Monday, May 14, 2007

حد الردة الزعوم - أحمد صبحى منصور(3)ا

الولاء والبراء فى الاسلام ـ قراءة تحليلية لسورة الممتحنة

سورة الممتحنة - سورة 60 - عدد آياتها 13

1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ
2. إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ
3. لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
4. قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
5. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
6. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
7. عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
8. لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
9. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
10. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
11. وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
12. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
13. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ

أولا :
موجز معانى الآيات فى السورة:
الآية 1 :
يوجه الله تعالى خطابا مباشرا للمؤمنين فى عهد النبى محمد ينهاهم عن مناصرة وموالاة أقاربهم الكافرين ، واصفا أولئك الكافرين بأنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، وإذن لا يصح أن يعاملوهم بالمودة، فأولئك الكافرون جمعوا بين الكفر العقيدى ـ وهو الكفر بالقرآن الكريم ـ والكفر السلوكى وهو الاعتداء على المؤمنين والنبى محمد واخراجهم من بيوتهم بسبب أنهم آمنوا بالله تعالى وحده. وعليه فاذا كان المؤمنون قد فارقوا أوطانهم جهادا فى سبيل الله وابتغاء مرضاة الله تعالى فلا يصح أن يحتفظوا سرا بعلاقات المودة مع أولئك الظالمين. والله تعالى يعلم السرائر ويعلم الظواهر، ومن يوالى أؤلئك الظالمين فقد أصبح من الضالين عن الطريق المستقيم.
الآية 2 :
واقع الأمرأن أولئك الظالمين الكافرين سيظهرون أكثر على حقيقتهم العدوانية اذا اشتبكوا مع المؤمنين فى قتال، ولن يقتصروا على المواجهة الحربية بل ستنطلق أيديهم وألسنتهم بالسوء للمؤمنين. هذا فى الدنيا.
الآية 3 :
أما فى الآخرة فإن قرابتكم لأولئك المشركين الكافرين ـ سواء كانوا لكم أرحاما أو أبناء ـ لن تنفعكم يوم القيامة، حيث يفصل الله تعالى بينكم بحكمه ، وهو الذى يعلم ويبصر كل أعمالكم.
الآية 4 :
أن عليكم الإقتداء والتأسى بالنبى ابراهيم والمؤمنين معه ،وقد واجهوا نفس الاختبار، وقد تبرءوا من أهلهم ومن الآلهة التى يعبدها قومهم ، وأعلنوا كفرهم وعداءهم لتلك الآلهة ومن يعبدها،وسيستمر تبرؤهم من قومهم حتى يؤمنوا بالله وحده دون شريك. وقد قال ايراهيم وقتها لأبيه المشرك أنه سيستغفر الله له ولكنه لا يملك له نفعا ولا ضرا . وقال ابراهيم ومن معه انهم يتوكلون على الله تعالى وحده ، ويؤمنون به وحده ، واليه وحده يتوبون ، واليه وحده مصيرهم يوم القيامة.
الآية 5 :
وقالوا داعين الله تعالى : ألا يجعلهم عرضة لاضطهاد الكافرين المعتدين ، وان يغفر لهم ربهم ، فهو جل وعلا العزيز بقوته الحكيم بأفعاله.ومصطلح الفتنة فى السياق القرآنى يعنى الاضطهاد الدينى فيما يخص العلاقة بين المؤمنين والكافرين المعتدين، ويعنى الاختبار والامتحان فيما يخص علاقة الله تعالى بالانسان.
الآية 6 :
هذا الموقف الذى اتخذه ابراهيم والمؤمنون معه هو ما يجب على المؤمنين مع محمد التأسى به. بل على كل من يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر أن يتأسى به ، وإن لم يفعل فان الله تعالى ليس محتاجا له ، فهو تعالى وحده المستغنى عن عباده المستحق للحمد.
الآية 7:
وفى هذه الآية يبشر الله تعالى المؤمنين مقدما بأنه عسى أن يأتى اليوم الذى تنتهى فيه العداوة ويحل فيه الوئام ، وليس هذا مستبعدا ، فالله عليه قدير، واذا تاب الكافرون ورجعواعن عدوانهم فالله تعالى سيغفر لهم وسيرحمهم يوم القيامة.
بعد المقدمات السابقة والتى تعتبر حيثيات لتشريع سيأتى ، يأتى تشريع الموالاة فى الآيتين الثامنة والتاسعة مترتبا على موقف المخالفين للمؤمنين فى العقيدة ، إذا كانوا مسالمين او معتدين:
الآية 8:
لا بد من التعامل بالبر والمودة والعدل والقسط مع المخالفين للمؤمنين فى العقيدة والدين طالما لم يعتدوا على المؤمنين ولم يقاتلوهم بسبب اختيارهم الدينى ولم يقوموا باخراجهم من بيوتهم وأوطانهم. هذا لأن الله تعالى يحب المقسطين القائمين على تحقيق العدل . ويلاحظ هنا أن الله تعالى أتى بوصف الاسلام الظاهرى بمعنى عدم الاعتداء، فكل من لم يقم بالاعتداء عليك فهو مؤمن مسلم ، وعليك أن تعامله بالبر والقسط والعدل. يسرى ذلك على الأفراد كما يسرى على الدول.
الآية 9:
أما الذين اعتدوا على المؤمنين بالقتال بسبب خيارهم الدينى ، وأخرجوهم من ديارهم أو ساعدوا الظالمين فى طرد المؤمنين من ديارهم ـ فانهم الكافرون الذين ينهى الله تعالى ينهى عن التحالف معهم وينهى عن موالاتهم. ومن يتحالف معهم وينصرهم ويؤيدهم فى عدوانهم الظالم على المؤمنين فهو شريك لهم فى الظلم.
بعدها انتقلت الآيات الكريمة لتضع تشريعات اجتماعية فى مشاكل الزواج والطلاق التى حدثت بعد الهجرة من مكة الى المدينة وما حدث من انقطاع تام بين أهل المدينة وأهل مكة، وترتب على هذه القطيعة تفكك بعض الأسر بين زوج كافر استمر فى مكة وزوجة مؤمنة تركت زوجها لتلحق بجماعة المؤمنين ، أو العكس ؛ زوجة تمسكت بدين أهلها المتوارث وظلت فى مكة رافضة أن تتبع زوجها الذى أسلم وهاجر.ثم هناك مشكلة أخرى ، فقد تأتى احداهن تزعم الايمان وهى فى حقيقة الأمر أتت لتتجسس على المؤمنين وتساعد المشركين فى اعتداء يعدون له ، حيث عزموا على ملاحقة المؤمنين الفارين بالقتال فى موطنهم الجديد الذى لجأوا اليه. وبالتالى لا بد أن يرسلوا جواسيس للتمهيد للعدوان. والنساء أفضل من يقوم بهذه المهمة. ومن السهل أن تأتى نساء كثيرات كل منهن تزعم الايمان ، ولا يعلم حقيقة ما فى القلب الا الله تعالى. لذا نزلت الآيات مقدما تطرح الموضوع وتضع له التشريع المناسب فى الآيات 10 ، 11 ، 12.
الاية 10 :
هذه الآية تخاطب المؤمنين أنه إذا جاءتهم إمرأة مهاجرة فعليهم امتحانها ،أى سؤالها عن سبب مجيئها واختبار حالها حتى لا تكون عينا للعدو، وحتى يتأكدوا حسب الظاهر من حالها ، أما حقيقة ما فى القلب فمرجعه الى الله. وإذا عرفوا صدقها فلا يجوز ارجاعها الى الكفار الذين هربت منهم. إذ لا يحل لها أن تتزوج من كافر ولا يصح لكافر أن يتزوجها. وبالهجرة تحدد من اختار الايمان ومن اختار الكفر. واذا كانت المرأة المهاجرة زوجة تركت زوجها الكافر ولجأت للمؤمنين فعلى المؤمنين دفع المهر الذى دفعه من قبل الزوج الكافر تعويضا له ، ويمكن لها أن تتزوج مؤمنا فى موطنها الجديد ، وعليه أن يدفع لها مهرها. وبالعكس ، إذا اختارت الزوجة الكفر والبقاء فى مكة رافضة أن تصحب زوجها الى المدينة فعلى زوجها المؤمن فى المدينة أن يطلقها تماما ويفارقها حتى تتزوج من كافر مثلها مقيم فى نفس الموطن، وعلي الكفاردفع المهر الذى دفعه المؤمن من قبل.
الآية 11:
ولآن الكفار لا عهد لهم ولا ذمة ، وليس منتظرا منهم تطبيق هذا الحكم الالهى بدفع ما عليهم من مهور للأزواج المؤمنين الذين تركوا أزواجهم فإن تعويض هؤلاء الأزواج المؤمنين بالعدل يمكن أن يتم إذا تمكن المؤمنون فى المستقبل من الحصول على غنائم من الكفار.
وبعد استجواب المرأة المهاجرة واختبارها والتأكد من صدقها عليها أن تقوم بمبايعة النبى على الايمان والتمسك بالاخلاق الحميدة والطاعة فى المعروف، وهذا ما جاءت به الآية التالية:
الآية 12:
يقول تعالى للنبى أنه إذا جاءته المؤمنات للمبايعة فعليه أن يبايعهن على الامتناع عن : الوقوع فى الشرك والسرقة والزنا وقتل الأولاد والبهتان والكذب والزوروعصيان الأمر المعروف. واذا حدث وبايعن النبى على هذا فعلى النبى أن يدعو لهن ويطلب من الله تعالى الغفران لهن . والله تعالى غفور رحيم.
الاية الأخيرة رقم 13:
وتختتم السورة بآية اخيرة تؤكد على المؤمنين ألا يناصروا أو يتحالفوا أو يوالوا قوما قد غضب الله عليهم ، وقد كفروا باليوم الآخر ، ويئسوا منه بالضبط كما سييأس الكفار يوم القيامة من الأولياء المقبورين الذين يطلبون فى الدنيا شفاعتهم ثم يفاجأون يوم القيامة بأنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا.
ثانيا:
تحليل موضوعى للسورة
المحور الأساسى للسورة هو قضية الموالاة، وعلى هامش هذا المحور تناثرت إشارات لقضايا أخرى جاء تفصيلها فى سور أخرى.
قضية الموالاة :
دار حول موضوع الموالاة كل آيات السورة ، إما تتناولها تناولا مباشرا، أو تناقش بعض القضايا المتصلة بها ، كاعطاء الحكم الشرعى للعلاقات المقطوعة بين زوجين منفصلين مكانا ووجدانا لكى يستأنف كل منهما حياته فى المجتمع الذى أراد الانتماء اليه.
معنى الموالاة
الموالاة عموما تعنى التحالف ( مع) ( ضد )، أى لا تكون إلا فى حالة حرب أو خصومة ملتهبة تستلزم ممن يهمهم الأمر تحديد الجانب الذى ينضمون اليه ، وبالتالى يكونون ضد الجانب الآخر. أى أن تكون مع واحد من خصمين ضد الأخر فى وقت خصام وحرب وما يستلزمه ذلك من معاداة الخصم الأخر.
الموالاة والتبرؤ فى الاسلام تعنى أن لا توالى أو تتحالف مع المعتدى الظالم الذى يهاجم المسالمين الآمنين، فاذا كف عن اعتدائه وتاب انتهت الخصومة.
الموالاة بالتعبير الأصولى فى الدين السنى تعنى ( الولاء والبراء ) وتعنى فى الدين الشيعى : ( التبرى والتولى ). وكل منها يختلف عن الباقين.
التبرى والتولى فى الدين الشيعى تعنى موالاة ( على بن أبى طالب ) وذريته فى إمامة المسلمين ، وتقديسه وآله وتفضيلهم على الجميع ، ويصل معظمهم فى التفضيل والتقديس الى درجة التأليه. هذا هو العنصر الأول. العنصر الثانى هو التبرؤ من خصوم على السياسيين من أصحابه وهم أبو بكر وعمر وعثمان والسيدة عائشة ومعاوية وعمرو وطلحة والزبير ..الخ. وتصل درجة التبرؤ الى التكفير والتحقير.
الولاء والبراء فى الدين السنى تعنى موالاة من يتفق معهم فى العقيدة وكراهية وعداء وقتال المخالف لهم فى عقيدتهم. وهناك درجات فى البراء ، وهناك خلاف فى موقفهم من المسلمين العوام الذين لا انتماء لديهم ، هل يصح معاملتهم كالأعداء أم لا.
مشكلة الموالاة اليوم : الوهابية وسوء استخدام الموالاة فى تشريع الارهاب
الوهابية تستغل نفوذها فى نشر عقيدتها فى البراء والولاء بزعم أنها تشريع الموالاة والتبرؤ فى الاسلام. على سبيل المثال فإن آيات الموالاة فى القرآن قد تم توظيفها ضد الأبرياء من المصريين الأقباط، وصرخ خطباء المساجد فى التحريض ضد الأقباط مستشهدين بقوله تعالى ﴿يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ﴾ (5 / 51). وهم فى ذلك الاستشهاد الخاطئ يتناسون سياق الآيات وهى تتحدث عن عصر النبى محمد عليه السلام حين طرأت ظروف حربية خاصة فرضت تحالفات سرية بين المنافقين ـ وهم بعض الصحابة ممن كان يعيش داخل المدينة ـ وبعض القبائل اليهودية والنصرانية المعتدية على المسلمين. اذن هو تعليق على أحداث تاريخية ارتبطت بزمانها ومكانها وحكى القرآن الكريم بعض أحداثها وما دار فيها من أقوال فى الآية التالية ( فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا فى أنفسهم نادمين)(5 / 52 ) .لا بد من تنفيذ هذا التشريع اذا تكررت ظروفه بحذافيرها ، كان يهجم علينا عدو معتديا فيتحالف معه فريق منا ضدنا ، أى يواليه فى عدوانه علينا ، هنا يستحق اللوم ـ فقط ـ طبقا لهذا التشريع القرآنى .
إلا إن الارهابيين الذين يعتدون على الأبرياء ويقتلون المدنيين لهم عقيدة أخرى فى الموالاة يسمونها البراء والولاء، أساسها تقسيم العالم الى معسكرين متحاربين ، دار الاسلام ودار الحرب. وهم يعتقدون أن واجبهم هو الهجوم على الآخرين باعتبارهم معسكر الحرب او دار الكفر لارغامهم على دخول الاسلام طبقا للحديث الكاذب الذى رواه البخارى والقائل " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله ".وقد جاء اختراع هذا الحديث بأثر رجعى فى العصر العباسى ليبرر الفتوحات العربية التى حملت اسم الاسلام زورا وبهتانا، والتى استولى بها العرب على الامبراطورية الفارسية وهزموا الامبراطورية الرومية ، واستمرت الحرب بينهم وبين الروم لتقسم العالم الى معسكرين : عربى يحمل اسم الاسلام ورومى غربى يحمل اسم المسيحية، وجرى تقسيم العالم الى دار للحرب ودار للاسلام فى التراث الفقهى .
وفى عصرنا الراهن ازدهرت هذه المفاهيم التراثية العصر أوسطية بتأسيس الوهابية وهى أشد المذاهب الفقهية تعصبا فى الدين السّنى. وانتشرت الوهابية فأرجعت عقيدة تقسيم العالم دينيا الى معسكرين متعاديين متحاربين. وكل مسلم لا يتفق مع الوهابيين يعتبرونه مشركا ، شأنه شأن الأفراد فى دار الحرب. وبالتالى فان الأقليات الدينية من غير المسلمين تتعرض لاضطهاد كفريضة دينية ـ مهما كانوا مسالمين ، بل يعتبر التعامل معهم بعدل واحسان وتسامح خطيئة دينية لأنها تتنافى مع البراء والولاء بالمفهوم الوهابى السنى.
فالبراء عند الوهابية يعنى التبرؤ من كل من يخالف الوهابية ، سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين . الكافر عندهم هم اهل الكتاب ، أما المشرك عندهم فهو المسلم غير الوهابى ، خصوصا الشيعة والصوفية. ومعنى البراء والتبرؤ عمليا هو الكراهية لهم واستحلال خداعهم والتحايل عليهم عند عدم القدرة عليهم ، اما عند القدرة والتمكين فلا بد من قتلهم أو قتالهم وأخذ الجزية منهم . هذا ما كان يمارسه المسلمون والروم فى العصور الوسطى، وانتهى ذلك بالعصر الحديث، ولكنه عاد يؤرق العالم المتحضرتحت اسم الوهابية ، وهى العقيدة الدينية للاخوان المسلمين وكل التظيمات المتطرفة المنبثقة عنها. اما الولاء فهو مناصرة الوهابيين فى اعتدائهم الاجرامى على المسالمين والذى يسمونه جهادا. ولذلك تتوالى صرخات المتطرفين فى المساجد والصحف والفضائيات وفى كل وسائل الاعلام ووسائل المواصلات تحرض ضد جميع اليهود وجميع المسيحيين تستشهد بالآية القرآنية السابقة فى غير موضعها، ويتناسون تشريعات الموالاة ومعناها، كما يتناسون تشريعات القتال وأنه للدفاع عن النفس وليس للاعتداء على الأبرياء، وان فرض الجزية لا يكون الا على جيش اعتدى علينا فتمكنا من رد عدوانه ولا بد أن يدفع غرامة حربية " جزاء " عدوانه ، وهو قانون معترف به فى عصرنا ، عوملت به ألمانيا النازية وصدام.
هذه هى مشكلة الموالاة فى عصرنا الراهن. وقد كانت الموالاة أيضا مشكلة للمسلمين الأوائل استلزمت تدخل القرآن الكريم بالتشريع والنصح والتحذير.
مشكلة الموالاة فى عصر النبى محمد عليه السلام
الموالاة قد تكون موقفا لا خلاف عليه حين يهاجم عدوغريب بلدا أو قوما ، وبالتالى يكون الاجماع قائما حول الاتحاد معا أو موالاة الجميع بعضهم بعضا ضد العدو الغريب الذى يقتحم الديار ويقتل المسالمين من الوطن.ولكن تتحول الموالاة الى مشكلة حين يبدو تعارض ما بين القومية ( أى الانتماء للقوم والأهل ) والانتماء الدينى. دعنا نفترض أن أقلية مسيحية مضطهدة من الأكثرية ، مما استدعى تدخل قوة معتدية مسيحية كبرى خارجية لتأتى وتهاجم البلد بحجة الدفاع عن المسيحيين المضطهدين. ما هو موقف المسيحيين فى الداخل؟ هنا مشكلة التعارض بين الوطن والقومية وبين الانتماء الدينى.
كانت المشكلة أكبر مع المسلمين الأوائل فى مكة ثم بعد هجرتهم الى المدينة. معظم العرب فى ذلك الوقت لم يعرفوا الدولة أو الوطن . عاش معظم العرب قبائل متنقلة ، اى لا تلتزم بوطن ثابت، وبالتالى ليست لهم دولة بالمعنى المعروف. كانت القبيلة هى التى تمثل الدولة والوطن. أساس القبيلة هو الانتماء الى أصل واحد ونسب واحد تتفرع منه بطون القبيلة وفروعها وعائلاتها وأسراتها. العصبية القبلية كانت أساس التعامل داخل وخارج القبائل العربية ، والولاء للقبيلة وذوبان الفرد فيها وفخره به هو أساس حماية الفرد وكينونته. القبيلة كان يمثلها الكبار المترفون الظالمون ، ولم يكن هناك من سبيل لمواجهة ظلمهم ، بل المطلوب نصرتهم حسب القاعدة القبلية القائلة ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ). القرشيون لم يكونوا أعرابا يتنقلون من مكان الى آخر. كان لهم وطن وبلد ينتمون اليه ، وهذا الوطن هو مكة ، أعظم بلد فى الجزيرة العربية، وبالتالى فانتماؤهم هنا الى وطن وبلد مقدس ، يزيد فى الارتباط به حدة الشعور بالانتماء القبلى لقريش ، أعظم قبيلة عربية وقتها . كان صعبا التضحية بهذا الانتماء للوطن ـ مكة ـ والأهل ـ قريش ـ مقابل الانتماء لدين جديد، خصوصا وأن بين الذين آمنوا من كان مؤمنا بالمعنى السلوكى ـ اختيار الأمن والأمان ـ وليس بالمعنى العقيدى ـ اخلاص الايمان لله تعالى وحده.
لقد جاء القرآن بمنهج جديد يمنع الظلم ويرسى العدل والمساواة فأسلم المستضعفون والمهمشون بينما استكبر المترفون الظالمون. وبدأ الاضطهاد ، واضطر بعض المسلمين الى الهجرة مرتين الى الحبشة، واستنكف كبار قريش أن يفلتوا من أيديهم فبعثوا الى ( النجاشى ) حاكم الحبشة بوفد وهدايا يطلبون منه أن يسلم لهم أولئك الذين هاجروا اليه. ورفض. وعاد أولئك المهاجرون الى مكة، ثم كانت الهجرة الكبرى الى (يثرب ) التى حملت اسم ( المدينة ) .كانت الهجرة للمدينة نقطة فاصلة فى العلاقة بين المشركين والمؤمنين ، ليس فقط لأن النبى محمدا عليه السلام هاجر ومعه معظم من آمن ، ولكن أيضا لأن الأغلبية العظمى فى المدينة آمنت وعقدت مع النبى عهدا بنصرته وإقامة دولة له. وتمكن النبى محمد من إقامة دولة حقيقية لها حدودها وشرعها ، وتم التآخى بين أبنائها من مهاجرين وأنصار، وتم عقد عهد بين كل أفراد هذا المجتمع والنبى محمد باعتباره قائدا لهذه الدولة. وتم عقد معاهدات مع قبائل اسرائيلية تعيش فى المحيط الملاصق للمدينة تؤكد حرية الفكروالمعتقد ، وتضع أساس الدفاع المشترك. هذه الدولة الجديدة لا بد أن تتمتع بولاء الأفراد الذين بايعوا النبى أو عقدوا مع القائد عقد انشاء الدولة الجديدة. ومسئولية هذه الدولة حماية المنتمين لها والذين يعيشون فى ظلها.
هنا بدأت المشكلة. فالمؤمنون المهاجرون منهم من كان مؤمنا بالسلوك أكثر منه مؤمنا بالعقيدة. أى كان مسالما يأمن الناس من شره ، يريد الابتعاد عن المشاكل والنجاة منها. وفى بداية الغربة عن الوطن ( مكة ) كان الحنين جارفا للأهل والمكان والذكريات. وجرى التسامح مع ذكريات الاضطهاد والتعذيب فى ظل هذا الحنين. وبدأت مشكلة التعارض فى الموالاة . هل هى للوطن الذى لا تزال ذكراه حية ، وللأهل مهما كانوا ظالمين ، أم للدين ؟. ونزلت آيات القرآن تضع تحديدا للموالاة فى الاسلام، وكيف أنها ليست ضد أشخاص المعتدين ولكن ضد الاعتداء كفعل إجرامى يقع منهم ، وأنها ليست مع أشخاص المؤمنين ولكن مع صفات الايمان من قيم عليا وأخلاق مثلى.
وهذا يستدعى شرحا قرآنيا.
الموالاة والتبرؤ فى الاسلام تتعامل مع صفات وليس مع أشخاص
الواضح من القرآن الكريم أن الخصومة التى تستوجب الموالاة تكون فقط ضد ما يقترفه الشخص من عدوان فإذا كف عن العدوان انتهت الخصومة. أى أن الخصومة ليست ضد الإنسان الشرير ولكن ضد الشرور التى يرتكبها ذلك الإنسان . هذا ينطبق أيضا على قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه الظالمين ؛لقد تبرأ إبراهيم والمؤمنون معه من قومهم بسبب كفرهم واعتدائهم ، وقالوا أن هذا التبرؤ مستمر حتى يؤمنوا بالله تعالى وحده فإن آمنوا بالله تعالى وحده انتهى العداء والخصام. إذن هو عداء وخصام للإعتداء والكفر والظلم .
ونعطى المزيد من الأدلة من القرآن الكريم.
1ـــ إن التحديد جاء بالوصف وليس بالشخص . فالآية الأولى تخاطب - ليس الأشخاص حول النبى محمد – ولكنها تصفهم " بالذين آمنوا " وتصف الآخرين بأنهم أعداء الله واعداء الذين آمنوا ، لأنهم كذبوا بالقرآن وارتكبوا ظلما آخر هو إخراج النبى محمد والمؤمنين من ديارهم لمجرد أنهم اختاروا الإيمان بالله تعالى، وبينت أن عداءهم سيتطور الى اعتداء بالقتال ، ثم تلمح الآية السابعة إلى إحتمال توبتهم وعندها سيحل الود محل العداء. إذن هو عداء للفعل وليس للشخص .
2 ـــ ثم يأتى التشريع فى الآيتين الثامنة والتاسعة مرتبطا بفعل عدائى يبدأ بالقتال وطرد المؤمنين من بيوتهم وعليه تمتنع صداقتهم ، فإن لم يوجد ذلك الفعل المعتدى فإن الخلاف فى الدين لا يستوجب عداءا ، فطالما لا يقاتلون المسلمين ظلما ولا يخرجونهم من ديارهم فلابد من التعامل معهم بالود والبر والعدل.
3ـــ ولأنها خصومة وعداء لأفعال إجرامية وليس لأشخاص فى حد ذاتهم فإن المفترض فى المؤمنين أن يتحلوا بصفات الخير ، بل وعليهم أن يبايعوا النبى محمدا على التمسك بصفات الخير والإمتناع عن الوقوع فى الكفر والسرقة والزنا والقتل والبهتان وعصيان أوامر الخير. والنساء عليهن أيضا مبايعة النبى بذلك . وتختم السورة بالتأكيد على عدم موالاة اولئك الذين يرتكبون تلك الأفعال التى تستوجب غضب الله تعالى ( الممتحنة 12:13 ) .
إن أفظع جريمة هى قتل نفس مسالمة بسبب أنها اختارت دينا يحض على السلم والحرية، ويتضاعف الجرم حين يتحول القتل الفردى إلى قتل جماعى يقوم فيه المشركون جميعا بالهجوم على المؤمنين المسالمين ، هنا تبلغ الجريمة درجة الشناعة التى لا مثيل لها . وهذا ما وقعت فيه قريش حين طاردت المؤمنين بالقتل والقتال فى المدينة. ومع ذلك فلم تصل الموالاة إلى خصومتهم كأشخاص أو كراهيتهم كبشر ، ولكن ظلت الخصومة مرتبطة بما يرتكبون من جرائم، ولذلك فإن الله تعالى عرض عليهم الغفران إن تابوا وانتهوا عن العدوان، جاء ذلك بعد إعتداءات القرشيين على المؤمنين فى السنوات الأولى من الهجرة ( 2/ 192-193 ) ( 8 / 38: 39 ) ولم يرتدعوا. ثم تكررالعرض عليهم بالكف عن القتل والقتال بعد فتح مكة وعودة أئمة الكفر إلى عدوانهم فنزلت سورة " براءة " تتبرأ منهم وتعطيهم مهلة للتوبة والغفران وتؤكد إنهم إذا تابوا فسيبصبحون أخوة للمؤمنين ( 9 / 5 ، 11 )
4 ـ ولأن الخصومة والموالاة لا تتعامل مع أشخاص بل مع صفات متغيرة تقبل الزيادة والنقص لدى البشر جميعا فهناك حالات مختلفة تتطلب أحكاما مختلفة:
* فهناك مشرك كافر بالله تعالى ولكنه مسالم مأمون الجانب. هذا يجب التعامل معه بالبر والإحسان ، طبقا لما جاء به فى الأيتين ( 8 ،9 ) من سورة الممتحنة.
* وهناك مشرك كافر فى عقيدته . ولكنه فى سلوكه يقتصر على الإستهزاء بآيات الله تعالى دون الإعتداء الجسدىعلى المؤمنين. هنا تأتى الخصومة معه فى حدود الإعتداء الذى يقوم به، ويكون التشريع هنا بنهى المؤمنين عن الجلوس معه حين يستهزىء بالله تعالى وآياته ، فإذا تحدث فى موضوع آخر فلا بأس بالجلوس معه . أى ليس التشريع بكراهيته كشخص وليس بإجتنابه تماما وليس بمنعه عن الحديث ومصادرة حريته فى الإيمان والكفر ، ولكن فقط بالإبتعاد عنه حين يستهزىء بالله تعالى ( 70 / 42 ) ( 43/84 ) ، ( 6/68 ) ، (4 ،140 ) .
* وهناك مشرك كافر فى عقيدته ومجرم قاتل يسفك دماء المسلمين المؤمنين ويطردهم من ديارهم ويطاردهم فى الأماكن الأخرى التى لجأوا إليها . هذا الصنف الذى جاوز الحدود يجب المنع من إبداء أى مودة له لأنه أعلن الحرب على الله تعالى ، فإذا وصل الإجرام إلى القتل والقتال واخراج المسلمين من ديارهم والإستمرار فى هذا البغى فلابد من قطع كل صلات المودة .( 58 /22 )
ولقد نزلت سورة الممتحنة فى أوائل استقرار المسلمين المهاجرين فى المدينة ، وقبل بدء هجوم مشركى قريش عليهم ؛نزلت تهيىء المؤمنين لما سيحدث ، وتنهاهم عن موالاة المشركين لأنهم - حتى هذه اللحظة – كفروا بالله تعالى واخرجوا النبى والمؤمنين من ديارهم ، وتخبرهم أن عداء المشركين لهم سيظهر حين يبدأ المشركون فى القتال . وهذا ما حدث فعلا، وتحمل المسلمون الأوائل هجوم القرشيين عليهم فى المدينة ، والمسلمون مستسلمون لا يدافعون عن أنفسهم ، الى أن نزل لهم الاذن بالقتال ، وكان من حيثياته أن أولئك المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم ثم قاتلوهم معتدين . ( 22 / 39 : 40 )
وقد استمر هذا الاعتداء ودارت حملات عسكرية بين المشركين والمؤمنين وتكرر نفس النهى عن موالاة المشركين العرب المعتدين ، والنهى عن مودتهم طالما يحاربون الله ورسوله حتى وإن كانوا من الآباء والأبناء والأقارب والأهل والعشيرة ( 58 / 22 ). واستمر هذا النهى إلى أواخر ما نزل من القرآن فى سورة التوبة ( 9 / 23 : 24 ). وحين تحالف كبار المنافقين مع زعماء اليهود والنصارى من قبائل العرب فى الجزيرة العربية نزلت آيتان فى النهى عن موالاة أولئك اليهود والنصارى وتعيب على المنافقين ذلك التحالف السرى بينهم وبين اولئك المعتدين ( 5/ 51 : 52 )
* وهناك مسلم بعقيدته ولكنه يعصى ويقترف الإجرام والعصيان . وهذا الصنف موجود فى عصرنا وقبل عصرنا ، وقد كان موجودا فى عصر النبى محمد عليه السلام، وقد أمره الله تعالى بأن يتبرأ ليس من أولئك العصاة وإنما من أفعالهم الإجرامية فقط ، يقول الله تعالى(واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون )( 26 /215 :216 ) لم يقل فإن عصوك فاضربهم ، ولم يقل فإن عصوك فتبرأ منهم وإنما أمره تعالى أن يتبرأ من أفعالهم الإجرامية فقط وليس له أن يتبرأ من أشخاصهم .
5 ـ ولأنها صفات بشرية فهى صفات متغيرة تزيد وتنقص حسب رغبة الإنسان فى إصلاح نفسه أو إستسلامه لغرائزه وأطماعه .
إن الله تعالى قد خلق النفس البشرية وألهمها الفجور والتقوى وجعل الإنسان مسئولا عن اختياره الفجور أو التقوى، واختياره الفجور معناه الهبوط بأفعاله إلى الجرائم ، كما أن إختياره التقوى يعنى الفوز والسمو الخلقى ( 91 /7 : 10 ) والتقوى خشية الله تعالى فى العقيدة والسلوك، وخشيته تعالى فى العقيدة بمعنى أن لا تعبد سواه وخشيته فى السلوك بمعنى طاعته فى عمل الصالحات والإبتعاد عن الجرائم والآثام .
ولأن الإنسان ليس معصوما من الخطأ ولأن نفسه قد ألهمت الفجور والتقوى فإن إيمانه يزيد وينقص وأعماله تتراوح بين الطاعة والمعصية وبين الوقوع فى الجريمة والتوبة منها أو الاصرار عليها والتفاخر بها. وهذا التدرج والتغيرينعكس على موضوع الموالاة وقد رأينا تدرج موقف المشركين من مجرد الشرك العقيدى دون الشرك السلوكى ثم تدرج الإعتداء من مجرد الإستهزاء بالله تعالى وآياته إلى إعتداء يصل إلى القتل والقتال ،ومن الطبيعى أن يتدرج الولاء والتبرؤ تبعا لذلك .وقد كان للظروف الخاصة للعرب وثقافتهم القبلية ( نسبة للقبيلة )أثره فى موضوع الموالاة .
وقد سبق القول بأن إنتماء العربى لقبيلته ونسبه وأهله كان أوثق ما يكون فى غياب الدولة والوطن بالمعنى المألوف حيث حلت القبيلة محل الوطن والقومية ، ومن هنا كان التحلل من هذا الإنتماء القبلى لصالح الإنتماء للدين صعبا على المؤمنين الأوائل وكان الأمر بإجتناب المشركين والإبتعاد عنهم فى مكة عسيرا على النبى وأصحابة المؤمنين، ولذلك كان يتكرر الأمر دليلا على أن الأمر الأول لم يتم تنفيذه فاحتاج الأمر لتكراره .
ونعطى أمثله :
* فى البداية كان المشركون يجتمعون للسخرية من القرآن فى حضور النبى محمد عليه السلام فنزلت عليه آية تامره ان يبتعد عن المشركين حين يخوضون فى آيات الله متلاعبين مستهزئين. لم ينفذ النبى محمد الأمر فنزلت نفس الآية فى سورة أخرى بنفس الكلمات ( 70 /42 ) ( 43 /83 ).
ومع نزول الأيتين فى فترتين متلاحقتين إلا أن النبى محمدا لم ينفذ الأمر فظل يحضر مجالس المشركين وهم يتلاعبون ويسخرون من القرآن الكريم ، فنزل تحذير شديد يقول له أنه إذا رآهم يخوضون فى آيات الله ويستهزئون بها فلابد أن يعرض عن الذين يقومون بذلك ولا يجالسهم حتى يخوضوا فى حديث غيره ، وأنه إذا أنساه الشيطان هذا الأمر الإلهى وتذكر فعليه ألا يجالس هؤلاء القوم الظالمين ( 6 / 68 )
وهاجر النبى محمد والمؤمنون الى المدينة، ونشأ تخالف بين المنافقين والمعتدين اليهود والنصارى المحيطين بالمدينة ضد المسلمين. والمنافقون داخل المدينة كانوا يعقدون مجالس علنية للاستهزاء بالله تعالى والقرآن فتوعدهم الله تعالى بالعذاب ( 9 / 57 : 58 ). وفى بعض مظاهر استهزائهم بالاسلام كانوا يتحينون أوقات الأذان للصلاة لدى المسلمين ليتندروا بالأذان ، وكان لهم أصدقاء من المسلمين يشهدونهم يفعلون ذلك ويوالونهم عليه يالسكوت دون الاعتراض أو الاجتناب ، لذا نزلت الآيات تمنع المؤمنين من حضور تلك المجالس وموالاة أصحابها ضد الاسلام .( 5 / 57 : 58 )
ومع ذلك فقد استمر بعض المنافقين فى حضور تلك المجالس غير آبهين بأوامر الموالاة والتبرؤ ، فنزلت فيهم آيات شديدة اللهجة تقول : (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) ثم يأتى السبب (الذين يتخذون الكافرين أولياء دون المؤمنين ) ثم يأتى التحذير صريحا وواضحا يذكر المؤمنين بما نزل من آيات سابقة تحذرهم من مجالس الإستهزاء وموالاة أصحابها ( وقد نزّل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره . إنكم إذا مثلهم. إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا) ثم بعد عدة آيات يكرر تعالى نفس النهى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) ثم يجعل المنافقين فى الدرك الأسفل من النار إلا إذا تابوا وأصلحوا وأخلصوا دينهم لله تعالى ( 4 / 138 : 146 ) .أى إن المنافقين إذا تابوا أصبحوا من المؤمنين؛ أى أنها موالاة لصفات الإيمان والعمل الصالح وبراءة وابتعاد عن الكفر بمعناه العقيدى ومعناه السلوكى أى ابتعاد عن الظلم لله تعالى والناس ، والإنسان الذى يقع فى الظلم يجب إجتنابه طالما يقع فى الظلم ويصمم عليه ، فإذا تاب عن الظلم فلا مجال لعدائه واجتنابه . وفى كل الأحوال فليس للدولة المسلمة أن تعاقبهم أو أن تصادر حريتهم . لأن حريتهم فى العقيدة وفى التعبير عنها مكفولة. وعليهم تحمل مسئولية ما يفعلون يوم القيامة. ولذلك كانت تنزل الآيات القرآنية تحذرهم من عذاب يوم القيامة ، ولا تطلب من النبى والمؤمنين إلا مجرد الابتعاد عنهم واجتنابهم حين يمارسون حريتهم فى الاستهزاء بالله تعالى ورسوله وكتابه.
الموالاة أساس فى جوهر الاسلام ومعناه السلوكى
أخلاقيات الإسلام تقوم على الإحسان فى القول والعمل والعدل فى التعامل مع الناس جميعاً. أما مع المخالفين فى العقيدة فلا بد من الصبر على الإيذاء والعفو والغفران إذا كانوا ظالمين بالقول واللسان، ولا بد من البر بهم والاحسان اليهم إذا لم يقاتلوا المسلمين ظلماً وعدواناً ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم. وعليه فإن هذا الإحسان والصبر والغفران فى التعامل مع المخالف فى العقيدة يؤكد على أن الموالاة فى تشريع الإسلام هى فى الحقيقة موالاة للسلام والأمن، خصوصاً وأن معنى الإسلام هو السلام فى التعامل مع الناس، وأن معنى الإيمان هو الأمن والأمان فى التعامل مع الناس، وأن معنى المسلم هو الذى يسلم الناس جميعاً من لسانه ويده، وأن معنى المؤمن هو الذى يطمئن إليه الناس أو هو المأمون الجانب. وعليه فإنه فى إطار الوطن الواحد والدولة الواحدة حيث يجب أن يعم السلام بين الطوائف والجماعات فإن الانتماء الذى يجمع أولئك الناس هو العيش فى سلام، خصوصاً فى إطار حرية العقيدة ومسئولية كل إنسان على ما يختاره من مذهب أو دين، وإرجاع الحكم لله تعالى يوم القيامة أو يوم الدين، والموالاة هى بين أولئك المسالمين جميعاً ضد المعتدين الظالمين أو الإرهابيين بتعبير عصرنا.
وهنا يرتبط تشريع الموالاة بالإسلام الظاهرى أو الإسلام فى التعامل بين الناس على اختلاف عقائدهم فكل إنسان مسالم هو مسلم مهما كانت عقيدته بوذياً أو قبطياً أو سنياً أو شيعياً أو ملحداً.. المهم أنه مسالم لا يعتدى على أحد ولا يجبر أحداً على اعتناق عقيدته، ومرجعنا جميعاً إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون.

الموالاة أساس التحرك الايجابى فى المجتمع المسلم
قلنا أن الإسلام فى التعامل الظاهرى هو السلام، وفى التعامل العقيدى القلبى مع الله هو الطاعة والانقياد لله تعالى. ومن السهل الحكم على أى مجتمع يعيش أهله فى سلام بأنه مجتمع مسلم، وهنا يمكن تطبيق كل قواعد الإسلام وشرائعه على أساس القسط والعدل بين الجميع والإحسان والشورى، مهما اختلفت العقائد والمذاهب.أما من حيث الإسلام بمعناه العقيدى الباطنى فذلك ليس منوطا بالدولة الاسلامية ، بل مرجعه لله تعالى يوم القيامة، ولذلك نزل تشريع الله تعالى بتهذيب الناس واقامة العدل وحفظ حقوق الأفراد او حقوق الانسان وتأجيل الحكم فى العقائد لله تعالى يوم القيامة.
إن الله تعالى وحده هو عالم الغيب وهووحده الأعلم بما تخفيه الصدور وهووحده الذى يملك الحديث عن عقائد الناس ومصيرهم يوم القيامة. وليس لأحد من البشر أن يأخذ لنفسه هذه الحق الالهى ، وإلا كان مدعيا للالوهية ، حيث لا اله مع الله ولا اله إلا الله . الله تعالى قد قسم كل البشر إلى ثلاثة أصناف، حسب الأعمال والنيات، وذلك مالا يعلمه ولا يحكم عليه إلا الله تعالى.
طبقا لما جاء فى القرآن الكريم فإن البشر جميعا سيكونون يوم القيامة ثلاث درجات حسب ايمان كل فرد وعمله : السابقون فى الايمان والعمل الصالح ، وأصحاب اليمين ممن توسط فى ايمانه وعمله الصالح وتاب بعد معصية توبة حقيقية، وهذان الصنفان معا فى الجنة ، ثم الخاسرون أصحاب الشمال ، وهم أصحاب النار( 56 / 7 : ـ ).
هذا ما سينطبق يوم القيامة على أهل الكتاب والمؤمنين بالقرآن. أهل الكتاب سيكونون يوم القيامة ثلاث درجات، أعلاهم المؤمنون السابقون، ثم المقتصدون المتوسطون، ثم فى النهاية الأكثرية الفاسقة. (5 / 66) (3 /110، 113: 115).وهو نفس التوصيف للمؤمنين بالقرآن: سابقون ، مقتصدون معتدلون ، وفاسقون(فاطر 32).بل هو نفس التقسيم لما يعرف تراثيا بالصحابة الذين عاشوا عصر النبى محمد عليه السلام وقابلوه وتعاملوا معه. : منهم السابقون ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم المنافقون الصرحاء والذين هم فى الدرك الأسفل من النار ومنهم من مرد النفاق وخدع النبى محمدا بتقواه وإخلاصه وهو أشد الناس حقدا على الاسلام ( 9 /97 ـ ) ( 4 / 136 ـ )
ولأن الله تعالى رب العالمين ورب الجميع، ولأن يوم القيامة (يوم الدينوية، يوم الدين) هو أيضاً للجميع فهى ثلاث درجات متاحة أمام الجميع حسب الإيمان والعمل وجوداً أو عدماً. وهم أحرار فى الاختيار، وكلهم إذا شاء وصل بإيمانه الحق وبعمله الصالح إلى الدرجة العليا ليسبق ويكون مقرباً من الله، وكل منهم إذا أراد وصل بكفره وظلمه إلى حضيض جهنم، يسرى ذلك على كل زمان ومكان، لأن الله تعالى رب كل زمان وكل إنسان وكل مخلوق فى كل مكان وزمان، ويسرى أيضاً على كل فرد فى مجتمع. ولهذا فإن المجتمع المسلم هو الذى يعيش أفراده فى سلام ووئام مهما اختلفت عقائدهم وأديانهم الأرضية. المطلوب منهم جميعاً أن يتنافسوا فى الاعمال الخيرية ليصلوا إلى أعلى الدرجات، مهما اختلفت مذاهبهم وشرائعهم السماوية. ومن هنا نفهم قوله تعالى عن المسلمين وأهل الكتاب ﴿لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (5 / 48) أى أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يكون لكل فريق منهاجاً ليختبر كل فريق فيما أنزله عليه من كتاب، والمطلوب هو التسابق فى الخير وليس التعصب، ثم فى النهاية مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون من عقائد. وما الذى يعنيه التسابق فى الخير بين أهل الكتاب والمسلمين وهم يعيشون فى مجتمع آمن وفى سلام ووئام؟ إن ذلك يعنى التسابق لخير المجتمع ورفاهيته ورعاية المحتاجين فى أبنائه، ويعنى أن يتسابق المسلمون فى إقامة كنائس للمسيحيين، ويتسابق المسيحيون فى بناء مساجد للمسلمين.
التسابق فى الخير بين أهل الكتاب والمسلمين يؤكده تعاون على البر والتقوى وتعاون ضد الاثم والعدوان أمر به الله تعالى.( 5 / 2 ) هذا التعاون على الخير ضد الشر هو التطبيق العملى للموالاة التى هى موقفف للدفاع عن الخير، والتبرؤ الذى هو موقف لمواجهة الشر. هذا التعاون بدوره يؤكده الايجابية الاسلامية فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتى تجعل المجتمع كله متحركا ينصح بعضه بعضا بالتمسك بالمعروف أى المتعارف عليه على أنه الخير والمثل العليا والابتعاد عن المنكر أى الذى ينكره الناس من الشر والبغى.
هذه الموالاة والانتماء للمثل العليا تحتاج الى عقد وميثاق والتزام ، حتى يمكن أن تتجمع قوى الخير فى مواجهة قوى البغى والاعتداء التى يمثلها الكفر ويقوم بها المعتدون أى (الذين كفروا ) . وكما أن الذين كفروا يتحالفون معا فى الاعتداء والبغى فلا بد للذين آمنوا أن يتحالفوا ضد هذا البغى ، حتى تقام للعدل والحرية والتسامح أوطان فى هذا العالم.( 8 / 73 )
ولذا جاءت سورة الممتحنة باشارة الى البيعة؛ بيعة النساء للنبى محمد عليه السلام.
البيعة، أو العهد والميثاق

سبق الإسلام فى تعريف الدولة بأنها عقد بين الفرد والنظام الحاكم، وأن هذا العقد يستلزم التزامات معينة من الفرد مقابل قيام الدولة برعاية الفرد وحمايته .
وردت فى السور التى نزلت فى المدينة إشارات إلى وجود عقد أو ميثاق أو عهد بين افراد المسلمين والنبى يتضمن تعهد كل فرد بطاعة القائد وهو النبى محمد عليه السلام ؛ ليس طاعته كشخص وفرد ولكن طاعة القيم الأخلاقية المنبثقة عن إلايمان الحق بالله تعالى واليوم الآخر، تلك هى البيعة العامة . ثم هناك بيعة خاصة طارئة مؤقتة تستلزمها ظروف المواجهة العسكرية حين يتعرض المجتمع المسلم إلى هجوم لابد من صده ، وحينئذ يتطلب الأمر بيعة خاصة للإلتزام بالدفاع عن الدولة.وفى كل الأحوال ( البيعة العامة والبيعة الخاصة ) فإنها بيعة لله تعالى ؛ فمن يبايع النبى – أو القائد – إنما يبايع الله ، أى يلتزم أمام الله تعالى بالوفاء بالعهد والميثاق . وبالتالى فإن ضميره الشخصى هو الرقيب عليه فى مدى هذا الإلتزام بهذا العهد، أى أنه مسئول أمام الله تعالى يوم القيامة فقط فى مدى وفائه بهذا العقد أو العهد أو الميثاق أو البيعة.وفى كل الأحوال أيضا فإن تلك البيعة العامة والخاصة تشمل الرجال والنساء معا بما يعنى المساواة بين الرجل والأنثى .
ذكرت روايات السيرة النبوية أن النبى محمدا عقد معاهدة سرية مع وفد من المدينة قبل الهجرة ،وعقد معاهد أخرى مع وفد أخر فى العام التالى إلا أنها لم تذكر عقد معاهد عامة مع أهل المدينة . القرآن الكريم فى تعليقه على تباطؤ أو تخاذل بعض المؤمنين فى الوفاء بهذا العقد كان يذكرهم بالعهد الذى التزموا به .
الإيمان له معنى عقيدى هو الإيمان بالله تعالى ورسوله وله معنى سلوكى هو اختيار السلام والأمن والسكون والإبتعاد عن المشاكل ،وقد كان معظم من آمن من المستضعفين الذين اختاروا الأمن والأمان سلوكا مع بقاء عقيدتهم على المعتقدات المتوارثة بشكل مخالف للعقد الذى عقدوه مع الله تعالى . تلك المعتقدات المتوارثة المخالفة للإسلام كانت تؤثر على التزاماتهم فى الجهاد بالنفس والمال، إذ كانوا مطالبين بالإنفاق فى سبيل الله فيبخلون ، وكانوا مطالبين بالدفاع ضد عدو يعتدى فيتثاقلون تمسكا بالهوان وبالسلام السلبى مع عدو لا يجدى معه إلا دفع إعتدائه بالدفاع الصلب .
فى أوائل السور المدنية نجد القرأن الكريم ينهى المؤمنين عن خيانة الله ورسوله ، وخيانة العهد والأمانة ، ويأمرهم بالإستجابة وطاعة رسول الله ( 8 / 24 : 27 ) وتعبير الخيانة للعهد يعنى وجود عهد قائم بين الله تعالى والمؤمنين وأنهم لم يقوموا بالإلتزام بهذا العهد .
وفى أواخر السورة المدنية يتكرر الأمر للمؤمنين بطاعة الله ورسوله وأن يواجهوا إعتداء المشركين ، ليس بالوهن والإستسلام والحرص على حياة ذليلة وإنما بالدفاع البدنى والإنفاق المالى فى المجهود الحربى ، وإن لم يفعلوا فمصيرهم إلى الإستئصال ،وعندها يأتى رب العزة بمؤمنين آخرين خيرا منهم ( 47 / 32 : 38 )
كان البخل شائعا بين هذه النوعية من المؤمنين وترتب عليه أن توعد الله تعالى بالعذاب اولئك الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وذلك بعد أن كررلهم أوامر العهد والميثاق وهى عبادة الله وحده لا شريك له والإحسان للوالدين والأقارب واليتامى والجيران وأصحاب وأبناء السبيل والرقيق ( 4 / 36 : 37 ) وفى مواجهة ذلك البخل ونسيان العهد والميثاق والبيعة ينزل القرآن يذكر المؤمنين بالإيمان بالله تعالى ورسوله والإنفاق فى سبيل الله ثم يعيب عليهم أنهم لا يؤمنون قلبيا وعقيديا بالله تعالى وحده ، مع استمرار دعوة الرسول محمد عليه السلام لهم بأن يكون إيمانهم بالله تعالى وحده إلها، وبرغم أنهم عاهدوا الله تعالى ورسوله على ذلك الا أنهم كانوا ينسون مما يستدعى تذكيرهم وتأنيبهم ( 57 /7 : 8 )
وفى أواخر ما نزل من القرآن يتكرر نفس الموضوع فى تذكيرهم بالميثاق الذى عقدوه يوم بيعتهم ، وكيف أنهم قالوا سمعنا وأطعنا مع أن قلوبهم لم تكن مخلصة . ويحذرهم الله تعالى بأنه يعلم خفايا الصدور . ( 5 /7 )
هذا العهد والميثاق أو البيعة العامة كانت لكل فرد يدخل فى إطار الدولة الإسلامية . وخلافا لما اعتاده العرب وما اعتادته ثقافة العصور الوسطى أعطيت المرأة نفس حق المواطنة الايجابية وحق المشاركة السياسية فى الدولة الإسلامية، فقد كان عليها أن تبايع نفس المبايعة ، وتضع يدها على يد النبى تعطيه البيعة. وهذا ما جاء فى سورة الممتحنة ( 60 /12 ) .
ولأنه أمر جديد لم يكن معروفا من قبل فإن الخطاب نزل للنبى محمد يوضح كيفية بيعة النساء للنبى ، فالمؤمنات إذا أتين مهاجرات ليصبحن مواطنات فى الدولة الجديدة فعليه أن يبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يقعن فى بهتان ولا يعصين النبى فى معروف ، فإذا بايعن النبى على هذه البنود فعليه أن يستغفر لهن الله على ما سبق من ذنوبهن، لأنهن قد دخلن فى مرحلة جديدة من حياتهن. وهذا ما ينطبق على الرجال أيضا. .
والواضح أن كل بنود البيعة للمؤمنين والمؤمنات تتلخص فى تطبيق الإسلام والإيمان فى العقيدة وفى السلوك . تطبيق الإسلام فى العقيدة بعدم الوقوع فى الشرك والكفر ،أى بعدم الإعتقاد فى إله إلا الله الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والإيمان والإسلام سلوكا بمعنى طاعة الله تعالى فى التعامل مع البشر بعدم الإعتداء على حياة الأخرين وأعراضهم وأموالهم أى التمسك بالقيم العليا المتعارف عليها من العدل ومنع الظلم .
إذن بنود البيعة تتلخص فى طاعة الله تعالى ، وهنا تكون المساواة بين المسلمين جميعا بما فيهم النبى نفسه، فهم مأمورون جميعا بطاعة الله الواحد عز وجل الذى لا شريك له فى الملك. وعليه فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو تناصح بالتمسك بالقيم العليا المتعارف عليها والإبتعاد عن الرذائل المستنكرة من جميع الناس، وهذا التناصح يعنى أن ينصح كل مؤمن أخاه أو أخته ، وأن تنصح كل مؤمنة أخاها أو أختها. وهنا مساواة المؤمنين جميعا رجالا ونساء ؛ كلهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( 103 / 3 ) ،أى ليست هناك طائفة تأمر الأخرين ولا يأمرها أحد.ليس فى الاسلام طائفة تحتكر إصدار الأوامر وتضع نفسها فوق القانون أو فوق الجميع بقوة القانون.
وبالتالى فليس هناك طاعة لشخص أو لحاكم حتى لو كان النبى نفسه . فالأية تقول عن أحد بنود البيعة عن النساء " ولا يعصينك فى معروف " لو قالت الأية " ولا يعصينك " فقط لكان ذلك فرضا بطاعة النبى طاعة مطلقة. ومصطلح النبى يعنى شخص النبى محمد وعلاقاته بمن حوله، لذا كان العتاب واللوم يأتى بصفة النبى بينما الطاعة تأتى مرتبطة بالرسول والذى يعنى أيضا الرسالة والقرآن. ولأن النبى هنا هو شخص النبى محمد فإن طاعته كشخص مرتبطة بأن تكون فقط فى "معروف "، والمعروف هو المتعارف عليه من القيم العليا التى جاء بها القرآن والتى تجلت فى سائر بنود البيعة . وإذا كانت طاعة النبى محمد – وهو القائد – مرتبطة بالمعروف وليست له طاعة كشخص ، فإنه لا يجوز لأى شخص أن يطلب من المؤمنين طاعته دون قيد أو شرط. ولذلك فقد اشتق الفقهاء المسلمون الأحرار قاعدة سياسية تقول " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " أى لا يصح الطاعة إلا فى إطار طاعة الله تعالى وحده ، فالمطاع هو الله تعالى وحده، ومن يطع القرآن ـ أو الرسالة الالهية الخاتمة بعد موت الرسول محمد ـ فقد أطاع الله تعالى ( 4 /80 ) وكل من يأمر بما جاء فى القرآن فيجب طاعة ما ينطق به من القرآن ، وليس طاعته هو كشخص. وهذا معنى الأمر بطاعة الله ورسوله وأولى الأمر، ( 4 / 59 ) ليس هنا تثليث ،أو عبادة لله والرسول واولى الأمر، بل أن طاعة ولى الأمر وطاعة الرسول فيما يقال من أوامر جاءت من الله تعالى فى كتابه الكريم ونطق بها الرسول وبلغها ، ثم يقوم على رعايتها أولو الأمر. وإذا زاغ أحد منهم عن أوامر الله تعالى فلا طاعة له ، بل يجب اعلان العصيان لأمره وتوضيح أنه يأمر بما يخالف القرآن ، حتى نبرىء دين الله تعالى من استغلال دينه العظيم من سوء الاستغلال والفساد والاستبداد. باختصار : إن البشر عليهم أن يطيعوا الله تعالى وحده ويحرم عليهم طاعة أمر يخالف تشريع الله تعالى ومبادئه .
يسرى هذا على البيعة العامة فى الدخول فى مواطنة الدولة الإسلامية كما يسرى على البيعة الخاصة التى تفرضها ظروف الحرب .
ليس فى الإسلام إكراه على فعل الطاعة . وليس فيه عقوبة يوقعها الحاكم المسلم فيما يخص حقوق الله تعالى من ايمان قلبى وعبادة . العقوبة لا تكون إلا فيما يخص حقوق الأفراد . وليس فى الإسلام إكراه على الجهاد أوالتجنيد. إن الجهاد بالمال واللسان والدعوة والنفس فريضة على كل مؤمن، وهو مسئول عن تأديتها أمام الله تعالى وحده يوم القيامة، وليس من سلطة الدولة المسلمة تجنيد الناس قسراأو سخرة كما تفعل بعض النظم فى عصرنا. وحين تثاقل المنافقون عن الدفاع عن المدينة واعتذروا بحجج واهية كان عقابهم الوحيد منعهم من الانضمام الى الجيش مستقبلا ( 9/83 ).
ولأنه ليس هناك تجنيد إجبارى للأفراد فإن مواجهة العدو المعتدى كان يحتاج إلى عقد أو عهد أو ميثاق أو بيعة بالإختيار الفردى . ولأن من بايع طوعا عليه أن يلتزم بما عاهد الله تعالى عليه إلا أن بعضهم كان فى وقت الشدائد يفر وينسى العهد والميثاق . فى غزوة الأحزاب حوصرت المدينة من كل الجهات بقيادة جيوش من عدة قبائل يقودها أبو سفيان الأموى ، فى مواجهة هذا الحشد والحصار كان لابد من المبايعة على الدفاع عن النفس والقوم والوطن والعقيدة ، وعندما اشتد الحصار ظهرت المواقف على حقيقتها ، منهم من ظهر نفاقه وجبنه فتخلى عن مواقعه الدفاعيه وبدأ ينشر التشكيك وهو يفر من مواقع المعركة ، وقد جعلهم الله تعالى مسئولين أمامه يوم القيامة على نكثهم للعهد،ولكن ليست عليهم مساءلة فى الدنيا وليست للدولة أن تعاقبهم ( 33 / 15 ). فى المقابل هناك من المؤمنين من وقف موقفا بطوليا رجوليا. وجزاؤهم الحسن ينتظرهم يوم القيامة. ( 33 / 23 : 24 ) .
فى موقف أخر خرج النبى محمدا بأصحابه للحج فى البيت الحرام ، ليس معهم سلاح إلا سلاح المسافر، كأنهم يرفعون الراية البيضاء دليل المسالمة؛ خرج عليه السلام مسالما ، فمنعته قريش من الدخول ، وتأهبت لحربه وأرسل النبى بعض أصحابه للتفاوض فاحتجزوهم ، وأشيع أن قريش قتلتهم وأنها على أهبة الإستعداد على الهجوم علىالمسلمين واستئصالهم . كان موقفا دقيقا استدعى من النبى أن يطلب من المؤمنين معه أن يبايعوه على القتال والمواجهة والصمود ، فليس أمامهم طريق آخر. وتحت الشجرة جلس وجاء كل فرد يبايعه على الصمود والقتال ،وكالعادة تكون البيعة لله ورسوله . هذا الموقف البطولى أخاف قريش فأحجمت عن هجومها ولجأت للتفاوض السلمى . ونزلت آيات القرآن تعتبر ذلك نصرا ، وتؤكد أن أولئك الذين بايعوا النبى محمدا إنما كانوا يبايعون الله تعالى ، وكل منهم مسئول عن تنفيذ ما التزم به أمام الله تعالى ، ومن يوفى منهم ببيعته فسيكون جزاؤه عظيما عند الله تعالى ، وتؤكد آية أخرى أن الله قد رضى عن الذين بايعوا النبى تحت الشجرة ، وقد اطلع على الإخلاص الذى عم قلوبهم فى هذه اللحظة الحرجة فزادهم سكينة وثقة وكافأهم بنصر قادم آت ، وكان هذا النصر هو فتح مكة سلميا بعدها. ( 48 / 10 ،18 )
هذا هو مفهوم البيعة فى الاسلام، وذلك كان تطبيقه فى عهد النبى محمد عليه السلام.
تغير هذا كله بالتدريج فى تاريخ المسلمين بعد وفاة النبى محمد عليه السلام .
حوصر المسلمون بعد وفاة النبى بحركة الردة، حيث تجمع الأعراب ( أشد الناس كفرا ونفاقا )حول المدينة يريدون الهجوم عليها فى ذلك الوقت الحرج ، فكان لابد من القيام بالبيعة لقائد يقوم بالأمر فتم اختيار أبى بكر وما لبث أن مات أبو بكر وقد دخل المسلمون فى حرب جديدة ضد الفرس والروم . واستلزم الوضع الجديد البيعة لقائد جديد بعد ابى بكرفكان عمر . وبالفتوحات دخل المسلمون فى عهد جديد تناسوا فيه جوهر الإسلام ( العدل وحرية الرأى والفكر ) فكان لابد من نسيان البيعة بالمفهوم القرآنى فتتحول من بيعة لله تعالى تقوم على أساس طاعته وتنفيذ أوامره ويكون تطبيقها منوطا بضمير المسلم نفسه إلى بيعة خضوع لحاكم مستبد ليحكم مستبدا طيلة عمره دون رقيب أو حسيب ، وطبقا لتلك البيعة تجب طاعته طاعة مطلقة ، مهما استأثر بالحكم والسلطان والثروة . وهذا ما بدأ فى الدولة الأموية ولا يزال ساريا فى بعض دول المسلمين حتى الأن .

وعلى هامش الموالاة فى سورة الممتحنة نفهم بعض المصطلحات التى وردت فى السياق القرآنى
الكفر
تحدد الآية الأولى معنى الكفر، وهو نوعان: الكفر العقيدى والكفر السلوكى . الكفر العقيدى يعنى الكفر بالله تعالى ورسله وكتبه واليوم الأخر. الكفر السلوكى والذىعبرت عنه نفس الآية الكريمة بأنه إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم بسبب إيمانهم بالله تعالى .وعليه فإن الأكراه فى الدين والإضطهاد هو كفر سلوكى خصوصا عندما يتدرج فى الإكراه والإضطهاد إلى حد الإخراج من الديار والأوطان ثم القتال .

الجهاد :وفى نفس الآية يأتى معنى الجهاد مرتبطا بالهجرة فى قوله تعالى ) إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى) .كان يمكنهم البقاء فى مكة وتحمل الإضطهاد، وكان يمكنهم البقاء مع احتفاظهم بعقيدتهم سرا خشية العذاب، ولكنهم اختاروا الهجرة ابتغاء مرضاة الله تعالى .وهذا هو بعض معانى الجهاد.
إن الجهاد يعنى بذل الجهد فى سبيل الله تعالى؛ قد يكون بذل الجهد هجرة كما فى الأية الكريمة ، وقد يكون بالدعوة السلمية بالقرآن الكريم وهو الجهاد الكبير، كما جاء فى القرآن الكريم ( 25 / 52 ) وقد يكون بذل الجهد ببذل المال وبذل النفس فى الدفاع ضد المعتدين ( 8 / 72 ) ، وفى حالة الهجرة والإضطرار للدفاع ضد عدو كافر فلابد من أن يوالى المؤمنون بعضهم بعضا ضد العدو المشترك الذى يهاجمهم ، أما أولئك المؤمنون الذين يقوا فى دار العدو فليس هناك فرصة لموالاتهم إلا إذا هربوا من ذلك البلد وهاجروا إلى دولة المؤمنين فبذلك يكون فى إستطاعة المؤمنين الدفاع عنهم بعد موالاتهم للمؤمنين بالهجرة إليهم.
فإذا تعرضوا وهم فى دار العدو إلى إضطهاد كبير وطالبوا بنجدة المؤمنين فعلى المؤمنين نجدتهم إلا إذا كانت هناك معاهدة عدم إعتداء بين المؤمنين وأولئك المشركين ( 8 / 72 ) .
التأسى والإقتداء
تعرضت الآيتان (4 ، 6) من سورة الممتحنة لقضية التأسى أوالإقتداء. وواضح فيها أن التأسى ليس بشخص حتى لو كان هذا الشخص هو النبى إبراهيم عليه السلام، ولكنه التأسى بموقفه، والموقف هنا حين أعلن إبراهيم والذين معه تبرأهم من أقاربهم المشركين . ونفس الموضوع حين أمر الله تعالى المؤمنين بالتأسى بالنبى محمد وشجاعته فى غزوة الأحزاب ( 33 / 21 ) وهو أيضا نفس المعنى حين أمر الله تعالى محمدا بأن يتأسى بهدى الأنبياء السابقين ، فالهدى هنا هو الوحى الذى نزل عليهم ، وبنفس الوحى نزل القرآن ( 6 / 88:90 ) ، ( 4 / 163 ) ، ( 39 / 65 ) ، ( 41 / 43 ) ، ( 42 ، 13 ) .

وعلى هامش الموالاة فى سورة الممتحنة نفهم بعض الملامح التشريعية:

زواج المسلم بالكافرة المشركة وزواج المسلمة بالكافر المشرك

فى القرآن الكريم نوعان من الخطاب :خطاب التشريع وخطاب العقائد. الخطاب العقيدى هو خطاب خاص بالله تعالى وحده الذى يعلم ما فى القلوب والذى يحكم بين الناس يوم القيامة. هذا الخطاب لا مجال له فى تطبيق التشريعات الاسلامية الدنيوية الخاصة بتعامل البشر فيما بينهم . على سبيل المثال فان الله تعالى يصف أكثرية البشر بأنها لا تؤمن مهما بلغ حرص النبى على هدايتها ، وحتى لو آمنوا فإن ايمانهم هو مختلط بالشرك (12 / 103 ، 106). هذه حقيقة نلمسها فى التدين العملى لأغلبية البشر خصوصا أكثرية المتدينين تدينا ظاهريا سطحيا، فهم لا يؤمنون بالله إلا ومعه تأليه غيره من البشر والحجر ، أى لا بد أن يجمعوا بين تقديس الله تعالى وتقديس غيره من الأنبياء والأئمة والأحبار والرهبان والأولياء.، وهذا ما كان قبل القرآن الكريم واستمر بعده حتى بين المسلمين الذين يقدسون فى أديانهم الأرضية آلاف البشر بدءا من النبى محمد وأصحابه والأئمة والأولياء ، بل ويحجون الى آلاف القبور المقدسة ويقدسون الألوف من الجثث التى تحولت الى تراب وعدم. هذه الحقيقة العقيدية لا يمكن عمليا تطبيقها فى الزواج وإلا تحولت مؤسسة الزواج الى محاكم تفتيش على العقائد والسرائر وما تخفيه القلوب. إن الله تعالى يؤكد أن أكثرية البشر مشركون فهل يعنى هذا أن نحرم الزواج بأكثرية البشر؟ ثم هذه الأقلية التى تعتبر نفسها هى المؤمنة وحدها لا بد أن تختلف فى عقائدها وآرائها وتنقسم وتتفرع وبالتالى تتكاثر التحريمات وتتضاءل امكانات الزواج (العقيدى ). إن تطبيق هذا الخطاب العقيدى فى الدنيا سينشر الظلم وسيدمرالزواج.
هذا الخطاب الالهى الخاص بالعقائد سيطبقه الله تعالى يوم القيامة بعد أن يتحدد مصير كل إنسان حسب عمله وإيمانه وعقيدته ومدى أخلاصه فى الطاعة أو مدى إنغماسه فى المعصية . ليس لنا أن نتعامل فيما بيننا فى هذه الدنيا وفق ذلك المقياس الإلهى لأن تحديد المشرك لا يكون الا بعد ان تنتهى حياة الانسان بخيرها وشرها وتحولاتها العقيدية والسلوكية من طاعة ومعصية وتوبة. بعد الموت يقفل كتاب أعمال الانسان ويتحدد مصيره وفق عمله واعتقاده. هذا كله من تخصص الرحمن جل وعلا، ولن يكون الفصل فيه إلا يوم القيامة، حيث يحكم بيننا رب العزة فيما نحن فيه مختلفون. أما فى هذه الدنيا فإن كل إنسان يظن نفسه على حق ويتهم خصومه بالكفر. ولا يصح أيضا تطبيق هذا الخطاب فى تكفير الأشخاص الأحياء المختلفين معنا فى العقائد ، لأننا خصوم فى مجال العقيدة ، ولا يصح أن يكون أحدنا خصما للأخر وحكما عليه فى نفس الوقت ، ولأننا جميعا فى مجال العقائد مختصمون فمرجع الحكم علينا جميعا هو الله تعالى يوم القيامة ( 22 / 19 ) وإلى أن يأتى هذا اليوم ينبغى أن نعيش فى سلام وأمن وعدل ، وبالتالى يكون تعاملنا حسب الظاهر فالمؤمن هو المأمون الجانب والمسلم هو المسالم بغض النظر عن عقيدته ورأيه فى الله تعالى والألوهية ، والكافر هو المعتدى الظالم الذى يصل ظلمه إلى القتل والقتال للمسالمين الآمنين الذين لم يبدءوا بالقتال. وفى مجال التعامل البشرى يمكن لنا بامكاناتنا البشرية الحكم على سلوكيات الناس، فالمجرم واضح حين ثبوت الجرم عليه، والكافر المعتدى القاتل واضح وقوعه فى الكفر السلوكى بما ارتكبه من جرم .
هذا الكافر المشرك بالسلوك الإجرامى هو الذى يحرم تزويجه أو الزواج منه. لذلك نزلت بعد الهجرة أية سورة الممتحنة لتضع التشريع المناسب ؛ فالزوجة المؤمنة التى تركت زوجها الكافر وهاجرت إلى دولة الإسلام لا يحل لها أن تستمر فى الزواج بعد ذلك مع هذا الكافر ، ولا يصح أن ترجع إلى عصمته لأنه لا يحل لها ولا تحل له . وفى المقابل فأن المؤمن الذى فارق زوجته الكافرة التى رفضت أن تصحبه ، عليه أن يفارقها ويطلقها ( 60 / 10 ). وبهذا التشريع أمكن رسميا تطبيق الانفصال القائم فعلا بين زوجين يستحيل تواجدهما تحت سقف واحد. وحتى لو كانا فى فراش واحد وكلاهما مخلص لعقيدته قد وهب نفسه لها ويتصرف دفاعا عنها بكل ما يستطيع فإن فراش الزوجية بهذا المعنى يتحول الى ساحة قتال، وليس الى بيت للسكن والراحة والألفة والوئام بين الزوجين، لذا فالأفضل لهما الانفصال ليتزوج كل منهما بمن يوافقه فى عقيدته وميوله السلمية أو الاجرامية. هذا ما نفهمه من سورة الممتحنة.
وتأكد هذا التشريع بأية أخرى تمنع ان يتزوج مشرك بمؤمنة حتى يتوب عن اعتدائه ويرجع عنه ، وتمنع أن يتزوج مؤمن بمشركة حتى تمتنع عن الإعتداء ( 2 / 221 ) والملاحظ هنا هو قوله تعالى " حتى يؤمنوا " وبالطبع لا يمكن هنا الحكم على العقائد حيث أن محلها القلب إنما لنا الحكم على السلوك الظاهرى فإذا آمن أحدهم بمعنى عاد إلى الإستقامة الظاهرية مبتعدا عن الإجرام والإعتداء فقد صار مؤمنا حسب سلوكه ، وحينئذ يمكن له أن يتزوج مؤمنة مسالمه مثله ويمكن لها أن تتزوج من مؤمن مسالم مثلها.
ونفس الحال مع أهل الكتاب ، فطعامهم حلال للمسلمين وطعام المسلمين حلال لهم ، وحلال لهم أن يتزوجوا من المؤمنات المسلمات وحلال للمؤمنين أن يتزوجوا من نسائهم طالموا كانوا مسالمين ومسالمات ، وطالما جرى الزواج شرعيا بمهر وعقد شرعى ( 5/5 ).
الفهم التراثى لهذه الآية يحاول تعطليها بادعاء انها تخص أهل الكتاب السابقين ولا تنطبق على أهل الكتاب اليوم. وهذا خطأ فاحش، فأحكام القرآن على أهل الكتاب والمؤمنين سارية فى كل زمان بعد نزول القرآن الكريم طالما لا يأتى فى النص القرآنى ما يؤكد قصر التطبيق على وقت معين. أكثر من هذا فيما يخص موضوع الزواج بالذات فإن التشريع القرآنى لا يدع حالة فرعية استثنائية محدودة إلا وقد وضع لها حكما خاصا بها حتى مع العلم بأنها حالات محدودة غير قابلة للتكرار طبقا لتشريع القرآن نفسه. نحن نتحدث هنا عن تحريم القرآن الكريم الزواج ممن تزوجها الأب ، وتحريمه الجمع فى الزواج بين أختين. كان هذا معروفا قبل نزول التشريع القرآنى فى الزواج . ونزل التشريع القرآنى يحرمه، ولكن لا يطبق الحكم بأثر رجعى ، اى لا ينطبق الحكم على من سبق له الزواج ممن تزوجها أبوه أو ممن جمع بين أختين، فقال ( إلا ما قد سلف ) ( 4 / 22: 23 ). هى حالات محدودة محصورة بوقتها ولكن ذكرها القرآن الكريم ، فإذا كان تشريع الزواج من أهل الكتاب يسرى على عصر نزول القرآن فقط حسبما يقول فقهاء الدين السنى فلماذا لم ينص القرآن على ذلك ؟
و( المعتدلون ) من فقهاء التدين السنى يقولون ان تشريع الزواج من أهل الكتاب يعنى أن نتزوج من نسائهم فقط دون أن يكون لهم الحق فى الزواج من نسائنا. وهذا التشريع السنى يحمل فى طياته الاستعلاء المعهود الذى كان يمارسه المسلمون ضد غير المسلمين فى العصر العباسى وما بعده. هذا الرأى السنى يخالف جوهر الآية الكريمة لأنها تتحدث عن أن طعام أهل الكتاب حلّ لنا وطعامنا حل لهم، وأردفت نفس الحكم على الزواج ، أى فكما يحل لهم الأكل من طعامنا يحل لهم الزواج من نسائنا، وكما يحل لنا الأكل من طعامهم يحل لنا الزواج من نسائهم. هذا الرأى السنى أيضا يخالف الجوهر الأخلاقى للتشريع الاسلامى وهو العدل ، إن الله تعالى يأمر بالعدل والاحسان ( 16 / 60 ) ، العدل الاسلامى يمنع هذا التعالى الذى يجعل من حق المسلم أن يتزوج كتابية وفى نفس الوقت لا يكون من حق الكتابى أن يتزوج مسلمة.
وهناك ناحية أخرى فى سورة الممتحنة فى موضوع الزواج الذى يحدث فى ظروف طوارىء وتأزم علاقات بين معسكرين متحاربين أحدهما مسلم مسالم والآخر مشرك كافر معتد ظالم. فالمرأة المؤمنة المهاجرة لا بد من اجراء اختبار (أمنى ) لها ، ليس لاختبار عقيدتها ولكن لاختبار سلوكياتها السابقة وفق المتعارف عليه أمنيا حتى لا تكون جاسوسة للعدو. الآية تقول )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ) أى فالاختبار ليس للايمان القلبى الذى لا يعلمه الا الله تعالى ولكن للايمان السلوكى الذى يمكن للبشر معرفته . نفس الحال تكرر فى موضوع الزواج حيث يشترط فى الزوجة أن تكون مؤمنة ، ليس الايمان العقيدى ولكن الايمان السلوكى أى الأمن والأمان والسلم والسلام، يقول تعالى : وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) (4 / 25 )، أى إن الله تعالى هو الأعلم بايماننا العقيدى، ولكن المطلوب منا هو اختبار الايمان السلوكى الذى فى استطاعتنا التأكد منه. ونفس الحال فى تحريم الزواج من المشرك والمشركة والزانية والزانى . المشرك يعنى الذى لا يتوب عن سلوكه الاجرامى فى قتل الآمنين ويعتبر ذلك فرضا دينيا وجهادا وفق عقيدته. الزانى والزانية اى المدمن على الزنى دون توبة، إما بأجر أو بدون أجر. كلاهما يحرم تزويجه والزواج منه (24 / 3 ).
الخلاصة: إنه يصح للمسلمة أن تتزوج أى إنسان مسالم بغض النظر عن دينه الأرضى أو السماى طالما تمسك بالسلم والسلام والأمن والأمان. كما انه يحرم على المسلمة أن تتزوج الارهابى الباغى القاتل للأبرياء المسالمين. هذا يأتى وفقا لمعنى الاسلام والايمان والكفر والشرك.
مكانة المرأة :-
فى هذه السورة ملمح واضح يدل على مساواة المرأة بالرجل فى الحقوق والواجبات فى الإسلام حيث يحق لها المشاركة السياسية وحقوق المواطنة كالرجل إذ عليها أن تبايع الحاكم شأن كل رجل .مشاركة المرأة السياسية أكدها القرآن الكريم ليس فقط على المستوى التشريعى ولكن أيضا على المستويين التطبيقى والتاريخى .
على المستوى التطبيقى كان للمرأة ان تجادل النبى وتشكوله ولا تقتنع باجاباته فتدعو الله تعالى ان ينزل لها وحيا يحل مشكلتها فينزل الوحى يقول : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 58 /1). وكان مجتمع المدينة فى عصر نزول القرآن خلية نحل تموج بالحركة والنشاط، حيث أباحت حرية الفكر والعقيدة والتعبير والحركة السلمية المعبرة عن العقائد أن تتألف جماعات من المنافقين والمنافقات يتحركون معا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف فتقابلهم جماعات أخرى من المؤمنين والمؤمنات للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. (9 / 67 ، 71 )هذا والدولة الاسلامية فى عصر النبى محمد لا تتدخل فى منع هذا او تاييد ذاك لأن مهمتها هى كفالة الحرية فى العقائد والتعبير عنها بالطرق السلمية دون أن يقوم طرف باكراه الآخرين أو اضطهادهم فى الدين.
على المستوى التاريخى فقد جعل الله تعالى المثل الأعلى للمؤمنين فى كل زمان ومكان إثنتين من النساء هما السيدة مريم العذراء وزوجة فرعون ، كما جعل المثل الأسفل لكل الكافرين فى العقيدة والسلوك امرأتين أيضا هما زوجة نوح وزوجة لوط .( 66 / 10 ـ 12) . كما قص الله تعالى قصة ملكة سبأ ( 27 / 22 ـ 44)، وتكررت فى القرآن قصة فرعون موسى. والتدبر القرآنى ـ وهو فريضة منسية ـ يحمل المسلم على المقارنة بين إثنين من الحكام كلاهما تعامل مع نبى من الأنبياء بطريقة مختلفة، وفازت الحاكم الأنثى وخسر الحاكم الذكروأضاع عرشه وقومه. ليس المقصد هنا أن المرأة أفضل من الرجل فى مجال الحكم، ولكنها إشارة تاريخية الى أن إمرأة حكمت فكانت راشدة فى وقت يضل فيه أغلب الحكام الذكور. المقارنة هائلة هنا بين الاسلام والدين السنى . الدين السنى يجعل المرأة مخلوقا من ضلع أعوج يستحيل اصلاحه ، ويجعلها "ناقصة عقل ودين ".!! هل يصح أن يقال عن السيدة مريم عليها السلام أنها ناقصة عقل ودين بعد كل هذا المدح الذى قاله الله تعالى عنها فى القرآن الكريم؟
فى الحضارة الغربية لم يتم إعطاء المرأة حقوقها السياسية إلا مؤخرا ، ولكن الإسلام سبق الجميع فى ذلك. الإسلام لم يحرم على المرأة أى عمل حلال يقوم به الرجل ، ويسرى ذلك على الجهاد ، والدليل أن الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد هى أعذار تحدث للمرأة والرجل على حد سواء، فليس هنا حرج على الأعمى أو الأعرج أو المريض فى موضوع القتال الدفاعى فى الإسلام (48 / 17 ). هذه الأعذار تسرى هذا على الجنسين فى الذكر والأنثى . وحتى فى الصيام والحج كانت الشروط عامة للذكر و الأنثى ، بل أن الأمر يأتى بلفظ "الذين آمنوا " ، " يا بنى آدم " ، " يا أيها الناس " ليخاطب المرأة والرجل معا، وكل أمراة يشملها الأمر والنهى كالرجل تماما ، أكثر من هذا فإن النسق القرآنى فى تشريع الأحوال الشخصية من زواج وطلاق لا يذكر مطلقا لفظ زوجة وإنما يقول " زوج " دلالة على الزوج والزوجة ويأتى السياق يحدد المقصود بها. والمقصود هنا هو المساواة الكاملة من حيث التكوين بين الزوج الرجل والزوج الأنثى فكلاهما واحد من حيث الأصل والنشأة ، وكلاهما لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات طبقا للعدل . وهناك تفصيلات أخرى تأتى فى موضعها، وقد فصلنا القول فيها فى كتاب لنا لم ينشر عن تشريعات المرأة بين القرآن والفقه السنى.
هناك شيىء هام فى سياق آيات سورة الممتحنة يستلزم الإيضاح . هو حق المرأة فى السفر والهجرة وترك موطنها إلى حيث تريد طبقا لإختيارها العقيدى شأن الرجل تماما ، وهذا ما حققته المرأة فى عهد النبى محمد عليه السلام إذ هاجرت المؤمنات إلى الحبشة مرتين ثم مرة ثالثة إلى المدينة ، بعضهن كن عذاراى وبعضهن كن متزوجات هاجرن مع أزواجهن المؤمنين أو كن أزواج تركن أزواجهن المشركين . أى أن من حق المرأة فى الإسلام أن تهاجر إذا شاءت ، والهجرة أصعب أنواع السفر لأنه سفر يحتمل المطاردة والملاحقة . وبالتالى فان من حقها السفر العادى بمفردها ،وليس لزوجها الحق فى منعها إلا إذا كان هذا الحق للزوج منصوصا عليه فى عقد الزواج .هذا فى الإسلام .ولكن فى دين السنة تم حرمان المرأة من هذا الحق فمنعوها حتى من السفر إلا بإذن زوجها ، بل وجعلوا لها كفيلا – إذا لم تكن متزوجه ـ هو" المحرم " أى الذى يحرم عليها أن تتزوجه كالأب والابن والأخ والعم والخال ، أى اعتبروها شخصا غير كامل الأهلية، حتى لو كانت أما. وتخيل أن تربى الأم ابنها فاذا كبر أصبح آمرا ناهيا لها، يبلغ مبلغ الأهلية بينما تظل أمه مخلوقا ناقص الأهلية.
الدين السنى بذلك لم يظلم المرأة فقط بل ظلم معها الرجل ، فهى له الأم والأخت والزوجة والبنت . واذا كانت المرأة ناقصة الأهلية اجتماعيا ودينيا فليس من حقها المشاركة السياسية وليس لها من حق فى المواطنة المساوية للرجل. وبالتالى يكون من العبث الحديث عن حقها فى تولى الرئاسة فى الدولة.
هذا.. ولقد أثبتنا حق المرأة فى رئاسة الدولة الاسلامية فى بحث سالف.
من حق المرأة المؤهلة للإمامة أن تؤم الذكور فى الصلاة

فى المنامة عاصمة البحرين فى يوم19 ابريل2004 أوقفت الشرطة البحرينية في مسجد الفاتح سيدة تنكرت بزي إمام شقت طريقها بين الرجال، وقبل وصولها الى المنبر حيث أرادت أن تلقي خطبة، بحسب تعبيرها.

وفى نيويورك، الولايات المتحدة فى الخامس من مارس الحالى أمت امرأة أمريكية مسلمة صلاة الجمعة، وشارك في الصلاة رجال من الجالية المسلمة في نيويورك، رغم انتقادات حادة من قيادات مسلمة في الشرق الأوسط تقول إن ما فعلته يخالف العقيدة.

وكانت أمينة ودود، وهي أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة فرجينيا، أمت جموع المصلين في إحدى ضواحي منهاتن، وقالت ودود قبل بدء شعائر الصلاة إن "مسألة المساواة بين الرجل والمرأة أمر مهم في الإسلام، وقد استعمل المسلمون، وللأسف، تفسيرات تاريخية متشددة للعودة إلى الوراء."وأضافت "ونحن، من خلال هذه الصلاة، نتقدم نحو الأمام. فهذا العمل هو بحد ذاته تجسيد للإمكانات المتاحة في الإسلام.وشارك في الصلاة قرابة مائة شخص من الرجال والنساء.ونظم هذه الصلاة، عسرة نعماني، وهي كاتبة ومراسلة سابقة لصحيفة الوال ستريت.وقالت نعماني إن القصد من هذه الخطوة لفت الانتباه حول عدم المساواة التي تطال حياة المرأة الروحية، وجوانب أخرى من حياتها بشكل عام.وأضافت نعماني "نحن نطالب بحقوقنا كنساء مسلمات. لن تقبل بعد اليوم الدخول من الأبواب الخلفية أو البقاء في الظل. وسنكون في نهاية المطاف قياديات في العالم الإسلامي. وتظاهر عدد من المعترضين خارج المبنى حيث أقيمت الصلاة، إلا أن الشرطة أبعدتهم ومنعتهم من الدخول. ورفعت الآذان امرأة مسلمة أمريكية من أصول مصرية اسمها سهيلة العطار، ولم تكن مرتدية للحجاب. وقال أحمد ناصف، وهو مسؤول في مجموعة "Muslim Wake up "، إن المقصود من الصلاة هو إعطاء فرصة العبادة الروحية على قدم المساواة بين الرجال والنساء.أضاف "ليس الهدف أن نقول لباقي المسلمين كيف يقيمون صلاتهم، إلا أننا نحتاج لأن نكون منفتحين نحو الأفكار الجديدة."وفي رد فعل على إمامة المرأة، كتب شيخ الأزهر في صحيفة الأهرام المصرية إن الإسلام يبيح للمرأة أن تؤم نساء أخريات في الصلاة، وليس جمعا من المصلين من ضمنه رجال.وأضاف "لا يصح أن يرى الرجال جسد المرأة أمامهم، رغم أنهم يرونها في حياتهم اليومية، يجب ألا يكون ذلك في أثناء العبادة، حيث الأساس هو التواضع والتعبد."

حسنا...لنقل تعليقنا على هذا الموضوع.
أولا :

1- ما قاله شيخ الازهر هو الرأى السائد فى الفقه السنى.وبدلا من أن نرد عليه هو فقط سنرد أيضا على أئمته المقدسين الذين ينقل عنهم.
الامام مالك اقدم من دون فى الفقه والحديث لم يتعرض للموضوع اصلا فى كتابه "الموطأ. الامام الشافعى فى كتابه "الأم" هو أول من أصدر فتواه فى الموضوع .
عن صلاة الجمعة قال": ولا تجمع امرأة بنساء لأن الجمعة امامة جماعة كاملة، وليست المرأة ممن لها أن تكون امام جماعة كاملة." "الأم 1- 171 " أى لا تصح لأمرأة أن تقيم صلاة جمعة حتى لو كانت للنساء فقط لأنه ليست للمرأة ان تكون اماما لأى جماعة.
الشافعى لم يستدل بآية ولا حتى حديث من الأحاديث الكاذبة التى ملأ بها كتابه ، واكتفى باستدلال عقلى هو أنه لا يجوز للمرأة أن تكون أماما لجماعة كاملة. وهى عبارة ركيكة تحمل وجهة نظر ذكورية متحيزة، والرد عليه سهل من القرآن والتاريخ . القرآن الكريم ذكر أن امرأة كانت ملكة لسبأ، كانت تملك قومها وأوتيت من كل شىء ولها عرش عظيم ، واعترف لها الملأ من اتباعها قائلين : " نحن أولو قوة وأولى بأس شديد والأمر اليك فانظرى ماذا تأمرين".النمل 23-33"
نحن هنا امام امرأة تقود جماعة وقد ذكرها القرآن معترفا بكونها ملكة لقومها وأشار الى حنكتها بينما تكرر القصص القرآنى فى ذكر مستبد آخر ، لكنه من الذكور وصل به استبداده الى ادعاء الالوهية ومطاردة اثنين من انبياء الله تعالى وقومهما المضطهدين ، فاستحق اللعنة والغرق وصار مثلا لكل مستبد يهلك نفسه وشعبه ودولته. أنه فرعون الذى لا يتعظ بسيرته المستبدون من حكامنا العرب الذين لم يصل واحد منهم الى حكمة المستبدة العربية الحسناء بلقيس فى العصور القديمة مما يؤكد انهم تأخروا بنا للوراء عشرين قرنا من الزمان.
جدير بالذكر ان شيخ الأزهر أفتى بأن المرأة من حقها ان تترشح لرئاسة الجمهورية وهذا اجتهاد جميل نشكره له ونشجعه عليه، وان كان قد جاء متأخرا بحكم العادة، اذ سبقناه ونشرنا بحثا أثار ضجة فى حينه لأنه يحمل عنوانا جريئا يقول " حق المرأة فى رئاسة الدولة الاسلامية" وبعد اذاعته فى ندوة عالمية فى القاهرة كانت تحت رعاية الدكتورة نوال السعداوى ، وبعد ترجمته الى الانجليزية - نشره مركز القاهرة لحقوق الانسان فى دورية "رواق عربى" سنة 1999 . السؤال هنا : اذا كان للمرأة أن تكون اماما فى الحكم وقيادة المسلمين – برغم أنف الامام الشافعى – ألا يصح لها أن تؤمهم فى الصلاة؟
قد يقول قائل : ان امامة السياسة غير امامة الصلاة . وأقول انه فى التراث السنى لا فارق بين الاثنين فالخليفة الحاكم هو الأمام أيضا فى الصلاة. بل انها مهمته الأولى ، ومنها يكتسب لقب الامام فى كتب الفقه بالذات حيث يطلق لقب للامام على الحاكم السياسى .

2- نرجع الى الشافعى فى الرد عليه بالقرآن لنقول ان الله تعالى ضرب مثلا أعلى لكل المؤمنين – رجالا ونساء - فى كل عصر بامرأتين هما امرأة فرعون والسيدة مريم عليهما السلام .كما ضرب أسوأ مثل للبشرية – أيضا – بامراتين هما زوجة نوح وزوجة لوط عليهما السلام. أى ان المراة هى مثل أعلى فى الخير والشر بغض النظر عن زوجها. كان الزوج مستبدا احمق – مثل فرعون – بينما كانت زوجته اماما للمؤمنين . كان الزوج نبيا عظيما وكانت زوجته على النقيض خائنة له. القرآن ذكر هذين المثلين ليدل على استقلالية المرأة بذاتها واستحقاقها أن تكون قدوة فى الخيرأو فى الشر. والامامة هى أن يكون الامام قدوة للمأموم فى الصلاة. .
ولماذا نذهب بعيدا، ألم تقم السيدة عائشة – حسب المعروف فى الروايات التاريخية – بقيادة جيش كامل تحارب به الامام الشرعى للمسلمين؟ بغض النظر عن تقييم موقفها فان من احتج عليها لم يقل ان امامة المرأة ممنوعة ولكن قالوا فقط ان الواجب على نساء النبى هو لزوم البيت وعدم الخروج منه باعتبار ذلك حكما خاصا بهن فقط حيث قال تعالى لهن " وقرن فى بيوتكن . "الأحزاب 33"

3- نعود للشافعى وهو يصدرأحكامه التشريعية على امامة المرأة فى صلاة الجماعة العادية ، يقول:" ولا يجوز أن تكون أمرأة امام رجل فى صلاة بحال أبدا " ويرى انه يجوز لها أن تؤم النساء فقط ، وانه من صلى وراءها من الرجال والصبيان لا تصح صلاته. واستدل بقوله تعالى "الرجال قوامون على النساء " وان النساء ممنوعات من أن يكن أولياء (كناب الأم للشافعى "1"- 145" ط. الشعب . القاهرة)
الشافعى هنا يخلط الأوراق . فلا قوامة للرجل على زوجته اذا اشترطت الزوجة ذلك فى عقد الزواج . وهى عموما مشروطة فى القرآن بالانفاق عليها من الزوج ، والقوامة لا تعنى التسلط الزوجى وانا الرعاية والمسئولية بالانفاق عليها ، وهى شأن مختص بعلاقتهما الزوجية لا شأن له بالصلاة التى هى علاقة بالله تعالى ، والامام فى الصلاة يجب أن يكون الأفضل فى قراءة القرآن والأكثر أقامة للصلاة والأكثر التزاما بالخلق القويم – اى شروط موضوعية فى امامة المصلين وليست شروطا نوعية جنسية . وعلى أى حال ماذا يكون الحكم اذا كان الزوج من نفس نوعية فرعون موسى وكانت زوجته من نوعية امرأة فرعون واراد الزوج أن يصلى هل يؤم زوجته وهو لايجيد سوى العصيان ؟
أما قول الشافعى بحرمان المرأة من الولاية فقد سبق الرد عليه قرآنيا وتاريخيا.
الا ان المضحك فيما يقوله الشافعى فى نفس الصفحة وهو يشرع امامة المرأة للنساء فقط " تؤم المرأة النساء فى "الصلاة" المكتوبة وغيرها, وآمرها ان تقوم فى وسط الصف . وان كان معها نساء كثيرات أمرت ان يقوم الصف الثانى خلف صفها، وكذلك الصفوف . وتصفهن صفوف الرجال اذا كثرن". هنا تشريع جديد يأمر به الشافعى النساء كما لو كان الاها مع الله تعالى . واضح اذن انه شرع الشافعى وليس شرع الله تعالى لأن الذى يأمر وينهى ويبتدع ويخترع فى الدين هو الشافعى وهواه الشخصى .

4- المضحك اكثر ان الفقهاء الآخرين من اتباع الشافعى ومن اتباع المذاهب السنية الأخرى ساروا على نفس طريق الشافعى يصدرون الأوامر التشريعية التى تعبر عن أهوائهم وغرائزهم ويجعلونها شرع الله تعالى!! تعالوا بنا الى السفر الضخم :"الفقه على المذاهب الأربعة " 1-409 ، 384-385 "ط. القاهرة 1970.) وقد جمع فيه الشيخ الجزيرى الراجح فقط من اقوال فقهاء المذاهب الأربعة فى عصور الآزدهار الفكرى متجاهلا التخلف الفقهى فى العصر العثمانى والذى لا يزال يتم تدريسه فى الأزهر, وفيه من بذىء القول وانحطاط الفكر ما يخجل منه سيدهم ابليس نفسه!!
عن حضور المرأة لصلاة الجمعة يلخص الكتاب آراء المذاهب . ونحن ننقلها عنه ونعلق عليها :( الحنفية قالوا ان الأفضل للمرأة أن تصلى فى بيتها الظهر بدل الجمعة لأن الجمعة لم تشرع فى حقها). أقول هذا خطا لأن الأمر بصلاة الجمعة جاء عاما للجميع من ذكر وانثى شان كل العبادات .
وقال المالكية (اذا كانت المرأة عجوزا لم يعد فيها للرجال مطمع يجوز لها حضور صلاة الجمعة. اما اذا كانت عجوزا لا يزال فيها مطمع للرجال فيكون مكروها لها حضور صلاة الجمعة. ويحرم عليها حضور صلاة الجمعة اذا كانت شابة وخيف من حضورها افتتان الرجال بها فى طريقها أو فى المسجد.) ونقول ما هو معيارافتتان الرجال بالمرأة العجوز أو بالشابة؟ ما هو مقياس مطامع الرجال فى هذه أو تلك ؟ هل نقيم للنساء مسابقات جمال ليحكم الرجال على من فيها مطمع ومن زالت عنها المطامع الجنسية وعليها أن تقدم استقالتها من عالم الأنوثة والآشتهاء الجنسى ؟ وما شأن ذلك كله بعبادة الصلاة وهى المفروض ان تسمو بالناس وتجعلهم يفكرون فيما يسمو عن الغرائز ؟
قال الحنابلة (يباح حضورها صلاة الجمعة بشرط ان تكون غير حسناء. أما اذا كانت حسناء فانه يكره لها الحضور) المشكلة ان كل انثى ترى فى نفسها انها حسناء, وأن كل أنثى لا تخلو من حسن. وان أذواق الرجال فى جمال النساء يختلف من رجل لآخر. فأين المعيار وكيف نطبقه، وهل نعلق على كل مسجد اسماء الحسناوات الممنوعات من الدخول وبجانبه اعلان آخر يرحب بالقبيحات المؤمنات ؟ وهل اذا أرادت حسناء ان يزداد ايمانها بحضور صلاة الجمعة فنقول لها : عيب ياحلوة روحى الديسكو أحسن حتى لا تغرى جموع الأبرار فى المسجد ؟؟!!
جاء الشافعية بتفصيلات " مفيدة" ، قالوا ( انه مكروه حضورها ان كانت مشتهاة - أى يشتهيها الرجال – حتى لو كانت فى ثياب رثة. اما اذا لم تكن مشتهاة ولكن تزينت وتطيبت وتعطرت فيكون مكروها أيضا حضورها صلاة الجمعة. وفى كل الآحوال يشترط الشافعية لحضور المرأة صلاة الجمعة شرطين: اذن ولى الأمر ، وألا يخشى من ذهابها افتتان أحد بها. والا يحرم عليها الذهاب الى صلاة الجمعة). المستفاد من كلام الشافعية انه لا يجوز للمرأة القبيحة أو العجوزالتى لا يشتهيها الرجال ان تذهب للمسجد الا وهى فى حالة يرثى لها – آخر بهدلة – ثم لا يكفى هذا بل لابد أيضا أن تاخذ تعهدا مسبقا على الرجال الأبرار فى المسجد ألا يفتتن بها أحد اذا جاءت , ثم تستجدى ولى أمرها لكى يسمح لها بالذهاب للمسجد لصلاة الجمعة. لا يهم أن يكون اصغر سنا منها أو أن يكون ابنا لها، المهم أن يكون ذكرا يستطيع أن يقهرها بالفقه وبالمجتمع الذكورى المتخلف معه.
الواضح ان اولئك الفقهاء مهووسون بالمراة جنسيا لا يرون فيها الا عورة يجب اخفاؤها بين ملابسهم الداخلية حتى لا يراها غريب. وفى مرحلة الدراسة فى الثانوى الأزهرى كان الفقه المقرر علينا بالغ الشناعة والقذارة حتى كان يجرح خيالاتى وانا فى مرحلة المراهقة ، وقد سميته من وقتها "فقه النصف الأسفل" محتجا عليهم ان يختزلوا المرأة فى مفهوم العورة لا ينظر اليها الا من خلال الهوس الجنسى .

5- من الطريف ان هذا الفقه الذكورى كان انعكاسا للعصر العباسى فى القرنين الثالث والرابع الهجريين، حيث نشأ وضع اجتماعى غريب للمرأة وقتها. كانت تجارة الاماء - الجوارى - قد وصلت ذروتها ووصلت الاماء الى كل بيت من الطبقة العليا ومعظم الطبقة الوسطى . ولم تكن الجارية مجرد امرأة حسناء بل كانت امرأة مثقفة ، اذ كان يتم اختطافها من موطنها وتتقلب بين أيدى العصابات وباعة الرقيق وهى جارية" غفل" – بضم الغين والفاء – الى ان ينتهى بها المطاف الى تاجر الرقيق المحترف فى بغداد او غيرها من العواصم فيقوم بتعليمها اللغة العربية والقرآن والأحاديث والتاريخ والنوادر والأخبار والشعر والأدب والغناء والعزف وسرعة البديهة والظرف والاتيكيت, ويقوم على تعليم الجوارى مشاهير المتخصصين, ومن ثم يرتفع ثمنها أضعافا، ويمكن بيعها الى دار الخلافة وبيوت الوزراء والأكابر. فى نفس الوقت كان من المباح اجتماعيا فى بيع الجارية كشف جسدها وكان الفقهاء يجيزون للمشترى ان يقلب فى جسدها شأن كل من يشترى سلعة. وكان معروفا عرض الجوارى للبيع عاريات الصدور والنهود فى السواق وعلنا لكل من يريد الشراء. وبعد شرائها كان صاحبها اما أن يستبقيها لمتعته الشخصية جسديا وليأنس بها ثقافيا واما أن يستثمر مواهبها فى الحانات او يعيد بيعها اذا جار عليه الزمن. امتلأت بيوت الخلافة العباسية بالجوارى وكان كل الخلفاء العباسيين من اولاد الجوارى عد اثتين فقط هما السفاح والأمين . وفى العصر العباسى – خصوصا العصر الثانى – كان معروفا تسلط الجوارى على تسيير امور الخلافة , وقد كتبت سلسلة مقالات بحثية تحت عنوان" نساء بين سطور التاريخ " أفصل فيها وأفسر التاريخ العباسى من خلال سيطرة الجوارى على الخليفة. منذ الخليفة السفاح وسيطرة زوجته عليه الى الخليفة الرشيد وسيطرة أمه الخيزران الى قبيحة التى سيطرت على زوجها المتوكل وابنها المعتز الى شغب التى حكمت الخلافة العباسية اكثر من عشرين عاما فى عهد ولدها المقتدر العباسى وهى التى عينت صديقة لها قاضيا للقضاة.
هذا التغلغل من الجوارى فى المجتمع العباسى بنفوذهن وثقافتهن وتأثيرهن على الرجال من العشاق والابناء أقام حركة نهضة نسوية فى العراق العباسى لم تظهر واضحة بين عناوين التاريخ العباسى الذى اقتصر التأريخ فيه على الرجال من الفقهاء والمؤرخين الناقمين على المرأة ، فظلت تلك الحركة النسوية مجهولة فى الحوليات التاريخية ومذكورة بعض الشىء فى كتب الأدب والشعر مع انه نشأ عنها مطالبة المرأة بوظيفة الكتابة والحجابة والخطابة كالرجل تماما. قال شاعر عباسى يتندر على ذلك:
ماللنساء والكتابة والحجابة والخطابة هذا لنا ولهن علينا أن يبتن على جنابة
فى مقابل الجوارى السافرات النشطات كانت الحرائر داخل البيوت والنقاب يعانين العزلة والاهمال والحبس والعنوسة أو تعدد الزوجات وهضم الحقوق. فى هذا العصرلم يستطع الفقهاء الاحتجاج على نفوذ الجوارى المتحكمات فى الخلافة العباسية والوزراء. لم يجدوا الا الفتاوى الحانقة يكتبونها لتعبر عن احباطهم ونقمتهم. هذه هى الأرضية التاريخية للفقه السنى الذكورى فى عصره الذهبى, وليس الاسلام مسئولا عنها بالطبع.
ثانيا:
فىايجاز شديد نقول:ـ

1-: فى الاسلام هناك تعامل بالمساواة بين الرجل والمرأة فى الواجبات والثواب والعقاب ، قد يأتى ذلك بصورة عامة تخاطب الرجل والمرأة معا تحت مصطلح "أيها الناس" " يابنى آدم " " ياأيها الذين آمنوا " " النفس"" الزوج" الخ.." ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ...""البقرة 183" " يا أيها الذين آمنوا اذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع . الجمعة9 " وقد يأتى بصورة تفصيلية كالذكر والأنثى "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أوانثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون فتيلا. ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن "النساء124 -125"
وفى مجتمع المدينة حيث الحرية المطلقة فى الفكر والعقيدة والسياسة، اتيح للمرأة ان تدعو الى ما تؤمن به ان خيرا وان شرا ، وبينما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان المنافقون فى المدينة يفعلون العكس يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويرفضون إعطاء الصدقة، ويعلنون موقفهم هذا فى جو من الحرية لا نتخيل حدوثه الآن، والقرآن يسجل ذلك ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ (التوبة 67) وكان المؤمنون فى المقابل كما وصفهم رب العزة ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ﴾ (التوبة 71). اذن نحن أمام مجتمع حى متفاعل ، كل طائفة تعبر عن رأيها بصراحة. ولا يمكن فى وجود هذا التفاعل أن نتخيل امرأة منقبة او منسية مهملة بين حيطان بيتها. فالمؤمنة هنا تخرج من بيتها تأمر المؤمنين والمؤمنات بالمعروف وتنهاهم عن المنكرعلى قدم المساواة مع الداعية المؤمن الذى يفعل نفس الشىْ. وهم كانوا يفعلون ذلك ليس على شاشات التليفزيون وانما بالخطاب التفاعلى المباشرحيث تقف المرأة خطيبا تأمر المستمعين وكذلك يفعل الرجل.وساحة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تشمل الشارع والمسجد والسوق والبيوت وكل ما ينبض بحياة البشر. مصطلح "المعروف" فى تشريع القرآن هو المتعارف عليه على انه قيمة اخلاقية عليا من العدل والحق والسلم والتسامح والصبر والاحسان. وعكسه المنكر وهو الظلم والأعتداء وسوء الخلق والرذائل. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى تشريع الاسلام ليس حكرا على طائفة تحترف هذا العمل وتتخذه وسيلة للاستطالة على الناس حيث يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وحيث يفولون ما لا يفعلون ، وانما هو واجب دينى عام على كل انسان وهو مجرد النصح والتحذير دون تدخل فى الحياة الشخصية طالما لم يقع الجانى فى الاعتداء على الآخرين ويستحق العقاب .

2-المرأة لها المشاركة السياسية والاجتماعية فى كل شىء كالرجل تماما دون تقييد بالنوع أو الجنس فى العبادات أو المعاملات. القرآن الكريم ذكر الأعذار المبيحة لعدم التكليف ببعض الواجبات والمهام ، ليس منها على الاطلاق الانوثة – وهذا عكس الفقه السنى الذى يشترط الذكورة فى أشياء كثيرة. على سبيل المثال الضعاف والمرضى والفقراء من الرجال والنساء لهم العذر فى التخلف عن الجهاد والهجرة ويضاف لهم الاعمى والاعرج " التوبة91 " النساء98 " النور61 الفتح 17 " هذا يشمل الرجل والمرأة معا. والعادة ان المباح لا يذكره القرآن وانما يذكر فقط الاستثناء وهما الواجب المفروض والممنوع المحرم. ولم يأت فى القرآن تحريم لامامة النساء اذن فهى مباحة. ويؤكد اباحتها ان التشريع الأسلامى لا يفرق فى العبادات بين الرجل والمرأة . وحين نقول التشريع الاسلامى نقصد القرآن فقط . أما ما يقوله أفضل الفقهاء - وقد رأيناه - فليس تشريعا اسلاميا بل هى اجتهادات بشرية ناقشناها وقضينا وقتا ممتعا فى التندر عليها.

3-الصلاة والحج والصيام والزكاة والحج هى ملة ابراهيم المتوارثة والتى كان – ولا يزال - يؤكدها اخلاص الدين لله تعالى وحده دون شريك. وكان المسلمون فى مكة مأمورين باقامة الصلاة – أى الصلاة المعروفة المألوفة لديهم . واقامة الصلاة ليس فقط بتأديتها ولكن بالحفاظ عليها بمراعاة التقوى والاستقامة الخلقية وذلك يستلزم التوعية. والتوعية تأتى بالنصح أو بالتعبير القرآنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تنفيذا لسورة العصر التى تلخص المجتمع المسلم الحى المتفاعل كله بالخير.هذا التفاعل هو الذى يجعل للصلاة والعبادات وظيفة اجتماعية اخلاقية. بحيث تتحول الى سلوكيات أو عمل صالح نافع للناس. وهذا هو المعنى القرآنى لاقامة الصلاة أو المحافظة على الصلاة. وكان من وظيفة خاتم النبيين هى تخليص ملة ابراهيم مما الحقته بها قريش من عبادة الأوثان ومن تضييع الصلاة أى عدم اقامتها والمحافظة عليها.( " مريم54 -59 – المؤمنون 1 -2- 9- المعارج22- 34 " ) وارجع الى القرآن فى سوره المكية واقرا كيف تعدد الأمر باقامة الصلاة وايتاء الزكاة لهم فى مكة. وكان الخطاب عاما للذكر والأنثى دون تفضيل لذكر على انثى الا بما يتطلب الكفاءة مثل امامة الصلاة. وكل ما توارثناه فى الصلاةصحيح وهو السنة العملية طالما لم يخالف آية فى القرآن. فالمذموم من المتوارث هو فقط ما يخالف القرآن. وما حكم به الفقهاء من بطلان امامة المرأة للرجل هو مما يخالف القرآن ولذا فلا نأخذ به.
ثالثا
ان الفقه السنى اجمالا يخالف التشريع الاسلامى فى أساسياته وقواعده ومقاصده ومصطلحاته وتفصيلاته وليس فقط فى هذه الجزئية.
ونعطى اشارات سريعة سبق ذكرها فى مقالات سابقة
1 –تدور التشريعات فى القرآن الكريم حول ثلاث درجات : الفرض المكتوب او الاوامر ، ثم النواهى أو المحرمات ، ثم ما بينهما وهو المباح ، ومنهج القرآن فى التشريعات فى هذه الدرجات ان يحدد الفروض والمحرمات ثم يترك المباح مفتوحا ، واذا كان هناك تشريع سابق يحرم شيئا وجاء القرآن بتحليله مجددا يأتى ذلك فى القرآن فى سياق الحلال الجديد كقوله تعالى ( احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم : البقرة 187) .
وجاء الفقة السنى بتأويل وتعديل للمدار التشريعى ، اذ اضاف اليه درجتين فى التشريع انتزعهما من المباح الحلال هما المكروه والمندوب او المسنون . فالمكروه هومباح ينبغى تركه أو درجة اقل من الحرام, والمندوب او المسنون هو مباح ينبغى فعله وان لم يكن واجبا لأنه اقل من الفرض الواجب .
2 – وترتب على هذا التأويل والتعديل للمدار التشريعى الاسلامى القرآنى نتيجتان
* الاولى:-
اضافة مصطلحات جديدة تخالف القرآن وهى المكروه والمندوب ، وعلى سبيل المثال فإن المكروه فى مصطلحات القرآن ليس مباحا اقل درجة من الحرام كما يقولون بل هو اشد انواع الحرام تجريما قال تعالى (وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان : الحجرات 7) وبعد ان جاء تحريم السرقة والقتل والكفر وسائر الكبائر فى سورة الاسراء قال تعالى عنها ( كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها : الاسراء 38 )
* الثانية :-
هى التضييق من دائرة الحلال المباح وتحويل المباح الحلال الى مكروه لا ينبغى العمل به ، وهذا يعنى التدخل فى تشريع الله تعالى من حيث الدرجة ومن حيث التفصيلات.

التأويل فى قواعد التشريع الجامعة المانعة والمؤكدة :

1 – هناك قواعد تشريعية جامعه مانعه ، اى تجمع المحرمات داخل سور محدد وتمنع اخراج احد منه او اضافة احد اليه ، مثل المحرمات فى الزواج ، وقد ذكرها القرآن بالتفصيل ثم بعدها قال ( واحل لكم ما وراء ذالكم ان تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين : النساء 24 ) اى فالنساء داخل ذلك السور الجامع المانع كلهن محرمات ، والنساء خارج هذا السور الجامع المانع كلهن حلال للزواج ، وجاء التأويل السنى ليخرق هذا السور بأن اضاف اليه بالقياس قاعدتين فقهيتين جعلهما احاديث منسوبة للنبى وهى ( يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ) ، ( لا تنكح المرأة على عمتها او خالتها ) ، وعلى ذلك فإذا اراد رجل ان يتزوج خالته من الرضاعة فإن ذلك حلال فى تشريع القرآن الكريم وحرام فى تشريع أهل السنة ، ونفس الحال اذا اراد ان يتزوج على امرأته عمتها او خالتها يقول تعالى ذلك حلال ويقول الفقهاء من اهل السنة ذلك حرام .
وهناك مثال اخر هو المحرمات فى الطعام التى تكررت كثيرا فى القرآن الكريم " البقرة 173" ، " المائدة 3" ، " الانعام 145" ، " النمل 115" وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما يقدم للأوثان . وبرغم تحذير القرآن الكريم من اضافة اى محرمات جديدة للطعام ( المائدة 87، يونس 59:60 ، النحل 116: 117، التحريم 1) الا ان اهل السنة اضافوا تحريم الكثير من الحلال ، وتمتلىء بذلك كتب الفقة .

2 – وهناك قواعد تشريعية قرآنية مؤكدة باسلوب القصر والحصر مثل قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق ( الاسراء 33، الانعام 151 ) (والذين لا يدعون مع الله الها اخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله الا بالحق الفرقان 68) اى فلا يجوز القتل فى الاسلام الا بالتشريع القرآنى الحق وهو طبقا للنصوص القرآنية يأتى فى صورة القصاص ، سواء كان ذلك فى الجرائم ( البقرة 178) او فى الحروب ( البقرة 194) وجاء الفكر السنى فألغى هذه القاعدة التشريعية المحكمة الملزمة فأضاف قتل المرتد والزنديق وتارك الصلاة ورجم الزانى ، ثم توسع فى القتل ليجعل من حق الامام ان يقتل ثلث الرعية فى سبيل اصلاح الثلثين ..!!

3 – وهناك قواعد تشريعية قرآنية جاء تأكيدها فى القرآن الكريم بكل اساليب التأكيد مثل الامر بالوصية للوارث وغير الوارث فى قوله تعالى ( كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين : البقرة 180 ) فالتأكيد فى الوصية جاء بصيغ مختلفة شديدة الدلالة مثل "كتب عليكم " ، " إن ترك خيرا " ، " بالمعروف" ، " حقا "،" على المتقين" ، ثم جاءت الايات بعد ذلك تضع قواعد الوصية. وفى سورة النساء نزل الامر بالوصية ليطبق قبل توقيع الميراث (من بعد وصية يوصى بها او دين : النساء 11، 12) ومع ان الوالدين لهما حق فى الميراث وحق ايضا فى الوصية ، ومع ان قواعدالميراث والوصية هى حدود الله التى يحرم التعدى عليها ( النساء 13:14) الا ان الفقة السنى الغى الوصية للوارث طبقا لقاعدة فقهية جعلها حديثا نبويا يقول ( لا وصية لوارث ) وافتروا أن هذه الكذبة المخالفة للقرآن قد " نسخت الآيات المخالفة لها..
ان تشريع الوصية والحث عليها جاء تحقيقا للعدالة الاسلامية. فأنصبة الميراث محددة بالنصف والربع والسدس والثلث والثمن ولا يجوز تعديلها. وتطبيقها وحدها قد يحمل ظلما بين الورثة. قد يكون فيهم من يستحق الزيادة فى حصته لظروف خاصة به تستوجب ذلك، هنا تأتنى الوصية لتعالج الأمر تحت عين المجتمع ورقابته ووفقا لمسئولية المتوفى أمام الله تعالى فى توزيع الوصية حسبما جاء فى آيات الوصية ، بالوصية مثلا يمكن لك أن تعطى ابنتك نصيبا مساويا لابنك طالما كانت تستحق ويطمئن ضميرك والمجتمع لذلك.

4- وترتب على هذا التأويل السنى لتشريعات القرآن الكريم المحكمة والملزمة نتيجتان متلازمتان :-
* الاولى :-
اضافة معانى مخالفة لمصطلحات القرآن الكريم فالنسخ فى القرآن الكريم وفى اللغة العربية يعنى الاثبات والكتابة والتدوين ، ولكنهم جعلوا النسخ عندهم يعنى الحذف والالغاء والتبديل .
*الثانية :-
جعلوا فتاويهم الفقهية واحاديثهم المنسوبة زورا الى النبى تلغى قواعد القرآن الكريم التشريعية وتبطلها ، وبالتالى جعلوها فوق القرآن الكريم الذى هو كلام رب العالمين.

اهمال قواعد التشريع ومقاصده العظمى:

عموما فالاحكام في التشريعات القرآنية هي اوامر تدور في اطار قواعد تشريعية ،وهذه القواعد التشريعية لها مقاصد او اهداف ،او غايات عامة .

يبدأ التشريع القرآنى بالأوامر مقترنة بقواعدها ، وقد تأتى المقاصد فى خلال الآية نفسها أو فى خلال السياق أو تأتى منفصلة. ولسنا فى مجال التفصيل لذلك حتى لايفلت منا موضوع التأويل. ولكن اعطاء امثلة يعين على الفهم:-
نبدأ بمقاصد التشريع القرآنى وهى نوعان : النوع الأول ويتمثل فى مصطلح التقوى أى خشية الله تعالى أو بتعبيرنا المعاصر الضمير الحى الذى لا يكتفى بالتأنيب على الخطأ والعزم على عدم العودة اليه ، ولكن قبل ذلك يمنع الانسان من الوقوع فى الخطأ " الأعراف 201 " آل عمران133-136 ". والتقوى تجمع فى ثناياها الايمان الصحيح بالله تعالى واليوم الآخر مع المداومة على عمل الصالحات أى العبادات والمعاملات.ولذلك لا يدخل الجنة الا المتقون. فالايمان وحده لايكفى ، والعمل الصالح وحده لايكفى. هذه هى التقوى كقيمة عليا فى الاسلام ومنهجه الخلقى والعقيدى والتشريعى .

فى المجال التشريعى تأتى التقوى فى سياق التشريعات نفسها وتاتى أحيانا منفصلة عنها باعتبارها قيما عليا فى حد ذاتها، فالأمر بالتقوى تكرر للنبى نفسه والمؤمنين وكان أحيانا يأتى فى مطلع السور"النساءـ الأحزاب ـ الحج ". وتأتىالتقوى فى سياق التشريع لتؤكد على ضرورة ربط التطبيق البشرى للتشريع الالهى باحياء الضمير والسمو بالنفس وتزكيتها وحسن العلاقة المباشرة بيى الانسان وربه الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، واذا كان يعلم ان الله تعالى يراه فلا بد له من أن يخشى الله تعالى ويسعى فى مرضاته جل وعلا. حتى لو كان بمأمن من السلطة البشرية والمراقبة البوليسية. من أجل هذا الدور السامى للتقوى فى التشريع القرآنى تجد الأمر بالتقوى يرصع آيات التشريع فيها جميعا. ونعطى مثالا واحدا: يقول تعالى فى تشريع الطلاق مؤكدا على حفظ حقوق المرأة" واذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أوسرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا. ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ، ولا تتخذوا آيات الله هزوا، واذكروا نعمة الله عليكم وما انزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شىء عليم "البقرة 231 " . الآية هنا انقست الى قسمين : الأول فى الأمر التشريعى وهو تخيير الزوج ـ الذى طلق زوجته وبلغت العدة وهى فى بيته ـ بين أن يحتفظ بالزوجة ويمسكها بشرط معاملتها بالمعروف ، وبين أن يتحول الطلاق ـ وهو فى التشريع القرآنى مجرد مهلة للمراجعة وليس انفصالا نهائيا ـ الى انفصال نهائى بأن يطلق سراحها ولكن أيضا بالمعروف ودون اضرار. وحتى لا يضمر الزوج ان يعيدها الى عصمته بقصد اذلالها يحذر التشريع القرآنى من ذلك ويجعله اعتداءا. وبعد مجىء التشريع بالأمر والنهى جاء القسم الثانى من الآية بالمقصد التشريعى مباشرة يشمل الانذار والوعظ والتحذير والتنبيه ومراعاة التقوى. نلمح هنا بسرعة الى التناقض بين تشريع الطلاق فى القرآن وتشريعه فى الفقه السنى ، وقد كتبنا فى ذلك من قبل. ونلمح أيضا الى أن فحوى الآية السابقة قد جاء مفصلا أيضا فى افتتاحية سورة الطلاق حفظا لحقوق المرأة ولكن التأويل السلفى أضاع تشريع القرآن وحقوق المرأة وحقوق الانسان.

وبعد التقوى المقصد التشريع الأعظم تأتى المقاصد التشريعية الأخرى من حفظ تماسك الأسرة ورعايتها، والتخفيف ورفع الحرج والتسهيل ، والعفة الجنسية.

كل تشريعات الأسرة فى القرآن تهدف الى حفظها وتماسكها كمقصد اسمى لتلك التشريعات ، ولكم العادة السيئة للفقه السلفى أن يركز على الأوامر ويترك القواعد والمقاصد. ففى موضوع الأسرة مثلا تأتى القاعدة التشريعية تؤكد على " وعاشروهن بالمعروف ، فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا.""النساء19" وتحت هذه القاعدة ياتى التعامل مع الزوجة التى تريد النشوز أى هدم بيتها مع تمتعها بكل الحقوق وقيام الزوج بالقوامة عليها ـ ومصطلح القوامة فى القرآن يعنى الرعاية والحفظ وتحمل مسئولية الزوجة والقيام بمتطلباتها بالمعروف ـ هنا يكون من وسائل حفظ البيت والأسرة تأديب الزوجة الناشز بالوعظ ثم بالهجر ثم بالضرب. وياتى التحذير من اساءة التطبيق فى هذا التشريع بظلم الزوجة المطيعة " النساء34"

وأيضا لسنا فى مجال التفصيل هنا وهو يحتاج الى بحث مستقل متكامل، ولكن حتى لا يفلت منا موضوع التأويل نقرر أن الفقه السلفى قد تجاهل القاعدة والمقصد التشريعى فى هذا الخصوص وركز فقط على "ضرب الزوجة".

فى موضوع العفة والاحصان الخلقى جاءت "الأوامر " التشريعية بغض النظر المحرم للرجال والنساء معا وعدم الأقتراب من مقدمات الزنا والحشمة فى زى النساء " النور30 -31 الاسراء 32". ركز الفقه السلفى على هذه الأوامر الى درجة التطرف فتحول الخمار الذى يغطى الصدر دون الوجه والشعر الى نقاب يعبىء المراة ويعلبها فى غلاف اسود كئيب ، وهو مزايدة محرمة على حق الله تعالى فى التشريع، وتضييع لشهادة المرأة ودورها فى المجتمع المسلم وتحريم لكشف وجهها وهو حلال فى الاسلام، وأيضا ليس هذا مجاله ولكن نؤكد هنا ان هذا التطرف بفرض النقاب أضاع المقصد الأسمى من أوامر العفة والاحصان. فالمعروف أن النقاب من اهم عوامل انتشار الانحلال الخلقى حيث تتخفى فيه المرأة وتفعل ما تشاء دون أن يتعرف عليها احد. واسألوا أهل الفكر السلفى ان كنتم لا تعلمون. والمقصد التشريعى بالتيسير ورفع الحرج اضاعه الفقه السلفى الحنبلى بتشدده وتزمته .

حتى العبادات : هى مجرد أوامرواجب علينا اداءها لبلوغ الهدف الأسمى وهو التقوى" البقرة - 183 -196 -197 ـ21"أو هى مجرد وسائل للتقوى نستطيع بها الابتعاد عن الفحشاء والمنكر" العنكبوت45" وهذا هو المعنى الحقيقى لاقامة الصلاة وايتاء الزكاة أى التزكى والسمو الخلقى بالتقوى. كل ذلك أضاعه التأويل السلفى حين جعل الصلاة والزكاة والحج أهدافا بذاتها، فاذا أديت الصلاة فلا عليك ان عصيت وستقوم صلاتك بمسح ذنوبك " ودى نقرة ودى نقرة " كما يقول المثل الشعبى المصرى، واذا تبرعت لبناء مسجد ولو كمفحص قطاة تمتعت بقصر فى الجنة. واذا أديت الحج رجعت منه عاريا.. آسف ... رجعت منع كيوم ولدتك الست ماما يابابا..وأكثر من ذلك ستدخل الجنة ـ غصب عنك ـ لأنك من امة محمد مهما فعلت. يكفيك أن تقول الشهادتين ثم تعيث فى الأرض فسادا. المهم أن التأويل السلفى حول العبادات الى تدين سطحى وحول الأخلاق الى مستنقع من النفاق والكذب والتدجيل. ونحن مشهورون بين الأمم بكل ما يشين بسبب ذلك .

أما علاقتنا بالآخرين فقد حولها الفقه السلفى من السلام الى العنف والارهاب والعدوان لنه ركز على الأمر وأهمل القاعدة والمقصد التشريعى.

فالامر بالقتال "قاتلوا " "جاهدوا " "انفروا "له قاعدة تشريعية وهوان يكون للدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله او بتعبير القرآن (في سبيل الله )،ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين ،كي يختار كل انسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش في سلام وامان حتي يكون مسئولاعن اختياره الحر يوم القيامة بدون اكراه فى الدين حتى لا تكون لأى بشر حجة امام الله تعالى يوم الدين.

ونعطى امثلة سريعة:-

يقول تعالي (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين :البقرة195) فالامر هنا (قاتلوا)والقاعدة التشريعية هي (في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين )وتتكرر القاعدة التشريعية في قوله تعالي (فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم :البقرة 194)اما المقصد او الغاية التشريعية فهي في قوله تعالي (وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين لله :البقرة 193)أي ان منع الفتنة هي الهدف الاساسي من التشريع بالقتال . والفتنة في المصطلح القرآني هي الاكراه في الدين أوالاضطهاد في الدين ،وهذا ماكان يفعله المشركون في مكة ضد المسلمين يقول تعالي (والفتنة اكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم ان استطاعوا :البقرة 217).

وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة او الاضطهاد الديني يكون الدين كله لله تعالي يحكم فيه وحده يوم القيامة دون ان يغتصب احدهم سلطة الله في محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في الرأي، وذلك معني قوله تعالي (وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله : الانفال 39 ).

الذى حدث ان فقهاء السنة ركزوا فقط على الأمر بالجهاد والقتال" قاتلوا" واهملوا القاعدة التشريعية للقتال او المسوغ الوحيد لاباحته وهو ان يكون القتال دفاعيا فقط . وترتب على هذا أن أصبح القتال ليس فى سبيل الله تعالى لاقرار الحرية الدينية ومنع الاكراه فى الدين ، وليس لمجرد الدفاع الشرعى عن النفس ، بل أصبح لتشريع العدوان على الغير وجعله ليس فقط مباحا بل واجبا شرعيا باعتباره جهادا اسلاميا.

ومن الانصاف للفقهاء السلفيين ان نذكر بقية الصورة : لقد عاشوا فى العصورالوسطى التى كانت تتفاخر بالأحتلال والهجوم على الغير وتلك ملامح العصور الوسطى والعالم الى عهد قريب، ولم يكن العرب فى جاهليتهم بمعزل عن هذه الثقافة بل كانت لهم غاراتهم التى لاتنقطع وحيث كان تشريع السلب والنهب والبغى هو التدين الثابت. ولأن الاسلام فى معناه السلمى وقيمه العليا تأبى ذلك فانه كان منتظرا أن يكون جملة اعتراضية فى تلك العصور وكان لا بد أن يعود العرب الى ما ألفوه ولكن مع تغيير هائل وشائن ، هو استخدام اسم الاسلام ذاته فى الاعتداء على الغير الذى لم يعتد عليهم. وهذا ما فعلته قريش بعد موت النبى محمد فى اعتداءاتها التى حملت تعبير الفتوحات الاسلامية زورا وبهتانا. ثم قام المؤرخون بتسجيل سيرة النبى بعد موته بقرون – وبأثر رجعى - ووضعوا فيها كل ملامح عصرهم من قتال هجومى واغتيال سياسى وارهابى وانحراف خلقى. ثم قامت الأحاديث بنسبة تللك الصورة عبر الاسناد المزيف للنبى ثم جعلوه دينا سموه السنة وزعموا انها جاءت وحيا من الله تعالى. واصبح على الفقهاءـ وهم انفسهم فى الأغلب علماء حديث أيضا ـ ان ينشئوا تشريعا جديدا يخالف القرآن ويتصالح مع ثوابت العصر ، فقاموا بهذه المهمة ليس تحت لافتة التأويل وانما تحت مسميات ومصطلحات أخرى منها " الفقه" و"النسخ" و"السنة" الخ.

ولأن هذا ينافى التقوى وهى لب الاسلام والمقصد الأعظم لتشريعاته فانه جرى أيضا اهمال الاشارة الى التقوى او الخشية من الله تعالى .
وقد أشرنا الى ارتباط التشريعات القرآنية الدائم بالتقوى حيث يكون المسلم رقيبا على نفسه قبل أن يكون المجتمع او السلطة أو الضبطية القضائية رقيبا عليه. ومع هذا الاقتران بين التشريعات القرآنية والتقوى الاسلامية الا اننا لا نجد اشارة لها فى الفقه السلفى فى عصر الازدهار الفكرى، لا فى فقه العبادات أو المعاملات. وبحذف هذا الجانب الباطنى - او الروحى بالتعبير السائد – ركز الفقه السلفى فى ازدهاره الفكرى على التدين السطحى المظهرى وتجميع كل تفصيلاته الممكنة والمتصورة وفق المنهج الصورى السريانى فى الاستقصاء للحكم الفقهى. ثم انحدر الفقه السلفى فى عصوره المتأخرة والمتخلفة الىالدخول على التصورات السخيفة المستحيلة الحدوث والتى امتلأت بها كتب الفقه فى العصر العثمانى: مثل " ما حكم من حمل على ظهره قربة فساء ، هل ينقض وضوؤه أم لا؟... من جاع فى الصحراء ولم يجد الا جسد نبى من الأنبياء ، هل يجوز له الأكل منه؟ ...ماحكم من زنى بأمه فى نهار رمضان فى جوف الكعبة ؟ وماذا عليه من الأثم ؟؟ ....وما حكم من كان لقضيبه فرعان وزنى بامراة فى قبلها ودبرها فهل يقع عليه حد واحد أم حدان؟؟

كل ذلك لا زلت اتذكره من الفقه التراثى الذى كان مقررا علينا فى الأزهر الشرف جدا جدا وكان يخدش حياءنا حينئذ، ثم ظل مقررا على الجيل الذى اتى بعدنا بعد توسع الأزهرفى كل القرى المصرية دون اصلاح لمناهجه وفكره. ودخل فى الأزهر افواج من المراهقين فى تعليمه الآعدادى منهن فتيات قاصرات فى براءة الطفولة وحياء العذارى ونقاء الفطرة كان عليهن دراسة هذا الفقه القذر المتخلف, ولم يتم حذف سطوره الا بعد مقالات لى كوفئت عليها بالتكفير فى اوائل التسعينيات. ونمسك القلم عن المزيد حتى لا نخرج عن موضوعنا.

من هو الآخر فى الاسلام؟

السائد فى الفقه التراثى ولدى المتطرفين تقسيم العالم الى معسكرين متصارعين : معسكر الايمان والسلام والاسلام، وهو دار الاسلام، وخصمه وهو الغرب ؛ معسكر الكفر ويسمونه دار الحرب. وفى هذا التقسيم يوضع غير المسلمين من الأقليات الدينية موضع الشبهة والاضطهاد، وينظر اليهم باعتبارهم خونة ينتمون للعدو الخارجى فى معسكر الاعداء أو (دار الحرب )
للانصاف فان ذلك التقسيم لم يكن قاصرا على العرب والمسلمين وحدهم بل كان ثقافة العصور الوسطى فى أوروبا وبلاد المسلمين، وقامت تلك الثقافة على تدين مبنى على التعصب الدينى المذهبى فى الداخل والحروب الدينية مع المعسكر الآخر فى الخارج. ويدفع الثمن الأقليات الدينية فى المعسكرين هنا وهناك، كما يدفعها الطرف المهزوم، ولا ننسى المذابح التى أقامها الأسبان للعرب المسلمين بعد سقوط غرناطة؛ آخر معقل للمسلمين فى شبه جزيرة ايبريا، فاذا كان المسلمون يعاملون الطرف المسيحى المنهزم على أنه الأقل شأنا وعليه دفع الجزية، فان الأسبان قاموا باستئصال المسلمين واليهود تماما، وأفرغوا البلاد منهم . الواقع انه كلما تحمس أحدهم لدينه وفق هذه الثقافة العصر أوسطية ازداد كراهية للآخر ورغبة فى استئصاله. وكان الأسبان هم الأكثر تعصبا و الأكثر قربا للعرب والمسلمين.

الأساس العقيدى لهذا التصنيف هو تقسيم المسلمين الى " أمة محمد " وتقسيم المسيحيين الى "أمة المسيح ". المسيحيون يعتقدون ان المسيح عليه السلام هو المخلّص، ومعظمهم يؤلهه، وفى غمار الحروب الصليبية والاكتشافات الجغرافية والابادة الجماعية للسكان الأصليين كان الأسبان يرتكبون تلك الفظائع باسم المسيح، وعموما تم الاستعمار فى العصر الحديث لمعظم العالم الاسلامى وبقية العالم تحت سفن تحمل الصليب، وتتغنى بالمسيحية. هذا بينما المسيحية فى اخلاقياتهت تقوم على الحب والتسامح. والتسامح المسيحى المقترن بالصبر والتضحية نراه تاريخا ناصعا فى حياة أجدادنا المصريين الأقباط. وفى هذا تختلف المسيحية المصرية عن المسيحية الغربية الأوربية، وخصوصا الأسبانية.
معظم المسلمين فى تدينهم الواقعى يؤلهون محمدا، يعتقدون بحياته الأزلية فى قبره، ويحجون اليه، ويصلون له " السنن" ويعتقدون أنه سيشفع فيهم ويدخلهم الجنة، ومع أن شهادة الاسلام واحدة، هى " لا اله الا الله "، يقول تعالى لخاتم النبيين محمد (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ) محمد 19 )، الا أن المسلمين جعلوا شهادة الاسلام الواحدة شهادتين،لا تتم الأولى بدون الثانية، فيقولون ايضا " ومحمد رسول الله "، وبذلك يعصون الله تعالى الذى أمرهم أربع مرات فى القرآن الكريم بألا يفرقوا بين الرسل، والمفهوم انك حين تشهد أنه لا اله الا الله فقد آمنت بكل الرسالات السماوية التى نزلت لتؤكد هذه الحقيقة :أنه لا اله الا الله، وتكون قد آمنت بكل رسل الله تعالى وأنبيائه بدون تفريق بين أحد منهم لأن كل واحد منهم جاهد وناضل وأوذى فى سبيل هذه الحقيقة . بل ان الله تعالى أمر خاتم النبيين أن يعلن أنه ليس بدعا من الرسل وليس مميزا عن أحد منهم، بل لا يعلم الغيب الذى كان يعلم بعضه بعض الرسل السابقين وانه مجرد متبع للوحى ومجرد نذير مبين( الأحقاف 9 )، ولكن المسلمين يرفعونه الى مستوى الله تعالى، ففى المساجد تجد اسمه مساويا ومناظرا لاسم الله تعالى، وفى الأذان تجد الشهادة له وحده بالنبوة والصلاة عليه وحده، واذا قلت النبى فليس فى الذاكرة والقلب غير( محمد )وحده، واذا قلت الرسول فهو وحده الرسول مع تجاهل تام لبقية الانبياء والرسل، اللهم الا فى معرض تفضيل محمد عليهم فهو " سيد المرسلين " أى الاههم، وهو"أشرف المرسلين"، وهو "خير ولد آدم ولا فخر"، وقد تم تفضيله "على الأنبياء بسبع"، وان الله تعالى قد خلقه من نوره جل وعلا، وأنه أول خلق الله، وانه مخلوق قبل آدم، وكان "نبيا وآدم بين الماء والطين"، أو و" آدم لا ماء ولا طين " كما تقول الأحاديث و الأساطير الصوفية فيما يسمى بالحقيقة المحمدية . و فى الصلاة يقولون التحيات تعظيما لمحمد، ويجعلون هذه التحيات مكان التشهد المذكور فى قوله تعالى " شهد الله أنه لا اله الا هو، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط، لا اله الا هو العزيز الحكيم " آل عمران 18 )
النهاية أنهم يعتقدون أنهم " أمة محمد " ويعتبرون أنفسهم الأفضل حظا بهذا قائلين " يا بختنا بالنبى ".
كل ذلك التفضيل لمحمد على من سبقه من الأنبياء والمرسلين مخالف للاسلام وللعقيدة التى ناضل محمد طيلة حياته من أجلها . كل هذا التأليه لمحمد وتمييزه عمن سبقه من الأنبياء والمرسلين انما هو خيانة لدعوة محمد ودينه، وعصيان للاسلام العظيم الذى لا مجال فيه لتقديس بشر أو حجر.
ولكن هذا التقديس لمحمد هو الأساس لجعل المسلمين أمة مختلفة عن الباقين وومتفوقة عليهم، بل وهى الاساس فى تقسيم العالم الى معسكرين، احدهما معسكر محمد ـ معسكر الايمان ـ والآخر معسكر الكفر والعصيان، أو دار الحرب.
ولكن هل مصطلح " أمة محمد " ينطبق مع القرآن الكريم ؟
بالطبع هو ينطبق مع الأحاديث التى افتراها المسلمون، خصوصا أحاديث الشفاعة، وفى بعضها يزعمون أن النبى محمدا ينادى ربه يوم القيامة قائلا ( أمتى أمتى ) فيرد عليه رب العزة قائلا ( بنفس النغمة والوزن ) : ( رحمتى رحمتى )، وبالطبع يتحيز رب العزة ـ بزعمهم ـ الى أمة محمد وفق هذا الافتراء المناقض للاسلام.
مصطلح " أمة محمد " يناقض الاسلام ويجعله دينا لبعض الناس أو لمعسكر ضد معسكر آخرن كما يناقض ( لااله الا الله ) حين يجعل محمدا الاها مع الله . ويناقض القرآن الكريم الذى تحدث عن الأنبياء السابقين أكثر مما تحدث عن محمد، بل وامره باتباع هدى السابقين من الأنبياء، بل جعله تابعا لملة ابراهيم عليه السلام، وأكّد ان تشريعاته فى العبادة من صلاة وصيام وصدقة وحج انما هى امتداد لملة ابراهيم، وقد جاء محمد رسولا لاصلاح التحريف الذى لحق بهذه الملة. والتفصيلات فى كتابنا القادم ( الصلاة فى القرآن الكريم ).
مصطلح " أمة " يأتى فى القرآن الكريم بمعانى شتى كلها تدل على مجموعة أشياء، فقد يدل مصطلح أمة على مجموعة سنوات ( هود 8 يوسف 45) أو مجموعة خصال حميدة ( النحل 120) أو مجموعة من العادات والتقاليد والثوابت الشركية ( الزخرف 22، 23 ) أو مجموعة من البشر فى زمان محدد ومكان محدد ( البقرة 128، 134 )ولا محل لتفصيل ذلك كله الآن . ولكن ما يخص المعنى المراد هنا فان القرآن الكريم استعمل كلمة أمة لتدل على دعوة كل الأنبياء فى كل عصر، يقول تعالى مخبرا عن وحيه لكل الأنبياء فى كل زمان (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ . فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) المؤمنون 52 ـ ) اذن كل الأنبياء أمة واحدة لهم رب واحد يجب أن نتقيه وحده . هذا هو ما يجب أن يكون، ولكن الذى يحدث هو تدخل السياسة والصراع على حطام الدنيا فيتفرق الأتباع الى أحزاب وملل ونحل وطوائف. وهذا هو مجمل التاريخ الدينى بعد كل نبى قبل محمد وبعده. ويقول تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ . وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) الأنبياء : 92ـ ) هذه الآيات جاءت فى سورة الأنبياء بعد ان قًصّ الله تعالى قصص الكثيرين منهم ثم قال معقبا ان أولئك الأنبياء أمة واحدة لهم رب واحد يجب عبادته وحده، ولكن الذى حدث هو الشقاق، ومرجع الحكم على هذا الشقاق والاختلاف العقيدى هو يوم القيامة عندما يرجع الجميع الى الله تعالى. أن الدين الحقيقى لكل الأنبياء هو الاسلام ـ بمعنى السلام فى التعامل مع البشر والانقياد والطاعة لله تعالى وتأليهه وحده، وكل نبى أرسله الله تعالى بلسان قومه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) ابراهيم 4 )، اى ان كل نبى كان يعبر عن الاسلام بلغة قومه .وكل نبى كان يؤكد انه لا اله الا الله (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء 25 ) واذن فأمة الاسلام. ليس الا مجموعة من المبادىء والمثل العليا تتركز فى التقوى فى العقيدة بالتمسك بلا اله الا الله والتقوى فى السلوك بالتزام العمل الصالح واجتناب الشرور والآثام والظلم والبغى والمعاصى، وهذه المبادىء تبدأ بنوح وتنتهى بمحمد عليهما وعلى جميع الأنبياء السلام،.
يعزز ذلك ان مصطلح أمة جاء بمعنى مجموعة من الأخلاق الحميدة تركزت فى أبى الأنبياء ابراهيم عليه السلام، الذى مدحه رب العزة بما لم يمدح به نبيا من الأنبياء،وضمن سياق مدحه قال عنه رب العزة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) النحل 120 ) أى كان أمة من الأخلاق الحميدة السامية. وابراهيم عليه السلام من أعلام الأنبياء فى الاسلام ( اقرأ الآيات من 127 الى 137 من سورة البقرة). وعليه فان ابراهيم ـ وما يتمسك به من قيم وسلوكيات وعقيدة دينية حنيفية مخلصة لله تعالى ـ يقع فى واسطة العقد فى أمة الاسلام التى تعنى نفس القيم والسلوكيات التى تمسك بها كل الأنبياء عليهم جميعا السلام .
وفى المقابل فان ثوابت الشرك وتقديس الأسلاف وما وجدنا عليه آباءنا " وما أجمعت عليه الأمة " يعتبر فى مصطلح القرآن ( أمة). فالأمة هنا هى مجموعة من التقاليد المتوارثة التى يدافع عنها المترفون المتحكمون فى المجتمع مع أعوانهم من رجال الدين والمثقفين المستفيدين من بقاء الحال الظالم على ما هو عليه. اقرأ فى ذلك قوله تعالى يؤكد حقيقة اجتماعية انسانية : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) الزخرف 22 ـ )
اذن " أمة الاسلام " هى قيم الاسلام فى العقيدة والسلوك. وهى قيم مطروحة أمام البشر جميعا للتمسك بها مهما اختلفت الزمان والمكان واللغة والثقافة والعنصر والسلالة والذكورة والأنوثة والوضع الاجتماعى والاقتصادى. باختصار: هى قيم عالمية انسانية انزلها الله تعالى لكل البشر فى كل الرسالات السماوية، وقالها كل الأنبياء، وتمناها كل المصلحين الحقيقيين، ويتبعها كل الأبرار من البشر فى كل زمان ومكان، مع وجود الأغلبية التى تختلف و تتنازع فى الدين وتجعله شيعا وأحزابا. وحتى لا ينسى الناس الأصل القديم لتلك القيم السامية فقد نزلت الرسالة الالهية الخاتمة توضح الحقائق لكل البشر.
فالله تعالى يخاطب بهذه القيم كل البشر. فالحديث فى القرآن لا يتوجه للعرب او لقريش او للعصر الذى عاش فيه خاتم الأنبياء، ولكنه حديث يتوجه للناس قائلا ( يأ أيها الناس ) ( يا بنى آدم ) وحتى حين يتحدث الى طائفة أو مجموعة فانه يخلصها من محلية الزمان والمكان ليصبح الخطاب عاما لكل من يتصف بهذه الصفة فى كل زمان ومكان قيقول مثلا ( يا أيها الذين ) كذا ..وهذا منطقى فى دين الله تعالى، فالله تعالى هو رب الجميع، وهو خالق الجميع، واليه وحده المرجع يوم القيامة حيث سيحاسب الجميع، وسيبدا الحساب بحساب الرسل جميعا وهم حملة "أمة الاسلام ": أو القيم العظمى للاسلام (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) المائدة 109 ) (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الزمر69 ).
لذلك منذ البداية يقول تعالى للبشر جميعا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات 13 ) أى انه خلقهم جميعا من أب واحد وأم واحدة، أى هم أخوة ينتمون لنفس الأب والأم، وقد جعلهم أجناسا مختلفة وشعوبا مختلفة لا ليتنازعوا ويتقاتلوا ولكن ليتعارفوا، والتعارف لا يكون الا بالعلاقات السلمية والتلاقى الحضارى وقبول الآخر والاستفادة من تجربته الانسانية وتراثه الحضارى، والانفتاح على ثقافته والتسامح فى الاختلاف معه ايمانا بأن التنوع مطلوب لازدهار الحضارة العالمية الانسانية، اما من ناحية التدين فان أكرم الناس عند الله تعالى هو الأكثر تقوى، وليس الاكثر ثروة او جاها او ذكاءا أو علما او حسبا ونسبا اوجمالا أو صحة او شبابا. وهذه التقوى سيكون مرجع الحكم عليها لله تعالى وحده يوم القيامة، ومن يزعم تزكية نفسه الآن فقد عصى الله تعالى الذى قال (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) النجم 32 )
يبقى سؤال : اذن ليس فى الاسلام مقولة المعسكرين السلفية التى يرفعها المتطرفون ودعاتهم الآن، فماذا عن الآخر فى الاسلام فى ضوء ما ذكره القرآن الكريم عن الكفار والمشركين وقتالهم والجهاد ضدهم ؟
الآخر فى الاسلام هو كل معتد ظالم ، و كل ارهابى يقتل الأبرياء والمسالمين .
هنا نؤكد ما سبق قوله من أن معنى الاسلام فى السلوك هو السلام فى الأرض وهو فى العقيدة الاستسلام والانقياد لله تعالى وحده. المسلم فى العقيدة هو من يسلم لله تعالى وجهه وقلبه وجوارحه، وذلك هو معنى الاسلام العقيدى القلبى الذى يرجع الحكم فيه لله تعالى وحده يوم القيامة، و ليس لمخلوق أن يحكم فيه والا كان مدعيا للالوهية متقمصا لدور الله تعالى رب العزة ومالك يوم الدين.المسلم فى السلوك هو كل انسان مسالم لا يعتدى على أحد ولا يسفك دماء الناس ظلما وعدوانا. وهذا هو المجال الذى نستطيع أن نحكم عليه، فكل انسان مسالم مأمون الجانب هو مسلم بغض النظر عن عقيدته واتجاهه ومذهبه وفكره ودينه الرسمى.
الشرك والكفر بمعنى واحد فى مصطلحات القرآن، وهما معا لهما معنيان حسب العقيدة والسلوك ن وكلا المعنيين يناقضان معنى الاسلام فى العقيدة والسلوك. الكفر ـ أو الشرك ـ فى العقيدة يعنى اتخاذ آلهة أو أولياء مع الله . والتدين العملى للبشر ـ خصوصا المسلمين ـ ممتلىء بتقديس البشر والحجر، مع اعلانهم أنه لا اله الا الله. ولكن بغض النظر فان كل فريق يعتقد أنه على الحق ويتهم الآخرين بأنهم على الباطل. لذا فمرجع الحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون انما يكون لله تعالى يوم القيامة، فهو جل وعلا القاضى الأعظم، وقد اختلف الناس فى ذاته وصفاته ونسبوا له كذا وكذا، لذا فهو الذى سيحكم فى هذا الأمر، وليس لأحد أن يتدخل فى هذا الدور الالهى المؤجل الى يوم الدين الا فى معرض النصح والارشاد والعظة طلبا للهداية.
الشرك ـ والكفر ـ بمعناه السلوكى هو الاعتداء والظلم والبغى والطغيان والاجرام، وهذه كلها مفردات الشرك والكفروالمشركين والكافرين فى القرآن الكريم . هذا الشرك السلوكى نستطيع أن نحكم عليه بسهوله طبقا للأعمال الاجرامية التى يقوم بها المجرم . نحن هنا لا نحكم على قلبه أو على ما يدعيه من عقائد، وانما نحكم على أفعاله الاجرامية، على سفكه للدماء وانتهاكه للحرمات، وافساده فى الأرض، نحكم على سرقته ونهبه وهتكه للأعراض،وتعذيبه للابرياء. ودائما ما يكون الأبرياء ضحايا لهذا الكافر المشرك بالسلوك .

مشكلتنا أننا نحكم بالعكس تماما. من ينطق بشهادة الاسلام نجعله مسلما مهما ارتكب من جرائم . وقد يكون هناك زعماء مصلحون مسالمون يعملون الصالحات النافعات ينتمون للمسيحيين أو الاسرائيليين أو البوذييين أو العلمانيين، اولئك هم مسلمون حسب معنى الاسلام السلوكى الذى يعنى السلم، ولكننا نعتبرهم مشركين كافرين ونحكم على عقائدهم متناسين أن الأولى ان نصلح عقائدنا نحن وهى مليئة بتقديس الأضرحة والأئمة بأكثر مما يفعله غير المسلمين.طبقا للسلوك وحده فكل دعاة السلام فى الأمم المتحدة وخارجها هم أعظم المسلمين وان لم ينطقوا بشهادة الاسلام . غاندى ومارتن لوثر كنج و مانديلا وكل دعاة حقوق الانسان من الغربيين هم المسلمون الحقيقيون فى مجال السلوك. طبقا للسلوك وحده فان مجرمى الحرب هم أشد الناس كفرا وظلما وعدوانا، ليسوا فقط هتلر وموسولينى و ستالين بل يضاف اليهم صدام حسين وابن لادن والظواهرى وبقية سفاكى الدماء الذين حولوا العراق الى سلخانة . والقائمة طويلة ولا داعى لذكر أسماء أخرى فبعضها لا يزال يتمتع بالتقديس والتحميد مع أنه بغى على الآخرين واحتل أراضيهم وأذل شعوبهم، لمجرد أنهم مسالمون لا يقوون على الدفاع عن أنفسهم .
ليس فى الاسلام تقسيم العالم الى معسكرين، وليس من الاسلام الاعتداء على الآخرين واحتلال أراضيهم مثلما فعلت قريش فى دولة الخلفاء الراشدين ودول الخلفاء غير الراشدين . قريش كانت المقصودة بوصف الكفر والشرك حين نزل القرآن، فقد مارست الكفر والشرك العقيدى بعبادة الأولياء والأوثان على أنها تقربهم الى الله تعالى زلفا. ومارست قريش الكفر السلوكى والشرك السلوكى بمعنى الاعتداء واضطهاد المسلمين المستضعفين واكراههم فى الدين مما اضطرهم الى الهجرة الى الحبشة مرنين، ثم هاجروا أخيرا الى المدينة. قريش لم تتركهم فى حالهم فتابعتهم بالغزو والقتل والقتال فى وقت صبر المسلمون كعادتهم لأنهم كانوا ممنوعين من رد العدوان. ثم جاءهم الاذن بالقتال فتغير الموقف تدريجيا الى أن صار لصالح المسلمين حربيا ودينيا، وأصبحت قريش منعزلة فى وقت انتشر فيه الاسلام وأدركت فيه جماهيرالعرب سخافة عبادة الأوثان والقبور، رأت قريش فى النهاية أن مصلحتها تحتم عليها الدخول فى الاسلام فدخلت فيه متأخرا بعد تاريخ طويل من عداء الاسلام. أسلمت قريش قبيل موت النبى، وبعد موته استعادت سيطرتها على دولة النبى بعد موت النبى، منتهزة فرصة حرب الردة، فحوّلت الانتصارعلى المرتدين الى استمرار فى الغزو فاعتدوا على الروم ومستعمراتهم فى الشام، وقضوا على الدولة الفارسية، وبدأ ما يعرف بالفتوحات الاسلامية التى تناقض الاسلام، والتى بسببها اقتتل الصحابة، ونتج عن الخلاف السياسى اختلاف فى التدين، وانقسام المسلمين الى أحزاب كل حزب بما لديهم فرحون، ونسوا تحذير رب العزة من الاتقسام الدينى وكونه دليلا على الوقوع فى الشرك العقيدى والشرك السلوكى أيضا (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (الأنعام 153، 159 ) (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الروم31 ـ 32 )
لتبرير الاعتداء ولتسويغه باسم الاسلام افتروا حديثا نسبوه للنبى محمد يقول ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله ..) وجعلوا هذا الاعتداء على الغير جهادا . وباعتداء المسلمين على دولة الروم بدأت الحرب بين الامبراطوريتين، ولكل منهما دين مختلف فى الظاهر، وان كان نفس التدين فى الواقع ؛ التدين القائم على التسلط والظلم والاعتداء والاكراه فى الدين واستخدام الدين فى ظلم الناس ونشر الفساد فى الأرض. كان هذا هو منطق التدين فى العصور الوسطى، وبه تم سفك دماء الملايين من الفريقين، وكل منهم يحسب أنه يحسن صنعا، وكل منهم يتهم المعسكر الآخر بالكفر ويرى نفسه محتكرا للحق.
ثم صحت أوربا وتخلصت من سيطرة الكنيسة والكهنوت والاكليروس، وبدأت طريق الاصلاح العلمانى العقلى والاكتشاف العلمى . ثم حاولت مصر أن تنهج نفس الطريق مع باية القرن التاسع عشر، وحققت خطوات لولا أن عادت خرافات وأساطير وتشريعات العصور الوسطى تحملها الوهابية التى تمثل أردأ فكر أنتجه المسلمون فى القرون الوسطى. وبفضل البترول تم نشر هذا الفكر السلفى المناقض للاسلام تحت اسم الاسلام فى أكبر خديعة تعرض لها المسلمون طوال تاريخهم. وفى اطار هذه الخديعة الكبرى جرى استدعاء كل مظاهر التعصب الدينى واستئصال المخالف فى المذهب وفى الدين وفقا لحد الردة او الجهاد ضد دار الحرب أى الغرب.
هذا هو الأساس التاريخى لأكذوبة دار الاسلام ودار الحرب.
فقه الشرعية السياسية فى لمحة تاريخية

مقدمة:
1 ـ دائما نحتاج الى تحديد المصطلحات ونحتاج أيضا الى فهم مناهج التفكير ومناهج البحث. لم يعد هذا ترفا فكريا بل أصبح ضرورة للاصلاح الفكرى والدينى والسياسى؛ هذا الاصلاح يجب أن يبدأ بالنخبة ثم يسرى الى المثقفين والمتعلمين ثم الأغلبية الصامتة الحائرة. هى بالفعل ضرورة لأن حالة السيولة التى اختلط فيها الحابل بالنابل فى الحياة العربية جعل العقل العربى فى فوضى تماثل فوضى المرور فى ميدان العتبة بالقاهرة.
وبغض النظر عن رد الفعل الحاد لكتاباتى فاننى متفائل بالخطوة الأولى التى تحققت وهى أننى الان استطيع أن أنشر "كل " ما أقول بعد ربع قرن من المصادرة والمطاردة كنت فيها أكتب بنصف قلم متحسبا لارهاب واستدعاء الأخوة الأفاضل ضباط مباحث أمن الدولة فى القاهرة. وبهذه المناسبة أقدم خالص امتناني للمواقع التي تنشر مقالاتي، في الوقت الذي لا تستطيع فيه أي مطبوعة عربية في الإعلام العربي نشر أي مقال لي.
كنت أجهز لسلسلة مقالات عن فقه المصطلحات ومناهج البحث، ناويا البدء بها بعد إتمام عدة مقالات عن الإخوان فإذا بالقراء يجرونني إلى قضية الصراع العربي الاسرائيلى التي كنت أتحاشاها مؤقتا مكتفيا بالكتابة في مجال الإسلام وتراث المسلمين. إلا انه وكالعادة فان قضية المصطلحات ومناهج البحث هي أساس عدم الفهم بيننا حتى في المجالات السياسية.

2 ـ عندما قلت في مقال سابق: "دولة إسرائيل الآن حقيقة قانونية وشرعية تعترف بها معظم دول العالم ومنها اكبر دولة عربية والسلطة الفلسطينية ذاتها.." انهال الاحتجاج من هنا وهناك ومبعثه لدى المخلصين من الناقدين هو اختلاف مفهوم الشرعية الأخلاقية عن الشرعية السياسية مما أستوجب كتابة هذا المقال.

أمثلة واقعية للشرعية السياسية:
ونعطى بعض أمثلة تقرب مفهوم الشرعية السياسية
1ـ المعارضون لشرعية إسرائيل السياسية يمكنهم أن يتظاهروا أمام السفارة الإسرائيلية في إحدى دول العالم المحترمة المحايدة في الصراع العربي الاسرائيلى مثل سويسرا و دول اسكندنافيا، وليحاولوا إزعاج العاملين بالسفارة الإسرائيلية باحتجاجاتهم وشعاراتهم. هل ستستطيع هتافاتهم هز شعرة من قفا السفارة الإسرائيلية؟ ثم لو تطور الهتاف إلى انتفاضة حجارة تلقى الطوب على السفارة الإسرائيلية، هل سيسكت البوليس التابع لهذه الدولة المحترمة على انتهاك "حرمة " السفارة الإسرائيلية أم سيتدخل بهراواته المحترمة لتنهال على أرداف السادة المحترمين لأنهم يعتدون على سفارة دولة شرعية ووظيفة البوليس المحترم في تلك الدولة المحترمة أن يدافع عن الشرعية الإسرائيلية طبقا للقانون الدولي المحترم يا.. محترم؟.
الشرعية الإسرائيلية تتجلى في اعتراف الدول ـ ومنها مصر ـ والأمم المتحدة بدولة إسرائيل. والاعتراف يعنى ضمن ما يعنى تبادل السفارات وحماية الرعايا والسفارات، هذه هي مستلزمات الشرعية السياسية وفقا للقانون الدولي.هذا واقع لا يجدي في تغييره مجرد الرفض أو مشاعر الكراهية أو صرخات الاحتجاج أو حتى كل المبررات الأخلاقية.
2 ـ العادة أنه عندما يحدث انقلاب في دولة ما فان المجتمع الدولي لا يقيم لهذا الانقلاب محاكمة أخلاقية أو يطلب منه كشف الحالة الجنائية أو يسائله عن العدالة التي سيحققها أو المبادىء التي ينوى تحقيقها. كل المطلوب من النظام الجديد إصدار بيان من بضعة أسطر ليطمئن العالم على حياة الأجانب المقيمين فيه وعلى التمسك بالمعاهدات الدولية والإقليمية التي عقدت من قبل. ويتم الاعتراف الدولي بمجرد أن يوطد الانقلاب سلطاته ويمسك بزمام الأمور ويصبح بالأمر الواقع هو النظام المسيطر والقائم بالحكم في هذا البلد. أي أن الشرعية السياسية هي الاعتراف بالأمر الواقع بغض النظر عن مبادىء الحق والعدل.
بهذه الشرعية السياسية اعترف العالم بإسرائيل وبكل النظم العربية بعد الاستقلال. هو اعتراف مبنى على أمر واقع قائم لا بد من التعامل معه سياسيا بغض النظر عن القيم الأخلاقية.

بين الحق والاستحقاق
1ـ في فهم الشرعية السياسية لا بد من التوقف مع مصطلحين: الحق والاستحقاق.
الحق في مفهوم القرآن واللغة العربية يعنى شيئين: الحق بمعنى العدل، كأن يقال: فلان له حق في هذه الأرض، أو الحق بمعنى الصدق كأن تقول: شهد فلان بالحق، أو عنده حق فيما يقول.
الحق أيضا نوعان: حق مطلق جاء في الكتب السماوية وهو يعنى الصدق والعدل معا، ويستوجب الإيمان من أصحاب تلك الكتب. وحق نسبى هو مدى فهم البشر لنصوص الكتب السماوية والاستشهاد بها وتطبيقها. في مجال الحق النسبي يختلف البشر تبعا للهوى ودرجة الفهم. هذا الفهم النسبي لتلك الحقائق المطلقة قد يكون أحيانا أساسا لإقامة واقع سيأسى كما حدث في إقامة إسرائيل.
الاستحقاق هو التطبيق لتلك النصوص أو لغيرها من مزاعم أو مطالب وخلقها أمرا واقعا. يبدأ الأمر بفكرة مستقاة من نصوص مقدسة أو فكرة تعبر عن غرض ما أو حجة ما أو تعبر عن مجموعة أو أمة، المهم أن تكون الفكرة جذابة وقوية التأثير بحيث تدفع الأفراد والجماهير لاعتناقها والتضحية في سبيلها. بعد الفكرة والدعوة إليها ونشر الاعتقاد فيها يمكن حشد كل الطاقات لتطبيقها واقعا حيا على الأرض. هذا التطبيق يحقق الشرعية السياسية بغض النظر عن قيمة العدل أو الحق أو الخير.
هذا التأطير المجرد يحتاج أمثلة للتوضيح نأخذه من التاريخ القريب لإقامة إسرائيل.
2ـ العهد بإقامة دولة لبنى إسرائيل جاء في العهد القديم في سفر التكوين للنبي إبراهيم ثم ابنه إسحاق ثم ابنه يعقوب المسمى إسرائيل.نقرأ فيه الآتي:
(في ذلِكَ اليومِ قطَعَ الرّبُّ معَ أبرامَ عَهدًا قالَ: «لِنَسلِكَ أهَبُ هذِهِ الأرضَ، مِنْ نهرِ مِصْرَ إلى النَّهرِ الكبيرِ، نهرِ الفُراتِ، ) تكوين إصحاح 15: 18
(وأُعطيكَ أَنتَ ونسلَكَ مِنْ بَعدِكَ أرضَ غُربَتِكَ، كُلَ أرضِ كنعانَ، مُلْكًا مؤبَّدًا وأكونُ لهُم إلهًا». تكوين إصحاح 17: 8
(فتراءى لَه الرّبُّ وقالَ: «لا تَنْزِلْ إلى مِصْرَ، بلِ اَسكُنْ في الأرضِ التي أدُلُّكَ علَيها. تغَرَّبْ بهذهِ الأرضِ وأنا أكونُ معَكَ وأُبارِكُكَ، فأُعطيَ لكَ ولِنسلِكَ جميعَ هذِهِ البِلادِ، وأفي باليمينِ التي حلَفتُها لإبراهيمَ أبيكَ، ) تكوين إصحاح 26:2 ـ3
(وكانَ اللهُ واقِفًا عَلى السُّلَّمِ يقولُ: «أنا الرّبُّ إلهُ إبراهيمَ أبيكَ وإلهُ إسحَقَ! الأرضُ التي أنتَ نائِمٌ علَيها أهبُها لكَ ولِنسلِكَ.) تكوين إصحاح 28:13
(وتراءَى اللهُ لِيعقوبَ أَيضًا حينَ جاءَ مِنْ سَهلِ أرامَ وبارَكَهُ وقالَ لَه: «إسمُكَ يعقوبُ. لا يُدعَى اَسمُكَ بَعدَ الآنَ يعقوبَ، بل إِسرائيلَ». فسمَّاهُ إِسرائيلَ. وقالَ لَه اللهُ: «أنا اللهُ القديرُ. اَنْمُ واَكْثُرْ. أُمَّةٌ ومجموعةُ أُمَمِ تكونُ مِنكَ، وملوكٌ مِنْ صُلبِكَ يَخرُجونَ، والأرضُ التي وهَبْتُها لإِبراهيمَ وإسحَقَ أهبُها لكَ ولِنَسلِكَ مِنْ بَعدِكَ». تكوين 35: 9ـ13

هذه النصوص التوراتية فى العهد القديم يؤمن بها ـ كحقائق مطلقة ـ كل من يؤمن بالعهدين القديم والجديد ولا يتصور الشك فيها. لكنهم عند الاستشهاد والتطبيق يختلفون. الصهاينة وبعض الطوائف المسيحية تؤمن بتطبيق هذه النصوص باقامة دولةاسرائيل على أرض فلسطين. بعض الطوائف الاسرائيلية ذاتها ترفض الصهيونية. قامت الصهيونية بتحويل فهمها للنصوص السابقة الى عمل سياسى يهدف الى تحويل الفهم البشرى للنصوص الدينية الى واقع عملى فعلى هو دولة اسرائيل. هذا ما فعلته الحركة الصهيونية منذ مؤتمر بال الى اقامة دولة اسرائيل سنة 1948.
3 ـ من يقرأ الجهد الصهيونى فى اقامة اسرائيل يرى ان الحركة الصهيونية حرصت على التحرك فى اتجاهين: الأول هو بناء كيان قانونى محلى واقليمى ودولى لكل حركة تخطوها، الثانى التحرك على الأرض الفلسطينية بشراء الأرض سلما أو الاستيلاء عليها حربا، مع التحرك السياسى المحلى والاقليمى والدولىلتغييره لقبول الوضع الجديد، والرضى بالمتاح مؤقتا والبناء عليه وتطويره للانطلاق الى ما بعده. هذا فى الوقت الذى تاه فيه العرب بين الحق والاستحقاق، وبين الشعار والعجز عن تنفيذه، وبين رفض المتاح وتضييعه ثم البكاء عليه بعد فوات الأوان. المشكلة انهم لا يزالون فى نفس النفق يعمهون.
المستفاد هنا أن الاستحقاق يستلزم قوة بكل ما تعنيه القوة من عناصر نفسية وسياسية وحربية. قوة تعتمد على تخطيط يزن المناخ ويتحرك فيه على أساس تغييره وتطويعه لاقامة واقع جديد على الأرض. هذا الواقع الجديد القوى يستلزم الاعتراف به طبقا للشرعية السياسية.
الجديد فى الحركة الصهيونية انها حرصت على وجود غطاء قانونى عصرى. لقد فهمت العصر ومتغيراته وما يعنيه وجود منظمات دولية تعبر عن ارادة المجتمع الدولى، كما فهمت صراع القوى الكبرى واستثمرته لصالحها فبادرت أمريكا والاتحاد السوفيتىبالاعتراف بالدولة الاسرائيلية. وفى الوقت الذى استفادت فيه اسرائيل من الاستقطاب والصراع بين السوفييت والغرب لصالحها مع احتفاظها بقرارها السيادى فان العرب انقسموا بين المعسكرين، وكل فريق كان تابعا للسوفيت أو الغرب على حساب المصلحة الوطنية والقضية الفلسطينية.
المستفاد هنا فى الجانب العربى أنه بغض النظر عن الخلاف الفكرى فى فهم " الحق " ومن هو صاحب الحق فى اقامة دولة على التراب الفلسطينى فان العرب فشلوا فى تحقيق "الاستحقاق" أى فرض حقائق على الأرض بالقوة ترغم الآخرين على الاعتراف بها طبقا للشرعية السياسية.

أنواع الاستحقاق وتاريخه
1 ـ بدأ الاستحقاق ـ بمعنى استعمال القوة فى فرض واقع سياسى ـ مع بداية تاريخ البشر غير المكتوب. بدأ باقتتال مجموعات من البشر فى الصحارى ووديان الأنهار، لم تكن هناك ايدلوجيات خادعة انما مجرد الهدف الأصلى الذى لا يزال سائدا حتى الآن، وهو الاستيلاء على عناصر الثروة. الثروة لا تزال هى الفكرة الأساسية للعمل السياسى حتى الآن مهما علا صوت المبادىء والشعارات الأخلاقية والدينية والوطنية والقومية. نعود للعصر السحيق حيث كان القادة زعماء عصابات، لم يلبث الصراع أن أفرز الأقوى بينهم فأصبح ملكا، ثم صار بامكانه توريث السلطة لابنه. وبذلك أضيفت فكرة تالية فى الاستحقاق، وهو توارث استحقاق القوة فى ذرية الملك طالما رضى الناس. بمرور الزمن يضعف الورثة ويطمح قائد للسلطة، هنا تضاف فكرة ثالثة للاستحقاق هى تغييرالحكم بالانقلاب أو الثورة واحلال حكم جديد محله، وهى فكرة تناقض فكرة التوارث. هذا يحدث بتأكيد "فكرة الرفض" لهذا الاستحقاق القائم وتشريع الثورة عليه، فاذا وجدت تجاوبا ممن يملك القوة حدث صراع بين نوعى الاستحقاق ـ القديم والناشىء ـ فاذا تغلب الناشىء تكررت المسيرة بقيام ملك جديد و أسرة حاكمة جديدة، الى أن يأتى " متغلب " جديد.
2 ـ بمرور الزمن تحولت بعض المدن الى دول بل امبراطوريات من مدن اليونان الى روما وقرطاجنة، وقبلهم طيبة فى مصروبابل فى العراق. أدى هذا الى تأصيل الشعور بالوطنية والقومية، فما لبثت الوطنية والقومية أن أصبحتا من "الأفكار" الأساسية المضافة فى الاستحقاق يمكن بهما انشاء دولة أو توطيدها وتوسعها أو الثورة على حكمها او أى حكم أجنبى.
3ـ ثم مالبث أن أدخلوا الدين عنصرا فى الصراع بما يحمله من حق تختلف وجهات النظر البشرية فى فهمه وتطبيقه. بدأ مبكرا استخدام الدين فى السياسة أو جعل الدين عنصرا من عناصر الاستحقاق عن طريق تغيير حقائق الدين القائمة على العدل والخيروالحق لتقيم ملكا للقائمين على الدعوة الدينية السياسية.
الاسلام يحرم ويجرم الاعتداء على الغير ويحصر القتال فى الدفاع فقط، ويجعل الظلم من أشد المحرمات، وبنفس المقياس يجعل القسط أساس الرسالات السماوية. الأمويون الذين قادوا قريشا فى حرب النبى محمد وصحبه الأوائل ما لبثوا أن دخلوا فى الاسلام قبيل وفاة النبى محمد، وبعد موته استعادوا نفوذهم وسيطروا على الدولة المسلمة بعد وفاة النبى، بعد نحو عام من وفاة النبى الذى أرسله الله تعالى " رحمة للعالمين " بدأ أتباعه المسلمون يعتدون على من لم يعتد عليهم، ثم يكونون امبراطورية امتدت من أواسط آسيا شرقا الى جنوب فرنسا غربا. فى هذا العمل السياسى الحربى الذى غيّر خريطة العالم وتاريخه تمت كل عناصر الاستحقاق ممثلة فى فكرة تم حشد كل القوى خلفها فأقامت بالاستحقاق امبراطورية قادرة منيعة حصلت على الشرعية السياسية. الا ان هذا الاستحقاق بشرعيته السياسية تم بمعزل عن الحق القرآنى المطلق الميسر للذكر، بل كان التناقض واضحا بين تشريعات قرآنية شديدة الوضوح تنهى عن الاعتداء وبين استحقاق سياسى حربى أقام امبراطورية على أساس القوة دون حق أو عدل. بعد اقامة الامبراطورية واقعا حيا تم اختراع تأصيل فقهى لها بأحاديث مثل :" أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله وان محمدا رسول الله" وغيرها، ثم تم تجاهل القرآن وتغيير تشريعاته ـ بدعاوى التأويل والنسخ والتفسير والأحاديث والسنة والتشيع والتصوف..ـ لايجاد مسوغ خلقى مزيف حتى تتسق تلك الشرعية السياسية الظالمة مع الاسلام والقرآن.
المستفاد أن القوة هنا أخذت بيدها الاستحقاق حتى لو كان الحق الذى يقوله الاسلام مناقضا لما تفعله.وهكذا تم تحت اسم الاسلام ارتكاب جرائم منهى عنها مثل البغى والظلم من احتلال البلاد والقتل والسبى والنهب والاسترقاق.
واصبحت سنة متبعة فى تاريخ المسلمين أن تظهر فكرة دينية سنية أو شيعية أو خارجية ـ نسبة للخوارج ـ لتؤسس لاستحقاق سياسى يتم به اقامة شرعية سياسية. الدولة العباسية بدأت بدعوة للرضى من آل محمد، وتم تجميع الالاف تحت قيادة "أبو مسلم الخراسانى" فقضى على الدولة الأموية. واباد العباسيون معظم أفراد البيت الأموى ففر واحد منهم الى شمال أفريقيا ثم الى الاندلس فاستخدم فكرة "استرجاع الشرعية الأموية " وبذلك استحق عبدالرحمن الداخل " صقر قريش" اقامة الدولة الأموية فى الأندلس. أبو عبيد الله المهدى لبث سنوات طوالا يدعو للتشيع فى شمال أفريقيا فأقام الدولة الفاطمية التى انتقلت الى مصر وحكمت الشام وهددت الدولة العباسية. فكرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر استغلها الحنابلة فى تأسيس نفوذ سياسى لهم فى الشارع العباسى فى العصر العباسى الثانى فأرهبوا خصومهم فى الفقه والفكر، وتطور الأمر فى العصر المملوكى فى مدرسة ابن تيمية الى استحقاق كاد أن ينشىء دولة، وقبله فى حركة الفقيه ابن تومرت ودولته فى شمال أفريقيا. وفى العصر الحديث ظهرت الوهابية ترفع شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتم التحالف بين الفقيه ابن عبدالوهاب والأمير أبن سعود فى الدرعية عام 1854 وبأ انشاء الدولة السعودية الأولى، وبعد سقوطها عام 1818 أعيد انشاؤها ثم سقطت فى نفس القرن، ثم اعاد عبد العزيز بن عبد الرحمن انشاء الدولة السعودية الثالثة الراهنة على نفس الأساس. وعلى نفس النسق تقوم الحركات المتطرفة المعاصرة، علنية كانت كالاخوان المسلمين ام سرية. الخلاف الآن بين الدولة السعودية الوهابية ومعارضيها الوهابيين المتطرفين يكمن فى مصدرية السلطة، أو فكرة الاستحقاق، هل هو حق عبد العزيز منشىء الدولة فى استعادة ملك آبائه ( كما تقول الأسرة السعودية ) أم هو الدعوة الوهابية ( كما يقول أعيان اللجنة الشرعية، وهى أول تنظيم معارض أسسته المعارضة السعودية فى المملكة بعد حرب الخليج الثانية الثانية ثم هرب الى لندن مع المسعرى والفقيه).
4 ـ كلها مجرد شعارات، كانت كذلك فى العصور الوسطى ولا تزال حتى عصرنا ـ مجرد مبررات للوصول للتمتع بالثروة والسلطة. فقهاء السنة كانوا أكثر صراحة حين وضعوا مصطلح "المتغلب" على السلطة وحكم بناء الكنائس فى البلاد التى تم فتحها "عنوة"، وهذا فى حد ذاته دليل على تجاهل العدل،اذ لا عدل فى التغلب على الآخرين وحكمهم والتحكم فيهم ومنعهم من بناء دور عبادتهم. هذا يعبر عن الاستحقاق الذى صنعته القوة والتغلب العسكرى ولا علاقة له بالعدل والاحسان والحق.
5 ـ الا أننا قد تربينا على ثقافة الكيل بمكيالين. ما قام به العرب من غزوات وفتوحات نعتبره جهادا نفتخر به،مع أنه يناقض عدل الاسلام وشريعة القرآن. نفخر بفتح العرب معظم العالم المعروف فى العصور الوسطى،نباهى باحتلالهم البلاد واستعبادهم الشعوب من أصحاب البلاد المفتوحة وقد كانوا يعتبرونهم موالى من الدرجة الثالثة ويفرضون عليهم الجزية حتى لو أسلموا، و ينتهكون حرمات النساء بالسبى والاسترقاق ظلما وبغيا. فاذا قام آخرون بفعل نفس الشىء أو أقل منه استنكرناه وشجبناه. مع أنه فى مقياس العدل الاسلامى فان ما اقترفه العرب المسلمون بعد وفاة النبى محمد عليه السلام مباشرة هو أكثر ظلما وجرما مما فعله الروم والفرس وانجلترة وفرنسا وهم الذين لم يعش بينهم خاتم النبيين ولم ينزل فيهم خاتم الكتب السماوية.
6 ـ رسالة عيسى عليه السلام لم تنج من الاستغلال السياسى مع قيامها على قاعدة" دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر". الدولة الرومانية بعد اعتناقها المسيحية استخدمتها فى تدعيم سلطانها، وأرست بذلك أرضية راسخة للدولة الرومانية المقدسة، ذلك الكائن الهلامى فى أوربا العصر الوسيط الذى كرس تحالف الكهنوت مع السلطة السياسية، وأصبح للبابوية سلطة زمنية فاسدة مما أسفر عن حركة الاصلاح وقيام البروتستانتية. الصراع العربى المسلم مع الغرب أكد الاستغلال السياسى للدين، والاستعمار الغربى بدأ بالكشوف الجغرافية التى تحمل راية المسيحية وتزعم أن هدفها هو نشر المسيحية.
7 ـ فى العصر الحديث تمت تنحية الذريعة الدينية نوعا ما فى القرن الماضى وتم سياسيا تشريع الاستعمار فى الوطن العربى تحت ذريعة جديدة اسمها الانتداب. حركات التحرير والتوحيد رفعت رايات الوطنية والقومية فى أوربا ـ فى ايطاليا : ماتزينى ـ غاريبالدى ـ فيكتور عمانويل، او فى ألمانيا : بروسيا وبسمارك. لاقامة الاتحاد السوفيتى رفعوا شعار العدل وانصاف البروليتاريا، كما أن التخلص من الاستعمار الأوربى فى الوطن العربى رفع شعار الاستقلال والتحرر من السيطرة الأجنبية.
وفى كل الأحوال قامت دول وسقطت دول، وقامت امبراطوريات وانهارت أخرى، وقامت وسقطت عروش، وفى الأغلب ظل الظلم بل ازداد لأن الاستحقاق هو لغة القوة لا العدل، بالقوة يكتسب الاستحقاق والشرعية السياسية وليس الشرعية الأخلاقية.أما شعارات العدل فهى فقط للاستهلاك المحلى والضحك على الذقون.

هل يمكن ان تلتقى الشرعية السياسية مع الشرعية الأخلاقية؟

1 ـ فى نهاية الدولة الأموية بلغ الظلم مداه، وكان الهاشميون من أبرز ضحاياه. كان منهم طالب علم يسمى عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس. استضاف عبد الله هذا رفيقا له فى طلب العلم اسمه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى. لم يكن فى بيت عبد الله الهاشمى طعام يليق بالضيف فاستلقى ثم قرأ الآيةالكريمة :" عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون." فى وقتها كان المثقفون يعيشون فى حلم ظهور المهدى المنتظر الذى سيدمر الظلم الأموى ويقيم العدل طبقا لدعوة سرية نشرت دعاية مركزة عن المهدى المنتظر وأحاديث نبوية كثيرة تنبىء بقرب ظهوره. الذى لم يعرفه الطالب الضيف عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن صديقه الهاشمى المنشغل بطلب العلم هو فى الحقيقة من القادة السريين لتلك الحركة السرية. بعدها بسنوات نجحت الحركة السرية فى تدمير الدولة الأموية وهلل لها المثقفون الحالمون بالعدل، ثم كانت حسرتهم كبرى اذ تحول الحلم الى كابوس مع تولى أول خليفة عباسى تلقب بالسفاح بسبب ابادته للأموين وكل من ثار عليه. وفوجىء عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن رفيقه القديم عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس هو الخليفة العباسى الثانى الذى وطد ـ بالحديد والنار ـ الدولة العباسية، والذى سمى ابنه المهدى ليحقق نبوءة المهدى المنتظر. انه أبو جعفر المنصور، الذى قتل مئات الألوف فى سبيل توطيد الدولة الجديدة. زاره صديقه القديم ابن أنعم الأفريقى، قال له الخليفة:" انك كنت تفد لبنى أمية فكيف رأيت سلطانى من سلطانهم؟ فقال : يا أمير المؤمنين والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم الا رأيته فى سلطانك " وذكّره بالأمنيات القديمة فى الاصلاح وتحقيق العدل والآية الكريمة التى استشهد بها عندما أضافه وهو فقير ثم قال للخليفة: " فقد والله أهلك الله عدوك واستخلفك فى الأرض فانظر ماذا تعمل " فقال له الخليفة : " يا عبد الرحمن انا لا نجد الأعوان" فقال له الفقيه : " يا أمير المؤمنين، السلطان سوق نافق، لو نفق عليك الصالحون لجلبوا اليك" يعنى لو كنت صالحا لجمعت حولك الصالحين لأن السلطان الفاسد لا يجمع حوله الا من كان فاسدا مثله. هذه القصة ذكرها ابن الجوزى فى تاريخه " المنتظم ج 7 ص 339.
خيبة أمل المثقفين الحالمين فى الخلافة العباسية أنتج حركة البكائين فى صدر العصر العباسى، كانت حركة عجيبة لطائفة أصيبت بوسواس قهرى جعلها تتدين بالبكاء المستمر وتجعل له طقوسا ومراسم وآداب وتقاليد. تعرضت لهذه الطائفة فى مقال بحثى فى التسعينيات نشرته جريدة العالم اليوم ومجلة سطور.
2 ـ العادة السيئة أن يرفع الثوار شعارات لخداع المثقفين والعوام، حتى اذا وصلوا للحكم سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وتشبهوا بالظالمين السابقين، وربما فاقوهم فى الجور. حدث نفس الشىء فى الدولةالفاطمية الشيعية والثورات والانقلابات الشيوعية والثورةالمصرية 1952، وسيظل الأمر يتكرر طالما ظل الوعى فى أجازة، وطالما ظلت الأغلبية صامتة وغائبة وظلت الثقافة السمعية غالبة تسرع لتصديق الدجالين.
3 ـ ويظل السؤال مطروحا: هل يمكن أن يقام نظام حكم عادل يجمع بين الاستحقاق ( بمعنى القوة وفرض الأمر الواقع أو الشرعية السياسية ) وبين الحق والعدل ( بمعنى الشرعية الخلقية)؟
انهما دائما يجتمعان فى خيالات الحالمين بالجمهورية الفاضلة واليوتوبيا الخيالية من افلاطون الى توماس مور الى الفيلسوف المصرى الدكتور محمد كامل حسين. فى عصرنا الحالى تحقق هذا تقريبا فى جمهوريات فاضلة جمعت بين أكبر قدر من الحرية مع أكبر قسط من القسط والعدل، ترى هذا فى دول اسكندنافيا وسويسرا، والى حد ما فى كندا ودول أوربا الغربيةوأمريكا.
اكثر من ذلك، مسموح لنا أن نحلم بامكانية حدوثه فى مصر.
دعنا نتخيل ـ مجرد تخيل برىء قابل للتحقيق اذا تحقق الوعى وخلصت النوايا ـ ان المصريين قاموا بمظاهرات سلمية مستمرة لعدة أيام فقط مرتبطة باضراب وعصيان مدنى، وتحملوا هراوات ورصاصات وقنابل البوليس المصرى الشهم، واستعدوا لتقديم بضع مئات من القتلى. فى اليوم الأول سيسقط عشرات، تأتى المظاهرة فى اليوم الثانى تحمل جثث الشهداء تؤنب القتلة السفاحين وتلتزم بالتظاهر السلمى المتحضر، وينهال الرصاص ويسقط بضع عشرات آخرين فيؤتى بهم فى مظاهرات وجنازات حافلة فى اليوم الثالث فى استعداد لتقديم المزيد من الشهداء. أشك ان البوليس المصرى مهما بلغت وحشيته سيطلق النار فى اليوم الثالث. سينسحب، وستتحرك شهامة الجيش ليتحرك ويحفظ الأمن، وسيفر الأخ الفاضل حسنى مبارك وأسرته الطاهرة الى أقرب بنك فى العالم الخارجى ليطمئن على تحويشة العمرتاركا خلفه أعمدة عهده كل منهم يطلب النجاة، وسيقوم القضاة وكبار المثقفين تحت حماية الجيش بملء الفراغ السياسى بتكوين حكومة مؤقتة ترسى اصلاحا تشريعيا ودستوريا تقام على اساسه دولة ديمقراطية يتحقق فيها الفصل الحاسم بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتقيم حقوق المواطنة وحقوق الانسان وحرية الفكر والمعتقد مع تأكيد العدل الاجتماعى. انها بضعة أيام من المظاهرات والتضحيات ويزول الكابوس. ليس هذا مستحيلا على شعب له ميراث المصريين فى تحمل الأذى.
هذا الخيال المسموح به حدث فى رومانيا، وجاء رئيس أديب حالم قام بتحويا الحلم الى حقيقة بدلا من أن يتحول الى كابوس كما حدث فى العصر العباسى أو العصر الماركسى..
ليس صعبا ان يتحقق هذا فى الحاضر لأن العصر اليوم هو عصر الحرية وحقوق الانسان، وليس صعبا أن يتحقق هذا الآن لأنه فى عصور الظلام قامت دولة النبى محمد عليه السلام وفق تشريعات القرآن فحققت الشرعية السياسية والشرعية الأخلاقية معا. ولا يزال القرآن بيننا، فاذا قراناه بمصطلحاته قراءة علمية موضوعية بعيدا عن التراث العباسى ومصطلحاته وجدنا فيه أسس الدولة الديمقراطية التى تجمع بين العدل والحرية، وبين الشرعية السياسية والشرعية الأخلاقية.
التفصيلات فى المقال القادم.

No comments: