Saturday, May 26, 2007

ديوان - الشافعى

قافية الهمزة

من تجارب الإمام

وطب نفسا إذا حكم القضاء دع الأيام تفعل مـا تشـــاء
فما لحوادث الدنيـا بقــاء ولا تجزع لحــادثة الليـالي
وشيمتك السماحة والوفـاء وكن رجلا على الأهوال جلدا
وسرك أن يكون لها غطـاء وإن كثرت عيوبك في البرايـا
يغطيه - كما قيل- السخـاء تستر بالسخــاء فكل عيـب
فإن شماتة الأعــداء بـلاء ولا تر للأعــداء قــط ذلا
فما في النار للظمآن مــاء ولا ترج السماحة من بخيـل
وليس يزيد في الرزق العناء ورزقك ليس ينقصه التــأني
ولا بؤس عليك ولا رخـاء ولا حزن يدوم ولا ســرور
فأنت ومالك الدنيا ســواء إذا ما كنت ذا قلب قنــوع
فلا أرض تقيه ولا سمــاء ومن نزلت بساحته المنايــا
إذا نزل القضا ضاق الفضاء وأرض الله واسعــة ولكن
فما يغني عن الموت الـدواء دع الأيام تغدر كل حيــن


***

الدعـــــــاء

وما تدري بما صنع القضــاء أتهزأ بالدعــاء وتزدريــه
لها أمد ، وللأمــد ، انقضـاء سهــام الليل لا تخطــي
***
حب النساء

إن حب النساء جهد البـلاء أكثر الناس في النساء وقالوا
قرب من لا تحب جهد البلاء ليس حب النساء جهدا ولكن
***

فراق الأحبة

يعيشها بعد أودائــه واحسرة للفتى ســاعة
رمى به بعد أحبابـه عمر الفتى لو كان في كفه


***

قافية البــاء

سوء التقدير

حق الأديب فباعوا الرأس بالـذنب أصبحت مطرحا في معشر جهلوا
في العقل فرق وفي الآداب والحسب والناس يجمعهم شمل وبينهــم
في لونه الصفر والتفضيل للذهـب كمثل  ما الذهب الإبريز يشركه
لم يفرق الناس بين العود والحطب والعود لو لم تطب منه روائحـه
***
الهوى والعقل

ولم تدر حيث الخطا والصواب إذا حار أمرك في معنيين
يقود النفس إلى مـا يعــاب فخالف هواك فإن الهوى
***
هذه هي الدنيا

ولحم الضأن تأكله الكــلاب تموت الأسد في الغابات جوعا
وذو نسب مفارشه التــراب وعبد قد ينام على حريـــر

***
عندما تقترب نهاية الانسان ويشتعل الرأس شيبا

وأظلم ليلي إذ أضاء شهــابهـا خبت نار نفسي باشتعال مفــارقي
على الرغم مني حين طار غرابها أيا بومة قد عششت فوق هــامتي
ومأواك من كل الديار طـرابـها رأيت خراب العمر مني فــزرتني
طلائع شيب ليس يغني خضابهـا أأنعم عيشا بعد ما حل عــارضي
وقد فنيت نفس تولي شبابهــا وعزة عمر المرء قبل مشيبـــه
تنغص من أيامه مستطابـهــا إذا اصفر لون المرء وابيض شعره
حرام على نفس التقي ارتكابهـا فدع عنك سوءات الأمور فإنهــا
كمثل زكاة المال تم نصـابهــا وأد زكاة الجاه واعلم واعلم بأنهـا
فخير تجارات الكراء اكتسابهــا وأحسن إلى الأحرار تملك رقـابهم
فعما قليل يحتويك ترابـهـــا ولا تمشين في منكب الأرض فاخرا
وسيق إلينا عذبهــا وعذابهـا ومن يذق الدنيا فإني طعـمتهــا
كما لاح في ظهر الفلاة سرابهـا فلم أرها إلا غــرورا وبـاطـلا
عليها كلاب همهن اجتذابهـــا وما هي إلا جيفــة مستحيــلة
وإن تجتذبك نازعتك كلابهـــا فإن تجنبتها كنت سلما لأهلهــا
مغلقة الأبواب مرخى حجابهــا فطوبى لنفس أولعت قعر دارهـا

***
سلوك الكبار مع الأنذال

وما العيب إلا أن أكون مساببــه إذا سبني نذل تزايدت رفعـــة
لمكنتها من كل نــذل تحـاربـه ولو لم تكن نفسي عليّ عزيـزة
كثير التواني للذي أنا طــالبــه ولو أنني أسعى لنفسي وجـدتني
وعار على الشبعان إن جاع صاحبه ولكنني اسع لأنفع صـــاحبي
***
داو السفاهة بالحلم

فأكره أن أكون له مجيبا يخاطبني السفيه بكل قبح
كعود زاده الإحراق طيبا يزيد سفاهة فأزيد حلمـا

***
البخل والظلم

سوى من غدا والبخل ملء إهابه بلوت بني الدنيا فلم أر فـيهــم
قطعت رجائي منهـم بـذبـابـه فجردت من غمد القناعة صارمـا
ولا ذا يراني قاعدا عند بـابــه فلا ذا يراني واقفا في طريقــه
وليس الغني إلا عن الشيء لا به غني بلا مال عن النــاس كلهـم
ولج عتوا في قبيح اكتســابـه إذا ما الظالم استحسن الظلم مذهبا
ستدعي له ما لم يكن في حسابـه فكِلهإلى صرف الليالي فإنهـــا
يرى النجم تحت ظـل ركـابــه فـكم رأينا ظالمـــا متمــردا
أناخت صروف الحادثات ببـابـه فعـما قليل وهو في غفـلاتــه
ولا حسنات تلتقى في كتــابــه فأصبح لا مال ولا جــاه يرتجى
وصب عليه الله سوط عــذابـه وجوزي بالأمر الذي كان فاعـلا
***
حب من طرف واحد

ولا يحبك من تحبـه ومن البلية أن تحــب
وتلح أنت فلا تُغِبُّـه ويصـد عنك بوجهـه
***
الله حسبي

وبحسبي إن صح لي فيك حسب أنت حسبي وفيك للقلب حسب
من الدهر ما تعرض لي خطـب لا أبالي متى ودادك لي صـح
***
ميزان التفاضل

ترقّى على رؤوس الرجال ويخطب أرى الغر في الدنيا إذا كان فاضلا
يقاس بطفل في الشـوارع يلعـب وإن كان مثلي لا فضيلة عـنـده
***
دعوة إلى التنقل والترحال

من راحة فدع الأوطان واغتـرب ما في المقام لذي عـقـل وذي أدب
وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصب سافر تجد عوضـا عمن تفارقــه
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب إني رأيت ركـود الـماء يفســده
والسهم لولا فراق القوس لم يصب والأسد لولا فراق الغاب ما افترست
لملَّها الناس من عجم ومن عـرب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
والعود في أرضه نوع من الحطب والتِّبرُ كالتُّـرب مُلقى في أماكنـه
وإن تغرب ذاك عـزّ كالذهــب فإن تغرّب هـذا عـَزّ مطلبـــه
***
الضرب في الأرض

أنال مرادي أو أموت غريبـا سأضرب في طول البلاد وعرضها
وإن سلمت كان الرجوع قريبا فإن تلفت نفسي فلله درهــــا
***
هيبة الرجال وتوقيرهم

ومن حَقِـرَ الرجال فلن يهابا ومن هاب الرجال تهيَّبــوه
ومن يعص الرجال فما أصابا وما قضت الرجال له حقوقا
***
كذب المنجمون

كافر بالذي قضته الكواكب خبِّرا عني الـمنجــم أنِّي
قضاء من المهيمن واجب عالما أن ما يكون وما كان
***
معاملة اللئيم

فسكوتي عـن اللئيـم جـواب قل بما شئت في مسـبة عرضي
ما ضر الأسد أن تجيب الكلاب ما أنا عــادم الجــواب ولكن

***
قافية التاء

دفع الشر

أرحت نفسي من هم العداوات لما عفوت ولم أحقد على أحـد
لأدفع الشر عني بالتحيــات إني أحيّي عدوي عند رؤيتـه
كما إن قد حشا قلبي محبـات وأظهر البشر لإنسان أبغضـه
وفي اعتزالهم قطـع المودات الناس داء ،وداء الناس قربهم
***
هكذا الكرماء

على المقلَّيـن من أهـل المروءات يا لهف نفسي على مال أفرقــه
ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات إن اعتذاري إلى من جاء يسألني

***
آداب التعلم

فإن رسوب العلم في نفراته اصبر على مـر الجفـا من معلم
تجرع ذل الجهل طول حياته ومن لم يذق مر التعلم ساعــة
فكبر عليه أربعا لوفاتــه ومن فاته التعليم وقت شبابــه
إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته وذات الفتى -والله-بالعلم والتقى
***
الصديق المثالي

وكل غضيض الطرف عن عثراتي أحب من الإخـوان كـل مواتي
ويحفظني حيــا وبعـد ممــاتي يوافقني في كـل أمـر أريـده
لقـاسمته مالي من الحسنـــات فمن لي بهذا ؟ ليت أني أصبته
على كثرة الإخــوان أهل ثقـاتي تصفحت إخواني فكان أقلهــم
***
أشحة على الخير

أناسا بعد ما كانوا سكوتا وأنطقت الدراهم بعد صمت
ولا عرفوا لمكرمة ثبوتـا فما عطفوا على أحد بفضل
***
محط الرجاء

فيمم من بنى لله بيتـا إذا رمت المكارم من كريم
ويكرم ضيفه حيا وميتا فذاك الليث من يحمي حماه
***
الصفح الجميل

أبرأتـه لله شاكـر منَّتــه من نال مني ، أو علقت بذمته
أو أن أسوء محمدا في أمته أَأُرى مَُعَوِّق مؤمن يوم الجزاء
***
متى يكون السكوت من ذهب

فخير من إجابته السكوت إذا نطق السفيه فلا تجبه
وإن خليته كـمدا يمـوت فإن كلمته فـرّجت عنـه
***
قضاة الدهر

فقد بانت خسـارتهـم قضاة الدهــر قـد ضلوا
فما ربحت تجارتهــم فباعـوا الـدين بالـدنيـا

***
قافية الجيم

المخرج من النوازل

ذرعا وعند الله منه المخــرج ولربما نـازلة يضيق بها الفتى
فرجت وكنت أظن أنها لا تفرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
***
عداوة الشعراء
وهذه أبيات ذكرها ابن خلكان في ترجمته للشافعي في كتابه (وفيات الأعيان) وقال : ( ومن المنسوب إليه )ا

إن سِيلَ كيف معاده ومعاجه مـاذا يُخبّر ضيف بيتك أهـلـه
ريّا لديه وقد طغت أمواجـه أيقول جاوزت الفرأت ولم أنـل
عما أريد شعابه وفجاجــه ورقيت في درج العلا فتضايقت
والماء يُحبر عن قذاه زُجاجه ولتُخبِرنْ خصـاصتـي بتملقي
وعليّ إكليل الكلام وتاجــه عنـدي يواقيـت القريض ودره
ويرف في نادي الندى ديباجه تربى على روض الرُّبا أزهاره
والشعر منه لعابه ومجاجـه والشاعر المِنطيق أسود سالـح
ولقد يهون على الكريم علاجه وعـداوة الشعراء داء معضـل

***
قافية الحاء

عندما يكون السكوت من ذهب

إن الجـواب لـباب الشر مفتــاح قالوا سكتَّ وقد خُوصمت؟ قلت لهم
وفيه أيـضا لصون العرض إصلاح والصمت عن جاهل أو أحمق شرف
والكلب يُخسى- لعمري- وهو نباح أما ترى الأسد تُخشى وهي صامتة

***
قافية الدال

محن الزمان ومسراته

وسروره يأتيك كالأعيــاد محن الزمان كثيرة لا تنقضي
وتراه رقّا في يد الأوغــاد ملك الأكابر فاسترق رقابهـم
***
قالوا ترفَّضت

ما الرفض ديني ولا اعتقادي قالوا : ترفضت، قلت : كلا
خير إمام وخيـر هـــادي لكن تـوليـت غيـر شـك
فإني رفضي إلى الـعبــاد إن كان حـب الوليّ رفضا
***
الناس والكلاب

وأننا لا نرى مما نرى أحـدا ليت الكلاب لنا كانت مجـاورة
والخلق ليس بهاد ، شرهم أبدا إن الكلاب لتَهدى في مواطنهـا
تبقى سعيدا إذا ما كنت منفردا فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها
***
عدو يتمنى الموت للشافعي

فتلك سبيـل لـست فيها بأوحــد تمنى رجال أن أموت ، وإن أمت
ولا عيش من قد عاش بعدي بمخلد وما موت من قد مات قبلي بضائر
به قبل موتـي أن يكون هو الردى لعل الذي يرجـو فنـائي ويدّعي
***
الناس بين شامت وحاسد

أخا ثقة عند ابتلاء الشـــدائـد ولمـا أتيت أطلـب عنـدهـم
ونادين في الأحياء هل من مساعد تقلَّبت في دهري رخاء وشـدة
ولم أر فيما سرني حــاســـد فلم أر فيما ساءني غير شامت
***
من صور غدر الإخلاء

وكنت أحسب أني قد ملأت يـدي إني صحبت النــاس ما لهم عـدد
كالدهر في الغدر لم يبقوا على أحد لمـا بلوت أخــلائي وجـدتهـم
وإن مرضت فخير الناس لم يعـد إن غبت عنهم فشـر الناس يشتمني
وإن رأوني بشـر سرهم نكــدي وإن رأوني بخيـر سـاءهم فرحي
***
عجبا لمن يضحك والموت يطلبه

لو كان يعلم غيبا مات من كمد كم ضاحك والمنايا فوق هامتــه
ماذا تفكره في رزق بعد غـد من كان لم يؤت علما في بقاء غد
***
لا تيأسن من لطف ربك

وتخاف في يوم المعاد وعيـدا إن كنت تغدو في الذنـوب جليـدا
وأفاض من نعم عليك مزيـدا فلقـد أتاك من المهيمـن عـفـوه
في بطن أمك مضغة ووليـدا لا تيأسن من لطف ربك في الحشا
ما كان أَلْهمَ قلبك التوحيــدا لو شــاء أن تصلى جهنم خالـدا
***
هموم الغــد

فخلِّ الهمَّ عني يا سعيد إذا أصبحت عندي قوت يومي
فإن غد له رزق جديـد ولا تُخْطَـرْ همـوم غد ببالي
فأترك ما أريد لما يريد أُسَلِّم إن أراد الله أمــــرا
***
لولا ... ولولا

لكنت اليوم أشعر من لبيد ولولا الشعر بالعلمــاء يزري
وآل مهلّـَب وبني يزيـد وأشجع في الوغى من كل ليث
حسبت الناس كلهم عبيدي ولـولا خشـية الرحمـن ربي
***
الشعور بالراحة عند قضاء الحق

ويثقل يومـا إن تركت على عمـد أرى راحـة للحق عند قـضـائـه
وقولك لم أعلم وذاك من الجهــد وحسبك حظـا أن ترى غير كاذب
وصاحبه الأدنى على القرب والبعد ومن يقض حق الجار بعد ابن عمه
وإن نـابـه حق أتوه على قصــد يعش سيـدا يستعذب الناس ذكـره
***
أفضل ما استفاد المرء

ويأبى الله إلا مـــا أرادا يريد المرء أن يعطى مناه
وتقوى الله أفضل ما استفادا يقول المرء فائدتي ومالي
***
فوائد الأسفــار

وسافر ففي السفار خمس فوائد تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وعلم وآداب ، وصحبة ماجـد تَفَرُّجُ هم ، واكتسـاب معيشــة
***
الأقربون أولى بالمعروف

كأنك  برِّي بــذاك تـحيــد أتاني عذر مـنك في غيـر كنهه
يمينك إن جـاد اللسان تجــود لسانـك هش بالنـوازل وما أرى
وأسلاف صدق قد مضوا وجدود فإن قلت لي بيت وسبط وسبطـة
بكَفيْكَ عَمْدا والبنـاء جـديــد صدقت ولكن أنت خربت ما بنوا
ونال الذي يهـوى لديك بعيــد إذا كان ذو القربى لديك مبعــدا
واشتقت أن تبقى وأنت وحيــد تفرق عـنك الأقربون لشـأنهـم
فياليت شعـري أي ذاك تريــد وأصبحت َ بين الحمد والذم واقفا
***
عداوة الحاسد

إلا عداوة من عاداك من حسد كل العداوة قد ترجى مودتها

***
العلم الأُخروي

فاز بفضل من الرشــاد من تعلم للمعـــاد
وفضل نيل من العبـــاد ونال حسنـا لطالبيه

***
قافية الراء

جنان الخلــد

يمسي ويصبح في دنياه سفـارا يا من يعـانق دنيـا لا بقاء لهــا
حتى تعانق في الفردوس أبكارا هلا تركت لذي الدنيا معانقـــة
فينبغي لك ألا تأمن النـــارا إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنهـا
***
الوحدة خير من جليس السوء

ألذ واشهى من غوى أعاشره إذا لم أجد خلا تقيا فوحدتي
أقر لعيني من جـليس أحاذره وأجلس وحدي للعبادة آمنـا
***
إحسان الظن بالأيام

فقيل له خير ما استعملته الحذر تاه الأعيرج واستعلى به البطر
ولم تخف سوء ما تأتي به القدر أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
وعند صفو الليالي يحدث الكدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها
***
قبول العذر

إن يرَّ عندك فيما قال أو فجرا اقبل معـاذير من يأتيك معتذرا
وقد أجلَّك من يعصيك مستترا لقد أطاعك من يرضيك ظاهره
***
أدب المناظرة

بما اختلف الأوائل والأواخر إذا ما كنت ذا فـضل وعلم
حليمـا لا تـلح ولا تكابـر فناظر من تناظر في سكون
من النكـت اللطيفة والنوادر يفيدك ما استفادا بلا امتنان
بأني قد غلبت ومن يفـاخـر وإياك اللجوج ومن يرائي
يمني بالتقـاطـع والـتدابـر فإن الشر في جنبات هـذا
***
الدهر يومــان

والعيش عيشان: ذا صفو وذا كدر الدهر يومان : ذا أمن وذا خطر
وتستقر بأقصى قاعـه الــدرر أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وليس يُكسَفُ إلا الشمس والقمـر وفي السماء نجوم لا عداد لهـا
***
فضل السكوت

إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر وجدت سـكوتي متجرا فلزمتــه
وتاجره يعلو على كل تاجــر وما الصمت إلا في الرجال متاجر
***
الرضا بالقدر

ولكنني راض بما حكم الدهـر وما أنا راض من زماني بما ترى
فإني بها راض زلكنها قهــر فإن كانت الأيـام خانت عهودنـا
***
ديـة الـذنـب

ومقام الفتى على الذل عار قيل لي: قد اسى إلـيك فـلان
دية الذنب عندنا الاعتـذار قلت: قد جاءني وأحدث عذرا
***
الشوق إلى مصر

ومن دونها قطع المهامه والقفر لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر
أســاق إليها أم إلى القبــر فـوالله مـا أدري أللفـوز والغنى
***
العبرة باللابس لا بالملابس

بفلس لكان الفلس منهن أكثـرا عليّ ثيـاب لـو تبـاع جمـيعـها
نفوس الورى كانت أجل وأكبرا وفيهن نفـس لـو تقاس ببعضهـا
إذا كان عضبا حيث وجهته فرى وما ضر نصل السيف إخلاق غمده
فكم من حسام في غلاف تكسرا فإن تكـن الأيـام أزرت بـبـزتي
***
احذر مودة الناس

وعن الورى كن راهبا في ديره كن ساكنا في ذا الزمان بِسَيئرِهِ
واحذر مودتهـم تنل من خيـره واغسل يديك من الزمان وأهله
أصحبه في الدهر ولا في غيره إني اطلعت فلم أجد لي صاحبا
وتركت أعلاهم لـقلة خيــره فتركت أسفلهـم لكثرة شـره
***
المرء بأصغريه قلبه ولسانه

كشفت حقائقهـا بالنظر إذا المشكلات تصدين لي
وكالحسام اليماني الذكر لسـان كشقشقة الأرحبي
أسائل هذا وذا ما الخبر ولست بإمعة في الرجال
جلاّب خير وفراج شر ولكنن مدره الأصغـرين
***
كثرة الأخلاء وقلة الأعداء

وإن عدوا واحدا لكثير وليس كثيرا ألف حلِّ لواحد
***
أمر فوق أمري

وأحمد همتي وأذم دهـري أفكر ف نوى إلفي وصبري
لرب الناس أمر فوق أمري وما قصرت في طلب ولكن
***
من نكد الدنيا على الانسان

ومن تُحِب يحب غيرك ومن الشـقـاوة أن تحب
وهو يريــد غيــرك أو أن تريد الخيرللإنسان


***
قافية السين

البحث عن صديق

قريب من عدو في القياس صديق ليس ينفع يوم بؤس
ولا الإخوان إلا للتــآسي وما يبقى الصديق بكل عصر
أخا ثـقة فألهاني التماسي عبرت الدهر ملتمسا بجهدي
كأن أناسها ليـسوا بناسي تنكرت البلاد ومن عليهــا
***
منــاجــاة

في السر والجهر والإصباح والغلس قلبي بـرحمتـك اللهـم ذو أنس
إلا وذكـرك بين النفْس والنفَــس وما تقلـبت من نومي وفي سِنتي
بأنـك الله ذو الآلاء والـقـــدس لقد مـننت عـلى قلبي بمعـرفة
ولم تكـن فاضحي فيهـا بفعل مُسي وقد لأتيت ذنوبا أنت تعلمهــا
تجعل عليّ إذا في الديـن مـن لبس فامنن علـيّ بذكر الصالحين ولا
ويوم حـشري بـما أنزلت في عبس وكن معي طول دنيـاي وآخرتي
***
وقفة الحر بباب نحس

ونزع نفـس، ورد أمـس لقلع ضرس، وضرب حبس
ودبغ جـلـد بغيـر شمس وقـر بـرد ، وقـود فـرد
وصرف حب بأرض خرس وأكل ضـب ، وصيـد دب
وبيـع دار بـربع فلـس ونفـخ نار، وحمـل عـار
وضـرب ألف بحبل قلـس وبـيع خف ، وعـدم ألف
يرجو نـوالا بباب نحـس أهون مـن وقفـة الحــر
***
العلم مغرس كل فخر

واحذر يفوتك فخـر ذاك المغـرس العلم مغرس كـل فخر فافتخـر
من هـمـه في مطعــم أو ملبـس واعلم بأن العـلم ليس ينالـه
في حـالتيه عـاريـا أو مـكتـسي إلا أخـو العلم الذي يُعنى بـه
واهجـر لـه طيب الرقــاد وعبّسِ فاجعل لنفسك منه حظا وافـرا
كنت أنت الرئيس وفخر ذاك المجلس فلعل يوما إن حضرت بمجلس


***
قافية الصاد

شهــادة حــق

وأشهد أن الـبعـث حـق وأخـلص شهدت بأن الله لا رب غيــره
وفعل زكي قــد يـزيـد وينقـص وأن عرى الإيمان قول مبيــن
وكان أبو حفص على الخير يحرص وأن أبـا بكــر خليفـة ربـه
وأن عـليـا فـضـلـه مـتخصص وأًُشهـد ربي أن عثمان فاضل
لحى الله مـن إيـاهــم يـتنقـص أئمـة قـوم يهتدى بهداهــم

***
نور الله لا يهدى لعاص

فأرشدني إلى ترك المعاصي شكوت إلى وكيع سوء حفظي
ونور الله لا يهـدى لعـاص وأخـبرني بأن العـلم نــور


***
قافية الضاد

عادة الأيام

وقد ملكت أيديكم البسط والقبضا إذا لم تجودوا والأمور بكم تمضي
وعضتكم الدنيـا بأنيابها عضــا فماذا يرجَّى مـنكم إن عـزلتــم
ومن عادة الأيام تسترجع القرضا وتسترجـع الأيـام ما وهبتكــم

***
يا راكبــا

واهتف بقـاعد خيفها والناهض يا راكبـا قف بالمحصب من منى
فيضا كملتطم الفرات الفـائض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى
فليشهد الثقــلان أني رافضي إن كان رفضا حب آل محمــد

***
قافية العيـن

أحب الصالحين

لعلّي أن أنال بهـم شفاعـة أحب الصالحين ولست منهم
ولو كنا سـواء في البضاعة وأكره مَن تجارته المعاصي

***
فن النصيحة

وجنبني النصيحة في الجماعة تعمَّدني بنصحك في انفرادي
من التوبيخ لا ارضى استماعه فإن النصح بين الناس نـوع
فلا تجزع إذا لم تعط طاعـة وإن خالفتني وعصيت قولي
***
الاشتغال بعيوب النفس عن عيوب الآخرين

أشغله عن عيوب غيره ورعه المرء إن كان عاقلا ورعا
عن وجع الناس كلهم وجعـه كما العليل السقيم أشغـله
***
لمن نعطي رأينا

فلا أنت محمود ولا الرأي نافعه ولا تعطين الرأي من لا يريده

***
الذل في الطمع

حـسبي بعلمي إن نـفــع
ما الــذل إلا في الطمــع
من راقـب الله رجــــع
ما طــار طير وارتفــع
إلا كـما طـار وقــــع


***
سهام الدعــاء

فأوقعه المقدور أي وقـوع ورب ظلوم قد كفيت بحربــه
وأدعيـة لا تتقى بـدروع فما كان لي الإسلام إلا تعبــدا
سهام دعاء من قِسِّي ركوع وحسبك أن ينجو الظلوم وخلفه
مُنْهلَّة أطرافها بـدمــوع مُريَّشة بالهدب من كل ساهــر
***
الحب الصادق

هذا محال في القياس بديـع تعصي الإله وأنت تظهر حبه
إن المحب لمن يحب مطيـع لو كان حبك صادقا لأطعتـه
منه وأنت لشكر ذلك مضيع في كل يوم يبتديك بنعمــة
***
القناعة والطمع

والحـر عبـد إن طمع العبـد حـر إن قنـع
شيء يشين سوى الطمع فاقنـع ولا تقنع فـلا

***
قافية الفـاء

مدَّعي الصداقة

فـدعه ولا تـكثر عليه التأسفــا إذا المرء لم يرعـاك إلا تكلفــا
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفـا ففي الناس أبدال وفي الترك راحة
ولا كل من صافـيته لك قد صفـا فما كل من تهواه يهــواك قلبـه
فلا خـير في ود يجيء تكلـفــا إذا لم يكن صفو الوداد طبيعــة
ويلقاه من بعد الـمـودة بالجفــا ولا خـير في خـل يخـون خليله
ويظهر سرا كان بالأمس قد خفــا وينكر عيشا قد تقـادم عهــده
صديق صدوق صادق الوعد منصفا سلام على الدنيا إذا لم يكن بهـا

***
كيف الوصول؟

قلل الجبـال ودونهن حتـوف كيف الوصول إلى سعاد ودونها
والكف صفر والطريق مخوف والرجل حافيـة ولا لي مركب
وسعاد هي رمز للمحبوب.... والحب الأكبر هو حب الله.... ويا شقاء من لم ينل رضى به عز وجل
***
الذباب والعقاب

وجنى الذباب الشهد وهو ضعيف أكل العقاب بقوة جيف الفلا

***
ذئاب في ثياب متنسكين

وإذا خلو فهم ذئاب خراف ودع الذين إذا أتوك تنسكوا

***
قافية القاف

فضل التغرب

ولا تكن من فراق الأهل في حرق ارحل بنفسك من أرض تضام بها
وفي التغرب محمول على العنـق فالعنبر الخام روث في موطنــه
في أرضه وهو مرمى على الطرق والكحل نوع من الأحجار تنظـره
فصار يحمل بين الجفن والحـدق لما تغرب حاز الفضل أجمعــه
***
أيهما ألذ؟

من وصل غانية وطيب عنــاق سهـري لتنقيـح العلوم الذ لي
أحلى مـن الدّّوْكـاء والعشــاق وصرير اقلامي على صفحاتها
نقري لألقي الـرمل عـن أوراقي وألذ من نقر الفتـاة لدفهــا
في الدرس أشهى من مدامة ساق وتمايلي طربـا لحل عويصـة
نومـا وتبغي بعـد ذاك لحــاقي وأبيت سهـران الدجى وتبيته
***
دليل على القضاء وحكمه

عودا فأثـمر في يديه فصــدق فإذا سمعت بأن مجدودا حــوى
ماء ليشـربه فغـاض فحـقـق وإذا سمعت بأن محـرومـا أتى
بنجوم أقطــار السـمـاء تَعلُّقي لو كان بالحـيل الـغنى لوجدتني
ضدان مفترقــان أي تفــرق لكن من رُزق الحجـا حُرم الغنى
ذو همة يُبلـى بـرزق ضيــق وأحق خلـق الله بِالْهمِّ امــرؤ
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق ومن الدليل على القضاء وحكمه
أجرا ولا حمــدا لغير موفــق إن الـذي رزق الـيسار فلم ينل
والجــد يفـتح كل باب مغلـق والجد يدني كل أمر شــاسـع
***
حفظ الأسرار

ولا عليه غـيـره فهو أحمــق إذا المرء أفشى سره بلسانـه
فصدْرُ الذي يستودع السر أضيق إذا ضاق المرء عن سر نفسه
***
ماذا بقي من أخلاق الناس؟

شوك إذا لمسوا، زهر إذا رمقوا لم يبق في الناس إلا المكر والملق
فكن جحيما لعل الشوك يحتـرق فإن دعتك ضرورات لعشرتهــم
***
مشاعر الغريب

وخضوع مديون وذلة موثق إن الغريب له مخافة سارق
ففؤاده كجنــاح طير خافق فإذا تذكر أهـلـه وبـلاده
***
التوكل على الله

وأيقنـت أن الله لا شك رازقي توكلت في رزقي على الله خـالقي
ولو كان في قاع البحار العوامق وما يك من رزقي فليـس يفوتني
ولو، لم يكن من اللسـان بناطق سيأتي بـه الله العظـيم بفضلـه
وقد قسم الرحـمن رزق الخلائق ففي اي شيء تذهب النفس حسرة
***
هل يرتبط الرزق بالعقل

لما ظفرت من الدنيا بمرزوق لو كنت بالعقل تعطى ما تريد إذن
فلست أول مجنـون ومرزوق رزقت مالا على جهل فعشت بـه
***
العلم رفيق نافع

قلبي وعاء لـه لا بطــن صـنـدوق علمي معي حـيثمــا يممت ينفعني
أو كنت في السوق كان العلم في السوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
***
الصديق الجاهل

ومن البر ما يكون عقوقا رام نفعا فضر من غير قصد

***
قافية الكاف

القناعة رأس الغنى

فصرت بأذيالها ممتســك رأيت القناعة رأس الغنى
ولا ذا يراني به منهمــك فلا ذا يراني على بابـه
أمر على الناس شبه الملك فصرت غنيا بلا درهـم
***
تول أمورك بنفسك

فتـول أنت جميع أمرك ما حك جلدك مثل ظفرك
فاقصد لمعترف بفضلك وإذا قصدت لحـاجــة
***
فتنة عظيمة

وأكبر منه جـاهل متنسك فســاد كبيـر عالم متهتك
لمن بهما في دينه يتمسك هما فتنة في العالمين عظيمة

***
قافية اللام

المثل الأعلى

ليس الفقيه بنطقه ومقالـه إن الفقيـه هو الفقيـه بفعلـه
ليس الرئيس بقومه ورجاله وكذا الرئيس هو الرئيس بخلقه
ليس الغني بملكه وبمالــه وكذا الغني هو الغني بحالــه
***
صن النفس عما يشينها

تعش سالما والقول فيك جميـل صن النفس واحملها على ما يزينهـا
نبا بك دهـرا أو جفـاك خليـل ولا تـوليـن النـاس إلا تجـمــلا
عسى نكبات الدهـر عنك تزول وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد
إذا الريح مالت، مال حيث تميل ولا خير في ود امــرئ متـلـون
ولكـنهم في النائبـات قليــل وما أكثر الاخوان حيـن تعـدهــم
***
تواضع العلماء

آراني نقص عقلي كلما أدبني الدهــر
زادني علما بجهلي وإذا ما ازددت علما
***
دعوة إلى التعلم

ولي أخو علم كمن هو جاهـل تعلم فلي المرء يولد عالـمــا
صغير إذا التفت عليه الجحافل وإن كبير القوم لا علم عـنـده
كبير إذا ردت إليه المحـافـل وإن صغير القوم إن كان عالما
***
إدراك الحكمة ونيل العلم

يكدح في مصلحة الأهـل لا يدرك الحكمة من عمره
خال من الأفكار والشغـل ولا ينــال العلم إلا فتى
سارت به الركبان بالفضل لو أن لقمان الحكيم الذي
فرق بين التبن والبقــل بُلي بفقر وعـيـال لمـا
***
أبواب الملوك

فلا يكن لك في ابوابهم ظــل إن الملوك بـلاء حيثما حـلـوا
جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا ماذا تؤمل من قوم إذا غضبـوا
إن الوقوف على أبوابهــم ذل فاستعن بالله عن ابوابهم كرمـا
***
حب أبي بكر وعلي رضي الله عنهما

روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل إذا نحن فضلنـا عليـا فإننــا
رميت بنصب عند ذكري للفضــل وفضل أبي بكر إذا ما ذكرتــه
بحبيهما حتى أوسـد في الرمــل فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما
***
آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم

فرض من الله في القرآن أنزله يا آل بيت رسول الله حبكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له يكفيكم من عظيم الفخر أنكم
***
احداث البدع

في الدين بالرأي لم يبعث بها الرسل لم يفتأ الناس حتى أحدثوا بدعا
وفي الذي حملوا من حقـه شغــل حتى استخف بحق الله أكثرهـم
***
علو الذكر

حتى يزين بالذي لم يفعــل المرء يحظى ثم يعلو ذكــره
يشقى ويُنْحلُ كل ما لم يعمل وترى الشقي إذا تكامل عيبه
***
المعاملة بالمثل

إذا شئت لا قيت امرأ لا أُشاكله وأنزلني طول النوى دار غربة
ولو كان ذا عقل لكنت أعاقلـه أحامقه حتـى يقـال سجيــه
***
حاسد النعمة

مداراته عزت وعز منالهـا وداريت كل الناس لكن حاسدي
إذا كان لا يرضيه إلا زوالها وكيف يداري المرء حاسد نعمة
***
الفضل للذي يتفضل

وما الفضل إلا للذي يتفضل على كل حال أنت بالفضل آخذ
***
ذل الحياة وهول الممات

كلا وجدناه طعـما وبيــلا ذل الحياة وهول الممات
فمشيا إلى الموت مشيا جميلا فإن كان لا بد إحداهمـا

***
قافية الميم

فضل العلم

ولو ولدته آبــاء لئــام رأيت العلـم صاحبه كريــم
يُعَظِّمَ أمره القوم الكــرام وليس يــزال يرفعه إلى أن
كراعي الضأن تتبعه السوام ويتبعـونـه في كل حــال
ولا عرف الحلال ولا الحرام فلولا العلم ما سعدت رجـال
***
المهلكات الثلاث

وداعية الصحيح إلى السقام ثلاث هن مهلكة الأنـام
وإدخال الطعام على الطعـام دوام مُدامة ودوام وطء
***
العلم بين المنح والمنع

وأنظم منثورا لراعية الغنـم أأنثر درا بين سارحة البهــم
فلست مُضيعا فيهم غرر الكلم لعمري لئن ضُيعت في شر بلدة
وصادفت أهلا للعلوم والحكـم لئن سهل الله العزيز بلطفــه
وإلا فمكنون لدي ومُكْتتـــم بثثت مفيدا واستفدت ودادهـم
ومن منع المستوجبين فقد ظلم ومن منح الجهال علما أضاعـه
***
عفُّوا تعفّ نساؤكم

وتجنبوا ما لا يليق بمسلـم عفوا تعف نساؤكم في المحرم
كان الزنا من أهل بيتك فاعلم إن الزنا دين فإن أقرضتــه
***
الجود بالموجود

على الجوع كشحا والحشا يتألم أجود بموجود ولو بت طاويــا
ليخفاهم حـالي وإني لمعــدم وأظهر أسباب الغنى بين رفقتي
حقيقا فإن الله بالحال أعـلــم وبيني وبين الله أشكـو فـاقتي
***
كما تدين تدان

سبل المودة عشت غير مكرم يا هاتكا حرم الرجال وقاطعا
ما كنت هتاكا لحرمة مسلـم لو كنت حرا من سلالة ماجد
إن كنت يا هذا لبيبـا فافهـم من يَزْنِ يُزْنَ به ولو بجداره
***
أنا عند رأيي

ولقد كفاك معلمي تعليمي ولقد بلوتك وابتليت خليقتي
***
مناجــاة

بمخفي سر لا أحيط به علمــا بموقف ذلي دون عـزتك العظمـى
بمد يدي استمطر الجود والرحمى بـإطراق رأسي باعـترافي بذلتـي
لعزتها يستغرق النثر والنظمــا بأسمائك الحسنى التي بعض وصفها
بمن كان مكنونا فعُرف بالأسمـا بعهد قديـم من ألسـت بـربكــم؟
محبا شرابا لا يضام ولا يظمــا أذقنا شراب الأنس يا من إذا سقـى
***
الرغبة في عفو الله

و‘ن كنتُ يا ذا المن والجود مجرما إليك إلـه الخلـق أرفــع رغبتي
جعلت الرجـا مني لعفوك سلمــا ولما قسـا قلبي وضـاقت مذاهبي
بعفوك ربي كان عـفوك أعظمــا تعاظمنـي ذنبـي فلمـا قرنتــه
تـجـود وتعـفو منة وتكرمـــا فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل
فكيف وقد أغوى صفيك آدمـــا فلولاك لـم يصمـد لإبلـيس عابد
أهنـــا؟ وأمـا للسعير فأندمــا فياليت شعــري هل أصير لجنة
تفيض لفرط الوجد أجفانه دمـــا فلله در العـــارف الـنـدب إنه
على نفسه من شدة الخوف مأتمـا يقيـم إذا مـا الليل مد ظلامــه
وفيما سواه في الورى كان أعجمـا فصيحا إذا ما كـان في ذكـر ربه
وما كان فيها بالجهـالة أجرمـــا ويذكر أيامـا مضـت من شبابـه
أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلمـا فصار قرين الهم طول نهـــاره
كفى بك للراجـيـن سؤلا ومغنمـا يقول: حبيبي أنـت سؤلي وبغيتي
ولا زلت منـانـا عليّ ومنعـمــا ألـست الذي غذيتني وهــديتني
ويستر أوزاري ومـا قـد تقدمــا عسى من لـه الإحسان يغفر زلتي
ولولا الرضـا ما كنت يارب منعمـا تعاظمني ذنبـي فأقبلت خاشعــا
ظلوم غشــوم لا يـزايـل مأتمـا فإن تعف عني تعف عـن متمرد
ولو أدخلوا نفسي بجــرم جهنمـا فإن تنتـقـم مني فلست بآيـس
وعفوك يأتي العبد أعلى وأجسمــا فجرمي عظيم من قديم وحــادث
ونور من الرحمن يفترش السمــا حوالي َّ فضل الله من كل جانـب
إذا قارب البـشرى وجاز إلى الحمى وفي القلب إشراق المحب بوصله
يطالعني في ظلـمـة القبرأنجمــا حوالي إينــاس من الله وحـده
وأحفظ عـهد الـحب أن يتثلمــا أصون ودادي أن يدنسـه الهوى
تلاحـق خـطوى نـشوة وترنمـا ففي يقظتي شوق وفي غفوتي منى
ومن يرجه هـيهات أن يتندمـــا ومن يعتصم بالله يسلم من الورى
***
من فضل العلم

أن يجعل الناس كلهم خدمــه العلم من فضله لمن خدمه
يصون في الناس عرضه ودمه فواجب صونه عليه كمـا
بجهله غـير أهـلـه ظلمــه فمن حوى العلم ثم أودعه
***
استعارة الكتب

قل للذي لم تر عينا من رآه مثله
ومن كان من رآه قد رأى من قبله
لأن ما يجنـه فاق الكـمال كلـه
العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهلـه
لعله  يبـذله لأهـلـه لعـلــه

الحارس الليلي - تشيكوف

- مَن هناك؟

لم يأته رد. ولم يكن بمقدور الحارس ان يرى شيئا. رغم زئير الريح المتواصل وارتطامها بالشجر، كان يسمع وقع اقدام تتقدمه على امتداد الطريق. ليلة من ليالي آذار (مارس). السماء ملبدة بالغيوم، والضباب الكثيف يغلف كل شيء، وخيل للحارس بأن الأرض والسماء وهو نفسه مع أفكاره قد توحدوا جميعا في هيئة واحدة هائلة منيعة تتسربل بالسواد. كان يتلمس طريقه في تلك العتمة الكثيفة.

عاد الحارس يصيح مناديا:

- من هناك؟

وبدأ يتخيل بانه يسمع همسا وضحكة مكتومة.

- من هناك؟

- أنا...ايها الصديق.

جاءه صوت رجل عجوز.

- ولكن من تكون؟

- أنا....مسافر.

عندها صرخ الحارس بغضب، وهو يحاول أن يخفي رعبه بالصراخ.

- أي نوع من المسافرين أنت؟ ماذا تفعل بحق الشيطان في مثل هذه الساعة داخل المقبرة؟

- ماذا ؟! أتقول أنها مقبرة ؟!

- وماذا تكون؟ بالطبع أنها مقبرة. الا ترى ذلك؟

جاءه صوت الرجل العجوز متنهدا:

- يارب السموات! لكني لا أرى شيئا. لا استطيع حتى أن أرى يدي أمام وجهي.

- ولكن من تكون؟

- أنا حاج...يا صديقي

عندها انطلق الحارس يغمغم لنفسه بتذمر:

- الشياطين وطيور الليل...نوع جيد من الحجاج...وكذلك السكارى. يسكرون طوال النهار ويخرجون في الليل ليجوبوا الطرقات

ثم أضاف بعد لحظة صمت.

- يخيل لي اني سمعت أكثر من صوت، كأنكم إثنان أو ثلاثة.

- إنني لوحدي يا صديقي، لوحدي. آآآآآآ....كم نرتكب من ذنوب.....

وتعثر الحارس بالرجل فتوقف.

- كيف جئت إلى هذا المكان؟

- فقدت طريقي ايها الرجل الطيب. فأنا متجه إلى (متريفسكي ميل) ولكن يبدو أنني قد ضعت.

- نعم، هذا صحيح، فالطريق إلى (متريفسكي ميل) ليست من هنا. كان عليك أن تتجه إلى اليسار. تخرج من المدينة مباشرة لتسلك الطريق الخارجي. واضح انك توقفت في المدينة لتشرب بضعة كؤوس، ولهذا انت الآن تائه.

- نعم يا صديقي فعلت ذلك. لن أخفي ذنوبي، ولكن ماذا افعل الآن؟

- تستمر حتى نهاية الطريق، ثم تنعطف معه إلى اليمين وتسير حتى تصل البوابة وهي نهاية المقبرة، تفتحها وتخرج مصحوبا بالسلامة. وحاذر أن تسقط في الغدير. بعد المقبرة تسير بمحاذاة الحقول حتى تصل الطريق الرئيسي.

- أعطاك الرب الصحة والعافية يا صديقي، وحمتك السموات. كن رحيما معي أيها الرجل الطيب وسر معي حتى البوابة.

- لا ليس عندي الوقت لذلك، عليك أن تذهب لحالك.

- كن رحيما، وسوف أصلي من أجلك. فأنا لاأستطيع أن أرى شيئا. المرء لايستطيع أن يرى كفيه أمام وجهه بسبب الظلمة. دلني على الطريق يا سيدي.

- كما لو أنني لدي الوقت الكافي كي أكون دليلا لك. هذا غير ممكن يا سيد.

- بحق السيد المسيح، أتوسل إليك أن تدلني على الطريق، فأنا لا أرى شيئا. ثم إنني أخاف أن أسير وحيدا في المقبرة. إنه أمر مرعب ومخيف.

يتنهد الحارس أخيرا ويقول:

- يبدو أن لا خلاص منك. حسنا، هيا بنا.

وسارا سوية، الحارس والمسافر، متلاصقين وصامتين. وكانت الريح المشبعة بالرطوبة تضرب وجهيهما مباشرة، بينما خشخشة الأشجار الخفية تنثر قطرات الماء عليهما، وكانت الطريق مغطاة بالوحل تماما.

قال الحارس بعد فترة صمت دامت طويلا:

- نسيت أن أسالك. كيف دخلت المقبرة والبوابة مقفلة؟ هل تسلقت السور؟ إذا كنت حقا قد فعلت ذلك، فهذا آخر شيء اتوقعه من رجل كبير السن.

- لا أدري يا صديقي، لا أدري. انا نفسي لا اعرف كيف حصل هذا. إنه عقاب من الله...إذن أنت حارس هنا يا صديقي؟

- نعم.

- الوحيد على كل المقبرة؟

ضربتهما في تلك اللحظة لفحة ريح هوجاء فتوقفا في مكانهما، وانتظرا حتى تجاوزتهما. عادا ليواصلا سيرهما. أجاب الحارس:

- نحن ثلاثة. أحد الإثنين الباقيين مريض بالحمى، والآخر نائم، ويستلم واجبه من بعدي.

- آآآآ...فقط اردت أن أتأكد ياصديقي. يا لها من ريح. تعوي كأنها وحش. آوووووووه...

- ومن أين أنت قادم؟

- من مكان بعيد يا صديقي. أنا من فولوغدا. أتنقل من مكان مقدس إلى آخر وأصلي للناس. فليحفظني الله ويشملني برحمته.

توقف الحارس كي يشعل غليونه. إنحنى خلف ظهر المسافر واشعل بضعة عيدان كبريت. وهج العود الأول أضاء لوهلة على الجانب الأيمن من الطريق شاهدة قبر بيضاء بملاك وصليب أسود. العود الثاني توهج وانطفأ بسبب الريح. ظهر كأنه برق مندفع إلى اليسار فكشف عن جانب لشيء أشبه بسقيفة. عود الكبريت الثالث اضاء جانبي الطريق كاشفا عن شاهدة القبر، الصليب الأسود، وسقيفة لضريح طفل. غمغم الغريب وهو يتنهد بصوت مرتفع:

- النائمون الغائبون، النائمون الأعزة. كلهم سواء في نومهم، الأغنياء والفقراء، العاقلون والحمقى، الطيبون والأشرار. لا فرق بينهم على الإطلاق، وسيبقون نائمين جميعا حتى النفير الأخير. لتكن جنة الخلد مأواهم يسكنونها آمنين.

أجابه الحارس معلقا:

- الآن نحن نتحرك ونتحدث عنهم، ولكن سيأتي اليوم الذي نرقد فيه إلى جانبهم.

- دون شك سنموت جميعا. ليس هنالك من لا يموت. آآآآ...وافعالنا، وأفكارنا..شريرة، ماكرة ومخادعة...

- نعم ، لكنك ستموت يوما.

- دون شك يا صديقي.

يواصل الحارس تعليقه قائلا:

- الموت على حاج أسهل منه على أشخاص مثلنا.

- الحجاج أنواع، هنالك الحقيقيون الذين يخافون الله ويحرصون على عدم معصيته، وهنالك التائهون الضائعون في المقابر يوسوس لهم الشيطان بشتى المعاصي. يستطيع أحدهم الآن أن يفتح رأسك بفأس ويضع حدا لحياتك.

- لماذا تتحدث معي بهذا الشكل؟

- اوه..لا شيء، مجرد خيالات. أعتقد أننا وصلنا البوابة، هيا افتحها أيها الرجل الطيب.

تحسس الحارس طريقه نحو البوابة و..فتحها، ثم أمسك بالحاج من كم ردائه وقاده إلى الخارج قائلا:

- هذه هي نهاية المقبرة، والآن عليك أن تسير عبر الحقول المفتوحة حتى تصل الطريق الرئيسي. فقط حاذر من السقوط في الغدير القريب من هنا.

يتنهد الحاج بعد لحظة صمت ويقول:

- لا أظن أني سأذهب إلى (متريفسكي ميل). لا أرى سببا لذلك. سأبقى معك بعض الوقت يا سيدي.

- ولأي سبب تبقى معي؟

- أوه..أعتقد أن البقاء معك أفضل.

- إذن، فقد وجدتَ رفقة حسنة. أرى أنك مولع بالمزاح أيها الحاج.

قال الحاج وهو يكتم ضحكة غليظة:

- إذا أردت الحق، نعم، أنا كذلك. آآآآ...أيها الرجل الطيب، أراهن أنك ستظل تتذكرني لسنوات طويلة.

- ولماذا... سأظل أتذكرك؟

_ لقد أتيتك من حيث لا تدري....فهل أنا حاج؟ لا..أنا لست حاجا على الإطلاق.

- فماذا تكون إذن؟

- مجرد رجل ميت. لقد نهضت من تابوتي للتو. أتذكر صانع الأقفال غوبارييف الذي شنق نفسه في أسبوع الكرنفال؟ حسنا، أنا غورباييف.

- قل شيئا آخر.

لم يصدقه الحارس، لكن قشعريرة باردة سرت في جسده، واستولى عليه رعب ضاغط، فاندفع متعجلا يتحسس البوابة. لكن الغريب أمسك به من ذراعه وصاح به:

- هَه..هَه..هَه، أين أنت ذاهب؟ هل من اللياقة أن تتركني لوحدي.

عندها صرخ الحارس وهو يحاول ان يتحرر من قبضة الغريب:

- أتركني، أتركني...

- توقفْ. قلت لك توقفْ..، فلا تقاوم ايها الكلب القذر. إذا أردتَ أن تبقى بين الأحياء، فتوقفْ وامسك لسانك حتى أقول لك. لو كنتُ اريد قتلك، لكنتَ الآن ميتا منذ زمن. هيا..توقفْ أيها الخسيس...

ومن شدة رعبه، أغلق الحارس عينيه، متكئا على السور. وكانت ساقاه تهتزان بشدة تحته. كان يريد أن يصرخ مستنجدا، لكنه كان يعرف بأن صوته لن يصل أحدا من الأحياء. وكان الغريب واقفا إلى جانبه ممسكا بذراعه.

مرت ثلاث دقائق دون أن يتكلما. أخيرا خرق الغريب الصمت محدثا نفسه:

- أحدهم مصاب بالحمى، والآخر نائم، والثالث يرى حُجاجا على الطريق. هل تعرف بأن اللصوص أكثر شطارة منكم. توقفْ.. لاتتحرك..

ومرت عشر دقائق وهما في صمت تام. فجأة جلبت الريح صوت صفير. عندها قال الغريب تاركا ذراع الحارس:

- الآن يمكنك ان تذهب. هيا اذهب واشكر ربك لأنك ما تزال حيا.

أطلق الغريب صفيرا أيضا، وركض عبر البوابة، وسمعه الحارس وهو يقفز فوق الغدير.

كان ما يزال يرتعد من رعبه، عندما فتح البوابة وانطلق يركض وهو مغمض العينين، وفي داخله يراوده إحساس ينذر بالشر.

وعند انعطافته إلى الطريق الرئيسي، سمع وقع خطوات مسرعة، وصوتا يسأل:

- أهذا أنت يا تيموفي؟ أين ميتكا؟

وظل يركض حتى نهاية الطريق الرئيسي، عندها لاح له ضوء خافت في العتمة. وكان خوفه وإحساسه بوقوع الشر يتعاظم ويكبر وهو يدنو من الضوء. قال محدثا نفسه:

- يبدو أن الضوء قادم من الكنيسة. ولكن كيف حصل هذا؟ فليحمني الرب ويشملني برحمته.

وقف الحارس لبرهة أمام النافذة المحطمة، ينظر برعب إلى المذبح. كانت هنالك شمعة صغيرة، يبدو ان اللصوص نسوا أن يطفئوها، كان ضوءها يهتز مع الريح، فينشر بقعا داكنة حمراء فوق الأردية المتناثرة على الارض، والخزانة المقلوبة وآثار الأقدام المنتشرة عند المذبح.

مر بعض الوقت والحارس متسمر في موضعه، والريح تعوي.. ويختلط عواؤها بخشخشة وصليل الأجراس...

الألم - تشيكوف

عُرف غريغوري بتروف ولسنوات طويلة ببراعته الفائقة في حرفة الخراطة، لكنه في نفس الوقت كان الأكثر حمقا وسذاجة في إقليم (غالتشينيسكوي)، فلكي ينقل زوجته المريضة إلى المستشفى، كان عليه أن يقود الزلاجة لمسافة عشرين ميل في جو شتائي عاصف، عبر طريق شديدة الوعورة. ولم تكن تلك بالمهمة اليسيرة حتى بالنسبة لسائق البريد الحكومي. كانت الرياح القارصة تضرب في وجهه مباشرة، وسحب الثلج تلتف في دوامات حوله في كل اتجاه، حتى أن المرء لا يدري إن كان هذا الثلج يتساقط من السماء أم يتصاعد من الأرض، بينما الرؤية معدومة تماما لكثافة الضباب الثلجي، فلم يكن يرى شيئا من الحقول والغابات وأعمدة التلغراف. وعندما كانت تضربه ريح قوية مفاجئة، كان يصاب بالعمى التام، فلا يعود يبصر حتى لجام الحصان، ذلك الحيوان البائس الذي كان يزحف ببطء وهو يجر قدميه في الثلج بوهن شديد. وكان الخراط قلقا متوترا ومتعجلا لا يكاد يستقر في مقعده وهو يسوط ظهر الحصان.

كان غريغوري يغمغم طول الوقت متحدثا إلى زوجته.

- لا تبكي يا ماتريونا. قليل من الصبر يا عزيزتي. سنصل المستشفى وعندها كل شيء سوف يكون على ما يرام... سيعطيك بافل ايفانيتش بضع قطرات، أو سأطلب منه أن يعمل لك الحجامة، أو ربما يتكرم ويرضى أن يدلك جسدك بالكحول. سيبذل كل ما في وسعه دون شك. نعم سيصرخ وينفعل لكنه في النهاية يبذل جهده. إنه رجل مهذب ولطيف. فليعطه الله الصحة. حالما نصل هناك ويرانا سيندفع من غرفته كالسهم ويبدأ بإطلاق السباب والشتائم. وسوف يصرخ: كيف؟ لماذا هكذا؟ لماذا لم تأتوا في الوقت المناسب؟ أنا لست كلبا كي أبقى عالقا هنا في انتظار حضراتكم طوال اليوم. لماذا لم تأتوا في الصباح؟ هيا اخرجوا، لا لن أستقبلكم. تعالوا غدا. فأرد عليه قائلا: يا حضرة الطبيب المبجل بافل إيفانيتش، نعم يمكنك أن تسب وتلعن وتشتم...، وليأخذك الطاعون...أيها الشيطان....

ساط الخراط ظهر الحصان، ومن دون أن ينظر إلى المرأة العجوز الراقدة في العربة خلفه واصل حديثه مع نفسه:

- يا حضرة الطبيب المبجل، أقسم بالله، ولن أقول إلا الصدق، وها هو الصليب أرسمه على صدري أمامك بأنني انطلقت قبل طلوع الفجر، ولكن كيف يمكنني أن أكون عندك في الوقت المناسب وقد أرسل الرب هذه العاصفة الثلجية؟ تلطف وانظر بنفسك..إن أفضل الجياد لن تتمكن من السير في هكذا جو، وحصاني هذا الكائن البائس التعيس كما ترى بنفسك ليس حصانا على الإطلاق. عندها سيقطب بافل ايفانيتش حاجبيه ويصرخ: نحن نعرفكم، أنتم دائما بارعون في اختلاق الأعذار، وعلى الأخص أنت يا غريشكا. فأنا أعرفك حق المعرفة، وأقسم بأنك توقفت في نصف دزينة من الحانات قبل أن تأتي عندي. لكني سأقول له: أيها المحترم، هل أنا كافر أم مجرم حتى أتنقل بين الحانات بينما زوجتي المسكينة تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ لعنة الله على الحانات وأصحابها وليأخذهم الطاعون جميعا. سيأمر بافل ايفانيتش عندها بنقلك إلى داخل المستشفى، فاركع عند قدميه. بافل ايفانيتش، أيها المحترم، نشكرك من صميم قلوبنا، وأرجو أن تسامحنا على حماقاتنا وسلوكنا الأرعن، وألا تكون قاسيا معنا نحن الفلاحون. نعم نحن نستحق منك لا الشتيمة فحسب بل حتى الرفس، وقد كنا سببا في خروجك وتلويث قدميك في الثلج. سينظر بافل ايفانيتش نحوي كأنه يريد أن يضربني وسيقول: ألا يجدر بك أيها الأحمق أن تشفق على هذه المسكينة وترعاها بدلا من أن تسكر وتأتي لتركع عند قدمي؟ والله أنت تستحق الجلد. نعم، نعم..أنت على حق في ذلك. أنا أستحق الجلد يا بافل ايفانيتش، فلتصب السماء لعناتها على رأسي، ثم ما الضير لو ركعت عند قدميك، فأنت أبونا وولي نعمتنا، ويحق لك يا سيدي أن تبصق في وجهي لو بدر مني ما يضايقك، وأقسم بالله على ذلك. سافعل كل ما تريده وتأمرني به..إذا استرجعت زوجتي العزيزة ماتريونا صحتها. وإذا أردتَ أصنع لك علبة سجاير فاخرة من أفضل أنواع الخشب، كراتا للعبة الكروكيت، أو أروع قناني خشبية للعبة البولنج..ولن آخذ منك قرشا واحدا. في موسكو تكلف علبة السجاير أربع روبلات، لكني سأصنعها لك دون مقابل. عندها سيضحك الطبيب ويقول: حسنا، حسنا...يبدو أنك سكران حتى الثمالة. كما ترين يا عزيزتي فأنا أعرف كيف أتعامل مع أبناء الطبقة العليا. ليس هنالك من سيد يستعصي علي. فقط أدعو من الله ألا أفقد الطريق. أنظري كم عنيفة هي الريح. لا أكاد أفتح عيني من شدة اندفاع الثلج.

ولم يتوقف الخراط عن حديثه المتواصل مع نفسه، في محاولة منه على ما يبدو للتخفيف من ضغط المشاعر الحادة عليه. كانت الكلمات كثيرة على لسانه، وكذلك الأفكار والأسئلة في رأسه. جاءه الحزن مفاجئا، دون توقع أو انتظار، وعليه الآن أن يتخلص منه. لقد عاش حياته في سكينة وسلام دون أن يعرف للحزن أو للبهجة معنى، وفجأة، دون سابق إنذار، جاءه الألم ليعشش بين تلافيف قلبه، فوجد السكير المتسكع نفسه في موقع المسئول، مثقلا بالهموم، ويصارع الطبيعة.

وراح غريغوري يتذكر كيف ابتدأت المشكلة ليلة أمس عندما عاد إلى البيت سكرانا بعض الشيء، وكالعادة انطلق يشتم ويهدد بقبضتيه، فنظرت إليه زوجته كما لم تنظر إليه من قبل. عادة ما تشف نظرات عينيها عن الذل والاستكانة الشبيهة بنظرات كلب أشبع ضربا. لكنها هذه المرة نظرت إليه بتجهم وثبات، كما ينظر القديسون في الصور المقدسة أو كما ينظر الموتى. من نظرة الشر الغريبة تلك بدأت المشكلة. وفي حالة من الذهول والاستغراب استعار حصانا من أحد الجيران كي ينقل زوجته العجوز إلى المستشفى لعله باستخدام المساحيق والمراهم، يستطيع بافل ايفانيتش أن يعيد التعبير الطبيعي لنظرة عينيها.

ويستمر الخراط في حديثه مع نفسه فيقول:

- حسنا، اسمعيني يا ماتريونا، لو سألك بافل ايفانيتش فيما إذا كنت قد ضربتك، يجب أن تنفي ذلك وسوف لن أضربك بعد اليوم، أقسم على ذلك. وهل ضربتك يوما لأني أكرهك؟ لا، إطلاقا. إنما دوما أضربك وأنا فاقد لوعيي. أنني حقا أشعر بالأسف من أجلك. لا أظن أن الآخرين سيبالون مثلي، فها أنت ترين، إنني أفعل المستحيل في هذا الجو الثلجي العاصف كي أصل بك إلى المستشفى. فلتتحقق مشيئتك أيها الرب، وإن شاء الله لن نخرج عن الطريق. هل يؤلمك جنبك عزيزتي؟ ألهذا أنت لا تتكلمين؟ إني أسألك، هل يؤلمك جنبك؟

لاحظ خلال نظرة خاطفة إلى العجوز بأن الثلج المتجمع على وجهها لا يذوب. والغريب أن الوجه نفسه بدا مسحوبا، شديد الشحوب، شمعيا، جهما ورصينا. صرخ قائلا:

- أنت حمقاء، حمقاء..، أقول لك ما في ضميري أمام الله، لكنك مع ذلك تصرين على....حسنا، أنت حمقاء، وأنا قد أركب رأسي..ولا آخذك إلى بافل ايفانيتش.

أرخى اللجام بين يديه وبدأ يفكر. لم يكن في مقدوره أن يستدير تماما لينظر إلى زوجته. كان خائفا. وكان يخشى أيضا أن يكرر أسئلته عليها دون أن يحصل على جواب. أخيرا، وليحسم الأمر، ومن دون أن يلتفت إليها رفع يده وتحسسها. كانت باردة، وعندما تركها سقطت كأنها قطعة خشب. ندت منه صرخة.

- إذن فهي ميتة، يا للمصيبة.

لم يكن آسفا قدر انزعاجه. وفكر كيف أن الأشياء تمر سريعة في هذا العالم. لم تكن المشكلة قد ابتدأت وإذا بها تنتهي بكارثة. لم يسنح له الوقت كي يعيش معها ويكشف لها عن أسفه قبل موتها. عاش معها أربعين عاما لكنها مرت في ضباب وعتمة مطبقة. لم يكن هنالك من مجال للأحاسيس الجميلة وسط السكر والعربدة والشجار المتواصل والفقر المدقع. ولكي تغيظه فقد ماتت في اللحظة التي بدأ يشعر فيها بالأسف عليها، وبأنه لا يستطيع العيش من دونها وأنه كان قاسيا معها وقد أساء لها كثيرا.

قال لنفسه متذكرا:

- كنت أبعثها كي تدور في القرية تستجدي الخبز. كان يمكن أن يطول العمر بها لعشر سنوات أخرى. المصيبة أنها ماتت وهي تعتقد بأني ذلك الإنسان...... يا أمنا المقدسة. ولكن بحق الشيطان أين أنا ذاهب الآن؟ ما عاد بي حاجة إلى الطبيب، ما أحتاجه الآن قبرا كي أدفنها.

استدار بالزلاجة وهو يلهب ظهر الحصان بسوطه، وقد ازداد الجو سوءا حتى انعدمت الرؤية تماما. ومن حين لآخر كانت تضرب وجهه ويديه أغصان الأشجار وتخطف من أمام عينيه أجسام سوداء.

- لو أعيش معها مرة أخرى.

وتذكر بأن ماتريونا قبل أربعين عاما كانت مليحة الوجه مرحة الروح، وهي من عائلة ميسورة الحال، وقد رضي أهلها أن يزوجوها له بعدما شاهدوا وعرفوا مدى براعته في مهنة الخراطة. كانت كل الأسباب لحياة سعيدة متوفرة لهما، لكن المشكلة أنه في ليلة عرسه شرب حتى الثمالة ومن يومها وهو سكران طول الوقت ولم يستيقظ أبدا. نعم فهو يتذكر عرسه، ولكنه لا يتذكر شيئا مما حدث بعد ذلك وطوال حياته، باستثناء أنه كان يسكر ويضطجع عند الموقد ويتشاجر. هكذا ضاعت منه أربعون سنة.

بدأت الغيوم الثلجية البيضاء تتحول تدريجيا إلى اللون الرمادي مما ينبئ عن قرب الغسق. عاد يسأل نفسه:

- إلى أين أنا ذاهب؟ مطلوب مني أن أفكر بدفن الجثة... بينما أنا الآن في طريقي إلى المستشفى..كأنني فقدت عقلي..

واستدار بزلاجته ثانية. كان الحصان يشخر وراح يتعثر في خببه، فعاد الخراط يجلده من جديد. وكان يسمع صوت ارتطام خلفه، ومن دون أن يلتفت كان يعرف بأنه صادر عن رأس العجوز وهو يضرب بحافة المقعد.

ازداد الثلج عتمة، واشتدت برودة الريح.

- لو أعيش معها مرة أخرى، سأشتري مخرطة جديدة، وأشتغل...وأجلب لها الكثير من النقود.

أفلتت يداه العنان. بحث عنه. حاول أن يلتقطه، فلم يستطع. قال لنفسه:

- لا يهم. يستطيع الحصان أن يتولى الأمر بنفسه، فهو يعرف الطريق. يمكنني أثناء ذلك أن أنام قليلا قبل أن أتهيأ للجنازة وصلاة الميت...

أغلق الخراط عينيه وغاص في إغفاءة. بعدها بفترة قصيرة شعر بأن الحصان قد توقف عن السير. فتح عينيه فرأى أمامه شيئا معتما يشبه كوخا أو كومة من القش. أراد أن ينهض ليكتشف ذلك الشيء، لكنه أحس بأنه عاجز تماما عن الحركة، ووجد نفسه دون ضجة أو مقاومة يستسلم لنوم هادئ عميق.

عندما استيقظ، وجد نفسه في غرفة فسيحة، مطلية الجدران، وضوء الشمس يتوهج عند الشبابيك. ورأى ناسا حوله، فكان شعوره الأول أن يعطي الانطباع بأنه سيد محترم ويعرف كيف يلتزم بالسلوك السليم الذي يفرضه الموقف. قال مخاطبا إياهم:

- الصلاة على روح زوجتي أيها الأخوة. لابد من إعلام القس بذلك...

قاطعه أحدهم بصوت حازم:

- حسنا، حسنا، ولكن لا تتحرك.

صرخ الخراط مندهشا وهو يرى الطبيب أمامه:

- بافل إيفانيتش! ولي نعمتنا المبجل.

أراد أن يقفز ليركع على ركبتيه أمام الطبيب، لكنه شعر بأن ساقيه وذراعيه لا تستجيب له. صاح مرعوبا:

- أين ساقيَّ ؟ وأين ذراعيَّ يا سيدي ؟

- قل لهما وداعا. كانت متجمدة تماما فاضطررنا إلى بترها. هيا...هيا...علام تبكي ؟ لقد عشت حياتك، واشكر ربك على ذلك. أنت الآن في الستين على ما أعتقد، وأظن أن هذا يكفي بالنسبة لك.

- أنا حزين، حزين جدا...وأرجو أن تسامحني يا سيدي. كم أتمنى لو أعيش خمس أو ست سنوات أخرى.

- لماذا؟

- الحصان ليس لي، ويجب أن أعيده لأصحابه..ويجب أن أدفن زوجتي...أوه يا إلهي..كم تنتهي الأشياء بسرعة مذهلة في هذا العالم. سيدي..بافل ايفانيتش، سأصنع لك علبة سجاير من أجود أنواع الخشب، وكذلك كرات للكروكيت...

غادر الطبيب الجناح وهو يلوح بيده. كان كل شيء قد انتهى بالنسبة للخراط

لمن أشكو كآبتي - تشيكوف

غسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسب طبقة رقيقة لينة على أسطح المنازل وظهور الخيل, وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي (ايونا بوتابوف) أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوسا، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس وهو جالس على المقعد بلا حراك.. ويبدو أنه لو سقط عليه كوم كامل من الثلج فربما ما وجد ضرورة لنفضه....... وفرسه أيضاً بيضاء تقف بلا حراك وتبدو بوقفتها الجامدة وعدم تناسق بدنها وقوائمها المستقيمة كالعصي حتى عن قرب أشبه بحصان الحلوى الرخيص، وهى على الأرجح مستغرقة في التفكير؛ فمن أُنتزع من المحراث من المشاهد الريفية المألوفة وأُلقي به هنا في هذه الدوامة المليئة بالأضواء الخرافية و الصخب المتواصل والناس الراكضين لا يمكن ألا أن يفكر.....
لم يتحرك ايونا وفرسه من مكانهما منذ وقت طويل. كانا قد خرجا من الدار قبل الغداء ولكنهما لم يستفتحا حتى الأن، وها هو ظلام المساء يهبط على المدينة، ويتراجع شحوب أضواء المصابيح مفسحا مكانه للالوان الحية, وتعلو ضوضاء الشارع .
ويسمع ايونا : يا حوذي! إلى فيبورجسكا ! يا حوذي!
يتنفض ايونا ويرى، من خلال رموشه المكللة بالثلج، رجلا عسكريا في معطفه بقلنسوة. ويردد العسكري : إلى فيبورجسكايا, ماذا هل أنت نائم؟ إلى فيبورجسكايا! ويشد أيونا اللجام؛ علامة الموافقة، فتتساقط إثر ذلك طبقات الثلج من على ظهر الفرس ومن على كتفيه.....ويجلس العسكري في الزحافة، ويطقطق الحوذي بشفتيه ويمد عنقه كالبجعة وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحكم العادة اكثر مما هو بدافع الحاجة وتمد الفرس ايضاً عنقها, وتعوج سيقانها وتتحرك من مكانها بتردد..... وما إن يمضي ايونا بالزحافة حتى يسمع صيحات من الحشد المظلم المتحرك جيئة وذهاباً: إلى أين تندفع أيها الأحمق! أي شيطان ألقى بك؟ الزم يمينك! .. ويقول العسكري بانزعاج: أنت لاتجيد القيادة! الزم يمينك!
ويسبه حوذي عربة حنطور، ويحدق أحد المارة بغضب وكان يعبر الطريق فاصطدمت كتفه بعنق الفرس وينفض الثلج عن كمه، ويتملل ايونا فوق المقعد وكأنه جالس على جمر ويضرب بمرفقيه في كلا الجانبين ويدور بنظراته كالممسوس وكأنما لا يفهم أين هو ولماذا هو هنا.
ويسخر العسكري : يا لهم جميعا من أوغاد! كلهم يسعون إلى الاصطدام بك أو الوقوع تحت أرجل الفرس.. إنهم متآمرون ضدك.. يتطلع ايونا إلى الراكب ويحرك شفتيه....يبدو أنه يريد أن يقول شيئا ما ولكن لا يخرج من حلقه سو الفحيح.
فيسأله العسكري: ماذا؟
يلوي ايونا فمه بابتسامة ويوتر حنجرته ويفح :
- أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع ..ابني مات .
- ممم!.. مات أذن؟
يستدير ايونا بجسده كله نحو الراكب ويقول:
- ومن يدري؟ .. يبدو أنها الحمى .. رقد في المستشفى ثلاثة أيام ومات... مشيئة الله.
ويتردد في الظلام:
- حاسب يا ملعون ! هل عَميت أيها الكلب العجوز؟ افتح عينيك!
ويقول الراكب:هيا, هيا سر، بهذه الطريقة لن نصل ولا غدا. عجّل! ويمد الحوذي عنقه من جديد، وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحركة رشيقة متثاقلة، ويلتفت إلى الراكب عدة مرات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات. وبعد أن أنزله في فيبورجسكايا توقف عند إحدى الحانات، وانحني متقوسا وهو جالس على مقعد الحوذي, وجَمُد بلا حراك مرة أخرى.. ومن جديد يصبغه الثلج الرطب؛ هو وفرسه باللون الابيض، وتمر ساعة وأخرى.
على الرصيف يسير ثلاثة شبان وهم يطرقعون بأحذيتهم في صخب ويتبادلون السباب؛ اثنان منهم طويلان نحفيان والثالث قصير أحدب .. ويصيح الأحدب بصوت مرتعش:
- يا حوذي إلى جسر الشرطة! ثلاثة ركاب....بعشرين كوبيكا.
يشد ايونا اللجام ويطقطق بشفتيه ليست العشرون كوبيكا بسعر مناسب ولكنه في شغل عن السعر.... فسواء لديه روبل ام خمسة كوبيات...المهم أن يكون هناك ركاب...يقترب الشبان من الزحافة وهم يتدافعون بألفاظ نابية ويرتمي ثلاثتهم على المقعد دفعة واحدة. وتبدأ مناقشة حادة من الاثنين اللذين سيجلسان ومن الثالث الذي سيقف؟، وبعد سباب طويل ونزق وعتاب يصلون إلى حل : الأحدب هو الذي ينبغي أن يقف باعتباره الأصغر.. فيقول الأحدب بصوته المرتعش وهو يثبت أقدامه ويتنفس في قفا ايونا: هيا عجل! اضربها بالسوط! يا لها من قبعة لديك يا أخي! لن تجد في بطرسبرج كلها أسوأ منها.....
فيقهقه ايونا : هذا هو الموجود....
- اسمع أنت أيها الموجود عَجّل، هل تسير هكذا طول الطريق؟ ألا تريد صفعة على قفاك؟
ويقول أحد الطويلين: رأسي يكاد ينفجر؛ شربت بالأمس أنا وفاسكا عند آل دوكماسوف أربع زجاجات كونياك نحن الاثنين.. ويقول الطويل الأخر بغضب: لا أدري ما الداعي للكذب ! يكذب كالحيوان .
- عليّ اللعنة إن لم تكن حقيقة...
- إنها حقيقة مثلما هي حقيقة أن القملة تعسل.
فيضحك ايونا: هىء هىء هىء .. سادة ظرفاء .
ـ فلتخطفك الشياطين! هل ستعجل ايها الوباء العجوز أم لا!
ـ هل هذا سير؟ ناولها بالسوط ! هيا ايها الشيطان! هيا! ناولها جيدا !
ويحس ايونا خلف ظهره بجسد الأحدب المتململ ورعشة صوته ويسمع السبابا الموجه إليه ويرى الناس فيبدأ الشعور بالوحدة ينزاح عن صدره شيئا فشيئا. ويظل الأحدب يسب حتى يغص بسباب منتقى فاحش وينفجر في السعال. ويشرع الطويلان في الحديث عمن تدعى ناديجدا بتروفنا.
ويتطلع ايونا نحوهم وينتهز فرصة الصمت فيتطلع نحوهم ثانية ويدمم:
- اصلاً أنا..هذا الأسبوع..ابني مات!
فيتنهد الأحدب وهو يمسح شفتيه بعد السعال :
- كلنا سنموت..هيا عجل عجل.. يا سادة أنا لا يمكن أن أمضي بهذه الطريقة متى سيوصلنا؟
- حسنا فلتشجعه قليلا... في قفاه !
ـ هل سمعت ايها الوباء العجوز؟ سأكسر لك عنقك! التلطف مع جماعتكم معناه السير على الأقدام....هل تسمع ايها الثعبان الشرير؟ أم أنك تبصق على كلماتنا؟
ويسمع ايونا أكثر مما يحس بصوت الصفعة على قفاه.
فيضحك هىءهىءهىء سادة ظرفاء..... ربنا يعطيكم الصحة
ويسأل أحد الطويلين: يا حوذي هل أنت متزوج؟
- أنا .. هىءهىء.... سادة ظرفاء ! لم يعد لدي الأن إلا زوجة واحدة : الأرض الرطبة؛ أي القبر ! ..ها هو ابني قد مات وانا أعيش..... شيءغريب؛ الموت أخطأ بوابته..... بدلا من أن يأتيني ذهب إلى ابني ....
ويتلفت أيونا لكي يروي كيف مات ابنه ولكن الأحدب يتنهد بارتياح ويعلن أنهم أخيرا، والحمد لله، وصلوا.. ويحصل ايونا على العشرين كوبيكا، ويظل طويلا في أثر العابثين وهم يختفون في ظلام المدخل وها هو وحيد ثانية ومن جديد يشمله السكون.... والوحشة التي هدأت قليلا تعود تطبق على صدره بأقوى مما كان وتدور عينا ايونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الشارع : ألن يجد في هذه الآلاف واحدا يصغي إليه ؟
.. ولكن الجموع تُسرع دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته؛ وحشة هائلة لا حدود لها.. لو أن صدر ايونا انفجر وسالت منه الوحشة فربما أغرقت الدنيا كلها، ومع ذلك لا أحد يراها.
لقد استطاعت أن تختبئ في صَدفة ضئيلة؛ فلن تُرى حتى في وَضَح النهار.......
يلمح ايونا بوابا يحمل قرطاسا فينوي أن يتحدث إليه ويساله : كم الساعة الآن يا ولدي؟
- التاسعة.. لماذا تقف هنا .. امشِ.
يتحرك عدة أمتار ثم ينحني متقوسا ويستسلم للوحشة.... ويرى أنه لا فائدة بعد من مخاطبة الناس ولكن ما إن تمر بضع دقائق حتى يتعدل وينفض رأسه كأنما أحس بوخزة ألم حادة ويشد اللجام ... لم يعد قادرا على التحمل.
ويخاطب نفسه : إلى البيت .. إلى البيت
وكأنما فهمت الفرس أفكاره فتبدأ في الركض بحماس، وبعد حوالي ساعة ونصف يكون ايونا جالسا بجوار فرن كبير قذر، وفوق الفرن وعلى الأرض وعلى الأرائك يتمدد أناس يشخرون، والجو مكتوم خانق.... يتطلع ايونا إلى النائمين، ويحك جلده ويأسف لعودته المبكرة إلى البيت ويقول لنفسه : لم أكسب حتى حق الشعير ولهذا أشعر بالوحشة، الرجل الذي يعرف عمله، الشابع هو وفرسه؛ دائما مطمئن البال..
في أحد الزوايا ينهض حوذي شاب، ويكح بصوت ناعس ويمد يديه إلى الدلو.. فيسأله ايونا:
- أتريد أن تشرب؟
- كما ترى .
- بالهناء والشفاء... أما أنا يا أخي فقد مات ابني هل سمعت؟ هذا الأسبوع في المستشفى...... حكاية!
ويتطلع ايونا ليرى أي تأثير تركته كلماته ولكنه لا يرى شيئا؛ فقط تَغطًى الحَوذي الشاب حتى رأسه وغط في النوم، ويتنهد العجوز ويحك جلده....فمثلما رغب الحوذي الشاب في الشرب يرغب هو في الحديث.. عما قريب يمر أسبوع منذ أن مات ابنه، بينما لم يتمكن حتى الآن من الحديث عن ذلك مع أحد كما يجب......... ضروري أن يتحدث بوضوح على مهل.... ينبغي أن يروى كيف مرض ابنه وكيف تعذب وماذا قال قبل وفاته وكيف مات، ينبغي أن يصف جنازته وذهابه إلى المستشفى ليتسلم ثياب الفقيد، وفي القرية بقيت ابنته أنيسيا....ينبغي أن يتحدث عنها أيضا.... وعوما فما أكثر ما يستطيع أن يروي الآن؛ ولا بد أن يتأوه السامع ويتنهد ويرثى... والأفضل أن يتحدث مع النساء، فهؤلاء وإن كن حمقاوات يوَلونْ من كلمتين.
ويقول ايونا لنفسه : فلأذهب لأتفقد الفرس.....وفيما بعد سأشبع نوماً .. يرتدي الملابس ويذهب إلى الاصطبل حيث تقف الفرس ويفكر في الشعير والدريس و الجو فعندما يكون وحده لا يستطيع أن يفكر في ابنه....يستطيع أن يتحدث عنه مع أحد، وأما أن يفكر فيه ويرسم لنفسه صورته فشيء رهيب لا يطاق.... ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقيتين
- تمضغين؟ حسنا امضغي أمضغي .. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس...نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا، كان حوذيا أصيلا لو أنه فقط عاش...... ويصمت ايونا بعض الوقت ثم يواصل :
- هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودا... رحل عنا....فجأة .. خسارة.. فلنفرض مثلا أن عندك مهرا وأنت أم لهذا المهر...... ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفا؟.
وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج ايونا فيحكي لها كل شيء.......

الساذجة - تشيكوف

الساذجه


طلبت - قبل بضعة أيام - من مربية أولادي ( جوليا فاسيليفنا ) موافاتي بغرفة المكتب.
- تفضلي بالجلوس ( جوليا فاسيليفنا ) - قلت لها - كيما نسوي مستحقاتك .
ويبدو أنك تلبسين رداء الرسمية والتعفف إذ أنك لم تطلبيها رسميا مني رغم حاجتك الماسة للمال ... حسنا ... كنا إذا قد اتفقنا على مبلغ ثلاثين روبلا في الشهر ...
- بل أربعين قالت باستحياء.
- كلا .. اتفاقنا كان على ثلاثين ، دونت ملاحظة بذلك . أدفع إلى المربيات ثلاثين روبلا عادة . لقد عملت هنا مدة شهرين لذا ..
- شهران وأيام خمسة قالت مصححة
- بل عملت لمدة شهرين بالتمام والكمال - قلت بإصرار - لقد دونت ملاحظة بذلك ، وهذا يعني أنك تستحقين ستين روبلا يخصم منها أجر تسعة أيام تعرفين تماما أنك لم تعملي شيئا لـ ( كوليا ) أيام الأحد وكنت تكتفين بالخروج به للنزهة ... هناك أيضا ثلاث إجازات و ...
ولم تعقب .. اكتفت المسكينة بالنظر إلى حاشية فستانها فيما كست محياها حمرة شديدة .. مانبست ببنت شفه
- ثلاث إجازات فلنخصم من ذلك إذا اثنى عشر روبلا ... كما وأن ( كوليا ) قد مرض فاستغرق ذلك ثلاثة أيام لم يتلق عبرها أي درس ... شغلت إبان ذلك بـ ( تانيا ) فقط ، هناك أيضا أيام ثلاثة شعرت فيها بآلام في أسنانك ممضة اعفتك زوجتي خلالها من العمل بعد الظهر ... اثنا عشر وسبع يساوي تسعة عشر ، واطرحي ذلك فيتبقى بعد ذلك ... آ ... واحد وأربعون روبلا ... أصبح ذلك
واحمرت العين اليسرى ( لجوليا فاسيليفنا ) ثم ... غرقت بالدمع ، فيما تشنج ذقنها وارتعش ... وسعلت بشدة ثم مسحت أنفها ... إلا أنها ... لم تنبس بحرف
- " قبيل ليلة رأس السنه كسرت كوب شاي وصحنه ، يخصم من ذلك روبلان رغم أن تكلفة الكوب هي في الواقع أكثر من ذلك إذ إنه كان ضمن تركة قيمة ... لا يهم ليست تلك هي أولى مامنيت به من خسائر ... بعد ذلك ونتيجة لإهمالك صعد ( كوليا ) شجرة فتمزق معطفه ، يخصم من المجموع عشرة روبلات ... كما وأن الخادمه قد سرقت - بسبب لامبالاتك حذاء ( فانيا ) ينبغي أن تفتحي عينيك جيدا ... أن تتوخي الحذر والحيطة
فنحن ندفع لك ثمن ذلك ... حسنا نطرح من كل ذلك خمسة روبلات وإني قد أعطيتك عشرة روبلات يوم العاشر من يناير
- لم يحدث ذلك ّ همست ( جوليا فاسيليفنا )
- بلى دونت ملاحظة بذلك قلت بإصرار
- حسنا وإذا أجابت بنبرات كسيرة .
- فإذا ما خصمنا سبعة وعشرين من واحد وأربعين فسيتبقى لك أربعة عشر روبلا
وغرقت بالدموع حينها كلتا عينيها فيما ظهر العرق على أنفها الصغير الجميل ... ياللبنية المسكينة
- لم أحصل على مال سوى مرة واحدة
- قالت صوت راعش متهدج النبرات - وكان ذلك من زوجتك . ماتجاوز ما استلمته ثلاث روبلات ... لا أكثر سيدي
- حقا أرأيت لم أدون ملاحظة بذلك - سأخصم من الأربعة عشر روبلا ثلاثة فيتبقى لك أحد عشر روبلا
ودفع إليها بالمبلغ فتناولته بأصابع مرتجفة ثم دسته في جيبها .
شكرا قالت هامسة .
- ولماذا هذه الـ ( شكرا ) سألتها
- للمبلغ الذي دفعته لي .
لكنك تعرفين أني قد غششتك ... أني قد سرقتك ونهبت مالك فلماذا شكرتني
- في أماكن أخرى لم يكونوا ليدفعوا لي شيئا البتة
- لم يمنحوك على الإطلاق شيئا زال العجب إذا لقد دبرت هذا المقلب كي ألقنك درسا في المحافظة على حقوقك ، سأعطيك الآن مستحقاتك كاملة ... ثمانون روبلا ... لقد وضعتها في هذا الظرف مسبقا ... لكن - تساءلت مشدوها - أيعقل ذلك أن يتسم إنسان بكل ذلك الضعف والاستسلام لماذا لم تعترضي لم كل ذلك الصمت الرهيب ... أيعقل أن يوجد في هذا العالم النابض بالظلم والأحقاد والشراسة إنسان بلا أنياب أو مخالب إنسان في سذاجتك وخضوعك
وابتسمت في ذل وانكسار فقرأت في ملامحها " ذاك ممكن " واعتذرت منها مجددا عما سببته لها من ألم وإحراج ، إذ إن الدرس كان قاسيا حقا قبل أن أسلمها الظرف الذي يحوي أجرها ... ثمانون روبلا تناولتها بين مكذبة ومصدقة ... وتلعثمت وهي تكرر الشكر ... المرة تلو المرة ثم غادرت المكان وأنا أتأملها وسيل من جراحات الإنسان المعذب في أرجاء غابة الظلم يندح في أوردتي وهمست لنفسي :
- حقا ما أسهل سحق الضعفاء في هذا العالم

كمان روتشيلد - تشيكوف

كانت البلدة الصغيرة، أسوأ من قرية، لا يكاد يعيش فيها سوى العجائز الذين كانوا يموتون بشكل نادر إلى حد مقلق ومثير للحيرة، وكانت الحاجة إلى التوابيت ضئيلة جداً فى المستشفى، وحتى فى السجن. وباختصار، فقد كانت الأمور فى غاية الإزعاج. ولو كان ياكوف إيفانوف حانوتيا فى مركز المحافظة لامتلك على الأرجح منزله الخاص، ونادوه بلقب ياكوف ماتفييتش، ولكنهم كانوا ينادونه، هنا فى البلدة الصغيرة، ببساطة: ياكوف. ولسبب ما كان لقبه فى الشارع "برونزا" برغم حياة الفقر والكفاف كفلاح بسيط فى بيت من بيوت الفلاحين الصغيرة الحقيرة، حيث يقتصر على غرفة وحيدة يعيش فيها هو ومارفا، والمدفأة وسرير يتسع لشخصين، والتوابيت، ومنضدة نجارة، وباقى أدوات المعيشة.
كان ياكوف يصنع توابيت جيدة ومتينة. فمن أجل الرجال وصغار الملاك كان يصنعها على مقاسه، ولم يخطئ فى ذلك مرة واحدة إذ لم يكن هناك إنسان أطول وأقوى منه حتى فى السجن، برغم أنه كان قد تجاوز السبعين عاماً. ومن أجل النبلاء والنساء فقد كان يصنعها بالقياس مستخدماً من أجل ذلك مقياس الأرشين (1)، بينما كان يقبل طلبيات توابيت الأطفال على مضض، ويصنعها مباشرة دون قياس وباستخفاف شديد. وفى كل مرة عندما يتقاضى فيها نقوداً عن عمله، كان يقول: أعترف.. فأنا لا أحب العمل فى هذه التفاهات.
باستثناء الحرفة، كان عزفه على الكمان أيضاً يجلب له دخلاً غير كبير. ففى حفلات الزفاف بالبلدة كان يعزف فى العادة الأوركسترا (اليهودى) (2) الذى كان يقوده السمكرى موسى إليتش شخكيس الذى يأخذ لنفسه أكثر من نصف الإيراد. وبما أن ياكوف كان يجيد العزف على الكمان، وخصوصاً بمصاحبة الأغنيات الشعبية الروسية، فقد كان شخكيس يدعوه أحياناً للعزف فى الأوركسترا مقابل خمسين كوبيكا فى اليوم بغض النظر عن هدايا الضيوف وتبرعاتهم. وعندما كان برونزاً يجلس بين العازفين فى الأوركسترا، فإن أول ما كان يظهر عليه هو احمرار وجهه وتصبب العرق منه، إذ كان الجو حاراً، ورائحة الثوم تخنق الأنفاس، والكمان يزيق والكونترباس يشخر بجوار أذنه اليمنى، وبجوار اليسرى ينشج الناى الذى يعزف عليه (اليهودى) الأصهب الهزيل، بوجهه الذى تظلله شبكة واسعة من العروق الحمراء والزرقاء، والذى كان يحمل لقب الثرى الشهير روتشيلد. وكان هذا (اليهودى) اللعين يحول حتى أكثر الألحان مرحاً إلى كآبة وأنين، وبدون أسباب واضحة كان ياكوف متشبعاً بكره واحتقار شديدين لهؤلاء (اليهود)، وخاصة لروتشيلد. وقد بدأ ذلك بالمماحكة، ثم التجريح بالشتائم البذئية، لدرجة أنه أراد ذات مرة أن يضربه. بينما تأذى روتشيلد من ذلك، وقال من بين أسنانه ناظراً في حنق:
- لو لم أكن أحترمكم لموهبتكم، لطرتم من النافذة منذ زمن بعيد.
ثم بكى. ولذا فقلما كانوا يستعينون ببرونزا فى الأوركسترا، وكان ذلك يحدث فقط فى حالات الضرورة القصوى عندما يتغيب أحد من اليهود.
كان ياكوف فى مزاج سيئ باستمرار لأنه كان يتعين عليه دائماً أن يصبر على الخسائر الفادحة. وعلى سبيل المثال، ففى أيام الآحاد وفى الأعياد كان من الإثم أن يعمل، ويوم الاثنين يوم صعب. وبهذا الشكل يكون المجموع حوالى مائتى يوم يتعين عليه فيها أن يجلس، خلافا لإرادته، عاطلاً عن العمل، بينما فى ذلك خسارة، وأية خسارة! إذا أقام أحد ما فى البلدة عرساً بدون موسيقى، وكانت خسارة أيضاً إذا لم يدعُ شخكيس ياكوف. ولقد ظل رجل البوليس المراقب بالسجن مريضاً يعطس طوال عامين كاملين. وانتظر ياكوف بفارغ الصبر متى يموت، ولكن المراقب سافر إلى المركز للعلاج، ومات هناك. وكم كانت الخسارة إذ ضاعت على الأقل عشر روبلات، لأن الأمر اقتضى أن يصنع التابوت على نحو آخر مستخدماً نوعاً خاصاً من القماش لتزيينه. وراحت الأفكار حول الخسائر والانتكاسات تضني ياكوف وتعذبه، خاصة فى الليل. ولذا فقد وضع الكمان إلى جوار الفراش، وكلما وردت على ذهنه تُرهة ما، كان يمس الأوتار فيصدر الكمان فى الظلام صوتاً يهدئ من روعه.
وفى السادس من مايو فى العام الماضى توعكت مارفا فجأة. فراحت تتنفس بصعوبة شديدة، وشربت ماء كثيراً ثم ترنحت. وعلى الرغم من كل ذلك نهضت فى الصباح وأشعلت المدفأة بنفسها، حتى ذهبت لتملأ الماء. وقرب حلول المساء ترنحت مرة أخرى، فى حين ظل ياكوف طوال النهار يعزف الكمان. وعندما حل الظلام تماماً ، تناول الدفتر الذى يسجل فيه خسائره كل يوم. ومن جراء الملل قام بعمل إجمالى سنوى لهذه الخسائر. وكانت النتيجة أكثر من ألف روبل مما زلزل كيانه لدرجة أنه ألقى بالأوراق على الأرض وأخذ يدوسها بقدميه، ثم رفعها مرة ثانية ومزقها متنفساً بعمق وتوتر، وكان وجهه محمراً ومبللاً من أثر العرق. راح يفكر فيما إذا كان قد وضع هذه الألف روبل الضائعة فى البنك، لتراكمت الأرباح السنوية على الأقل بمقدار أربعين روبلاً. مما يعنى أن الأربعين روبلاً هذه تعتبر أيضاً خسارة. وباختصار فحيثما اتجهت وأينما كنت فليس هناك سوى الخسارة ولا شىء سواها.
- ياكوف-نادته مارفا بغتة-إننى أموت!
تطلع إلى زوجته. كان وجهها وردياً من ارتفاع درجة حرارتها، وصافيا وسعيدا بشكل غير عادى. أما برونزا المعتاد دائماً على رؤية وجه زوجته ممتقعاً شاحباً وتعيساً، فقد اعتوره الآن الحزن والارتباك. كان الأمر أشبه ما يكون بأنها ماتت بالفعل، وكانت هى راضية بذلك وسعيدة لأنها أخيراً تخرج إلى الأبد من هذا البيت القروى، ومن التوابيت ومن ياكوف نفسه.. نظرت إلى السقف وتمتمت شفتاها بشىء ما، وكان التعبير المرسوم على ملامحها ينم عن سعادة عميقة وكأنها بالفعل قد رأت ملاك الموت وتهامست معه.
كان النهار قد شقشق، وبان من النافذة كيف تلألأت شمس الصباح. عندما نظر ياكوف إلى العجوز، تذكر لسبب ما أنه طوال حياته لم يلاطفها أو يشفق عليها، ولم يفكر مرة واحدة أن يشترى لها منديلاً أو يحضر لها شيئاً ما حلواً من عرس، فقط كان يصرخ فيها، ويكيل لها الشتائم بسبب الخسائر والانتكاسات، وينقض عليها مهدداً بقبضتيه. وفى الحقيقة فهو لم يضربها أبداً، وبالرغم من ذلك فقد كان يفزعها ويخيفها، وكانت هى فى كل مرة تتجمد من الرعب. وأيضاً لم يكن يسمح لها بشرب الشاى لأنه بدون ذلك ستكون المصاريف أقل. أما هى فقد كانت تشرب فقط الماء الساخن. ولقد فهم لماذا يبدو وجهها غريباً وسعيداً، الشىء الذى أصبح بالنسبة له مرعباً.
جاء الصباح بعد طول انتظار، فاستعار حصان جاره ونقل مارفا إلى المستشفى. كان المرضى هناك قليلين، وما كان عليه الانتظار إلا قليلاً، حوالى ثلاث ساعات. ولحسن حظه لم يستقبل المرضى فى هذه المرة الدكتور الذى كان هو نفسه مريضاً، وإنما التمرجي مكسيم نيكولايتش العجوز الذى كان الجميع يتحدثون عنه فى البلدة بأنه على الرغم من كونه سكيراً وصاحب مشاكل إلا أنه يفهم أكثر من الدكتور. وبعد أن أدخل ياكوف العجوز إلى حجرة الاستقبال، قال:
- السلام عليكم. سامحونى فنحن دائماً نزعجكم يا مكسيم نيكولايتش بأمورنا التافهة، اسمحو لى أن ألفت انتباهكم.. لقد أصاب المرض أهالى(3)، رفيقة حياتى كما يقال، أعذرونى على التعبير..
قطب التمرجى حاجبيه الأشيبين، ومسد فوديه، وراح يفحص العجوز وقد تقوست على مقعد بدون مسند، هزيلة ومدببة الأنف بفم مفتوح، تشبه من جانب وجهها طائراً يهم بشرب الماء.
قال التمرجى ببطء بعد أن أخذ نفساً عميقاً:
-آ.. نعم.. هكذا.. أنفلونزا، وربما حمى، فالتيفوس منتشر الآن فى البلدة.. ماذا نفعل؟ لقد عاشت العجوز طويلاً.. الحمد لله.. كم عمرها؟
- سبعون إلا سنة واحدة يا مكسيم نيكولايتش.
- ماذا نفعل؟ عاشت العجوز طويلاً.. وآن الآوان لرحيلها.
-هذا الكلام بالطبع معقول إذا سمحتم يا مكسيم نيكولايتش (قال ياكوف هذا وهو يبتسم من باب التأدب)، ونحن شاكرون وممتنون على تفضلكم.. ولكن اسمحوا لى أن أذكركم بأن الحشرة أيضاً تريد أن تعيش أطول.
- كل شيء جائز!
ثم قال التمرجي بنبرة كما لو كان موت العجوز أو حياتها متوقفين عليه:
-إذن.. هكذا، يا ولد.. سوف تضع على رأسها كمادة باردة.. وأعطها هذا المسحوق مرتين كل يوم، ثم مع السلامة.. بانجور.
لمح ياكوف من تعبيرات وجهه، أن الحالة سيئة ولن تساعدها أى مساحيق. وكان من الواضح له أن مارفا على وشك الموت، إذ لم يكن اليوم فغداً. عندئذ دفع التمرجى من مرفقه برفق، وغمز له بعينيه، ثم قال بصوت خافت:
- ماذا لو حجمناها يا مكسيم نيكولايتش.
- اطلاقاً.. إطلاقاً يا ولد. خذ عجوزك وأذهب فى أمان الله. مع السلامة.
قال ياكوف بتضرع:
-اعملوا معروفاً.. اسمحوا لى أن أعرف.. لو افترضنا أن بطنها آلمها أو أى شىء داخلى، فعندئذ نعطيها مساحيق وقطرات. ولكن من الواضح أن عندها نزلة برد وأول شىء في حالة النزلة هو طرد الدم يا مكسيم نيكولايتش.
ولكن التمرجى كان قد استدعى المريض التالى. ودخل فعلاً إلى حجرة الاستقبال أب مع ولده، فى حين قال ياكوف عابساً:
- فىهذه الحالة علقوا لها ولو حتى ألقة!(4) لتجعلوها تصلى لله إلى الأبد!
فصاح التمرجى في سورة:
-علمنى أيضاً! يا بليد.
اغتاظ ياكوف وتضرج كلياً، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة، وتأبط ذراع مارفا وأخرجها من حجرة الاستقبال. ولما جلسا فى العربة، طالع المستشفى بنظرة قاسية ساخرة قائلاً:
-أجلسوكم هنا.. ممثلين! لو كان غنياً لحجمه، ولكنه يستكثر على الفقير حتى ألقة واحدة.. معاتيه مشوهون!.
عندما وصلا إلى البيت، ظلت مارفا واقفة لعشر دقائق بعد خولها ويدها على كليتها. وبدا لها أن ياكوف لو رآها مضطجعة فسوف يبدأ حديثه عن الخسائر والانتكاسات، وسينهال عليها بالشتائم متهماً إياها بالنوم وعدم الرغبة فى العمل. وتطلع ياكوف إليها فى تذمر وملل، وتذكر أن عيد الناسك يوحنا غداً، وعيد نيكولاى صاحب المعجزات بعد غد، وبعد ذلك يوم الأحد، ثم يوم الاثنين الصعب، أربعة أيام لا يجوز العمل فيها، وربما تموت مارفا فى أى منها. إذن ينبغى أن يصنع لها اليوم تابوتاً. وأخذ أرشينه الحديدى ثم استلقت هى على الفراش بينما رسم علامة الصليب، وبدأ فى عمل التابوت.
حين أصبح التابوت جاهزاً، لبس برونزا عويناته وسجل فى دفتره:
-تابوت مارفا إيفانوفنا 2 روبل و40 كوبيك.
وتنفس الصعداء فى حين كانت العجوز مستلقية طوال الوقت وهى مغمضة العينين، وفى المساء عندما حل الظلام، نادت عليه العجوز فجأة، وسألته متفرسة فيه بسعادة:
-أتتذكر يا ياكوف؟ أتتذكر.. كيف رزقنا الله قبل خمسين عاماً بطفل أشقر الشعر؟ آنذاك كنا نجلس طوال الوقت على ضفة النهر نغنى.. تحت شجرة الصفاف.
وبعد أن ابتسمت بمرارة، أضافت:
- ماتت البنت.
أجهد ياكوف ذاكرته، ولكنه لم يتسطع أبداً تذكر الطفل ولا الصفصافة فقال:
-هذا يخيل لك.
جاء القس وأجرى مراسيم الاعتراف. بعدها راحت مارفا تتمتم بأشياء غير مفهومة. وفى الصباح ماتت. قامت الجارات العجائز بغسلها وإلباسها ووضعها فى التابوت. ولكى لا يدفع ياكوف مبلغاً إضافياً للشماس تلا هو بنفسه القداس على روحها، فيما لم يأخذوا منه شيئاً عن حفر القبر لأن حارس المقابر هو الذى كان قد عمد ابنته فى الكنيسة بعد ولادتها. وحمل النعش إلى المقبرة أربعة رجال من قبيل الاحترام والتوقير، وليس من أجل النقود، وسار خلفه النسوة العجائز، والمتسولون، واثنان من المجاذيب، بينما كان المارة يرسمون علامة الصليب بورع وتقوى.. وكان ياكوف مسروراً للغاية إذ كان كل شىء محترماً ولائقاً ورخيصاً، وليس هناك ما يمكن أن يكون فيه إهانة لأحد. وفيما كان يلقى النظرة الأخيرة على جثمان مارفا المسجى فى النعش، لمس بأصابعه حافة التابوت، وفكر فى نفسه: صنعة ماهرة!
بعدما عاد من المقبرة، انتابه حزن شديد واستحوذ عليه الملل، وشعر بتوعك: كان تنفسه حاراً وثقيلاً، وقدماه ضعيفتين، وانتابته رغبة شديدة لشرب الماء. راحت الأفكار بذاكرته من جديد أنه لم يشفق عليها مرة واحدة في حياته كلها، ولم يلاطفها. وقد عاشا فى بيت واحد اثنين وخمسين عاماً مرت بطيئة، ولكن حدث على نحو ما أنه طوال هذا الوقت لم يفكر فيها، ولم يلاحظ وجودها أو يهتم بها كما لو كانت قطة أو كلباً بينما كانت كل يوم تشعل المدفأة تطبخ وتخبز تذهب لملء المياه، تقطع الأخشاب، وترقد إلى جواره فى فراش واحد. وعندما كان يعود ثملاً من الأعراس، كانت فى كل مرة تعلق كمانه على الحائط باحترام وتبجيل، وترقد فى فراشه، وكل ذلك بصمت وعلى وجهها أمارات الهيبة والاحترام.
التقى روتشيلد بياكوف فى الطريق، فابتسم له محيياً إياه بانحناءة: وقال:
-أنا أبحث عنكم يا جدى! موسى إليتش يسلمون عليكم ويدعونكم لزيارتهم حيالاً(5).
كان ياكوف فى شغل شاغل عن ذلك، وكانت لديه رغبة شديدة فى البكاء:
-دعنى!
قال ذلك وتابع سيره، بينما انزعج روتشيلد واندفع مهرولاً إلى الأمام:
- كيف يمكن ذلك؟ موسى إليتش سيغضبون! إنهم طلبوك حيالاً!
أدى إلى امتعاض ياكوف أن هذا (اليهودى) كان يلهث ويتلعثم فى كلامه، ويطرف بعينيه، ولديه نمش أحمر كثير على نحو ما، وكان من المقرف لياكوف النظر إلى سترته الخضراء المرقعة بقطع قماش قاتمة، وإلى قامته الهشة الهزيلة بكاملها.
صرخ ياكوف:
-مالك تتدخل فى شئونى يا آكل الثوم؟ دعنى وشأنى!
غضب (اليهودى) وصرخ بدوره:
-ولكن الزموا حدودكم من فضلكم، وإلا ستطيرون من فوق السياج!
زعق ياكوف واندفع نحوه مهدداً بقبضتيه:
-أغرب عن وجهى.. ألا يمكن العيش بعيداً عن الوسخ!
مات روتشيلد فى جلده من الرعب، فقرفص مذهولاً وأخذ يطوح بيديه فوق رأسه كمن يحميه من اللطمات، ثم نهض وفر هارباً، وأثناء جريه كان يقفز ويضرب كفا بكف بينما ظهره الطويل الهزيل يرتعد بوضوح. وفرح الأولاد لما حدث واندفعوا يركضون وراءه صائحين: "يهودى! يهودى!، وجرت الكلاب أيضاً خلف الجميع وهى تنبح. انطلق أحد الماء في قهقهة عالية ثم أطلق صفارة فعلا نباح الكلاب وازداد. ويبدو بعد ذلك أن أحد الكلاب قد عض روتشيلد، فقد سُمعت صرخته المرعوبة من اليأس والفزع.
راح ياكوف يتمشى فى المراعى، ثم اقترب من أطراف البلدة وأخذ يسير على غير هدى. فيما كان الأولاد يتصايحون: "برونزا قادم"! برونزا قادم! وها هو النهر حيث طائر الشنقب يتراكض مسرعاً فوق الرمال، والبطء يزعق، والشمس تلفح الوجوه، وصفحة المياه تتلألأ بلمعان أخاذ يؤذى العين. سار ياكوف فى الطريق الضيق بمحازاة ضفة النهر، ولمح كيف خرجت سيدة ممتلئة حمراء الوجنتين من حوض الاستحمام. فراح يفكر فيها: "ياه يا لك من كلب بحر!". وبعيدا عن حوض الاستحمام كان الأولاد يصطادون السمك بلحم السرطان. ولما لمحوه راحوا يصرخون بحنق "برونزا! بروزنزا". وها هى الصفصافة العريضة القديمة ذات التجويف الضخم وفوقها أعشاش الغربان.. وفجأة نما فى ذاكرة ياكوف طفل صغير بشعر أشقر كأنه حى يرزق، بينما كانت الصفصافة التى تحدثت عنها مارفا تقف خضراء ساكنة، وحزينة.. فكم شاخت، مسكينة! جلس تحتها وراح يتذكر.. على هذه الضفة، حيث المرج الذى تغمره الآن مياه الفيضان، كانت هناك آنئذ غابة من أشجار البتولا، وعلى الجبال الجرداء كان يتراءى على خط الأفق حرش الصنوبر العتيق الذى كان يلوح وقتذاك بزرقته بينما تسير فى النهر قوارب التنزه. أما الآن فالأمر سيان وعلى الضفة الأخرى تبدو الأرض جرداء إلا من شجرة بتولا واحدة فقط، شابة وممشوقة كفتاة بكر. وفى النهر لا يوجد إلا البط والوز، وليس فى الأمر ما يشير إلى أنه فى وقت من الأوقات كانت تسير القوارب للتنزه، ويبدو أن الوز قد صار قليلاً على عكس ما كان فى الماضى. أغلق ياكوف عينيه، فراحت تركض فى مخيلته أسراب ضخمة هائلة متقابلة من الوز الأبيض.
لم يكن يدرى كيف حدث أنه خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة من حياته لم يذهب مرة واحدة إلى النهر. ولو كان قد حدث وذهب، فهو لم يلق بالاً إليه أبدا؟ إلا أن النهر مخلص وأمين، وليس شحيحاً ووضيعاً. وكان من الممكن ممارسة صيد السمك فيه، وبيعه للتجار والموظفين وصاحب البوفيه على المحطة، وبعد ذلك يمكن وضع النقود فى البنك. وكان من الممكن السباحة فى قارب من ضيعة إلى ضيعة، والعزف على الكمان ولدفع الناس، حينها، من مختلف الطبقات نقوداً من أجل ذلك. وكان من الممكن تجريب قياد قوارب التنزه، وهذا أفضل من صناعة التوابيت. وفى النهاية كان من الممكن تربية الوز واصطياده ثم بيعه شتاء فى موسكو، وعندئذ كان من الجائز تحصيل ما يقرب من عشر روبلات فى السنة من بيع الريش وحده. ولكنه غفل عن كل هذا ولم يفعل أى شىء منه فى حينه، ويالها من خسارة! ياه، يا لها من خسارة! ولو كانت كل هذه الأشياء معا: صيد السمك والعزف على الكمان وقيادة القوارب واصطياد الوز، فأى رأسمال كان من الممكن تحقيقه! ولكن لم يكن هناك أى شىء من ذلك حتى فى المنام. ومرت الحياة دون جدوى، بدون أية لذة، ضاعت هباء وهدراً، ولم يتبق أى شىء فى المستقبل، وإذا نظرت للوراء فهناك أيضاً لا يوجد شىء سوى الانتكاسات والخسائر، وتلك الفظائع التى تقشعر منها الأبدان، لماذا لا يستطيع الإنسان أن يعيش بحيث لا توجد هذه الخسائر؟ يا ترى من أجل ماذا قطعوا شجرة البتولا وحرش الصنوبر؟ ولماذ كف الكلأ عن العطاء؟ ومن أجل أى شئ يفعل الناس دائما كل ما هو غير ضرورى لهم؟ من أجل ماذا أمضى ياكوف حياته كلها يتشاجر ويتخاصم، ويزعق ويصرخ، يهدد بقبضتيه، ويسئ إلى زوجته. ويا ترى ما الداعى لكى يفزع (اليهودى) ويهينه الآن؟ لماذا يعرقل الناس، بشكل عام بعضهم البعض عن الحياة؟ فما أكثر الخسائر الفادحة! وما أكثر الانتكاسات البشعة من جراء ذلك! ولو لم يكن الحقد والضغينة لكان للناس من بعضهم البعض منافع عظيمة.
فى المساء وبالليل كان يتراءى له الطفل الصغير، والصفصافة، والسمك، والصيد، والوز، ومارفا تشبه من جانب وجهها طائراً يهم بشرب الماء، ووجه روتشيلد الممتقع المسكين، وسحنات ما أخرى تميل عليه من جميع الاتجاهات مدمدمة بخسائره. وراح يتقلب من جنب إلى جنب، ونهض من فراشه ما يقرب من الخمس مرات لكى يعزف على الكمان.
فى الصباح رفع جسده من الفراش بصعوبة بالغة، وذهب إلى المستشفى، أمر له مكسيم نيكولايتش بنفسه بوضع كمادة باردة على رأسه، وأعطاه مسحوقاً، ولكن ياكوف أدرك من ملامحه ومن نبرة صوته أن الحالة سيئة، ولن تنفع أى مساحيق. وبعد عودته إلى البيت أدرك أن هناك منفعة واحدة من الموت: فليست هناك ضرورة للأكل، ولا للشرب، ولا لتسديد الصدقات والإتاوات للكنيسة، ولا الإساءة للناس، وبما أن الإنسان سيرقد فى القبر ليس عاماً واحداً، وإنما مئات وآلاف السنين، فلو حسبنا المنفعة لبدت عظيمة. ومن حياة الإنسان لا يتأتى أى شىء سوى الخسارة، أما من موته فتأتى الفائدة، وهذه الفكرة بالطبع بديهية، ورغم ذلك فكل هذا مؤلم ومرير: فلماذا يوجد فى العالم ذلك النظام الغريب، حيث الحياة التى توهب للإنسان مرة واحدة فقط تمر هكذا دون جدوى؟
لم يكن مؤسفاً له أن يموت، ولكن ما إن وقعت عيناه فى البيت على الكمان حتى انقبض قلبه، وشعر بالأسى والأسف لكونه لن يستطيع أخذ الكمان معه إلى القبر، وسيبقى الآن يتيماً، وسوف يحدث معه نفس ما حدث مع غابة البتولا وحرش الصنوبر. كل شىء فى هذا العالم قد ضاع، وسوف يضيع على الدوام!
خرج ياكوف من البيت وجلس قرب العتبة وهو يضم الكمان إلى صدره بقوة. وبينما راح يفكر فى حياته الخاسرة التى ضاعت هدراً، عزف على الكمان دون أن يدرى هو ذاته ماذا يعزف. فخرج العزف حزيناً ومؤثراً وانهمرت الدموع على خديه، وكلما استغرق فى التفكير، غنى الكمان بشكل أكثر حزناً.
أصدر مزلاج الباب الخارجى صريراً، مرة ومرتين، وظهر روتشيلد فى الباحة الخارجية أمام البيت. قطع نصف المسافة بشجاعة، وما إن رأى ياكوف حتى توقف فجأة وانكمش تماماً. وراح من رعبه يصنع بيديه تلك الإشارات التى كما لو كان يود بها أن يبين على أصابعه كم الساعة الآن.
قال ياكوف بحنان داعياً إياه:
- تعال.. لا تخف.. تعال!
تطلع روتشيلد بارتياب. وبخوف أخذ يقترب، ثم توقف على بعد ساجين(6) منه. وقال مقرفصاً:
-انتم.. أعملوا معروف لا تضربونى! لقد أرسلونى موسى إليتش من جديد. قالوا لا تخف، اذهب ثانية إلى ياكوف وقل له إن الأمر بدونهم غير ممكن إطلاقاً. فيوم الأربعاء عُرش(7).. نعم.. نعم.. السيد شابوفالوف.. سيزوج ابنته لإنشان(8) جيد. وأضاف (اليهودى) مضيقاً عيناً واحدة:
- والعُرش سيكون رغيداً.. أو.. أوو..!
قال ياكوف متنفساً بصعوبة:
- لا أستطيع.. لقد مرضت يا أخى.
وراح يعزف من جديد والدموع تطفر من عينيه وتتساقط على الكمان. وأخذ روتشيلد ينصت باهتمام مائلا نحوه بجانبه وعاقداً ذراعيه على صدره، بينما التعبير المذعور على وجهه يتحول شيئاً فشيئاً إلى شعور حزين مشفق، وجحظت عيناه كأنما يعانى من إحساس بالإعجاب المضنى. ثم تمتم وااه ه ه! وسحت دموعه ببطء على خديه وراحت تقطر على سترته الخضراء.
ظل ياكوف طوال النهار راقداً مغموماً. وبينما كان القس يحصل منه على الاعتراف فى المساء، سأله عما إذا كان قد نسى الاعتراف بذنب ما مهم. وفيما راح ينشط ذاكرته الضعيفة، تذكر من جديد وجهه مارفا الناضح بالشقاء، والصرخة المؤلمة (لليهودى) الذى عضه الكلب، ثم قال بصوت لا يكاد يسمع:
- سلموا الكمان لروتشيلد.
فأجاب قس:
- حسناً.

* * *
الآن يتساءل الجميع فى البلدة: من أين لروتشيلد بهذا الكمان الجيد؟ اشتراه أم سرقه، أو من الممكن أن يكون قد حصل عليه كرهن؟ أما هو فقد ترك الناى منذ زمن بعيد، ويعزف حالياً على الكمان فقط. ومن تحت قوسه تنساب أيضاً تلك الأنغام الحزينة كما كانت تنساب آنذاك من الناى. ولكنه عندما يحاول إعادة ما عزفه ياكوف وقتما كان جالساً على العتبة، كان يخرج منه شىء يوحى بالحزن والأسى بحيث ينخرط السامعون فى البكاء رغماً عنهم، فيما كان هو فى نهاية اللحن يجحظ بعينيه متمتماً: واااه ه ه! وإذ أثارت هذه الأغنية الجديدة الإعجاب فى البلدة، فقد راح التجار والموظفون يدعون روتشيلد أثناء فترات الراحة ويرغمونه على عزفها عشرات المرات.



هوامش:

(1) مقياس طول روسى قديم يساوى 71سم-(المترجم).
(2) لم يكتب تشيخوف كلمة (يهودى) بالروسية، ولكنه استخدم الصفة الشائعة التى كانت تستخدم لتحقير اليهود فى روسيا القيصرية (جيد)-بكسر الجيم وتعطيشها وكسر الياء أيضا-المأخوذة من الكلمة الإنجليزية (Judas). وسوف نضعها لاحقا بين قوسين، للتمييز بينها وبين صفة يهودى بالمعنى الروسى-(المترجم).
(3) المقصود (أهلى)، ولكن ياكوف نطقها بشكل غير صحيح لغويا، واضعا علامة النبر على حرف آخر-(المترجم).
(4) المقصود (علقة)، ولكن ياكوف نطقها بشكل غير صحيح إملائيا حرف بحرف آخر، والعلقة هى نوع من الديدان كان الروس يستخدمونه للعلاج بوضعه على الجسم لامتصاص الدم كوسيلة لعملية الحجم-(المترجم).
(5) المقصود (حالا)، ولكن روتشيلد نطقها بشكل غير صحيح مبدلا علامة النبر-(المترجم).
(6) ساجين يساوى متر و13سم-(المترجم).
(7) المقصود (عُرس)، ولكنه نطقها بلكنة غير روسية-(المترجم).
(8) المقصود (إنسان)، ولكنه نطقها أيضا بلهجة غير روسية-(المترجم).

فولوديا الكبير وفولوديا الصغير - تشكوف

ـــ أريد أن أقود بنفسي، أرجوك اسمح لي، سأجلس بقرب الحوذي ـــ قالت صوفيا لفوفنا بصوت عالٍ.‏
ـــ انتظر لحظة أيها الحوذي، سأجلس بجانبك في المقعد.‏
كانت تقف في العربة، بينما كان زوجها فلاديمير نيكيتش، وصديق طفولتها فلاديمير ميخايليتش يمسكان بها من ذراعيها كي لا تقع. انطلقت الترويكا(1) مسرعة.‏
ـــ قلت لك ألا تعطيها الكونياك.‏
همس فلاديمير نيكيتش لرفيقه بانزعاج.‏
كان الكولونيل يعرف من تجربة سابقة أن حالة الابتهاج الصاخب أو بالأحرى الثمل بالنسبة لامرأة مثل زوجته صوفيا لفوفنا عادة ما يعقبها ضحك هستيري ومن ثم بكاء. وقد كان قلقاً الآن لأنه حال وصولهم إلى البيت سيتوجب عليه الانشغال بالكمادات وجرعات الدواء بدلاً من الذهاب إلى السرير.‏
ـــ هِشْ! ـــ صرخت صوفيا لفوفنا ـــ أريد أن أقود.‏
كانت فرحة ومسرورة حقاً، فطوال شهرين، ومنذ يوم زفافها بالذات، كان يعذبها التفكير بأنها تزوجت الكولونيل لمصلحة، أو كما يقال (Par depit (2. واليوم على أية حالة، أدركت أخيراً في مطعم خارج البلدة أنها تحبّه بشغف.‏
فعلى الرغم من أعوامه الأربعة والخمسين، كان متين البنية، رشيقاً، مرن الأعطاف، يحسن التلاعب بالألفاظ والمشاركة في أغاني الفتيات الغجريات.‏
حقاً، في أيامنا هذه، يعدّ الرجال الأكبر سناً أكثر جاذبية من الشباب اليافعين بألف مرّة، حتى ليخيّل للمرء أن الشيخوخة والصبا قد تبادلا الأدوار.‏
كان الكولونيل يكبر أباها بسنتين، ولكن، أكان من الممكن أن يكون لهذا معنىً، إن كان يقيناً يفوقها هي نفسها حيوية ونشاطاً وغضارة، ودون أن يكون هناك أي مجال للمقارنة بينهما، على الرغم من أنها كانت ما تزال في الثالثة والعشرين من عمرها بعد؟‏
آه يا عزيزي ـــ فكرت ـــ أنت رائع.‏
في المطعم أدركت أيضاً أنه لم يتبق في قلبها حتى مجرد ومضة من شعورها السابق، والآن كانت تشعر بلا مبالاة تامة تجاه فلاديمير ميخايليتش صديق طفولتها، أو فولوديا كما كان يدعى، والذي كانت ما تزال حتى البارحة تحبه إلى حد الجنون واليأس. فقد بدا لها طوال الأمسية فاتراً، ناعساً، مملاً وعديم الشأن. على أن لا مبالاته التي كانت تصحب تهربه المألوف من دفع فواتير المطعم، جعلتها الآن تشعر بالاشمئزاز، وبالكاد تمالكت نفسها من القول "إن كنت لا تملك نقوداً، فعليك البقاء في المنزل". دفع الكولونيل.‏
وربما لأن الأشجار وأعمدة التلغراف والثلوج المتراكمة مرّت مروراً خاطفاً أمام عينيها، كانت تخطر على بالها أفكار مختلفة: بلغت فاتورة المطعم مائة وعشرين روبلاً، والغجر ـــ مئة، وبإمكانها غداً إلقاء ألف روبل في الهواء إن أرادت، ولكنها قبل شهرين من زواجها لم تكن تملك حتى ثلاثة روبلات، وكان يتوجب عليها مراجعة أبيها بشأن أتفه الأمور. يا لهذا التحوّل الكامل في حياتها!‏
كانت أفكارها مشوشة للغاية، وتذكرت أيضاً أن الكولونيل ياغيتش، الذي هو زوجها الآن، كان قد تودد إلى خالتها، عندما كانت هي في العاشرة من عمرها. وكان جميع أهل المنزل يقولون آنذاك أنه دمرها. كما تذكرت كيف أن خالتها غالباً ما كانت تنزل لتناول الغداء دامعة العينين، وكيف كانت تغادر المنزل بين الحين والحين، حتى قيل إنه ليس في وسع هذه المخلوقة البائسة أن تجد راحة في أي مكان.‏
آنذاك كان وسيماً جداً، وكان نجاحه الباهر مع النساء قد أكسبه شهرة في البلدة كلها، حتى راحت تُحكى عنه الحكايات. ويقال إنه كان يتردد على المعجبات به كما يعود الطبيب مرضاه. وبالرغم من شعره الأشيب وتجاعيده ونظّارته، وبالرغم من نحول وجهه، فإنه حتى الآن يبدو بهي الطلعة، لاسيّما إذا نظرنا إليه من الجانب.‏
كان والد صوفيا لفوفنا طبيباً عسكرياً، وقدّر لـه في وقت مضى أن يخدم مع ياغيتش في الفوج نفسه. وكان والد فولوديا طبيباً عسكرياً أيضاً، وخدم في الماضي مع والد صوفيا وياغيتش في الفوج ذاته. وبغض النظر عن المغامرات العاطفية التي غالباً ما كانت معقدة وعاصفة، كان فولوديا طالباً ممتازاً، أنهى دراسته الجامعية بتفوق، ثم قرر التخصص في مجال الأدب الأجنبي، وقيل إنه يكتب أطروحة.‏
كان يقيم حالياً في الثكنات مع والده الطبيب العسكري دون أي نقود يملكها، مع أنه قد بلغ الثلاثين. في طفولتهما، عاش فولوديا وصوفيا لفوفنا في شقتين مختلفتين، ولكن دائماً تحت سقف واحد، وكثيراً ما كان يزورها للعب، ومعاً تعلما الرقص واللغة الفرنسية. ولكن عندما كبر وأصبح شاباً ممشوق القامة وسيما، بدأت تشعر بالخجل منه، ثم أغرمت به بجنون، وظلت تحبه إلى أن تزوجت ياغيتش.‏
كان لفولوديا أيضاً نجاح باهر مع النساء، فمنذ الرابعة عشرة من عمره تقريباً، كانت النساء اللواتي يخنّ أزواجهن معه يبررن لأنفسهن أن فولوديا كان فتى صغيراً.‏
ومنذ وقت ليس بالبعيد تناقلت الألسن عنه قصة، وهي أنه عندما كان طالباً كان يقيم في غرفة مفروشة قرب الجامعة، وكان يقترب من الباب كلما دقّ ويعتذر بصوت خافت (3)"Pardon, Je ne suis las seul"‏
اعتاد ياغيتش أن يفيض ابتهاجاً حياله، وتنبأ لـه بمستقبل عظيم كما تنبأ درجافن(4) لبوشكين، إذ يبدو أنه كان يحبه.‏
كانا يلعبان البلياردو والبيكيت لمدة ساعة وهما صامتان، وكان ياغيتش يصحب معه فولوديا أينما ذهب في الترويكا، وكذلك لم يُطلع فولوديا على أسرار أطروحته أحداً غير ياغيتش.‏
وقبل ذلك، عندما كان الكولونيل أصغر سناً، غالباً ما وجدا نفسيهما غريمين يتنافسان، ولكن لم يكن للغيرة مكان بينهما قط، وإذا ما اجتمعا في بيوت علية القوم، كان ياغيتش يُعرف بفولوديا الكبير، وصديقه بفولوديا الصغير.‏
وفضلاً عن فولوديا الكبير وفولوديا الصغير، وصوفيا لفوفنا، كان هناك شخص آخر في العربة، إنها مارغريتا ألكساندرفنا، أو ريتا كما كانت تدعى، قريبة زوجة ياغيتش، وهي فتاة تعدّت الثلاثين، شاحبة الوجه، لها حاجبان أسودان، وتضع نظارة دون ذراعين.‏
كانت تدخن سيجارة تلو الأخرى، حتى في جو الصقيع القارص، فهناك دوماً رماد على صدرها وركبتيها. كانت تخن في كلامها وتمط كل لفظة تقولها. زد على ذلك أنها امرأة باردة، قادرة على تجرع الليكيور والكونياك بأي قدر تشاؤه دون أن تثمل. كانت تروي فكاهات مريبة بطريقة ذابلة غير مستحبة. وفي المنزل، كانت تقرأ صحفاً سميكة من الصباح حتى المساء، تبعثر الرماد فوقها أو تلوك تفاحاً مجمداً.‏
ـــ توقفي يا سونيا عن إحداث هذا الضجيج! ـــ قالت بصوت مترنم ـــ حقاً، إن هذا سخيف.‏
حين اقتربت من بوابة المدينة، تباطأت حركة الترويكا، فتراءت البيوت والناس بصورة خاطفة، والتصقت صوفيا لفوفنا بزوجها وقد هدأت واستغرقت في التفكير. كان فولوديا الصغير جالساً قبالتها، فيما اختلطت الآن أفكارها المشرقة السعيدة بأفكار أخرى كئيبة.‏
فقد جال في خاطرها: هذا الرجل الجالس قبالتها كان يعرف أنها تحبه، ومن المؤكد أنه صدّق الإشاعة القائلة إنها تزوجت الكولونيل par depit. لم تبح لـه بحبها يوماً أبداً، ولم تشأ أن يعرف بذلك، فأخفت مشاعرها عنه، ولكن بدا جلياً من نظرته أنه كان يفهمها جيداً، بينما عانت كبرياؤها بسبب ذلك. إلا أن الحقيقة الأكثر إهانة لها كانت تتمثل في أن فولوديا الصغير راح يعيرها اهتمامه فجأة بعد زواجها، وهذا شيء لم يكن لـه وجود من قبل. فقد أخذ يجلس معها صامتاً لساعات، أو يثرثر في أمور تافهة، والآن، عندما كانوا راكبين في الترويكا، شرع يدوس على رجلها بخفة تارةً، ويضغط على يدها تارة أخرى دون أن ينبس بكلمة واحدة. كان واضحاً أنه أراد لها أن تتزوج فقط، مثلما كان واضحاً أنه يحتقرها وأنه كانت تثير في داخله نوعاً محدداً من الاهتمام فحسب، بوصفها امرأة فاسدة وغير مستقيمة.‏
ولما كان شعورها بالانتصار والحب تجاه زوجها قد اختلط بالخزي والكبرياء المجروحة، فقد راودتها رغبة ملحة بالمشاكسة، لدرجة أنها أرادت الجلوس في مقعد الحوذي كي تصرخ وتصفر.‏
وبينما هم يمرون بدير نسوي ترامى إلى أسماعهم صوت جرس عظيم يزن نحو عشرين طناً، فرسمت ريتا إشارة صليب على صدرها.‏
ـــ عزيزتنا أوليا في هذا الدير. قالت صوفيا لفوفنا وصالبت أيضاً بارتجاف.‏
ـــ لماذا التحقت بالدير؟ سأل الكولونيل.‏
ـــ par depit ـــ أجابت ريتا في تلميح ساخر منها إلى زواج صوفيا لفوفنا من ياغيتش ـــ إنها عادة دارجة هذه الـــ par depit. إنها تحدٍّ للعالم أجمع، لقد كانت أوليا تقهقه بصوت عال وتتغنج بطيش، وقد كان أمر العشّاق والحفلات الراقصة هو شغلها الشاغل، ولكن بغتة ـــ انظروا ما حصل! لقد فاجأت الجميع.‏
ـــ هذا ليس صحيحاً ـــ أجاب فولوديا الصغير وهو يثني ياقته المصنوعة من الفرو، ويكشف عن وجهه الوسيم. ـــ لم يكن هناك أية par depit، بل بالأحرى خوف محض إذا ما أردت أن توجهي الموضوع هذه الوجهة. فقد حكم على أخيها دميتري بالأشغال الشاقة، ومكان وجوده غير معروف الآن، وتوفيت أمها من فرط حزنها. رفع فولوديا ياقته مجدداً واستأنف بلا مبالاة: تصرفت أولياً تصرفاً صائباً، تصوروا فقط أنها تعيش كلقيط وبالأحرى مع جوهرة مثل صوفيا لفوفنا! هذا ليس بالأمر السهل.‏
أدركت صوفيا لفوفنا نبرة الاحتقار في صوته، فأرادت أن ترد عليه بشيء ناب، ولكنها لزمت الصمت، ثم عاودتها الرغبة ذاتها بالمشاكسة، فهبّت واقفة على قدميها، وصرخت بصوت باكٍ: أريد الذهاب إلى صلاة الصباح، ارجع أيها الحوذي، أرغب برؤية أوليا!‏
نفذ الحوذي أمرها. كان طنين جرس الدير عميقاً للغاية، وبدا أن ثمة شيئاً فيه ذكّر صوفيا لفوفنا بأوليا وحياتها، وبدأت الأجراس تقرع في الأديرة الأخرى أيضاً.‏
عندما أوقف الحوذي الترويكا، وثبت صوفيا لفوفنا من العربة وحدها، وتوجهت نحو البوابة مسرعة لا يرافقها أحد.‏
ـــ أسرعي، أرجوك! صرخ زوجها، فالوقت متأخر.‏
عبرت صوفيا لفوفنا البوابة المظلمة، ثم الممر المؤدي إلى الكنيسة. كان الثلج الخفيف يهسهس تحت قدميها، وقرع الجرس فوق رأسها حتى خيّل إليها أنه يخترق كيانها كله.‏
هاهو باب الكنيسة وهو يفضي بعد هبوط ثلاث درجات إلى رواق طويل تتدلى على جانبيه صور القديسين. كانت رائحة البخور والعرعر تعمّ هذا المكان الذي ينتهي إلى باب بدا أنه يُفتح ويظهر منه خيال عاتم لامرأة تنحني لها. لم تكن الصلاة في الكنيسة قد بدأت بعد. كانت هناك راهبة تتحرك أمام المحراب الكنسي وتشعل الشموع في شمعداناتها، بينما انشغلت أخرى بإضاءة الثريا. وقريباً من الأعمدة والمقاعد الجانبية تبدّت هيئات أشخاص يقفون في الظلمة ساكنين: هذا يعني أنهم سيقفون على هذه الحال، بلا حراك، حتى طلوع الصباح ـــ فكرت صوفيا لفوفنا، وبدا لها المكان مظلماً، بارداً وموحشاً، بل وأكثر وحشة من المقبرة ذاتها. نظرت حولها بغمٍّ إلى الهيئات الجامدة الساكنة وانقبض صدرها فجأة إذ تمكنت بطريقة ما من تبيّن أوليا في راهبة ضئيلة الحجم، نحيلة الكتفين، تغطي رأسها بمنديل أسود، على أن أوليا كانت قبل دخولها إلى الدير ممتلئة الجسم، وتبدو أطول قامة.‏
اقتربت صوفيا لفوفنا من المبتدئة مترددة ومتوترة جداً دون أن تعرف السبب، نظرت إلى أوليا عبر كتفها فعرفتها.‏
ـــ أوليا! ـــ قالت وضربت كفاً بكف وهي تنطق الاسم بالكاد من شدّة تأثرها، ـــ أوليا!‏
عرفتها الراهبة على الفور فرفعت حاجبيها دهشة، فيما بدا وجهها الشاحب النظيف الطاهر، وحتى غطاء الرأس الأبيض الصغير الظاهر من تحت منديلها، مشرقين من شدّة الفرح.‏
ـــ يا لها من معجزة سماوية! قالت وهي تضرب يديها النحيلتين والشاحبتين بعضهما ببعض هي الأخرى. ثم عانقتها صوفيا لفوفنا بقوة وقبّلتها، إلا أنها كانت تخشى أن تفوح منها رائحة الخمرة.‏
كنا عابرين للتو فتذكرناك ـــ قالت منقطعة الأنفاس كما لو أنها مشت مسرعة ـــ يا إلهي، كم أنت شاحبة! إنني سعيدة لرؤيتك، ما أخبارك؟ كيف حالك؟ هل تشعرين بالملل؟‏
نظرت صوفيا لفوفنا حولها إلى الراهبات الأخريات، ثم تابعت بصوت خافت: لقد تغيّرت أمور كثيرة في المنزل، أتعرفين؟ أنا تزوجت يا غيتش، فلاديمير نيكيتش، ما زلت تذكرينه، وأنا في غاية السعادة معه.‏
ـــ حسناً، الحمد لله، وهل والدك على ما يرام؟‏
ـــ نعم. إنه على ما يرام، وهو غالباً ما يتذكرك. أرجو يا أوليا أن تزورينا أيام العطل، أتسمعينني؟‏
ـــ سآتي. قالت أوليا وارتسم على محياها طيف ابتسامة ـــ سأجيء في اليوم الثاني من العطلة.‏
انخرطت صوفيا لفوفنا بالبكاء دون أن تعرف سبباً لذلك، بكت بصمت للحظة، ثم جففت عينيها وقالت: شدّ ما ستأسف ريتا لأنها لم تركِ، فهي بصحبتنا أيضاً، وفولوديا هنا كذلك، إنهما أمام البوابة الآن، كم سيكون سرورهما عظيماً لو خرجت لرؤيتهما! هيا، فالصلاة لم تبدأ بعد.‏
ـــ هيّا، فلنذهب. وافقت أوليا. فصلّبت ثلاث مرّات وتوجهت مع صوفيا لفوفنا نحو الباب المؤدي إلى الخارج.‏
ـــ إذن تقولين يا سونيتشكا إنك سعيدة؟ ـــ سألت أوليا ما إن اجتازتا البوابة.‏
ـــ جداً!‏
ـــ حسناً، الحمد لله.‏
ترجّل فولوديا الكبير وفولوديا الصغير من العربة إذ لمحا الراهبة، فحيّاها باحترام، وكان واضحاً كم أثّرت فيهما رؤية وجهها الشاحب، وجبّة الراهبات السوداء، فقد سرّهما أنها تذكرتهما وخرجت تسلّم عليهما. لفتها صوفيا لفوفنا ببطانية تقيها البرد، وألقت عليها طرفاً من معطفها الفرو. كانت الدموع التي ذرفتها تواً قد أراحت قلبها وأبهجته، وكانت سعيدة لأن هذه الليلة الصاخبة، المضطربة والمتهتكة في حقيقة الأمر قد انتهت بنقاء ولطف دون سابق توقع. ورغبة منها في إبقاء أوليا مدّة أطول اقترحت: دعونا نصحبها في نزهة، اجلسي يا أوليا، سنقوم بنزهة قصيرة ليس إلاّ.‏
توقع الرجلان من الراهبة أن ترفض ـــ فليس من عادة الأتقياء ركوب الترويكا، ولكن كم كان ذهولهم كبيراً حين وافقت الراهبة وجلست في العربة! وعندما انطلقت الترويكا كالسهم نحو بوابة المدينة، لزموا الصمت جميعاً، ولم يكن لهم من همٍّ إلا أن تنعم بالدفء والراحة، وهم غارقون في التفكير: كيف كانت من قبل وكيف هي الآن.‏
بدا وجهها الآن جامداً خالياً من أية تعابير تقريباً، بارداً وشاحباً وشفافاً كما لو أن ماءً يجري في عروقها وليس دماً، مع أنها قبل سنتين أو ثلاث كانت مكتنزة الجسم متوردة الخدّين، تتحدث عن العرسان وتطلق ضحكتها المدوية لأتفه الأمور.‏
استدارت الترويكا قرب بوابة المدينة، ثم توقفت قرب الدير بعد مضي عشر دقائق، فنزلت أوليا فيما كانت أجراس الكنيسة تُقرع الآن في برجها.‏
ـــ بارككم الله. قالت أوليا، وانحنت على طريقة الراهبات.‏
ـــ أرجوك يا أوليا، زورينا.‏
ـــ سأفعل، سأفعل. وابتعدت أوليا سريعة الخطى، وسرعان ما ابتلعتها البوابة المظلمة. وما إن استأنفت الترويكا انطلاقها حتى شعر الجميع بكآبة ثقيلة.‏
لم ينبس أحد ببنت شفة. وشعرت صوفيا لفوفنا بوهن في أوصالها وخارت عزيمتها، لقد خيّل إليها أنّ إجبارها الراهبة على ركوب العربة والتنزه برفقة ثملة تصرّف غبي غير لبق، ويكاد يكون استهتاراً بالمقدسات. زال ثملها وكذلك رغبتها بخداع نفسها، وغدا واضحاً لها أنها لا تحب زوجها، وليس بمقدورها أن تحبه أبداً، وأن الأمر برمّته هراء وحماقة. لقد تزوجت زواج مصلحة، قوامه، وفقاً لرأي زميلاتها، أن الزوج فاحش الثراء، وإنه لأمر مرعب أن تبقى عانساً، مثل ريتا! ثمّ إنها ملّت أباها الطبيب وأرادت إغاظة فولوديا الصغير.‏
ولو كانت قادرة أن تخمّن قبل الزواج أنه سيصعب عليها التحمل الذي سيكون أمراً فظيعاً وبشعاً، لكانت رفضت هذا الزواج ولو عرضوا عليها كل ثراء العالم. ولكن ما حصل لا يمكن تغييره الآن، وعليها قبوله. حين رجعوا إلى المنزل، استلقت في سريها الدافئ الناعم، وألقت الأغطية على نفسها، فتذكرت رواق الكنيسة المظلم ورائحة البخور، والهيئات المنتصبة بجانب الأعمدة. كانت تريعها فكرة أن هؤلاء الأشخاص سيبقون واقفين هناك بلا حراك طوال فترة نومها، وأن صلاة الفجر ستدوم وقتا طويلاً جداً، ثم تعقبها ساعات، ثم صلاة النهار وبعدها الصلوات القصيرة.‏
"ولكن الإله موجود حقاً، إنه موجود على الأرجح. ولا شك أني سأموت، وهذا يعني أنه يتوجب على المرء عاجلاً أم آجلاً، أن يفكر في الروح والحياة الأبدية، مثل أوليا. لقد حصلت أوليا على الخلاص الآن، لقد حسمت كل الأمور مع نفسها، ولكن، إذا لم يكن هناك إله؟ ستكون حياتها قد هدرت سدىً، أتكون قد ضاعت فعلاً؟ ولِمَ تضيع؟ وبعد دقيقة خطرت في ذهنها فكرة:‏
إن هناك إلهاً، والموت آتٍ لا محالة، وعلى المرء أن يفكر في روحه، إن كان مقدّراً على أوليا أن تلاقي حتفها في هذه اللحظة بالذات، فإنها لن تجزع، إنها مستعدة، ولكن الشيء المهم هو أنها قد حسمت أمور حياتها مع نفسها سلفاً".‏
هناك إله.... أجل... ولكن، أمَا هناك من طريقة غير الترهب؟ فالالتحاق بالدير يعني حقاً إيقاف الحياة وتدميرها". تملَّكها الخوف قليلاً، فغطّت رأسها بالمخدة.‏
ـــ يجب ألا أفكر في هذا... يجب ألا أفكر...‏
كان ياغيتش يذرع الغرفة المجاورة جيئة وذهاباً، يخشخش بمهمازه على نحو خافت مستغرقاً بالتفكير بأمر أو بآخر. باغت صوفيا لفوفنا التفكير بأن هذا الرجل كان قريباً وعزيزاً عليها لمجرد سبب واحد، وهو كون اسمه فولوديا أيضاً، فجلست في سريرها ونادت بلطف: فولوديا.‏
ـــ ما الأمر؟ ردّ زوجها.‏
ـــ لا شيء.‏
وعادت إلى الاستلقاء.‏
تناهى إلى سمعها طنين أجراس، ربما كان مصدره الدير نفسه. وذكّرتها هذه الأجراس من جديد برواق الكنيسة والهيئات المظلمة المنتصبة. دارت في ذهنها أفكار عن الإله وعن الموت المحتّم، غطّت رأسها كي لا تسمع هذا الطنين.‏
فكرت: إن أمامها حياة طويلة تفصلها عن الشيخوخة والموت، ويتوجب عليها أن تتحمّل الحياة قرب الرجل الذي لا تحبّه، والذي ولج الآن إلى غرفة النوم وهو في طريقه إلى الفراش، وستكون مجبرة أن تكتم في نفسها حبّها اليائس لرجل آخر، فتي وجذاب، رجل بدا لها شخصاً خارقاً.‏
ألقت نظرة على زوجها وأرادت أن تقول لـه تصبح على خير، إلا أنها عوضاً عن ذلك انفجرت باكية. كانت مستاءة من نفسها.‏
ـــ حسناً، ها قد بدأت الموسيقى ـــ قال وهو يمطّ حرف الياء.‏
استعادت صوفيا لفوفنا هدوءها، ولكن بعد مرور فترة طويلة نسبياً، حوالي العاشرة صباحاً. توقفت عن البكاء والارتعاد، ولكن عوضاً عن ذلك تملّكها صداع شديد.‏
كان يا غيتش يسرع بالاستعداد للقدّاس المتأخر، وهو في الغرفة المجاورة يزمجر في وجه خادمه الذي يساعده على ارتداء ثيابه. دخل إلى غرفة النوم وهو يخشخش بمهمازه على نحو خافت. أخذ شيئاً ما، ثم دخل مرّة أخرى مرتدياً كتفيتيه وأوسمته، ويعرج في مشيته على جري عادته بسبب الروماتيزم. ولسبب ما خيّل لصوفيا لفوفنا إنه كان يمشي وهو يتلفت حوله كحيوانٍ مفترس.‏
سمعته يتكلّم بالهاتف: من فضلك اعمل معروفاً، صلني مع ثكنات فاسيلفسكي! ـــ ثم استأنف بعد لحظة: ثكنات فاسيلفسكي؟ اطلب من السيد ساليموفيتش أن يكلمني من فضلك...‏
وبعد لحظة أخرى: من يكلمني؟ أهذا أنت يا فولوديا؟ إني سعيد جداً لسماعك، يا عزيزي، اطلب من والدك أن يعرج علينا فوراً، فزوجتي في حالة سيئة جداً بعد نزهة البارحة... ليس في المنزل؟... هممم... شكراً لك، يا للروعة!... إني ممتن جداً... مرسي.‏
دخل ياغيتش إلى غرفة النوم للمرة الثالثة، فانحنى فوق زوجته ورسم إشارة الصليب، ثم مدّ يده لتقبّلها ـــ فالنساء اللواتي أحببنه كنّ يقبّلن يده دوماً، وقد كان معتاداً على ذلك ـــ قال إنه سيعود للعشاء وخرج.‏
في الثانية عشرة أعلنت الخادمة عن قدوم فلاديمير ميخايلتش، فنهضت صوفيا لفوفنا مترنحة بسبب وهنها وصداعها. وسرعان ما ارتدت ثوبها الليلكي المزيّن بالفرو، واللافت للنظر، مشّطت شعرها على عجلة منها كيفما تفق. شعرت برقة في قلبها تفوق حدود الوصف. كانت ترتجف فرحاً وخوفاً من أن يذهب.‏
آه ليتها فقط تستطيع أن تراه!‏
جاء فولوديا الصغير زائراً وهو على أتمّ هندام يرتدي لباساً رسمياً ولفاعاً أبيض. وعندما دخلت صوفيا لفوفنا ردهة الاستقبال قبّل يدها وعبّر عن أسفه الشديد حيال توعكها. بعدئذ أطرى ثوبها عندما جلسا.‏
ـــ لقد انزعجت من رؤية أوليا البارحة ـــ قالت ـــ في البداية ساورني شعور رهيب، ولكنني الآن أحسدها. إنها صخرة صمّاء يصعب تحطيمها، ولن يكون بوسع أحد أن يزحزحها من مكانها أبداً. ولكن يا فولوديا، أما كان أمامها من مخرج آخر تسلكه؟ أيجب على المرء حقاً أن يئد نفسه حياً ليحلّ لغز الحياة؟ أتعرف؟ إنه موت بحد ذاته وليس حياة.‏
ظهر تعبير لطيف على وجه فولوديا لدى ذكر أوليا.‏
ـــ أنت شخص ذكي يا فولوديا ـــ قالت صوفيا لفوفنا ـــ علّمني كيف أفعل ما فعلته هي تماماً. إنني بالطبع لست مؤمنة، وليس بمقدوري أن أدخل ديراً لكن لابد أن يكون هناك ما يماثل هذا الخيار قيمةً... إن حياتي ليست سهلة ـــ تابعت بعد لحظة صمت ـــ أخبرني... قل لي شيئاً مقنعاً، كلمة واحدة تفي بالغرض.‏
ـــ كلمة واحدة؟ هاك إذاً: تارارا ابومبيا.‏
ـــ لماذا تحتقرني يا فولوديا. سألته باندفاع ـــ فأنت تستخدم هذه اللغة ـــ اعذرني ـــ الساذجة والعابثة عندما تتحدث إلي بالذات، وهي ليست من النوع الذي يستخدمه الناس مع أصدقائهم أو مع نساء محترمات. إنك ناجح جداً كإنسان متعلّم، فأنت تحب العلوم، ولكنك لا تتكلم معي أبداً عن العلوم؟ لماذا؟ ألست أهلاً لذلك؟‏
تضايق فولوديا الصغير فغضن وجهه وقال: لماذا تريدين أن تتكلمي عن العلوم فجأة؟ لعلّك تريدين الدخول بنقاش عن البنية؟ أو ربما عن سمك الحفش مع الفجل الحرّيف؟‏
ـــ جيد. حسناً، إنني امرأة تافهة سيئة مجرّدة من القيم، وغبية... ارتكبت مئات المئات من الأخطاء. إنني مريضة نفسياً وفاسقة وأستحق الاحتقار على هذا النحو، ولكن انظر يا فولوديا، أنت تكبرني بعشر سنوات وزوجي يكبرني بثلاثين سنة، إنني ترعرعت أمام ناظريك، ولو أردت، لكان في مقدورك أن تجعل مني ما تشاء حتى ملاكاً، ولكنك ـــ وهنا ارتجف صوتها ـــ عاملتني على نحو مريع، وتزوجني يا غيتش عندما كان مسناً أصلاً وأنت...‏
ـــ هذا يكفي، هذا يكفي ـــ قال فولوديا وهو يقترب في جلوسه منها ويقبّل كلتا يديها ـــ لندع شوبنهاور وأمثاله لفلسفتهم وإثبات ما يريدون إثباته، أما نحن فدعينا نقبل هاتين اليدين الصغيرتين.‏
ـــ أنت تحتقرني بالفعل، ليتك تعرف فقط كم يعذبني هذا! قالت بتلكؤ وهي تعرف سلفاً أنه لن يصدقها.‏
ـــ ليتك تعرف فقط كم أريد أن أكون امرأة أخرى، وأن أبدأ حياة جديدة، إنني أفكر في هذا ببهجة غامرة.‏
ـــ وبالفعل فقد ذرفت قليلاً من دموع الفرح عندما قالت ذلك ـــ لأن تكون إنساناً طيباً شريفاً طاهراً، ألاّ تكذب، وأن يكون لك هدف في الحياة!‏
ـــ هيا، هيا، هيا لا تبدئي بالتظاهر، فأنا لا أحب هذا. قال فولوديا واتخذ وجهه تعبيراً متقلباً ـــ يا إلهي، لكأنك على خشبة المسرح، دعينا نتصرف كأناس حقيقيين.‏
ولكي لا يغضب ويرحل، طفقت تجد الأعذار لنفسها، وأجبرت نفسها على الابتسام بغية إرضائه، وعاودت الحديث عن أوليا وكيف تمنّت هي أيضاً أن تحلّ مشكلات حياتها، وأن تصبح إنساناً بحق.‏
ـــ تارا.. را.. مبيا ـــ غنى هامساً ـــ تا...را...بومبيا.‏
وفجأة طوّق خصرها، فوضعت يديها على كتفيه، جاهلة ما تفعل. ولدقيقة ظلت تنظر بنشوة كما لو كانت مخدّرة، إلى وجهه الذكي والساخر، وإلى جبينه وعينيه ولحيته الرائعة.‏
ـــ لقد عرفت لمدّة طويلة أني أحبك ـــ اعترفت واحمرّت خجلاً وألماً، بل وشعرت بأن شفتيها التوتا بتشنج من أثر الخجل ـــ إني أحبك حقاً، فلماذا تعذبني؟. أغمضت عينيها وقبّلته بشغف في شفتيه، ولعلّه مضى من الوقت دقيقة كاملة قبل أن تستطيع حمل نفسها على إنهاء القبلة، رغم أنها كانت تدرك أن هذا لا يجوز البتة، وأنه قد يدينها هو نفسه، أو أن الخدم قد يدخلون إلى الغرفة...‏
ـــ آه، كم تعذبنيّ ـــ رددت.‏
بعد مضي نصف ساعة، وكان قد حقق ما أراد، جلس في غرفة الطعام وتناول وجبة خفيفة، بينما ركعت هي بجانبه وراحت تحملق في وجهه بشراهة . قال لها إنها تبدو مثل كلب أليف ينتظر من صاحبه أن يرمي لـه ببقية من لحم، ثم أجلسها على إحدى ركبتيه وغنّى وهو يؤرجحها: تارا... رابومبيا!‏
عندما كان يهمّ بالمغادرة، سألته بصوت متأثر: متى؟ اليوم؟ أين؟ وأطبقت كفّيها على فمه كما لو كانت تسعى إلى سحب الجواب بيديها.‏
ـــ سيكون صعباً اليوم ـــ قال بعد أن فكّر ملياً ـــ ولكن ربما غداً. ثم افترقا.‏
قبل العشاء، ذهبت صوفيا لفوفنا إلى الدير لرؤية أوليا، ولكنّهم أخبروها هناك بأن أوليا ذهبت لتقرأ من سفر المزامير على روح امرأة توفيت. خرجت صوفيا من الدير وتوجهت إلى بيت أبيها، إلا أنها لم تلقه في المنزل أيضاً. بعدئذ غيّرت العربة وراحت تتجول في الشوارع والطرق الفرعية دون أيّما هدف، واستمرّت على حالتها تلك حتى حلول المساء، ولسبب ما، تذكرت خالتها الدامعة العينين، العاجزة عن إيجاد الطمأنينة أبداً.‏
في تلك الليلة، خرجوا مرّة أخرى في الترويكا، واستمعوا إلى غناء الغجر في مطعم خارج البلدة، وعندما عبروا من أمام الدير ثانية، تذكرت صوفيا أوليا، فأرعبها التفكير بأن فتيات ونساء طبقتها الاجتماعية لا يجدن مخرجاً سوى ركوب الترويكا دوماً، والكذب، أو الالتحاق بالدير وإماتة الجسد.‏
في اليوم التالي كان ثمّة لقاء آخر،وعادت صوفيا لفوفنا إلى التجوال وحدها في عربة مستأجرة حول المدينة، وتذكرت خالتها من جديد.‏
انفصل فولوديا الصغير عن صوفيا لفوفنا بعد أسبوع، ثم عادت الحياة إلى مجاريها كما كانت من قبل، مملة، حزينة، بل وحتى مؤلمة في بعض الأحيان. كان الكولونيل يلعب البلياردو أو البوكيت مع فولوديا الصغير لساعات، وكانت ريتا تروي النكات بطريقتها الذابلة السمجة، بينما كانت صوفيا لفوفنا تتجوّل في عربة مستأجرة باستمرار وتتضرع إلى زوجها كي يأخذها للتنزّه بالترويكا.‏
أضجرت صوفيا لفوفنا أوليا، إذ كانت تزورها في الدير كل يوم تقريباً، فتشكو لها عذابها الذي لا طاقة لها على احتمالـه، وتبكي وتشعر في الوقت نفسه أن ثمّة شيئاً نجساً، مثيراً للشفقة وخسيساً قد دخل معها إلى صومعة الدير. وكانت أوليا تقول لها آلياً وبلهجة امرئ يتلو درساً محفوظاً، بان لا شيء من هذا لـه أدنى قيمة، وبأن كل هذا سيمضي، وأنّ الله سوف يسامحها.‏


هوامش

(1) عربة أو زحّافة روسية تجرها ثلاثة أحصنة.‏
(2) من أجل الإغاظة.‏
(3) ـ اعذرني، إنني لست بمفردي.‏
(4) ـ غافريل رومانوفيتش درجافن (1743-1816)، أشهر الشعراء الروس في القرن الثامن عشر. في عام 1815، وقبل وفاته بسنة، ترأس لجنة تحكيم لشعر الفتيان في مدرسة سانت بطرس بورغ، حيث قدّم بوشكين، ابن السادسة عشرة آنذاك، قصيدة غنائية حاكى فيها درجافن، فعانق الشاعر الفتى، وأطنب في مدحه حتى رفعه إلى السماء،وتنبأ لـه بمستقبل عظيم.‏