى توافدوا عليه زرافات ووحدانا يتبركون به ويلتمسون منه الدعاء، فكان يهش لهم ثم يعظهم ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الآخرة. وكان إذا صلى في مسجد امتلأ المسجد بالناس ليستمعوا إلى وعظه وتذكيره.
وكان حمدان يقوم مقام الحاجب له: يأذن للناس عليه إذا شاء ويمنعهم إذا شاء كما كان ابن السماك يسعى في خدمته ويقوم بقضاء حاجته. لم يكن في اتصال الشيخ بحمدان ما يريب. فقد عرف أهل القرية ميل حمدان إلى النسك والعبادة منذ رزئ بموت زوجته، فلا غرو أن يختصه هذا الولي الصالح بمودته والقرب منه واشتهر ابن السماك أيضاً بإغراقه في حب الصالحين.
وانقطع حمدان أياماً عن عمله لما شغله من خدمة الشيخ واستقباله الناس الذين يفدون إليه. وقد زادت نفقات بيته منذ أقام الشيخ فيه، وليس له مورد آخر غير ما يكسبه من حمل الغلات على أثواره. فعزم على أن يكاشفه بأمره ويستأذنه للرجوع إلى عمله ليتمكن من الإنفاق على بيته. ولكن الشيخ سبقه فوضع بين يديه بدرتين من الذهب وقال له: (أنفق من هذا المال ما تشاء يا حمدان فإنه من مال الدعوة وإذا نفد جئتك بغيره).
فلما أظهر حمدان تعجبه من وجود هذا المال عنده قال له ضاحكاً: (لو كان ابن السماك في مكانك لتركته يظن أن هذه كرامة مني!).
قال له حمدان: (فمن أين جاءك؟).
فأخبره بأن هذا من مال الدعوة وأنه يستطيع أن يأخذ منه ما يحتاج إليه للإنفاق عليها من كبار تجار اليهود أينما حل من البلاد ثم يرجع وكيلهم بسلمية على مركز الدعوة هناك بالمال الذي أخذه الدعاة.
فحرك حمدان رأسه من التعجب ثم قال له: (ومن أين لمركز الدعوة بهذا المال الكثير؟). قال الشيخ: (يأتيه ذلك من الدعاة في الآفاق حين ينجحون في دعوتهم، يكثر أتباعه فيرسلون ما يجمعون من هؤلاء إليه).
- فكيف يرسلون المال إلى المركز؟
- ويلك يا حمدان.. عن طريق هؤلاء اليهود أنفسهم يأخذه المركز من وكيلهم هناك.
فدهش حمدان لهذه الطريقة العجيبة في توريد المال وإصداره بين الأصقاع المتباعدة، وازداد إدراكاً لخطر هذه الحركة وإيماناً بنجاحها.
5


وأخذ الشيخ يصطفي من الوافدين إليه من يتوسم فيهم الاستعداد للإيمان بدعوته ممن يكثرون التردد عليه، فيختلي بهم ويفضي إليهم بأنه يدعو إلى إمام من أهل البيت سيظهر وشيكاً فيملأ الدنيا رخاء وعدلاً وسلاماً. ثم يتدرج في الإفضاء إليهم بأسرار الدعوة على قدر استجابتهم لها وثقته بإخلاصهم في الإيمان بها.
ثم اتخذ من هؤلاء الأتباع المخلصين له إثنى عشر نقيباً، وجعل حمدان نقيب النقباء، وأوصاهم جميعاً أن يتجملوا بالصلاح والتقوى ويسيروا في الناس سيرة حسنة. ثم وزعهم في أنحاء تلك الجهة ليدعوا الناس إلى المذهب بحكمة وتؤدة فيخاطبوا كل قوم على قد عقولهم ودرجاتهم، ويميلوا إليهم بسبب يوافقهم، ولا يفضوا بسر الدعوة إلا لمن يثقون بإخلاصه على أن يوصوه بكتمان السر تقية من السلطان.
وقد قسم الناس لهم إلى خاصة وعامة: فالخاصة هم الدين يفضي إليهم بسر الدعوة إلى الإمام المعصوم. وأما العامة: فحسب النقباء أن يدعوهم للدخول في مذهب الشيخ، ويخبروهم بأن الله قد فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة، إذ لا تكفي الخمس الصلوات لتطهيرهم من ذنوبهم ورفع المظالم عنهم، بعد ما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس وقل الصالحون وكثر الطالحون. وأمر النقباء بأن يؤيدوا دعوتهم بالعمل فيقوموا بهذه الخمسين الصلاة ليكونوا قدوة صالحة لغيرهم. وأوصاهم أن يعملوا جهدهم لتحويل العامة –حين يثقون بهم- إلى خاصة.
وكان حمدان قد راجع الشيخ في بعض هذه الأوامر حين عزم على إصدارها خشية أن يكون فهيا ما يثبط عن الدعوة، ويحول دون إقبال الناس عليها. فكان الشيخ يقبل مناقشته بصدر رحب، ثم يشرح له ما يرمي بها إليه من الأغراض التي تقوي الدعوة وتعززه. فقد قال له حمدان يوماً: (إني أخشى أن ينفض الناس من حولنا حين نفرض عليهم خمسين صلاة).
فقال الشيخ: (كلا يا حمدان. إن العامة تميل إلى الغلو في الدين والإغراق في اتباعه إذ يجدون فيه شفاء لصدورهم وتخفيفاً والإغراق في اتباعه إذ يجدون فيه شفاء لصدورهم وتخفيفاً لما تنوء به ضمائرهم من ثقل الخطايا والآثام. ولما آنس من حمدان قلة الاقتناع بهذا القول قال له: سترى بنفسك وشيكاً صدق ما أقول.
ولم يطل بحمدان الانتظار حتى رأى بعينيه مصداق ما تنبأ به صاحبه الداعية في خلال أشهر معدودة. فقد انتشرت الدعوة في جميع قرى الناحية ودساكرها حتى غمرت مدينة الكوفة نفسها فكان لها فيها سلطان عظيم. وظهر له أن أشد الأتباع إيماناً بها وتحمساً لها هم أولئك الذين دفعوا دينار الإمام. وأدهشه أن معظم الفلاحين والأجراء في السواد في البطائح قد تقبلوا الخمسين الصلاة بقبول حسن وصاروا يواظبون عليها حتى كان فيهم كثير من الذين كانوا يتركون الصلاة حين كانت خمساً قد أصبحوا يصلونها خمسين.
وكذلك انتشرت هذه الصلاة الجديدة بين العمال والصناع في مدينة الكوفة وقرية الدور وغيرها من القرى، فكان أحدهم لا يكاد يبدأ في عمله حتى يقطعه ليقوم بصلاته، ثم يستأنفه بعدها ولا يلبث أن يقطعه ليقوم بصلاة أخرى وهكذا. فإذا روجع في ذلك قال: (أتريدون أن تمنعوني من القيام بفرضي؟) فإذا قيل له: (إنما هي خمس صلوات) قال: (والله ما جعلها كذلك إلا أنتم رجاء أن نقوم لكم بعمل أكثر. إن لله علينا حقاً ولكم حقاً فلنعط كل ذي حق حقه).
وكان قد ولي الكوفة إذ ذاك وال جديد يدعى أحمد ابن محمد الطائي وكان لا يزال قليل الخبرة بشئون تلك الناحية، ولما تقو أواصره بأهلها ولم يفد منهم شياً مما يطمع فيه من المال بعد، فلما رفع إليه عامل قرية الدور خبر هذه الطائفة التي اجتمعت على الشيخ الأهوازي وازدياد خطرها وما قد ينجم عنها من القلاقل والفتن رآها فرصة سانحة، فبعث رسولاً من قبله إلى الشيخ يتوعده بالقبض عليه إذا لم يكف عن دعوته.
وأدرك الشيخ ما أراده الوالي، فأوعز إلى حمدان فانطلق سراً إلى الكوفة حيث قابل واليها فاتفق معه على مال يدفعه له ثمناً لسكوته. وكان هذا أول مال وقع في يده منذ ولي أمر الناحية ففرح به فرحاً عظيماً وحفظها يداً لحمدان عليه.
وكان ملاك الأرض وأصحاب العمل قد تضايقوا من تقصير فلاحيهم وأجرائهم في العمل لما شغلوا به من الخمسين الصلاة، ولم يقدروا أن يردعوهم عن ذلك التقصير إذ انعقد إجماعهم على ذلك في كل ناحية. وقد انبعثت فيهم روح جديدة، فصاروا يشعرون بقوتهم وتظاهرهم، ولا يخشون أن يغلظوا الرد لمن أنكر عليهم مذنبهم ولو كان مالك الأرض نفسه أو سيد العمل. وإذا أريد عقاب أحدهم بالضرب، هب الآخرون فذبوا عنه. وإذا عوقب بقطع أجره أو إنقاصه جمعوا له من عندهم ما يعوضه. وإذا طرد من عمله تكفل الباقون بسد حاجته وامتنعوا عن سد مكانه.
فلما بعل هؤلاء بهذا الحال رفعوا شكاواهم إلى الوالي، فكان يقول لهم: (لا شأن لي بما بينكم وبين فلاحيكم وأجرائكم. فتراضوا فيما بينكم، فإن عجزتم فاستغنوا عنه واستعملوا قوماً آخرين). فإذا قالوا له: (فلن نجد من يفلح أرضنا أو نأجره لعملنا). قال لهم: (سبحان الله فافعلوا ما ترونه أصلح لحالكم) حتى ركب إليهم الهيصم يوماً في جماعة من حاشيته –وكان كبير ملاك الأرض في تلك الناحية غير منازع منذ خلا مكان منافسه ابن الحطيم فرحب به الوالي ولاطفه. فلما كلمه الهيصم في أمر فلاحيه قال له: (قد جاء غيرك من الملاك فشكوا ذلك إلي، فنصحتهم بالتراضي فيما بينهم وبين فلاحيهم وأجرائهم، وإنك وهبك الله من وفر في المال  سعة في الأملاك لأقدر منهم جميعاً على إرضاء من جعلهم الله تنحت يدك).
فعبس الهيصم وقال له: (إني ما جئت لأستعين بك على هؤلاء بل لتقبض على هذا الدجال الذي جاءنا من الأهواز فنشر بيننا هذه الفتنة). فأجابه الوالي: (كيف تدعوني أن أوذي رجلاً صالحاً يدعو الناس إلى الزهد والتقوى والصلاح).
- فقد بدل في الدين إذ فرض على أبتاعه خمسين صلاة.
- ما إخاله فعل ما تقول. ومبلغ علمي به أنه دعاهم إلى الإكثار من الصلاة النافلة، فإذا ما ظن بعضهم أنه فرضها عليهم وذلك من غرور العامة، فلا يؤاخذ هو عليه).
- فقام الهيصم من عنده مغضباً وهو يقول: (الله لئن لم تحبسه وتحم الناس من فتنته لأقومن بهذا الواجب عنك).
فنهض له الوالي وأخذ بيده متلطفاً وهو يقول: (إنك سيدي لتعلم أن ليس ذلك من حقك إلا أن أتجاوز لك عنه).
وغمز له جفنه بعد ذلك، ففهم الهيصم قصده فتبلج الرضا في وجهه وتناجيا قليلاً، ثم ودعه الوالي وهو يقول: (لقد خشيت والله أن يخرج كريم مثلك من عندي وهو عني غير راض).
بث الهيصم عقب ذلك عيونه، فأخذوا يستطلعون له حركات الشيخ الأهوازي وحمدان، فرأوا الشيخ ذات ليلة قد دخل دار حمدان قرمط وانصرف عنه أتباعه ليأوي إلى فراشه وعلموا أن حمدان كان غائبانً تلك الليلة عن قرية الدور فنقلوا ذلك إلى الهيصم، فأرسل جماعة من رجاله الأشداء مدججين بالسلاح فتقدم أحدهم فقرع باب الدار قرعاً لطيفاً، فلما سئل: من؟ قال أنا رسول من حمدان. ولم يكد يفتح الباب حتى اقتحمه الرجال. فهمت مراجية أن تصيح فأسرع أحدهم فضمها وسد فمها ومنعها من الحركة، وانطلق الآخرون في الدار فرأوا باب الحجرة يغلق فدفعوه، وإذا هم بالشيخ الأهوازي وهو يحاول الفرار من شباك الحجرة، فوثبوا عليه وجروه من الشباك وإذا هو في لبسه المتفضل وقد رجل شعره وضمخه بالطيب وبدا لعينهم في هيئة جميلة حتى كادوا يشكون أنه هو. فعصبوا فمه وشدوه وثاقاً، ثم حملوه وانطلقوا به من الدار وبقيت راجية في قبضة الرجل حتى قدر أنهم قد ابتعدوا بالشيخ عن الدار فأطلقها حينئذ ولاذ بالفرار.
ولما جيء بالأهوازي إلى قصر الهيصم قال له الهيصم: (من يحميك الآن مني؟) فقال الشيخ: (إنك لن تقدر علي وسيخلصني الله من يدك).
- والله لأقتلنك فأرضين الله بقتلك.
- لئن حاولت ذلك فليعلمن أتباعي وليضرمنها ناراً عليك وعلى قصورك وأملاكك.
فأثر هذا القول في الهيصم ودفعه إلى التروية في أمره، فأمر به فسيق إلى مخدع في القصر فحبسه وأقفل عليه الباب وحفظ المفتاح معه.
وأصابه في تلك الليلة أرق فلم يقدر أن ينام. فقام من فراشه، وأمر بعض جواريه فجلسن له يسقينه ويغنينه وكان بينهن جارية فارسية حبيبة إلى قلبه يفضلها على من سواها، فأخذت تواليه بأقداح الشراب الصرف حتى ثقل فقامت به إلى مخدعه هو لا يكاد يعي شيئاً، فما وضع رأسه على وسادته حتى نام. وانتظرت قليلاً حتى هدأ من في القصر فسحبت المفتاح من تحت وسادته وتسللت إلى حيث حبس الأهوازي ففتحت له وقالت: (إني من المؤمنات بك وقد جئت لأنقذك فهلم فاتبعني أخرج بك من باب الحريم حيث لا يراك أحد)
- ألا تخشين أن يعاقبك مولاك؟
- ولن يعلم أنني أطلقتك فقد سرقت المفتاح من تحت وسادته وسأرده حيث كان.
- الحمد لله لقد علمت أنه سيخلصني، وقد أراد لك الخير إذ جعل خلاصي على يديك
وكان الهيصم قد أمر رجاله أن يكتموا عن الناس نبأ قبضه على الشيخ خشية أن يثور أتباعه له. بيد أنه ما كاد يضحي النهار حتى انتشر الخبر في أتباع الشيخ، إذ كان حمدان قد عاد آخر الليل فروت له أخته ما حدث فعلم من وصفها لأولئك الرجال أنهم من رجال الهيصم، فطار النبأ بذلك إلى أصحابه وأمرهم بالاستعداد حتى يأتيهم أمره فيثوروا لشيخهم ثورة رجل واحد. وأنهم لكذلك إذ تناهى إليهم أن الهيصم قد فتح الباب على شيخهم عند الصباح ليقتله فوجده قد اختفى، ففرحوا لهذه الكرامة وأشاعوا في الناس وقالوا إنه رفع، ففتن بذلك خلائق كثيرون فدخلوا في مذهبه أفواجاً.
وبعد أيام ظهر الشيخ عند أحد نقبائه في البطائح حيث بعث إلى حمدان سراً وإلى بعض نقبائه الآخرين ليوافوه هناك، فلما اجتمع بهم قال لهم: (إني راجع إلى الإمام وقد تركت فيكم حمدان ليتولى تدبير دعوتكم فاسمعوا له وأطيعوا لأمره).
وأدرك حمدان بعد رحيل الشيخ أن الهيصم لن يهدأ له بال حتى يقبض عليه كما قبض على الشيخ من قبل. فأخذ لذلك حذره وحاط نفسه بحراسة قوية من أتباعه واتخذ له عيونا يراقبون له حركات الهيصم كيلا يؤاخذ على غرة.
6


وأظهر حمدان نشاطاً عظيماً في تقوية الدعوة وتنظيم شئونها، والإشراف على أعمال النقباء والفروع التابعة لهم يكثر التنقل بينها ويقضي أوقاته في عمل متواصل، فكان لذلك كثير التغيب عن بيته، فأوصى صاحبه ابن السماك البقال يتعهد أخته وولديه والقيام بشئونهم وقضاء حوائجهم، فكان يؤدي واجبه بأمانة وإخلاص.
بيد أن راجية كانت تظهر التذمر والاكتئاب منذ سفر الشيخ الأهوازي ولا تكاد ترضى عن شيء، فإذا عرج حمدان على البيت ليتفقدها ويتفقد ولنديه أطلقت لسانها في الشيخ تلومه وتلقى عليه التبعة فيما نابهم من الشتات والاضطراب. وتقول في ذلك: (كيف يتركنا هكذا بعد أن أحدث لنا هذه المتاعب؟ كيف يتخلى معنا بعد أن أورطنا في هذه المحنة؟ أن هذا لجبن منه ونذالة).
فيهدئها حمدان ويقول لها: (لا حق لك يا راجية أن تسبي الشيخ فإنه ما سافر إلا حين وثق بي أنني سأقوم بالدعوة مكانة خير قيام).
وكان حمدان يعجب لحنقها الشديد على الشيخ، ذلك الحنق الذي يزيد على مر الأيام شدة. ولكنه لم يحمل ذلك إلى محمل الشفقة منها على أخيها والتألم لما يكابده من متاعب الاضطلاع بشئون الدعوة وكثرة غيابه عن البيت حتى كانت لا تراه إلا نادراً.
وكان حمدان يعلل نفسه بأن في مجيء عبدان إذا جاء لعونه كما وعده الشيخ بذلك ما يحمل عنه بعض العبء وما يؤنس من وحشتها ويخفف من ألمها. فكان يترقب قدومه يوماً بعد يوم.
وما إن جاء البشير بمقدمه حتى خف لاستقباله، وفرح به فرحاً مضاعفاً من أجل الدعوة ومن أجل نفسه ومن أجل راجية فاحتفل بمقدمه احتفالاً عظيماً دعا إليه نقباءه ووجوه أتباعه ليعرفهم بابن عمه فقيه الدعوة ومبعوث أمامها. ثم قضى معه أياماً يتباثان الشوق ويتقاصان ما جرى لهما من الحوادث منذ افترقا حتى جمع الله شملهما على هذه الدعوة العظيمة.
ولم يجئ عبدان وحده بل قدم معه بحبيبته شهر الأهوازية فأنزلهما حمدان الحجرة التي كان يسكنها الشيخ في منزله أما راجية فقد أظهرت الفرح والانتعاش لمقدم ابن عمها والمرأة التي معه بضعه أيام ما لبثت بعدها أن عادت إلى كآبتها وحنقها فظن حمدان أن ذلك إنما نشأ من غيرتها على ابن عمها من تلك الأهوازية الجميلة التي معه فود في نفسه لو أن عبدان جاء وحده، إذا لكان حري أن يتزوج راجية فيؤدم بينهما.
وكان عبدان لا يألو جهداً في ملاطفتها حتى أمام صاحبته فكانت راجية تعجب لذلك التبدل الكبير في موقفه منها بعد ذلك النفور الذي كان يظهره لها من قبل. ولكن ذلك لا يزيدها إلا نفوراً من حديثه وتوقيا للجلوس معه. معتلة في ذلك حيناً بالشغل وحيناً بالمرض.
وكانت شهر تجتهد في خطب مودتها واجتذاب قلبها إليها بمختلف الوسائل، وكان لها من طبعها السمح وحنانها المطبوع ما يواتيها في ذلك. حتى إن الغيث وفاختة سرعان ما أحباها وتعلقا بها لصباحة وجهها ولطف حديثها وحلاوة معشرها.
ولكنها لا ترى من راجية إلا مودة تتصنعها تصنعاً. فظنت ذلك من أثر الغيرة في أول الأمر، ثم شكت في صدق ظنها لما رأت من هذه الفتاة أموراً تدعوها إلى الشك والارتياب فوقع في خاطرها أن لها سراً تكتمه عن الناس. فعليها أن تراقبها حتى يكشف لها هذا السر.
ثم أكثرت راجية من إغلاق بابها عليها وملازمة فراشها لا تقوم عنه إلا لحاجتها، وكانت تنفر ممن يدنو منها لخدمتها أو للسؤال عنها، فازدادت حيرة حمدان في أمرها، ولكن مشاغله الجمة لم تدع له فراغاً من الوقت ليضيعه في الاهتمام بها أكثر مما فعل فوكل أمر معالجتها إلى شهر ومضى هو في استئناف أعماله التي لا آخر لها، ولا سيما بعد أن وجد من عبدان مدداً عظيماً من المشورة والتوجيه يقتضي منه مضاعفة جده ونشاطه.
وظلت شهر تتودد لراجية، وتبسط لها حنانها وعطفها، وتبالغ في خدمتها، وتتلطف في سؤالها عن خطبها وتقول لها: (إنني أختك فأفضي إلي بما يشغل بالك لعلي أستطيع أن أجد لك منه مخرجاً، فكانت راجية تصدها بكلام غليظ وتقول لها: (ويلك ما أشد مكرك. أتريدين أن تستدرجيني لأقول لك شيئاً تطعنين به في حقي؟ إن كنت تخشين أن ينصرف ابن عمي عنك إلي فاطمئني فإني لا أريده ولا هو يريدني!) فتضحك شهر من قولها، فتثور راجية في وجهها وتقول لها: (تضحكين ويلك لأنك أجمل مني فيما ترى عينك. فماذا يدعوك إلى الغيرة من فتاة قبيحة مثلي؟ آه لو كانت عالية بيننا لجرعتك الغصص).
فتقول لها شهر دون أن يتغير من لطفها شيء: (والله إني ما أراك إلا جميلة رائعة. ولقد حدثني عبدان عن أختك عالية وما أراها تفضلك بشيء ليس عندك ما يقابله، ولو حضرتنا الآن ورأت ما أنت فيه من هذا الهم الشاغل لما عطفت عليك أكثر من عطفي. افتحي لي قلبك يا راجية فستجدين من قلبي كل خير، وستندمين على ما أسأت الظن بأخت لك لم تلدها أمك!).
فلما سمعت راجية هذا القول منها دست وجهها تحت وسادتها وطفقت تبكي بكاء مراً، فأدركت شهر أن هذا أول الوهن، وأن الفتاة قد أوشك عصبها أن يلين، فجعلت تواسيها وتحنو عليها وتمسح من عينها الدمع وما زالت بها حتى احتضنتها راجية بين ذراعيها فأفضت إليها بسرها.
ولم تدهش شهر لما سمعت. فقد رأت من الدلائل منذ بدأت تجتهد في ملاحظتها ما جعلها تعتقد أن السر الذي تكتمه الفتاة إن هو إلا جنين يضطرب في أحشائها تريد أن تخفيه في ظلامها ويأبى إلا أن يأخذ سبيله في النمو حتى يشهد نور الحياة. وتذكرت أن الحسين الأهوازي كان قد أوصاها بأخت حمدان خيراً ثم كرر لها ذلك وهو يودعها في سلمية بالشام، فأدركت الآن أنه كان يعني هذا السر الذي خلفه مطوياً في صدر هذه الفتاة المؤمنة، إلى جانب سر الدعوة التي بثها في صدر الآلاف من أتباعه المؤمنين!
وطرق حمدان باب داره في ليلة مطيرة للرعد فيها هزيم وللبرق فيما وميض والمزن يهطل كأفواه القرب، وقد ابتلت ثيابه وثقلت نعلها بالوحل. فما فتح الباب حتى ولجه انسلالاً ونظر فإذا شهر تستقبله كالبدر وعليها غلالة بيضاء رقيقة لا تكاد تخفي من أسرار قوامها شيئاً، ولولا اختلاف بياض غلالتها عن بياض بشرتها لظنها جسداً بلا غلالة أو غلال بلا جسد.
فلما رآها كذلك انتقل عنها وأسرع إلى حجرته، فلما دخلها تذكر أنه نسي فلم يحيها بكلمة، ولم يسألها عن حمدان أو راجية، فشعر بخطئه وأسف، ولكنه ما لبث أن رآها تدخل حجرته وبيدها مصباح مضيء فتضعه على ركن منها ثم تقبل عليه فلا يدري أيهما أضوأ أذلك المصباح أم هذا الوجه. وأراد أن يستدرك من تحيتها فالتفت إليها فرأى منظراً عقد لسانه: منظرها ماثلة أمامه ومن خلفها المصباح يتسرب نوره من خلالها فطفق بصره متحايداً عنها ولكن الفتنة أخذت تغزو قلبه من خلال عينه وأنفه إذ دنت منه حتى أفغم رداعها خياشيمه، وسمعها وهي في غمرة السكر تقول له بصوت كموسيقى الليل: (ألا تخلع ثيابك المبتلة لأكسوك ثياباً أخرى؟).
فقال لها متلعثماً: (شكراً لك يا شهر، إن من عادتي أن أفعل ذلك بنفسي).
فتضاحكت قائلة: (هل بقيت لك من عادة يا قائد الدعوة؟)
فشك حمدان في معنى كلامها وخشي أن يجيبها فيخطئ فضرب عنه صفحاً وقال لها: أين عبدان؟
- هو في حجرته يؤلف في كتابه الجديد.
- لعله أوشك أن يتمه؟
- لا أدري، ما سألته عن ذلك.
- وراجية كيف حالها؟ ويحها، ما تزال عليلة يا حمدان. هي الآن نائمة في فراشها من القر.
- والغيث وفاختة؟
- قد أنمتهما من أول الليل.
- بارك الله فيك يا شهر، إنك والله لطيبة.
- لا تطرني فما عرفتني بعد.
- حسبي ما صنعت لأختي ولولدي.
- ولكني ما صنعت لك شيئاً!
- ما تصنعي من خير لهؤلاء فهو لي.
- فابتسمت وقالت وهي تغادر الحجرة (لا تنس يا قائد الدعوة أن تغير ثيابك. هل أخبر عبدان بمقدمك؟).
- افعلي إن شئت وقولي له إني أريد أن أراه فإن شاء جئته وإن شاء جاء إلي.
7


وما كاد حمدان ينتهي من تغيير ملابسه حتى أقبل عبدان، فتبادلا التحية ثم جلسا على الحصير واستندا إلى الفراش المطوي يتقيان به رطوبة الجدار وخشونته. فأخذا يتحدثان في شئون الدعوة وأنبائها الجديدة فقص عليه حمدان ما أنجزه من الأعمال في طوفته تلك، وما زاره من البقاع أو رأى فيها من سير الحركة وأحوال الأتباع.
وتثاءب حمدان وقد نهكه الجهد والتعب فقال: (لعن الله النوم فإنه يعطل الحركة؟).
فقال عبدان: ( لو تذكرت أنه ملاذ الفلاح المكدود والعامل المجهد لما لعنته يا حمدان؟).
فقال حمدان وهو يتثاءب: (أي والله لقد صدقت).
- إني لأراك مجهداً يا حمدان فهل لك في أختك شهر تدهن لك أطرافك وتدلك جسمك لتنام نومة طبية فتهب غداً موفور النشاط؟
فطار النعاس من عين حمدان ولم يكد يصدق ما سمع ولكنه استمسك بهدوئه فقال له: (لا وأشكرك يا أخي. ما بي من حاجة إلى ذلك).
- بل أنت أحوج الناس إلى من يرفه عنك ولن تجد أطيب بذلك من شهر.
- لا يا عبدان لا أريد أن أتعبها، فحسبها ما تقوم به لولدي ولراجية.
- كلا بل سيسرها أن تقوم بخدمتك، فقد وهبت نفسها للدعوة ولن تجد احق بخدمتها منك. وأسرع عبدان فبرح الحجرة قبل أن يهتدي حمدان إلى جواب يرد به عليه.
وما كاد الفجر يطلع من الغد حتى كان حمدان قد خرج من مغتسله ولبس ثيابه فوجد عبدان وصاحبته لما يقوما من منامهما. ودخل حجرة أخته وولديه فالفاهم نياماً بعد، فسره أن وجد أهل الدار كذلك، واعتذر لنفسه بأنه لا يشاء إزعاجهم فترك الدار منسلاً ومضى.
وكانت راجية تزداد قلقاً كل يوم وتشعر بأن الجنين الذي في بطنها إن هو إلا عين من عيون حمدان ما زال يتقصى النبأ العظيم من شتى وجوهه ويجمع مختلف أسانيده وأدلته ليفجأ به حمدان يوماً كامل البينة واضح البرهان. فاشتد إلحاحها على شهر أن تعجل بما وعدت من حل مشاكلها، فكانت شهر تعللها بأنها وعبدان قد مضيا في هذا السبيل وقد قطعا الأشواط الأولى فيه بنجاح وما بقي إلا أن يعود حمدان ليقطعا معه الشوط الأخير.
8


ولما عاد حمدان بعد غيبة عشرين يوماً أو أكثر جعل يفيض لأهله في شرح الأسباب التي اضطرته إلى طول الغياب. وقد خيل إليه أنهم يرتابون في صدق ما يقول فطفق يعززه بألفاظ التوكيد. فلولا أن عبدان وصاحبته كانا على علم بما يدفعه إلى ذلك لعجبا من أمره. وحينما دخل على أخته راعه ما هي عليه من هزال الجسم وشحوب الوجه وشعر نحوها بفيض من العطف والرثاء فجعل يواسيها ويطيب خاطرها. وهمّ أن يرفعها ليجلسها ويميط عنها اللحاف ليريحها قليلاً من ضغطه، فاعترضته شهر وحالت دن ذلك وهي تقول: (لا تفعل فإن الحركة تضرها والهواء يزيد من علتها ودعها هكذا فهي مرتاحة).
ونظر حمدان إلى عيني شهر فأدرك أن أمرهما لا يرد وألا قبل له مراجعته بله عصيانه. فقال لها: (هذي العليلة وأنت الطبيبة فدبري أمرها كما تشائين، وما أنا بينكما إلا واغل).
وخلا به عبدان فقال له فيما قال: (كيف وجدت شهراً ليلة كلفتها بخدمتك فإني ما رأيتك في صباحها لأسألك؟).
فقال حمدان: (أجل، ما أردت إزعاجك إذ وجدتك نائماً بعد).
- لا ريب أنك أصبحت يومها نشيطاً إذ غدوت والطير وكناتها!
- نعم قد كان ذلك.
- بفضل شهر؟
- لا أستطيع أن أجحد فضلها فإنها بركة على أهل البيت كلهم.
- فإياك أن تتحرج بعد مما يبيحه لك المذهب. كن حر العقل يا حمدان ولا تكن أسير العادة والوهم واذكر دائماً أنك قائد الدعوة.
- إن كان هذا يسرك مني فسأكون بحيث تحب.
- أفأخبرك الآن بما كتمه عنك الحسين الأهوازي؟
- ماذا كتم عني؟
- أخشى إن أنا أخبرتك يا حمدان أن يغلبك داؤك القديم فتثور غضباً على من حولك.
- كلا لقد شفيت منه.
- فسأمتحنك لأعرف مبلغ شفائك: ماذا لو بلغك مثلاً أن راجية قد مسها ضيف عندك دون علمك؟
فثار الغضب في وجه حمدان وقال: (ويلك يا ابن أم عبدان كيف تجرؤ أن تقول هذا في ابنة عمك؟.
- لا تنس أنني امتحنت فهأنتذا قد سقطت في الامتحان من أول مسألة.
- ولكن أختي لا ينبغي أن تكون موضعاً لمثل هذا السؤال.
- فيم يا حمدان؟ أليست هي مؤمنة بالمذهب مثلك لها في الاستمتاع بما يحله المذهب مثل حقك؟
- انظر فيما تقول يا عبدان فإنه قول عظيم.
- لا فرق بين حالك وحالها إلا أن فعل العادة والوهم في حالها أشد وأقوى، وأعلم أن عامة الناس لا يحتكمون إلى العقل في شئونهم وإنما يخضعون لوساوس المعشر الذي يعيشون فيه، حتى يشذ أحدهم عن معشره فيدعو من حوله إلى استعمال عقولهم فيما يأتون وما يدعون، ألا ترى يا حمدان أن ألوف من الفلاحين في هذه الناحية قد ظلموا كما ظلمت فما ثار أحد منهم على الظلم لأن سلطان المعشر كان يخلد بهم إلى الخنوع والسكوت، إلى أن شذذت أنت عنهم فثرت على الظلم ثم استصرختهم فثاروا معك. فإنما أطلقتهم من أسر العادة ومن سلطان المعشر فأسمعتهم صوت العقل، فكذلك أمر الغيرة على الحريم لا يختلف في شيء عن أمر الخنوع للظلم، كلاهما أساسه حكم العادة وسلطان المعشر. وبعد فهل بلغت منك حد الاقتناع بهذا القدر من القول؟
- سأنزل على رأيك في كل ما تشاء يا عبدان إلا أن تدعوني ألا أغار على أختي.
- إذاً فماذا أقنعتك بعد بشيء!
- أما هذا فلا سبيل إليه.
- فلا سبيل إلى المذهب إذن أن تخالط بشاشته قلبك!
- عجباً أفهذا ركن في المذهب لا يتم المذهب بدونه؟
- نعم: إنك لتعلم أن أساس مذهبنا العدل الشامل، وليس من العدل ألا تبيح لأختك ما استبحت لنفسك!
- فتضعضع حمدان إذ أدرك ما قصد ابن عمه وأصابه خجل شديد.
- يؤسفني يا عبدان أنك كنت السبب فيما وقع فقد قلت لك إنني أخشى الفتنة فما أبهت لقولي وأبيت إلا أن تمهد لي سبيلها.
- لقد هيأت لك سبيلها إذ لا أرى بها بأساً. فما ظنك برجل هيأ لأخته سبيل الفتنة وهو يزعم أنها إثم كبير ثم يلقى تبعة ذلك على أخته المسكينة؟
- من تعني ويلك؟
- أعني رجلاً يدعى حمدان قرمط!
فانتفض حمدان انتفاضة شديدة وقال بصوت يرتجف: (ويلك، وضح ما تقول).
- قد وضحت.
- ولكن لم أفهم!
- املك نفسك أما تذكر الحسين الأهوازي؟
- ما باله؟ ماذا صنع؟ قل.. عجل!
- ألست أنت الذي دعوته للنزول عندك؟
- بلى.
- أفما كنت تدعه وحده في الدار مع راجية؟
- ويله هل..؟
- نعم.
- فهي الآن..؟
- نعم هو ذاك.
- ويل للغجر! والله لئن قذيت عيني بظله لأقتلهن؟
- استجب لصوت العقل يا حمدان وافقه ما أقول! أرأيتك لو قام الأهوازي إلى طعام في الدار فأكله في مغيبك أكنت تثور عليه؟
- ويلك أين هذا من ذاك؟
- فهو لا يفرق بينهما في مذهبه.
- ويلك أفي المذهب أن يغتصب أخت امرئ أنزله في بيته وائتمنه على أهله؟
- حاشا لمثله أن يغتصبها؟
فاعتدل حمدان في مجلسه كمن انتبه من غفوة ثم استوى واقفاً وهو يقول: (ويلها أفقد كان ذلك برضاها؟ ويل للفاجرة!)
وعرف عبدان الشر في عينيه فنهض إلى باب الحجرة مسرعاً ثم وقف دونه فتقابل الرجلان: هذا عالي الهامة، عريض الأكتاف، قوي التجاعيد، تقدح عيناه الحمراوان شرراً، وهذا متوسط القامة، قليل الجسم معروق الوجه، تفيض عيناه الغائرتان توسلاً ورجاء.
قال عبدان: (ما أنا بمانعك مما تريد، فلو شئت يا ابن عمي أن تقتلني بيد واحدة فتقذف بي الأرض فعلت. ولكن أدعوك بحق العقيدة التي جمعتنا على كره الظلم وحب العدل وبحق القرابة والرحم ألا ما تريثت حتى تسمع لقولي، ثم أفعل بعد ذلك ما بدا لك).
- ماذا تريد أن تقول بعد؟
- ماذا كنت ناوياً أن تفعل؟
- إن أطهرها بدمها.
- فهل قدرت أن هذا قد يفقدك ثقة الإمام بك، فيعوقك عن العمل العظيم الذي ندبك الله إليه لإصلاح هذا البلد وإنقاذ أهله من الظلم؟
- سكت حمدان ولم يجب، فأخذ عبدان بيده فقاده حتى أعاده إلى مجلسه ثم قال له: (كأني بك قد رجعت إلى صوابك يا حمدان فحمداً لله).
فتنهد حمدان وقال: (أحسبت أن قد أقنعتني بما قلت؟ كلا والله ما برح في نفسي منه شيء).
- فهذا أول العافية لا ريب. لقد وقع لي مثل هذا الحال أول ما شدوت المذهب ثم زال عني كما سيزول عنك لا محالة.
ورأى عبدان ابن عمه مشغول بأفكاره عن الإصغاء إلى حديثه فقال له:
(ألا تحب أن تسمع قصتي مع شهر؟).
فظهر على حمدان النشاط والاهتمام  وقال: (بلى، روح عني بها إن شئت فإني كما ترى مشترك اللب أسيف).
فاعتدل في مجلسه وقال: (لما توثقت الصلة بيني وبين الكرماني ببغداد فصرت أتردد على منزله، أدخل شهراً علي ذات يوم فعرفني بها وقدمها لي زاعماً أنها أخته. ثم ما لبثت أن أحببتها وأحبتني فأذن لنا فتعشارنا وبقينا كذلك حتى كان هربنا من بغداد. فلما صرنا إلى سلمية بالشام أنزلنا الكرماني في داره هناك فعشنا جميعاً مع أهله وما أعلم إلا أنها أخته كما زعم لي لا يخالطني في ذلك أي ريب. حتى بصرت به معها ذات ليلة على حال لا يتفق مع زعمه، فغشيني من الهم ما غشيني، وأعماني الغضب فوثبت عليه بخنجري لأقتله، فما كان منه إلا أن جذب الخنجر من يدي. وكان أقوى مني فحسبت أنه قاتلي، ولكنه أخذني معه إلى حجرة أخرى فجعل يهدئني ويشرح لي الحقيقة فإذ هي خليلته. وقال إنه ما كذبني ولا خدعني إذ زعم لي أنها أخته، فهي أخته في المذهب، وإذا لم يرضني ذلك وأبيت إلا أن أعاشر أخته حقيقة فلا مانع عنده من ذلك ثم جاء بأختيه وقال لي: (هاتان أختاي لأبي وأمي فاختر منهما من تشاء) فوقع ذلك من نفسي وندمت على ما كان مني في حقه، فكان ذلك آخر عهدي بما بقي في نفسي من قيود العادة والوهم) وسكت قليلاً ثم قال: (وأرجو أن يكون هذا آخر عهدك أيضاً بما بقي عندك من ذلك).
وقرع باب الحجرة عند ذاك، فقام عبدان ففتحه فإذا شهر تبتسم وتقول: (أغلقتما الباب عليكما فليت شعري ماذا كنتما تصنعان؟).
فقال عبدان: (كنت حبست الأسد في القفص الحديدي حتى رقيته وروضته، فبشري راجية بألا خوف عليها الآن منه ولا هي تحزن).
فاستضحكت قائلة: (تباً لك يا عبدان. ما زدت علي أن كففت أذاه عن راجية لتغريه بافتراسي!).
9


جرت الحياة بعد ذلك في دار حمدان هينة لينة على خير ما يرتضيه مذهب العدل الشامل. ولما جاءت راجية بمولود ذكر قرت به عيناه وفرح أهل الدار جميعاً بهذا المؤمن الصغير. وتشاوروا في اختيار اسم له فأبت أمه ألا أن تدعوه ثمامة. فلما راجعها حمدان وعبدان في ذلك وقالا لها: إنه اسم بغيض إليهما، قالت لهما: (ولكنه حبيب إلى قلبي). فكان لها ما أرادت. وكانت تقول إذا قيل لها في ذلك: (قولوا في ثمامة ما شئتم فلن أنسى أبداً أنه كان أول خاطب خطبني من أهلي وأول رجل سمعت من لسانه حلو الغزل!).
وكانت تلك أزمة من أعظم الأزمات النفسية التي امتحن بها حمدان في حياته الحافلة بالأحداث. وقد اجتازها بسلام كما اجتاز أخوات لها من قبل. فاعتدل طبعه وراق مزاجه وتبدل حاله من الكآبة إلى البهجة، ومن الزماتة إلى شيء من الطلاقة، وأشرق وجهه وتورد خداه وتفيض بالنشاط والقوة أهابه حتى كأنما رد إليه شطر من شبابه.
وكان مما يضاعف سروره بهذه الحال الجديدة شعوره بأنه اليوم أقدر على الاضطلاع بأعباء الدعوة وأقوى على احتمال تبعاتها وأمضى في اقتحام أخطارها وتوسيع أقطارها والاستعداد لمنازلة خصومها وحماية أنصارها.
إنه لينظر إلى الأفق البعيد فيرى الصولة العباسية يحمل لواءها أسد بني العباس ومنصورهم الثاني أبو أحمد الموفق، فيشفق على دعوته الوليدة أن يعصن بها ذلك الخطر العتيد. وأن الخطر ليقترب منه شيئاً فشيئاً كلما أديل للموفق من الزنج فأوقع بهم هزيمة منكرة أو قطع عليهم طريقاً أو أباد لهم جيشاً أو اقتحم مدينة أو عصف بحصن لهم منيع. وما ذلك إلا لعلمه أن قوة صاحب الزنج هي السد الذي يحجب عين الموفق عن رؤية الخطر الذي ينبعث من هذه الدعوة الجديدة. أو هي الغمة الراهنة التي تشغل قلبه عن الاهتمام بغيرها. فإذا ما انهار هذا السد أو انقشعت هذه الغمة فسيفرغ للدعوة الجديدة ويجعل القضاء عليها همه. فويل لها يومئذ منه إن لم تكن قد شبت عن الطوق وبلغت من القوة والمنعة والشموخ بحيث تفوق قدرته وتعجز سطوته وتقصر عنها يده.
ولئن كان هذا الخطر الكبير بعيداً عنه فإن أمامه خطراً صغيراً حرياً أن يكون بمثابة الطليعة لذاك الخطر الكبير، فإن لم ينهض به الآن فيحسم أمره أوشك أن يمتد أثره ويطول امتحانه به حتى يدركه الخطر الأكبر وهو على غير ما ينبغي له من تمام الأهبة وكمال القوة.
فهذا الهيصم كان قد جمع كبار الملاك فعقدوا مجلساً عنده قرروا فيه توحيد كلمتهم للقضاء على فتنة الفلاحين والأجراء، فاتفقوا على أن من يطرد من العمل في أرض أحدهم فلا حق لغيره من الملاك أن يستخدمه في أرضه، وعلى كل مالك أن يوظف على فلاحيه وأجرائه رجالاً أشداء ليراقبوهم ويعاقبوا المقصرين منهم.
ورأى حمدان اشتداد الضغط على أتباعه الفلاحين في البطائح خاصة –وكان فيها جمهرة أتباعه ومعظم أراضيها في ملك الهيصم- حتى خشي أن يفلت زمامهم من يديه إذا بقي يوصيهم بالصبر ولم يعمل شيئاً لإنصافهم، وكان مما زاد حالهم سوءاً أن سادتهم بزعامة الهيصم قد بدأوا يستجلبون الأكرة والفلاحين من نواحي واسط وبغداد ومن الناجين بأنفسهم من فتنة الزنج بالبصرة، فيستعملونهم في أراضيهم بأجور طيبة للنكاية بأتباع المذهب القرمي ولإغرائهم بالرجوع عنه، فأيقن حمدان أن قد آن أوان العمل.
ولكن عبدان أشار عليه بأن يرحل قبل ذلك ناحية البصرة فيتصل بصاحب الزنج ويدعوه إلى الدخول في مذهب الإمام فإن أجابه إلى ذلك أعانه على حرب السلطان فكان في اجتماعهما قوة لهما.
وكان الموفق إذ ذاك قد طرد الزنج من الأهواز فلم يبق لصاحب الزنج إلا مدينته (المختارة) قد امتنع بجنوده ورجاله فيها. فظن عبدان وحمدان أن ذلك أحرى أن يدفعه لقبول محالفة غيره إن وجد في ذلك نجدة له ومخرجاً من الحصار الذي ضرب عليه.
10


واستطاع حمدان بعد اثني عشر يوماً قضاها في طريقه صوب البصرة أن يتسلل ليلاً إلى حدود (المختارة) بعد ما غافل جنود السلطان الذين أقاموا مخافر حولها ليمنعوا الدخول إليها والخروج منها.
فلما أصبح الصباح استؤذن له على صاحب الزنج بكتاب ذكر له فيه أنه هو الذي أهدى إليه أخت ابن الحطيم، فجاء الأذن بالمقابلة في أصيل ذلك اليوم.
وهال حمدان ما رأى من ضخامة أسوار المدينة وتعددها، وما ركب عليها من المجانيق والعرادات والقسي، ومن مناعة حصونها والخنادق المحيطة بها، وهم يقودونه من معبر إلى معبر، ومن سور إلى سور، ومن حصن إلى حصن، فدروب ملتوية صاعدة أو نازلة حتى انتهوا به إلى قلعة منيعة تجري القنوات من حواليها، لا يدري حمدان كيف أمكنهم بثقها هناك.
فتسلمه حرس القلعة وقاده إلى مجلس الطاغية، فإذا هو مضاء بالشموع، وقد فرشت أرضه بالبسط الفاخرة. ولم يكن حمدان قد رأى صاحب الزنج من قبل، فنظر إلى صدر المكان، فإذا هو برجل طويل شديد السمرة قليل شعر اللحية أشمطها، براق العينين، ما ينفك يديرهما في حركة سريعة كأنهما كرتان من الزئبق، فلما سلم عليه حمدان رد عليه بصوت خافض. ثم أمره بالجلوس وقال له: (هل جئت يا هذا لتسترد هديتك؟ إنها قد صارت رفاتاً).
فاشمأز حمدان من أسلوبه في الحديث، ولكنه كتم اشمئزازه وقال: (أو قد توفيت يا سيدي؟).
- من زمن بعيد.. ما عاشت معنا غير عام واحد.. هلا جئتنا بواحدة أخرى؟
- إني جئتك في أمر أهم من هذا كله.
- فما هو؟
- إن شئت أمرت من عندك فتركونا وحدنا.
فنظر إليه الخارج العلوي تصويباً وتصعيداً، ثم أشار لمن عنده فتركوا المجلس.
- ما عندك أيها العيار الكوفي؟
- لست اليوم عياراً.
- فما أنت؟
- إني عل مذهب ورأي، ومعي مائة ألف ضارب بسيفه، فإن شئت اتفقنا على المذهب فملت بمن معي إليك.
- إن دخلتم في مذهبي قبلتكم.
- بل نحن ندعوك للدخول في مذهب الإمام.
- لا يوجد أمام غيري.
- إنما الإمام الحق محمد بن إسماعيل.
- ذلك إمام القداحيين يدعون باسمه لأنفسهم، ولا وجود له بينهم. أفتدعوني ويلك إلى مذهب ذلك اليهودي الدجال من بني الشلعلع عبد الله بن ميمون القداح؟
- إني لا أدعوك إلى مذهب أحد، وإنما أدعوك إلى المذهب الحق، مذهب العدل الشامل بين الناس.
- هذا ويلك مذهبي. أما علمت أنني حاربت الظلم ونشرت العدل؟.
- إنك ما عدوت أن جمعت المظلومين من العبيد والرعاع فملكتهم رقاب الأحرار، يغتصبون أملاكهم، ويستحيون نساءهم، ويسومونهم سوء العذاب.
- فاستشاط الطاغية غضباً، وقال له: (ثكلتك أمك! أتسبني أمامي وتطعن في مذهبي؟ والله لآمرن عدد أتباعك من أتباعي، فليقطعنك بسيوفهم مائة ألف فلذة!).
فأدرك حمدان أن لن ينجو من يده إلا بحسن الحيلة ولطف المخرج فقال له: (ما كنت أحسب أن زعيماً في مثل قدرك وسلطانك يغضب من رجل مثلي سعى إليك من وجه بعيد يعرض عليك النصرة ليظاهرك على عدوك وعدوه. وقد أحب أن يريك ما عنده حتى يجعلك على بصيرة من أمره. والله لو شئت أن أخدعك عن حقيقتي لفعلت ولنلت إذن رضاءك عني، ولكن يمنعني من ذلك حرصي على ألا يدال منك لعدوك، فإنه عدوي وعدو الحق والعدل).
فتطلق وجه الطاغية قليلاً وقال: (إنما استوجبت غضبي لشتمك إياي).
فقال حمدان: لو أردت شتيمتك لأعلنتها في الناس وأنا بنجوة منك لا تطولني يدك. أما أن أخلو بك لأشتمك حيث تكفي إشارة منك لقتلي وتقطيعي مائة ألف فلذة، فهذا مالا يفعله أقل الناس عقلاً).
- فعلام إذن عولت؟
- إن شئت بقي كل منا على مذهبه وتحالفنا على عدونا الواحد.
فأطرق الطاغية قليلاً وطفق ينكت بإصبعه على البساط ثم رفع رأسه وقال: (لو جئت قبل اليوم لكان عرضك أنفع وأجدى. أما الآن وقد حوصرنا في هذه المدينة فليس في وسعنا أن ننجدك بشيء).
- لكن في وسعنا ذاك.
- كيف؟.
- نشغل عدونا عنك ونقطع سبيله إليك.
- فماذا تطلبون منا أجراً على ذلك؟
- لا نطلب شيئاً إلا أن تدع لنا الكوفة وأعمالها وكورها نقيم فيها مذهبنا ولك ما سوى ذلك.
- إنك والله لذو رأي. وهذا عدل منك. وقد قبلت شرطك.
ومد إلى حمدان يده فصافحه فقال حمدان: (إني لأرجو أن ينصرنا الله على عدونا).
وتحرك الطاغية للقيام وهو يقول: (إني قائم الساعة لصلاة العشاء فإن شئت أقمت أياماً في ضيافتنا قبل أن تعود إلى بلدك).
فشكره حمدان وقال له: (بل تأذن لي فأسري الليلة لأبشر جماعتي بما اتفقنا عليه فسيكون ذلك عيداً لهم)
ولم يصدق حمدان أنه ناج من قبضة الطاغية العلوي إلا بعد ما ودع الحرس الذين أمروا بمرافقته حتى يوصلوه إلى مأمنه. فتنفس الصعداء عند ذاك وانبرى بجواده ينهب الأرض نهباً.
وقص على عبدان ما شاهده فأدركا ألا أمل في انضمام صاحب الزنج إلى دعوة الإمام وإلا فائدة ترجى من ورائه، وأن الموفق قاض عليه لا محالة طال الزمن أو قصر.
على أن حمدان قدر مما رأى من مناعة المختارة وامتلائها بالمؤن والذخائر واشتمالها على زهاء ثلاثمائة ألف من الرجال المقاتلين أن الموفق لن يقهرها قبل انصرام ثلاثة أعوام أو عامين.
واعتكف حمدان ثلاثة أيام في داره يستجم بها من السفر ويستمتع بما يبيحه المذهب له من لذات الحياة مباهجها، وأنها لطوع يديه ما بقيت شهر راضية عليه. حتى إذا بلغ من ذلك ما أراد عقد مئزره وشمر عن ساعده ومضى منصلتاً إلى القاسميات من أرض البطائح لينجز العمل الكبير الذي ينتظره هناك.
وما هي إلا أيام قلائل حتى انتشر في الكوفة وما حولها نبأ عظيم وجم له قوم وفرح آخرون، ودهشوا جميعاً لوقوعه على ذلك النحو الغريب من السرعة والمباغتة، فقد بلغهم أن جهة البطائح قد وثب عليها حمدان قرمط فاحتلها بجيش عظيم لا يدري أحد من أين جاء به. وقد قام فلاحوها وأجراؤها بمناصرته إذ كانوا على مذهبه فثاروا على من يليهم من وكلاء الهيصم وغيره من ملاك الأرض التي يعملون فيها فبطشوا بهم وشردوا بهم من خلفهم من الأعوان والأتباع واحتلوا الديار والجواسق جميعاً واقتسموا بينهم الأرض. وكانت دعواهم التي يهتفون بها بصوت واحد ساعة الثورة:
الأرض لنا=لا للظلمة!
والويل لهم=في الملتحمة!
 وظل الناس أياماً يتحدثون عن فتنة القرامطة – فقد أطلقوا هذا اللقب على أتباع حمدان قرمط – ويهرعون إلى من نجا.
وأنهم لكذلك إذ راعهم نبأ جديد أن أبا العباس ابن الموفق قد وصل إلى الكوفة سراً، ثم سرى منها ليلاً ومعه عدد كبير من نجا بنفسه من مذبحة البطائح يستروونه ما شهد من حوادثها وما سمع ويستزيدونه بها علماً.
الجيش، فأوقع بالقرامطة في البطائح وقتل مئات من رجالهم، وأنه طلب حمدان وأهله، وأنه أمر بجمع الفلاحين واستتابتهم فمن تاب تركوه، ومن أبى قتلوه.
فما درى الناس أيهما أعجب: أخروج حمدان على السلطان ووثوبه على البطائح أم يقظة الموفق وسرعته في القضاء على الثورة، وهو مشغول بمحاربة صاحب الزنج.
11


أما حمدان وأهله فقد تركوا البطائح ليلة الحادث، لما أيقنوا بالهزيمة وخافوا أن يقعوا في يد أبي العباس، فصاروا ينتقلون من قرية إلى قرية ينزلون على خواص أتباع المذهب ويستترون عندهم حتى استقروا في (كلواذا) على مقربة من بغداد حيث نزلوا على بعض المخلصين من أشياع المذهب ممن كانوا يشايعون الكرماني ويؤيدون حركته في بغداد من قبل فاستتروا عندهم واختلطوا بهم.
وقد أدرك حمدان وعبدان أنهما تعجلا بالثورة قبل حينها، وكان عليهما أن ينتظرا بضع سنوات أخر حتى يتضاعف أشياع المذهب في كل ناحية من نواحي الدولة ويكثر السلاح في أيديهم ويصيروا جميعاً سواء في الشعور بشدة الضغط ووطأة الظلم فيقوموا قومة رجل واحد. كما أدركا أنهما كان مخطئين إذ حسبا أن انهماك الموفق بمنازلة صاحب الزنج سيشغله عن الاهتمام بحركة خطيرة كهذه الحركة.
على أن هذا الإخفاق الأول. لم يفل من عزمهما، ولم ين من أملهما في النجاح شيئاً، فقد بصرهما بأن التريث حتى تتم الأهبة وتكمل العدة هو السبيل المضمون للنجاح. عللا نفسيهما بأن ضربة الموفق هذه حرية أن نجعله يطمئن من قبل هذه الحركة ويظن أن خطرها قد زال فلا يأبه لأمرها كثيراً في المستقبل. فعليهما وعلى دعاتهما أن يواصلوا الدعوة سراً ويلزموا التقية كدأبهم من قبل.
وإنما اختار عبدان (كلواذا) القريبة من بغداد مركزاً لقيادته لزعمه أنها لقربها من العاصمة ستكون أبعد عن أن تلحظها العيون أو تحوم حولها الظنون. كما أن ذلك سيتيح لهما مراقبة ما يجري في العاصمة من الأحداث وما يتردد فيها من الأنباء على كثب. وربما أمكنهما أن يساعد أبا هاشم بن صدقة فيما يقوم به من بث الدعوة في العاصمة ذاتها وفيما حولها من القرى، فلا غنى للدعوة على أن تغزو تلك الناحية الهامة، حيث يوجد عشرات الألوف من الصناع والعمال والفعلة الذين يعملون في العاصمة. فلا ريب أن البذرة ستجد بين هؤلاء أرضاً خصبة لما يعانونه من شظف العيش ومرارة الظلم وقسوة العمل وقلة الأجور مع غلاء أسباب المعيشة. وهذا الصنف لا يتوافر في مكان آخر كما يتوافر في العاصمة وسيكون عوناً كبيراً للحركة إذا جد الجد وحانت ساعة الثورة العامة.
ولم يشأ حمدان حتى بعد أن شعر بقوته وقوة أتباعه أن يعجل بالخروج على السلطان لئلا يمنى بمثل إخفاقه الأول، ولا سيما بعد أن أنزل الموفق ضربته القاضية على صاحب الزنج وقطع دابره فانتعش سلطان الخلافة وتوطدت أركانها، واستردت كثيراً من هيبتها فما وسع حمدان إلا أن يوطن نفسه على الصبر الطويل حتى تتغير الأحوال وتواتيه أوقات يراها أصلح للقيام بثورته وأكفل لها بالنجاح.
12


مرت السنون سراعاً، وتوالت الأحداث، وكان أهمها وفاة الموفق أسد بني العباس الهصور.
وقد تنفس حمدان الصعداء لما مات الموفق، ورأى أنه قد آن له أن يخرج من سردابه بكلواذا، ويعود إلى سواد الكوفة ليعلن من هناك الثورة العامة. على أن يترك عبدان يقوم في أثناء ذلك بحركة في العاصمة، ليكثر فيها عدد أنصار المذهب فيكونوا رداءاً له يوم يعلن الثورة في السواد.
وكان أبو البقاء البغدادي مقصى عن العاصمة إذ ذاك بأمر الخليفة المعتمد لميله إلى المعتضد ولي عهد المسلمين حينذاك كما كان المعتضد مشغولاً بدسائس عمه المعتمد عن الالتفات لغيرها، فكان الجو مواتياً لعبدان كل المواتاة، كما كان مواتياً لحمدان أيضاً فيما يقوم به من النشاط الهائل بالسواد.
ولم تتغير الحال عليهما إلا حينما توفي المعتمد وبويع بالخلافة للمعتضد، ذلك أنه ما كاد المعتضد يتربع على كرسي بني العباس حتى انتعشت الخلافة ودبت في أوصالها روح جديدة، شعر بها أولياؤها وخصومها على السواء. فما نسي الناس أنه ذلك البطل المغوار الذي خاض ميادين القتال منذ طر شاربه واشترك مع أبيه الموفق العظيم في صراع ذلك الطاغية الخطير، طاغية الزنج، حتى قضيا على فتنته العظمى فأنقذا الخلافة من خطر ما حق.
وكان أبو البقاء يحبه، ويتمنى على الله أن يجلسه على كرسي الخلافة يوماً ما، ليحقق في عهده كل ما رسمه من مناهج العدل، وطرائق الإصلاح. ولم يذكر أبو البقاء أنه فرح يوماً ما فرح يوم أعيد من منفاه بدير العاقول، فهرع إلى مجلس المعتضد ليقول له: السلام عليكم يا أمير المؤمنين!
فتلقاه المعتضد بمزيد الحفاوة والتكريم وأقبل عليه وأدنى مجلسه وأخلى له وجهه ومن دونه الوزراء والكبراء وأصحاب الرياسات ينظرون ويتعجبون.
قال لأبي البقاء فيما قاله: (إن بابي لا يغلق دونك بليل أو نهار، وإني أعاهد الله ربي لا تدعوني إلى خطة فيها رضى الله ورسوله وخير الناس إلا نفذتها لك ما استطعت).
فشكره أبو البقاء وقال له: (حسبي وحسب الناس منك هذا. وإني لأرجو الله أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة) ثم روى الحديث بتمامه عن النبي صلى الله عليه وسلم بسنده.
ولم يلبث أن تسامع أهل العاصمة بما دار في مجلس أمير المؤمنين بينه وبين أبي البقاء، فاستبشر عامة الناس من الفقراء والمساكين خيراً. وقوي رجاء المظلومين من الأجراء والفعلة والصناع والأكرة أن يرفع عنهم الجور الواقع بهم بذراريهم. وتوجس الأغنياء وأرباب الضياع الواسعة وكبار التجار شراً فأمسوا خائفين يترقبون.
ولم يكد أبو البقاء يخرج إلى أتباعه المستضعفين من مختلف الأصناف ليزروهم ويتفقد نقاباتهم، وليبشرهم بالعهد الجديد الذي يوشك أن يدفع عنهم الحيف. ويبسط لهم الرخاء والعدل، حتى هاله ما رأى وسمع من آثار انبعاث فتنة الكرماني من جديد.
وأن أبا البقاء لجالس يوماً بين أصحابه في حي من الأحياء الفقيرة في بغداد، وهو يعظهم في هذه الفتنة إذ تصدى له نفر من أهل الحي فشكوا إليه سوء حالهم وسألوه ما حكم الله في ذلك وكان أحدهم فقيراً ذا عيال والثاني فلاحاً والثالث عاملاً من العمال. فأخذ يجيبهم واحداً بعد واحد. فكان مما قاله للأول إن الله قد فرض له حق الفقير وهو أن يكون له ولمن يعولهم بيت صالح يأوون إليه بمتاعه وماعونه، وطعام طيب من أوسط ما يطعم الناس في غير أشر ولا بطر، وكسوة للصيف وأخرى للشتاء من أوسط ما يلبس الناس بلا زهو ولا خيلاء، وفضل نفقة للعيد يوسع بها على زوجه وعياله. ويصرف له ذلك من الزكاة ما وفت به، وإلا أخذ له ذلك من فضول أموال الأغنياء، فما الزكاة المفروضة إلا الحد الأدنى لما يؤخذ من مال الغني ليرد على الفقير وهذه تؤخذ في وقتها المعلوم من نصابها المعلوم ولو لم يوجد من يستحقها فتودع حينئذ في بيت المال. أما الفضول فتفرض عند الحاجة على قدر الحاجة.
وقال للثاني: إن لك من ريع الأرض التي تعمل فيها ما يكافئ عملك لو استأجرتها من المالك فعملت فيها لحسابك، ولمالكها القابع في داره من ريعها ما لا يزيد على أجرة مثلها لو أجرها لك أو لغيرك. فإن لم يف ذلك بنفقتك ونفقة عيالك كنت حينئذ مسكيناً فتعطيك الدولة قدر ما ينقصك حتى يكون عندك البيت الصالح والطعام الطيب وكسوة الصيف والشتاء ونفقة العيد.
وقال الثالث –وكان يعمل في إحدى معاصر الزيت: إن لك من ثمرة العمل ما يكافئ جهدك لو أن المعصرة كانت ملكاً لك، ولصاحبها ما يساوي أجر معصرته لو أجرها لغيره وله فوق ذلك ما يكافئ جهده في حسن التدبير لها والإشراف عليها على أن يحط من ذلك كله ما يستهلك من آلة العمل ويتلف، فإن لم يقم هذا بكفايتك وكفاية من تعولهم فلك على الدولة حق المسكين.
فاقتنعوا جميعاً بأن فيما أفتاهم به غاية العدل ولكنهم قالوا له: أين هذا يا أبا البقاء مما نحن فيه؟ فقال لهم: ذاك ما شرح الله صدر خليفتكم الجديد لإصلاحه من الفساد فانتظروا ولن يطول انتظاركم إن شاء الله.
وقام أبو البقاء من مجلسه وقد وقر في نفسه أن الأمر جد وأن القرامطة قد نفثوا سمومهم في الناس، وأن الناس معذورون في الاستجابة لهم، وأنه إذا كان هذا حالهم في قلب الدولة فكيف حالهم في أجزائها وأطرافها؟
واتصل بالخليفة المعتضد فقص عليه ما رأى وما سمع، وقال له: (إن الدين في خطر وأن الدولة في خطر، فإن كان لا يعنيك أن تحمي دين الله فاحم ملكك وملك آبائك).
فابتسم المعتضد وقال له: (قد وعدتك يا أبا البقاء بأن أعمل بنصيحتك، وإني لعلى وعدي فأي شيء أغضبك مني؟).
- أعذرني يا أمير المؤمنين فطالماً عالجت الموفق رحمه الله وعالجني، وطالما وعدني فلم يصنع شيئاً.
- لا حق لك أن تؤاخذني بجريرة غيري فإني إنما توليت الخلافة منذ شهر، وأن ما تدعو إليه لأمر عظيم، ولا بد من استعداد طويل، وإلا فسد الأمر علينا وانقلب الخير شراً.
- صدق أمير المؤمنين، ولكني أقترح البدء في الاستعداد من اليوم.
- فأشر علي بما يجب أن نبدأ به.
- ليأمر أمير المؤمنين بإنشاء ديوان الزكاة، وديوان الفضول وديوان الفقراء والمساكين، وديوان الفلاحين، وديوان الصناعة والعمل، وأمير المؤمنين يعلم أني قد وضعت لكل من هؤلاء كتاباً ليسترشد به القائمون عليه.
- أجل لقد قرأت منها كتاب الفضول، فشهدت فيه فضلك وعلمك، وأشهد أن أبي رحمه الله كان يعجب به.
- غفر الله لأبي أحمد، كنت أنتظر منه التنفيذ لا الإعجاب.
- قد كان يرى صعوبة تنفيذه.
- بل كان يخشى ثورة الأغنياء. وكان الله أحق أن يخشاه.
- لا تنس يا أبا البقاء أن هؤلاء كانوا يجدون من العلماء من يفتيهم بأن ذلك ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله.
- أولئك قوم اتخذوا العلم حرفة وتجارة. وقد بينت في كتابي بطلان رأيهم.
- وكان مشغولاً بفتن الخارجين على الدولة.
- ما كان دعاة الفتنة لينجحوا لو أنه بسط العدل في رعيته وقد خالفني حتى في ديوان الزكاة  حيث لا مجال لاختلاف الرأي.
- ما قرأت كتابك في الزكاة، ولكن أذكر أنكما إنما اختلفتما بصدد إنشاء الديوان.
- نعم، كان يريد أن يضم ديوان الزكاة إلى بيت المال العام فأبيت إلا أن يكون مستقلاً يصرف منه على مستحقيها وحدهم، لا على المصالح العامة كلها، إن الله لا يرضى أن يصرف حق الفقير والمسكين في كنس الدروب وكري الترع، وإعاشة الشرطة حيث يفيد الأغنياء من ذلك أكثر مما يفيد الفقراء.
- لقد تذكرت الساعة حجته في ذلك رحمه الله: إن ذلك كان المعمول به في عهد الرسول وخلفائه.
- فأين عهدنا من ذلك العهد؟ لقد تغيرت الحال، وتشعبت أمور الدولة، واختلفت أنماط الحياة ووجوه المعيشة، وإنما أمرنا الله باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في جملته وروحه، وترك لنا الاجتهاد في تطبيقه وتدبير شئون الناس عليه بحسب ما يقتضيه الزمان والمكان.
- ما أرى إلا أنك على الحق، وما بي إلا أني ذكرت أبي رحمه الله ورجاحة عقله وحسن تدبيره، فعز علي أن لا يكون وفقه الله إلى العمل الأصلح.
رجع أبو البقاء منشرح الصدر لما وعد به المعتضد من تنفيذ مقترحاته وشيكاً. وكأنه  بالعدل وقد بسط ظله على جميع بلاد الدولة قاصيها ودانيها، فعاش رعاياها من المسلمين وغيرهم من مختلف الطوائف والملل في رخاء ويسر، لا يجوع فيها فقير ولا يعرى، ولا يظلم فيها عامل ولا فلاح، ولا تثور فيها فتنة، ولا يختل فيها أمن.
وانقطع عن الناس أياماً وهو يفكر في إنشاء تلك الدواوين وتأسيس قواعدها وطرائق ضبطها وإدارتها، واختيار القائمين عليها، وما عسى أن يلقى الخليفة عند إعلان تنفيذها من إنكار الأغنياء ومعارضتهم، وما يخشى في ذلك من فتنة، على أنه واثق بتأييد الله له، وهو يحمد الله على أن كان على الخلافة في ذلك الوقت رجل شجاع صلت العود، نهض بجلائل الأمور متمرس بسياسة الدولة، لا ينقصه عزم ولا حزم.
حتى جاء رسول الخليفة يوماً يستعجله للمثول بين يديه، فانطق إلى قصر الخلافة، وهو يتوقع أن يسمع نبأ خطيراً لا يدري أخير هو أم شر. فلما انتهى إلى مجلس الخليفة علم منه أن حرس القصر قد قبضوا على رجل في زي النساء، يحمل تحت ثيابه سلاحاً، قد تسلل إلى القصر من باب الحريم يريد اغتيال المعتضد، فلما سيق إلى دار العذاب حاول أن يحتسي سماً كان معه، فحالوا بينه وبين ذاك... وعذبوه ليقر، فأقر بأنه من القرامطة، وأنه كان يتصل بداعيتهم عبدان في دار أبي هاشم ابن صدقة الكاتب، وأن عبدان قد رحل بأهله من بغداد منذ نصف شهر بعد ما أوعز إليه باغتيال المعتضد في التاريخ المذكور.
وقبض على أبي هاشم ابن صدقة، وفتشت داره فلم يوجد فيها شي، وأنكر التهمة، وأقسم إنه لا يعرف عبدان ولا أحداً من القرامطة، وأن المجرم المقبوض عليه إنما الصق به التهمة نكاية به، لما عرف عنه من بغض القرامطة وعداوتهم، فأمر المعتضد بحبسه حتى يتبين أمره.
وكان المعتضد قد عزل الطائي عن ولاية الكوفة لكثرة ما ورد إليه من رسائل الهيصم وغيره من وجوه الكوفة، يضجون بالشكوى منه، ويتهمونه بموالاة القرامطة والتغاضي عن أعمالهم فعزله وولى مكانه كرامة بن مر.
واتفق هذا الوالي الجديد مع الهيصم، فأخذ يعنف بالقرامطة، ويطارد دعاتهم. ثم قبض على جماعة من زعمائهم فوجههم في السلاسل إلى المعتضد ليرى رأيه فيهم، فوردوا إلى بغداد بعد يومين من حبس أبي هاشم، فأمر المعتضد بهم فعذبوا حتى أقروا بأسرار كثيرة منها أن أبا هاشم كان من دعاتهم القدماء، وأنه كان يكاتب حمدان قرمط، وكان أحدهم يحمل الرسائل بينهما، فأسقط في يد أبي هاشم، ولكنه أصر على الإنكار، ورمى هؤلاء الشهود بمثل ما رمى الشاهد الأول، فعذبوه فاحتمل العذاب دون أن يعترف، فجيء بزوجته، فلما رأت ما يلقاه من العذاب، أقرت عنه واعترفت بأن عبدان القرمطي كان نازلاً مع أهله في دارهم، فكذب قول زوجته وقال: إنما قالت ذلك شفقة عليه، فصرفوها إلى منزلها وأستأنفوا تعذيبه حتى خشوا أن يموت دون أن يبوح بسره، فقيل لهم: استقوا مخدراً، فلما سقوه المخدر طفق يهذي بكلام كثير مختلط بعضه ببعض. ويذكر أسماء جماعة من كتاب بغداد ورؤسائها.
وقد أمر المعتضد بتدوين ذلك كله، فدونوه ثم أمر بأولئك الذين هذى أبو هاشم بأسمائهم، فقبض عليهم وفتشت دورهم فكان مما وجد فيها، كتاب الرحى والدولاب، وكتاب الحدود والإسناد، وكتاب النيران، وكتاب الملاحم، وكتاب المقصد وكلها من تأليف عبدان القرمطي.
فلما حملت إلى المعتضد أشار بعض من حضر من الفقهاء بإحراقها، فخالفهم المعتضد وأمر بتسليمها إلى أبي البقاء.
وكان من الأسماء التي ذكر أبو هشام اسم عزرا بن صمويل كبير تجار اليهود في العاصمة، فحار المعتضد في أمره وعجب كيف يتواطأ مثل هذا الجماع للمال مع هؤلاء الذين يرون المال مشاعاً بين الناس لا حق لأحد أن يجمع منه شيئاً، فاهتم به خاصة وأمر بأن يحضروه ويترفقوا به رعاية لما بينه وبين أبيه الموفق من قديم الصلة وطويل المعاملة.
فأقبلوا به شيخاً في نحو الثمانين من عمره. أصلع، مجعد الوجه، متقوس الظهر، تنبئ عروق يديه الغليظة الناتئة عن فضل قوة ومتانة، وقد ارتدى جبة من الحبرة سوداء، عليها خطوط حمر عراض أضفت عليه رواء وهيبة.
فأحس المعتضد استقباله، وأجلسه قريباً منه، ثم قال له: (ماذا خلطك يا عزرا بهؤلاء القوم؟).
فقال عزرا: (لولا مقام أمير المؤمنين، لكنت أحق بسؤاله: فيم قبضوا علي فروعوا أهلي وساقوني إليه كأنني مجرم، وأنا صنيعة أبيك ولي عهد المسلمين، وصنعيتك من بعده؟).
- إنك متهم بموالاة القرامطة، فإن استطعت أن تبين لنا حقيقة اتصالك بأبي هاشم ابن صدقة بما يبرئ ساحتك أطلقنا سراحك.
- ليس بيني وبينه إلا ما كان بيني وبين الناس من المعاملة.
- أما كنت تعلم إنه من دعاة القرامطة؟
- أن لي علم ذلك يا أمير المؤمنين؟.
- فقد أقر لنا أنه كان يجيئك مع الكرماني ويبعثه الكرماني إليك.
- ما عرفت حقيقة الكرماني وخيانته للدولة في عهد أبيك إلا بعد ما انكشف أمره للناس جميعاً فهرب. وما أنا إلا تاجر أعامل الناس جميعاً، ولا أسألهم عن مذاهبهم.
- ففيم عاملت أبا هاشم بعد ذلك وتسترت عليه؟
- كنت أحسب أن ما بينه وبين الكرماني لا يعدو حد التجارة والمعاملة.
- فقد كنت تعطيه المال لينفقه على دعوته الخبيثة، وكان يحيلك على القداحيين بسلمية، كما كان يفعل الكرماني معك من قبل، وقد علمت أن هؤلاء أعداؤنا.
- ليس علي أن اسأل من يأخذ المال مني فيم ينفقه، ولا أن أسأل عن القداحيين المحال عليهم ما مذهبهم ما أدوا المال لوكلائي هناك، وما أنا يا أمير المؤمنين إلا يهودي من أهل الذمة قد شمله عدل الإٍسلام، فعاش واغتنى في ظله، فما ينبغي لمثلي أن يدخل نفسه فيما بين طوائف المسلمين من خلافات وعصبيات.
- ليس هذا من ذاك ويلك، فهؤلاء جماعة يأتمرون بالدولة التي شملك عدلها، فاغتنيت في ظلها، فمن والاهم أو تستر عليهم فقد خان الدولة.
- ما كنت اعلم أنهم يأتمرون بالدولة.
- فنظر إليه المعتضد ملياً ثم قال له: (اعلم يا عزراء أن عندنا جميع أوراقك ودفاترك، وسنكلف رجالاً ينظرون فيها ويدرسونها، فإن شئت أن يشملك عفونا، فاسبقهم وأفض إلينا بسرك).
فاضطرب الشيخ اليهودي اضطراباً شديداً، وارتج عليه هنيهة ثم قال وهو يبكي: (لا تدعهم يفعلون ذلك يا أمير المؤمنين فإن فيها أسرار الناس، وسأعترف بذنبي لأمير المؤمنين).
- هات فقل.
- هل يعدني أمير المؤمنين بعفوه؟
- نعم إن قلت الصدق؟
- فإني كنت أعرف الكرماني وخيانته للدولة وأعرف عمل أبي هاشم معه ومع القرامطة من بعده، وصلة القرامطة بالقداحيين، وأنهم جميعاً أعداء للدولة، وأعلم أن لا حق لي في معاملتهم والتستر عليهم، ولكن دفعني إلى ذلك ما ورثته عن آبائي من حب المال والحرص عليه، فذلك ذنبي قد اعترفت به وهذا سري قد كشفته بين يديك، وإني بعد لعبد أمير المؤمنين وصنيعة أبيه فهب لي ذنبي وارحم شيخوختي.
- أليس عندك غير هذا؟
- كفى بهذا ذنباً يا أمير المؤمنين ليس أعظم منه إلا عفوك.
فأمر به المعتضد فأعادوه إلى حبسه وأوصاهم بإحسان معاملته، وقد رابه من الشيخ اليهودي فزعته من الإطلاع على دفاتره وأوراقه، فقدحت في ذهنه فكرة عزم على تنفيذها، وكتم أمرها عن الناس جميعاً، وهي أن يبرد إلى عماله بالآفاق بأن يفاجئوا وكلاء عزرا في نواحيهم، فيفتشوا دورهم وحوانيتهم ويجمعوا كل ما لديهم من الدفاتر والأوراق فيرسلوه إليه. ولكنه لم يلبث أن أضاف إلى ذلك أمره للعمال بأخذ أموال أولئك الوكلاء وحبسها عندهم. وذلك أنهم لما رفع الرجال إليه ما وجدوه في دفاتر عزرا وأوراقه من الوثائق الهامة انكشفت له أسرار خطيرة تتصل بسلامة الدولة بعضها حديث وبعضها قديم من عهد المعتصم، فأمر بترتيبها وحفظها، وتوقع أن يجد في أوراق وكلاء عزرا ودفاترهم ما يزيد الأمر وضوحاً، ولكنه لم يصبر على انتظارها حتى تجيء فأمر بإحضار الشيخ اليهودي بين يديه ثانية.
قال له الخليفة: (ماذا ترى في صاحب الزنج؟).
قال عزار وهو يرتعد خوفاً: (ماذا أقول يا أمير المؤمنين في خارج شقي قد أهلكه الله بسيف أبيك وبسيفك؟).
- كنت تقدم للموفق ما احتاج إليه من المال لمحاربته.
- أجل يا أمير المؤمنين وقد عرف لي أبوك هذا الصنيع، ويخجلني أن أذكره تباهياً به أو مناً على الدولة التي أدي لها بالولاء.
- أفلم تجزك الدولة على ما قدمت؟
- بلى، قد أقطعني الخليفة أرض القاسميات من بطائح الكوفة، وما كانت تثمر لنا شيئاً، ولكنا أغرينا بها وجوه الأغنياء بتلك الناحية، فعمروها، فأصبحت تدر للدولة خراجاً كبيراً.
- فهذا فضل جديد لك!
- يخجلني يا أمير المؤمنين أن أتمدح به، فإنما أنا ربيب نعمتكم يا آل العباس، كما كان أبي كذلك في عهد جدك المعتصم.
- أفلا يخجلك إن كان وكيلك بالبصرة يمد طاغية الزنج بالمال ليحارب به الدولة؟
كاد عزرا يصعق لسماع هذه الكلمة، فطفق يتلون ويتلجلج، محاولاً أن يجد عذراً يتنصل به، فما أمهله المعتضد أن قال له: (لا تحاول الإنكار فهذا مثبت في دفاترك).
- كلا لا أكذبك يا أمير المؤمنين، ولكن الطاغية لعنه الله قد أكره وكيلي على تقديم المال له.
- ففي دفاترك أنه قدم للطاغية أول دفعة من المال في أول شعبان سنة 254 قبل أن يخرج الطاغية ويكون له أي سلطان.
- قد وقع خطأ في تاريخ ذلك يا أمير المؤمنين لا ريب، فإنا معشر اليهود لا نرمي أموالنا في الهواء، ولقد كان صاحب الزنج فقيراً صعلوكاً قبل خروجه على السلطان فكيف يعقل أننا نضع ما لنا إذاً في يديه؟.
- بل قدرتم له النجاح في حركته، فأمددتموه بالمال، وكتب لكم صكاً بأن يقطعكم سباخ البصرة عندما يتغلب على أعمال البصرة وكورها، فهل كان يكتب مثل هذا الصك لو أكرهكم على تقديم المال إليه؟.
- إنه كان خواناً غداراً يا أمير المؤمنين. وقد خدعنا بذلك الصك فلم يوف لنا بما كتب، وقد كنا نتوقع منه ذلك حينما أكرهنا على دفع المال.
- لا تراوغني يا عدو الله ولا تمارني في الحق، ألم يرضكم بأضعاف ما أخذه منكم لما استباح رجاله البصرة ونهبوا أموال أهلها؟.
- بل ألزمنا بأن نحفظ له تلك الأموال وديعة عندنا، ثم استردها بعد ذلك.
- كلا ما استردها منكم وإنما أمددتموه بأموال أخرى حين احتاج إليها لمحاربتنا في واسط وأعطاكم بها عروضاً وجواهر.
- أما يعلم أمير المؤمنين أن وكيلنا قد هرب من البصرة لما تمكن من ذلك حين اشتد به ضغط الطاغية وإلحاحه عليه بدفع المال؟ فكفى بهذا برهاناً على أن الزنج كانوا يكرهونه على ما لا يحب.
- كذبت يا عدو الله، إنه ما هرب إلا حينما انقطع رجاؤكم في الزنج بعد ما أطبقنا عليهم من كل مكان.
- حسبنا يا أمير المؤمنين أننا نجمع الأموال لننجد بها الدولة ساعة الحاجة، فليكن في ذلك ما يشفع لنا عند أمير المؤمنين ويخفف عنا سيئاتنا.
- ولتمدوا بها كل ذي فتنة يريد الخروج علينا في البلاد!
- كيف لي بإقناع أمير المؤمنين أن ما أمددنا به صاحب الزنج كان على كره منا؟
- بل صنعتم مثلها مع يعقوب الصفار لما أعلن علينا العصيان.
- لو كان الموفق حياً لشهد لأمير المؤمنين بأنني ما قصرت في إمداده بما شاء ليقضي على فتنته.
- ما كان أبي يعلم أنك أوعزت لوكيلك بخراسان فكان يمد يعقوب بالمال ليوقد به نار الفتنة، وإلا لنكبكم وصادر أموالكم ومن يدري لعله ما من فتنة اشتعلت في الدولة إلا كنتم أنتم الموقدين.
- كلا يا أمير المؤمنين لا يذهبن بك الغضب علينا إلى أبعد مما ارتكبنا من الذنب، وقد وعدتني بالعفو، ومن في الناس أصدق من أمير المؤمنين وعداً؟
- وعدتك بالعفو إن صدقتني فلم تفعل.
- لأصدقنك الساعة يا أمير المؤمنين! لأعترفن لك بما تشاء.
- الآن وقد شهدت عليك دفاترك وأوراقك؟
- فإني لأطمع بعد في العفو.
- فقل لنا واصدقنا لأقول: ماذا دفعكم إلى هذا الذي صنعتم كله؟.
- والله لأقولن الصدق وليفعل بي أمير المؤمنين ما يشاء. ما دفعنا إلى ذلك إلا الطمع في الربح وما توارثناه عن آبائنا من حب المال والتهالك على جمعه.
- كلا ليس هذا وحده بالذي دفعكم بل هو ما أشربتموه من العداوة للمسلمين والكيد لدينهم وخلافتهم.
- معاذ الله أن نبغض أهل ملة أنقذونا من اضطهاد النصارى وظلم الروم. إنما نبغض النصارى الذين يبغضوننا كما يبغضونكم.
- ولكن الله عز وجل يقول لنبيه في محكم كتابه: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للدين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون).
- ولكنهم مشركون ونحن على التوحيد مثلكم.
- فلقد أشرك آباؤكم بالله فعبدوا عجل السامري.
- هذا مصداق ما قلته آنفا يا أمير المؤمنين! كان ذلك العجل من ذهب، فإنما عبدوا الذهب لا العجل. لقد بلينا بحب الذهب فهو يعمي بصائرنا ويرودنا المهالك، وهو الذي عرضنا اليوم لسخط أمير المؤمنين.
وقهقه عزرا قهقهة متصنعة ثم قال: (جبلة فينا يا أمير المؤمنين أراد الله تغييرها فلم يستطع!).
- لا تسمعني كفرك، أخزاك الله! إن الله لقادر على كل شيء.
- وإن أمير المؤمنين لقادر على العفو.
فاطرق المعتضد قليلاً ثم قال له: (قل لي ويلك فاصدقني: هل ساعدتم الروم قط؟).
- الروم! معاذ الله يا أمير المؤمنين.
- ستأتيني دفاتر وكلائك وأوراقهم من الآفاق فإياك أن تكذبني.
فاضطرب عزرا قليلاً ثم تجلد وقال: (إما على دولة أمير المؤمنين فلا، ولكن على ابن طولون المتغلب على مصر).
- فقد شهدتم على أنفسكم بخيانة المسلمين.
- إنه عدو أبيك وعدو الدولة.
- ما أنت وذاك عليك اللعنة! إن ابن طولون أمير صالح منا، والروم أعداؤنا وأعداؤه، وإن من أعانهم عليه لخليق أن يعينهم علينا.
- كلا يا أمير المؤمنين ما كان ذلك منا قط.
- غداً سنرى.
***
وما لبثت الأنباء أن وردت تترى إلى دار الخلافة باشتداد حركة القرامطة في السواد، وأن حمدان قد ظهر لهم بعد احتجابه، وأن الفلاحين قد عادوا إلى الخمسين الصلاة والتشاغل بها عن تأدية أعمالهم. وجاءت رسائل والي الكوفة يعلن فيها تفاقم الحالة، ويستنجد بالخليفة ويستأمره فيما يفعل.
وكان أبو البقاء مشغولاً بكتب عبدان يقرؤها ويرد عليها بما يفند مزاعهما ويكشف شبهاتها. فاستدعاه الخليفة واستشاره في الأمر، فكان من رأى أبي البقاء أن يسعى كرامة ابن مر وأعوانه للقبض على زعيمهم حمدان وغيره من الدعاة والرؤساء إن استطاعوا، وأن يتركوا الفلاحين وشأنهم حتى يتم الإصلاح المنتظر فيثوبوا إلى رشدهم، فاستصوب المعتضد رأيه وأنفذه.
ثم أخذت دفاتر الوكلاء اليهود وأوراقهم التي طلبها المعتضد تصل إليه من الآفاق، حتى تمت عنده في خلال شهرين، وفحصوها فوجدت كلها مؤيدة لما في دفاتر عزرا وأوراقه وعثر بينها على رسالة صغيرة في حجم الوصية مكتوبة بالعبرية فجئ بمن يفك رموزها فتبين أنها سجل شركة خطيرة أسسها جماعة من كبار تجار اليهود بمدينة الموصل في أواخر عهد الخليفة المأمون، على أن تبقى قائمة طوال العصور يديرها أبناؤهم، وإذا لها دستور عجيب ينص على وجوب تشجيع الفتن في بلاد الدولة، وإمداد القائمين بها، والسعي لإثارة الحروب بين أمراء المسلمين، وبينهم وبين الروم، وتأريث نار الخلاف بين الطوائف والمذاهب والنحل، والإفادة من كل ذلك في تجميع الأموال وتكثير الأرباح لشركتهم. وظهر من الأوراق الملحقة بالسجل الأصلي أن والد عزرا كان رئيس الشركة في عهده، وأن رئيسها الآن يوشع بن موسى في (الطالقان) وهو الذي وجد السجل عنده، وأن هذه الجماعة كان لها يد في حركة بابك الخرمي وأثر في حركة الساميين والطاهريين وغيرهم، وأنهم اتصلوا بعبد الله بن ميمون القداح وشجعوه.
فهال المعتضد ما رأى. وما قضى العجب منه بعد ولا قطع فيه بأمر إذ جاء نبأ عظيم فشغله عن ذلك كله: أن حمدان قد أعلن العصيان، وأن القرامطة بالسواد قد قاموا قومة رجل واحد، وأن معهم من القوة الأسلحة ما لا يحصى كثرة، وأنهم هزموا جنود السلطان وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأنهم اتخذوا قاعدتهم في (مهيما باذ) حيث قامت دار هجرتهم الأولى من البطائح، وأن الفلاحين منهم حتى الذين يقيمون في ضواحي الكوفة وأرباضها أصبحوا لا يهابون السلطان، ويجاهرون بولائهم لحمدان، يترنمون بنشيد الثورة في أكواخهم وفي الطرقات:
نحن الداعون        لذي العظمة
من   مشرقها        حتى العتمة
الأرض   لنا        لا   للظلمة!
والويل   لهم        في الملتحمة!

No comments: