Monday, May 14, 2007

صدى النسيان - نجيب محفوظ

صدى النسيان

كانوا يحلفون باليوم الذي شهد مولده الجديد ، و السعة التي وقع فيها تغيره و انقلابة الحاسمان ، غادر عنبر بيته عند الأصيل و صار مزهوا فى عباءته السوداء مرسلاً من خطاه الثقيلة نذر الرهبة و الخوف . و فيما هو يمر أما كشك الحنفي العمومية توقف كأن مجهولا اعترضه أو صده .. أحنى رأسه دقيقتين ثم رفعها فطالع النسا بوجه جديد .. انحلت عقد من عينيه فحل محله هدؤ حائر .. و رح يقلب ناظريه فى الناس و الاشياء كأنه يبحث عن شىء أو لا يدرى شيئأً .. و تحرك فى الحارة تحركا عشوائيا فى هدؤ و ذهول لم ير معهما من قبل .
و كان الناس يحيونه فلا يرد ، و يلقون اليه أهازيج الملق فلا يتأثر . حدث شىء خطير و لا شك و لكن ما هو ؟
و تجمع الناس بعيدا عنه و هم على أشد حال من القلق و التوقع ، و جاء فيمن جاء اما الزاوية و شيخ الحارة .. و تساءل شيخ الحارة .
- ماذا يجرى فى حارتنا؟
فأجاب الامام :
1 أمر الله و لكل أمر حكمة .
فقالت أحد أعوان عنبر :
2 انه عفريت النسيان ، ان مس أحدا نسى الناس و نسى نفسه . تمنى الناس أن تصدق . و أن يذوب عنبر فى النسيان الى الأبد . و راقبوه بحذر و هو يهيم هادئا ذاهلا .. حتى صار هدوؤه مألوفا .. و انخفضت حرارة الخوف عامة . و اطمأن من كان يتوقع أذى . و تجول عنبر فى أنحاء الحي كلما حلا له ذلك .
3 و كثيرا ما ضل سبيله فيرجعه أحد أعوانه و هو لا يعرفه .. و ذاع فى كل مكان أن عنبر مسه عفريت النسيان ، وان شخصا جديدا طيبا حل فيه مكان الآخر . و اعتبر ذلك من عجائب النوادر كما عد منة لملك الوهاب . و عاد الى الحارة بعض الذين طردهم سخطه منها فى عهد بطشه ة قوته ، و حتى"المظية"التى هربت من شغبه و سؤ خلقه رجعت الى حارتها ، فرجع معها السرور و الطرب و ترددت من جديد الأنغام العذبةالتى طال حنين الناس اليها و رأى عنبر خصومه السابقين فلم يعرف أحدا منهم و حتى المظيه لم توقظ وعيه أ, تحرك ساكنة . ارتاحت الحارة جميعا الا أعوانه الذين تنكر لهم الزمان ، و جعل شيخ الحارة يحذرهم قائلا :
4 الزمان تغير و لن أسمح بأي انحراف .
و كانوا أضعف من أن بتحدوا أهل الحارة فتعلقت آمالهم بأن يعود صاحبهم الى وعيه فجاءة كما فقده فجاءة أو يقع ما ليس فى الحسبان .
و عقب صلاة الفجر قال امام الزاوية لشيخ الحارة .
- لأول مرة يتردد عنبر على الزاوية .
فتساءل شيخ الحارة بدهشة :
9 أهو ميل مفاجىء للهداية ؟
10 لعله !!
فقال الشيخ مشجعا :
11 املأ قلبه بالدين كيلا يجد فرغا للشر اذا استرد وعيه يوما .
12 و عرف أن المرأة التى أكتشفت داءه تسعى لدى أهل العلم بالنجوم و السحر و العفاريت ليشفوه من المس ، و أقلق ذلك الناس و طالبوها بأن تكف عن سعيها ن و أنذروها بالشر اذا لم ترجع ، و بدا أنهم يرفضون العودة للهوان مرة أخرى . و عاد الامام يقول لشيخ الحارة :
13 أتباع الرجل السابقون يتبعونه فى الهداية .
فقال الشيخ راضيا :
16 أخبار طيبة حقا !
17 لم يسمع عن شى مثل هذا منذ السلف الصالح
و بشر شيخ الحارة الناس بذلك فرحب بالأخبار من رحب ، و أعلن أناس بأنهم على تمام الاستعداد للدفاع عن أنفسهم ضد أى تسلط .
و لم يتغير مظهر عنبر فى جملته , و ذهب و جاء كرجل من عباد الله الطيبين . لم يؤذ أحدا بفعل أو قول حتى بنظرة و آمن كثيرون بأنه لن يعود الى أصله أبدا .. و ظل أناس على حذر يتشاورون ، ثم توارى عن أعين الناس هو و أعوانه فتره غير قصيرة حتى تضاربت الأقوال و ثارت الخواطر .


و فى يوم السوق وقف الامام يؤذن لصلاة الظهر فمضى الناس فى هدؤ نحو الزاوية و اذا برجل يصيح
- أنظروا
فاتجهت الأبصار الى حيث يشير .. فرأوا عنبر و رجاله قادمين ، تغير المنظر و تفصيلا . تقدمهم عنبر و تبعوه كالزمان الأول فى الجلابيب و العمائم قابضين على نبابيتهم . و ارتد وجه عنبر الى الصورة القديمة بالنظرة الصارمه و العقد البارزة و العضلات المشدودة . هل رجعنا الى أيام الطغيان و الاتاوات و السيطرة ؟
و ساد الصمت حتى لم يعد يسمع الا وقع أقدامهم الثقيلة . و عند الزاوية وقفوا و ضرب عنبر الأرض بنبوته و صاح بصوت كالرعد (( الله أكبر )) فردد الرجال وراءه فى هتاف يزلزل القلوب (( الله أكبر)) !!!

No comments: