Monday, May 14, 2007

الحب و الجنس و الاسلام - كامل النجار

الحب.. الجنس.. والإسلام

ومقالات أخرى



ـ د. كامل النجار



جدول المحتويات



جدول المحتويات 2
الحب.. الجنس.. والإسلام (1) 3
الحب.. الجنس.. والإسلام (2) 9
فتاوى ضد النساء 14
الارتداد ... هل هو حق من حقوق الإنسان ؟ 19
أما آن للفكر الإسلامي أن يتحرر؟ 24
الاعتقاد ليس ضرورة لإنسان اليوم 28
النقيضان لا يجتمعان: الدين والعقل 34
في طبيعة الأديان 38
أمثلة من المنطق الأعرج في الخطاب الديني 42
المسلمون والإسلام: كلاهما يُسفّه الحياة 48
هل نصلب البابا أم نصلب المنطق؟ 53
الحكومات العربية وكابوس حقوق الإنسان 58

الحب.. الجنس.. والإسلام (1)

بدأ الإنسان الأول حياته في مجموعات صغيرة لا تعدى العشرات من الرجال والنساء. ولم تكن هناك قوانين ولا أديان، فمارسوا الجنس دون قيود. ومع مرور الزمن ومعرفتهم أن قوتهم وقابليتهم للبقاء تعتمد على قوة مجموعاتهم وكثرة رجالها الذين يصدون الحيوانات المفترسة ويصطادون الطعام، فقد شجعت هذه المجموعات من البشر الاقتران بين النساء والرجال للتناسل لتعويض ما يموت من أفرادها. ولم تكن هناك ملكية فردية، كل شيء كان مشاعاً بما في ذلك الجنس. وكما قال الدكتور علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي إن مثل هذه المجتمعات لم تكن تعرف الآحادية، فهم يشبعون جماعةً إذا اصطادوا حيواناً ويجوعون جماعة إذا لم يصطادوا. وكذلك كان الجنس عندهم جماعياً مشاعاً.
وعندما اكتشف الإنسان الزراعة والاستقرار وكبرت المجتمعات، كان قد تعدى فترة عبادة الأسلاف في أغلب المجتمعات وتعرّف على المعابد التي بُنيت لإقامة الآلهة. وحتى في هذه الفترة كان كل شيء مشاعاً وخاصة الجنس. فقد عكفت بعض المجتمعات على وضع كمية من النساء والفتيات الجميلات ليخدمن المعابد ويقدمن الجنس لزوار المعبد وللمسافرين والغرباء وغيرهم. وقد قدسوا هؤلاء النساء اللاتي خدمن آلهة السماء. وإذا أنجبت إحداهن أصبح مولودها من أملاك المعبد وقام على تربيته كهنة المعبد من رجال ونساء. ورغم أن هذه المجتمعات اعتبرت أن المرأة نجسة في فترة حيضها وحرمّت الاتصال بها جنسياً، فهي لم تفصل بينها وبين الرجال. وفي مثل هذه المجتمعات نشأت الموسيقى وازدهر الغناء في مواسم الحج لتلك المعابد لتشجيع الآلهة على منحهم الخصوبة والإنجاب والمطر. وخلقوا أعياداً للحب كان لحمتها وسداها الموسيقى والطرب والرقص والجنس.
وقد استمرت أغلب المجتمعات على هذا المنوال من الحب والإنجاب دون قيود وكثر أفراد تلك المجتمعات التي لم تضع قيوداً على الحب. فمجتمعات شرق آسيا التي لم تعتنق الديانات السماوية المعروفة وطورت ديانتها الأرضية مثل الصين والهند واليابان وفيتنام ازداد عدد السكان فيها بشكل ملحوظ. أما مجتمعات الشرق الأوسط التي ظهرت فيها اليهودية في القرن الثاني قبل الميلاد، فقد قننت الاتصال بين المرأة والرجل وجعلت له عقوداً ملزمة وفصلت المرأة عن الرجل وجعلت المرأة ملكاً للرجل لا تعاشر سواه مدى حياتها وسنت عقوبة الرجم لمن تخالف القانون السماوي وترتكب جريمة الزنا. ولذلك ظلت حجم أتباع الديانة اليهودية صغيراً رغم أنها أقدم الديانات السماوية المدونة. وبما أن طبيعة الرجل والمرأة تجعل اللقاء بينهما يقود في أغلب الأحيان إلى ممارسة الجنس، فقد فرضت اليهودية على المرأة أن تتحجب في حضرة الرجال الغرباء وأن لا تغريهم بجسدها. وأعطت الزوج الحق إذا شك في أن زوجته لها علاقة مع رجل آخر أن يأخذها غصباً عنها إلى المعبد ليستجوبها الحاخام استجواباً دقيقاً ويهددها بالانتقام الإلهي أن هي كذبت عليه. ورغم أن الحاخام والزوج والجميع كان يعرف أن المرأة لن تعترف إن كانت لها علاقة برجل آخر لأن ذلك يعني قتلها، وأنها سوف تكذب سواء أأنتقم منها الإله أم لا، فقد اقنع الحاخام والزوج نفسيهما بأن نكرانها يعني براءتها. واستمرت الممارسات الجنسية ولكنها اتخذت شكل الخفاء بعد أن كانت معلنة للجميع ولا يستتر منها أحد. فكل ما فعلته اليهودية يمكن تلخيصه في أنها دفعت بالعلاقات الجنسية تحت الأرض وسنت لها قوانين صارمة لا تشجع المرأة أو الرجل على الاعتراف بالعلاقة. ولكن سيئ الحظ الذي يُضبط متلبساً بالجريمة أصبح عقابه رادعاً.
وعندما جاءت المسيحية التي مشت في خطى اليهودية، حاول المتزمتون رجم المومسات مع أن الدعارة كانت تقدم خدمة جليلة للمجتمع بإشباع رغبات الرجال الذين لا يستطيعون الزواج والمسافرين الذين تركوا أزواجهم خلفهم وبذلك منعت جرائم الاغتصاب وأتاحت للمومس دخلاً يتيح لها العيش، حتى وإن كان بلا كرامة. ويبدو أن السيد المسيح كان يعرف أن الإنسان مجبول على النفاق والكذب، فعندما حاولوا أن يرجموا مومساً قال لهم: (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر) وطبعاً لم يستطع أحد أن يرميها بحجر لأن أغلب الرجال الحاضرين كانوا يرفلون في الخطيئة السرية وقد اتخذوا تدابير تمنع اكتشافهم وتعرضهم إلى المحاسبة. وفي القرون الوسطى في أوربا عندما كانت المسيحية هي الحاكم عن طريق الكنيسة، وضعت الأخيرة قوانين صارمة فرضت على النساء زياً معيناً وجعلت العلاقات الجنسية قبل الزواج "تابو" يعاقب عليه المجتمع من يرتكبه، وقننت الزواج الأبدي ومنعت الطلاق، إلا أن طبيعة الإنسان وميله التلقائي إلى الجنس تغلب في النهاية على قوانين الكنيسة وأصبح الجنس الآن في أوربا وفي جميع الأقطار المسيحية، خاصة أمريكا اللاتينية، في شبه المشاع كما كان في المجتمعات البدائية. ولم تتضرر هذه المجتمعات من إباحة الجنس، بل بالعكس قد حررت عقول الرجال والنساء وجعلتهم يمنحون كل وقتهم أثناء العمل إلى التفكير في زيادة الإنتاج وكسب الخبرة، بدل التفكير المستمر في الجنس. وازداد عدد السكان في أوربا زيادةً عظيمة في السنوات الأخيرة بعد أن كسر الناس قيود الكنيسة على الجنس ومارسوا الحب والإنجاب بحرية كاملة.
وجاء الإسلام وكان متسامحاً مع الحب والجنس حتى في أيام المدينة عندما كان الرجال يأتون النبي يشتكون من أنهم وجدوا رجالاً مع أزواجهم. وكل ما فعله النبي كان أن أتى بآيات الملاعنة التي ترغم الزوج الذي يرمي زوجته بتهمة الزنا ولا يملك أربعة شهود أن يحلف هو وتحلف زوجته خمسة مرات أنه كاذب. ورغم أنه بالضرورة لا بد أن يكون أحدهما كاذباً، فلم يُشرّع النبي لهم عقاباً إنما اكتفي بالتفريق بينهما، أي الطلاق. والرجل يستطيع بكل الأحوال أن يطلقها دون أن يحلف خمسة مرات. فلا عقاب هنا على المدعي ولا المدعى عليه. ولكن تحت إصرار عمر بن الخطاب أتى النبي بالحجاب وأمر النساء أن يقرن في بيوتهن ولا يبرحنها إلا بإذن أزواجهن وجعل المرأة الخادمة المطيعة لزوجها، وقال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.) ثم أباح ملك اليمين وأصبحت المرأة سلعة تباع في سوق النخاسة. وعندما جاء العصر العباسي استغل الخلفاء ملك اليمين أسوأ استغلال فاقتنوا الجواري بالمئات. ذكر الأصفهاني أنه كان للرشيد زهاء ألفي جارية. وعن المسعودي، كان للمتوكل أربعة آلاف جارية. وفعل الفاطميون في مصر نفس الشيء وكذلك ملوك الأندلس. ولم ينحصر ملك الجواري في قصور الملوك والأمراء، بل تعداهم إلى منازل الخاصة وأرباب اليسار من تجار ومالكين وعلماء، ومن يليهم من طبقات الشعب (أمراء الشعر العربي في العصر العباسي،أنيس المقدسي، ص 54). وكانت أثمان الجواري تختلف من عشرات الدنانير إلى الألوف. وكان الأمراء يتهادون الجواري، فقد أهدى طاهر إلى المتوكل هدية بها مائتي وصيفة ووصيف. بل كانت المرأة أحياناً تهدي زوجها بعض الجواري كما فعلت زبيدة مع الرشيد. وانتشر الغناء والنبيذ بين الطبقات العليا من المجتمع. وبلغ التحرر الجنسي أعلى مستواه في الدولة الإسلامية لدرجة أن ولادة بنت المستكفي، أخت الخليفة الأندلسي، كانت تقول:
أمكّن عاشقي من صحن خدي **** وأعطي قبلتي من يشتهيها
وانتشر شعر الغزل والموشحات وقصص الحب، وصرف الناس طاقاتهم في الأندلس للعلم والبناء بدل التفكير في الجنس الممنوع. ثم تحرك مارد الصحوة الدينية في أشخاص الأئمة ومن أتى بعدهم فحرّموا الغناء والموسيقي وجعلوا الحجاب واجباً على كل النساء وحجزوهن بالبيوت وبالقصور وأصدر السلطان العثماني فرماناً يأمر بحمل المرأة التي تخرج إلى الشارع بدون حجاب على حمار ويُطاف بها في شوارع اسطتنبول للتشهير بها، بعد أن يقصوا شعرها. وازداد فصل النساء عن الرجال مما أدى إلى انتشار عادة مصاحبة الغلمان في الدولة العثمانية وفي مستعمراتها مثل العراق ومصر.
والغريب أن الشيوخ قد رووا حديثاً عن النبي يقول: (تناكحوا تناسلوا فإني مباهي بكم الأمم يوم القيامة). ومع ذلك ضيقوا الخناق على النساء والرجال ومنعوا الاتصال بينهم وانكبوا على تأليف الكتب التي تقنن كل شيء للمرأة حتى فترة حيضها واستحاضتها وطهورها ونجاستها ومتى يحل لها أن تجامع زوجها، وهل يجوز لها أن تمص لسانه أو عضوه التناسلي، وما إلى ذلك. والنتيجة الحتمية لهذا الهوس الجنسي كانت ازدياد اللواط في المجتمعات المسلمة مع ازدياد أعداد العوانس، وانغماس النساء في السحاق لإشباع الغريزة الجنسية التي لا يستطيع الإنسان السيطرة عليها. وهاهي دول الخليج الآن تعاني أشد المعناة من ظاهرة العنوسة بين فتياتها بينما يسافر شبابها ورجالها إلى جنوب شرق آسيا وأوربا لممارسة الجنس والحب.
وبزوال الدولة العثمانية واقتسام فرنسا وإنكلترا البلاد العربية، تحررت بعض البلاد العربية مثل مصر والسودان ولبنان وسوريا وبلاد المغرب من تحكم رجالات الدين وأصبحت للنساء حرية الخروج والتعليم والعمل واختيار ما يحلو لهن من ملابس ومستلزمات تجميل. واختلط الشباب في الجامعات وانتشرت دور السينما والأندية الليلية. وأصبح الشرق يتخلى عن الثيولوجية ويسير نحو العلمانية والتقدم التكنولوجي بعد أن تحررت عقولهم من التفكير في كيفية الحصول على الجنس وإضاعة الوقت بالتفكير فيه. ولكن لعنة البترودولار حلت بالبلاد العربية، وفي ظرف وجيز بعد استقلال تلك البلاد بدأت الصحوة الدينية الثانية التي دعمتها الدول الخليجية بدولاراتها. وكالمتوقع فإن رجال الدين كانوا المستفيدين الوحيدين من هذه الصحوة التي ملأت جيوبهم ذهباً وفتحت لهم القنوات الفضائية ليحرضوا العامة ضد المرأة التي تخلت عن الموضة والتفت بالعباءة وانفصلت عن زملائها الرجال في مجال العمل والدرس. وبمساعدة القنوات الفضائية ودور الفتوى استطاعوا أن يغسلوا عقل المرأة حتى أنها صارت تطالب بأن تُسجن في دارها وتُحرم من المكاسب التي اكتسبتها بكفاحها قبل ظهور الصحوة الإسلامية. فأصبحت النساء في البرلمانات العربية يطالبن بتطبيق الشريعة في اللبس والإرث والطلاق، أكثر مما يطالب بها الرجال، ويطالبن بإلغاء مواد دستورية تبيح للنساء المساواة بالرجل، كما حدث في البرلمان العراقي. والشخص مغسول الذهن لا يختلف عن المريض الذي يُحبس في مصحة عقلية عالية الجدران كل حياته فتصبح المصحة بالنسبة له هي العالم الطبيعي. فإذا أرادوا إخراجه من المصحة يرفض ذلك لخوفه من العالم المجهول خارج أسوار المصحة، كما في الفيلم One Flew Over the Cuckoo’s Nest.
ورجال الدين الذين أصبح شغلهم الشاغل فصل الرجال عن النساء يعلمون علم اليقين أنهم يخلقون مجتمعاتٍ منافقة، كنفاقهم. ولأن جل وقت رجالات الدين يذهب سداً في حديث وكتابات عن الجنس والعورة والعفة وهم يعلمون أن عفتهم التي يدعون لها ما هي إلا عفة بالاسم وفي مخيلتهم فقط. وبعد أن راءوا ما حدث في مجتمعات الخليج من ازدياد حالات الأمراض النفسية والإدمان والعجز الجنسي الذي يطال 34 بالمائة من الرجال السعوديين (سالمة الموشي، إيلاف 9 يناير 2005)، حاولوا الآن إباحة الجنس بطرق ملتوية مثل زواج المسيار وزواج الفرند الذي لا يختلف عن ما يفعله الغربيون من علاقة جنسية بين الرجل وصديقته، وقد ظل رجال الدين المسلمون يتهمون الغرب بالفساد الأخلاقي بسبب هذه العلاقات التي تبنوها هم أنفسهم الآن، بينما البلاد الغربية تفوق بلاد المسلمين في الأخلاق واحترام الإنسان وحقوقه واحترام الغير في كل المجالات. وعقول بعض رجالات الدين عبارة عن كهوف تسكنها شياطين الجنس، فلا يفكرون ولا يتحدثون إلا بما يمت إلى المرأة والجنس. ويبررون اغتصاب الأطفال بحوادث تاريخية حدثت في القرن السابع الميلادي، وما زالوا يدافعون عن زواج البنات في سن التاسعة. وقد أفتى الإمام الخميني بحلة مفاخذة الطفلة الرضيعة، وفعل كل شيء معها إلا الإيلاج. وهذه الأفعال تُعتبر جريمة نكراء في المجتمعات الغربية التي يرمونها بالفساد.
وكنتيجة حتمية لنفاق رجالات الدين فقد أصبحت بلاد الإسلام عبارة عن بؤر فساد يحاولون جاهدين أن يخفوها عن أعين الناس رغم أن رائحتها قد عمت جميع أنحاء العالم. فإذا أخذنا مثلاً إيران نجد أن الدعارة فيها بلغت أرقاماً قياسية رغم تغطية النساء بالشادور ورغم رجم بعض البنات الصغيرات اللاتي غرر بهن رجال في عمر آبائهن، كما حدث في إيران مؤخراً عندما شنقوا بنت عمرها ست عشرة سنة كان قد غرر بها سائق تاكسي في عمر أبيها. ونسبة لانتشار هذه الظاهرة، أخرج رجل الدين المحافظ مسعود دهناماكي فيلماً عن الدعارة في إيران. ويتعرض دهناماكي الى انتقادات من المحافظين والإصلاحيين لإخراجه الفيلم. فقد اشتاط المحافظون غضبا شديدا، ليس لأن واحدا منهم سلط الأضواء على مرض اجتماعي، وانما لكونه بدا متعاطفا مع المومسات. ويعتقد الإصلاحيون انه تعمد المبالغة في تصوير حجم المشكلة (نازيلا فتحي، الشرق الأوسط 27 نوفمبر 2005).
ويتجاهل الملالي ما يحدث من علاقات جنسية بين الشباب في المدن الإيرانية الساحلية حول بحر غزوين لأنهم لن يستطيعوا منعها. وكم من رجل دين استغل زواج المتعة ليروي ظمأه الجنسي من فتيات صغيرات معدمات. فلماذا يمارسون البغاء ويمنعون الشباب من الاختلاط؟
وكالعادة يدفن الملالي رؤوسهم في الرمال لتفادي رؤية المشاكل الجنسية التي تسببوا في خلقها بقوانينهم الجائرة، فقد أصدرت السلطات القضائية الإيرانية، قرارا بمنع صحافية إيرانية من العمل لمدة خمس سنوات، بعد نشر مقال لها حول الايدز يدعو الى معالجته في العلن، بدلا من التخفي والتستر عليه. وقال محامي الصحافية لوكالة أنباء «ايسنا» الطلابية، إن موكلته وتدعى الهام افروتان، منعت من العمل كصحافية، ومن ممارسة حقوقها الاجتماعية لخمس سنوات، بسبب مقالها في أسبوعية «تمادون ـ اي هرمزغان»، بعنوان «لنجعل موضوع الإيدز علنيا»، موضحا أن موكلته وهي في أوائل العشرينات من العمر، اتهمت بـ«نشر الرذيلة» بسبب المقال (الشرق الأوسط، 5 يوليو 2006). فهذه الصحافية تنشر الرذيلة بمطالبتها السلطات بأخذ موضوع الأيدز مأخذ الجد، واللذين يبيحون مفاخذة الأطفال ينشرون الفضيلة الوهمية.
وفي بلد كالعراق تمزقه الحرب الأهلية بين السنة والشيعة باسم الله والإسلام، أصبح اختطاف البنات واغتصابهن وحتى بيعهن في أسواق الدعارة بدول الخليج أمراً مسلماً به حتى أن النساء لم يعدن يخرجن من منازلهن. ويقوم بهذه الأعمال الملتحون الذين تسلحوا للدفاع عن الإسلام والفضيلة. ويحدثنا رجالات الدين بالبصرة عن فرض الحجاب بالقوة على النساء حتى غير المسلمات من مسيحيات وصابئيات وغيره، للحفاظ على العفة، وجامعات العراق أصبحت لا تخفي الزواج العرفي الذي أصبح موضة بين الطلبة والطالبات، رغم فرض الحجاب عليهن.
أما الدعارة فلا يخلو منها بلد مسلم، عربي أو أعجمي، خاصة دول الخليج التي أصبحت من أكبر مراكز الدعارة في الشرق الأوسط وأصبحت تجلب المومسات من المغرب والعراق والجزائر ومصر ولبنان ودول الاتحاد السوفيتي السابقة، وحتى من روسيا. والبنات العربيات في أوربا يمارسن الدعارة في كل المدن الأوربية، خاصة في هولندا حيث يعملن في حوانيت الجنس المعروفة ب "المنطقة الحمراء" Red District. وتكفي زيارة واحدة إلى بيكادلي بارك في لندن لنرى كمية النساء العربيات اللاتي يبيعن الهوى.
وفي فرنسا، إضافة إلى الدعارة نجد الفتيات المسلمات اللاتي أصبحن يمارسن الجنس مع أصدقائهن قبل الزواج، يلجأن إلى الجراحين لترقيع غشاء البكارة الذي يبني عليه رجال الدين مفهومهم للعفة. فقد أجرى الجراح الفرنسي برنارد بانيال خلال العامين الماضيين فقط 200 عملية جراحية لفتيات مسلمات وكاثوليكيات ويهوديات، ولكن الأغلبية من هذه المجموعة من الجالية العربية. ويضيف بانيال: "أعرف الكثير من الجزائريات والتونسيات اللواتي يجرين هذه العمليات الجراحية في تونس لأنها قريبة وبسبب المشكل المادي، غير أنني أسعى بدوري لإجراء العمليات هنا في فرنسا لأني لمست عندما درست في جامعة عنابة في الجزائر أن معظم الطالبات تسألنني عن كيفية إجراء عملية خياطة غشاء البكارة" (شفاف الشرق الأوسط، 9 يناير 2006). وهناك من يجري هذه العمليات في مصر والسودان واليمن. وهناك مواقع على شبكة الانترنت الآن تعلن عن ترقيع غشاء البكارة بدون جراحة، في دبي ولها وكلاء في جميع الدول العربية.
ومع كل هذه الحقائق الدامغة في المجتمعات المسلمة يصر الملالي ورجالات الدين على الحديث عن العفة والشرف ويبالغون في فصل النساء عن الرجال كما يفعل خمسة آلاف ملتحي ينتمون إلى جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية. ولكنهم يبيحون لأنفسهم كل أنواع الجنس. فكم من شيخ ملتحي ومتعمم ضاجع امرأة لا تحل له في غرفتة بالفندق عندما كان في إحدى المؤتمرات في أوربا أو أحد عواصم الدول العربية. وكم مؤذن ومطوع ضاجع صبياً صغيراً قبل صلاة الجمعة عندما يهش بعصاه ليدفع الرجال إلى المسجد ويندفع هو إلى غرفة خاصة بالسوق.
فبدل أن يضيعوا مجهوداتهم في محاولة يائسة لفرض العفة على الطلبة والطالبات، بفصلهم عن بعض في الجامعات العربية في مصر والأردن والبحرين والسعودية وغيرها، لماذا لا يركزون مجهوداتهم في تنقية دينهم من الشوائب التي تكاد أن تقضي عليه، ويجعلونه ديناً يسراً لا يرهق المسلمين وديناً بين العبد وربه ولا دخل للدولة فيه ولا مكان لبوليس الآداب الذين يحاولون فرض المستحيل الذي يعارض طبيعة الإنسان والحيوان؟

الحب.. الجنس.. والإسلام (2)

الجنس هو أحد الغرائز التي ورثها الإنسان من أسلافه في الغابة. وبما أنه غريزة فإن الإثارة والرغبة في ممارسة الجنس تحدث تلقائياً ومن الصعب التحكم فيها. وإذا لم يشبع الرجل رغبته الجنسية ويفرغ الأكياس التي تخزّن السائل المنوي، فإنه في الغالب يحتلم ويفرغها ليجدد السائل المنوي الذي يمنح الحياة، في تلك الأكياس حتى تكون الحيوانات المنوية في أحسن حالاتها لإخصاب البويضة عندما تحين الفرصة المناسبة، لأن التخزين يُفقد الحيوانات المنوية فعاليتها وقوة حركتها. وبالإضافة إلى المحافظة على النوع من الانقراص فإن للجنس فوائدَ جسدية عديدة وكذلك نفسية، منها أن ممارسة الجنس تزيد من إفراز هورمون الاستروجين الذي يساعد على المحافظة على بشرة المرأة ونضارتها. والجنس علاج للاكتئاب لأنه يزيد من إفراز مادة الاندورفين في الدماغ وهذا الهورمون يزيد من الشعور بالبهجة وهو كذلك من أكثر المهدئات سلامة ومن أفضل المنومات للرجال. فلماذا يا تُرى يشدد شيوخ الدين الإسلامي على فصل النساء من الرجال ومنع كل ما يمكن أن يؤدي إلى علاقة حب تتوجها العلاقة الجنسية؟ فالحب أجمل شعور عرفه الإنسان، وعبر عنه الشاعر نزار قباني أحسن تعبير حينما قال:
الحبُ في الإرض بعضٌ من تصورنا **** إن لم نجده عليها لاخترعناه
وقال إيليا أبو ماضي عن حب الإنسان وحب الحياة وحب الطبيعة:
والذي نفسه بغير جمالٍ لا **** يرى في الوجود شيئاً جميلا
يرى الشوكَ في الورود ويعمى **** أن يرى فوقها الندى إكليلا
فتمتع بالصبح ما دمت فيه **** لا تخف أن يزولَ حتى يزولا
ويبدو أن رجالات الدين أغلبهم بغير جمال، فلا يرون في الوجود شيئاً جميلا خلاف بنات الحور اللاتي ينتظرنهم في الجنة. ولذلك هم لا يرون الورود بل يرون الشوك الذي سوف يفتك بفضيلة المرأة المسلمة. ولذلك حرموها من الحب. فكم من فتاة مسلمة عرفت الحب وسمت بروحها إلى طبقات الأثير.
ولا بد أن خوف رجالات الدين من تحرر المرأة المسلمة هو الذي يدفعهم لمثل هذا السلوك ليثبتوا لأنفسهم وللنساء أن الرجال قوامون على النساء لأنهم أقوى وأذكى منهن. بينما تثبت الدراسات الحديثة أن المرأة لا تقل ذكاءً عن الرجل إن لم تبزه. بل هي أخصب منه خيالاً وأكثر لباقةً وأصبر على الشدائد منه. ولكنه خوف رجال الدين من تحرر المرأة لأنه سوف يُثبت خطأ كل أحكامهم عن المرأة. وقد صدق سلمان رشدي حينما قال "كابوس رجال الدين الإسلامي هو تحرر المرأة جنسياً". فالمرأة المتحررة جنسياً لن تقبل أن يتزوجها شيخ ناهز السبعين وهي بعد طفلة لم تتعد عامها السادس عشر. والمرأة المتحررة جنسياً لن تقبل أن تظل في علاقة زوجية أو غير زوجية مع رجل يكاد يكون عنيناً. وحتى تظل المرأة سجينة جدران الفقه الإسلامي برع الفقهاء في مناقشة كل ما جادت به قرائحهم عن الجنس، حتى وإن كان مستحيلاً. وإليكم بعض أنواع الفقه الجنسي الذي شغل كبار الفقهاء عقوداً من الزمن.
في موجبات الغسل، يقولون: (التقاء الْخِتانين مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ بِالاتفاق, لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: { إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأرْبَعِ, ثم جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ } وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: { وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ }, وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: { إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعبها الأربع, وَمَسَّ الختان الختانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ }, وَالْتِقَاءُ الْختانين يحصل بتغييب الْحَشَفَةِ فِي الْفَرَجِ, ذَلِكَ أَنَّ ختان الرجل هو الجلد الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الختان, وختان المرأةِ جِلدةٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ الْفَرَجِ، فَيقطع مِنْهَا فِي الْخِتَانِ, فَإِذَا غَابَتْ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرَجِ حاذى ختانه ختانها, وإذا تحاذيا فقد التقيا, وَلَيْسَ الْمُرَادُ بالتقاء الختانين الْتِصَاقَهُمَا وَضَمَّ أَحَدِهِمَا إلَى الأخَرِ, فَإِنَّهُ لَوْ وَضَعَ مَوْضِعَ خِتانه عَلَى مَوْضِعِ خِتَانِهَا وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي مَدْخَلِ الذَّكَرِ لَمْ يَجِبْ الْغُسْلُ, وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْحَشَفَةُ رَأْسُ الذَّكَرِ.وَلا بُدَّ لإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ بِكَمَالِهَا فِي الْفَرْجِ, فَإِنْ غَيَّبَ بَعْضَهَا فَلا غُسْلَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ تُخْلَقْ لَهُ حَشَفَةٌ فَيعتبر قَدْرُهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: إذَا قُطِعَ بَعْضُ الذَّكَرِ, فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الأحْكَامِ, وَإِنْ كَانَ قَدْرَهَا فَقَطْ تَعَلقت الأحكام بِتَغييبه كله دُونَ بَعْضِهِ, وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَشَفَةِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَعْضِهِ, وَلا يَتَعَلَّقُ إلا بِتَغْيِيبِ جَمِيعِ الْبَاقِي (الموسوعة الفقهية الكويتية، باب الغسل).
ورغم وصف الفقهاء لأخص خصوصيات المرأة فقد كانوا يجهلون ما يحكون عنه. فالجلدة التي يقولون عنها أنها مثل عرف الديك، هي البظر الذي في أعلى فتحة المهبل. وإذا كانت المرأة مستلقية على ظهرها فإن البظر يكون شبه عموديٍ ويتجه إلى الأسفل، وذكر الرجل بالفرج يكون أفقياً بموازة الفراش. فلا التقاء بين الختانين ولا موازاة كما يقولون. وفي الوضع الطبيعي للجنس فإن الذكر لا يمس البظر إطلاقاً. ولا بد أن خيالهم كان واسعاً فيما يتعلق بالجنس فتخيلوا أن الرجل مقطوع الحشفة يمارس الجنس. وطبعاً الرجل مقطوع الحشفة لا حاجة له بالجماع إذ أنه لن يشعر بشيء من اللذة. ثم حتى لو حاول الجماع فكيف يقيس مقدار الحشفة حتى يعرف إذا كان قد وجب عليه الغسل. هل يُركّز على الجماع أم يُركّز انتباهه على كم من القضيب مقطوع الرأس قد دخل الفرج؟ ويقول النووي إذا قُطع الذكر وما تبقى منه أقل من حجم الحشفة فلا تتعلق أحكام الغسل بهذا الرجل. وهل يستطيع رجل بقي له من ذكره أقل من حجم الحشفة أن يباشر الجماع؟
أما الإمام الشافعي فيقول: ( وإذا غيب الرجل ذكره في فرج امرأة متلذذا أو غير متلذذ، ومتحركا بها أو مستكرها لذكره، أو أدخلت هي فرجه في فرجها وهو يعلم أو هو نائم لا يعلم أوجب عليه وعليها الغسل. وكذلك كل فرج أو دبر أو غيره من امرأة أو بهيمة وجب عليه الغسل إذا غيب الحشفة فيه مع معصية الله تعالى في إتيان ذلك من غير امرأته وهو محرم عليه إتيان امرأته في دبرها عندنا وكذلك لو غيبه في امرأته وهي ميتة ) (كتاب الأم، باب ما يوجب الغسل).
فالرجل الذي يعصي الله مع سابق العلم ويأتي امرأته في دبرها أو يأتي البهيمة في دبرها، هل يكترث إن اغتسل أو توضأ؟ ومن هذا الرجل المسلم الذي يأتي من خير أمة أُخرجت للناس ثم تكون له الرغبة في اشتهاء امرأةٍ ميته وينتصب ويدخل ذكره في فرجها. هل مثل هذا يجب عليه الغسل أم يجب أن يُعالج في مصحة عقلية؟ فمثل هذا الرجل مريضٌ والقاعدة تقول: ليس على المريض حرج. ولولا تشدد الفقهاء في منع المعاشرة بين الرجال والنساء لما فكر رجل في إتيان امرأة ميتة، إن لم يكن مريضاً نفسياً. وكيف يأتي الرجل المسلم الذي يهتم بالغسل، امرأةً غير امرأته؟ هل يضحك على نفسه أم على الله؟ يأتي امرأة غير امرأته في معصية واضحة لله ثم يغتسل ويصلي له؟ والفقهاء من واجبهم صياغة القوانين الفقهية لكل شيء محتمل أن يحدث، ونحن نتفهم ذلك، ولكن يبدو أنهم أطلقوا لخيالهم العنان فشطح وتعدى حدود المعقول. فمن الصعب أن نتخيل أن رجلاً نائماً، وفي الغالب يكون ذكره نائماً كذلك، إلا في الصباح الباكر عندما تمتلئ المثانة بولاً وتضغط على الأعصاب التي تغذي الذكر فينتصب، تعتدي عليه امرأة بجانبه وتُدخل ذكره في فرجها، إن استطاعت، وهو ما زال يغط في نوم عميق ولا يعلم ما يحدث، ثم يجب عليه الغسل إذا أدخلت كل الحشفة بفرجها. فكيف يعرف أنها أدخلت الحشفة كلها وهو نائم لا يدري؟ وممارسة الجنس تتطلب إفراز هرمونات الأدرينالين والنورا أدرينالين وكلاهما منشط يزيد من ضربات القلب وضغط الدم وتهييج الإنسان للحرب أو الهرب، وعليه يستبعد أن يظل نائماً وهي تمارس معه الجنس. ومرة أخرى نقول لولا تشددهم لما احتاجت هذه المرأة المحرومة من متعة الجنس إلى إدخال ذكر رجلٍ نائمٍ في فرجها.
ويستمر الإمام الشافعي فيقول ( ولا نوجب الغسل إلا أن يغيبه في الفرج نفسه أو الدبر فأما الفم أو غير ذلك من جسدها فلا يوجب غسلا إذا لم يُنزل، ويتوضأ من إفضائه ببعضه إليها. ولو أنزلت هي في هذه الحال اغتسلت وكذلك في كل حال أنزل فيها. فأيهما أنزل بحال اغتسل. ولو شك رجل أنزل أو لم ينزل، لم يجب عليه الغسل حتى يستيقن بالإنزال، والاحتياط أن يغتسل).
ومع احترامنا للإمام الشافعي نقول إنه كان يتحدث عن شيء يجهله. المرأة إذا اهتاجت قبل مباشرة الجنس تفرز غدد بارثولين الموجودة في شفايف المهبل موادا لزجة لتسهيل عملية الإيلاج، ويحدث هذا سواء أولج الرجل بها أو لم يولج. والمرأة عندما تصل ذروة متعتها لا تقذف كالرجل ولا ماء لها. والمرأة في العادة يفرز مهبلها كميات صغيرة من الإفرازات على مدي الأربع وعشرين ساعة، سواء باشرت الجنس أم لم تباشره. وقد تكرم الإمام الشافعي وأعفاها من الغسل في حال إدخال الذكر في فمها. ولكننا لا نفهم كيف يشك الرجل في أنه أنزل أم لا؟ لا اعتقد أن هناك رجلاً يشك في أنه أنزل أم لا.
ولم ينس المالكية والحنابلة أن يشددوا على الإيلاج في الميت وهل يجوز غسله مرة أخرى، فقالوا: (يميلون إلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمُولِجِ فِي فَرْجِ الْمَيِّتِ لِعُمُومِ الأدِلَّةِ, وَلا يُعَادُ غُسْلُ الْمَيِّتِ الْمُغَيَّبِ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ, وَفِي الأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ, وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُعَادُ غُسْلُ الْمَيِّتَةِ الْمَوْطُوءَةِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لا غُسْلَ فِي وَطْءِ الْمَيِّتَةِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِيمَا لَوْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَرْأَةِ لَوْ أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا مَا لَمْ تُنْزِلْ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا) (الموسوعة الفقهية الكويتية، نفس الباب).
وهل هناك مرض وحرمان جنسي أكثر من أن يضاجع الرجل امرأة ميتة، أو امرأةٌ رجلاً ميتاً؟ وبدل أن يختلف الفقهاء في وجوب غسل الميتة مرة أخرى، أما كان الأحرى بهم أن يسألوا كيف تم لهذا الرجل المحروم من الجنس الاختلاء بالمرأة الميتة بعد أن غسلوها، وفي العادة تغسلها النساء وتكفنها النساء، ليدخل ذكره في فرجها؟ وهل مثل هذا الرجل يكون عاقلاً؟ فالغسل لا يجب إلا على العاقل. وهل يتطوع مثل هذا الرجل ويخبر الناس أنه قد أدخل ذكره في الميتة، حتى يعيدوا غسلها، لأن المنطق يتطلب أن يكون مثل هذا الرجل في خلوة تامة مع الجنازة حتى يستطيع أن يفعل ما فعل. ونرى أن المالكية والحنفية كانوا أكرم من الشافعية والحنابلة على المرأة المحرومة من الجنس التي تُدخل ذكر الميت في فرجها فأعفوها من الغسل، وكان حرياً بهم أن يعوضوها عن هذا الحرمان الذي اضطرها لتفعل ما فعلت. وكان يجب أن يمنحوها جائزة نوبل لمقدرتها على إدخال ذكر ميت كصاحبه، في فرجها. ولماذا يعيدون غسل الميتة في مثل هذه الحالة وقد تنجست بعد موتها بأن أدخل الرجل ذكره في فرجها، فهل سوف يعاقبها الله إن لم يغسلوها، على عمل قام به شخص آخر وهي ميتة؟ وإلا فما الحكمة في إعادة غسلها؟
مرة أخرى يرجع الفقهاء إلى الأطفال فيقولون (َاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ - الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ - فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ, فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَلَّفًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ فَقَطْ دُونَ الْآخَرِ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُغَيِّبُ إنْ كَانَ بَالِغًا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِ, وَكَذَا عَلَى الْمُغَيَّبِ فِيهِ إنْ كَانَ بَالِغًا, وَإلا وَجَبَ عَلَى الْمُغَيِّبِ دُونَ الْمُغَيَّبِ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُغَيِّبُ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلا عَلَى مَنْ غَيَّبَ فِيهِ, سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَمْ لا، مَا لَمْ يُنْزِلْ بِذَلِكَ الْمُغَيَّبُ فِيهِ, وَإلا وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ للإنْزَالِ)
ومرة أخرى نسأل: هل الرجل المسلم الذي يغيب ذكره في صبي لم يبلغ بعد، يحق له أن يغتسل ثم يصلي لله، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ ونلاحظ هنا أن الفقهاء كانوا يعرفون، أو تخيلوا، أن الرجال المسلمين يمارسون الجنس مع الأطفال غير البالغين، لكننا لا نرى أحكاماً بحق هؤلاء الرجال. بل ذهب بعضهم إلى القول أن الرجل إذا قبّل صبياً أو امرأةً غريبة فلا حد ولا إثم عليه.
ولكي ننصف الفقهاء المسلمين لا بد أن نعترف أنهم قد اكتشفوا الكوندوم قبل الغربيين، فقالوا (فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ الإيلاجِ بِحَائِلٍ، {قماش يحول بين الذكر والفرج} فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ الْغُسل عَلَى مَنْ أَوْلَجَ حَشَفَته أَوْ قَدْرَهَا مَلْفُوفَةً بِخِرْقَةٍ كَثِيفَةٍ تَمْنَعُ اللَّذَّةَ, فَإِنْ كَانَتْ الْخِرْقَةُ رَقِيقَةً بِحَيْثُ يَجِدُ مَعَهَا اللَّذَّةَ وَحَرَارَةَ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ فِي الْخِرْقَةِ الْكَثِيفَةِ ; لأنَّهُ يُسَمَّى مُولِجًا, وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا الْتَقَىالختانان, أَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ) أما الحنابلة فكانوا أكثر كرماُ فذهبوا (إلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى مَنْ أَوْلَجَ بِحَائِلٍ مُطْلَقًا, مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنُصُّوا عَلَى كَوْنِ الْحَائِلِ رَقِيقًا أَوْ كَثِيفًا). ولا بد أن نسأل هنا: لماذا يمارس الرجل الجنس إذا كان سوف يلف ذكره بخرقة قماش كثيفة تمنعه من أن يحس حرارة المهبل وتمنع عنه الإحساس باللذة؟ اللهم إلا إذا أراد أن يغتسل وأراد عذراً لذلك.
ولم يكن تعريف الفرج سهلاً بالنسبة للفقهاء فاختلفوا، كالعادة، في نوعية الفرج الذي يوجب الغسل (فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي مُطْلَقِ الْفَرْجِ, سَوَاءٌ كَانَ لإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ, قُبلٍ أَوْ دُبُرٍ, ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ. لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ شَرَطُوا إطَاقَةَ ذِي الْفَرجِ سَوَاءٌ كَانَ آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ, فَإِنْ لَمْ يُطِقْ فلا غُسْلَ عَلَى ذِي الْحَشَفَةِ الْمُغَيِّبِ مَا لَمْ يُنْزِلْ. وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ, إلا أَنَّهُمْ استثنَوْا فَرْجَ الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ, وَالصَّغِيرَةِ غَيْرَ الْمُشْتَهَاةِ, وَالْعَذْرَاءِ إنْ لَمْ يُزِلْ عُذْرَتَهَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ إنْزَالٌ, وَذَلِكَ لِقُصُورِ الشَّهْوَةِ فِي الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةُ وَالصَّغِيرَةُ غَيْرُ الْمُشْتَهَاةِ الَّتِي أُقِيمَتْ مَقَامَ الإنْزَالِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عِنْدَ الإيلاج)
ويظهر هنا أن الحنفية يقولون إذا لم تحتمل البنت الصغيرة أو الحيوان ذكر الرجل المولج، أو دخول حشفة البالغ في الفرج، فلا غسل على الرجل إلا إذا أنزل. منتهى التسامح مع رجل يدخل حشفته في الأطفال الذين لا يتحملون، والبهائم والجنائز.
وحتى لا ينسى الفقهاء إي شيء يمكن أن تفعله المرأة المحرومة من الجنس ، قالوا (اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ إيلاجِ ذَكَرِ غَيْرِ الآدمي. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ إيلاج ذَكَرِ غَيْرِ الآدميِ كَالْبَهِيمَةِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لا غُسْلَ مِنْ إيلاج ذَكَرِ غَيْرِ الآدَمِيِّ)
فالمرأة التي تأتي بخروف أو قردٍ إلى غرفة نومها وتداعبه حتى ينتصب وتدخل ذكره في فرجها يجب عليها الغسل إلا إن كانت حنفية المذهب. واختلاف العلماء لا ينتهي أبداً، فهم يختلفون في وجوب الغسل إذا جامع الجني امرأة أو جامع الرجل جنية، فقالوا (اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ وَطْءِ الْجِنِّ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ إتيانِ الْجِنِّ لِلْمَرْأَةِ, وإتيان الرَّجُلِ لِلْجِنِّيَّةِ, إذَا لَمْ يَكُنْ إنْزَالٌ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نقلاً عَنْ الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَتْ: مَعِي جِنِّيٌّ يَأْتِينِي مِرَارًا وَأَجِدُ مَا أَجِدُ إذَا جَامَعَنِي زَوْجِي لا غُسْلَ عَلَيْهَا لانعدام سَبَبِهِ, وَهُوَ الإيلاج أَوْ الاحتلام. وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَا إذَا ظَهَرَ لَهَا فِي صُورَةِ الآدمي فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ).
فإذا جامعت المرأة جني ولم تره لا تغتسل أما لو بدا لها في صورة رجل يجب أن تغتسل.
مسكينة المرأة المسلمة التي شرّعوا لها في كل احتمالات معاطاة الجنس وهي مسجونة ببيتها لا تبرحه إلا مع محرم ومغطاة بعباءة سوداء، ولا مجال لها في لقاء حبيب أو حتى حيوان. فالفقهاء قد اختزلوا عملية الجنس في حركات ميكانيكية تعتمد على قياس طول الجزء الذي يدخل فرج المرأة، وهل أنزل الرجل أو المرأة، حتى يجب عليهم الغسل أو عدمه. وأجزم قاطعاً أنه ليس هناك على وجه المعمورة دينٌ آخر أو قوانين مدنية تسهب في الجنس وأوصافه بقدر إسهاب الفقه الإسلامي الذي اغتال الحب وحرم الرجال والنساء من مباشرة أجمل متعة أتاحتها لهم الطبيعة.

فتاوى ضد النساء

تحت هذا العنوان كتبت السيدة/ الآنسة ليلي أحمد الأحدب مقالاً في صحيفة "الوطن" السعودية وأعادت إيلاف نشره في قسم "جريدة الجرائد" بتاريخ 20 يونيو 2005. والعنوان الأصلي للمقال كان "هل لدماغ المرأة أي فائدة؟" ناقشت فيه رأي علماء الدين عامة والشيخ اليمني عبد المجيد الزنداني، رئيس جامعة الإيمان، خاصة عن مقدرة المرأة العقلية. ويتفق علماء الدين من كل المذاهب على نقص عقل المرأة ودينها كذلك، اعتماداً على حديث "المرأة ناقصة عقل ودين" وعلى بعض آيات من القرآن مثل "واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" (البقرة 282). وقالت السيدة ليلي الأحدب عن الشيخ الزنداني و كتابه (المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام) ما يلي: "فقد جاء في حديثه المتلفز وكتابه المذكور أن تخزين المعلومات والقدرات في الدماغ يختلف في الولد عنه في البنت: ففي الفتى تتجمع قدرات الكلام في مكان مختلف عن قدرات التفكير بما فيها الذاكرة، بينما هي موجودة في فصي المخ لدى الفتاة ومعنى ذلك أن دماغ الفتى أكثر تخصّصاً من مخ أخته، ويأتي الزنداني برسم لدماغ كل من الأنثى والذكر، ويعلّق تحته بما يلي: واضح من الصورة أن المرأة تشغِّل جزءين من أقصى المخ عند الكلام، بينما يستعمل الرجل فصاً واحداً مما يجعله أكثر تخصصاً ودقةً في ضبط الكلام لأن الجزء الآخر قد تخصّص عند الرجل لوظيفة الذاكرة فلا يحدث أي تشويش في الذاكرة عند الكلام، ويستنبط الزنداني أن هذا التخصص المفقود في المرأة يمنعها من التذكر عندما تتكلم، لذلك جعل القرآن شهادتها نصف شهادة الرجل، وهنا يتبدّى إعجاز القرآن العلمي حسب رأي الزنداني." وبداية نقول إنه لا داعي للتعقيب على ما ذكر الشيخ الزنداني لأن ما ذكره لا يمت للحقيقة بصلة، إنه مجرد افتراء على العلم. وثانياً أن الشيخ الزنداني رجلٌ معروف بتعصبه وسلفيته الزائدة التي جعلته يُكفّر عدداً كبيراً من صحفيي ومفكري اليمن مثل الصحافي سمير اليوسفي رئيس تحرير "الثقافية" والشهيد جار الله عمر الذي اغتاله أحد خريجي جامعة الإيمان التي يترأسها الشيخ الزنداني (مقابلة مع سمير اليوسفي، إيلاف 28 يناير 2004). وبما أن الشيخ الزنداني مسؤول عن الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في رابطة العالم الإسلامي، فقد دفعه إيمانه بالإعجاز العلمي إلى شطحات متكررة في مجال العلوم الطبية الحديثة، فقد ادعى حديثاً أنه اكتشف علاجاً ناجعاً لمرض فقدان المناعة المكتسب (الأيدز). فهذا إن دل على شي فإنما يدل على تفوق دماغ الشيخ الزنداني على أدمغة النساء.
وحديث الفقهاء الإسلاميين عن عقل المرأة يذكرنا بالمجادلات التي كانت دائرة في أمريكا في خمسينات القرن المنصرم عندما ابتدأ العلماء إجراء اختبارات تقيس نسبة ذكاء الإنسان Intelligence Quotient أو اختصاراً I.Q. فقد ظهر وقتها أن الأطفال البيض يحصلون على نسب عالية مقارنة مع الأطفال السود. فهلل وقتها دعاة التفوق العرقي والنازيون وقالوا إن العلماء أثبتوا أن الرجل الأبيض يتفوق على الرجل الأسود في الذكاء وعليه حق له أن يستعبده. ولم تدم فرحتهم طويلاً إذ أثبت العلماء أن نتائج اختبارات الذكاء تعتمد على البيئة وعلى الفرص التي تتاح للطفل لينمّي مواهبه العقلية. فأغلب الأطفال السود الذين تم اختبارهم كانوا من عائلات فقيرة لم توفر لهم التعليم والكتب ولا حتى لعب الأطفال التي تساعد على تنمية المواهب. ولما أخذ العلماء بعض الأطفال السود الذين تربوا في بيئة شبيهة ببيئة البيض وأُتيحت لهم فرص التعليم وتنمية المواهب وجدوا أن نتائج اختبار ذكائهم كانت مشابهة للبيض.
ووضع المرأة في التاريخ لا يختلف كثيراً عن وضع الأطفال السود. فمنذ بداية التاريخ البشري كانت المرأة تُعامل على أساس أنها أقل من الرجل في كل شيء إلى جاءت الثورة الصناعية التي أتاحت للمرأة العمل بالمصانع وبالتالي نمّت مقدرتها على كسب قوتها ومنحتها بعض الاستقلال عن الرجل، ثم أُتيحت للمرأة فرص التعليم فأثبتت جدارتها ومقدرتها العقلية التي تفوقت على مقدرة الرجال في مجالات العلوم الطبيعية والطب، فظهرت سيدات مثل مدام كيوري مكتشفة الراديوم وبعض بالنساء اللاتي برعن في الطب والهندسة والفيزياء مثل المهندسة المعمارية العراقية هدى حديد التي كسبت مسابقات عالمية في تصميم أحدث المباني في أوربا وأمريكا وكتبت عنها مجلة " تايم " الأمريكية. ولكن المرأة العربية ظلت أسيرة الأفكار الدينية المتطرفة التي أصبحت "معروفة من الدين بالضرورة" منذ خطبة حجة الوداع عندما أوصى النبي المؤمنين بالنساء فقال: "اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن من أمرهن شيئاً" وقال علماء اللغة إن كلمة "عوان" تعني "أسيرات". فالمرأة المسلمة صارت أسيرة عند الرجل تُعامل معاملة الأسرى المحبوسين في السجون. فمثلاً عندما روى ابن إسحق عن فاطمة بنت المنذر زوجة هشام بن عروة بن الزبير، قال هشام: "لقد كذب. لقد دخلت بها وهي بنت تسع سنين وما رآها مخلوق حتى لحقت بالله عز وجل" (تاريخ بغداد للبغدادي، ج1، ص 237). فكيف إذاً يتسنى للمرأة العربية مثل فاطمة بنت المنذر أن تُنمي مواهبها العقلية وهي لم تر مخلوقاً غير زوجها منذ كان عمرها تسع سنوات؟ ولم يكتف الفقهاء بجعل المرأة ناقصة عقل فقط بل جعلوها كذلك تُخل بميزان عقل الرجل، فيقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في كتابه (فتاوى النساء): "على أننا لا بد أن نلتفت إلى حقيقة هامة.. هي أن الله سبحانه وتعالى يريد أن تعتدل الموازين في كونه، ويريد للعقل الذي ميّز الله به الإنسان أن يُعطى حرية الاختيار دون أي مؤثرات، حتى تستقيم الأمور في الكون، ولكن إظهار المرأة لمفاتنها يجعل الميزان يختل...لماذا؟ لأن المرأة إذا تعمدت إغراء رجل غريب بزينتها والكشف عن جسدها، تتدخل في عمل العقل. لأنه في هذه الحالة قد يتخذ قراراً ويعلم أنه باطل لينال من هذه المرأة ويرضيها." ( ص 61).
ولكن في واقع الأمر فإن المرأة العربية ظلت طوال الوقت تتمتع بذكاء وحكمة أكثر من ذكاء وحكمة الرجل. وقد ظهرت هذه الحكمة والمعرفة في بعض النساء اللاتي استطعن الهروب من سجن الرجل. فنجد مثلاً في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام نساء عربيات كن يعرفن القراءة والكتابة عندما كان معظم الرجال أميين، نذكر منهن: الشفاء بنت عبد الله العدوية من رهط عمر بن الخطاب‏، قال لها النبي: "ألا تعلمين حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة ". وكانت الشفاء كاتبة في الجاهلية‏.‏ وقال البلاذري: حدثني الوليد بن صالح عن الواقدي عن أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن سعد قال‏:‏ كانت حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكتب‏.‏ وحدثني الوليد عن الواقدي عن ابن أبي سبرة عن علقمة بن أبي علقمة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أن أم كلثوم بنت عقبة كانت تكتب‏.‏ وحدثني الوليد عن الواقدي عن فروه عن عائشة بنت سعد أنها قالت‏:‏ علمني أبي الكتاب ( فتوح البلدان للبلاذري، ص 527)‏. ‏فإذا كانت المرأة في الجاهلية قد تعلمت القراءة والكتابة قبل الرجال، كيف يحق للفقهاء أن يقولوا إنها ناقصة عقل؟ وحتى بعد ظهور الإسلام كانت المرأة العربية متفقهة في الدين حافظة للحديث، فقد التقى ابن عساكر، الذي قال عنه ابن النجار إنه كان أعلم رجال زمانه، بضع وثمانين امرأةً جمع منهن الحديث وألف كتاب "معجم النسوان" (تاريخ دمشق لابن عساكر، ج1، ص 19). برع هؤلاء النسوة في الحديث والعلم رغم محاولة الفقهاء منعهن من ذلك، فقد قال ابن الجوزي في كتابه (أحكام النساء): "فإن كان لها أب أو أخ أو زوج أو محرم يعلّمها الفرائض ويُعرّفها كيف تؤدي الواجبات، كفاها ذلك" (ص 102).
وكان هناك نساء عربيات عرفن بالذكاء والمقدرة الفائقة في تصريف أمور الناس مثل الزباء بنت عمرو بن ظرب التي تولت الحكم في العراق بعد مقتل أبيها، وعُرفت بالملكة الزباء وكان اسمها نائلة. وكان جنود الزباء من العماليق والعاربة الاولي ومن قبائل قضاعة وكانت للزباء اخت يقال لها زبيبة فبنت لها قصراً حصينا علي شاطئ الفرات الغربي. (تاريخ الطبري، ج1، ص364). هذه الزباء كانت من الذكاء بمكان مكنها من خداع عدة ملوك استدرجتهم إلى قصرها وقتلتهم. وفي شمال أفريقيا عندما غزاها حسان بن النعمان وهزم الرومان قال لهم دلّوني على أعظم من بقي من ملوك أفريقية فدلّوه على امرأة تملك البربر تُعرف بالكاهنة -وكانت تُخبرهم بأشياء من الغيب ولهذا سُميت "لكاهنة - وكانت بربرية وهي بجبل أوراس وقد اجتمع حولها البربر بعد قتل كسيلة، فسأل أهل إفريقية عنها فعظّموا محلها وقالوا له: إن قَتَلْتَها لم تختلف البربر بعدها عليك، فسار إليها فلما قارَبها هَدمت حصنَ باغاية ظناً منها انه يريد الحصون فلمْ يعرّج حسان على ذلك وسار إليها فالتقوا على نهر نيني واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وانهزم حسان، وأسِرَ جماعة كثيرة أطلقتهم الكاهنة سوى خالد بن يزيد القيسي - وكان شريفاً شجاعاً - فاتخذته ولداً (الكامل في التاريخ للمبرد، ج4، ص 134). فهذه المرأة من البربر التي هزمت جيوش وقادة المسلمين، كيف تكون أنقص منهم عقلاً؟
وحتى بالنسبة للنبوة التي هي أسمى ما يمكن أن يصبو إليه الإنسان، ‏فقد تنبأت أم صادرٍ سجاح بنت أوس بن حق بن أسامة من تميم ويقال هي سجاح بنت الحارث بن عقفان بن سويد بن خالد بن أسامة وتكهنت‏.‏ فاتبعها قوم من بني تميم وقومٌ من أخوالها بني تغلب‏ ( البلاذري ص 99).‏ فهذه المرأة لا بد أنها أقنعت كل هؤلاء الرجال بنبوءتها فآمنوا بها واتبعوها، فكيف تكون أنقص منهم عقلاً؟
وفي عالمنا اليوم نجد أن 52 بالمائة من طلبة الجامعات في السعودية من الإناث (الشرق الأوسط 23 ديسمبر 2003) و56 بالمائة من طلبة كلية الطب بالكويت من الإناث كذلك. فهل يعني هذا أن 56 بالمائة من أطباء الكويت ناقصو عقل؟
وإذا تركنا العقل وتحدثنا عن الشجاعة البدنية نجد أن المرأة العربية قد أثبتت رباطة جأش لم نرها في الرجال. فقد قاتلت أم حبيب نسيبة بنت كعب يوم اليمامة وأصيبت بجراحات، وقاتلت يوم أُحد أيضاً (فتوح البلدان للبلاذري، ص 92). وقاتلت أم حكيم بنت الحارث المخزومية امرأة عكرمة بن أبي جهل، الروم بعمود فسطاطها ويقال إنها قتلت من الروم سبعة (البلاذري، ص 119). وقاتلت أسماء بنت يزيد بن السكن (أم عامر) الأنصارية يوم اليرموك فقتلت تسعة من الروم (تاريخ الإسلام للذهبي ص 1147). حدث هذا في وقت كان فيه الرجال المسلمون يهربون من المعارك، فقد هرب عثمان بن عفان يوم أُحد فأنزل الله: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم" (تفسير ابن كثير للآية 155، آل عمران). وهرب عمر بن الخطاب حتى صعد الجبل وقال فيما بعد "لما كان يوم أُحد، هُزمنا، ففرت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني انزوي كأنني أروى والناس يقولون: قٌُتل محمد – ص-. فقلت: لا أجد أحداً يقول قُتل محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل. " تفسير الطبري، ج7، ص 327). فقال له عتيق بن أبي قحافة: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام.
وبعد هذا نقرأ في كتب مثل المنتظم في التاريخ لابن الجوزي قصصاً تضع من قدر النساء، فقد حكى أن النبي إبراهيم جاء إلى مكة ليزور ابنه إسماعيل فلم يجده بالبيت ووجد زوجته التي أكرمته وأحسنت استقباله، فقال لها قولي لإسماعيل "غيّر عتبة بابك". فلما رجع إسماعيل أخبرته، فقال لها إن أبي يأمرني أن أطلقك، فطلقها وتزوج غيرها (ص 63). فالمرأة بعد أن كانت ناقصة عقل أصبحت عتبة باب. وحتى في عصرنا هذا نجد رجالاً في أعلى مراتب الدولة لا يعترفون بمساواة المرأة للرجل، فعندما قرر الرئيس المصري حسني مبارك تعيين المحامية تهاني الجبالي كقاضي في المحكمة الدستورية لتكون أول سيدة تتولى منصب القضاء في تاريخ مصر الحديث قال المستشار أحمد عبيد نائب رئيس محكمة النقض "إن الشريعة الإسلامية والدستور يمنعان عمل المرأة بالقضاء، ولأن جمهور العلماء وفيهم جمهور المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية والشيعة الزيدية والشيعة الإمامية والإباضية يرون أنه لا يجوز تولي المرأة القضاء..... ووجه الدلالة في الآية (الرجال قوامون على النساء) أن جنس الرجال قوامون على جنس النساء بسبب تفضيل الرجال على النساء لرجاحة العقل وكمال الدين." ( الشرق الأوسط 6 فبراير 2003).
وليس في جسم المرأة شئ استحوذ على تفكير فقهاء الإسلام أكثر مما استحوذ عقلها إلا عضوها التناسلي الذي ملئوا به صحائف عدة وأفتوا فيه بأقوال اعتبروها علمية بحتة وهي أبعد ما تكون عن العلم، فقد قال الشيخ الشعراوى عن أهمية الختان في كتاب فتاوى العصر "لماذا ختان المرأة كرامة إذن؟ لأن القدر الزائد (من البظر) يكون خارجاً عن الشفرتين فإن كان مرتفعاً وجاء الثوب عليه أو مر به أهاج شهوة المرأة وإذا أهاج شهوة المرأة جعلها تطلب الرجل فتكون هلوكاً، إذن فنقول نشيل هذا الزائد علشان دائماً لا تصبح فى حاجة إلى هذا الموضوع.. إذن هذا سيصبح كرامة لها لأنها لو ظلت كما هي فإنها ستصبح هائجة ودائماً هي التي تحتك بالرجل وتتمحك فيه!!" (د. خالد منتصر في إيلاف عدد 22 يناير 2004). وعندما استأنف الشيخ يوسف بدري قرار وزير الصحة المصري الذي منع ختان البنات، قالت له صحفية ألمانية من "ديرسبغل": إن المسلمين في المغرب والجزائر لا يختنون بناتهم، فأفتى الشيخ يوسف بدري بأن حجم البظر في البنات المصريات يفوق حجم نظيره في المغرب والجزائر وعليه وجب قصه" (www.religioustolerannce.org/fem_cirm.htm). كل هذه الفتاوى التي ألبسوها لباس العلم ما هي إلا خزعبلات يلعبون بها على عقول البسطاء. فهل بعد هذا تستغرب السيدة ليلي أحمد الأحدب فتاوى العلماء ضد النساء؟

الارتداد ... هل هو حق من حقوق الإنسان ؟

تحت هذا العنوان كتب السيد جاسم محمد الشيخ زيني مقالاً بموقع "كتابات" بتاريخ 28 أكتوبر 2005 يناقش فيه تبرير قتل المرتد من ناحية شرعية. والإسلام عموماً ملئ بالمتناقضات، غير أنه لا يوجد موضوع أكثر تناقضاً في الإسلام من موضوع الارتداد. وليس هناك قانون في أي دين آخر غير الإسلام، توحيدي أو تعددي، يبيح قتل من يخرج عن ذلك الدين. والمادة 18 من حقوق الإنسان، كما تكرم السيد جاسم بذكرها، تقول: " (لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة). فالمادة هذه صريحة فيما تقول ولا مجال للتخبط في فهمها، غير أن فقهاء الإسلام اختاروا ما يعارضها وساروا عليه، وليس لديهم أي سند فيما ذهبوا إليه غير حرب أبي بكر للمرتدين بعد موت الرسول. فلا القرآن ولا أفعال النبي محمد تساند ما ذهبوا إليه. ولكن أولاً دعونا نناقش تعريف العلامة الحلي ( 648-726 هجرية) للارتداد، فهو يقول: (قطع الإسلام من مكلف ، أما بفعل كالسجود للصنم وعبادة الشمس وإلقاء المصحف في القاذورات ، وشبه ذلك مما يدل على الإستهزاء . وأما بقول عنادا أو إستهزاءََ أو إعتقاداَََََ ، ولا عبرة بردة الصبي والمجنون والمكره والسكران). وتعريف الحلي يفترض أن كل من ارتد عن الإسلام يستهزئ به ويهينه، وهذا القول لا يمت للحقيقة بصلة. فالذين يرتدون عن أي دين يفعلون ذلك إما بدافع أن الأديان عامة تتعارض مع العقل وهم يودون احترام عقولهم دون أن يسيئوا إلى الدين المرتد عنه، وإما لأنهم درسوا الأديان الأخرى ووجدوا ديناً يناسب تفكيرهم أكثر من الدين الذي تربوا عليه. وليس في هذا المنهج أي استهزاء بالدين المرتد عنه. ثم أن أصحاب النبي والتابعين لهم لم يعملوا بهذا التعريف. فعندما مزق الوليد بن يزيد بن عبد الملك المصحف وقال له:
أتوعد كل جبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا لاقيت ربك يوم حشر*** فقل يا رب مزقني الوليد
لم يرمِ المسلمون يومئذ الوليد بالارتداد، بل بايعوه خليفةً على المسلمين، وهم كانوا أقرب عهداً بالنبي وتعاليمه من العلامة الحلي. ثم أن النبي نفسه عندما ارتد كاتب وحيه عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقال إن القرآن ليس وحياً من الله وإنه كان يقترح على محمد بعض التعديلات وكان يقبلها، أمر النبي بقتله يوم الفتح ثم عفا عنه عندما جاء إليه مع أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان. فإذا كان قتل المرتد حقاً إلهياً فليس من حق النبي أن يتنازل عنه. وإذا لم يكن حقاً إلهياً، فأفعال النبي لا تساند القول بقتل المرتد. ثم أن تعريف العلامة الحلي فيه تناقضات عقلية واضحة، فهو يقول: "قطع الإسلام من مكلف". والمكلف هو الشخص البالغ العاقل المالك لكل قواه العقلية، ولذلك قال: "ولا عبرة بردة الصبي والمجنون والمكره والسكران" لأن المذكورين ليسوا في كامل قواهم العقلية إما لصغر سنهم أو للجنون أو لتأثير المشروب عليهم. فإذا اشترط العلامة الحلي التكليف في المرتد، فالمنطق يتطلب أن يشترط نفس الشرط في اعتناق الإسلام أولاً قبل الردة عنه. والغالبية العظمى من المسلمين المعاصرين ورثوا الإسلام عن أبويهم وبيئتهم وهم صغار غير مكلفين. ومن شب على شئ شاب عليه، ولذلك هم يتمسكون بالإسلام لأنهم لم يعرفوا ديناً غيره، خاصة وأن غالبيتهم أميين لا يستطيعون قراءة الأديان الأخرى التي غالباً لا تتوفر لديهم في بلادهم الإسلامية لأن السلطات الدينية تصادر أي عمل كتابي يشرح أو يدعو إلى دين آخر. فهؤلاء قد اعتنقوا الإسلام عن جهل في صغرهم واستمروا عليه في جهل نسبة لظروفهم والبيئة التي يعيشون فيها. ولا شك أن الله يفضل أن يعتنق المسلمون الإسلام عن وعي وفهم وبمحض إرادتهم بدل أن يفرض عليهم وهم صغار جهلاء. والقوانين الوضعية في البلاد المتقدمة لا تقبل التوقيع على أي وثيقة إلا إذا أثبتت الجهة التي تقدم الوثيقة أن الشخص الموقع عليها فعل ذلك بمحض إرادته وبعد أن فهم فهماً تاماً كل ما تحتويه الوثيقة. ويسمون هذا الشرط Informed Consent أي "موافقة عن إدراك". فأنا كجراح لو أعطيت مريضاً مكتوباً يشرح العملية التي سوف أجريها له، ووقع الشخص على هذا "الفورم" ثم أجريت له العملية وحدثت له مضاعفات، فرغم أنه قد وقّع على "الفورم إلا أن ذلك "الفورم" لا يساوي الحبر الذي كُتب به، لأني لم أشرح للمريض العملية والمضاعفات التي يمكن أن تحدث له، والعلاجات الأخرى المتوفرة له بخلاف العملية الجراحية. فلو وافق المريض بعد الشرح الوافي فهو ملزم بما وقّع عليه. فهل غالبية المسلمين أو المسيحيين تربوا في بيئة لا دينية ثم شرحوا لهم الأديان بعد أن صاروا بالغين مكلفين ثم اختاروا الإسلام أو المسيحية عن إدراك وفهم؟
والمرتد عن الإسلام، كما يقول السيد جاسم، نوعان: الأول: فطري: وهو الذي ولد على الإسلام ثم كفر به. والثاني: الملّي: أي الذي لم يولد على الإسلام بل اعتنقه فيما بعد (على الكبر) ثم ارتد عنه. وموقف الفقهاء المسلمين من هذين النوعين من الارتداد يظهر تناقض الإسلام جلياً. فالمرتد الأول لم يُعط خياراً في اتباع الإسلام وإنما شاء حظه أن يولد في عائلة مسلمة لقنته الإسلام وهو صغير فنشأ عليه. فإذا ارتد بعد أن كبر، يحكم عليه بالقتل ولا تُقبل توبته. بينما المرتد الآخر الذي دخل الإسلام طواعيةً بعد أن بلغ ودرس الإسلام وفهمه، إذا ارتد عنه، يمنحه الفقهاء ثلاثة أيام أو أكثر ليتوب ويرجع إلى الإسلام. فإن فعل فلا غبار عليه. فهل هناك تناقض أكثر من هذا ؟ أما المرأة المسلمة المرتدة فلا تُقتل سواء نشأت على الإسلام أو اعتنقته فيما بعد على الكبر. وهذا إن دلّ على شئ فإنما يدل على امتهان الإسلام لعقل المرأة. فالفقهاء هنا يعاملون المرأة كالطفل الذي لا عبرة بارتداده لأن عقله ناقص كالسكران أو المجنون. وبما أن المرأة ناقصة عقل ودين في الإسلام، فهي تعامل معاملة الطفل.
والقرآن، كلام الله، يقول صراحةً: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " ولكن الفقهاء المسلمين قرروا أنهم أحرص من الله على الإسلام فقرروا أن المرأة المرتدة إذا أصرت على ارتدادها تُحبس في السجن ويُضيّق عليها في المأكل والمشرب، وتُضرب وقت كل صلاة حتى ترجع إلى الإسلام. هل سوف ينهار الإسلام إذا ارتدت عنه امرأة لا يقيم لها الإسلام وزناً أصلاً ؟ وهل هناك إكراه في الدين أكثر من هذا ؟
ثم يقول السيد جاسم: إن الله قرر (إن الدين عند الله الإسلام) والله قد قرن الارتداد بالكفر. فلنبدأ أولاً بتعريف الإسلام. فما هو الإسلام الذي هو الدين عند الله ؟ القرآن يقول:
1- "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" (البقرة 132)
2- " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون " ( البقرة 133)
3- " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (البقرة 136)
4- " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون" (آل عمران 52)
5- " وإذ أوحيتُ إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأنا مسلمون " ( المائدة 111)
فالحواريون واليهود والأسباط والذين اتبعوا إسحق وإبراهيم وعيسى، كلهم أشهدوا الله أنهم مسلمون. فعندما يقول الله "إن الدين عند الله الإسلام" يقصد أن اليهودية والمسيحية والإسلام كلها دين واحد هو الإسلام. فإذا ارتد الشخص المسلم وأصبح مسيحياً فهو ما زال مسلماً
وحتى لو اتبعنا فقهاء الإسلام في قولهم إن المسيحية واليهودية ليستا إسلام، فماذا قال الله عن المرتد؟ يقول الله:
1- من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من ربهم وعذاب عظيم ( النحل 106)
2- يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين (المائدة 54)
3- يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل (المائدة 105)
4- إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (آل عمران 177)
5- ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم (آل عمران 176)
فالله الذي أنزل الإسلام يقول إن الذين يرتدون عنه لن يضروه شيئاً ولذلك لم يقرر عليهم عقاباً في الدنيا وإنما قال سوف يخلدون في نار جهنم. فهل الفقهاء أحرص على الإسلام من ربه؟ أما الأحاديث التي أوردها الفقهاء فكلها أحاديث موضوعة ومتأخرة في توقيتها الزمني إذ أن الخليفة أبا بكر عندما قرر قتال القبائل العربية التي ارتدت بعد موت النبي، قد خالفه عمر وعلي بن أبي طالب، فقال لهم أبو بكر: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه للرسول لحاربتهم عليه ". فلو كانت هذه الأحاديث معروفة وقتها لاستشهد بها أبو بكر، وربما لم يعترض عليه عمر وعلي لأنهما لا بد أن يكونا على علم بهذه الأحاديث لو كانت موجودة.
والسيد جاسم يقول: " إن قتل المرتد يعتبر دفاعاً عن حقوق الإنسان وليس انتهاكا لها، وفق النظرية الإسلامية، وللأسباب آلاتية:
1 . إنه دفاع عن الدين، وقد تعرض المرتد لهذا الدين وحاربه من الداخل وكوّن خطراََ عليه. إن الحكم بقتل المرتد يأتي سداََ لباب ما يسمى بلغة العصر ب (الطابور الخامس).
أولاً: ما كل من يرتد عن الإسلام يتعرض له ويحاربه. أعتقد أن أغلب المرتدين يكون سبب ارتدادهم أنهم فضلوا اتباع عقولهم بدل اتباع الغيبيات، وليس من الضروري أنهم سوف يحاربون الدين من الداخل. ثم لو فرضنا أنهم أرادوا محاربة الدين من الداخل لأنهم "طابور خامس" أي جواسيس، هل الإسلام بهذه الهشاشة بحيث يضر به شخص عرف الإسلام ثم تركه ؟ ألا يستطيع فقهاء الإسلام الدفاع بالمنطق عن معتقداتهم ؟ أم هل بالإسلام نواقص وعيوب يريد الفقهاء إخفاءها ويخافون أن يكشفها الطابور الخامس ؟
2 . دفاع عن حق الحرية العام، إذ أن الإسلام لم يجبر الإنسان المرتد على اعتناقه والسكوت عن هذا الإنسان يعيق حركة الإنسان التكاملية في الإسلام.
"الارتداد يعيق حركة الإنسان التكاملية في الإسلام" كلام عائم لم أفهم منه شيئاً. أما قولهم إن قتل المرتد دفاع عن الحرية العامة لأن الإسلام لم يجبر المرتد على اعتناقه، فقول لا يقول به عاقل أبداً إذ أن الطفل يُجبر على اتباع الإسلام وهو صغير، حتى أن النبي قال يضرب الطفل البالغ من العمر عشرة أعوام إذا ترك الصلاة. فهل هناك إجبار أكثر من هذا؟
3 . دفاعُ عن حرية العقيدة، إذ إن العقيدة هي أساس كل عمل، وأن العقائد الفاسدة تؤدي إلى تحلل المجتمع وتفسخه، وأن مكافحتها يعتبر إجراءََ في طريق تحرير الفكر، وهذا ما يوجبه العقل
كيف تدافع عن حرية العقيدة بأن تقتل شخصاً أراد أن يغير عقيدته؟ والقول إن العقائد الفاسدة تؤدي إلى تحلل المجتمع قول مفتوح لعدة أسئلة. ما هو تعريف العقيدة الفاسدة ؟ وهل إذا ارتد المسلم وأصبح مسيحياً، هل يعني ذلك أنه اتبع عقيدةً فاسدة ؟ فهل العقل يقبل أن نجبر الإنسان وهو صغير على اتباع عقيدة معينة ثم نمنعه من اتباع غيرها ؟ أين حرية الاختيار ؟
4 . دفاعُ عن المجتمع الإسلامي الصالح ، صحيح عن قتل المرتد بنفسه قد يراه البعض خلاف الرحمة والرأفة، لكن إذا لوحظت المصلحة العامة، وهي نظام المجتمع الإسلامي القائم على أساس العقائد السليمة والمفاهيم الأخلاقية العليا، فأنها تقدّم، بلا شك، على الفرد الذي لم يحفظ كرامته ولم يحترم نفسه. قال تعالى: (ولكم في القصاص حياةُ يا أولي الألباب لعلكم تتقون).
"دفاع عن المجتمع الإسلامي الصالح " هذا القول يفترض أن أي مجتمع غير إسلامي فهو مجتمع غير صالح. الإسلام يمتلك الحقيقة الكاملة ولا حقيقة في أي معتقد آخر. وكذلك القول "وهي نظام المجتمع الإسلامي القائم على أساس العقائد السليمة والمفاهيم الأخلاقية العليا " وهنا كذلك يفترض الفقهاء أن العقائد غير الإسلامية غير سليمة وأخلاقهم دون أخلاق المسلمين. والفرد الذي يرتد عن الإسلام نقول عنه إنه لم يحفظ كرامته ولم يحترم نفسه. فما هي الكرامة التي يحفظها المسلم دون غيره من متبعي العقائد الأخرى؟
5 . دفاع عن حق الكرامة، وهذه الكرامة التي وهبها الله الإنسان والمبتنية على أساس الفطرة والعقل ليست للنقل والانتقال، فمن لم يحترم هذا الحق وأستخف بكرامة آلاخرين القائمة على أساس العقيدة الحقة، وظل مصراََ عليه، لابد أن يعاقب.
"دفاع عن حق الكرامة" هل يعني هذا أن المسيحي أو اليهودي أو البوذي لا كرامة له؟ وما هو حق الكرامة الذي ندافع عنه ؟ وهل وهب الله الكرامة للمسلمين فقط ؟ ماذا حدث لهذه الكرامة قبل أن يأتي الإسلام ؟ هل الأنبياء من زمن آدم لم يكن لهم كرامة ؟ وإذا كانت لهم ولأتباعهم كرامة، هل انتهت هذه الكرامة بظهور الإسلام ؟ وإذا ارتد المسلم عن دينه، كيف يكون قد استخف بكرامة الآخرين ؟
6 . إن صاحب الحق المطلق على الإنسان هو الله عز وجل، فأن الارتداد بما فيه من جحود وعناد، وتمرد واستعلاء على صاحب هذا الحق وخروج عن دائرة العبودية، لذا لابد أن يوقف المرتد عند حده.
فقد رأينا أن صاحب الحق (الله) لم يقل اقتلوا من ارتد عن دينه، بل قال الذين يرتدوا لن يضروا الله شيئاً، فمن أعطى الفقهاء الحق في أن تعلوا كلمتهم فوق كلمة الله ؟
7 . وفقاََ للنظرية الإسلامية وما تؤمن به، من إن آلاخرة هي الحياة الحقيقية للإنسان وأن الدنيا دار ممر، وأن الكافر كلما بقي في هذه الدنيا زاد عذابه في آلاخرة، قال تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرُ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماََ ولهم عذاب مهين). لذا فأن قتل المرتد يعتبر رحمة به وتخفيفاََ من عذابه
فالكافر كلما بقى في الدنيا مدة أطول كلما زاد الله له العقاب يوم القيامة، والله يقول " ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرُ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماََ ولهم عذاب مهين " وهذا يعني أن الله يمد لهم في الحياة الدنيا حتى يزيد من عذابهم في الآخرة. فالمرتد الذي أصبح كافراً يريد الله أن يمد له في الحياة الدنيا حتى يزيد عقابه في الآخرة، فلماذا يقتله الفقهاء ويحرمون الله من أن يزيد في عقابه في الآخرة ؟
8 . إن النظام الإسلامي الذي أقره المجتمع المسلم وأرتضى أطروحته يعتبر موافقاََ للديمقراطية في الكثير من جهاته. فموافقة الشعب على هذا النظام وتبنيه له جعل منه شريعة مختارةُ لا مفروضة عليه. والإختيار يولد مسوؤلية وإلتزام
وهذا لعمري عين الإجحاف وتحريف الكلم عن مواضعه. فالديمقراطية تعنى في المقام الأول بحرية الاختيار. فإذا منح المجتمع الإسلامي نفسه الحرية في أن يكون مسلماً فالديمقراطية تتطلب أن يمنح الشخص أو الفرد حرية الاختيار ليختار أي معتقد يريد. ثم أن المجتمعات الإسلامية كما بينا سابقاً لم تختر الإسلام وإنما تربوا عليه منذ صغرهم ولم يمنحوا حرية الاختيار عن علم. فمحاولة تبرير قتل المرتد ما هي إلا محاولات يائسة كمحاولة الغريق التشبث بما يطفوا أمامه مهما كان واهياً.

أما آن للفكر الإسلامي أن يتحرر؟

الزمان: عام 399 قبل الميلاد
المكان: أثينا عاصمة اليونان
المناسبة: محاكمة سقراط، أكبر الفلاسفة القدماء الذي كرس حياته لتعليم الناس الورع والفضيلة والسلوك السوي. وعندما بلغ الأربعين كرمه الأثينيون في معبد دلفي وخلعوا عليه لقب " أحكم الحكماء ". ولما سئل عن السبب في ذلك، قال: " لأن أغلب الناس يجهلون مدى عِظم جهلهم، وأنا أعرف مدى جهلي. " وهذا القول يجسد التواضع للعلم وكأنه يقول: رأيي صواب لكنه يحتمل الخطأ لجهلي بأشياء كثيرة. هذا الرجل العظيم أثار حفيظة رجال الدين، حراس الفضيلة، فاتهموه بإفساد عقول النشئ وبإدخال البدع في دين آبائه، لأنهم لم يعرفوا مدى جهلهم واعتقدوا أنهم يملكون الحقيقة الكاملة. فعقدوا له محكمة دينية حكمت عليه بشرب السم، فشربه ومات. حدث هذا قبل أن تدخل الديانات السماوية أوربا. وبانتشار المسيحية في أوربا في القرون الوسطى أصبح إخضاع العقل للتعاليم السماوية أمراً حتمياً مسلّماً به. وسلطت الكنيسة سيف الله البتار على رقاب العلماء. وفي عام 1611 ميلادية اخترع العالم جاليليو التلسكوب واستطاع أن يرصد النجوم والكواكب مما أقنعه بصحة نظرية كوبرنكس التي تقول إن الشمس هي مركز الكون، والأرض تدور حولها. ولسوء حظ جاليليو كانت الكنيسة قد أصدرت فتوى في ذلك العام جعلت نظرية كوبرنكس نظرية إلحادية لأنها تقول بعكس التعاليم الإلهية التي جعلت الأرض مركز الكون وجعلت الشمس تجري حولها. وعرضوا جاليليو على محاكم التفتيش التي أجبرته على التراجع عن أقواله العلمية ثم حكموا عليه بالحبس المنزلي إلى أن مات.
وفي عام 1553 حكمت محاكم التفتيش البروتستانتية على الطبيب والمفكر الإسباني ميخائيل سيرفيتيوس Michael Servetus بالحرق حياً، مع كتبه العديدة التي انتقد فيها فكرة الثالوث المسيحي مما أغضب عليه القس كالفن الذي كان قد أنشأ أول حكومية دينية في سويسرا. وفعلاً أحرقوا سيرفيتيوس يوم 27 أكتوبر عام 1553. حدث هذا بعد خمسة عشر قرناً من ظهور السيد المسيح الذي دعا للتسامح، (من كان منكم بل خطيئة فليرمها بحجر)
وحتى الحركات السياسية التي جذبت أنظار الناس بعيداً عن الكنيسة أخضعوا القائمين بها للمحاكم الدينية بدعوى الهرطقة والبدعة. فالشابة الفرنسية جان دارك كانت قد ألّبت الفرنسيين ضد الاحتلال الإنكليزي واستطاعت أن تجذب إليها أعداداً كبيرة من الرجال ليحاربوا معها بادعائها أن الإيحاء يأتيها من الله عن طريق أصوات القديسين الذين ماتوا. واستطاعت في فترة قصيرة أن تلحق الهزائم الفادحة بالجيوش الإنكليزية. وأخيراً تمكن منها الإنكليز، ولكن لخوفهم من ردة الفعل إن أصابوها بضرر، سلموها للمحاكم الكنسية برئاسة قساوسة متعاونين مع الإنكليز (وعاظ سلاطين) فأجبروها أن تتراجع عن مزاعمها وسجنوها، لكنها رجعت إلى زعمها الأول بأنها تسمع أصوات القديسين، فحكم عليها وعاظ السلاطين بالحرق حيةً حتى الموت في عام 1413م ولم يتجاوز عمرها التاسع عشرة سنة. وفي عام 1911 قدستها نفس الكنيسة التي أحرقتها، وجعلتها " سانت جان دارك " Saint Joan of Arc
ولم ينحصر كبت الفكر في الكنيسة المسيحية فقط، ففي عام 1656م تصادم الكاتب الفبلسوف ورجل الدين اليهودي باروش إسبنوسا Baruch Spinoza مع الحاخامات اليهود في هولندا التي كان قد هرب إليها من إسبانيا عندما أجلت إسبانيا يهودها. وكان باروش قد درس فلسفة توماس هوبز وديكارت وتأثر بهما وأثّر بدوره في الفلاسفة الألمان الذين تبنوا فلسفته. وكانت آراؤه عن الصالح والطالح والطيب والخبيث قد أغضبت الحاخامات، فقد عرّف " الطيب " بكل ما يجد فيه الإنسان متعة. وقد رفض باروش أن يفرّق بين العقل والإرادة، وقال إن الإنسان لا يمكن أن تكون له إرادة بفعل شئ يتعارض وعقله. وبدون أي تردد حكم الحاخامات بإخراج باروش من الديانة اليهودية ( لأنهموكلاء الله على الأرض)، فغيّر باروش اسمه إلى " بنيدكت " Benedict. وخسر الحاخامات الهولنديون الذين نسى الناس أسماءهم لكنهم لم ينسوا اسم باروش.
واستمر تعتيم الأديان على العقل وانتشر انتشار النار في الهشيم في الدولة الإسلامية، خاصةً بعد أن أغلق فقهاء بغداد باب الاجتهاد في القرن الثاني عشر الميلادي. واستمر هذا التعتيم حتى الآن. وصاحب هذا التعتيم قتل المفكرين، فمنذ أن أعدم الخليفة الأموي هشام المفكر جعد بن درهم في عام 742م بتهمة الزندقة أصبح قتل المفكرين وحرق كتبهم وحرق المكتبات العامة ديدن الدولة الإسلامية. ومن المفارقات العجيبة أن النهضة العلمية والترجمة وتعلم الفلسفة وصل ذروته في الدولة العباسية، وكذلك، للأسف، وصل قتل المفكرين ذروته فيها. فقتلوا ابن المقفع عام 760م بعد أن قطّعوا أوصاله وألقوها في النار، وابن العوجة في عام 772. وفي عهد الخليفة المهدي ( 775-785) أقاموا محاكم الزنادقة التي قتلت وحرقت أعداداً كبيرة من المفكرين مثل بشار بن برد الذي قُتل عام 784، وصلاح بن عبد القدوس عام 783، وحماد عجرد. وأعدموا الحلاج والسهروردي وغيرهم. والمفكرون الذين لم يُقتلوا اتهموهم بالزندقة وصادروا كتاباتهم، فمن هؤلاء ابن العربي وابن رشد وابن المقفع وأبو العتاهية وأبو تمام وأبو عيسى محمد بن الوراق، وغيرهم كثير.
وكنا نعتقد أن فقهاء الإسلام المعاصرين قد تعلموا من التاريخ وعرفوا أن جهدهم في محاولة كبت الفكر، مثل جهد سيزيف الذي حاول مراراً دفع الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، سوف يحالفه الفشل، فليس بمقدور إنسان إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء. ولكن فقهاء الإسلام استمروا في إصدار أحكام الإعدام على المفكرين مثل محمود محمد طه المفكر السوداني الذي شنقه أمير المؤمنين النميري، والمفكر والأستاذ الجامعي والكاتب الإيراني هاشم أغاجاري الذي حكمت عليه محكمة الملالي في مايو 2004 بالإعدام بتهمة الإساءة إلى الدين. ومن لم يحكم عليه الملالي والفقهاء بالإعدام مباشرة، حكموا عليه بالإعدام بطريقة غير مباشرة بأن أصدروا فتوى بردته وخروجه عن الملة مما حدا بالمتزمتين إلى قتلهم كما حدث مع المرحوم فرج فودة ومحاولة قتل الكاتب المصري نجيب محفوظ. وفي الجزائر قتلوا المئات باسم الإسلام منهم: محمّد بو خبزة وبختي بن عودة وسعد بختاوي وعبد الرّحمان شرقو، ويوسف فتح اللّه وزيان فرحات ويوسف سبتي، وعبد القادر علولة وزيان فرحات وغيرهم (د. رجاء بن سلامة، إيلاف 31/أكتوبر/ 2004).
ومن لم يكفروه صادروا كتبه، فقد صادروا وليمة أعشاب البحر للكاتب حيدر حيدر بعد ثلاثين سنة من نشرها، وصادروا نقد الخطاب الديني للدكتور نصر حامد أبو زيد، وصادروا نوال السعداوي وجمال البنا والمفكر الأزهري د. أحمد صبحي منصور. وقرر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر منع نشر وتداول كتاب «مدعو النبوة في التاريخ» لمؤلفه الصحافي وليد طوغان، وهو الكتاب الذي يقدم قراءة تاريخية واجتماعية ودينية للفترة التي سبقت عهد الرسول إلى الخلافة الفاطمية. وفي الوقت الذي صرح فيه مسؤول بمجمع البحوث الإسلامية بأن أعضاء المجمع استندوا في قرارهم بمنع نشر الكتاب إلى احتوائه على العديد من العبارات والألفاظ الخاطئة التي تثير الخرافات والبلبلة بين المواطنين وأنه ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة ( الشرق الأوسط 12 يناير 2005). كأنما المسلمين ليس لديهم ما يكفيهم من الخرافات فاحتاجوا وليد طوغان لينشر بينهم الخرافات. وكذلك أصدر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر برئاسة شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي قراراً بمصادرة كتاب بعنوان «ملامح النصوص الأدبية في العصر الحديث» للدكتور عبد الحميد علي عميد كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر بالزقازيق والذي كان يدرسه لطلاب الكلية ضمن المقررات الدراسية وذلك لاحتوائه على نصوص أدبية وأشعار ومسرحيات تخالف المنهج الذي يسير عليه الأزهر. ( لأن مخافة الأزهر تُعتبر كفراً بواحاً)
وفي اليمن كفّر الشيخ الزنداني رئيس الجامعة الإسلامية السيد سمير اليوسفي رئيس تحرير " الثقافية " الحكومية أبرز الصحف اليمنية إثارة للجدل في الوسطين الثقافي والسياسي، خاصة وأن البعض يراها منبرا للعلمانيين واليساريين وشعراء الحداثة، بالإضافة إلى كونها تخوض دائما معارك قوية ضد الإسلاميين، وتهاجم بشراسة أفكار الغلو والتشدد . " ( إيلاف 28 يناير 2004)
وفي الكويت حُكم على الدكتور أحمد البغدادي الأستاذ بجامعة الكويت الذي أدانته محكمة الاستئناف الكويتية بتهمة «تحقير مبادئ الدين» على خلفية قيامه بنشر مقال في صحيفة «السياسة» الكويتية تحت عنوان «أما لهذا التخلف من نهاية؟»، اعتبرها البعض، من بينها هيئة المحكمة، تحتوي على آراء وأفكار تميل إلى تحقير الدين والاستهزاء به. ( الشرق الأوسط، 21 مارس 2005). وكل ما فعله الدكتور البغدادي أنه هاجم وزارة التربية والتعليم لاقتراحها إلغاء دروس الموسيقى وإحلال دروس تجويد القرآن محلها.
وفي الرياض اصّدرت المحكمة الجزائية حكماً على أستاذ اللسانيات في جامعة الملك سعود الدكتور / حمزة المزيني على دعوة حسبه قدمها ضده / عبد الله بن صالح البراك ، الأستاذ المشارك في قسم الثقافة الإسلاميـة " وقد تضمن الحكم ثلاثة أمور أولها المنع من ممارسة الكتابة وثانيها السجن أربعة اشهر والثالثة ( 200 ) جلدة. والجدير بالذكر أن القاضي حكم أولاً على د. المزيني بالسجن سنة والجلد 70 جلدة، وعندما اعترض الدكتور على صلاحية المحكمة لمحاكمة شكاوي المطبوعات، غضب القاضي وزاد الحكم. وبما أن المحكمة شرعية وتأتمر بأمر الشارع، كان لزاماً على القاضي ألا يحكم وهو غضبان، فقد قال الرسول (ص) "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان" ومثل هذا عند مالك أن يكون عطشانا أو جائعا أو خائفا أو غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم. و إذا حكم وهو غضبان، يحتمل أن يقال: لا ينفذ حكمه فيما وقع عليه النص وهو الغضبان، لأن النهي يدل على فساد المنهى عنه. ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام ابن رشد القرطبي، كتاب الأقضية، الباب السادس، متى يقضي). والأهم في الأمر أن القاضي حاول منع الفكر وإبداء الرأي بجلد أستاذ جامعي يُفترض فيه أن يربي أجيال المستقبل. ولعمري هذه إهانة لا يعادلها إلا إهانة ضرب المرأة ضرباً غير مبرح، كما يقول الفقهاء. ولولا تدخل ولي العهد سمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز لوقف هذا الحكم الممعن في احتقاره للعقل، لتحدثت كل بلاد العالم بتخلف العقلية الإسلامية.
وفي بعض الحالات ينقلب السحر على الساحر وتأتي الفتاوى بنتائج عكسية على المفتي لأن المجتمعات الإسلامية مجتمعات ذكورية أبوية لا تعترف بحق إبداء الرأي للمواطنين، فقد قررت محكمة الجنايات الكويتية برئاسة المستشار وائل العتيقي حبس الخطيب الديني الشيخ حامد العلي عامين مع وقف التنفيذ لإدانته بالطعن علنا وفي مكان عام في حقوق الأمير وسلطته لسماحه بالمشاركة في حرب تحرير العراق العام الماضي ( الشرق الأوسط 20 يونيو 2004). فالمواطن في غير بلادنا يحق له أن ينتقد ويهاجم قرارات حكامه دون خوف أو وجل.
ومنذ بداية الألفية الأولى قبل الميلاد وحتى اليوم ونحن في الألفية الثالثة بعد الميلاد، لم يكف رجالات الدين عن محاولة كبت العقل وادعاء امتلاكهم للحقيقة دون أن ينجحوا في مسعاهم. ولن ينجحوا لأن التطور هو سنة الحياة، وقد أظهر تطور الرسالات السماوية والعدد الهائل من الرسل والأنبياء أن لا شئ يظل راكداً وجامداً دون أن يموت أو يتطور. فهل آن لرجالات الإسلام أن يحترموا العقل ويكفوا عن عبادة النقل ؟ نأمل ذلك.

الاعتقاد ليس ضرورة لإنسان اليوم

كتب د. عصام عبد الله، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس، مقالأ في إيلاف تحت عنوان "ضرورة الاعتقاد" شرح فيه أهمية الاعتقاد الديني للبشر وتطرق إلى نظريات بعض الفلاسفة والمفكرين مثل باروخ سبنوزا وتوماس مور وميكافلي. والمقال، مع قصره، قد لخص تلخيصاً جميلاً آراء المفكرين الذين تعرض لهم. ولكن لديّ بعض الملاحظات التي أرجو أن يتسع صدر د. عصام عبد الله لعرضها على القراء.
يقول د. عصام: "أرتبط لفظ (اعتقاد Belief ) في أذهان معظم الناس بالاعتقاد الديني مع أن هناك معتقدات كثيرة غير المعتقدات الدينية يؤمن بها الناس. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية وخطورة الاعتقاد الديني في أنظار جميع الناس." واعتقد أن د. عصام قد عمم تعميماً لا تسنده الحقائق، فلو قال إن الاعتقاد الديني كان مهماً في أنظار جميع الناس، لقبلنا منه هذه المقدمة، إذ أن الاعتقاد الديني في مرحلة تطور الإنسان كان سائداً في جميع المجتمعات الإنسانية. وكان هذا الاعتقاد ضرورياً لقصور الذهن البشري في تلك الحقبة من تاريخه في فهم من أين أتى وإلى أين يصير ولماذا تغيب الشمس وتتركه في الظلام لفترة طويلة كل يوم. ولعجز هذا الذهن عن فهم الطبيعة وظواهرها احتاج الإنسان إلى القوى الميتافيزيقية ليستعين بها في قبول ما يحدث ومحاولة التأثير فيما سوف يحدث. ولكن مع تقدم نمو الذهن البشري وميلاد العلوم الطبيعية ما عاد كل إنسان يعتمد على هذه القوى الميتافيزيقية ليطمئن قلبه. ولذلك أصبح عدد الذين لا يعتقدون أي اعتقاد ديني Agonists حوالي 1.1 مليار شخص في عالم اليوم www.adherents.com . وهذا العدد لا يقل كثيراً عن أتباع الدين الإسلامي في عالم اليوم (1.2 مليار شخص). ولذلك لا يمكن أن نقول إن الاعتقاد الديني مهم في أنظار جميع الناس، كما قال الدكتور.
ويقول د. عصام: " والإنسان لا يستطيع أن يعيش يومًا واحدًا دون الاعتقاد في شيء يجلب له الطمأنينة، ذلك أنه لا يحرك الأحداث والمصائر والمقادير وفق مشيئته. فالاعتقاد ليس زخرفًا يتحلى به الإنسان، بل هو قوام جوهري لاستمرار الحياة، فاللحظة التي يفقد فيها المرء قدرته على الاعتقاد تكون هي ذاتها اللحظة التي يجن فيها، أو ينهي حياته عندها دون تردد على الإطلاق. " وأعتقد أن هذه المقولة مبالغ فيها بعض الشئ إذ أننا نعرف من تجاربنا اليومية أن الطفل يحتاج إلى ما يُطمئن قلبه ويجعله يخلد للنوم إذا لم يكن جائعاً. وقد يكون هذا الشئ مصاصة اعتادت أمه أن تضعها في فمه قبل النوم أو كلما بكى، وقد يكون "تيدي بير" صغير يحضنه في ذراعيه. وهكذا كان حال الإنسان البدائي الذي لم يكن ذهنه قد نما ليفهم ما حوله. ولكن حتى الطفل الصغير إذا لم يجد مصاصته التي تطمئن قلبه فإنه سوف يبكي ويتضجر لفترة قد تطول يخلد بعدها للنوم مطمئن البال. ولو تكرر غياب مصاصته فسوف يتخلى عنها نهائياً ويستمر في حياته دون أن يموت. وإنسان اليوم يستطيع أن يعيش دون الاعتقاد في أي شئ بدليل الأعداد المتزايدة من اللادينيين الذين أصبحت لهم مواقع عديدة بالإنترنت، نذكر منها على سبيل المثال www.ladeeni.com. ورغم أن الإنسان لا يستطيع أن يتحكم في المصائر والمقادير، لا يمثل الاعتقاد قوام جوهري لاستمرار حياته. فالإنسان الذي قد وصل إلى درجة كبيرة من النمو العقلي يعرف أنه لا يستطيع التحكم في كل ما يحدث له رغم أنه يستطيع تغيير مجرى الأحداث باتخاذ خطوات معينة لسلامته تشمل الحيطة واتباع قواعد السلامة المعروفة. وما لا يستطيع التحكم فيه أو التأثير عليه فلن تستطيع قوى ميتافيزيقية السيطرة عليه أو التأثير به، ولذلك فهو يتقبل ما لا يستطيع تغييره. والإنسان اللاديني لا يموت ولا يجن فينهي حياته.
وتوماس مور الذي كان كاثوليكياً ملتزماًً ربما كان محبطاً نفسياً وعقلياً بثقل اعتقاده الكاثوليكي الذي كان في تلك الحقبة أكثر تزمتاً من إسلامويي اليوم ولم يكن يتحمل الآخر البروتستاني أو المسلم، وربما حمل هذا التزمت توماس مور لكتابة "يتوبيا" تلك الجزيرة التي بلغت أقصى درجة في تحمل الغير حتى أن بعض ساكنيها كانوا يعبدون الأسلاف، وهي انعكاس لحقيقة العالم الواسع في تلك الأيام. وربما كان توماس مور يتوق في داخل نفسه أن يتحرر من ذلك الاعتقاد الذي جعل حياته العملية تختلف كل الاختلاف عن كتاباته عن حرية " يوتوبيا". فقد كان توماس مور بمثابة وزير العدل في عهد الملك هنري الثامن الذي كان متعصباً للكاثوليكية في بداية حياته وكان توماس مور من مستشاريه المفضلين. والاعتقاد الديني لتوماس مور جعله يحرق ستةً من البروتستانت على الصليب وهم أحياء وسجن ملا يقل عن أربعين آخرين. وهذا الاعتقاد الذي منعه من مسايرة أفكاره التحررية أفقده حياته في نهاية المطاف لأنه لم يستطع أن يحمل نفسه على الاعتراف بالملك هنري الثامن رأساً على الكنيسة الإنكليزية التي كانت قد انفصلت عن روما لمعارضة الأخيرة زواج هنري من مطلقة. فالاعتقاد لم يكن ضرورياً لتوماس مور، الرجل الذكي والمفكر الواعي، وإنما كان ضاراً له إذ كلفه حياته.
وقد لخص د. عصام أفكار توماس مور في اليوتوبيا بأن الشعور الديني عند الإنسان يعني أمرين: "الأول.. أن الشعور الديني منذ البداية يستشعر وجود إله واحد مجرد ولكن وسائل الاتصال به لا تكون واضحة منذ البداية، كما أن المفهوم الخاص به لا يكون قد تبلور بعد.
الأمر الثاني .. أن عملية تطور الشعور الديني من مرحلة عبادة الظواهر الطبيعية Fetishism أو عبادة الأسلاف، إلى مرحلة عبادة الإله الواحد المجرد .. إنما تتم على نحو استدلالي عقلي خالص، دون الاستعانة بوحي أو تبليغ من نبي أو رسول، ومعنى هذا أن الديانة في هذه الحالة تؤول إلى نوع من اللاهوت الطبيعي Natural Theology.
والاستنتاج الأول ليس بالضرورة مقبولاً لكل الناس، فالشعور الديني في بدايته وحتى الألفية الأولى بعد الميلاد لم يكن قد قاد إلى فكرة الإله الواحد المجرد إذ أن الناس في جميع أنحاء المعمورة، ما عدا أتباع موسى، كانوا يؤمنون بالتعددية سواء في الإسلاف أو آلهة السماء عند البابليين أو الإغريق أو الرومان. فيمكن أن نقول إن فكرة الوحدانية كمفهوم عالمي لم تنتشر إلا بعد أن اعتنقت الإمبراطورية الرومانية المسيحية في عام 325 ميلادية. وعمر الوحدانية بالمقارنة مع عمر التعددية منذ أن استقر الإنسان وعرف الأديان بعد العصر الجليدي الأخير قبل حوالي اثني عشر مليوناً من السنين يمثل جزءاً بسيطاً من عمر الإنسان على هذه الأرض. فلم تكن وسائل الاتصال بالإله هي التي كانت متعددة وإنما الآلهة أنفسهم كانوا متعددين.
أما الأمر الثاني بأن الاستدلال على الإله الواحد يتم بالاستدلال العقلي دون حاجة للوحي، فلا يتفق وتجارب الإنسان في هذه الحياة. فالاستنتاج العقلي قد يقود الإنسان إلى أن هناك قوة ما خلقته وخلقت الأرض والقوانين الطبيعية، لكن الاستدلال العقلي لم يكف في الماضي إلى التوصل إلى الوحدانية، بل حتى بعد أن جاء الأنبياء بالوحي لم يقبل العقل البشري فكرة التوحيد وقاومها عندما جاء موسى وقاومها عندما جاء عيسى وقاومت قريش محمداً. فليس هناك لاهوت طبيعي يُقنع العقل.
والغريب أن توماس مور لم يستفد من أفكاره عن اليوتوبيا بقدر ما استفاد منها المفكر العظيم كارل ماركس ليخلق اليوتوبيا الشيوعية التي أبعدت الاعتقاد الديني وحلت محله الاعتقاد العقائدي، الذي لم يكن أكثر تحملاً للغير من الكنيسة الكاثوليكية أو السلف الإسلامي أو اليهودي. ولكن عامة الناس في الاتحاد السوفيتي فقد تخلصوا بالتدريج من اعتقاداتهم الدينية والعقائدية وكانوا في حالة استعداد لموت النظام الشيوعي. ولم يؤدِ إنهيار الشيوعية إلى تسابق الناس لاعتناق الأديان أو أي عقائد أخرى، مما يُثبت أن الاعتقاد ليس ضرورياً وإنما يُزرع في الناس وهم أطفال فيخيل إليهم عندما يكبرون أنه ضروري.
أما ميكافلي المُنظّر السياسي البارع فيقول في كتابه "أحاديث عن ليفيوس"، كما ذكر د. عصام: "الأمراء والحكومات الجمهورية الذين يريدون أن يحافظوا على أنفسهم من الفساد ينبغي عليهم قبل كل شيء آخر أن يحافظوا على شعائر دينهم مبرأة من الفساد، وأن يحترموها على الدوام، فليست هناك دلالة على خراب دولة أوضح من الاستهانة بقدر العبادات الإلهية. ومن اليسير إدراك ذلك إذا عرف المرء على أية قواعد يقوم الدين الذي يولد به هذا الإنسان. فكل دين تقوم أركانه على بنية أساسية هامة خاصة به." والسبب الذي من أجله قال ميكافلي هذه المقولة رغم أنه لم يكن رجل دين هو أن الدولة في ذلك الوقت لم يكن لها قانون يحكمها ولا لها نظام يعاقب رجل الدولة إذا فسد. فكان الحل الوحيد أن يلجأ ميكافلي إلى الدين عله يقوم مقام الشرطي عند رجل الدولة الفاسد، فيقلل من نسبة الفساد فيهم. أما في وقتنا هذا فلا نحتاج للدين لينظم لنا عمل الدولة أو يحاسب رجل الدولة الفاسد المرتشي، فقوانينا الوضعية تقوم بهذا الدور أفضل مما قامت به القوانين الدينية التي اعتمدت على الوازع والضمير، بينما كان أغلب رجالات الدولة لا ضمير لهم.
يقول د. عصام: "فحياة الديانة الوثنية كانت مؤسسة على إشارات العرافة، وعلى جماعة المتنبئين وقارئي الغيب، فكل شعائرهم وأضاحيهم وطقوسهم الأخرى كانت تتوقف على هذه الإشارات، فقد كان من السهل عليهم أن يعتقدوا أن الله قادر على التنبؤ بالخير أو الشر في المستقبل قادر أيضًا على تحقيقه. ومن هنا كانت القرابين والصلوات وكل طقس فـي إجلال الآلهة. كان هذا أساس عرافة ديلوس، وكهانة معبد جوبيتر أمون، وغيرهما من أماكن الوحي الشهيرة التي ملأت العالم بالإعجاب والتمسك بالدين، فلما بدأت هذه العرافات تتنبأ بما يوافق رغبات الأقوياء، واكتشف الناس هذا الزيف، فقد الناس إيمانهم وظهر استعدادهم لنقض كل العادات الصالحة." وتاريخ الأديان والدول منذ أيام دولة الفراعنة ومروراً بالدولة الإسلامية الأولى يؤكد لنا أن الكهنة وفقهاء الدين كانوا دائماً يتنباؤون أو يفتون بما يوافق رغبات الأقوياء، وقد أصاب عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي حينما سماهم "وعاظ السلاطين". فلو قرأنا تاريخ ولادة الكتابة عند الإنسان نجد أن أول من تعلمها كانوا الكهنة الذين كانوا يشرفون على بيت مال السلطان الملئ بالضرائب التي جمعوها من قوت الشعب، فكان الكهنة يكتبون ما يسر السلطان ويختلسون الجزء الأكبر من الضرائب بلا خوف إذ لم يكن هناك من يعرف الكتابة والقراءة غيرهم. والشعب الجائع كانوا يعرفون الحقيقة ولذلك فقدوا إيمانهم.
واستمر ميكافلي، رجل السياسة فقال: "فواجب من يحكمون الجمهورية أو المملكة إذن هو أن يحافظوا على أسس الدين الذي يتبعونه. فإن وفقوا إلى ذلك في أنفسهم، أمكنهم في يسر أن يحافظوا على التدين في بلادهم، وأن يحفظوا بلادهم في خير واتحاد، وينبغي عليهم أن يهتموا بكل الاحداث التي يبدو أنها تقوي الدين وأن يضخموا من شأنها، ولو كانوا يعتقدون أنها كاذبة، وكلما ازداد حرصهم وازداد فهمهم للعلوم الطبيعية، ازداد التزامهم بالاهتمام بالأحداث التي تدعم الدين. ونظرًا لأن هذا كان النهج الذي سلكه الحكماء، فقد نشأ الاعتقاد في المعجزات التي تشتهر بها "الأديان"، لأن أهل الفطنة يضخمون من شأنها أيا كان مصدرها. وهكذا تضفي محبتهم على المعجزات مصداقية عند كل الناس" انتهى. فميكافلي هنا يستعمل الدين كوسيلة، وبما أن مقولته المشهورة هي "الغاية تبرر الوسيلة" فقد أباح لرجال الدولة أن يكذبوا ويرفعوا من شأن الدين والمعجزات ليوهموا الرجرجة والدهماء أن رجال دولتهم خيرين ولذلك الدولة كلها خيرة، رغم الفساد المستشري بها. وكلما فهم هؤلاء الساسة العلوم الطبيعية التي تُظهر لهم زيف معتقداتهم كلما تشددوا في نشر هذه المعتقدات حتى يبقى الشعب بقرتهم الحلوب. فرجال الدولة أنفسهم لا يتبعون تعاليم دينهم إلا مظاهراً فقط، ولكنهم يحثون العامة على اتباعه كي يطلوا مخدرين، إذ أن الدين أفيون الشعوب، كما قال ماركس.
يقول د. عصام: "القضية عند مكيافيللي ليست في صحة الدين أي دين، أو في زيفه، ولكن في وجوب التمسك به نظرًا لوظيفته الهامة في ضبط المجتمع. وليس من الضروري أن تكون المعجزات أو الكرامات مثلاً صحيحة، وإنما المهم أن يعاملها الحكام على أنها صحيحة، بل وأن يقووا اعتقاد الناس فيها، وأن يدعموا فيهم الإيمان بالغيبيات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا بغض النظر عن صدقها أو عدم صدقها. فدين زائف خير من لا دين على الإطلاق، كما يقول بعض المفكرين." وهذا هو سبب مأساة الشعوب الجاهلة في العالم الثالث. فالدين من المفروض فيه أن يزرع في النفوس الفضائل ويحصد منها الرذائل مثل الكذب والخيانة والسرقة. ولكن رجال الدولة، رغم عدم اعتقادهم بالدين، فإنهم يحببونه للعامة ويقوون اعتقادهم في المعجزات حتى يخدر الشعب نفسه في انتظار تلك المعجزات التي سوف تزيح عنهم الفقر والعبودية. وفي اعتقادي أن اللادين أفضل مليون مرة من دينٍ زائف.
ويسأل الدكتور عصام ويجيب: "متى تنحرف الأمم إذن عن الدين؟ حين ينحرف عنه رجال الدين ويتحولون إلى مجرد أدوات تسوغ للناس ما يفعله الأقوياء وتبرر رغباتهم بالباطل طبعًا. المهم إذن هو المحافظة على "أسس" الدين الذي تدين به الجماعة، أيا كان هذا الدين، والعبث بهذه الأسس من جانب الحاكم ينتهي بالعبث بها من جانب المحكوم. وخير دليل على هذا هو ما نزل بالعالم المسيحي من تفكك في أواخر العصور الوسطى." انتهى. ويتضح من هذا الاستنتاج أن الاعتقاد ليس ضرورياً للبشر إنما ضروري لرجال الدولة حتى يكبتوا شعوبهم باسم الإله ودينه. وانحسار الدين في أوربا لم يكن سببه عبث رجال الدولة بالدين، فرجال الدولة يعبثون بالدين في كل الدول، وإنما كان سبب تراجع الدين هو الثورة الصناعية وما صاحبها من تعليم أصبح إجبارياً في أغلب دول أوربا. أما في العالم الثالث حيث يعشعش الجهل فما زال سلطان الدين قوياً رغم عبث رجالات الدولة به.
ويتعرض د. عصام إلى فلسفة الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبنوزا فيقول: "أما (اسبينوزا) (1632 – 1677) الذي أجمل العقائد الشائعة في عصره وعرضها في كتابه "البحث اللاهوتي السياسي" Tractatus Theologico-Politicus عام 1670، فلم يذهب بعيدًا عما ذهب إليه مكيافيللي، وإن تعمق أكثر في الوظيفة السيكولوجية والاجتماعية للمعتقدات الدينية، وحسب "برنشفيك": "فإنه مثلما وضع ديكارت أسس التحليل الخالص والفيزياء الرياضية، فكذلك يعد اسبينوزا واضع المنهج السيكولوجي والاجتماعي الذي هو أساس علم التفسير الحديث". انتهى. ورغم أن سبنوزا كان رجلاً ملماً بعلم الرياضيات الذي مكنه من معرفة أعماق الكون بواسطة التلسكوبات التي كان يخرط لها العدسات اللازمة، فقد كان مهتماً كذلك بالأخلاقيات وما وراء الطبيعة أي الغيبيات. ولذلك لم يكن اعتقاده في الديانة اليهودية التي تربى عليها كبيراً، فكان أول من بدأ نقد الإنجيل والتوراة. وعندما قال سبنوزا أن الله هو آلية الكون والطبيعة، وعليه لا يمكن أن تكون له شخصية مجسمة يمكن وصفها، طرده الحاخامات من الكنيس اليهودي فأصبح بلا دين رسمي. واستمر في تكوين أفكاره وفلسفته وقال "الله والطبيعة اسمان لنفس الحقيقة" وقال "كل شئ يفعله الإنسان أو الطبيعة فهو فعل جميل وإلهي". ودعا إلى أن تكون السلطة كلها في يد الدولة ولا سلطة لرجال الدين حتى لا يضطهدوا بقوانينهم أهل دين آخر. فهذه الأقوال لا تنم عن اعتقاد ديني لاسبنوزا الذي ربما كان اعتقاده في الطبيعة بمثابة اعتقاد الغير في الآلهة. وأدت أفكار سبنوزا إلى قيام حركة "الاعتقاد الكوني" Pantheism التي صاغ اسمها الكاتب الأيرلندي جون تولاند. فهؤلاء الناس لا يدعون إلى الاعتقاد بأي إله وإنما يقولون إن الطبيعة بنفسها قوة خلاقة. ويقولون "الإله هو الكل والكل هو الإله". ورغم أنهم لا ينكرون وجود إله إلا أنهم يقولون إن الربوبية لا تخترق أو تحل محل الحقيقة، وإنما تحيط بها وتختلط معها. والنبراس الذي يقودهم هو أخلاقيات الفرد Ethics ومقدرته على تحمل الآخر. ولذلك استهوت الفكرة أنشتين فقال "أنا أومن برب سبنوزا الذي يُبدي نفسه في انتظام ما هو موجود، وليس الإله الذي يشغل نفسه بالأقدار وأفعال العباد". وقال خربيشوف، الذي هو من أتباعهم: "بالنسبة لي الطبيعة مقدسة، الأشجار هي معبدي والغابات هي كاتدرائيتي". فهل يمكن أن نقول إن أشخاصاً مثل أنشتين وخوربيشوف لديهم اعتقاد يمكن أن يكون دينياً بأي حال من الأحوال ؟
ووظيفة العقيدة أو الاعتقاد كما يقول سبنوزا هي الوظيفة العملية التي تجعلنا نتحمل ونحب جارنا بدون أي اعتبار لدينه أو عرقه أو لونه، وما عدا ذلك متروك للعقل. وهذا بالضبط هو عكس ما يدعو إليه الاعتقاد الديني. فهل الاعتقاد حقاً ضروريٌ للبشر؟ أنا من جانبي أقول لا وألف لا.

النقيضان لا يجتمعان: الدين والعقل

الإيمان بالأديان ما هو إلا تأمين على حياة المؤمن لضمان الخلاص من العذاب إذا صح ادعاء الأنبياء بأن هناك يوماً للحساب. فالشخص المؤمن كالإنسان الذي يشتري بوليصة تأمين على حياته، وعندما يموت، بدل أن يقبض أحفاده مبلغاً من المال، يأمل هو أن يقبض ثمار التأمين بدخوله الجنة وتفادي الحريق في النار. ولكن الفرق أن الثمن الذي يدفعه الشخص المؤمن على حياته لشركات التأمين ثمنٌ بسيط ويُدفع على أقساط مريحة، بينما الثمن الذي يدفعه المؤمن مقابل بوليصة التأمين على حياته في الآخرة ثمن مبالغ فيه وربما لا يكون العائد مساوياً لأقساط التأمين. فالمسلم عليه أن يدفع أقساطاً عالية تتمثل في الصلاة خمسة مرات يومياً والحج والصيام والزكاة وتجنب جميع متع الحياة من موسيقى وغناء وخمر ومخالطة النساء أو حتى النظر إليهن. وبما أن هذه الثمن باهظٌ والمردود غير مضمون، حاول رجال الدين الإسلامي منع الناس من التفكير في احتمال أن لا تكون هناك قيامة ولا تكون جنة ولا نار. أو كما قال أبو العلاء المعري:
ما جاءنا أحدٌ يخبر أنه **** في جنةٍ مذ مات أم في نار

و وسيلة رجال الدين الوحيدة لمنع الناس من التفكير في الأقساط الباهظة التي يدفعونها لبوليصة التأمين هذه هي تغييب العقل والمنطق في الخطاب الديني. فالمنطق يقود صاحبة إلى الشك أولاً ثم إلى الحقيقة، ولذلك قال الفلاسفة إن الشك يقود إلى الحقيقة. ولكن الخطاب الديني يمنع الشك بمنع الناس من التفكر في ذات الله وهل من الممكن أن يكوم الله غير موجود؟ فالتفكير في ذات الله كفر يُعاقب عليه المسلم بتهمة الزندقة التي تقود إلى هلاكه. والسبب طبعاً هو أن رجال الدين لا يملكون حُججاً يمكن أن تُقنع الإنسان المتعلم بوجود الله أو بصحة ادعاء الأنبياء بأنهم مرسلون من عند الله. وإذا عجز رجل الدين عن الدفاع المنطقي يحاول الالتفاف على الآخر باتهامه بالزندقة لأنه لا يعترف بالشريعة. وكمثال على منطق الخطاب الديني المعوج فقد أخرج مالك في الموطأ عن ربيعة قال: (( سألت سعيد بن المسيب. كم في أصبع المرأة؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: ففي أصبعين؟ قال عشرون. قلت ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون. قلت ففي أربع؟ قال عشرون. قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها (أي: ديتها ) فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقال ربيعة: بل عالم متثبت. أو جاهل متعلم. قال سعيد: هي السنة يا ابن أخي )). فنلاحظ هنا غياب المنطق كلياً. فدية اصبع المرأة عشرة من الإبل ثم عشرون في اصبعين ثم ثلاثون في ثلاثة أصابع ثم ترجع إلى عشرين إذا فقدت أربعة أصابع. والسبب في هذا المنطق المعوج هو مذهب سعيد والحجازيين أن دية المرأة كدية الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته، فما زاد عن الثلث تكون فيه ديتها نصف دية الرجل،(وبما أن دية الرجل المقتول مائة من الإبل، فأقصى ما تكون دية المرأة ثلاثين. وما زاد عن ذلك تكون ديتها نصف دية الرجل. وبما أن دية الرجل الذي يفقد أربعة أصابع هي أربعون من الإبل تكون دية المرأة التي تفقد أربعة أصابع عشرين من الإبل) وذلك لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته ). ونلاحظ هنا أن سعيد بن المسيب لما أعجزه الرد المنطقي سأل السائل إن كان عراقياً، لأن أهل العراق كانوا معروفين بمحاولة إخضاع الدين للمنطق كما فعل المعتزلة الذين كان أول ظهورهم في العراق. ولما أجابه الرجل بأنه إما عالمٌ لا يقبل رد سعيد وإما جاهل يريد أن يتعلم، أجابه سعيد ب "إنها السنة يا ابن أخي". والذي يخالف السنة ملحد.

والغالبية من الذين يؤمنون بالأديان، خاصة الدين الإسلامي، يصبحون كالروبوت الذي يتحكم فيه المبرمج بواسطة شرائح الكومبيوتر فيفعل الروبوت كل ما يطلبه المبرمج دون الحاجة إلى عقل أو تفكير. فمثلاً عندما جاء محمد وقال إنه مرسل من عند الله آمن به الأنصار أولاً ثم بقية العرب ولكن عندما جاء ثمامة بن حبيب أبو مروان بنفس الادعاء في اليمامة وجاء بقرآن يشبه قرآن محمد، اتهمه محمد بالكذب على الله رغم أن بني حنيفة آمنوا بثمامة، تماماً كما آمن أهل المدينة بمحمد. والمسلمون لم يناظروا ثمامة في محاولة لمعرفة الحقيقة، إنما سموه "مسيلمة الكذاب" و لجئوا إلى السيف والقتل للظهور على دينه حتى لا ينافس الإسلام. فأرسل أبو بكر خالد بن الوليد على راس جيش عظيم ليحارب بني حنيفة ونبيهم، فقُتل من المسلمين حوالي ألف ومائتان، منهم أربعمائة وخمسون من حفظة القرآن (شذرات الذهب، ج1، ص 23). وقُتل من بني حنيفة سبعة آلاف بعقرباء ومثلهم بالحديقة وفي الطلب نحو ذلك (الكامل في التاريخ، ج2، ص 222). أي قُتل من بني حنيفة ما يزيد عن عشرين ألف رجلٍ. فلا بد أن الذين آمنوا بمسيلمة كانت أعدادهم لا تقل عن الذين آمنوا بمحمد. ولكن لأن أتباع محمد انتصروا وقتلوا مسيلمة، حرّفوا قرآنه وسموه مسيلمة الكذاب ثم طمسوا قرآنه نهائياً. والمنتصر دائماً يكتب التاريخ الذي يمجده ويمحو الآخر. ونفس الشيء كاد أن يحدث لمحمد وأتباعه في موقعة "أُحد" عندما دعاه المكيون كذاباً وشجوا وجهه وكادوا أن يقتلوه. ولو نجحوا لما قامت للإسلام قائمة. ومع ذلك يشهد مسلم اليوم "أن محمداً رسولٌ الله" وأن مسيلمة كذاب، رغم أنه لم ير أي منهما ولم يقرأ قرآن مسيلمة. لكنها البرمجة العقلية.

وتكتمل برمجة أدمغة المسلمين لدرجة أنهم كلما ذكروا محمداً قالوا "صلى الله عليه وسلم" بطريقة مملة ومليئة بالتكرار، وقد تتكرر عشرة مرات في فقرة واحدة. فما المقصود بهذه العبارة؟ فإن القرآن يقول لنا "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" (الأحزاب 56). فإذا قلنا صلى الله عليه وسلم، إما أن تكون كلمة "صلى" فعل ماضي تخبرنا أن الله قد صلى عليه، وإما أن تكون كلمة رجاء نطلب بها من الله أن يصلي عليه. ولكن الله قد أخبرنا مسبقاً أنه وملائكته يصلون على النبي، فلماذا نطلب منهم أن يصلوا عليه كلما ذكرناه ونحن نعرف أنهم يصلون عليه؟ فهل يجلس الله وملائكته طوال اليوم في انتظار أن نذكّرهم أو نطلب منهم أن يصلوا على النبي؟

وبعد موت محمد جعل المسلمون نبيهم كالإله وأسبغوا عليه معجزات تسيء إلى عقل الطفل دع عنك أي شخص عاقل يؤمن بالمنطق. فرغم أن القرآن كرر في عدة آيات أن محمد ما هو إلا بشرٌ مثلنا يوحي إليه " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي" (الكهف 110). ورغم أن القرآن قال إن الله لم يعط محمد آيات أي معجزات "وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون" (الإسراء 59). رغم كل هذا امتهن المفسرون عقولهم وعقولنا وجعلوا لمحمد من الآيات ما يفوق آيات موسى وعيسى معاً. فقالوا: "فكان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، وعن يمينه وشماله، فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تقول: السلام عليك يا رسول الله." (أسد الغابة في تعريف الصحابة لابن الأثير، ج1، ص 22). و "من معجزاته أن الماء نبع بين أصابعه أكثر من مرة". فإذا علمنا أن آية التيمم نزلت لأن عائشة أضاعت عقداً لها كان الجمل قد برك عليه، فتأخر القوم عن الرحيل وظلوا يبحثون عن العقد إلى أن غابت الشمس ولم يكن معهم ماء للوضوء فأنزل الله آية التيمم، تيقنا أن المفسرين وكتاب السيرة قد أعطوا عقولهم والمنطق إجازة مفتوحة. فإذا كان الماء ينبع من بين أصابعه لماذا لم ينبع لهم ماءً ليتوضئوا به؟ أم أن الله أضاع عقد عائشة ومنع نبع الماء بين أصابعه حتى يجد سبباً لإنزال آية التيمم ليسهّل على المسلمين حياتهم؟

وبما أن المسلمين أصبحوا مولعين بالتأليه بعد أن ألّهوا نبيهم، فقد ألّهوا أصحابه كذلك وأصبح كل هم أهل الحديث هو سند الحديث عن طريق الصحابة المؤلهين حتى يصل إلى النبي. فإذا استطاعوا إيجاد هذا السند كبروا وهللوا، ولا يهمهم بعد ذلك متن الحديث في شيء حتى وإن كان معارضاً لصريح القرآن. ومن أمثلة هذه الأحاديث التي تجاهل الرواة متنها حديثاً رواه عبد الله بن عمر: " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: هَجَّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله يُعرف في وجهه الغضب فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". فالنبي هنا قد غضب ومنع الرجلين من الاختلاف في القرآن، ولكن نفس هذا النبي تبسم عندما جاءه عمر بن الخطاب مع رجل كان يقرأ في صلاته بآيات سمعها عمر من النبي بطريقة مختلفة. وعندما أخبر عمر النبي بما حدث، طلب النبي من الرجل أن يقرأ الآيات وقال "هكذا نزل" ثم طلب من عمر أن يقرأ ما حفظ، ثم قال "وهكذا نزل". ثم قال إن القرآن نزل بسبعة أحرف. فلماذا إذاً غضب من الرجلين الذين اختلفا في آية في الشارع ؟ ويؤكد هذه القصة الحديث المروي عن ابن مسعود: " عن النزال بن سبرة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال؛ سمعت رجلاً قرأ آية سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "كلاكما محسن " قال شعبة: أظنه قال: "لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا ". فالمنطق يحتم علينا أن نرفض إما حديث عبد الله بن عمر ونقبل الحديثين عن عمر وعن ابن مسعود، أو نقبل حديث ابن عمر ونرفض الأخيرين. ولكن أهل الحديث أثبتوا الأحاديث الثلاث لأن المتن لا يهمهم بقدر الإسناد.

وبعض الأحاديث تتهم النبي بالجهل دون قصد من الراوي الذي يحاول تأليه نبي الإسلام، فمثلاً نجد: " أخرج أبو داود والدارقطني من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه : هل تجدون رخصة لي في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده...". فمتن الحديث عليه عدة اعتراضات منها: أولاً: لا توجد أي علاقة بين غُسل الرجل وموته، فالرجل قد مات من ضربة الحجر على رأسه، وهذا من الأشياء المعروفة في الطب اليوم عندما يُصاب الإنسان بضربة على الرأس. فقد يظهر عادياً لفترة تتراوح بين دقائق وساعات ثم تظهر عليه علامات النزيف داخل الجمجمة ويموت إذا لم تُجر له عملية لإزالة الدم من الجمجمة. فلا علاقة للماء بموت الرجل، فكم من إنسان أصاب رأسه جرح واغتسل ولم يمت. ثانيا: إذا كان الرجل سوف يعصب خرقةً على رأسه ثم يغسل سائر جسده بالماء ويمسح على الخرقة، فليس هناك أي داعي للتيمم كما يقول الحديث إذ أن الغسل يُبطل التيمم. ثالثاً: قال النبي لماذا لم يسألوا أهل العلم، وهؤلاء الرجال كانوا على سفر عندما حدث هذا الشيء وسألهم صاحبهم وقت الصلاة هل يتيمم أم يغتسل، فأين لهم من يسألونه وهم في سفر؟ فالنبي هنا قد لعن أناساً أبرياء لمجرد إبداء رأيهم عندما سألهم صاحبهم وهم في الصحراء وليس لهم من مرجع يسألونه. فرواة الحديث اهتموا بالسند ولم يعيروا متن الحديث أي اهتمام فرموا النبي بالجهل لأنه ربط بين الغسل وموت الرجل الذي كان مصاباً في رأسه، واتهموه بالظلم لأنه لعن الأبرياء لمجرد إبداء رأيهم.

فالعقل يغيب عندما يدخل الإيمان صدور الناس إذ أن العقل والإيمان لا يجتمعان، وقد قال القرآن: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" (الأحزاب، 4). وغياب العقل هذا هو الذي يجعل الإنسان يُضحي بالحياة الدنيا القصيرة ويدفع أقساطاً مبالغاً فيها للتأمين على الآخرة التي ربما لا تأتي. وإذا غاب العقل اختفي الخوف عند الإنسان. والخوف غريزة زرعتها الطبيعة في الإنسان والحيوان للحفاظ على النوع، وبدون الخوف لا يهرب الإنسان ولا الحيوان من الخطر الذي قد يودي بحياته وبالتالي ينقرض النوع. وانعدام الخوف هو الذي أدى إلى ارتطام الطائرات التي كان يقودها الرجال المؤمنون ببرجي التجارة بنيويورك، وهو الذي يجعل المسلم الذي قد فخخ جسمه يقف وسط أناس أبرياء وهو يعرف أنه سوف يموت عندما يفجر حزامه وسطهم ولكنه لا يأبه لذلك لأن الخوف قد غاب عنه كما غاب عقله.

في طبيعة الأديان

يزعم رجالات كل دين أن دينهم دينٌ حقيقي من عند الإله الواحد في السماء، وهو الدين الحق وما عداه باطل. ويزعم كل أهل دين كذلك أن إلههم إله رحيم غفور كريم. ولكن الأحداث التي شاهدناها أو قرأنا عنها تُثبت عكس ما ينادون به. وكل ما أُثيرت هذه المسألة يهب رجالات الدين للدفاع عن دينهم ويقولون إن القتل والدمار الذي حدث ويحدث باسم الدين ليس هو من عيوب أو قصور ذلك الدين بعينه وإنما يرجع إلى قصور فهم أتباع ذلك الدين الذين قتلوا ودمروا باسم الدين. ولكن عندما تصدر الفتاوى أو الأقوال أو الأفعال من رجال قضوا كل حياتهم منذ أيام طفولتهم في تعلّم ذلك الدين من المشايخ أو الحاخامات أو الأساقفة الذين درسوا أصول ذلك الدين في المعاهد الدينية مثل الأزهر، والمدارس الكنسية اليهودية أو المسيحية، كيف يجوز عقلاً أن نقول إنهم أخطؤوا فهم ذلك الدين؟ وإذا صدر بيان أو فتوى من عدد كبير من رجالات دينٍ بعينه، هل يُعقل أن يكونوا قد أخطؤوا فهم ذلك الدين؟ ففي الحرب الحالية بين حزب الله وإسرائيل، أصدر مجلس الحاخامات في الضفة الغربية، بياناً يُحث الحكومة الاسرائيلية على اصدار اوامرها للجيش الاسرائيلي لقتل المدنيين في لبنان وغزة. وفي بيان صادر عن إجتماع لمجلس الحاخامات ونقلته القناة الاسرائيلية السابعة اكدوا ان التوراة يجيز قتل النساء والاطفال في زمن الحرب . وجاء في البيان "من يترحم على أطفال غزة ولبنان ينظر الى أطفال اسرائيل بوحشية". وطالب البيان الحكومة بان تأمر بقتل المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين بصفتهم موالين للعدو"، وذلك بحسب ما تنص عليه التوراة" (إيلاف 18 يوليو 2006). فالتوراة التي يُجزم اليهود بأنها من عند إله السماء "يهوه" تبيح قتل الأطفال والنساء في الحرب. وهناك آيات عديدة في التوراة تحث موسى وأتباعه على قتل النساء والأطفال والحيوانات وحرق معابد غير اليهود. فكل هذا الدمار الذي حدث وما زال يحدث في لبنان، وكل جثث الأطفال التي تطل علينا من شاشات التلفزيون لم تُشبع شهية الحاخامات وإلههم للقتل، فحثوا الحكومة على المزيد.
وهذا الموقف من حاخامات اليهود لا يختلف عن موقف شيوخ الإسلام مثل الشيخ يوسف القرضاوي الذي أفتى بإباحة قتل المدنيين الذين يتعاونون مع الجيش الأمريكي في العراق لأن تعاونهم وإمدادهم الجيش الأمريكي بالطعام هو تشجيع ومساندة للاحتلال. وعندما افتى في قتل اليهود في فلسطين لم يكن هناك أي مبهم في فتواه التي حلل فيها قتل المدنيين والأطفال والنساء لأن المدنيين الإسرائليين يدفعون رواتب الجيش عن طريق ضرائبهم ويشترون الأسلحة للجيش وأغلبهم قضى فترة التدريب الأجباري، وإن كان حالياً لا يخدم في الجيش. ولم يبخل الفقهاء السعوديون بالفتاوى التي جعلت من الزرقاوي وأمرائه مناضلين شرفاء، مما دفع الشباب السعودي من مغسولي العقول إلى التطوع للقتال في العراق وأفغانستان وحتى في المملة السعودية نفسها.
فهذه الفتاوى لا تختلف اليوم عما كان يحدث في الألفية الثانية قبل الميلاد عندما ظهر موسى وحاخاماته. فيبدو أن العقل البشري لم يتقدم كثيراً. فعندما عاش الإنسان في الغابة مع الحيوانات كان يتحكم فيه عقله الغريزي The subconscious الذي يجعل الحيوان يهرب أو يحارب. ومع نمو دماغ الإنسان تكونت طبقة عليا في الدماغ أصبحت تتحكم في أفعال الإنسان وتكبت تصرفات العقل الغريزي ما دام الإنسان صاحياً. ولكن إذا أزلنا مفعول هذه الطبقة العليا بفعل الأدوية أو تناول الكحول بكمية كبيرة أو بتأثير الخوف المفاجئ، يسيطر العقل الغريزي على تصرفات الإنسان. والأديان، التي بدأت مع نمو الجنس البشري عندما كنا أقرب إلى الحيوان من الإنسان، ما زالت تسكن وتتحكم في العقل الغريزي وتجعل منه قوة تتغلب على العقل الواعي في أغلب الأحيان، فهي كالأدوية أو الأفيون الذي يزيل تحكم العقل الواعي. فالأديان تُرجع الإنسان إلى أطواره الأولى، حتى وإن كان الإنسان متعلماً ولا أقول مثقفاً إذ أن هناك بوناً شاسعاً بين المتعلم والمثقف. فكم من رجل دين متعلم ومتفقه في محتويات دينه غير أنه لا يعرف شيئاً خارج نطاق الدين. فمثل هذا الشخص لا يمكن أن يكون مثقفاً بأي حال من الأحوال، حتى وإن سكن البيت الأبيض كما يفعل الرئيس الأمريكي بوش.
والأديان في العصر الحديث أصبحت وسيلةً لابتزاز الناس، الجهلاء منهم والمتعلمين غير المثقفين. فإذا أخذنا أمريكا مثالاً نجد أن عدة طوائف دينية Cults قد ظهرت ونمت حول أشخاص عاديين استطاعوا أن يُقنعوا بعض الناس بأنهم رسلٌ جدد جاؤوا لتجديد رسالة المسيح. وأغلب هذه الطوائف ظهرت في الولايات الجنوبية، مثل تكساس وداكوتا الجنوبية، التي ما زالت تسيطر عليها عقلية مزارع القطن في ما قبل الحرب الأهلية التي وحدت الولايات الأمريكية. فهذه الولايات كانت وما زالت أكثر المناطق التي يسيطر عليها الجهل غير الكتابي. فمع أن أغلب سكانها يستطيعون القراءة والكتابة إلا أنهم جهلاء بما يحدث في العالم حولهم وحتى بتاريخهم وجغرافية مناطقهم. والأديان عامة تنتشر وتزدهر بين الجهلاء والفقراء لأنهم أقرب الناس إلى الإنسان البدائي الذي كان يسيطر عليه العقل الغريزي. من بين الطوائف التي ظهرت في تكساس، طائفة المورمون Mormons . هذه الطائفة بدأها شخص يدعى جوزيف اسميث في عام 1827 في نيويورك ثم في ولاية أوهايو، وزعم أن ملاكاً يدعى "مورني" قد دله على ألواحٍ ذهبية منقوشة بوصايا الله للإنسان. وبسرعة وجد أتباعاً في الولايات الجنوبية واستقر في ولاية ميسوري Missouri التي أصبحت مركزهم الرئيسي. وركزت دعوته على تعميد الموتي لتخليص أرواحهم حتى تدخل مملكة السماء. وهذا عكس المسيحية التت تعمّد المواليد الجدد. وركز كذلك على الضرائب الكنسية التي تطهر الروح، وجمع ملايين الدولارات من أتباعه. ثم نادى بالزواج الأبدي وتعدد الزوجات والسماح بزواج البنات القاصرات. وبعد أن قويت شوكته كوّن مليشيات خاصة به ثم أمرهم في عام 1840 بحرق مكاتب إحدى الصحف التي انتقدته وقتل جميع المنشقين على تعاليمه. وقبضت عليه السلطان وسجنته ثم هاجمت مجموعة من الأهالي السجن وقتلت النبي وأخاه. ولكن انتشار دعوته استمر وأصبح عدد أتباعه حوالي خمسة ملايين في التسعينات من العام المنصرم. والآن تطارد السلطات في تكساس زعيم المورمون المدعو "وارن جيفز" Warren Jeffs الذي يملك ثمانين زوجة، أكثر من نصفهن من القاصرات. وقد ابتز من أتباعه مبلغ خمسة ملايين دولار. وفي أبريل الماضي تدخلت ال "اف بي آي" واتهمت وارن جيفز وثلاثة من أكبر معاونيه بجنحة "الاغتصاب بالشراكة" Rape as an accomplice على أساس أنهم شجعوا وأجازوا زواج البنات القاصرات لرجال يكبروهن سنا، وهذا يُعتبر اغتصاباً.ً. وديانة المورمون تقول بأن الإنسان الأسود هو الشيطان، ولذلك لا يتعاملون مع السود.
وظهرت في تكساس كذلك طائفة المدعو "ديفيد كريش" David Koresch الذي لم يكن يعرف أباه فقد حملت به أمه التي كانت قاصرةٍ، سفاحاً. وقد ترك المدرسة قبل أن يكمل تعليمه واستطاع بعد عدة أعوام أن يقنع الناس بأنه نبيٌ جديد جاء لتجديد دعوة المسيح. وأصبح له أتباعٌ يأتمرون بأوامره وتعاليمه. وتزوج، كما نتوقع، أعداداً كبيرة من البنات القاصرات وأمر أتباعه بإحضار زوجاتهم وبناتهم إلى غرفة نومة لكي يجامعهن ويطهر أرواحهن. وأخيراً أقنعهم أن يتسلحوا ويقاوموا ال "اف بي آي" الذي قضى عليهم وحرق مجمعهم في مدينة "واكو" في تكساس.
والأديان معروفة بغسيلها للأدمغة، حتى بعض العلمية منها. يقول الدكتور فيليب كيب Philip Keep استشاري التخدير الذي يكتب عن الأديان: " إذا قال شخص ما إن القمر مصنوع من جبنة زرقاء، فسوف يقول عنه أطباء الأمراض العقلية إنه مختل عقلياً أو متوهم Deluded. ولكن إذا اجتمع عشرون سخصاً واتفقوا فيما بينهم أن القمر مصنوع من جبنة زرقاء، فإن كتب الأمراض العقلية الكلاسيكية تسميهم "جماعة دينية". وهذا ما يحدث في المذهب الشيعي مثلاً. فلو أن مسلماًً سار في شوارع إنكلترا وصار يضرب نفسه بسلاسل من الحديد حتى يدمي جسمه، فسوف يقول عنه الناس إنه "ماسوشي"Masochist أو مجنون، ولكن عندما يسير مئات الأشخاص في كربلاء وعلى وجوههم وملابسهم تسيل الدماء من أثر ضربهم أنفسهم بالسلاسل، يقول الناس إنها شعائر الدين. وقد شاهدنا في التلفزيون اليوم الجنود الإسرائليين عند دباباتهم التي تقذف الويل والدمار على لبنان، وكلما أرسلوا قذيفة من دباباتهم تجمّع بعضهم حول الدبابة وأخرجوا التوراة وصاروا يقرؤون منها ويهتزون تقرباً إلى يهوه. فهل من الممكن أن يكون لمثل هؤلاء الناس عقولٌ يفكرون بها أم أنهم مسيرون بالعقل الغريزي.
وإذا قارنا كل هذه الأديان والطوائف نجد أن هناك مظاهراً كثيرة مشتركة بينها:
• كل دين أو طائفة كوّنها رجل يتيم أو غير معروف الأب
• كل دين أو طائفة مات مؤسسها قبل أن يجمع لنفسه أموالاً طائلة ولكنّ خلفاءه ورجالات دينه أصبحوا من أغنى الأغنياء. فالكنيسة الكاثوليكية تُعد من أغنى المؤسسات الدينية اليوم وتملك البلايين من الدولارات في شكل أموال ثابته أو متحركة، ولها بنوكها الخاصة وحكومتها وسفراؤها. والكنيسة البروتستانتية لا تقل ثراءً. ويسكن كبير قساوسة إنكلترا مثلاً في قصر فخم وراتبه الشهري لا يقل عن راتب رئيس الوزراء. أما رجالات الدين المسلمون ، سواء شيعة أو سنة، لا يقلون ثراءّ. فالزعماء الدينيون الشيعة في إيران أغلبهم رجال أعمال يملكون الملايين. وربما يكون رئيسهم الحالي أحمدي نجاد الشاذ الذي يُثبت القاعدة. وفي العراق أصبح رجالات الدين الشيعة من أكثر الناس غناء بعد استيلائهم على الحكومة ووزارة النفط. ورجال السنة أصبحوا يكسبون الملايين من الفضائيات التي تدفع لهم أجراً كبيراً لقاء الفتاوى والمقابلات. ومنهم من أصبح متخصصاً في الفتاوى التي تبيح أو تحرّم التعامل مع بعض شركات الاستثمار تبعاً لما تدفعة الشركة للمفتى. ورجالات اليهودية يسلكون نفس طريق زملائهم المسلمين. وزعماء الطوائف في أمريكا وأوربا من أمثال The Church of Scientology والمورمون قد أصبحوا يملكون بلايين الدولارات
• كل دين أو طائفة لا بد لها كي تنجح أن تجد لنفسها أعداء تحاربهم باسم الله. فإذا لم يحاربوا في سبيل الله فلن يُقنعوا العامة بأنهم يمثلون الله في الأرض. وكأن إله السماء قد عودنا منذ أن جاء موسى على قتل من لا ينتمون إلى مذهب رسوله. وإذا لم يجدوا عدوا في الدين اخترعوا عدواً يتقمص الشيطان جسده، كما فعل المورمونز الذين جعلوا الإنسان الأسود الجسم الذي تسكنه روح الشيطان، لأن أغلب السود في أمريكا مسيحيون، ولا يستطيع نبي المورمونز أن يجعل منهم أعداءً في الدين، لأنه أتى لتجديد دين المسيح. أما المسلمون، بعد أن قضوا على كل أعداء الإسلام في البلاد التي احتلوها، وكان لا بد لهم من إيجاد عدو يحاربونه، فقد وجدوا ضالتهم في الشيعة الذين أصبحوا روافضاً للرسالة المحمدية. والشيعة أنفسهم جعلوا المسلمين السنة عدوهم الأكبر وسموهم النواصب الذين يكذبون على الإسلام. واليهود طبعاً هم شعب الله المختار الذي يعادي كل من ليس من ملتهم.
• كل نبي أو خلفائه، اتخذوا لأنفسهم عدداً لا يحصى من الأزواج، وأباحوا ومارسوا زواج القاصرات الذي تعاقب عليه القوانين الوضعية. فالنبي سليمان مثلاً كانت له ثلاثمائة زوجة غير المحظيات والجواري. والذين لم يتزوجوا من القساوسة أشبعوا رغبتهم الجنسية بالتغرير بالصبيان الذين يحضرون إلى الكنيسة للمشاركة في الأناشيد الدينية. وكلهم قاصرون. ويبدو أن هناك شيئاً في الطفولة يجذب ويثير الغرائز الجنسية في رجالات الدين.
• كل دين أو طائفة أدخل بعض الشعائر الدينية التي تختلف قليلاً عن غيره من الأديان رغم أن الجوهر هو نفسه. كل ذلك ليوهموا الجهلاء أن دينهم أو طائفتهم جاءت بجديد.
• كل دين أو طائفة منذ أن جاء موسى أصبح إلهه رجل ويقوده أو يقودها رجالٌ لا يهمهم من المرأة غير أعضاءها التناسلية. وحتى يستحوذوا على هذه الأعضاء التناسلية فلا بد لهم من إظهار الشجاعة الوهمية العنترية كما يفعل الطاؤوس عندما يقترب من أنثاه. ولذلك نرى ونسمع الخطب الرنانة التي تمجد القتال والدفاع عن دين الله. فعندما كانت الآلهة امرأة كانت آلهة الحب مثل "أفردايتي" و "فينوس" وآلهة الخصب والمياه العذبة، والآلهة التي تحرس القوافل. وآلهة الحب لم ترسل رجلاً رسولاً وإنما أرسلت الطفل البرئ "كيوبيد" ليصيب قلوب النساء والرجال بسهمه ليزرع الحب فيها. وجاء الإله الرجل الحاقد فأرسل رسله الرجال بالسيوف والسهام ليدمروا بعضهم بعضاً.
ولكل هذه الأسباب السابقة أقول "سحقاً للأديان" ولنرجع إلى وثنيتنا التي لم تفارقها قلوبنا أصلاً وإن زعم رجالات الدين أننا أصبحنا نعتقد بالوحدانية .

أمثلة من المنطق الأعرج في الخطاب الديني

الخطاب الديني عامةً والإسلامي خاصة يقدم الغيبيات التي هي أصل الدين، على العقليات التي يصل إليها الإنسان بمحض تفكيره وبعيداً عن الأيدولوجية الدينية. وهم بذلك يقدمون النقل على العقل، ولكنهم يحاولون خداع الناس بأن يحاولوا الظهور بمظهر من يحترم العقل. وفي واقع الأمر فإنّ أحاديثهم وكتبهم تمتهن العقل ولا تعيره أي اهتمام. وكلمة العقل أصلاً كلمة غريبة على الخطاب الديني الإسلامي. فالقرآن رمز إلى مركز التفكير عند الإنسان ب "القلب" الذي يرتبط في مخيلة الشعراء بالعاطفة، فقال مثلاً (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) (آل عمران، 8). وقال كذلك (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (آل عمران، 167). وقال (لهم قلوب لا يفقهون بها) (الأعراف، 179). واستعمل الفعل "يعقلون" تسع عشرة مرةً في اثنتي عشرة سورة. واستعمل "تعقلون" ثلاث مرات في سورتين، بينما استعمل كلمة "قلوبهم" حوالي أربع وخمسين مرةً. وإذا عرفنا أن القرآن به ما لا يقل عن 77639 كلمة، ندرك مدى الأهمية التي يوليها القرآن للفكر. وأغلب استعمال كلمة "تتفكرون" كان يخاطب بها العاطفة. فقال في سورة البقرة: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نارٌ فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (266). منتهى الاستدرار للعاطفة، عندما يموت الرجل الكهل ويترك لذريته الصغار جنةً فتحترق.
وكتب الفقه وكذلك كتب السير الإسلامية تدوس على العقل بالأحذية عندما تروي لنا قصصاً عن النبي تعوزها أبسط مقومات المنطق، فمثلاً في كل كتب الفقه نجد أن الشهيد الذي يُقتل في المعركة ضد الكفار لا يُغسل ولا يُكفن إنما يُدفن بملابسه التي مات فيها. وهذا الحكم ناتج مما حدث للمسلمين في معركة أُحد يوم هزمهم الكفار وقتلوا منهم سبعين رجلاً فيهم حمزة عم النبي. ففي ذلك اليوم صلى النبي على القتلى ودفنوهم في ملابسهم، فأصبح ذلك حكم الشرع في الشهيد. ولكن الفقهاء الذين تقودهم الأيدولوجية الدينية لم يفطنوا إلى أن النبي فعل ذلك بحكم الظروف التي كان فيها. ففي جبل أحد لم يكن الماء متوفراً لغسل القتلى ولم يكن هناك سوبرماركت حتى يستطيع المسلمون الذهاب إليه لشراء كمية من القماش لتكفين الموتى. فالظروف العملية اضطرته لأن يدفنهم بملابسهم وبدون غُسل. ولكن الأيدولوجية تقول إنّ ما يفعله النبي يصبح قانوناً. وفي نفس الوقت نشط أهل السيرة ونقلوا لنا أن النبي أخبر أصحابه في واقعة بدر التي قٌتل فيها حنظلة بن أبي عامر: (‏"‏ إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن ‏"‏ فأرسل النبي إلى امرأته فأخبرته أنه خرج وهو جُنب، فولده يقال لهم بنو غسيل الملائكة‏.) (المنتظم في التاريخ لابن الجوزي، ج3، ص 63). فيمكن أن نستنتج من هذا الحديث أحد ثلاثة استنتاجات:
1- أن الله يوحي للنبي ما يجب أن يفعل في كل مناسبة، وأنه أوحى إليه أن يدفن الشهداء دون أن يغسلهم
2- أن الله لم يوح للنبي بدفن الشهداء دون أن يغسلهم وأن النبي قد فعل ذلك من تلقاء نفسه ولأن الظروف العملية قد أجبرته على ذلك
3- أن الله يوحي للنبي بحكم ويوحي للملائكة بحكم آخر
و قد اختار المنطق الأعرج في الخطاب الديني رفض الاستنتاجين الأخيرين والتمسك بالأول فقط، وحاول أن يدور حول التناقض في الموقفين. فإذا أمر الله النبي بدفن الشهداء دون غُسل، كيف يأمر الملائكة بغسل الشهيد حنظلة؟ وجواب الخطاب الديني أن حنظلة كان عريساً وجامع زوجته وخرج إلى المعركة وهو جُنب. ولذك غستله الملائكة حتى لا يدخل الجنة وهو جُنب. فيمكننا إذاً أن نقول أن جميع الشهداء الآخرين ماتوا ولم يكن بهم جنابة، لذلك لم تغسلهم الملائكة. وطبعاً هذا القول لا يقبله العقل. فقانون الاحتمالات يخبرنا أن عدداً معيناً من كل مائة رجل خرج إلى المعركة لا بد أن يكون على جنابة. فمنهم من يشعر أنه قد لا يرجع من تلك المعركة فيودع زوجته بجماعها قبل أن يخرج. وربما لم يجد ماءً كافياً في صحراء مكة ليغتسل قبل أن يخرج إلى المعركة. ومنهم من احتلم كما احتلم عمرو بن العاص وهو يقود جيوش المسلمين في الشام، وصلى بهم دون أن يغتسل. ولكن مثل هذا التضارب في القصص لا يهم رجالات الدين الذين يقدمون الدليل السمعي على العقلي إذا ثبت عندهم صدق الرواة.‏
ومثل آخر تحدث عنه ابن عباس قال‏:‏ (ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين واستُنبيء يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين وخرج مهاجرأ من مكة إلى المدينة يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثَنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين.) (المنتظم في التاريخ، ج4، ص 19). ونستنتج من حدوث كل هذه الأشياء للنبي يوم الاثنين أن أفضل الأيام عند الله هو يوم الاثنين، لأن لا شيء يحدث دون إرادة الله، واختار الله يوم الاثنين لأكرم خلقه، فلا بد أن يكون يوم الاثنين هو أكرم وأحب الأيام لله. ولكن أهل الحديث يروون لنا حديثاً عن ابن عباس يقول (إنّ أفضل الأيام عند الله يوم الجمعة وأفضل الشهور شهر رمضان) وكذلك في حديث عن عائشة، قالت (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنهم – يعني أهل الكتاب- لا يحسدوننا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها") (الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي).‏وحتى القرآن أفرد سورة كاملة نزلت بالمدينة وبها أحدَ عشرة آية، وسماها الجمعة. فإذاً أفضل الأيام عند الله هو يوم الجمعة، فلماذا يا تُرى جعل كل شيء يحدث للنبي يوم الاثنين؟ مرة أخرى يغيب هذا المنطق في الخطاب الديني ولا يلتفت إليه أحد.
وطبعاً الخطاب الديني خلا من المنطق منذ أواخر الدولة الأموية حين ذبحوا الجعد بن درهم ورفاقه لقولهم بخلق القرآن. وعندما شعر رجالات الدين بأن الفلاسفة في الدولة العباسية قد بدأ يظهر لهم صيت عند المتعلمين، قبضوا بأيديهم وأرجلهم على ما غيضّه الله لهم من كتابات الصوفي الذي أُصيب بانفصام الشخصية في آخر أيامه، حجة الإسلام الغزالي. فبعد أن تاه فترةً في الفلسفة وعلم الكلام ثم انخرط في سلك الصوفية، ألف كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي ملأه بمنطق غريب، ما كان له أن ينتشر ويقوى لولا الدفع الذي قدمّه له رجالات الدين والوزير السلجوقي "نظام الملك". فالغزالي توصل إلى اليقين بعد أن أصبح صوفياً واهتدى بنور بعثه الله إلى قلبه، (ولاحظ هنا أن الله بعث النور إلى قلبه وليس إلى عقله)، فقال إن البصر يكذبك (فحاسة البصر ، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ... ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك) والعقل يكذبك (فأنت ترى في المنام ما تظنه صحيحاً ، ثم بعد أن تستيقظ تعلم أن لا أصل لجميع متخيلاتك ومناماتك . وقد يكون الأمر كذلك في أحلام اليقظة، وقد تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها. فلعل حياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة. فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له عند ذلك: "فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" ) وهكذا وبهذا المنطق الغريب وصل الغزالي إلى اليقين وهاجم الفلاسفة والعقل. وقسّم الغزالي الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام: الدهريون: وهم الذين انكروا وجود الله، فهم إذاً زنادقة. الطبيعيون: وهم الذين اعترفوا بوجود قوة خالقة عرفوها من انغماسهم في التشريح. الإلهيون: من أمثال أرسطوطالس. وقال عن أرسطوطاليس إنه رغم ما قدمه للفلسفة وترتيبها فهو قد تأثر برذائل الذين سبقوه، ولذلك وجب تكفيره. فميزان الغزالي في حكمه على الفلاسفة لم يكن الفلسفة نفسها، وإنما درجة إيمانهم. ولذلك قال إن الصوفية هم أحسن الناس أخلاقاً (و لو جُمِعَ عقل العقلاء وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً).

فعندما تحدث الفلاسفة عن نهاية العالم وقالوا إنها غير ممكنة لأن العالم قديم قدم الله والله لا يتغير وكذلك العالم لا يتغير، وقالوا: (العالم لا تنعدم جواهره لأنه لا يُعقل سبب معدم له وما لم يكن منعدماً ثم انعدم فلا بد وأن يكون بسبب وذلك السبب لا يخلوا إما من أن يكون إرادة القديم (الله) وهو محال لأنه إذا لم يكن مريداً لعدمه ثم صار مريداً فقد تغير. ويجب أن يكون القديم(الله ) وإرادته على نعت واحد في جميع الأحوال. وانعدام العالم يؤدي إلى تغيره من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم ). رد الغزالي على هذا المنطق بقوله: (أن الإيجاد والإعدام بإرادة القادر؛ فإذا أراد الله أوجد، وإذا أراد أعدم. وإذا وجب أن يصدر عن الله فعل فالصادر هو تجدد العدم، والعدم واقع مضاف إلى القدرة ، فإذا وقع حادث بإرادة قديمة لم يفترق بين أن يكون الحادث عدماً أو وجوداً.) ومنطقياً، إذا تجدد العدم بعد الوجود فإن هذا تغييرٌ للواقع والفلاسفة قالوا إن الله لا يتغيير، بينما رد الغزالي بأن كل شيء بإرادة الله. فالغزالي لم يدحض قول الفلاسفة بالمنطق وإنما بالإيمان.

وكذلك عندما قال الفلاسفة بضرورة الاقتران بين السبب والمسبب، مثل النار وحرق القطن، مثلاً، لأن النار لا يمكنها الكف عما هو طبعها بعد ملاقتها لمحل قابل لها، رد عليهم الغزالي بقوله إن ضرورة الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سبباً وما يُعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا.
وكل شيئين متغايرين، لا يتضمن إثبات أحدهما إثبات الآخر، ولا نفي أحدهما متضمن نفي الآخر. وليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدمه عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والموت وجز الرقبة. ويجوّز الغزالي وقوع الملاقاة بين القطن والنار دون الاحتراق، ويجوّز انقلاب القطن رماداًً دون ملاقاة النار. ويقول بجواز أن يُلقى النبي في النار فلا يحترق، وذلك إما بتغيير صفة النار فتقصر سخونتها على جسمها، أو بتغيير صفة النبي بإحداث صفة في بدنه تخرجه عن كونه لحماً وعظماً.

وطبعاً إذا تغيرت طبيعة النار أو طبيعة النبي خرجت المعادلة من كونها إلتقاء سخونة النار بجسم الإنسان المكون من لحم ودم إلى إلتقاء شيء يشبه النار بجسم الإنسان أو إلتقاء النار بشيء يشبه جسم الإنسان. وهذا يختلف عن الشرط الذي قال به الفلاسفة، وهو إذا التقى جسم إنسان بالنار، فلا بد أن يحترق. فمنطق الغزالي هنا أقل ما يوصف به أنه أعوج.

وقد أنكر الفلاسفة بعث الجسد الذي تحلل وأصبح تراباً وقالوا إن الله يرد الروح إلى أي جسد يخلقه جديداً لأن الروح هي أصل الحياة. وأنكروا اللذات الجسمانية في الجنة والنار. رد عليهم الغزالي بقوله: (النفس باقية بعد الموت ، وذلك دلّ عليه الشرع في قوله: "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ " وردّ النفس ممكن إلى أي بدن كان ، سواء كان من مادة البدن الأول أو من مادة استؤنف خلقها. فالمهم هو النفس، لان البدن يتبدل من الصغر إلى الكبر، بالهزال والسمن وغير ذلك..... وأكثر هذه الأمور ليس على مخالفة الشرع . فإنا لا ننكر أن في الآخرة أنواعاً من اللذات أعظم من المحسوسات ، ولا ننكر بقاء النفس عند مفارقة البدن ، ولكنا عرفنا ذلك بالشرع ... وإنما أنكرنا عليهم من قبل دعواهم معرفة ذلك بمجرد العقل). فالغزالي هنا يعتبر أن معرفة الأشياء من الشرع أهم وأثبت من معرفتها بالعقل. وقد كفّر الغزالي الفلاسفة لقولهم بقدم العالم، وقولهم بوقوع العذاب على الأرواح دون الأبدان وكذلك قولهم إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات. فمنطق الغزالي هو منطق رجال الدين الذين يردون كل شيء إلى مقدرة الله وهي الفيصل في كل الأمور. وليس هذا منطق أهل الفلسفة أو أهل الكلام. وقد خالف القاضي أبو بكر بن العربي الغزالي في كثير من تلك الأجوبة وكان يقول: (شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وحكى هو عن أبي حامد نفسه أنه كان يقول أنا مزجى البضاعة في الحديث) (درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ج1، ص 2).

ثم جاء ابن تيمية وختم على أفواه الفلاسفة بمنطق ديني بحت، من الصعب أن نسميه منطقاً. فقال: (قالت بعض الطوائف: نحن عرفنا الحق بعقولنا ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلول العقل وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في تأويل كلام الأنبياء. ولما كان بيان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء، بيّنا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر، إذ كان أي دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قُدّر أن المعارض العقلى القاطع ناقضه، بل يصير ذلك قدحا في الرسول وقدحا فيمن استدل بكلامه، وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء، فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات (صفات الله) أو بعضها أو نفي عموم خلقه لكل شيء أو نفي أمره ونهيه أو امتناع المعاد أو غير ذلك، لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض. وفساد ذلك المعارض قد يُعلم جملة وتفصيلا ، أما الجملة فإنه من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا، تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية كما قال تعالى ، والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ، سورة الشورى 16) (نفس المصدر، ص 7). فبالنسبة لابن تيمية يكون الإيمان بقول الأنبياء وتصديقهم أعلى مرتبة من الدليل العقلي على استحالة ما قالوا به. فلأن النبي قال إنه يعرف حجراً كان يسلم عليه قبل البعثة، لا بد أن يصدق الإنسان المؤمن هذا القول رغم استحالته عقلياً ورغم إن الله قال إنه لم يُعط محمد أي معجزات كبقية الأنبياء، لأن الناس السابقين لم يصدقوا بالآيات أي المعجزات "وما منعنا أن نُرسل الآيات إلا أن كذب بها الأولون" (الإسراء، 59). وفي منطق القرآن وابن تيمية، فإن من يحاجج أي يستعمل عقله لتفنيد ما قاله الرسول، فعليه غضب الله وله عذاب شديد في الآخرة. قارن هذا القول مع ما قاله الرازي في أول كتابه "نهاية العقول" حيث ذكر أن الإستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال لأن الإستدلال بها موقوف على مقدمات ظنية وعلى دفع المعارض العقلي، وإن العلم بإنتفاء المعارض لا يمكن إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع.

ويدهشنا منطق ابن تيمية عندما يقول: (يجب قبول النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها نفيا وإثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الإستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفى باطله بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه). فابن تيمية هنا يُلغي العقل إلغاءً تاماً ونهائياً. فقول الله أو النبي يجب أن يُقبل ويُصدق حتى إن لم يُفهم معناه، وما أكثر عبارات القرآن التي لا يُفهم معناها.

ويقول ابن تيمية عن تعارض الدليل العقلي مع الدليل السمعي: (فإن الناس متفقون على أن كثيرا مما جاء به الرسول معلوم بالإضطرار من دينه كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك ، وحينئذ فلو قال قائل إذا قام الدليل العقلي القطعي على مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما، فلو قدم هذا (الشخص) الدليل السمعي قُدح في أصله، وإن قدم (الدليل) العقلي لزم تكذيب الرسول فيما عُلم بالاضطرار أنه جاء به، وهذا هو الكفر الصريح. فلا بد لهم من جواب عن هذا ، والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم (دليل) عقلي قطعي يناقض هذا ، فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي). فهاهو شيخ الإسلام يؤكد لنا، كما أكد قبله حجة الإسلام الغزالي، أن كل ما جاء به الرسول ونقله عنه أهل الحديث بعنعنتهم المعروفة، يمتنع أن يعارضه دليل عقلي. فأين إذاً جعجعة الفقهاء والمفتين بأن الإسلام يحترم العقل؟

المسلمون والإسلام: كلاهما يُسفّه الحياة

كثُر اللغط والجدل أخيراً عن دور الإسلام في التشجيع على الإرهاب العالمي الذي كاد يشل الحياة في البلاد الغربية. وقد حاول المسلمون دفع التهمة عن الإسلام وزعموا، جوراً، أن الإسلام لا يشجع على الإرهاب وإنما الجماعات الضالة والمنحرفة هي التي تفعل ذلك. ولكن لو نظرنا إلى الوراء ودرسنا أوضاع المجموعات البشرية التي سكنت تلك البقعة من الأرض المعروفة الآن ياسم الشرق الأوسط، لوجدنا أن سكان أرض الرافدين كانوا أول من بدأ حياة الاستقرار التي أدت بدورها إلى بدء الخضارة البشرية. فقد اخترعوا العجلة والكتابة والموسيقى وكانوا أول من اخترع السلم الموسيقي وآلات العزف الحديثة وأول من جمع الألواح الطينية المكتوبة في مكتبة. وأول من سن قوانين التعامل بين الأفراد في دولة مستقرة. وأول من اخترع الاحتفالات الدينية التي كانت الموسيقى تمثل عمودها الفقري. وباختصار كانت الشعوب في تلك المنطقة تحب الحياة وتستمتع بها. ولأنهم استمتعوا بالحياة بذلوا جهداً عظيماً في تطويرها.
وحتى في مكة التي جاب تجارها أنحاء العالم المعروف لديهم ورجعوا بالرقيق الأبيض كانوا قد تعلموا الموسيقى والغناء وآلات الطرب وشرب النبيذ من البلاد التي تاجروا معها. وكان أغلب المغنين من الجواري. وكانوا قد تعلموا الرسم وزينوا جدران كعبتهم بالرسوم الدينية.
ثم جاء الإسلام وبدأ بتفكيك الحياة الدنيوية وجعل حياة الآخرة هي المطلب الوحيد. فقال لهم الله في القرآن: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ) (الذاريات، 56). فأصبحت عبادة الله هي محور الحياة ومنعوا المسلم من الاستمتاع بأي شيء في هذه الحياة الفانية إذ أن مهمته فيها هي عبادة الله. ثم زاد القرآن في تسفيه حياة المسلم الحاضرة وأمرهم بالصلاة نهاراً وبقيام الليل إلا جزءاً يسيراً، فقال (يا أيها المزمل قم الليل إلا فليلا) ثم قال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر كان مشهودا) (الإسراء 78). وزاد على ذلك فقال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا) (الإسراء 79). فلم تعد الصلوات الخمسة وقراءة القرآن تكفي بل لابد من النافلة ليلاً عسى أن يبعثهم ربهم مقاماً محمودا. وزادوا نوافل أخرى كالشفع والوتر وسجود القرآن. وأجمع الفقهاء أن قيام شهر رمضان، أي الصلاة وقراءة القرآن طوال الليل، مرغّب فيه أكثر من سائر الأشهر لقوله (ص): (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي، ج1، ص 151). فلم يبقَ وقتٌ للمسلم ليستمتع بالحياة أو ليطورها.
وكأن كل هذا العناء لم يكف، فحرّم فقهاء الإسلام الطرب والموسيقى والغناء. سأل سائلٌ ابن الجوزي: أيجوز لي أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال له ابن الجوزي: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها، فلا تشغلها بالملاهي (أحكام النساء لابن الجوزي، ص 52). فحتى القليل المباح من الملاهي نهوا عنه. وسئل يوماً غن الغناء، فقال: أقسم بالله لهوٌ لهوُ (نفس المصدر ص 53). وقد أنكر ابن الجوزي على الصوفية الرقص والغناء وقال إن سماعة يجمع بين شيئين، أحدهما: أنه يلهي القلب عن التفكير في عظمة الله، والقيام بخدمته، والثاني: أنه يميله إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية، ومعظمها النكاح، فلذلك يحث على الزنى، وبين الغناء والزنى تناسب من جهة أن الغناء لذة الروح، والزني لذة النفس (نفس المصدر ص 65). حتى أشعار الغزل والعشق حرّمها ابن الجوزي، فقال: ما ينشده القاص من أشعار الغزل والعشق فيثير بها النفوس ويطرب القلوب، مع تصفيق بيديه وإيقاع برجليه، فتشبه السكر، ويوجب ذلك تحريك الطباع وصياح الرجال والنساء، وتمزيق الثياب، لما في النفوس من دفائن الهوى. ولذلك عاب على المغنيين ورواة القصص صنيعهم (نفس المصدر ص 68). وليس هناك داعي للمسلم أن يسمع الغناء في هذه الحياة لأنه عندما يدخل الجنة تغني له الحوريات، حسب الحديث النبوي: (ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه اثنان من الحور العين، يغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن، وليس بمزامير الشيطان). والمقصود بمزامير الشيطان هو ما يزينونه لبني آدم من الملاهي المعازف وآلات الطرب. (فتاوى النساء للشيخ متولي الشعراوي، ص 191).
فماذا بقى للمسلم في هذه الحياة بعد أن يصلي نهاره ويقوم ليله إلا قليلاً ولا يسمع الموسيقى ولا الغناء ولا شعر الغزل؟ بقي له شيء واحد: وهو أن يجاهد في سبيل الله حتى يُقتل فيدخل الجنة ليستمتع بالحياة الحقيقية من غناء وطرب ونكاح وخمر. وأقصر الطرق إلى الجنة هو الشهادة، وقد قال القرآن: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقلون ويُقْتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ) (التوبة 111). فهاهو الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم ليقاتلوا في سبيله. فما دامت نفس المؤمن من ممتلكات الله فله أن يردها إلى مالكها متى ما طلب منه. والذي يخاف أن يجاهد في سبيل الله ويقتل الكافرين أويقتلونه فسوف يبكي كل حياته كما قال القرآن عن الأعراب الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: (فرح المخلفون بمقعدهم خلف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون) (التوبة 81، 82). فإذاً لا سبيل إلى التخلف عن الجهاد. ويحكي بشير بن الخصائصة أنه عندما بايع رسول الله على الإسلام، قال له الرسول: (تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وتصلي الصلوات الخمس المكتوبة لوقتها وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان وتحج البيت وتجاهد في سبيل الله فقال: يا رسول الله كلا أطيق إلا اثنتين أما الزكاة فما لي إلا حمولة أهلي وما يقوون به وأما الجهاد فأني رجل جبان فأخاف أن تجشع نفسي فأبوء بغضب من الله. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال يا بشير لا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة؟) (تاريخ البغدادي، ج1، ص 209). فبدون الجهاد لا يطمع بشير في دخول الجنة. وحتى الذين يجاهدون ويبدون شيئاً من التردد لا يرضى عنهم الله. ففي غزوة مؤته بالشام خاف المسلمون من الروم لأن عددهم كان يفوق جيش المسلمين كثيراً، فشجعهم عبد الله بن رواحة على القدوم والاستشهاد في سبيل الله، فحمل الراية زيد بن حارثة فقُتل، ثم حملها جعفر بن أبي طالب فقُتل ثم حملها عبد الله بن رواحة فقُتل. وعندما تحدث النبي لأصحابة بالمدينة قال: (لقد رُفعوا إلىَّ في الجنة، فيما يرى النائم ، على سُررٍ من ذَهب ، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازْوِرَاراً عن سريرَيْ صاحبيه ، فقلت : عَمَّ هذا ؟ فقيل لي : مَضيا وتردد عبدُ الله بعضَ التردد، ثم مضى) (سيرة ابن هشام، ج5، ص 28). أما جعفر بن أبي طالب فقد حمل الراية بيمينه فبترت، فحملها بيساره فبُترت، فضمها بما تبقي من ذراعيه إلى صدره حتى قُتل، فأعطاه الله جناحين من ذهب يطير بهما في الجنة. ولذلك سموه جعفر الطيار.

فإذا صار الجهاد فريضة، فضد من يجاهد المسلم؟ يقول ابن القيم الجوزية: ( ثم فرض عليهم قتالَ المشركِينَ كافَّة، وكان محرَّماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كِفاية على المشهور.) زاد المعاد، ج3، ص 35). فالمسلم فُرض عليه قتال الكفار جميعاً. والمسلم الذي يقتل كافراً لا يدخل النار أبداً، فقد صحَّ عن النبي (ص): (أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلَهَ فى النَّارِ أَبَدَاً) (نفس المصدر، ص 45). والذي يموت في الجهاد يصبح من أصفياء الله، يقول ابن الجوزي: (: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم فى محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.) (نفس المصدر ص 106). فالله يحب أن تراق دماء المسلمين في سبيله حتى يثبتوا له محبتهم له.
فما دامت كل هذه المغريات في الجنة تلوّح إلى المسلم وتناديه، وحياته في الدنيا ليس بها غير الصلاة والصيام وقيام الليل والامتناع عن الموسيقى والغناء، لماذا لا يقتل كافراً في سبيل الله فيدخل الجنة؟ خاصةً إذا كان هذا المسلم لا يفقه من القرآن كلمةً واحدةً ويعتمد على مدرسيه في شرح ما حفظه. ففي أمريكا حيث يُثبت العلم الحديث كل يوم أن العقل البشري لا تحده حدود في اكتشافات ما وراء عالمنا هذا، يُرسل بعض الآباء الباكستانيين أبناءهم بين سن السابعة والرابعة عشر إلى مدارس متفرغة فقط لتحفيظ القرآن بطريقة الترديد الببغاوي. ويصبح هؤلاء (الاولاد الذين تتراوح اعمارهم بين 7 و 14 سنة هم تلاميذ طوال الوقت من الساعة الثامنة صباحا حتى الخامسة بعد الظهر، من الاثنين حتى الجمعة، حتى في فصل الصيف، ولكنهم لا يدرسون الرياضيات ولا العلوم ولا اللغة الانجليزية، بل يحفظون جميع آيات القرآن وعددها 6200 اية، وهي مهمة تستغرق ما بين سنتين الى ثلاث سنوات) (الشرق الأوسط 17 أغسطس 2007). فما هو مستقبل مثل هذا الطفل الذي يقضي 3 سنوات من عمره التعليمي المفترض في حفظ آيات من القرآن باللغة العربية التي لا يفقه منها حرفاً؟ وأين يذهب بعد أن يترك هذه المدرسة بعد ثلاث سنوات انقطع فيها عن دراسة العلوم الحديثة واللغة الإنكليزية؟ فمثل هؤلاء الأطفال هم التربة الخصبة لزراعة الأفكار التكفيرية وكراهية الغير في عقولهم النامية. فهم لا يفهمون ما يحفظون من القرآن ولا بد أن يشرحه لهم مدرسهم. فكيف يشرح لهم آيات مثل (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) (البقرة 193). (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (محمد 4). (إن الله يحب الذين بقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) ( الصف 49). (يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (التوبة 123). وهل يستطيع مثل هؤلاء الأطفال الناشئين في مجتمع متعدد الثقافات مثل أمريكا، أن يكوّنوا علاقات صداقة وتعارف مع أطفال أمريكان مسيحيين أو بوذيين، والشيخ يشرح لهم القرآن الذي حفظوه دون فهم مثل: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم) ( المجادلة 22). (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) ( المائدة 51).
ولا يستحي الإمام شمس علي، مدير مركز جاميكا الإسلامي الذي يدرّس هؤلاء الأطفال في نيويورك أن يقول: (ويحصل التلاميذ الذين ينتهون من حفظ القرآن على لقب «حافظ» وهو لقب تفخيم في العالم الاسلامي يندر وجوده في الولايات المتحدة. ويلعب الحافظ دورا هاما خلال شهر رمضان حيث يجب قراءة القرآن طوال 30 يوما لاعضاء المسجد، ولكن يعتقد ايضا ان «الحافظ» يحصل على ثواب في الحياة الاخرى، ويضمن دخول الشخص الى الجنة بالاضافة الى 10 من اختياره، شريطة الا ينسى القرآن وان يستمر في ممارسة الاسلام.) فالطفل الباكستاني في أمريكا إما أن يقضي ثلاث سنوات من عمره يحفظ القرآن ويردده كل سنة في رمضان لمدة شهر، على المصلين، ليدخل الجنة مع عشرة من اختياره، لا بد منهم أبوه وأمه الذين أرسلاه إلى هذه المدرسة، وإما أن يموت شهيداً في سبيل الله ليحصل على نفس الامتيازات في دخول الجنة.
وربما يكون الحال أكثر سوءاً في باكستان التي أصبحت مركزاً لتفريخ الانتحاريين في أوربا. فباكستان تعج بمدارس تحفيظ القرآن بنفس الطريقة الببغاوية لصبيان لا يفقهون اللغة ولا يتحدثونها، ويملأ شيوخهم رؤوسهم بالمتفجرات بدل التسامح واحترام الغير. وفي الأسبوع الماضي اعتقلت السلطات في باكستان سبعة أشخاصٍ لهم علاقة بمؤامرة نسف الطائرات بين لندن وأمريكا، كما جاء في الشرق الأوسط (قد اعتقلت السلطات سبعة مشتبه فيهم بينهم بريطانيان، فيما يتصل بمؤامرة تفجير الطائرات عبر الاطلسي. واكد وزير الداخلية الباكستاني، وصول فريق التحقيق البريطاني، للاطلاع على نتائج استجواب رشيد رؤوف البريطاني الذي يعتبر «شخصية محورية) (20 أغسطس 2006). وقد قرر الرئيس برويز مشرف طرد كل الأجانب الذين يدرسون في مدارس تحفيظ القرآن في باكستان. ولكن هذا لن يؤثر على سير مصانع تفريخ الإرهاب لأن الباكستاني في أوربا أو نيويورك يستطيع الذهاب لإى مسجد بالمدينة ليحفظ القرآن عن ظهر قلب ويركّز على آيات القتال. ولذلك كان جميع المشتركين في عملية تفجير قطارات الأنفاق بلندن من الباكستانيين المقيمين في إنكلترا.
وتتكرر نفس المأساة في إندونيسيا والفلبين وبنقلاديش وغيرها من الأقطار الأسيوية التي يحفظ نشؤها القرآن دون أي إلمام بلغته ويعتمدون على الشيوخ لشرحه لهم. ففي إندونيسيا مثلاً انفجرت قنبلتان في سوق مزدحمة ببلدة تقطنها غالبية مسيحية بشرق إندونيسيا مما أدى إلى مقتل 21 شخصا في هجوم من المحتمل أن يزيد المخاوف من احتمال تجدد أعمال عنف طائفية في المنطقة. وخلف الانفجاران آثار دماء ودمار بمدينة تنتنا الواقعة في جزيرة سولاويزي الشرقية، وهي جزء من منطقة شهدت اشتباكات بين المسلمين والمسيحيين على مدى ثلاث سنوات، مما أدى إلى مقتل ألفي شخص حتى إبرام اتفاقية سلام نهاية عام 2001) (الشرق الأوسط 29 مايو 2005). فهؤلاء الذين يزرعون القنابل في وسط السوق لقتل الأبرياء، يسفّهون الحياة التي لا تعني شيئاً بالنسبة لهم لأنهم غير مؤهلين للاستمتاع بها لأن تربيتهم الإسلامية جعلت منهم روبوتات كل همها دخول الجنة في الحياة الآخرة. وقد برمجهم صانعوهم على اختيار أقصر الطرق إلى الجنة والحور العين، ألا وهو الاستشهاد في سبيل الله وليس في سبيل الوطن. فالذين فجروا القنبلتين في السوق لم يكن دافعهم استقلال جزيرتهم بقدر ما كان قتل المسيحيين والبوذيين في السوق لأن ذلك يضمن لهم الشهادة ودخول الجنة. أما الموت السياسي من أجل استقلال الجزيرة فلا يضمن لهم غير تمزيق أشلائهم.
أما المسلمون الناطقون بالعربية فيغسل الشيوخ أدمغتهم وهم أطفال صغار وعندما يكبرون لا يعرفون من القرآن إلا آيات السيف والتكفير. وقد رأينا نتائج غسيل أدمغتهم في السعودية عندما نسفوا العمارات السكنية التي كان يسكنها المصريون واللبنانيون في جدة.
وكما يقول المثل "فاقد الشيء لا يعطيه" فالمسلم الذي فقد حياته الدنيوية في سبيل الخول إلى الجنة لا يحفل بحياة الآخرين ولا يمنح الأطفال الفرصة ليستمتعوا بحياتهم، فهو يقتل الكبير والصغير والمرأة والطفل حتى يفوز بحب الله وتكتب له الجنة مع عشرة ممن يختار من معارفه. ويالها من تجارة رابحة. يموت مسلم واحدٌ شهيداً فيدخل الجنة عشرة. فالذي أصبح واضحاً وضوح الشمس هو أن الإسلام يقتل الحياة في المسلم ويشجعه على قتل غير المسلم. فلا الإسلام ولا المسلمين يحفل بالحياة .

هل نصلب البابا أم نصلب المنطق؟

تفاوتت ردود أفعال المسلمين على محاضرة بابا الفاتيكان التي اقتبس فيها من المناظرة التي دارت بين الإمبراطور الروماني والمسلم الفارسي عندما قال الإمبراطور إن النبي محمد قد جاء بكل قبيح ومشين وأنه نشر دينه بحد السيف. والإسلام، كبقية الأديان الأخرى لم يسلم من النقد والتهكم منذ أن ظهر، كما لم تسلم المسيحية أو اليهودية من ذلك. وما زال الناس يكتبون في الصحف والكتب ويذيعون من الراديو والتلفزيون آراءهم ونقدهم للمسيحية واليهودية دون أن تنقلب الدنيا على رؤوسهم. وحتى الأفلام والمسرحيات تنتقد وتتهكم على المسيح وعلى موسى ولا يخرج الناس في مظاهرات ولا يحرقون دور السينما. وفي بداية الإسلام كان الناس في مكة يشتمون محمد ويتهكمون عليه وكانت آيات القرآن تنصحه بأن يصفح عنهم صفحاً جميلاً. وحتى في المدينة عندما كان بعض الناس يتهكمون على القرآن، نزلت الآيات على النبي تقول له: (وقد نزّل عليكم في الكتاب إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) (النساء 140). وكذلك: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وأما يُنسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) (الأنعام 68).
وكذلك قال له: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون) ((الزخرف 83). وكرر نفس الآية في المعارج، 42. وأخيراً قال له: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون) (الأنعام 69). فالقرآن لم ينصح النبي أن يخرج في مظاهرة ويحطم كل شيء عندما يتهكم الناس من القرآن أو من النبي نفسه، وإنما نصحه أن يهجرهم ولا يجلس معهم. وكذلك نصحه بأن ليس على الذين آمنوا أن يحاسبوا الذين يخوضون في آيات الله لأن الله سوف يحاسبهم بنفسه. وحتى قبل ظهور الإسلام عندما جاء أبرهة بجيشه نحو الكعبة وطلب القرشيون من عبد المطلب جد النبي حماية الكعبة، قال لهم عبد المطلب (إنّ للبيت ربٌ يحميه). فإذا فهم عبد المطلب أن الله يحمي بيته ودينه، لماذا لا يفهم مسلمو اليوم أن الله يستطيع أن يحمي دينه ونبيه، خاصة أنه قال في القرآن: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم يفترون ). فالله جعل لكل نبي عدو من الإنس يتهكمون عليه ويتقولون عنه القاويل، ولو شاء الله لما فعلوا شيئاً. فإذا أمر الله نبيه أن يترك الأعداء يفترون الكذب عليه وعلى الله، لماذا يثور المسلمون للدفاع عن الإسلام بهذه الرعونة؟ ولماذا لا يتبعون ما قال به القرآن للنبي: (والله يعصمك من الناس إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين) (المائدة 67).
فالله قادر على أن يعصم نبيه من الناس والنبي ليس في حاجة للمسلمين ليدافعوا عنه. والله قادر أن يحفظ دينه، وقد قال: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون) (الحجرات 9).
وقد نفهم أن تخرج الرجرجة والدهماء الذين يكونون الغالبية العظمى من مسلمي اليوم في مظاهرات كما حدث في إندونيسيا عندما خرج أكثر من مئة من أعضاء جماعة اسلامية اندونيسية متشددة خلال تظاهرة في جاكرتا تدعو الى "صلب البابا" بنديكتوس السادس عشر بعد تصريحاته حول الاسلام. ورفع المتظاهرون الناشطون في جبهة المدافعين عن الاسلام، لافتات كتب عليها "اصلبوا البابا" و"الفاتيكان محور الشيطان" و"النبي عظيم والبابا صغير وحقير".(إيلاف 18 سبتمبر 2006). ولكن نعجز أن نفهم أن يدافع أساتذة في الجامعات الإسلامية، مثل الدكتور أحمد الطيب، أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بالأزهر، عن الإسلام ونبيه بكليشهات محفوظة تطير في وجه الحقائق المعروفة في التاريخ الإسلامي. فقد كتب د. أحمد الطيب مقالاً بعنوان "العقيدة والعقل وبابا الفاتيكان" بتاريخ 25 سبتمبر 2006، قال فيه، مخاطباً البابا: (ألا تتفقون معي في أن المسيحية هي أحفل الأديان بخوارق العادات وأكثرها اعتمادا علي المعجزات في إيمانها بالمسيح عليه السلام‏!‏ وهل المعجزات إلا حوادث وتصرفات تتجاوز حدود العقل وتصطدم بشرائع الكون ونواميسه‏!!‏ ثم ماهي أدلة العقول التي يمكن أن أعثر عليها في الأناجيل للتصديق بسيدنا عيسي عليه السلام؟‏!‏ أليست هي الخوارق والخوارق وحدها‏!!‏ وماذا كانت الأدلة التي أعتمد عليها التلاميذ الإثنا عشر الذين أرسلهم يسوع لهداية الناس؟‏!‏ أليست هي شفاء المرضي‏,‏ وإحياء الموتي من قبورهم‏,‏ وإبراء الأبرص وطرد الشياطين والأرواح النجسة‏!!‏ كما يخبرنا الإصحاح العاشر في إنجيل متي‏!!‏ ثم ألا تتفق معي في أن الفيلسوف الألماني كانت الذي ورد ذكره في سياق محاضرتكم إنما أحال ملف الاعتقاد المسيحي برمته إلي العقل العملي‏,‏ لأنه لم يستطع أن يؤسس هذا الاعتقاد علي أساس من العقل النظري وقال قولته الشهيرة‏:‏
لقد اضطررت أن أرفع المعرفة لكي آخذ مكانا للايمان‏,‏ بينما أجمع فلاسفة المسلمين ــ وكما تعلمون ــ علي تأسيس الاعتقاد الإسلامي علي العقل والعقل وحده‏,‏ يحفزهم إلي هذه العقلانية عشرات الآيات القرآنية التي تؤصل العقل كأساس للإيمان في أكثر من‏120‏ موضعا كما ذكرنا‏..‏ بل تحفزهم الآية التي تقول فاعلم أنه لا إله إلا الله.) انتهى.
وليس بيننا من خلاف أن اليهودية والمسيحية أعتمدتا على المعجزات لإثبات نبوة موسى وعيسى، بينما لم يستطع محمد أن يأتي بأي معجزات عندما طلب منه القرشيون أن يأتي لهم بمعجزات مثل موسى وعيسى، وقال لهم القرآن في ذلك: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرةً فظلموا بها وما نرسل الآيات إلا تخويفاً) (الإسراء 59). فمحمد لم تكن له آيات لأن الناس في الماضي قد كذبوا الآيات ولم يقتنعوا بها. فهل أتى محمد بالمنطق بدل الآيات ليقنع الناس بدينه؟ لا أعتقد ذلك. ولكن بدون أي اعتبار للحقائق يقول د. أحمد الطيب للبابا: (بينما أجمع فلاسفة المسلمين ــ وكما تعلمون ــ علي تأسيس الاعتقاد الإسلامي علي العقل والعقل وحده‏). فمن هم فلاسفة الإسلام الذين ربطوا الإيمان بالعقل؟ هل قصد حجة الإسلام الغزالي الذي سفه الفلسفة والفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" وكذلك في كتابه "إحياء علوم الدين"، أم قصد ابن حزم الأندلسي الذي قال في هجومه على المعتزلة عندما قدموا العقل على النقل: (لو عرف هذا الجاهل معنى العقل لم يجب بهذا السخف لأن العقل على الحقيقة إنما هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي وما عدا هذا فليس عقلاً بل هو سخف وحمق.) (الملل والنحل لابن حزم،ج2، ص 59). وقد أورد ابن خلكان ملخصا وبالجملة عن الفلاسفة مثل الفارابي وابن سينا، وقال: (ولكن أكثر العلماء على كفرهما وزندقتهما حتى قال الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال:
لا نشك في كفرهما أي الفارابي وابن سينا، وقال فيه أيضا وأما الآلهيات ففيها أكثر أغاليطهم وما قدروا على الوفاء بالرهان على ما شرطوا في المنطق ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذهب الإسلاميين الفارابي وابن سينا ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في سبعة عشر ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت) (شذرات الذهب للدمشقي، ج2، ص 353). فالإمام الغزالي حكم بكفر الفاربي وابن سينا لأنهما استعملا العقل في مفهوم الإيمان. ويقول سيد قطب: (هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية) (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته للأستاذ سيد قطب، دار الشروق، ص 10).
وقد أفتى عدد كبير من فقهاء الإسلام بتحريم المنطق والعقل، فنجد مثلاً في كتاب "الحاوي للفتاوى" ما يلي:
(مسألة - هل العقل أفضل من العلم الحادث أم العلم. الجواب - هذه المسألة اختلف فيها العلماء ورجحوا تفضيل العلم لأن الباري تعالى يوصف بصفة العلم ولا يوصف بصفة العقل وما ساغ وصفه تعالى به أفضل مما لم يسغ وإن كان العلم الذي يوصف به تعالى قديماً ووصفنا حادث فإن الباري لا يوصف بصفة العقل أصلاً ولا على جهة القدم ومن الأدلة على تفضيل العلم أن متعلقه أشرف وأنه ورد بفضله أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة ولم يرد في فضل العقل حديث.) (الحاوي للفتاوى للإمام جلال الدين السيوطي، ج2، الفتاوى الأصولية الدينية، مبحث الإلهيات). فجلال الدين السيوطي يقول إنه لم يرد ولا حديث واحد في فضل العقل بينما وردت عدة أحاديث عن فضل العلم أي الشريعة الإسلامية.
وفي نفس الكتاب نجد في صفحة 339 (فن المنطق فن خبيث مذموم يحرم الاشتغال به، يُبنى بعض ما فيه على القول بالهيولى الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة وليس له ثمرة دينية أصلاً بل ولا دنيوية - نص على مجموع ما ذكرته أئمة الدين وعلماء الشريعة فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه ونص عليه من أصحابه إمام الحرمين والغزالي في آخر أمره وابن الصباغ صاحب الشامل وابن القشيري ونصر المقدسي والعماد بن يونس وحفده والسلفي وابن بندار وابن عساكر وابن الأثير وابن الصلاح وابن عبد السلام وأبو شامة والنووي وابن دقيق العيد والبرهان الجعبري وأبو حيان والشرف الدمياطي والذهبي والطيبي والملوي والأسنوي والأذرعي والولي العراقي والشرف بن المقري وأفتى به شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوي، ونص عليه من أئمة المالكية ابن أبي زيد صاحب الرسالة والقاضي أبو بكر ابن العربي وأبو بكر الطرطوشي وأبو الوليد الباجي وأبو طالب المكي صاحب قوت القلوب وأبو الحسن ابن الحصار وأبو عامر بن الربيع وأبو الحسن ابن حبيب وأبو حبيب المالقي وابن المنير وابن رشد وابن أبي جمرة وعامة أهل المغرب.) فهذه قائمة ببعض علماء الإسلام الذين أفتوا بحرمة المنطق وعلم الكلام والعقل. أما ابن نجيم فيقول: ( العلم أفضل من العقل عندنا خلافاً للمعتزلة) (البحر الرائق لابن نجيم، ج8، كتاب الكراهية).
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول عن العقل: (فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات أو بعضها أو نفي عموم خلقه لكل شيء أو نفي أمره ونهيه أو امتناع المعاد أو غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض ، وفساد ذلك المعارض قد يعلم جملة وتفصيلا ، أما الجملة فإنه من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية كما قال تعالى ، والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ، سورة الشورى 16 ، وأما التفصيل فبعلم فساد تلك الحجة المعارضة وهذا الأصل نقيض الأصل الذي ذكره طائفة من الملحدين كما ذكره الرازي في أول كتابه نهاية العقول حيث ذكر أن الإستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال لأن الإستدلال بها موقوف على مقدمات ظنية وعلى دفع المعارض العقلي وإن العلم بإنتفاء المعارض لا يمكن إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقل يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع) (تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ج1، ص 7). فهاهو شيخ الإسلام ابن تيمية يفتي بإلحاد الرازي لأنه استعمل الدليل العقلي في مناقشة الإيمان.
فهذه أمثلة مما قاله معظم فقهاء الإسلام الذين كفّروا المعتزلة وأهل الكلام والفلسفة وحرقوا الفلاسفة مع كتبهم وحرقوا كتب أخوان الصفا. وما زال الجامع الأزهر يصادر الكتب ويمنع الأعمال الفنية لأنه لا يثق بعقل القارئ المسلم في معرفة الصالح من الطالح. ومع ذلك يخاطب الدكتور أحمد الطيب البابا بقوله:
(‏..‏ومالي أذهب بعيدا وهذا هو القديس أنسليم يقول‏:‏يجب أن تعتقد أولا بما يعرض علي قلبك دون نظر‏..‏ ولكم أن تقارنوا بين الإيمان المسيحي الذي يشترط عدم النظر العقلي وبين الإيمان الإسلامي الذي يشترط سبق النظر العقلي علي كل خطوة في مشوار الإيمان‏.‏ ووقتها سنعرف إن كان الإسلام دين عقل أو دين خوارق مضادا للعقل ومضادا لجوهر الله‏.) انتهى.
أي عقل عناه د. أحمد الطيب وهو لا شك قد قرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: (كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها نفيا وإثباتا لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الإستفسار والتفصيل فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفى باطله بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه) (تعارض العقل والنقل، ج1، ص 29). فإذا كان على المؤمن أن يقبل كلام الرسول حتى وإن لم يفهم معناه، ألا يعني هذا أن كلام الرسول لا يخضع للعقل ولا للمنطق؟ فأين الإيمان العقلي الإسلامي الذي يتفوق على الإيمان المسيحي المبنى على المعجزة؟
ويستمر شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: (فإن الناس متفقون على أن كثيرا مما جاء به الرسول معلوم بالإضطرار من دينه كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك ، وحينئذ فلو قال قائل إذا قام الدليل العقلي القطعي على مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به وهذا هو الكفر الصريح فلا بد لهم من جواب عن هذا ، والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا ، فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي ، ومثل هذا الغلط يقع فيه كثير من الناس يقدرون تقديرا يلزم منه لوازم) (تعارض العقل والنقل، ج1، ص 31). فالدليل العقلي لا يجوز أن يتعارض مع ما سمعه أحدهم من النبي ورواه عن طريق العنعنة. فهل هذا هو الإيمان العقلي الذي عناه د. أحمد الطيب؟
وبدون أي مراعاة للحقيقة يقول د. أحمد الطيب: (المغالطة المكرورة والمملولة أيضا‏,‏ والتي تقول إن الإسلام جاء بالسيف وبالعدوان فإني أستسمح البروفيسور الكاثوليكي خوري في أن أذكره بأن نبي الإسلام لم يقل لنا في القرآن‏:‏لاتظنوا أني جئت لألقي سلاما علي الأرض‏.‏ ما جئت لألقي سلاما بل سيفا‏..‏ فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه‏,‏ والأبنة ضد أمها‏..‏ ألخ ولم يأمرنا نبي الإسلام بأن نتعامل مع أعدائنا بأن‏:‏نقتل جميع الرجال والنساء والأطفال والرضع والبقر والغنم والإبل والحمير‏..‏ وسعادة البروفيسور الكاثوليكي أعلم مني بهذه النصوص وبمن نسبت إليه‏,‏ وفي أي الكتب المقدسة تقرأ وتتلي‏..‏ وهاهنا حوار عميق يمنعني ديني من الانجراف إليه‏..‏ وأكتفي بالإشارة إلي أن النساء والأطفال والرضع والبقر والغنم‏..‏ ألخ‏.‏
يحرم قتلهم في شريعة الإسلام‏,‏ حتي وهم في معسكر العدو‏) انتهى.
وربما نسي د. أحمد أو تناسى أن يذكر أن القرآن يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وأخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأؤلئك هم الظالمون) ( التوبة 23) أليس هذا تفريقاً بين االأب والابن وبين الأخ وأخيه؟ أما قتل الأطفال والنساء فيكفي أن يقرأ د. أحمد الطيب تفاصيل قتل أطفال بني قريظة الذين أنبتوا شعر عاناتهم، وكذلك فتاوى الفقهاء الذين أجازوا قتل الأطفال والنساء إذا تترس بهم العدو. وما فتوى الشيخ القرضاوي عن قتل أطفال ونساء اليهود ببعيدة عن الأذهان.


الحكومات العربية وكابوس حقوق الإنسان

يبدو أن الحكومات العربية من المحيط إلى الخليج تغط في نوم عميق فوّت عليها اللحاق بقطار الحضارة الذي كان قد بارح آخر محطة له في العالم العربي في منتصف القرن العشرين الميلادي يوم كانت مصر تقف على الرصيف بقيادة زعماء سياسيين تحدوهم الوطنية ويساندهم مفكرون متنورون مثل الشيخ محمد عبده وطه حسين وغيرهم، وعندما كانت الجزائر تتطلع إلى مستقبل زاهر تقوده نساء مثل جميلة بوحيرد، قبل أن تُوضع المرأة الجزائرية في المكان المناسب لها في منزلها. ولكن للأسف تلكاؤوا وفاتهم القطار. و المشكلة في النوم العميق أنه يهيئ ذهن النائم إلى حدوث الكابوس المخيف بدل الحلم الجميل. ولا شك أن كل الحكومات العربية التي تغط في النوم العميق يُنغّص نومها كابوس يُدعى " حقوق الإنسان ". هذا الكابوس يجعل من الحكومات العربية التي أنفقت مليارات الدولارات في اغتناء أحدث أنواع الأسلحة الفتاكة، المسموح بها وغير المسموح بها مثل تلك التي استعملها صدام حسين في حلبجة، تتخيل أن شخصاً واحداً مثل المرحوم والناشط السوداني الخاتم عدلان الذي عاجلته المنية في لندن قبل أيام، سوف يصير بعبعاً يستنسخ الملايين من شاكلته ليدمر كل تراسانات أسلحتهم التي يحتفظون بها لكتم أنفاس شعوبهم. هذا الخاتم عدلان طاردته السلطات السودانية على مر السنين وسجنوه على فترات متعددة بلغت ثماني سنوات في مجملها قبل أن يهاجر إلى لندن ليقود الحركة الجديدة للديمقراطية في السودان. وعندما وصل جثمانه إلى مطار الخرطوم ليوارى الثرى، منعت قوات الأمن السودانية المعزين من الاقتراب من المطار وهرّبت الجثمان إلى قرية في أواسط الجزيرة تبعد حوالي ثلاثمائة كيلومتراً جنوب الخرطوم. ( الشرق الأوسط 28 أبريل 2005) وكنت أعتقد أن الحكومة سوف تتنفس الصعداء بموته، ولكن الكابوس جعلها تتخيل أنه ما زال يقود المتظاهرين في الخرطوم. فخافت الحكومة حتى من جثمانه.
وبعض الحكومات يزعجها الكابوس بما فيه الكفاية لتفيق هنيهة ترمي فيها إلى شعوبها بعض فتات الإصلاحات وتدعوها جزافاً بالإصلاحات التقدمية. وتمثل حكومة تونس هذا النوع من الحكومات. فبعد أن فاقت من نومها لتقدم للشعب بعض الإصلاحات في قوانين الأسرة وحقوق المرأة، رجعت لسباتها الذي لم تفق منه إلا قبل يومين حين عقدت مجلو " نيوزويك " الأمريكية حفلاً في الكويت لتكريم شخصيات عربية لعبت دوراً قيادياً في شتى المجالات. وكان من ضمن هذه الشخصيات العربية السيدة راضية نصراوي، الناشطة التونسية في مجال حقوق الإنسان. فبمجرد أن صرحت " نيوزويك " أن السيدة نصراوي سوف تكون من بين المدعوين، تضافرت جهود الوسطاء العرب الذين يجيدون الوساطة، لإخفاء أسمها من لائحة المحتفي بهم حتى لا تمتنع الحكومة التونسية من الاشتراك في الحفل. ولكن " نيوزويك " رفضت أن تستجيب إلى الوساطة، فقاطع سفير تونس في الكويت الحفل، وانسحب الإعلاميون التونسيون من الحفل كذلك ( إيلاف الإلكترونية بتاريخ 2 مايو 2005). وكل جريمة هذه السيدة أنها محامية تعمل في مجال حقوق الإنسان وتقوم بتمثيل الذين لاصوت لهم على حد تعبيرها، وكانت قد قامت بتمثيل زوجات الإسلاميين وأعضاء النقابات والطلاب "الذين وجدوا نفسهم في الجانب الخطأ من الدولة التونسية"، حسبما ذكرت عنها مجلة نيوزويك ( نفس المصدر). ولا تزال ندبة تزهو على جبين نصراوي تذّكر بمواجهة لها مع السلطات التونسية أثناء احتجاجات حدثت في وقت سابق هذا الربيع. فالإعلاميون التونسيون يقفون في نفس خندق الحكومة في حربها ضد حقوق الإنسان.
كما تغيبت عن الحفل الشيخة موزة المسند حرم حاكم دولة قطر ،التي استلم الدرع نيابة عنها السفير القطري في الكويت. وتغيبت كذلك السيدة سارة الخثلان ولبنى العليان من السعودية كما تغيّب الروائي السوداني الطيب صالح والشاعر محمود درويش.
ومن المصادفات الغريبة أن هذا الحفل أقيم في الكويت بعد أسابيع من الحكم على الكاتب والمفكر الأكاديمي د. أحمد البغدادي بالسجن والمنع من الكتابة في الصحف بسبب إبدائه رأيه. والمضحك المحزن أن رئيس تحرير جريدة الوطن ونيوزويك العربية الشيخ خليفة علي الخليفة الصباح قال في الحفل: " إن دار الوطن مؤمنة بان تقدم الأمة العربية مع العالم الخارجي يكون عن طريق هذه الصحيفة وأن دولة الكويت هي الاختيار الطبيعي لهذه المجلة ( بيوزويك العربية ) نظرا لما فيها من قيادة حكيمة وحرية كبيرة في الرأي لذا على كاهلنا الآن المزيد من المسؤوليات كي يأتي يوما يفهمنا الغرب ونفهمه." وربما قد غاب عن رئيس تحرير جريدة الوطن أن الغرب يفهمنا عن طريق إعلامنا. فهل في العالم العربي أي قطر يستطيع أن يقول أن إعلامه حر ولا يعاني من مقص الرقيب وتسلط الحكومات التي طالما أزعجها الكابوس.
فمصر التي كانت تقود العالم العربي في الانفتاح على الحضارة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يرسف إعلامها في قيود قوانين الطوارئ الذي جثم على صدر الأمة منذ مقتل السادات. وحتى القضاء لا يتمتع بالاستقلال حتى نستطيع أن نقول أنه قضاء نزيه سوف ينصر الآلاف من سجناء الرأي الذين يرزحون في سجون مصر بسبب جرأتهم على الكلام. ويبدو أن الكابوس في مصر قد تعدى الحكومة إلى المؤسسة الدينية وبعض أفراد الشعب المتأسلمين. فقد انتشرت أخيراً في مصر موضة " الحسبة " مما حدا بالدكتور مصطفى الشكعة، عضو مجلس البحوث الإسلامية، إلى المطالبة "بعودة تطبيق قضايا الحسبة التي كانت منتشرة إلى وقت قريب. ويبدو انه يطالب بهذا الحق للمصريين جميعا وليس لمجلس البحوث فقط، بعد أن عجز المجلس بالرغم من تمتعه بالضبطية القضائية عن القضاء على، أو الحد من تلك الكتب والأفكار والأفلام التي تسيء إلى الإسلام. أي انه يريد تعيين المصريين جميعا وكلاء للنائب العام فيما يختص بقضايا الحسبة ( علي سالم، شفاف الشرق الأوسط 3 أبريل 2005 ). وقد سمعنا قبل عامين أن مواطناً من الدمام رفع دعوى حسبية على صحفي كان قد أجرى تحقيقاً مع بعض المواطنين عن برنامج " إستار أكادمي " وأتهم الشاكي الصحفي بإفساد عقول الشباب، نفس التهمة التي وجهها الأثينيون إلى سقراط قبل آلاف السنين، ولم يتحرك أحد في الإعلام ليدافع عن الصحفي. وربما كان هذا الصحفي محظوظاً إذ لم يهدده الشاكي بالقتل كما هددوا وما زالوا يهددون الكاتبة السعودية وجيهة الحويدر برسائل تقول: " إن يدنا تطول أمثالك من المنافقين وإن لدينا ما نفعله لك.. وقد أعذر من أنذر..تذكري جيدا " ( إيلاف 30 مارس 2004)/
وفي المغرب التي يرزح إعلاميوها تحت قوانين أشد تعسفاً من قوانين معظم البلاد العربية، حكمت المحكمة على الصحفي علي المرابط بالحرمان من مزاولة المهنة لمدة عشر سنوات مع غرامة مالية قدرها 50 ألف درهم. وكالعادة لاذ زملاؤه الإعلاميون بالصمت وكأنهم لم يسمعوا بمقولة الفيلسوف الفرنسي فولتيير " إني أعارضك الرأي ولكني مستعد أن أضحي بنفسي من أجل حقك في أن تقول رأيك ". والأدهى من ذلك أن جمعيات مغربية مدافعة عن حقوق المحتجزين بتندوف في الصحراء الغربية طالبت بتشديد العقوبات على السيد المرابط، فأثلجت صدر الحكومة المغربية، لأن حقوق الإنسان في الصحراء المتنازع عليها تعلو فوق حقوق الإنسان المغربي.
وبعض الأحزاب السياسية الدينية في المغرب تشد من أزر الحكومة وتتمنى أن تصدر الحكومة قوانيناً أشد تعسفاً ضد العلمانيين. فبعد أن كتبت صحيفة " التجديد " الناطقة باسم الحزب مقالاً يزعم أن التسونامي الذي أصاب إندونيسيا مؤخراً ما هو إلا عقابٌ من الله لأهل إندونيسيا الذين سمحوا بفتح الأندية الليلية واختلاط النساء بالرجال في بلادهم، بثت القناة الثانية يوم 11 يناير 2005 برنامجاً يفند هذا القول، فدعا الحزب إلى تنظيم وقفة احتجاجية رمزية أمام مقر القناة بعين السبع، وذهب إلى أن ربورتاج القناة "تضمن تحاملا مقصودا وتشويها لمواقف الحزب" واحتج عضو الحزب عبد الإله بنكيران في البرلمان على ما سماه "استجواب أعداء الحزب"، في إشارة إلى الصحفيين الذين تحدثوا في التلفزيون وهاجموا موقف صحيفة الغد ( إيلاف 14 يناير 2005). وهذا هو مستوى الإعلام العربي الذي تود الحكومات العربية الحفاظ عليه وتشجيعه باسم الدين..
ويبدو أن مجلس الصحافة المصري لم يسمع بأن الصحافة هي السلطة الرابعة في الدولة والتي تراقب تصرفات الحكومة بالإنابة عن الشعب، فطالب المجلس الأعلى للصحافة في مصر من الصحافيين المصريين التوقف عن مهاجمة الرؤساء والقادة العرب. وطالب المجلس في بيان له جميع الصحف المصرية بمراعاة الظروف الدقيقة التي تمر بها الأمة العربية، والتي وصفها البيان بأنها «لا تحتمل مزيدا من أسباب التوتر والخلاف»، وناشدت لجنة متابعة الشكاوى التي اجتمعت برئاسة رئيس اللجنة محمد عبدالمنعم رئيس تحرير «روزاليوسف» وأمينها عباس الطرابيلي رئيس تحرير جريدة «الوفد» جميع الزملاء ورؤساء تحرير جميع الصحف المصرية بالتوقف عن النقد الجارح الذي يسيء لعلاقات مصر مع شقيقاتها العربية، وكذلك الدول الصديقة، مطالباً إياهم بالعمل على زيادة أواصر التعاون بين الدول وتوحيد الصف العربي ( الشرق الأوسط ). فالإعلام المصري همه الوحيد وحدة الأمة العربية وطاعة ولي الأمر. نفس المطالب المرفوعة منذ واقعة الجمل بين عليّ بن أبي طالب ومعاوية.
ويبدو لي أنه ليس هناك أي أمل في التغيير لأن شبابنا المتعلم والذي يُفترض فيه أن يكون مثقفاً وحاملاً مشعل التنوير لجهلاء الأمة العربية، لا يختلف كثيراً عن الرجرجة والدهماء. فقد خرجت مظاهرة من كلية الطب في الخرطوم تنادي بمحاكمة السيد محمد طه محمد أحمد ، رئيس تحرير صحيفة " الوفاق " السودانية، بالردة لأنه نشر مقتطفات من كتاب " المجهول في حياة الرسول " للدكتور المقريزي. ( الشرق الأوسط 2 مايو 2005). والكتاب منشور على صفحات الإنترنت التي يبلغ مجموع قرائها أضعاف جميع المواطنين السودانيين الذين تتفشى فيهم الأمية بنسبة 60 بالمائة، وحتى المتعلمين منهم لا يملكون ما يشترون به الصحف اليومية. فنسبة الذين يقراؤون صحيفة "لوفاق" نسبة ضيئلة جداَ، ومع ذلك استجابت الحكومة في عجل إلى مطلب الطلبة المتظاهرين وسوف تقدم رئيس التحرير إلى المحاكمة بتهمة الردة. نرجو ألا يلاقي مصير المهندس محمود محمد طه الذي شنقه نميري في السبعينات، خاصة وهناك تشابه في الأسماء. فالإعلام السوداني لم يتغير به شئ في الثلاثين عاماً الماضية. فهل ما زال رئيس تحرير صحيفة " الوطن " الكويتية متفائلاً أن تقدم الأمة العربية سوف يكون عن طريق صحيفته و"نيوزويك" العربية. نرجو ذلك، فكما قال أميل زولا: "لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة".

No comments: