Thursday, May 24, 2007

جناية البخارى - زكريا أوزون(1)ا

زكريا أوزون

جناية البخارى
إنقاذ الدين من إمام المحدثين




إهداء
إلى كل من يحترم العقل ويقدره.
إلى كل من يحتكم إلى العقل فى الحكم على النقل.
إلى كل من أضاء شمعة الإبداع فى ظلام التقليد الأعمى والتبعية.
إلى كل من أضاء شمعة الفكر فى ظلام القياس والآبائية.
إلى كل من أحب الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم ومعتقداتهم.
معًا فى هذا المشوار الشائك الطويل.

المقدمة
إن إشكالية الحديث النبوى من أهم وأعقد الأمور فى الدين الإسلامى، والبحث فيها يتطلب جرأة مدعومة بالعلم والحجة والبينة نظرًا لحساسيتها.
وقد تم انتقاء "صحيح الإمام البخارى" لمناقشة ومعالجة موضوع الحديث النبوى فيه، كونه أفضل وأصح كتب الحديث عند كثير من أئمة المسلمين، وزيادة فى الدقة والحرص فقد تم اعتماد الأحاديث التى اتفق عليها الشيخان بخارى ومسلم والتى يطلق عليها عبارة: المتفق عليه.
وإذا كان ما فى "صحيح البخارى" محاطًا بالهالة والقدسية فإن إعمال العقل والتخلص من أوهام النقل هو ما تم السعى إليه فى هذا الكتاب الذى جاءت أبحاثه مبسطة مركزة مباشرة وبعيدة عن التعقيد والتكرار والاستطراد الذى اتصفت به معظم كتب التراث.
أخيرًا فإن السلف قد رأى أن الأجر والثواب هو نصيب العاملين من الأئمة والسادة العلماء الأفاضل دوما-وإن أخطأوا-لكن الأجدر اعتماد قوله تعالى:
{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا* ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} صدق الله العظيم. (الأحزاب (67-68)

زكريا أوزون


الفصل الأول
زبدة الكتاب فى بدايته
البحث فى الحديث النبوى أمر شائك وعر مملوء بالمصاعب ومحفوف بمخاطر صيحات التكفير والخروج عن الدين والملة، ولكن النيات الحسنة والصادقة التى تترافق مع الجهد والبحث العلمى الموضوعى كفيلة بتذليل تلك المصاعب والمخاطر والوعورة وبتحريك العقول المرنة والضمائر الحية التى لا يمكن للأمة أن تتطور وتستمر بدونها.
ويتوجب على فى البداية أن أبين للقارئ المقصود بمصطلح الحديث النبوى هنا، فهو: أقوال وأفعال وصفات الرسول وكل ما يتعلق بكافة جوانب حياته الفكرية والسياسية والاجتماعية والعلمية والعسكرية... الواردة فى صحيح الإمام البخارى.
وعليه فإن كلمة السنة هنا معتمدة ومستمدة مما جاء فى التعريف اللاحق(1).
وقبل البدء فى الدخول إلى فصول وموضوعات الكتاب، نطرح على مائدة البحث الأسئلة الأساسية التالية:
س 1: هل الحديث النبوى وحى منزل؟
س 2: هل الحديث النبوى مصدر تشريع؟
س 3: هل الحديث النبوى مقدس؟
س 4: هل يفسر الحديث النبوى القرآن الكريم؟
س 5: هل كل رواة الحديث النبوى من الصحابة عدول ثقاة؟
س 6: هل يوافق الحديث النبوى كما وردنا المعطيات العلمية والنظم والأعراف السائدة اليوم؟
س 7: هل وحد الحديث النبوى كما وردنا الأمة وطورها؟
س 8: ماذا نأخذ من الحديث النبوى؟
س 9: هل وفق الإمام البخارى فى صحيحه؟!
وسأقوم هنا بالإجابة عن تلك الأسئلة بشكل موجز مبسط حيث سيجد الباحث بعدها الإجابات المفصلة من خلال أبحاث الكتاب اللاحقة، وهنا أطلب من القارئ الكريم التحلى بالحلم والهدوء والتفكير الموضوعى فى متابعة الاجابات التالية:
السؤال الأول: هل الحديث النبوى وحى منزل؟
الحديث النبوى ليس وحيًا منزلا ولو كان كذلك لأصبح متنه "نصه" قرآنًا يقرأه المسلم عند أدائه فروض صلاته، وهو ظنى الثبوت، نقل بالمعنى وإن حاول البعض إقناعنا بدقة الرواة فى نقل عين لفظ الحديث، وما اختلاف متون "نصوص" رواياته الصادرة عن راو واحد واعتمادها إلا دليل على ذلك.
والرسول الكريم لم يأمر بكتابة الحديث(2)، كما أمر بكتابة القرآن الكريم، وما جاء فى الصحيحين من حديث "اكتبوا لأبى شاه"-الذى سنورد نصه الكامل لاحقا-والذى تم الاستـناد اليه فى كتابة الحديث يتعلق بما قاله الرسول عن تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها.
وهو ما طلب أبو شاه كتابته تحديدًا ليكون بمثابة وثيقة لوصية الرسول حول مكة يظهرها لأهل اليمن ولم يطلب كتابة أى كلام غيره للمصطفى، وفيما يلى نص الحديث المذكور آنفا:
حديث ‏أَبُو هُرَيْرَةَ،‏ ‏قَالَ: ‏لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏ ‏(ص)‏ ‏مَكَّةَ‏، ‏قَامَ فِى النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ‏: " ‏إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ‏ ‏مَكَّةَ‏ ‏الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأحَدٍ كَانَ قَبْلِى، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِى فَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلا ‏‏يُخْتَلَى‏ ‏شَوْكُهَا وَلا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلا ‏‏لِمُنْشِدٍ‏، ‏وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ‏ ‏النَّظَرَيْنِ‏: ‏إِمَّا أن يُفْدَى وَإِمَّا أن‏ ‏يُقِيدَ".‏ ‏فَقَالَ‏ ‏الْعَبَّاسُ ‏‏إِلا‏ ‏الإِذْخِرَ،‏ ‏فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏: "‏إِلا‏ ‏الإِذْخِرَ".‏ ‏فَقَامَ‏ ‏أَبُو شَاهٍ‏، ‏رَجُلٌ مِنْ‏ ‏أَهْلِ الْيَمَنِ‏؛ ‏فَقَالَ اكْتُبُوا لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص):‏ "‏اكْتُبُوا‏ ‏لأبِى شَاهٍ". (أخرجه البخارى فى: 45-كتاب اللقطة: 7 – باب كيف تعرف لقطة أهل مكة)
أما ما رواه البخارى عن أبى هريرة فى قوله: "ليس أحد من أصحاب رسول الله (ص) أكثر حديثًا منى، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب" فقد دفعنى إلى الرجوع إلى كتب الأثر لأجد أن مجموع ما رواه عبد الله بن عمرو لا يزيد بأية حال من الأحوال عن ربع ما رواه أبو هريرة(3)، مما يجعل أحدنا يتساءل عما حل بذلك الكم من الحديث الموحى؟!
أخيرًا فإن الصحابة أنفسهم اختلفوا فى جواز كتابة الحديث النبوى حيث كرهها عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد وآخرون غيرهم(4).
السؤال الثانى: هل الحديث النبوى مصدر تشريع؟
أغلب الحديث النبوى ليس مصدر تشريع لأن معظم ما وصلنا عن طريقه لم ينفرد به النبى (ص) عن غيره من الناس لكى يتخذ شرعة ومنهاجًا من بعده، فمثلا لم يكن النبى (ص) أول إنسان يأكل باليمين أو يأكل التمر أو يستخدم العود الهندى أو يحتجم أو يبكى على وفاة ابنه أو ينام على جنبه الأيمن أو يقبل النساء... أو... أو... إلى غير ذلك ليعتبر ذلك تشريعا.
وهنا يقول قائل: ولكن النبى هو أول من صلى الصلاة التى نراها وفصل أوقاتها وعدد ركعاتها وهو أول من حدد نسبة الزكاة 2.5% للفقراء!! وتأتى الإجابة: نعم! ولذلك قال تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول...}(النورـ 56).
وهو ما يدل على أن هذين القولين فقط هما ما يؤخذان عنه وقد حصلنا عليهما عن طريق السنة الفعلية المتواترة (وليس السنة القولية).
وهنا لابد من إظهار الفرق بين كلمتى الرسول والنبى(5) اللتين يتم الخلط بينهما عمدًا أو سهوا! فسيدنا محمد بن عبد الله رجل يحمل صفتين معًا هما صفة الرسول (من الرسالة) وصفة النبى (من النبوة) تماما كما يحمل أحدنا اليوم صفتين فى عمله كأن يكون مهندسًا ومديرًا للعلاقات العامة.
ففى مقام النبوة يقوم محمد النبى بالاجتهاد والعمل حسب المعطيات والإمكانيات والأرضية المعرفية السائدة، ويصحح له من خلال ذلك المقام، لذلك نجد أن التصويب يكون دائما من مقام النبوة كما فى قوله تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} (التحريم-1). {يا أيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين أن الله كان عليما حكيما}(الأحزاب-1). {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض...} (الانفال-67). {لقد تاب الله على النبى والمهاجرين...} (التوبة-117). لذلك فإن الأحاديث الواردة عنه سميت بالأحاديث النبوية.
أما فى مقام الرسالة والتى تشمل كافة التشريعات والأوامر التى أمره بها الله-عز وجل-عبر جبريل الأمين فى القرآن الكريم، فهو معصوم فيها من الوقوع فى الخطأ، وقد عصمه الله من ذلك، وعليه فإن الطاعة فى القرآن الكريم هى للرسول، {قل أطيعوا الله والرسول}(آل عمران-32). {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول... واحذروا...}(المائدة-92). {من يطع الرسول فقد أطاع الله...}(النساء-80).
وقد جاء أمر الاقتداء بالرسول فى الصلاة والزكاة من مقام الرسالة كما رأينا فى الآية الكريمة السابقة، لذلك فإنه لا يوجد لدينا أحاديث رسولية، لأن رسالة سيدنا محمد (ص) هى القرآن الكريم، وقد وعى الصحابة ذلك فلم يكتبوا عنه عندما كان يحتضر على فراش الموت ما أراد أن يوصيهم به لأنه قد أدى رسالته ممثلة بالذكر الحكيم المحفوظ فى السطور والصدور(6).
السؤال الثالث: هل الحديث النبوى مقدس؟
بناء على ما سبق فإن الحديث النبوى ليس مقدسا. وهنا أذكر أن معظم ما ورد فى الصحاح والمتون وغيرها عند أهل السنة مثلا لا يعترف به عند الأخوة الشيعة والعكس صحيح، كما أن ثقاة وعدول أهل السنة ليسوا كذلك عند أهل الشيعة وبقية الملل الإسلامية المختلفة.
السؤال الرابع: هل يفسر الحديث النبوى القرآن الكريم؟
لا يفسر الحديث النبوى معظم القرآن ولا يشرحه كما يؤكد السادة العلماء الأفاضل وغيرهم، وهنا أطلب ذكر سورة واحدة من القرآن الكريم يتجاوز عدد آياتها المائة-مثلا-قد تم شرحها من بدايتها إلى نهايتها آية آية من قبل الرسول ذاته!
مع الإشارة إلى أن الأحاديث التى تبحث فى تفسير القرآن فى صحيح البخارى-كتاب التفسيرـ لا تتجاوز نسبتها (6%) من مجمل أحاديث صحيحه، كما أننا نجد حديثًا أو حديثين لسورة كاملة فى حين نجد الكثير من الأحاديث لآية محددة واحدة.
أما الأحاديث التى تبين ما يسمى بأسباب النزول والتى يعتمد عليها فى الأحكام والفقة، فقد رواها الصحابة ولم تنسب للرسول الكريم-كما سنرى لاحقا-ونذكر هنا أن الصحابى الجليل (أبو بكر الصديق) لم يعرف ما تعنيه كلمة (أبَّا) فى قوله تعالى: {وفاكهة وأبَّا...} حسب ما جاء فى الأثر!!
السؤال الخامس: هل كل رواة الحديث من الصحابة عدول ثقاة؟
وهو من أهم الاسئلة المطروحة لأن الإجابة عنه تعنى رفض ونسف كل الأساليب والشروط والمبادئ التى اعتمدها البخارى وغيره من الأئمة فى صحاحهم أو متونهم، وذلك يعنى ببساطة نسف ظاهرة العنعنة (عن.. عن.. عن..) التى تعتمد على النقل لا على إعمال العقل، تعتمد على من قال وليس ما قال!! وإذا قلت: أن الصحابة كغيرهم من الناس يخطئون ويصيبون يضلون ويهتدون يعلمون ويجهلون وأنه نزلت فيهم آيات عديدة من الذكر الحكيم تنقدهم وتصحح مسارهم وأعمالهم حتى أن سورة التوبة سميت بالفاضحة، لأنها أظهرت حقائق الكثير منهم آنذاك(7).
فان الرد سيكون: ومن أنت لتقول؟ ومن أنت لترى؟ ومن أنت لتقيم الصحابة؟ من أنت؟!... لذلك فانى سأورد هنا آراء الصحابة حول بعضهم بعضًا حسب ما جاء فى كتب الأثر المعتمدة وعملا بالقول" أن الحديد بالحديد يفلح"
وما دام الحديث يتعلق بالحديث النبوى فإنى سآخذ أكثر الصحابة رواية عن الرسول الكريم وهم حسب ذلك التصنيف:
1-الصحابى أبو هريرة الدوسى.
2-السيدة عائشة أم المؤمنين.
3-الصحابى عبد الله بن عباس-حبر الامة.
وسأترك للقارئ التوصل إلى الاستنتاج الملائم من ذلك العرض وبالتالى معرفة الاجابة عن السؤال الخامس المطروح.
1-أبو هريرة الدوسى:
يحدثنا الصحابى أبو هريرة عن ذاته، فيقول: "نشأت يتيمًا وهاجرت مسكينًا وكنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان بطعام بطنى وعقبة رجلى... وكنيت بأبى هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها"(8) وغلبت كنيته عليه ونسب إلى أمه لاختلافهم فى اسم أبيه، وهو من قبيلة دوس قدم مع قومه إلى النبى فى غزوة خيبر، وأشهر إسلامه وانضم لفقره إلى أهل الصفة؛ وأهل الصفة أناس فقراء لا منازل لهم ولا عشائر كان إذا تعشى النبى دعا طائفة منهم يتعشون معه ويفرق طائفة منهم على الصحابة ليعشوهم!
والتقى أبو هريرة بالرسول لفترة لم تزد على السنة وتسعة أشهر بأية حال من الأحوال ومع ذلك فقد كان أكثر الصحابة رواية عن الرسول، مما جعل الصحابة-وعلى رأسهم السيدة عائشة-يتهمونه وينكرون علية ذلك. وهكذا فقد كان أبو هريرة أول راوية اتهم فى الإسلام(9).
وحين توفى النبى ولاه الخليفة عمر (عام 20 هـ) على البحرين بعد وفاة العلاء بن الحضرمى وسرعان ما عزله وولى مكانه عثمان بن أبى العاص الثقفى، أما السبب فى ذلك فكان عندما أجاب الخليفة عمر بأنه-أبو هريرة-يملك عشرين ألفًا من بيت مال البحرين حصل عليها من التجارة (بقوله كنت أتجر)(10) وكان رد الخليفة عمر: "عدوا لله والإسلام،عدوا لله ولكتابه، سرقت مال الله، حين استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ما رجعت بك أميمة (أمه) الا لرعاية الحمير"(11) وضربه بالدرة حتى أدماه. وقد منعه تماما عن رواية الحديث النبوى بقوله: (لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القرود أو بأرض دوس)(12). ويؤكد أبو هريرة ذلك فيقول: "ما كنت أستطيع أن أقول قال رسول الله (ص) حتى قبض عمر" أو: لو كنت أحدث فى زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربنى بمخفقته"(13).
وقد التقى أبو هريرة كعب الأحبار (الحبر اليهودى الذى أسلم زمن عمر بن الخطاب) واختلطت بينهما المعلومات مما شوش الناس بين حديثهما، وهذا ما عبر عنه بسر بن سعد بقوله: "لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة يتحدث عن رسول الله (ص) ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله"(14).
وهنا أكتفى بما جاء فى الأثر عن أبى هريرة، وأتساءل: ألم تصل تلك المعلومات إلى الإمام البخارى قبلنا؟! وكيف أخرج الكثير من أحاديثه فى صحيحه؟!
2-السيدة عائشة (أم المؤمنين):
ولدت عائشة فى السنة الرابعة، بعد البعثة. أبوها أبو بكر الصديق وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر. وقد تزوجها الرسول بعد معركة بدر ودخل عليها وهى بنت تسع سنين أو عشر ومات عنها وهى ابنة ثمانى عشرة سنة، وتوفيت سنة (58 أو 59هـ). وكانت سيرة حياتها مليئة بالخلاف مع الآخرين، ويذكر البخارى فى صحيحه أن نساء الرسول كن حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر، أم سلمة وسائر نساء الرسول (ص).
وقد تحدثت بنفسها عن غيرتها من خديجة-زوجة الرسول الأولى-وأم سلمة وزينب بنت جحش وفيها قالت للنبى (ص): " ما أرى ربك إلا يسارع فى هواك". كما إنها تحدثت عن حادثة المغافير وسنأتى إلى ذكرها لاحقا. وقد جاء عن بن عباس أن عمر بن الخطاب أخبره عن المرأتين من أزواج النبى (ص) اللتين قال الله عنهما {أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما... وان تظاهرا عليه فان الله مولاه}(التحريم-4) (صغت: مالت عن الحق) فقال: هما عائشة وحفصة (15).
وبعد وفاة النبى (ص) اختلفت مع الخليفة الراشدى عثمان بن عفان عدة مرات وقد جاء فى الأثر أن عثمان قال فى رهط من أهل الكوفة استجاروا ببيت عائشة: أما يجد مراق العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة؟!
فسمعت فرفعت نعل رسول الله (ص) وقالت: تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل! فتسامع الناس فجاؤوا حتى ملأوا المسجد، فمن قائل: أحسنت، ومن قائل: ما للنساء وهذا! حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال(16). وكانت عائشة أول من لقبت الخليفة عثمان نعثلا (يهودى يشبه عثمان فى المدينة) وقالت بصريح العبارة: "اقتلوا نعثلا فقد كفر"(17) وبعد أن قتل عثمان وكسر ضلع من أضلاعه ولم يشهد جنازته-وهو المبشر بالجنة-إلا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته فقط!! عادت لتطالب بدم عثمان وتقول قتل مظلوما، مما دعا بن أم كلاب للقول:
فمنك البداء ومنك الغير ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لنا إنه قد كفر...(18)
بعد ذلك قاتلت عائشة الخليفة علىّ فى موقعة الجمل الشهيرة، ولعل أفضل وصف لذلك ما جاء فى "العقد الفريد" حين دخلت أم أوفى العبدية على عائشة بعد وقعة الجمل، فقالت لها: يا أم المؤمنين، ما تقولين فى امرأة قتلت ابنًا لها صغيرا؟ قالت: وجبت لها النار! قالت: فما تقولين فى امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفًا فى صعيد واحد، قالت: خذوا بيد عدوة الله!!!
أخيرًا فإن السيده عائشة قالت نادمة: "وددت أنى إذا مت كنت نسيًا منسيًا" وقيل إنها عـندما احتــضرت جزعـت فقيل لها: أتـجزعين يا أم المؤمنـين وابنة أبى بـكر فـقالت: إن يوم الجــمل لمعـترض فى حلــقى ليتــنى مت قـبله" لذلك طلـــبت أن لا تـدفن مع النـبى قائلة: "إنى قد أحدثت بعد رسول الله (ص) فادفنونى مع أزواج النبى (ص)" (19).
بهذه العبارة أختم الحديث عن السيدة عائشة وقلبى يعتصر ألما وعينى تدمع لأنها تمثل الوجدان الحى فيها، تمثل الندم والتوبة والاستغفار التى يقبلها الله-عز وجل-من الناس جميعًا دون أن ينعتوا بصفة العدول أو الثقاة!!
3-عبد الله بن عباس-حبر الأمة:
ولد عبد الله بن عباس قبل الهجرة بسنة أو سنتين وعندما توفى الرسول كان صبيًا لم يتجاوز عمره أحد عشر ربيعًا ومع ذلك فقد روى حوالى (1660) حديثا(20)-أثبتها البخارى ومسلم فى صحيحيهما. وبالرغم مما يقال بأنه لازم الرسول (ص) خلال تلك الفترة، فإن ذلك لا يوجد ما يثبته سوى أنه أعد ماء لوضوء النبى (ص) مرة ودخل بين صفوف المصلين خلفه وهو طفل (21).
ولعل المأخذ الأول والأهم على ابن عباس هو صراعه الكلامى والفكرى مع ابن عمه الخليفة الراشدى على بن أبى طالب، وهنا نترك الكلام ونقله للطبرى (تاريخ الطبرى،ج4)(22)الذى يتحدث عن أسباب ذلك الصراع والخلاف، حيث تبدأ القضية برسالة من أبى الأسود الدؤلى صاحب بيت المال فى البصرة تصل إلى الخليفة على وفيها: "عاملك وابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير حق!!"
وعلى الفور يرسل الخليفة رسالة يستوضح فيها من ابن عباس صحة ما جاءه ويطالبه برفع حسابه، فيأتى الجواب: "أما بعد، فان الذى بلغك باطل، وأنا لما تحت يدى أضبط وأحفظ، فلا تصدق الأظناء، رحمك الله والسلام" ثم يعاود الخليفة ويطالبه بكتابة موارده ومصاريفه من أموال الجزية، فيأتى الجواب هنا كما يلى: "والله لأن ألقى الله بما فى بطن الأرض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها، أحب إلىَّ من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة، فابعث إلى عملك من أحببت" ثم يأتى الخبر بأن ابن عباس قد جمع أموال بيت المال ومقدارها نحو ستة ملايين درهم، واستعان بأخواله من بنى هلال فى البصرة الذين أجاروه بعد مناوشة مع أهل البصرة وأبلغوه مأمنه فى مكة-مسقط رأسه-حيث أوسع على نفسه واشترى ثلاث جوار مولدات حور بثلاثة آلاف دينار!
الأمر الذى دفع الخليفة للكتابة برسالة-اكتفينا منها بما يلى:
"... فلما أمكنتك الفرة أسرعت العدوة، وغلطت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الهزيلة وظالعها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك لا أبَا لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله! أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حرامًا؟ أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله، وأدِّ أموال القوم فانك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكننى الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده، وأقمع المظالم، وأنصف المظلوم، والسلام"
ويأتى الرد الحاسم من ابن عباس للخليفة: "لئن لم تدعنى من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به". بهذا الكلام أنهى تلك الفقرة متسائلا كيف نقول عن ابن عباس: إنه حبر الأمة وربانى أمة محمد وبحر علمها الزاخر وترجمان القرآن؟!! وقد قال فيه من عاصره؛ الخليفة على أمير المؤمنين: "يأكل حرامًا ويشرب حرامًا لم يؤد أمانة ربه".
السؤال السادس: هل يوافق كل ما وصلنا من الأحاديث النبوية المعطيات العلمية والنظم والاعراف السائدة اليوم؟
والجواب هنا: لا تتوافق معظم الأحاديث النبوية التى تتطرق للأمور الكونية مع الثوابت والمعطيات وهو ما سنراه لاحقًا فى أبحاث الكتاب، فالشمس تذهب كل يوم تحت عرش ربها وقد ثبت أن الأرض بدورانها حول الشمس يتعاقب الليل والنهار، وآدم طوله سبعون ذراعًا (ما يعادل بناء 12 طابقا) ولم يثبت العلم ذلك فى الإنسان القديم-ما قبل العصور التاريخية، والحبة السوداء تشفى من كل داء لكنها لم تثبت فعاليتها فى كثير من الأمراض السائدة اليوم أو حتى فى أيامهم كالطاعون مثلا.
وسبع تمرات من المدينة تقى من السم والسحر، وهنا نطلب من مؤيدى ذلك التطبيق مباشرة لمعرفة النتائج. والعظام تفنى ما عدا عجب الذنب، والقردة تزنى وترجُمها القرود عقوبة لها(23)، وملك الموت أعور فقأ موسى عينه، والحجر هرب بثياب موسى فضربه حتى ترك آثارًا فيه، وإلى غير ذلك من الأحاديث التى تدخل تحت بند الأسطورة والخرافة لا العلم ومعطياته، وهناك أحاديث تعارض بعض الأعراف السائدة كأحاديث البزازة وتداول المسواك لأكثر من شخص والذباب البصق والتف والنف والصلاة بعد أكل اللحوم والدهون دون وضوء أو غسل للفم وغيرها...
السؤال السابع: هل وحدت الأحاديث النبوية المنسوبة إلى الرسول الامة الإسلامية وطورتها؟
من يدرس التاريخ الإسلامى بحياد وموضوعية ويقف على حال المسلمين اليوم ببحث وتأمل ليستنتج ما ينتظرهم من مستقبل، يدرك تماما أن الحديث النبوى لعب دورًا رئيسيًا فى تقسيم الأمة وتضارب آرائها وأفكارها ومذاهبها بحجة التعددية، تلك التى يغلب عليها طابع الطائفية والقبلية والعصبية والتى لا تقبل الطرف الآخر أو تعترف به-وإن زعمت غير ذلك.
والأحاديث المنسوبة بما فيها من معطيات على الصعيد الفكرى والسياسى والاجتماعى أدت إلى تخلف الأمة وتواكلها وإيمانها بالخرافة لحلول مشاكلها العالقة عوضًا عن العمل والعلم.
وعلى الرغم من الصيحات التى تظهر هنا وهناك فى بعض الكتب وعلى كل شاشات التلفزة لتتحدث عن مكانة العمل والعلم فى معطيات الحديث النبوى فانها لا تتعدى على أرض الواقع الشعارات والأقوال الرنانة.
السؤال الثامن: ماذا نأخذ من الحديث النبوى؟
نأخذ من الحديث النبوى الحكمة والموعظة التى يمكن أن يتقبلها كل إنسان على أرض المعمورة، أمثال أحاديث " لا ضرر ولا ضرار"، "خيركم خيركم لعياله..."، "كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته..."....
أما الأحاديث التى تعارض العلم والمنطق والذوق السليم فنتركها دون حرج، كما أنه يمكن الاستفادة من الأحاديث النبوية فى دراسة الحوادث التاريخية وتحليلها ونقد سلبياتها لتجنبها فى بناء مجتمع المستقبل، مجتمع المحبة والعلم والحرية.
السؤال التاسع: هل وفق الإمام البخارى فى صحيحه؟
هذا ما سنترك للأخ القارئ الحكم عليه بعد قراءة فصول الكتاب وبحوثه بعيدًا عن العصبية والانحياز وهالة تقديس الأشخاص! أخيرًا ثمة تساؤل مشروع هنا، إذا كان الحديث النبوى يمثل شرعًا ووحيًا مقدسًا فما هى حال الناس قبل أن يجمع فى الكتب والصحاح؟! ذلك أن الحديث قد جمع بعد أن مضى على وفاة الرسول الكريم ما لا يقل عن مائة وخمسين عامًا (الإمام البخارى عاش بين (194ـ 256هـ)).
وكيف عرف الناس أمور دينهم ودنياهم؟ وكيف عرفوا التابعين منهم؟ وكيف ميزوا بين طبقات الصحابة الكرام-حسب ابن سعد أم الحاكم؟!(24)
المدخل إلى اسلوب الكتاب
قسمت أبحاث الكتاب الرئيسية إلى ستة فصول تم فى كل منها اتباع الفقرات الاساسية التالية:
1-الفقرة الاولى: (توطئة): تحتوى على مقدمة الموضوع المدروس.
2-الفقرة الثانية: (متن الحديث): وفيها نص الحديث الحرفى مع ذكر الكتاب والباب الذى ورد فيه.
3-الفقرة الثالثة: (الشرح والمناقشة): تحتوى على شرح الحديث حسب ما جاء فى كتب الأثر والتراث مع التعليق عليه ومناقشته.
4-الفقرة الرابعة: (النتيجة): تحتوى على خلاصة ما تم التوصل إليه من خلال الفقرات الثلاث السابقة.
الهوامش
(1) للسنة مصطلحات مختلفة حسب مجال بحثها (سيرة-فقه-حديث...)
(2) نهى الرسول فى صحيح مسلم عن كتابة الحديث حيث جاء عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله (ص) قال: "لا تكتبوا عنى شيئا إلا القرآن ومن كتب عنى شيئا غير القرآن فليمحه" وبالرغم من أن الحديث صحيح-حسب تصنيفهم-إلا أنى لن أعتمده دليلا.
(3) حسب ابن الجوزى عدد أحاديث أبى هريرة (5374) حديثًا ولا تزيد عن (700) عند عبد الله بن عمرو.
(4) الباحث الحثيث-ابن كثير.
(5) لن يتم اعتماد ذلك فى أبحاث الكتاب التى تنطلق من المفاهيم الواردة فى البخارى.
(6) راجع صحيح البخارى-كتاب المغازى، باب مرض النبى (ص)
(7) راجع صحيح البخارى، باب التفسير
(8) طبقات بن سعد 2:4: 53.
(9) تاريخ آداب العرب، مصطفى الرافعى، وكان على بن أبى طالب يقول: "أكذب الناس أبو هريرة الدوسى" شرح النهج.
(10) تاريخ الذهبى الكبير 2/338.
(11) العقد الفريد: 1/53-ومعنى رجعت بك أميمة: تغوطت بك أمك.
(12) البداية والنهاية 8/206-سير أعلام النبلاء 2/4631-أضواء على السنة 54.
(13) أضواء على السنة 59.
(14) سير أعلام النبلاء 2:436-لمعرفة المزيد يراجع فتح البارى، تفسير ابن كثير.
(15) راجع صحيح البخارى، كتاب التفسير.
(16) الأغانى 4/180، مروج الذهب، 1/435 وكما نلاحظ فالتضارب بين الصحابة!
(17) تاريخ الطبرى، 4/477.
(18) الإمامة والسياسة، 1/66.
(19) طبقات بن سعد.
(20) ابن الجوزى.
(21) راجع صحيح البخارى، كتاب الصلاة.
(22) يراجع أيضا: الكامل لابن الاثير، (ج3-194).
(23) لمعرفة التفاصيل عن زنى القرود راجع فتح البارى، وهنا نضيف ما روى فى "البخارى" عن يحيى الكندى عن الشعبى وأبى جعفر: (يلعب بالصبى أن أدخله فلا يتزوجن أمة) وأطلب من السادة العلماء الأفاضل شرح ذلك القول للعامة!
(24) الطبقات عند ابن سعد خمس وعند الحاكم اثنتا عشرة طبقة.

الفصل الثانى
البخارى والقرآن الكريم
لن يتم التعرض فى هذا الفصل إلى تفسير القرآن الكريم بواسطة بعض الأحاديث الواردة فى صحيح البخارى لأن تفسير وشرح ما يزيد على ستة آلاف آية لا يمكن أن يتم بما يقارب من (2762) حديثًا وهو مجموع ما ورد فى صحيح البخارى بعد استثناء المكرر منها(1).
وعليه فإنه سيتم فى هذا الفصل بحث بعض الأحاديث المتضمنة لما يلى:
أولا: أسباب النزول.
ثانيا: النسخ فى آيات الكتاب.
ثالثا: الأحاديث القدسية.
أولا: أسباب النزول (نزول آيات الكتاب):
قبل البحث فى هذا البند لابد من التصويب والتصحيح لمصطلح أسباب النزول ذاته المستخدم فى معظم كتب التفسير والفقه، لما فى ذلك من تطاول على معرفة الله-عز وجل-الذى لا يحتاج وهو العالم العليم لأى سبب مادى فى إنزال كتابه الكريم، ولعل مصطلح مناسبات النزول الذى ينسبه البعض إلى الإمام على هو الأنسب والأجدر بالاستخدام.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن معظم الأحاديث الواردة فى أسباب النزول ماهى إلا أقوال الصحابة وآراؤهم وفهمهم ولم تنسب بالقول إلى الرسول الكريم(ص).
1ـ الموضوع الاول: أول آيات التنزيل الحكيم:
توطئة: القرآن الكريم هو الكتاب المنزل الذى يقدسه المسلمون ويعتبرونه المرجع الرئيسى الأول على اختلاف الزمان والمكان، فإذا كان نزول أول آياته على الرسول الكريم-وهو دون أى شك أمر جلل وخطب عظيم-موضع خلاف عند البخارى، أفلا يكون فى ذلك غياب لدقة المتابعة ومصداقية البحث والتحرى والتمحيص.

متن الحديث (1):
‏عَنْ‏ ‏عَائِشَةَ، أم الْمُؤْمِنِينَ، ‏أَنَّهَا قَالَتْ: ‏أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏مِنْ الْوَحْى الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ ‏فَلَقِ ‏الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو ‏بِغَارِ حِرَاءٍ ‏فَيَتَحَنَّثُ ‏فِيهِ، ‏‏وَهُوَ التَّعَبُّدُ، ‏اللَّيَالِى ذَوَاتِ الْعَدَدِ ‏قَبْلَ أن ‏يَنْزِعَ ‏إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى ‏‏خَدِيجَةَ ‏فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى ‏غَارِ حِرَاءٍ؛ ‏‏فَجَاءَهُ ‏‏الْمَلَكُ ‏فَقَالَ ‏اقْرَأْ، قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، قَالَ: "فَأَخَذَنِى‏ ‏فَغَطَّنِى ‏‏حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ثُمَّ ‏‏أَرْسَلَنِى ‏‏فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى ‏فَغَطَّنِى ‏الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ثُمَّ ‏أَرْسَلَنِى ‏‏فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى ‏فَغَطَّنِى ‏الثَّالِثَةَ ثُمَّ ‏‏أَرْسَلَنِى ‏‏فَقَالَ: {‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ‏ ‏عَلَقٍ‏ ‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}. ‏فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص) ‏يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى ‏خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ ‏‏رَضِى اللَّهُ عَنْهَا ‏فَقَالَ: ‏"زَمِّلُونِى ‏زَمِّلُونِى" ‏فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ ‏‏الرَّوْعُ، ‏‏فَقَالَ ‏‏لِخَدِيجَةَ، ‏‏وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى" فَقَالَتْ ‏خَدِيجَةُ ‏كَلا وَاللَّهِ، ‏مَا يُخْزِيكَ ‏‏اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ ‏‏الْكَلَّ، ‏وَتَكْسِبُ ‏‏الْمَعْدُومَ، ‏‏وَتَقْرِى ‏الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى ‏نَوَائِبِ ‏‏الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ ‏خَدِيجَةُ ‏حَتَّى أَتَتْ بِهِ ‏‏وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ‏‏ابْنَ عَمِّ ‏‏خَدِيجَة،َ ‏وَكَانَ امْرَأً قَدْ ‏تَنَصَّرَ ‏فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِى فَيَكْتُبُ مِنْ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أن يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِى. فَقَالَتْ لَهُ ‏‏خَدِيجَةُ: ‏يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ.
فَقَالَ لَهُ ‏‏وَرَقَة:ُ ‏يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا؟ تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ ‏‏وَرَقَةُ: ‏‏هَذَا ‏‏النَّامُوسُ ‏‏الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى ‏‏مُوسَى، ‏يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص): ‏‏أَوَمُخْرِجِى هُمْ؟ قَالَ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِى، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا ‏‏مُؤَزَّرًا. (اخرجه البخارى فى: 1ـ كتاب بدء الوحى: 3ـ باب حدثنا يحيى بن بكير)
الشرح والمناقشة (1):
الحديث الوارد مألوف ومعروف عند كثير من الناس لكثرة تكراره فى الكتب والمساجد وعلى شاشات التلفزة والمحطات الإذاعية والفضائية، وعليه فاننى هنا سأشير سريعًا إلى شرح بعض المفردات الواردة فيه: حيث يقال (فلق الصبح) فى الشئ الواضح البين، أما (غار حراء) فهو نقب فى جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، أما فعل (يتحنث) فيعنى تجنب الذنب والإثم، والفعل (ينزع) يستخدم لمن يحن ويشتاق ويرجع لأهله، بينما يعنى الفعل (غطنى) الضم مع العصر، أما قوله (ص) (زمِّلونى) فهو من التزميل وهو ما يوازى التلفيف فى المعنى بينما تفيد (تحمل الكل) بعدم الاستقلال بالأمر، أخيرًا فان (الناموس) هو صاحب السر حسب تعريفهم.
وعلى الرغم من التساؤل المشروع حول إمكان السيدة عائشة فى نقل عين الحوار الدائر بين الرسول الكريم وزوجته السيدة خديجة-وكأنها كانت موجودة معهما-والذى جرى قبل ولادتها بأكثر من سنة من الزمن، فإنه يمكن أن نوجز معنى الحديث: بأن الرسول الكريم (ص) بعد تعبده وخلوته فى غار حراء قرب مكة جاءه الملك بأول كلمات التنزيل الحكيم وهى كلمة (اقرأ) معلنًا بذلك بداية نزول أول آيات القرآن الكريم، وقد فزع الرسول (ص) من ذلك وذهب إلى زوجته خديجة التى طمأنته وهدأته وتبينت أمره من ابن عمها النصرانى ورقة بن نوفل الذى رأى فى ذلك بداية للرسالة السماوية وأن الرسول سيلقى من أهله-قريش-العداء والإبعاد عن الديار.
بعد ذلك العرض ننتقل إلى الحديث المخالف التالى:
متن الحديث (2):
حديث ‏جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأنصاري. عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ، ‏‏سَأَلْتُ ‏‏أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ‏عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ-‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر-‏قُلْتُ يَقُولُونَ-‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ-‏فَقَالَ ‏أَبُو سَلَمَةَ ‏‏سَأَلْتُ ‏‏جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ‏‏رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا ‏عَنْ ذَلِكَ، وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِى قُلْتَ، ‏‏فَقَالَ ‏جَابِرٌ ‏‏لا أُحَدِّثُكَ إِلا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص)، ‏قَالَ: ‏"جَاوَرْتُ ‏‏بِحِرَاءٍ ‏فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِى هَبَطْتُ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِى فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ ‏‏خَدِيجَةَ ‏فَقُلْتُ ‏دَثِّرُونِى ‏‏وَصُبُّوا عَلَى مَاءً بَارِدًا، قَالَ فَدَثَّرُونِى وَصَبُّوا عَلَى مَاءً بَارِدًا، قَالَ فَنَزَلَتْ-‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. ‏(أخرجه البخارى فى: 65ـ كتاب التفسير: 74ـ سورة المدثر: باب حدثنا يحيى).
الشرح والمناقشة (2):
يتضح من ذلك الحديث أن أول ما نزل القرآن الكريم هو-يا أيها المدثر-وهذا ما يعارض حديث السيدة عائشة السابق إضافة لاختلاف التفاصيل بينهما حيث لم يقم هنا الملك-جبريل-بضم الرسول وعصره أو مقابلته أصلا، وانما سمع الرسول (ص) صوتًا لم يستطع تحديد مصدره معلنًا بذلك بداية الرسالة السماوية.
النتيجة:
توجد روايتان حول نزول أول آيات الذكر الحكيم، وإذا كان السادة العلماء الأفاضل قد اعتمدوا رواية (اقرأ) فى أحاديثهم ودعواتهم أو فى تسمية بعض قنواتهم الفضائية فعليهم أن يزيلوا الرواية الأخرى من صحيح البخارى ليصبح لاعتمادهم مصداقية وموضوعية علمية، علما أن هناك من يرى فى كلمة (اقرأ) معنى الإبلاغ (بلغ)، كقولهم "يقرئك السلام" وهى لا تعنى مفهوم القراءة السائد من كتاب أو صحيفة أو ما شابه ذلك. وعليه فتصبح البداية-يا أيها المدثر-تفيد العمل والجد والمثابرة قبل البدء بالسلام أو القراءة حسب المفهوم السائد!
2-الموضوع الثانى: آخر آيات التنزيل الحكيم:
توطئة: كما سبق ورأينا خلافًا فى نزول أول آيات الذكر الحكيم فإننا سنجد خلافًا فى نزول آخر آياته أيضا. وإذا كان الأمر كذلك فى أهم أحداث النزول وهى بدايتها (بداية الرسالة" ونهايتها (نهاية الرسالة) فما هو حال الآيات الأخرى الباقية فيما بينها؟
متن الحديث (1):
حديث عمر بن الخطاب، أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية فى كتابكم تقرؤونها، لو علينا، معشر اليهود، نزلت!! لاتخذنا ذلك اليوم عيدا.
قال: أى آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا}-قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذى نزلت فيه على النبى (ص) وهو قائم بعرفة، يوم جمعة. (أخرجه البخارى فى: 2-كتاب الإيمان: 33-باب زيادة الايمان ونقصانه).
الشرح والمناقشة (1):
يقال أن الرجل المعنى من اليهود فى الحديث هو كعب الأحبار قبل أن يسلم. ويتضح من ذلك الحديث عدم وجود أى قول أو رأى أو تعليق صادر عن الرسول الكريم (ص)، وأن المتحدث هو الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، وأن صاحب الرأى حول تلك الآية-التى لا يفتأ السادة العلماء تكرارها-هو كعب الأحبار، حسب كتب الأثر والتفسير السائدة.
وعليه فإذا كانت تلك الآية تكفى معشر اليهود حسب نص الحديث فإن ذلك شأنهم أو شأن حبرهم ولا علاقة لذلك بالمسلمين من قريب أو بعيد.
ومنطق الأمور أن تكون هذه الآية نهاية التنزيل الحكيم لأنها تدل على اكتمال الدين وإتمام نعمة الله-عز وجل-ورضاه ولا يعقل أن ينزل بعدها أية أحكام أو تعليمات أو تشريعات جديدة لتكون ناسخة لها.
بعد ذلك العرض ننتقل إلى الحديث التالى:
متن الحديث (2):
حديث ابن عباس، عن سعيد بن جبير، قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت فيها إلى بن عباس فسألته عنها. فقال: نزلت هذه الآية {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم}-هى آخر ما نزل وما نسخها شئ. (أخرجه البخارى فى: 65-كتاب التفسير: 4-سورة النساء: 16 باب من يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم).
الشرح والمناقشة (2):
يتضح من ذلك الحديث، كما سبق وذكرنا فى مقدمة الفصل-أن القول والرأى هو للصحابى الطفل أيام حياة الرسول الكريم-ابن عباس الذى يجزم أن آخر التنزيل كان الآية الكريمة رقم (93) الواردة فى سورة النساء، وتكون بذلك ناسخة لكل ما قبلها من أحكام-حسب تعبير مصطلح الفقهاء-ومنها آية اكتمال الدين المشار إليها فى الحديث السابق مباشرة لأنه لا اكتمال مع الزيادة والإضافة الجديدة.
ومع ذلك فإن الإمام البخارى يورد لنا قولا مخالفًا آخر نطلب من الأخ القارئ متابعته معنا فى الحديث التالى:

متن الحديث (3):
حديث البراء: قال: آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت-يستفتونك. (أخرجه البخارى فى: 65-كتاب التفسير: 4-سورة النساء: 27 {باب يستفتونكم قل الله يفتيكم فى الكلالة}).
وكما نرى فان هذا الحديث يعارض كلا الحديثين السابقين. فسورة براءة (وهى التوبة) لا علاقة لها بسورة النساء، وآية الكلالة فيها هى آخر التنزيل الحكيم وليس آية-اليوم أكملت-من سورة المائدة أو آية-من يقتل نفسا-حسب جزم بن عباس.
النتيجة:
هناك اختلاف فى تحديد آخر آيات التنزيل الحكيم بين الصحابة الذين يخطئون ويصيبون كغيرهم من الناس، وكان على الإمام البخارى تحرى الأصح والأدق من الحديث واعتماده خصوصًا أنه كان أقرب فى زمانه وعهده إلى الصحابة والسلف الصالح منا اليوم.
واذا كان البعض لا يرى حرجًا فى ذلك الاختلاف ويعتبر ترتيب آيات القرأن الكريم جهدًا إنسانيًا فإن قراءة تلك الآيات يمكن أن تتم بلا تسلسل أو ترتيب فيما بينها فالانسان يسعى دوما للسهولة واليسر ويمكنه أن يتجاوز الجهود الانسانية السابقة دونما خوف أو حرج.
أمـا إذا كان الـترتــيب والتسلـسل لآيـات الكــتاب الكريم وحـيًا مـقدسًا فـان عليـنا إعـادة النظر فى كل ما جاء من أحاديث أسباب النزول من الناحية الشرعية، وإعطاءها صبغة تاريخية بحتة بعد حذف المتناقض منها واعتماد أصحها، إن أمكن.
3-الموضوع الثالث: الاستدراك فى التنزيل الحكيم:
توطئة: لا شك فى أن التنزيل الحكيم قد أعطى إجابات وأحكاما وتشريعات مباشرة لاحداث جرت بين الصحابة فى زمنهم وأصبح بعضها-بعد ذلك-حكما صالحًا لكل زمان ومكان، إلا إنه لا يمكن أن يقبل من الإنسان التدخل وإعطاء السبب للخالق-عز وجل-لتعديل أو إضافة أو تغيير محكم آياته المقدسة لتوافق رغبة الصحابى وحاجته.
متن الحديث (1)
عَنْ ‏سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ‏‏قَالَ: ‏أُنْزِلَتْ-{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ‏‏ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ‏ ‏مِنْ‏‏ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}-‏وَلَمْ يَنْزِلْ-‏مِنْ الْفَجْرِ-‏فَكَانَ رِجَالٌ إذا أَرَادُوا الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِى رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ-‏مِنْ الْفَجْرِ-‏فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا ‏‏يَعْنِى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.‏ (أخرجه البخارى فى: 30ـ كتاب الصوم: 16 باب قوله تعالى-{وكلوا واشربوا حتى يتبين}).
الشرح والمناقشة (1):
يبين الحديث تـماما أن الله-عز وجل-لم يـكن دقـيقًا فى اختـيار الكلمات وانه استدرك ذلك حيث أنزل كلمتى-من الفجر-وقد فاته إمكانية استيعاب بعض الصحابة لكلامة المنزل، وعلية فأنا أرى فى ذلك الحديث تطاولا-ربما بدون قصد-على علم الله الأزلى والشمولى والأبدى. ولننتقل بعد ذلك إلى حديث مشابه آخر.
متن الحديث (2):
حديث الْبَرَاءَ ‏‏رَضِى اللَّهُ عَنْهُ قال: ‏‏لَمَّا نَزَلَتْ-{‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}‏- دَعَا رَسُولُ اللَّهِ (ص)‏ ‏زَيْدًا ‏‏فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا، وَشَكَا ‏‏ابْنُ أم مَكْتُومٍ‏‏ ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ-{‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى ‏‏ الضَّرَرِ}. (أخرجه البخارى فى: 56-كتاب الجهاد والسير: 31-باب قول الله تعالى: {لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر}).
الشرح والمناقشة (2):
يظهر فى ذلك الحديث أيضًا تداركه-جل وعلا-لحالة ابن أم مكتوم الضرير واستدراكه لذلك بإضافة "غير أولى الضرر" إلى الآية الكريمة لتصبح أكثر شمولية وإرضاء للصحابة-حاشى لله! وسأختم هنا هذا الفصل بحديث للبراء نصه ما يلى:
متن الحديث (3):
حديث الْبَرَاءَ:ُ قال: ‏نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا. كَانَتْ ‏‏الأَنْصَارُ ‏‏إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا، لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ ‏رَجُلٌ ‏مِنْ‏‏ الأَنْصَارِ ‏‏فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ-{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. (أخرجه البخارى فى: 26-كتاب العمرة: 18-باب قوله تعالى-"واتوا البيوت من ابوابها").
الشرح والمناقشة (3):
يتضح من ذلك الحديث أن الآية الكريمة نزلت حصرًا فى معشر الأنصار فى المدينة المنورة لتمنعهم من عادة جاهلية وهى دخول البيوت من خلفها فى أيام الحج والعمرة.
واذا كان هناك من يدخل البيوت من خلفها زمن الإمام البخارى فاننا لا نرى فى يومنا هذا أى إسقاط لتلك الآية على واقعنا خصوصًا أن معظمنا يقيم فى شقق سكنية ليس لها إلا باب رئيسى واحد.
النتيجة:
هناك الكثير من الأحاديث-التى أشرنا لبعضها فقط-تظهر فى صحيح البخارى تعديلا للتنزيل الحكيم ليصبح ملائما لمتطلبات وملاحظات الصحابة وهو ما لا يقبل عندما يعتبر القرآن الكريم وحيًا مقدسًا من الله-عز وجل-لرسوله الكريم محمد (ص).
لذلك تتضح لنا ضرورة الابتعاد عن أسباب النزول هذه لأنها تجعل من التنزيل الحكيم نصًا تاريخيًا ماضيًا، وإذا كنا نؤمن بصلاحية القرآن الكريم لكل زمان ومكان فإنه يتوجب علينا محاولة إعادة فهمه بعيدًا عن أسباب البخارى اعتمادًا على أرضيتنا المعرفية الفكرية والعلمية المعاصرة.
ثانيا: النسخ فى آيات الكتاب
توطئة: هناك آيات نسخت آيات أخرى من الذكر الحكيم-حسب رأى معظم الفقهاء-وبالرغم من ضبابية ذلك المصطلح (النسخ) لأنه يمكن أن يكون فى اللفظ أو المعنى أو بإسقاط الآية (المعلمة بدائرتين)، فإنه يخضع للتحفظ الشديد، لأن الله-عز وجل-وهو العالم العليم لا يمكن أن ينزل فى كتابه العزيز أحكاما وشرائع ناسخة لما قبلها بفترة لا تتجاوز العقدين من الزمن.
والإمام البخارى هنا يطلعنا على أحاديث نسخت أو أسقطت آيات من القرآن الكريم لأسباب نجهلها ولم يستطع أحد من السادة العلماء إقناعنا بها كما سنجد فيما يلى:
متن الحديث (1):
حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ................ أن اللَّهَ بَعَثَ‏ ‏مُحَمَّدًا ‏(ص) ‏‏بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا. رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص) ‏‏وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى أن طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، أن يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِى كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. وَالرَّجْمُ فِى كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى، إذا أُحْصِنَ، مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إذا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أو كَانَ الْحَبَلُ أو‏ ‏الاعْتِرَافُ. (أخرجه البخارى: 86-كتاب الحدود: 31-باب رجم الحبلى من الزنى إذا احصنت).
الشرح والمناقشة (1):
سأورد هنا شرح ذلك الحديث حسب ما جاء فى الأثر وكتب التراث لأعود بعد ذلك إلى التعليق عليه ومناقشته، حيث نجد أن-آية الرجم وهى-الشيخ والشيخة إذا زنيًا فارجموهما البتة تم نسخ لفظها وبقى حكمها، والرجم فى كتاب الله حق: فى قوله تعالى-{أو يجعل الله لهن سبيلا}-بين النبى (ص) أن المراد به رجم الثيب وجلد البكر. ففى مسند أحمد من حديث عبادة بن الصامت قال: أنزل الله تعالى على رسوله (ص) ذات يوم، فلما أسرى عنه، قال "خذوا عنى، قد جعل لهن سبيلا، الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفى سنة". ومعنى (أحصن) تزوج وكان بالغًا وعاقلا. وتقوم (البينة) بالزنا بشرطها المقرر فى الفروع أو كان (الحبل) أى وجدت المرأة الخلية من زوج أو سيد حبلى، ولم تذكر شبهة ولا إكراها. ويكون (الاعتراف) بالإقرار بالزنا والاستمرار عليه-انتهى.
ويتضح من نص الحديث السابق وشرحه التقليدى النقاط الرئيسية:
1-الحديث منسوب إلى الصحابى عمر بن الخطاب قولا لا إلى الرسول الكريم.
2-لا يوجد قول لرسول الله (ص)-وهو الموحى إليه-فى صحيح البخارى يؤكد بقاء حكم تلك الآية ونسخ لفظها، ولا ندرى ما الحكمة من نسخ اللفظ وبقاء الحكم!
3-لا يوجد آية فى كتاب الله-عز وجل-تتحدث عن عقوبة رجم الثيب حتى الموت، علما أن الأحكام الشرعية فى القرآن الكريم واضحة وجلية، ففى الآيات الواردة فى سورة النور (الآية السادسة حتى التاسعة) لا يوجد ما يشير إلى رجم الثيب بعد الزنا.
4-بالعودة إلى الآية الواردة فى شرح الحديث السابق (حسب مسند الإمام أحمد) نجدها فى سورة النساء كما يلى: {واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما أن الله كان توابًا رحيما}(النساء 15-16).
ولا يمكن-حسب الآية الكريمة الأولى السابقة-أن يكون السبيل بعد قوله تعالى-يتوفاهن الموت-هو الرجم، فالسبيل خلاص ونجاة ولا يكون الخلاص من الإمساك بالرجم.
كذلك نجد أن عقوبة الذكور (اللذان يأتيانها) هى بالإيذاء وأن باب التوبة والإصلاح مفتوح لهما بينما عقوبة النساء الرجم-حسب ما استنتج ابن الصامت فى حديثه-وهو ما يشير إلى تمييز الذكر عن الأنثى وفى ذلك إساءة لدين الإسلام الحنيف.
والحقيقة أننا نجد فى الآيتين السابقتين وصفًا للفاحشة فى حالات الشذوذ الجنسى حيث أن الخطاب فى الآية الأولى موجه للنساء (اللاتى-يأتين-من نسائكم...) بينما هو موجه للذكور فى الآية الثانية (اللذان... يأتيانها...) ويبين فى كلتا الآيتين عقوبة فاعليها ولا توجد حالة فاحشة لذكر مع أنثى والتى أوضحتها سورة النور (الآيات من 2-9).
5-اذا أخذنا نص الآية المنسوخة لفظا وهى: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة-نجد أن الحكم يجب تطبيقه على الشيخ والشيخة حكما وليس على غيرهما من النساء والرجال، مع الإشارة هنا إلى أن الشيخ هو المسن الذى لا يقوى على الأعمال الجسدية وعلى رأسها الجنس كما فى قوله تعالى: {قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخًا أن هذا لشئ عجيب} (هود الآية 72) وفى قوله: {قالوا يا أيها العزيز إن له أبًا شيخًا كبيرًا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين} (سورة يوسف الآية 78).
6-قد يكون الصحابة قد رجموا زمن الرسول (ص) مطبقين بذلك حكم الزنا فى التوراة على رجل وامرأة من اليهود زنيا(2). وهو ما ينسجم مع حديث عبد الله بن أبى أوفى الذى سأل فيه إذا كان الرسول قد رجم قبل أم بعد سورة النور التى لم تنص على الرجم-كما رأينا.
متن الحديث (2)
حديث أَنَسٍ، ‏قَالَ:‏ ‏بَعَثَ النَّبِى ‏(ص) ‏أَقْوَامًا مِنْ ‏‏بَنِى سُلَيْمٍ ‏إِلَى ‏بَنِى عَامِرٍ، ‏فِى سَبْعِينَ. فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالَ لَهُمْ ‏‏خَالِي: ‏‏أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِى حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه ‏(ص).‏ ‏وَإِلا كُنْتُمْ مِنِّى قَرِيبًا. فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ. فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِى ‏(ص)،‏‏إِذْ ‏‏أَوْمَئُوا ‏‏إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ! فُزْتُ وَرَبِّ ‏‏الْكَعْبَةِ! ‏‏ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ، إِلا‏ ‏رَجُلا ‏‏أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ. ‏قَالَ ‏‏هَمَّامٌ (أحد رجال السند) ‏‏فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ؛‏ ‏فَأَخْبَرَ ‏‏جِبْرِيلُ ‏‏عَلَيْهِ السَّلام ‏النَّبِى ‏‏(ص) ‏‏أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِى عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. فَكُنَّا نَقْرَأُ-أن بَلِّغُوا قَوْمَنَا،أن قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِى عَنَّا، وَأَرْضَانَا. ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ. فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، عَلَى ‏رِعْلٍ،‏ ‏وَذَكْوَانَ، ‏‏وَبَنِى لَحْيَانَ، ‏وَبَنِى عُصَيَّةَ ‏‏الَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏ ‏(ص). (أخرجه البخارى فى: 56-كتاب الجهاد والسير: 9-باب من ينكب فى سبيل الله).
الشرح والمناقشة (2)
يقصد (بالسبعين) سبعين رجلا، وهم المشهورون من القراء أنهم كانوا أكثر قراءة من غيرهم و(خال) المتحدث وهو حرام بن ملحان أما الفعل (أومئوا) فيفيد بالقيام بالإشارة الخفية و(الرجل) الذى أومئ إليه، هو عامر بن طفيل-حسب ما جاء فى الأثر.
وعليه فالحديث يفيد أن الرسول قد بعث بسبعين من قراء الصحابة إلى بنى عامر لهدايتهم وكان على رأسهم خال المحدث-حرام بن ملحان-الذى كان أول من قتل بطعنة غدر فحمد الله على نيله الشهادة، ثم قتل كل من كان معه عدا رجل أعرج صعد الجبل-وربما كان معه رجل آخر-وأنزل الله قرآنًا على رسوله نصه-أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا-وكان الصحابة يقرأون ذلك ثم نسخ من القرآن ولم يعد يقرأ، وقد تم الدعاء على أولئك الناس القاتلين أربعين صباحا.
ويتضح حسب نص الحديث أن المتحدث الصحابى أنس بن مالك قد عرف وقائع ما جرى بدقة تامة عبر ذلك الرجل الأعرج الناجى من الموت والذى لم يحدد اسمه ولم نعرف كيفية هروبه وتسلقه الجبل وهو أعرج، وهى أمور لن أقف عندها، كما إنى لن أقف عند نص الآية المنسوخة الذى تحول فيه كلام من قُتِل من الصحابة آنذاك بقولهم: أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا-إلى كلام الله-عز وجل.
ولكنى سأقف عند نسخ هذه الآية-حسب تعبيرهم-وعدم قراءتها وإسقاطها باللفظ والحكم والمكان من القرآن الكريم؛ كيف أسقطت؟! ولماذا أسقطت وأين رأى أو قول الرسول الكريم الموحى إليه فى إسقاطها؟! أمر كان على البخارى أن يتحراه قبل إثباته فى صحيحه.
متن الحديث (3):
حديث عائشة، قالت: سمع النبى (ص) قارئا يقرأ من الليل فى المسجد، فقال: "يرحمه الله لقد أذكرنى كذا وكذا، آية أسقطتها من سورة كذا وكذا". (أخرجه البخارى فى: 66-كتاب فضائل القرآن: 27-باب من لم يرى بأسًا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا).
الشرح والمناقشة (3):
الحديث يظهر تماما أن أحدهم قد ذكر الرسول (ص) بآية أسقطها من سورة لم يذكر اسمها (كذا). والإمام البخارى لم يهتم بأحاديث أوردها فى صحيحه بأن جبريل وحده كان صاحب الحق فى مراجعة الصادق الأمين وتذكرته بالقرآن الكريم، كما إنه لم يهتم بإسقاط آية من الذكر الحكيم،ولكنه أوجد بابًا لم ير بأسًا بأن يسمى سورة فى القرآن بكذا وكذا،ولا أدرى ما تعرفه عبارة كذا وكذا وما تحدده وتعطيه من معلومات أو دلالات حتى يفتح لها باب خاص بها.

النتيجة:
هناك عدد من الأحاديث فى صحيح البخارى-عرضنا بعضها-يبين أن آيات من القرآن الكريم قد نسخت وأن الرسول الكريم قد نسى بعضها وذكِّر بها من قبل أحد المصلين.
وإذا كان الإمام البخارى ومعه الكثير من الفقهاء قد تجاوزوا آيات من الكتاب العزيز بقوله تعالى: {ولا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه}(القيامة: 16-19).
ليستندوا إلى قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير} (البقرة 106).
فإن عليهم الإجابة على التساؤلات التالية:
1-ما المقصود بكلمة (النسخ) فى الآية الكريمة؟ هل هى بمعنى الإزالة أم الإبطال أم المسح أم النقل والكتابة؟! وكيف توصلوا إلى وجود مفهوم النسخ فى الحكم والنسخ فى اللفظ؟!
2-إن النسخ يأتى من الله-عز وجل-عن طريق الوحى الأمين جبريل-عليه السلام-(ننسخ) فهل لهم أن يحددوا أو يظهروا لنا آية فى الكتاب العزيز قال فيها الله-عز وجل-أو حتى رسوله أنها نسخت بآية أخرى مثلها؟! هل لهم أن يبينوا لنا من قوله تعالى بالذكر الحكيم آية (ناسخة ومنسوخة)؟ وإذا كان النسخ يعتمد على الاستدلال والاستنتاج من معانى النص القرآنى فلماذا لا ينسخون مثلا-حسب تعبيرهم-باللفظ الآية التالية من سورة البقرة: {تلك أمة قد خلت لهم ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (الآية 134) حيث تتكرر ذاتها فى الآية رقم (141) من السورة نفسها؟
3-ما هو مفهوم كلمة الآية، هل هى الآية فى القرآن الكريم المحددة برقمين (دائرتين) أم هى بمعنى المعجزة كما فى قوله تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض...}.
4-هل كلف الله-عز وجل -ورسوله بنص صريح غير مؤول أحدًا من الصحابة بتحديد الناسخ والمنسوخ فى الكتاب العزيز؟!
ثالثا: الأحاديث القدسية:
توطئة: تعرف الأحاديث القدسية بأنها قول رب العالمين غير القرآن الكريم-الذى نتعبد الله بتلاوته-وقد رواها الرسول (ص) عن ربه. وعدد الصحيح منها يقارب المائة، اتفق البخارى ومسلم على حوالى أربعين منها فى صحيحهما. وسأورد لاحقًا بعضًا منها مع ما تيسر من الشرح والمناقشة بغية التوصل إلى هدفها وأثرها فى الدين الحنيف.
متن الحديث (1):
حديث أبى هريرة، أن رسول الله (ص) قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفر فأغفر له". (أخرجه البخارى فى: 19-كتاب التهجد: 14-باب الدعاء والصلاة فى آخر الليل).
الشرح والمناقشة (1):
الحديث بسيط فى ألفاظه واضح فى معانيه ويحق للمرء أن يتساءل فيه عن كيفية نزوله جل وعلا إلى الأرض السابحة فى الفضاء الكونى والسماء فوقها وتحتها؛ وهل ينزل تعالى بذاته أم بعلمه؟!
وفى كلتا الحالتين هل يحتاج الله-عز وجل-إلى النزول للأرض فى الثلث الأخير من الليل كى يلبى دعوة عبده ليعطيه ويغفر له!!؟ وهو عالم السر وما أخفى والعالم لما فى الصدور والأقرب من حبل الوريد!! وهل يحق لنا أن نعتبر قوله عز وجل فى هذا الحديث مؤلفًا من ثلاث آيات؟!
متن الحديث (2):
حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ‏قَالَ: ‏قَالَ النَّبِى ‏(ص): ‏يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ‏أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي. وَأَنَا مَعَهُ إذا ذَكَرَنِي. فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِي. وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلإٍ، ذَكَرْتُهُ فِى مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَى بِشِبْرٍ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَى ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ‏ ‏بَاعًا.‏ ‏وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. (أخرجه البخارى فى:97-كتاب التوحيد: 15-باب قول الله تعالى-ويحذركم الله نفسه).
الشرح والمناقشة (2):
سأورد هنا الشرح الوارد فى كتب الأثر، تاركًا للأخ القارئ الحكم والاستنتاج:
أنا عند ظن عبدى بى: قال الحافظ فى الفتح (قال ابن أبى جمرة: المراد بالظن هنا العلم. وهو كقوله-وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه. وقال القرطبى فى المفهم: قيل معنى ظن عبدى بى، ظن الإجابة عن الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها، تمسكًا بصادق وعده. قال: ويؤيده قوله فى الحديث الآخر "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة". قال: ولذلك ينبغى للمرء أن يجتهد فى القيام بما عليه، موقنا بأن الله يقبله ويغفر له، لأنه وعد بذلك، وهو لا يخلف الميعاد. فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس من رحمة الله، وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وُكِل إلى ما ظن، كما فى بعض طرق الحديث المذكور "فليظن بى عبدى ما شاء". قال: وأما ظن المغفرة مع الإصرار، فذلك محض الجهل والغرة). وأنا معه إذا ذكرنى: أى بعلمى. وهو كقوله-أننى معكما أسمع وأرى-قال ابن أبى جمرة (معناه فأنا معه بحسب ما قصد من ذكره لى. قال: ثم يحتمل أن يكون الذكر باللسان فقط، أو بالقلب فقط، أو بهما، أو بامتثال الأمر واجتناب النهى) نقله الحافظ فى الفتح، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى: أى إن ذكرنى بالتنزيه والتقديس سرا، ذكرته بالثواب والرحمة سرا. وقال بن أبى جمرة (يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى-اذكرونى أذكركم-ومعناه اذكرونى بالتعظيم أذكركم بالإنعام، وقال تعالى-ولذكر الله أكبر-أى أكبر العبادات. فمن ذكره وهو خائف، آمنه،أو مستوحش، آنسه، قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}). وإن ذكرنى فى ملأ: الملأ الجماعة. ذكرته فى ملأ خير منهم: قال بعض أهل العلم (يستفاد منه أن الذكر الخفى أفضل من الذكر الجهرى. والتقدير، إن ذكرنى فى نفسه، ذكرته بثواب لا أطلع عليه أحدا. وإن ذكرنى جهرا، ذكرته بثواب أطلع عليه الملأ الأعلى).
وإن تقرب إلى بشبر، تقربت إليه ذراعًا وإن تقرب إلى ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتانى يمشى، أتيته هرولة: قال الحافظ فى الفتح (قال ابن بطال: وصف سبحانه نفسه بأنه يتقرب إلى عبده. ووصف العبد بالتقرب إليه ووصفه بالإتيان والهرولة، كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز. فحملها على الحقيقة يقتضى قطع المسافات، وتدانى الأجسام. وذلك فى حقه تعالى محال. فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز لشهرته فى كلام العرب. فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرًا وذراعًا وإتيانه ومشيه، معناه التقرب إليه بطاعته، وأداء مفترضاته ونوافله. ويكون تقربه سبحانه من عبده، وإتيانه، والمشى، عبارة عن إثباته على طاعته،وتقربه من رحمته. ويكون قوله "أتيت هرولة" أى أتاه ثوابى مسرعا).
متن الحديث (3):
حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ‏‏‏قَالَ: قَالَ النَّبِى (ص): تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتْ النَّارُ: ‏أُوثِرْتُ ‏بِالْمُتَكَبِّرِينَ ‏وَالْمُتَجَبِّرِينَ. ‏‏وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: مَا لِى لا يَدْخُلُنِى إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ ‏‏وَسَقَطُهُمْ. ‏‏قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِى أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِى. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِى أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِى. وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ ‏وَيُزْوَى ‏‏بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ، وَلا يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ‏ ‏يُنْشِئُ‏ ‏لَهَا خَلْقًا. (أخرجه البخارى فى: 65-كتاب التفسير: 50-سورة ق: 1-باب قوله وتقول هل من مزيد).
الشرح والمناقشة (3):
سأبين هنا الشرح الوارد فى الأثر لذلك الحديث؛ بعد ذلك أقوم بالمناقشة والتعليق على ما جاء فيه فمعنى (تحاجت الجنة والنار): تخاصمتا بلسان الحال أو المقال، قال الإمام النووى: (هذا الحديث على ظاهره وأن الله جعل فى النار والجنة تمييزًا تدركان به، فتحاجتا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك).
= أوثرت: اختصت. بالمتكبرين والمتجبرين: مترادفان لغة. فالثانى تأكيد لسابقه. والمتكبر هو المتعظم بما ليس فيه. والمتجبر هو الممنوع الذى لا يوصل إليه،أو الذى لا يكترث بأمر ضعفاء الناس وسقطهم. ضعفاء الناس: الذين لا يلتفت إليهم لمسكنتهم. وسقطهم: أى المحقرون بينهم، الساقطون من أعينهم. قال الحافظ (هذا بالنسبة إلى ما عند الأكثر من الناس. وبالنسبة إلى ما عند الله هم عظماء رفعاء الدرجات. لكنهم بالنسبة إلى ما عند أنفسهم، لعظمة الله عندهم وخضوعهم له، فى غاية التواضع لله والذلة فى عباده. فوصفهم بالضعف والسقط بهذا المعنى صحيح). حتى يضع رجله: قال محيى السنة (الرجل فى هذا الحديث من صفات الله تعالى المنزهة عن التكييف والتشبيه. فالايمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب. فالمهتدى من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطل، والمكيف مشبه. ليس كمثله شئ) قط قط قط: معنى (قط) حسبى، أى يكفينى هذا. ويزوى بعضها إلى بعض: أى تجتمع وتلتقى على من فيها. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا: قال الإمام النووى (هذا دليل لأهل السنة أن الثواب ليس متوقفًا على الأعمال فإن هؤلاء يخلقون حينئذ، ويعطون فى الجنة ما يعطون، بغير عمل. ومثله، أمر الأطفال والمجانين الذين لم يعملوا طاعة قط، فكلهم فى الجنة برحمة الله تعالى وفضله. وفى هذا الحديث دليل على عظم سعة الجنة) -انتهى.
أعود الآن إلى الحديث وشرحه وأصحح بداية فى الشرح بعدم وجود ترادف فى اللغة. فالمتكبر غير المتجبر وليس الثانى مؤكدًا لسابقه؛ كما أن المساكين ليسوا دائما عظماء عند الله رفعاء الدرجات يؤكد ذلك قوله تعالى: {إن الذين توفَّاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} (النساء-97).
أما ما يتعلق بوصفه-سبحانه-رجله فى النار، فأننا نقول لمحيى السنة: الإيمان بذلك ليس فرضًا والخوض بالصفات واستنكارها ليس زوغا، ولا خير فى طريق التسليم إن لم يلتق مع العلم والبحث والمعرفة.
أما أن الله-عزوجل-ينشئ خلقًا جديدًا للجنه فإننا لا ندرى عندئذ ما الحكمة بالوعود بالجنة إذا كان خلقها جديدًا، وإذا كان الثواب فى الآخرة لا يتوقف على الأعمال (3)-حسب الإمام النووى.
النتيجة:
الأحاديث القدسية مصطلح أوجده السادة الفقهاء وأتباعهم ولا يوجد ما يؤكده فى كتاب الله وسنة رسوله المتواترة، وهو ليس قرآنا ولا يمكن قراءة ما تيسر منه فى الصلاة المكتوبة. وقد جاء على لسان بعض الصحابة؛ حيث نجد فى الأمثلة الثلاثة الواردة سابقًا أن الراوى هو أبو هريرة يتحدث مباشرة عن الرسول عن الله-عز وجل-من غير وحى منزل. وإذا كان الله-عز وجل-قد عصم رسوله الكريم فى كتابه المنزل من التحريف والسهو والنسيان والخطأ وتعهد بحفظ ذكره الطيب، فهل هناك ما يشير إلى عدم خطأ أو سهو أو تحريف أو نسيان أبى هريرة؟!
كما أن معظم ما جاء فيه من صفات-لله عز وجل-غير ملائمة لاعتمادها على المشخص وبعدها عن المجاز والمجرد على الرغم من محاولة معظم الفقهاء إقناعنا بغير ذلك!
فقد ورد فى صحيح البخارى أن الله له ساق يكشفها يوم القيامة ليعرفه المؤمنون وهو يحمل على كل أصبع من يده جزءًا من الكون كالسموات والشجر والأرض....الخ..... (راجع البخارى- كتاب التفسير).
الهوامش
(1) باب التفسير فى البخارى من أصغر الأبواب، يراجع الفصل الاول فى الكتاب.
(2) راجع كتاب المناقب (61) فى صحيح البخارى.
(3) يتساءل المرء عن: قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}



الفصل الثالث
البخارى والرسول الكريم
ما سيتم بحثه وتحليله فى هذا الفصل يعتمد على ما جاء فى صحيح البخارى دون أن يعبر-لا من قريب ولا من بعيد-عن قبولى أو تسليمى به؛ ويشمل ذلك المواضيع الرئيسية التالية:
أولا: الرسول والرأى الآخر.
ثانيا: الرسول والغزو.
ثالثا: الرسول وتطبيق الحدود.
رابعا: الرسول وتأثير الآخرين.
أولا: الرسول والرأى الآخر:
توطئة: احترم الرسول الكريم حرية الاعتقاد والتعبير والرأى عند الآخرين وعمل فى سبيل تحقيق ذلك تطبيقًا لقول الحق فى أكثر من موضع ومناسبة: {وجادلهم بالتى هى أحسن}،{ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}... ولكن هل أثبت الإمام البخارى ذلك فى كل صحيحه أم أنه أظهر ما يغايره؟! هذا ما سيتم بحثه بشكل موضوعى وعلمى بعيدًا عن العواطف والشعارات الجياشة فى الأحاديث الثلاثة التالية:
متن الحديث (1)
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ‏يَقُولُ: ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص):‏ "‏مَنْ‏‏ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ‏‏، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ". فَقَامَ‏ ‏مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ‏ ‏فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُحِبُّ أن أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَائْْذَنْ لِى أن أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: قُلْ. فَأَتَاهُ‏ ‏مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ‏ ‏فَقَالَ: إن هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا، وَإِنِّى قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ‏ ‏لَتَمَلُّنَّهُ‏، ‏قَالَ: إِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَلا نُحِبُّ أن نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إلى أى شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أن تُسْلِفَنَا وَسْقًا أو وَسْقَيْنِ...... ‏ ‏فَقَالَ: نَعَمِ، ارْهَنُونِى، قَالُوا: أى شَيْءٍ تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِى نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ‏ ‏الْعَرَبِ‏، ‏قَالَ: فَارْهَنُونِى أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ ‏‏بِوَسْقٍ‏ ‏أَوْ‏ ‏وَسْقَيْنِ‏، ‏هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأْمَةَ‏-‏قَالَ‏ ‏سُفْيَانُ‏: ‏يَعْنِى السِّلاحَ- ‏‏فَوَاعَدَهُ أن يَأْتِيَهُ فَجَاءَهُ لَيْلا وَمَعَهُ‏ ‏أَبُو نَائِلَةَ، ‏وَهُوَ أَخُو‏‏ كَعْبٍ‏ ‏مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَدَعَاهُمْ إلى الْحِصْنِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ‏ ‏مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ‏‏وَأَخِى‏ ‏أَبُو نَائِلَةَ، ‏‏قَالَتْ: أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ، قَالَك إِنَّمَا هُوَ أَخِى ‏‏مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ‏‏وَرَضِيعِى ‏‏أَبُو نَائِلَةَ، ‏‏إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِى إلى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لأجَابَ. قَالَ وَيُدْخِلُ ‏‏مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ‏‏مَعَهُ رَجُلَيْنِ‏،فى رواية: ‏أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ‏ ‏وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ ‏‏وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ. فَقَالَ: إذا مَا جَاءَ فَإِنِّى قَائِلٌ بِشَعَرِهِ فَأَشَمُّهُ فَإِذَا رَأَيْتُمُونِى اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ. وَقَالَ مَرَّةً: ثُمَّ أُشِمُّكُمْ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ‏ ‏مُتَوَشِّحًا‏ ‏وَهُوَ يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رِيحًا، أى أَطْيَبَ، ‏قَالَ: عِنْدِى أَعْطَرُ نِسَاءِ‏ ‏الْعَرَبِ‏ ‏وَأَكْمَلُ‏ ‏الْعَرَبِ‏، ‏فَقَالَ: أَتَأْذَنُ لِى أن أَشُمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَشَمَّهُ ثُمَّ أَشَمَّ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِى؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ، قَالَ: دُونَكُمْ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْا النَّبِى‏ ‏(ص)‏ ‏فَأَخْبَرُوهُ. (أخرجه البخارى فى: 64-كتاب المغازى: 5-باب قتل كعب بن الأشرف).
الشرح والمناقشة (1):
يبين ذلك الحديث أن الرسول أمر بقتل كعب بن الأشرف وقام بذلك الصحابى محمد بن مسلمة بمساعدة أبى نائلة، أخو كعب من الرضاعة، حيث اغتالوه ليلا بعد خداعه.
وكعب بن الأشرف من كبار يهود بنى النضير ومن أصحاب النفوذ الفكرى والمادى فى شبه الجزيرة العربية؛ أبوه عربى من طيء وهو شاعر فارس له مناقضات مع شاعر الرسول حسان بن ثابت وقد اتهم بهجائه للنبى.
متن الحديث (2):
‏ قتل أَبِى رَافِعٍ عبد الله بن أبى الحقيق ويقال: سلام بن أبى الحقيق. عن الْبَرَاءِ ‏قَالَ: ‏بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص) ‏إِلَى أَبِى رَافِعٍ ‏‏الْيَهُودِى ‏رِجَالا‏ مِنْ ‏‏الأَنْصَارِ، ‏فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ ‏‏عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، ‏‏وَكَانَ ‏أَبُو رَافِعٍ‏ ‏يُؤْذِى رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص) ‏‏وَيُعِينُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِى حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ ‏الْحِجَازِ، ‏‏فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ، وَقَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَرَاحَ النَّاسُ ‏‏بِسَرْحِهِمْ، ‏‏فَقَالَ ‏عَبْدُ اللَّهِ ‏لأصْحَابِهِ، اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّى مُنْطَلِقٌ، وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ، لَعَلِّى أن أَدْخُلَ. فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنْ الْبَابِ، ثُمَّ ‏ ‏تَقَنَّعَ ‏ ‏بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِى حَاجَةً، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ، يَا ‏‏عَبْدَ اللَّهِ‏: ‏إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أن تَدْخُلَ فَادْخُلْ، فَإِنِّى أُرِيدُ أن أُغْلِقَ الْبَابَ، فَدَخَلْتُ ‏‏فَكَمَنْتُ، ‏فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ، ثُمَّ عَلَّقَ ‏‏الأَغَالِيقَ ‏‏عَلَى وَتَدٍ، قَالَ فَقُمْتُ إلى ‏الأَقَالِيدِ ‏فَأَخَذْتُهَا، فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَكَانَ ‏أَبُو رَافِعٍ ‏يُسْمَرُ عِنْدَهُ، وَكَانَ فِى ‏عَلالِى ‏لَهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَى مِنْ دَاخِلٍ، قُلْتُ: إن الْقَوْمُ ‏‏نَذِرُوا‏ ‏بِى لَمْ يَخْلُصُوا إِلَى حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ فِى بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ لا أَدْرِى أَيْنَ هُوَ مِنْ الْبَيْتِ، ‏فَقُلْتُ: ‏‏يَا ‏‏أَبَا رَافِعٍ، ‏‏قَالَ: مَنْ هَذَا فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، وَأَنَا دَهِشٌ، فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا، وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنْ الْبَيْتِ، فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا ‏أَبَا رَافِعٍ، ‏فَقَالَ: لأُمِّكَ الْوَيْلُ، ‏إِنَّ رَجُلا فِى الْبَيْتِ ضَرَبَنِى قَبْلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ ‏ظِبَةَ ‏السَّيْفِ فِى بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِى ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّى قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الأَبْوَابَ بَابًا بَابًا، حَتَّى انْتَهَيْتُ إلى دَرَجَةٍ لَهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِى وَأَنَا أُرَى أَنِّى قَدْ انْتَهَيْتُ إلى الأرض، فَوَقَعْتُ فِى لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِى، فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ، فَقُلْتُ: لا أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ: أَقَتَلْتُهُ، فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِى عَلَى السُّورِ، فَقَالَ: أَنْعَى ‏أَبَا رَافِعٍ‏ ‏تَاجِرَ ‏أَهْلِ ‏الْحِجَازِ، ‏‏فَانْطَلَقْتُ إلى أَصْحَابِى، فَقُلْتُ: النَّجَاءَ، فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ‏ ‏أَبَا رَافِعٍ، ‏فَانْتَهَيْتُ إلى النَّبِى ‏(ص) ‏فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: ‏"ابْسُطْ رِجْلَكَ". فَبَسَطْتُ رِجْلِى فَمَسَحَهَا، فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ. (أخرجه البخارى فى: 67-كتاب المغازى: -باب قتل أبى رافع عبد الله بن أبى الحقيق).
الشرح والمناقشة (2).
نبين هنا معانى بعض المفردات الواردة فى ذلك الحديث لتسهيل فهمه على الأخ القارئ: فمعنى (كمنت) جلست خلسة مع التخفى، أما (الأغاليق) فهى ما تعرف اليوم بالمفاتيح. و(أهل السمر) هم جلساء ما بعد العشاء، و(العلالى) مفردها علية وهى ما تقابل الغرفة العلوية اليوم. و(أثخنته) أصبته بجروح شديدة و(ظبة السيف) هى حرفه. وعلى ذلك فإن ذلك الحديث يبين أيضًا أن الرسول أمر بقتل أبى رافع سلام بن أبى الحقيق وهو شاعر فارس يهودى اتهم بهجاء النبى أيضا.
وجاء فى الأثر أنه نظرًا للتنافس المستمر-حتى بعد الإسلام-فيما بين الأوس والخزرج فإنه لما اغتالت الأوس كعب بن الأشرف، قالت الخزرج: والله لا تذهبون بها فضلا علينا أبدا. فتذاكروا فيما بينهم عدوًا للنبى يغتالونه حتى يتساووا مع الأوس، رأسًا برأس،واغتيالا باغتيال فذكروا أبا رافع سلام بن أبى الحقيق وزعموا أنهم استأذنوا النبى فى اغتياله؛ أو أنه قال-كذلك-من لى بأبى رافع؟ وذهبت جماعة منهم فاغتالته (1).
ولا بد من الاشارة فى نهاية الحديث إلى قيام الرسول (ص) بمسح رجل عبد الله بن عتيك حيث شفيت بعد إصابتها بالكسر-حسب الراوى-إلا أنه-الرسول-لم يفعل ذلك مع محبه الصحابى سعد بن معاذ الذى مات متأثرًا بجرح فى أكحله بعد إصابته بسهم(2).
متن الحديث (3):
حديث أنس بن مالك، أن رسول الله (ص) دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل، فقال: إن أبى خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه". (أخرجه البخارى فى 28-كتاب جزاء الصيد: 18-باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام).
الشرح والمناقشة (3):
(المغفر) هو ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة؛ وابن خطل:اسمه عبد مناف؛ وخطل لقب له لأن أحد لحييه كان أنقص من الآخر، وكان يقول الشعر يهجو به النبى (ص) ويأمر جاريتيه أن تغنيا به.
ونلاحظ أن تصنيف ذلك الحديث عند الإمام البخارى يدخل فى كتاب جزاء الصيد، دون فهم للمعارضة الفكرية أو العقائدية عنده البتة.
النتيجة:
يتضح تمامًا من الأحاديث الثلاثة الواردة سابقًا أن الرسول الكريم قد أمر بالتصفية الجسدية للمعارضة الفكرية له؛ وهو أمر لا يمكن قبول نسبته إلى المصطفى الذى أرسل رحمة للعالمين والذى عفا عمن حاول قتله(3) فما بالنا بمن خالفه الرأى والرؤيا؟
لذلك فعل كل مسلم حر واع رفض نسب مثل تلك الأحاديث إلى الرسول الكريم، وهى تسئ إلى العروبة والإسلام معًا لان من جرت تصفيتهم من العرب الذين افتخر بهم الرسول أو من أهل الكتاب الذين أمر الرسول باحترام شعائرهم ومعتقداتهم.
وإن من نفذ تلك الأعمال-ونسبها إلى الرسول الكريم-كان مفعمًا بالعصبية والطائفية والقبلية التى لم تلبث إلا أن ظهرت-بعد انتقال النبى (ص) إلى الرفيق الأعلى-فى معارك وفتن طاحنة كموقعتى الجمل وصفين وموقعة الحرة وغيرها.
وإذا كان الإمام البخارى قريب عهد من تلك القبلية والعصبية ولم يجد فى تقبل تلك الأحداث وإثباتها فى صحيحه أية غضاضة، فعلينا رفض قبولها كسنة نبوية فى أيامنا المعاصرة واعتبارها حوادث تاريخية سياسية لا علاقة للدين الحنيف بها.
ثانيا: الرسول والغزو:
توطئة: بعث الرسول الكريم هاديًا ومبشرًا وراحمًا للناس أجمعين؛ إلا إنه فى صحيح الإمام البخارى كان غازيًا همه الغنائم وقهر الآخرين كما سنرى فى الأحاديث اللاحقة التى سيتم بحث ثلاثة مواضيع فيها هى:
2-2-1: الحض على الغزو.
2-2-2: الغاية من الغزو.
2-2-3: ضحايا الغزو.
2-2-1: الحض على الغزو:
متن الحديث (1):
عن أبى هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله (ص) قال: "بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت فى يدى".
قال أبو هريرة: وقد ذهب رسول الله (ص) وأنتم تنثلونها. (أخرجه البخارى فى: 60-كتاب الجهاد. باب فضل الجهاد والسير، مختصر الزبيدى).
الشرح والمناقشة (1):
لا عجب أن يؤيد الرسول الكريم بالحكمة والموعظة وبليغ القول (جوامع الكلم) ولكن أن ينصر بالرعب عوضًا عن الخشوع والمحبة؛ وأن يؤتى بمفاتيح الخزائن عوضًا عن مفاتيح الأتباع والإيمان، فإن ذلك يجعلنا نصف تلك الأحاديث-كما ذكر بعضهم-بالأحاديث الأموية (لا النبوية) التى تنبض بتبرير ساسة الانتشار والتوسع والسيطرة.
متن الحديث (2):
حَديث‏ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى، كَتَبَ إلَى‏ ‏عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ،‏ ‏حِينَ خَرَجَ إلى‏‏ الْحَرُورِيَّةِ‏، ‏أن رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِى فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِى النَّاسِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ‏، ‏لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أن الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ"، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِى السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ". (أخرجه البخارى في: 56-كتاب الجهاد: 156-باب لا تمنوا لقاء العدو).
الشرح والمناقشة (2):
سأورد هنا الشرح الوارد فى الأثر لذلك الحديث تاركًا للقارئ الحكم على ذلك الشيء مع التأكيد على الرفض لعبارة "الجنة تحت ظلال السيوف" التى قد تصدر عن قائد عسكرى كهولاكو فى زمنه، وليس عن رسول المحبة والرحمة.
-حتى مالت الشمس: عن خط وسط السماء. لا تمنوا: بحذف إحدى تاءى تمنوا، فإن قلت تمنى لقاء العدو جهاد والجهاد طاعة فكيف ينهى عن الطاعة؟ أجيب بأن المرء لا يدرى ما يئول إليه الحال، أو النهى لما فى التمنى من صورة الإعجاب والاتكال على النفوس والوثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو؛ وتمنى الشهادة ليس مستلزمًا لتمنى لقاء العدو. وسلوا الله العافية: من هذه المخاوف المتضمنة للقاء العدو، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصديق الأكبر أبوبكر رضى الله عنه، لأن أعافى فأشكر خير من أبتلى فأصبر. فالصبر فى القتال هو كظم ما يؤلم من غير إظهار شكوى ولاجزع، وهو الصبر الجميل. منزل الكتاب: الفرقان، أو سائر الكتب السماوية. ومجرى السحاب: بنزول الغيث بقدرته. وهازم الأحزاب: وحده، إشارة إلى تفرده بالنصر وهزم ما يجتمع من أحزاب العدو.


2-2-2 الغاية من الغزو:
متن الحديث (1):
حديث ‏أَبِى هُرَيْرَةَ، ‏‏قَالَ: ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص): ‏‏"غَزَا ‏‏نَبِى ‏‏مِنْ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أن ‏‏يَبْنِى ‏بِهَا. وَلَمَّا ‏يَبْنِ ‏‏بِهَا. وَلا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أو ‏‏خَلِفَاتٍ ‏‏وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلادَهَا، فَغَزَا، فَدَنَا مِنْ ‏‏الْقَرْيَةِ ‏‏صَلاةَ الْعَصْرِ أو قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا. فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ ‏‏(يَعْنِى النَّارَ) لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا؛ فَقَالَ: أن فِيكُمْ ‏‏غُلُولا، ‏فَلْيُبَايِعْنِى مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ. فقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ. ‏فَلْيُبَايِعْنِى قَبِيلَتُكَ. فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أو ثَلاثَةٍ بِيَدِهِ. فَقَالَ: فِيكُمْ ‏‏الْغُلُولُ. ‏فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا. ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا. (أخرجه البخارى في: 57-كتاب فرض الخُمس: 8-باب قول النبى (ص) أحلت لكم الغنائم).
الشرح والمناقشة (1):
نبين هنا بعض ما ورد فى الأثر لشرح ذلك الحديث: حيث يقصد (بمن ملك بضع امرأة) من عقد نكاحها و(يبنى بها) أى يدخل عليها وتزف إليه، ولـمَّا يبنِ بها: أى والحال أنه لم يدخل عليها لتعلق قلبه غالبًا بها، فيشتغل عما هو عليه من الطاعة وربما ضعف فعل جوارحه بخلاف ذلك بعد الدخول. اشترى غنمًا أى حوامل. أو خلفات: جمع خلفة وهى الحامل من النوق، وقد تطلق على غير النوق. ولادها: مصدر ولد يلد ولادًا وولادة؛ والمراد أن تتعلق قلوبهم بإنجاز ما تركوه معوقًا. صلاة العصر: أى وقت صلاة العصر. إنكِ مأمورة: أمر تسخير بالغروب. وأنا مأمور: أمر تكليف بالصلاة أو القتال قبل غروبك. فحسبت: أى ردت على أدراجها، أو وقفت أو بطئت حركتها. غلولاً: أى سرقة من الغنيمة؛ قال العلامة ابن المنير: جعل الله علامة الغلول إلزاق يد الغال، وألهم ذلك يوشع، فدعاهم للمبايعة حتى تقوم له العلامة المذكورة. ثم أحل الله لنا الغنائم: خصوصية لنا، وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر.
وبعد استثناء تفاصيل ما حدث مع من يُعتقد أنه النبى يوشع من لزق اليد المغلولة ورأس البقرة.. إلخ.. نجد أن الرسول-حسب البخارى-قد جعل هدف الغزو الغنائم واعتبرها حلالا لأمته، وأضاف شارح الحديث بأنها خصوصية لنا وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر. وهنا نضيف حكمًا يمكن استنباطه من ختام الحديث مفاده أن الأمة الضعيفة العاجزة يحل لها أن تحسّن أوضاعها بغنائم السطو والغزو على الآخرين.
متن الحديث (2):
عَنْ ‏‏أَبِى قَتَادَةَ: ‏‏قَالَ: ‏خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏عَامَ ‏‏حُنَيْنٍ، ‏‏فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلا رَجُلا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَى فَضَمَّنِى ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ. ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِى. فَلَحِقْتُ ‏عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، ‏فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ.
ثُمَّ أن النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ النَّبِى ‏‏(ص) ‏‏فَقَالَ: ‏‏"مَنْ قَتَلَ قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ ‏‏سَلَبُهُ". ‏‏فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِى؟ ثُمَّ جَلَسْتُ. ثُمَّ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ ‏‏سَلَبُهُ". ‏‏فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِى؟ ثُمَّ جَلَسْتُ. ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ. ..... فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! ‏‏وَسَلَبُهُ ‏‏عِنْدِى، فَأَرْضِهِ عَنِّى. فَقَالَ ‏أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: ‏ ‏لاهَا اللَّهِ، إذا لا يَعْمِدُ إلى أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ‏‏(ص)، ‏‏يُعْطِيكَ ‏‏سَلَبَهُ؟ ‏فَقَالَ النَّبِى ‏(ص): ‏"صَدَقَ" فَأَعْطَاهُ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ ‏‏مَخْرَفًا ‏‏فِى ‏‏بَنِى سَلِمَةَ، ‏‏فَإِنَّهُ- لأَوَّلُ مَالٍ ‏‏تَأَثَّلْتُهُ ‏‏فِى الإسلام. (أخرجه البخارى في: 57 – كتاب فرض الخـُمس: 18 – باب من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلاً فله سلبه).
الشرح والمناقشة (2):
بالرجوع إلى الأثر نجد فى شرح ذلك الحديث ما يلي:
-حنين: واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال، وكان فى السنة الثامنة. جولة: أى تقدم وتأخر: علا رجلا: أى ظهر عليه وأشرف على قتله، أو صرعه وجلس عليه. حبل عاتقه: عرق أو عصب عند موضع الرداء من العنق، أو مابين العنق والمنكب. وجدت منها ريح الموت: أى وجدت منه شدة كشدة الموت. ما بال الناس: أى منهزمين، قال أمر الله: أى قضاؤه، والمراد ما حال الناس بعد الانهزام فقال أمر الله غالب والعاقبة للمتقين. فله سلبه: وهو ما يؤخذ القرنين فى الحرب من قرنه مما يكون عليه، ومعه، من سلاح وثياب ودابة وغيرها، وهو فَعَل بمعنى مفعول، أى مسلوب.
لاها الله: لفظ الجلاله هنا مجرور لان (ها) التنبيه عوض عن واو القسم؛ وقال ابن مالك ليست عوضًا عنها وإن جر مابعدها بمقدر لم يلفظ به، كما أن نصب المضارع بعد الفاء ونحوه بمقدر، و(لا) للنفى، والمعنى لا والله. لا يعمد: أى لا يقصد النبى (ص)، إلى أسد: أى إلى رجل كأنه فى شجاعة أسد. عن الله ورسوله (ص): أى صدر قتاله عن رضا الله ورسوله، أى بسببهما، كقوله تعالى-وما فعلته عن أمرى-أو المعنى يقاتل ذابًا عن دين الله أعداء الله ناصرًا لأوليائه، أو يقاتل لأجل نصر دين الله وشريعة رسوله لتكون كلمة الله هى العليا. صدق، أى أبو بكر. فابتعت: أى اشتريت. مخرفا: أى بستانا، لأنه يخترف منه الثمر أى يجتنى. فى بنى سلمة: قوم أبى قتادة، وهم بطن من الأنصار. تأثلته: أى تكلفت جمعه.
كما نرى فإن ذلك الحديث يبين أن رسول الله أكد ثلاثًا حق سلب القاتل لقتيله فى الحرب، وهو ما سنبحثه فى الفقرة اللاحقة، وأن أول مال لأبى قتادة الأسد كان من سلبه قتيله بعد الغزو الذى كان المصدر الرئيسى الأول لمعظم الصحابة، كما نرى ذلك فى الحديث التالى الذى يبين كثرة غنائم الغزو؛ وبه ننهى تلك الفقرة.
متن الحديث (3):
عَنْ ‏‏ابْنِ عُمَرَ‏: ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏بَعَثَ سَرِيَّةً، فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ‏قِبَلَ ‏نَجْدٍ، ‏‏فَغَنِمُوا إِبِلا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ اثْنَى عَشَرَ بَعِيرًا أو أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، ‏‏وَنُفِّلُوا ‏‏بَعِيرًا بَعِيرًا.(أخرجه البخارى فى: 57-كتاب فرض الخمس: 5-باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين).
2-2-3 ضحايا الغزو:
متن الحديث (1):
حديث الصعب بن جثامة، قال: مر بى النبى (ص) بالأبواء أو بودّان، وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين، فيصاب من نسائهم وذراريهم. قال: "هم منهم". (أخرجه البخارى فى: 56-كتاب الجهاد: 146-باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذرارى).
الشرح والمناقشة (1):
يبين الحديث تمامًا جواز قتل النساء والصبيان فى الغزوات والحروب،فإذا كان الحال كذلك زمن السيف والسهم فما قول السادة العلماء الأفاضل فى أيامنا هذه حيث القنابل والصواريخ المدمرة.
متن الحديث (2):
حديث ابن عمر، قال: حرق الرسول (ص) نخل بنى النضير وقطع، وهى البويرة، فنزلت، {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله}. (أخرجه البخارى فى: 64-كتاب المغازى: 14-باب حديث بنى النضير).
الشرح والمناقشة (2):
يبين الحديث جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها-حسب الشرح الوارد فى الأثر-وكما نلاحظ فإن راوى الحديث-ابن عمر-لا ينقل قولا للرسول إنما ينقل فعله بالتحريق والقطع.
وإنى لأعجب من إسقاط كلام الله-عز وجل-على ذلك الحديث؛ فالآية الواردة فيه لم تشر إلى التحريق أصلا وهى تبين أن قطع أو ترك الأشجار عامة إنما يتم باذن الله وعلمه (وليس أمره) كون النبات من أهم مظاهر الحياة على وجه الأرض.
وهنا نتساءل: ألم يسمع الإمام البخارى بوصية الخليفة الراشدى أبى بكر الصديق لقادة جيشه فى حروبهم بألا يقطعوا شجرًا أو يقتلوا شيخًا أو امرأة... الخ.
فهل كان الخليفة مخالفًا لسنة رسول الله بوصيته تلك أم أن بعض الصحابة نقل ما خالف الرسول وأثبت ذلك إمامنا البخارى فى صحيحه.
متن الحديث (3):
عَنْ ‏‏عَائِشَة،َ ‏‏‏‏قَالَتْ: ‏أُصِيبَ ‏سَعْدٌ ‏يَوْمَ ‏‏الْخَنْدَقِ، ‏رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ ‏قُرَيْشٍ ‏‏يُقَالُ لَهُ ‏‏حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ،‏ ‏رَمَاهُ فِى ‏الأَكْحَلِ، ‏‏فَضَرَبَ النَّبِى ‏‏(ص) ‏‏خَيْمَةً فِى الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏مِنْ ‏‏الْخَنْدَقِ ‏وَضَعَ السِّلاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ ‏جِبْرِيلُ ‏عَلَيْهِ السَّلام ‏‏وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنْ الْغُبَارِ، فَقَالَ: قَدْ ‏َوضَعْتَ السِّلاحَ! وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ. قَالَ النَّبِى ‏(ص): ‏‏"فَأَيْنَ"؟ فَأَشَارَ إلى ‏‏بَنِى قُرَيْظَةَ، ‏‏فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَرَدَّ الْحُكْمَ إلى ‏‏سَعْدٍ، ‏قَالَ: فَإِنِّى أَحْكُمُ فِيهِمْ أن تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ، وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ. (أخرجه البخارى فى: 64-كتاب المغازى: 30-باب مرجع النبى (ص) من الأحزاب).
الشرح والمناقشة (3):
هناك روايات أخرى لذلك الحديث فى صحيح البخارى تفيد جميعها أن الرسول قد أنزل يهود بنى قريظة على حكم الصحابى سعد بن معاذ الأنصارى الذى حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبى نسائهم وأطفالهم وتقسيم أموالهم؛ علما بأنهم -حسب ما جاء فى كتب الأثر-استسلموا للرسول بعد حصار دام خمسًا وعشرين ليلة؛ وهكذا فإننا نجد أن ضحايا الغزو هم النساء والأطفال والأموال وأن كل قادر على القتال (المقاتلة) لن يفيده الاستسلام لأن حكم الموت سيكون له بالمرصاد.
أخيرًا فان ذلك الحديث يبين إمكانية السيدة عائشة فى رؤية جبريل-عليه السلام-ونقل حواره مع الرسول الكريم الذى يفترض أنه كان يقاتل معه وجاء ينفض رأسه من الغبار حاملا لأمر سماوى يقتضى إقصاء وإنهاء المخالفين بالقوة والحرب.
النتيجة:
تبين بعض الأحاديث فى صحيح البخارى أن رسول الرحمة قد أمر بالغزو وحض عليه فمن لم يغز أو يحدث نفسه بغزوة فإنه إن مات فيه جاهلية، وأن غاية الغزو ليست لنشر الدين الحنيف إنما سلب المقتول وكسب الغنائم من سبايا وأموال لا يعيق جمعها قتل النساء أو الأطفال بعد قتل الأسرى من الرجال المقاتلين.
وهنا يبرز سؤال هام يطرح على السادة العلماء وأتباعهم ممن يرون فى صحيح البخارى سنة لرسول الله يجب تطبيقها على اختلاف الزمان والمكان: هل يمكن اعتماد تلك الأحكام فى الغزو والحروب لتطبق اليوم على دول العالم عوضًا عن اتفاقية جينيف مثلا أو مقررات مجلس الأمن؟! وإذا كان الجواب بنعم!! فهل يسمح لغير المسلمين من أهل الأرض بتطبيق ما يطبق عليهم بالمثل؟!
أمور يجب على المسلمين إعادة النظر فيها كليًا ونبذ حتى فكرة نسبها إلى الرسول المصطفى الذى أراه بريئا منها براءة الذئب من دم يوسف!
ثالثا: الرسول وتطبيق الحدود والأحكام (4):
توطئة: الرسول الكريم الذى وصفه تعالى بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} وأمره بإقامة العدالة والرحمة بين كافة الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم، نجد فى الصحيح ما يخالف ذلك من خلال الأحاديث التالية:
متن الحديث (1):
حَدِيثَ ‏أَنَس، ‏أَنَّ ‏‏نَفَرًا ‏مِنْ عُكْلٍ، ‏ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏فَبَايَعُوهُ عَلَى الإسلام، ‏‏فَاسْتَوْخَمُوا ‏الأرض ‏فَسَقِمَتْ ‏‏أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ‏‏؛ ‏قَالَ: "‏‏أَفَلا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِى إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا؟". قَالُوا: بَلَى. فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا رَاعِى رَسُولِ اللَّهِ‏‏ (ص) ‏‏وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ‏‏ (ص)، ‏‏فَأَرْسَلَ فِى آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا، فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ؛ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ‏‏وَسَمَرَ ‏‏أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ ‏ ‏نَبَذَهُمْ ‏‏فِى الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا. (أخرجه البخارى: فى 87-كتاب الديات: 22-باب القسامة).
الشرح والمناقشة (1):
يبين الحديث أن ثمانية أشخاص من عكل أعلنوا إسلامهم ومرضوا فى المدينة؛ فأرسل الرسول معهم راعيًا مع إبله إلى خارج المدينة حيث صحوا فقتلوا الراعى وسلبوا إبله مما دعا الرسول إلى أمر الصحابة بإحضارهم وقطع أيديهم وإرجلهم ثم فقأ أعينهم وتركهم فى الشمس حتى ماتوا.
وإذا كان البعض يرى أن الرسول لم يكتف بتطبيق حد القتل فيهم (النفس بالنفس) بل طبق حد الحرابة (بقطع الأيدى والأرجل من خلاف) فهل يعنى أن سمر أعينهم ونبذهم أحياء ليموتوا متأثرين بجراحهم تحت الشمس هى سنة نبوية نقتدى بها؟! وهو ما طبقه لاحقًا بعض الصحابة والخلفاء بحق الآخرين كما فعل عبد الله بن جعفر بعبد الرحمن بن ملجم (قاتل الإمام على) وكما فعل من بعد الخليفة المنصور بابن المقفع (5)!!
وإذا كان الإمام البخارى يرى فى ذاك منظرًا مألوفًا وسنة لرسول الله فاننا نرفض رؤيته هذه ونطالب أتباعة من السادة العلماء أن يقارنوا حديثه السابق بحديث آخر ورد فى صحيحه جاء فيه ما يلى:
متن الحديث (2):
حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ‏‏قَالَ: ‏عَدَا يَهُودِى، فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ‏(ص)، ‏‏عَلَى جَارِيَةٍ، فَأَخَذَ ‏أَوْضَاحًا ‏كَانَتْ عَلَيْهَا، ‏وَرَضَخَ ‏رَأْسَهَا، فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏وَهِى فِى آخِرِ رَمَقٍ، وَقَدْ أُصْمِتَتْ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص): ‏"مَنْ قَتَلَكِ، فُلانٌ؟" لِغَيْرِ الَّذِى قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أن لا. قَالَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِى قَتَلَهَا. فَأَشَارَتْ أن لا. فَقَالَ: "فَفُلانٌ؟" لِقَاتِلِهَا. فَأَشَارَتْ أن نَعَمْ؛ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ‏ ‏(ص)‏ ‏فَرُضِخَ ‏‏رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. (أخرجه البخارى فى: 68-كتاب الطلاق: 24-باب الاشارة فى الطلاق والأمور).
حيث يظهر أن عقوبة القاتل القتل (النفس بالنفس) وبالأسلوب نفسه علمًا أن القاتل فى ذلك الحديث قد سلب وسرق ضحيته الجارية ومع ذلك لم يطبق عليه ما يسمى حد الحرابة أو ينكل ويشهر به.
كما أننا نجد أن الحديث السابق مباشرة (الثانى) يتباين.. أيضًا مع الحديث الثالث التالي:
متن الحديث (3):
حديث ‏أَنَسٍ، ‏‏قَالَ: ‏كَسَرَتْ ‏الرُّبَيِّعُ، ‏وَهْى عَمَّةُ ‏أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ‏‏ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ ‏‏الأَنْصَارِ. ‏فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا النَّبِى ‏‏(ص)، ‏فَأَمَرَ النَّبِى ‏‏(ص) ‏‏بِالْقِصَاصِ. فَقَالَ ‏أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ‏عَمُّ ‏‏أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: ‏‏لا وَاللَّهِ لا تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص): ‏‏يَا ‏‏أَنَسُ؛ ‏كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِى الْقَوْمُ وَقَبِلُوا ‏الأَرْشَ، ‏‏فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص): ‏‏إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ‏ لأَبَرَّهُ. (أخرجه البخارى في: 65-كتاب التفسير: 5-سورة المائدة: 6-باب قوله والجروح قصاص).
فبينما نجد سرعة التطبيق والقصاص وعدم المساومة فى الحديث الثانى السابق، نجد أن أنس بن النضر يعارض فى الحديث الثالث القصاص بشدة ولكن الله يقبل اعتراضه ويرضى القوم الآخرون بالديّة (الأرش)!!
ونستمر مع البخارى لنرى انتقاد بعض الصحابة لقسمة الرسول وتوزيعه للحقوق والغنائم كما يبيّن الحديثان التاليان:
متن الحديثين (4) و(4-1):
(4) حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏‏قَالَ: ‏بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏يَقْسِمُ غَنِيمَةً ‏بِالْجِعْرَانَةِ، ‏إِذْ قَالَ لَهُ ‏‏رَجُلٌ: ‏اعْدِلْ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ ‏‏شَقِيتُ أن لَمْ أَعْدِلْ. (أخرجه البخارى في: 57-كتاب فرض الخـُمس: 15 باب ومن الليل على أن الخمس لنوائب المسلمين).
(4-1) حديث أَبِى سَعِيدٍ ‏‏‏قَالَ: ‏بَعَثَ ‏عَلِى ‏‏‏‏إِلَى النَّبِى ‏‏(ص) ‏بِذُهَيْبَةٍ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَرْبَعَةِ؛ ‏‏الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِى، ثُمَّ الْمُجَاشِعِى ‏‏وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِى ‏وَزَيْدٍ الطَّائِى، ‏ثُمَّ أَحَدِ ‏بَنِى نَبْهَانَ ‏وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاثَةَ الْعَامِرِى، ‏‏ثُمَّ أَحَدِ ‏بَنِى كِلابٍ، ‏فَغَضِبَتْ ‏‏قُرَيْشٌ ‏‏وَالأَنْصَارُ. ‏‏قَالُوا: يُعْطِى‏ ‏صَنَادِيدَ ‏‏أَهْلِ نَجْدٍ ‏وَيَدَعُنَا، قَالَ: إِنَّمَا ‏أَتَأَلَّفُهُمْ. ‏‏فَأَقْبَلَ رَجُلٌ ‏غَائِرُ ‏‏الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ ‏‏الْوَجْنَتَيْنِ ‏نَاتِئُ ‏‏الْجَبِينِ ‏كَثُّ ‏اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا ‏مُحَمَّدُ! ‏‏فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ إذا عَصَيْتُ، أَيَأْمَنُنِى اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الأرض فَلا تَأْمَنُونِى. فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ، أَحْسِبُهُ ‏خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ،‏ ‏فَمَنَعَهُ. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: أن مِنْ ‏ضِئْضِئِ ‏‏هَذَا، ‏‏أَوْ ‏‏فِى عَقِبِ هَذَا ‏قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا‏ ‏يُجَاوِزُ ‏‏حَنَاجِرَهُمْ، ‏يَمْرُقُونَ ‏مِنْ الدِّينِ ‏مُرُوقَ ‏‏السَّهْمِ مِنْ ‏الرَّمِيَّةِ، ‏‏يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإسلام وَيَدَعُونَ أَهْلَ ‏‏الأَوْثَانِ، ‏‏لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ‏‏عَادٍ. (أخرجه البخارى في: 6-كتاب الأنبياء: 6-باب قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودًا}).
الشرح والمناقشة (4) و(4-1):
ورد ذلك الحديث (4) فى صحيح البخارى فى أكثر من موضع (كتاب) وعلى الرغم من أن الراوى نفسه-أبو سعيد الخدرى-فقد اختلف المتن فى كل رواية؛ فمرة يتحدث عن ذهبية أرسلها الإمام على إلى الرسول ومرة يتحدث عن قسمة عامة، ومرة يذكر اسم المعترض على القسمة بأنه ذو الخويصرة وأخرى يصفه بأنه رجل غائر العينين، ومرة يؤكد قول الرسول بضرورة قتلهم (من اعتبروا الخوارج) ومرة لا يذكر حكم قتلهم وكأن فتوى القتل وحياة الناس أمر عادى جدًا يمكن إسقاطه!
ويبدو أن الإمام البخارى لم يهتم بمراجعة تلك الروايات والتنسيق بينها فى كتب صحيحة... ليعتمد أدقها؛ ويظهر الحديث غضب واعتراض قريش والأنصار على توزيع وقسمة الرسول حيث كان جوابه لذلك بقوله: (إنما أتألفهم) ويبدو أن ذلك الرجل الغائر العينين كان أكثر جرأة فى طرحه حيث طالب الرسول صراحة بتقوى الله والعدل فى قسمته.
ومهما تكن مؤشرات المعارضة الواردة فقد ظهرت تمامًا زمن الخليفة الراشدى عمر بن الخطاب الذى عطّل حكم المؤلّفة قلوبهم واسترد بعض الأراضى منهم.
متن الحديث (5):
عَنْ ‏‏عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏‏: ‏أَنَّ رَجُلا مِنْ ‏‏الأَنْصَارِ ‏خَاصَمَ‏ ‏الزُّبَيْرَ ‏عِنْدَ النَّبِى ‏(ص) ‏فِى ‏‏شِرَاجِ ‏‏الْحَرَّةِ ‏‏الَّتِى يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِى: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِى ‏‏(ص)‏، ‏فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏لِلزُّبَيْرِ: ‏‏أَسْقِ يَا ‏زُبَيْرُ ‏‏ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلى جَارِكَ. فَغَضِبَ الأَنْصَارِى فَقَالَ: أن كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ‏(ص) ‏ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا ‏زُبَيْرُ ‏ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلى ‏الْجَدْرِ. ‏‏فَقَالَ ‏‏الزُّبَيْرُ: ‏وَاللَّهِ إِنِّى لأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى ذَلِكَ. ‏فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. (أخرجه البخارى في: 42-كتاب المساقاة: 6-باب سكر الأنهار).
الشرح والمناقشة (5):
يظهر ذلك الحديث بوضوح اعتراض وغضب رجل من الأنصار على حكم رسول الله واتهامه صراحة بالانحياز لصالح ابن عمته الزبير فى حكمه ولم يراجعه الرسول فى ذلك.
ورأى الزبير أن سبب نزول آية-{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم }-هى تلك الحادثة؟! الأمر الذى يؤكد عدم قناعة ذلك الرجل الأنصارى بحكم وقرار الرسول.
النتيجة:
جاء فى صحيح البخارى أن الرسول لم يكتفِ بتطبيق حدود الله على العباد من المسلمين وغيرهم-بل تعداها زيادة وليس نقصانًا أو رحمة؛ تعداها ليجعلها سنة من بعده يطبقها الآخرون.
فها هو ابن عباس يعترض على الإمام على فى تحريقه للناس بعد أن نهى الرسول عن ذلك(6). كما تبيّن من صحيح البخارى أن الرسول كان منحازًا لغير المستحقين فى أحكامه ولأقربائه فى عطائه.
ومهما قيل أو ورد فى ذلك فإنى أرى أن تلك الأحاديث وضعت على لسان الرسول الكريم لغايات سياسية دنيوية بحتة، غايتها قتل المعارضين وتعذيبهم وتبرير الانحياز والولاء إلى الأقارب وغيرهم من الأصدقاء؛ وتأكيدًا لذلك فإننى سأورد هنا قول الخليفة الراشدى عثمان بن عفان-فى جماعة من صحابة النبى فيهم عمار بن ياسر-ليبرر انحيازه لبنى أميّة؛ حيث قال لهم: إنى أسائلكم وأحب أن تصدقوني: نشدتكم بالله: أتعلمون أن رسول الله (ص) كان يؤثر قريشًا على سائر الناس، ويؤثر بنى هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم! فقال عثمان: لو أن بيدى مفاتيح الجنة لأعطيتها بنى أميّة حتى يدخلوا عن آخرهم(7).
رابعاً: الرسول وتأثير الآخرين عليه:
توطئة: هل سُحرالرسول الكريم؟! وهل تعلّم من اليهود بعض الحقائق عما بعد الموت؟! وهل تمكنت بعض نسائه من إخفاء الحقائق عنه وهو الموحى إليه من البارى-عزّ وجلّ؟! هذا ما سنراه فى الأحاديث التالية الواردة فى صحيح البخاري.
متن الحديث (1):
حديث عَائِشَةَ ‏‏قَالَتْ: ‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏(ص) ‏سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِى النِّسَاءَ وَلا يَأْتِيهِنَّ، قَالَ ‏‏سُفْيَانُ: ‏‏وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ إذا كَانَ كَذَا. ‏‏فَقَالَ يَا ‏عَائِشَةُ: ‏‏أَعَلِمْتِ ‏أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِى ‏‏رَجُلانِ ‏‏فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَى، فَقَالَ الَّذِى عِنْدَ رَأْسِى لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. ‏‏قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: ‏لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ؛ ‏‏رَجُلٌ مِنْ ‏بَنِى زُرَيْقٍ، ‏‏حَلِيفٌ ‏لِيَهُودَ ‏‏كَانَ مُنَافِقًا. قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِى مُشْطٍ ‏‏وَمُشَاقَةٍ. قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِى جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ، فِى ‏بِئْرِ ذَرْوَانَ. قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِى ‏‏(ص)‏ ‏الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ. فَقَالَ: هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِى أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ. قَالَ: فَاسْتُخْرِجَ. قَالَتْ: فَقُلْتُ أَفَلا أى تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِى، وَأَكْرَهُ أن أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ شَرًّا. (أخرجه البخارى في: 76-كتاب الطب: 49 – باب هل يستخرج السحر).
الشرح والمناقشة (1):
بداية نستعرض الشرح الوارد فى الأثر لذلك الحديث، ونعود لمناقشته بعد ذلك، حيث نجد أن:
-يأتى النساء ولا يأتيهن: أى وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن. أتانى رجلان: هما جبريل وميكائيل. مطبوب: أى مسحور. وفيما؟: أى سَحَره. مشاقة: المشاقة هى المشاطة وهى الشعر الذى يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط. جف: الجف وعاء وهو الغشاء الذى يكون فوقه. طلعة: الطلع، بالفتح، ما يطلع من النخلة ثم يصير ثمرًا أن كانت أنثى؛ وإن كانت النخلة ذكرًا لم يصر ثمرًا بل يؤكل طريا، ويترك على النخلة أياما معلومة حتى يصير فيه شئ أبيض مثل الدقيق، وله رائحة زكية فيلقح به الأنثى. رعوفة: وهو حجر يترك فى البئر عند الحفر، ثابت لا يستطاع قلعه، يقوم عليه المستقى؛ وقيل حجر على رأس البئر يستقى عليه المستقى؛ وقيل حجر بارز من طيها يقف عليه المستقى والناظر فيها؛ وقيل فى أسفل البئر يجلس عليه الذى ينظفها لا يمكن قلعه لصلابته. نقاعة الحناء: فى حمرة لونه رؤوس الشياطين: فى قبح منظرها، أو الحيات؛ إذ العرب تسمى بعض الحيات شيطانا، وهو ثعبان قبيح الوجه. تنشرت: النشرة الرقية التى يحل بها عقد الرجل عن مباشرة امرأته.
وهكذا نجد ذلك الحديث يبين أن الرسول قد أصابه السحر فأثر عليه من الناحية الجنسية. ولا أعلم كيف يرى المرء أنه يأتى النساء ولا يأتيهن!! أو أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن-حسب شرح الحديث!!
وإذا كانت القضية عبارة عن مشكلة جنسية فى بيت الرسول الكريم فما الغاية من الخوض فيها؟! وما الغاية من إذاعتها للناس أصلا؟! وما هو الشئ الذى يريد الإمام البخارى أن يقوله لنا؟! أن الرجل عندما يضعف جنسيًا يكون مسحورًا فذلك تأسيًا بالسنة النبوية!! وإن علية أن يفك ذلك السحر!!
وإذا كان الرسول قد فك كل من جبريل وميكائيل-حسب شرح الحديث-سحره فكيف سيتم ذلك بالنسبة للرجل العادى؟! بالذهاب إلى السحرة أم إلى المشعوذين؟ أخيرًا هل نستنتج من ذلك الحديث أن الرسول الموحى إليه يمكن أن يتأثر بسحر أناس كلبيد بن أعصم وغيره؟!! ولماذا لم يأكل من تمر المدينة سبع تمرات لتقيه من ذلك-حسب ما جاء فى البخارى؟.
متن الحديث (2):
حديث عَائِشَةَ ‏قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَى عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ ‏‏يَهُودِ ‏‏الْمَدِينَةِ، ‏‏فَقَالَتَا لِى: أن أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِى قُبُورِهِمْ. فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أن أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَدَخَلَ عَلَى النَّـــبِى ‏(ص)، ‏فَقـــُلْتُ لَهُ: يَا رَسـُولَ اللَّهِ، أن عَـجُوزَيْنِ.... وَذَكَـرْتُ لَهُ. فَــقَالَ: ‏‏صَدَقَــتَا؛ إِنَّهُمْ يُــعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمــَعُهُ الْبَهَائِـمُ كُلُّهَا. فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِى صَلاةٍ إِلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. (أخرجه البخارى في: 80-كتاب الدعوات: 37-باب التعوذ من عذاب القبر).
الشرح والمناقشة (2):
الحديث يبين أن عجوزين من عجز يهود المدينه قد علمتا رسول الله-أو لنقل نبهتاه لضرورة التعوذ من عذاب القبر، ليصبح بعد ذلك دعاء عقب كل صلاة للرسول والمسلمين. وإذا افترضنا أن الإنسان حى فى قبره لأنه يعذب؛ علما أن ذلك لا يؤيده كتاب الله أو العلم المعاصر؛ فلماذا لا ينقل لنا ثواب وسرور الصالحين من أهل القبور؟! ولماذا لا نسأل الله الفرح والغبطة فى القبر؟! أم أن عذاب القبر والقهر هو مصير كل ميت وعليه الاستعاذة منه!؟!
أخيرًا يبدو أن عذاب القبر يخص اليهود فقط حيث جاء فى صحيح البخارى أن الرسول خرج عند غروب الشمس فسمع صوتا: فقال: "يهود تعذب فى قبورها"(8).
متن الحديث (3):
حديث ‏عَائِشَةَ‏‏: ‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص)‏ ‏يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ، وَكَانَ إذا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى ‏‏حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ ‏‏فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَغِرْتُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لِى، أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتْ النَّبِى ‏‏(ص) ‏‏مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ. فَقُلْتُ ‏‏لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: ‏‏إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِى: أَكَلْتَ ‏‏مَغَافِيرَ؟ ‏‏فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لا. فَقُولِى لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِى أَجِدُ مِنْكَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِى ‏‏حَفْصَةُ ‏‏شَرْبَةَ عَسَلٍ. فَقُولِى لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ ‏‏الْعُرْفُطَ، ‏‏وَسَأَقُولُ ذَلِكِ، وَقُولِى أَنْتِ يَا ‏‏صَفِيَّةُ ‏‏ذَاكِ، قَالَتْ: تَقُولُ ‏‏سَوْدَةُ ‏‏فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أن قَامَ عَلَى الْبَابِ فَأَرَدْتُ أن أُبَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِى بِهِ فَرَقًا مِنْكِ. فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا، قَالَتْ لَهُ ‏‏سَوْدَةُ: ‏‏يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكَلْتَ ‏‏مَغَافِيرَ؟ ‏‏قَالَ: لا. قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِى أَجِدُ مِنْكَ؟ قَالَ: ‏‏سَقَتْنِى ‏‏حَفْصَةُ ‏‏شَرْبَةَ عَسَلٍ. فَقَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ ‏‏الْعُرْفُطَ. ‏‏فَلَمَّا دَارَ إِلَى قُلْتُ لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إلى ‏‏صَفِيَّةَ ‏‏قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إلى ‏‏حَفْصَةَ ‏‏قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لا حَاجَةَ لِى فِيهِ. قَالَتْ: تَقُولُ ‏‏سَوْدَةُ ‏‏وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ. قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي. (أخرجه البخارى في: 68-كتاب الطلاق: 7-باب لِمَ تحرم ما أحل الله لك).
الشرح والمناقشة (3):
ورد ذلك الحديث فى مواضع عدة وبروايات مختلفة فى صحيح البخارى. وبالرغم من تناقض الروايات فيه حيث تكون السيدة عائشة مرة مع حفصة وصفية وأخرى مع سودة ومرة مع زينب وغير ذلك من الاختلاف الواضح، فانه يشير إلى أن الشخصية الثابتة فيه هى السيدة عائشة-راويته-فإن ما يهمنا فى ذلك الحديث هو خاتمته حيث تقول السيدة سودة فيه: "والله لقد حرمناه!!".
مما يعنى أن التحريم-وهو أهم مافى الدين والشرع-قد يكون ناجمًا عن نزوة غيرة أو كذب أو معلومات خاطئة يتأثر بها الرسول الكريم، وهو مالا نرضاه من السيدة عائشة أو البخارى أو كلاهما معا.

الهوامش
(1) سيرة ابن هشام، الجزء الثالث، تاريخ الطبرى،جزء 2.
(2) راجع صحيح البخارى، كتاب المغازى، باب مرجع النبى (ص) من الاحزاب.
(3) راجع صحيح البخارى، كتاب المناقب والحدود والانبياء.
(4) الأحكام هنا يقصد بها القضاء بين الناس فى الحقوق والغنائم.
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد، جزء 3؛ والبداية والنهاية لابن كثير، مجلد 4، جزء 7.
(6) راجع صحيح البخارى.
(7) أسد الغابة، جزء 3 (380)، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة عثمان.
(8) راجع: صحيح البخارى: 23 كتاب الجنائز.

الفصل الرابع
البخارى والديانات الأخرى
توطئة: لم يقبل الرسول الكريم-حسب البخارى-إلا باتباع الناس له رافضين كافة الأديان السائدة آنذاك سواء كانت سماوية أو غير ذلك، كما تبين الأحاديث اللاحقة.
متن الحديث (1):
عَنْ ‏ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏(ص)، ‏‏قَالَ: أُمِرْتُ أن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى ‏‏يَشْهَدُوا ‏‏أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ ‏‏مُحَمَّدًا ‏رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ‏‏عَصَمُوا ‏‏مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإسلام، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ". (أخرجه البخارى فى: 2-كتاب الايمان: 17-باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}.
الشرح والمناقشة (1):
يظهر الحديث بوضوح تام أن الرسول أمر بقتال الناس كافة حتى يعلنوا إسلامهم وأن ذلك هو السبيل الوحيد لعصمة دمائهم وأموالهم؛ ولعل طلب الرسول من اليهود فى المدينة بقوله ثلاثًا: "اسلموا تسلموا" (1) يؤكد على ما ورد فى ذلك الحديث.
متن الحديث (2):
حديث أبى ذر، قال: قال رسول الله (ص): "أتانى آتٍ من ربى فأخبرنى، أو قال بشرنى، أنه من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق". (أخرجه البخارى فى: 23-كتاب الجنائز. 1-باب فى الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله).
الشرح والمناقشة (2).
ورد ذلك الحديث بأكثر من موضع (باب) وبأكثر من رواية وفيه اختلاف فى متنه مع وجود الراوى نفسه، وهو يؤكد أن الجنة ستكون من نصيب أمة النبى محمد (ص) وإن زنى أهلها وسرقوا. كما أن الحديث يوافق ويعارض حديث الرسول القائل: "إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها مالم تعمل أوتتكلم"(2) يوافقه بأن أمة النبى محمد (ص) هى الأمة المميزة وجزاؤها الجنة دومًا ونعم المصير؛ ويعارضه بأن من يعمل أو يقل شيئا يحاسب عليه، على عكس رواية أبى ذر التى تمنح الجنة على الرغم من السرقة والزنا!!
أخيرًا فإن ذلك الحديث يتماشى مع الحديث التالى الذى يؤكد أن الجنة للمسلمين حصرًا دون غيرهم ويظهر ذلك واضحًا فى العبارة التالية من الحديث (وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة).
متن الحديث (3):
عَنْ ‏‏عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود،‏ ‏قَالَ: ‏كُنَّا مَعَ النَّبِى (ص) فِى قُبَّةٍ، فَقَالَ: أَتَرْضَوْنَ أن تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: أَتَرْضَوْنَ أن تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: أَتَرْضَوْنَ أن تَكُونُوا ‏‏شَطْرَ ‏‏أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: وَالَّذِى نَفْسُ ‏‏مُحَمَّدٍ ‏بِيَدِهِ، إِنِّى لأَرْجُو أن تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ أن الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِى أَهْلِ الشِّرْكِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِى جِلْدِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ، أو كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِى جِلْدِ الثَّوْرِ الأحْمَرِ. (أخرجه البخارى فى: 81-كتاب الرقاق: 45-باب كيف الحشر).
متن الحديث (4):
عَنْ ‏‏أَبِى مُوسَى، ‏قَالَ: ‏أَقْبَلْتُ إلى النَّبِى‏(ص)، ‏وَمَعِى رَجُلانِ مِنْ ‏‏الأشْعَرِيِّينَ، ‏‏أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِى وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِى، وَرَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص) ‏‏يَسْتَاكُ. فَكِلاهُمَا سَأَلَ، فَقَالَ: يَا ‏‏أَبَا مُوسَى ‏‏أَوْ يَا ‏‏عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ! ‏‏قَالَ، قُلْتُ: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! مَا أَطْلَعَانِى عَلَى مَا فِى أَنْفُسِهِمَا، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ. فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إلى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ قَلَصَتْ. فَقَالَ: لَنْ أو ‏‏لا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ يَا ‏‏أَبَا مُوسَى ‏أَوْ يَا ‏عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ ‏إِلَى ‏الْيَمَنِ. ‏ثُمَّ اتَّبَعَهُ ‏‏مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. ‏‏فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، قَالَ: انْزِلْ. وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ. قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ: اجْلِسْ. قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. ثُمَّ تَذَاكَرَا قِيَامَ اللَّيْلِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَرْجُو فِى نَوْمَتِى مَا أَرْجُو فِى قَوْمَتِي. (أخرجه البخارى فى: 88-كتاب استتابة المرتدين: 2-باب حكم المرتد والمرتدة).
الشرح والمناقشة (4):
الحديث يظهر بوضوح أن من ترك الإسلام ليعود إلى دينه السماوى الأصلى هو مرتد كافر يجب قتله تطبيقًا لقضاء الله ورسوله-حسب رواية أبى موسى ومعاذ-وهو يؤكد أن الإسلام هو الدين المقبول فقط، وإذا كان الإمام البخارى يرى فى ذلك الحديث تطبيقًا لحكم المرتد فى الإسلام عملا بما جاء عن الرسول (ص) بقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" (3)، فإن ذلك كان يجب أن يطبق على اليهودى أولا لأنه بدل دينه إلى الإسلام حسب نص الحديث؛ حيث نلاحظ أن عبارة (من بدل دينه) عامة ولا تشمل المسلم فقط!!
أخيرًا نورد حديثًا يتطابق فى مضمونه مع ما ورد فى الحديث السابق، ولكن نهاية المرتد النصرانى فيه كانت عقوبتها من السماء، كما يلى:
متن الحديث (5):
عَنْ ‏أَنَسٍ، ‏قَالَ: ‏كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ ‏الْبَقَرَةَ ‏وَآلَ عِمْرَانَ. ‏‏فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِى ‏(ص) ‏فَعَادَ نَصْرَانِيًّا. فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِى ‏‏مُحَمَّدٌ ‏إِلا مَا كَتَبْتُ لَهُ. ‏فَأَمَاتَهُ اللَّهُ، فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأرض. فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ ‏‏مُحَمَّدٍ ‏وَأَصْحَابِهِ. نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ. فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ، وَأَعْمَقُوا لَهُ فِى الأرض، مَا اسْتَطَاعُوا. فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأرض. فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ. (أخرجه البخارى فى: 61-كتاب المناقب: 25-باب علامات النبوة فى الإسلام).
متن الحديث (6):
عَنْ ‏أَبِى سَعِيدٍ، ‏‏قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏(ص): ‏‏يَقُولُ اللَّهُ ‏يَا ‏‏آدَمُ! فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِى يَدَيْكَ! قَالَ يَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ، تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، ‏وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ ‏سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى، ‏‏وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. ‏فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ ‏‏يَأْجُوجَ‏ ‏وَمَأْجُوجَ ‏‏أَلْفًا وَمِنْكُمْ رَجُلٌ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنِّى لأَطْمَعُ أن تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنِّى لأَطْمَعُ أن تَكُونُوا ‏‏شَطْرَ ‏أَهْلِ الْجَنَّةِ. إن مَثَلَكُمْ فِى الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِى جِلْدِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ، أو الرَّقْمَةِ فِى ذِرَاعِ الْحِمَارِ. (أخرجه البخارى فى: 81-كتاب الرقاق: باب قوله عز وجل-إن زلزلة الساعة شئ عظيم).
الشرح والمناقشة (6):
الحديث كما نرى يمكن تصنيفه ضمن الأحاديث القدسية(4) لأن المتكلم-حسب الراوى-هو الله-عز وجل-الذى طلب من آدم-ولا ندرى لماذا آدم وليس مالك خازن النار أو ميكائيل-إخراج بعث النار التى ستمتلئ بالعباد الذين وصفهم الرسول بأنهم قوم يأجوج ومأجوج وهم من يعتبرون اليوم أهل الشرق الأقصى-حسب ما جاء فى الاثر.
ويرد فى الحديث تشبيه للأمة لا يستخدمه أو يؤكد عليه السادة العلماء والأفاضل وهو إننا كالرقمة (القطعة البيضاء المستديرة اليابسة التى لا شعر فيها) فى زراع الحمار!! أو فى جلد الثور الأسود حسب أحاديث أخرى.
متن الحديث (7):
حديث أبى هريرة، قال النبى (ص): "رأيت عمر بن عامر بن لحىّ الخزاعى يجر قصبه فى النار وكان أول من سيب السوائب". (أخرجه البخارى فى: 61-كتاب المناقب: 9-باب قصة خزاعة).
الشرح والمناقشة (7):
عمرو بن عامر بن لحىّ كما نجد فى الحديث موعود بجهنم يجر أمعاءه فيها لأنه أول من ترك الإبل سائبة فلا تمنع من ماء ولا مرعى ولا تحلب ولا تركب تمامًا، كما هو الحال عند السادة الهندوس الذين يتركون الحيوانات كالبقر وغيرها سائبة فى معظم مدن الهند. وبذلك فإن من يؤمن ويعمل على تسييب الدواب هو فى النار حسب حديث أبى هريرة.
أخيرًا تعرف الأخ القارئ بعمرو بن عامر بن لحى الذى بلغ فى العرب من الشرف مالم يبلغه عربى قبله ولا بعده فى الجاهلية، وذهب شرفه فى العرب كل مذهب حتى صار قوله دينًا متبعًا لا يخالف، وهو أول من نصب الأصنام حول الكعبة، وكان الحجاج يلبون قائلين: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" لكن عمرًا أضاف إلى التلبية عبارة: "إلا شريكًا هو الملك، تملكه وما ملك" فتبعه العرب فى ذلك، وظلت تلك هى تلبية الحجاج حتى أعادها الإسلام إلى صيغتها الأولى (5).
النتيجة:
تظهر بعض الأحاديث الواردة فى صحيح البخارى أن المسلمين هم أصحاب الجنة أما أهل بقية الديانات والملل (مسيحية-يهودية-هندوسية-بوذية...) فالله أعلم بحالها ولكنها لن تدخل الجنة التى حددت حصرًا للنفس المسلمة-حسب صحيح البخارى-والمسلم لا يتساوى مع الكافر فلا يقتل مسلم بكافر(6).
ولا أدرى هنا كيف نتجاهل وصفه تعالى لأهل الكتاب من يهود ونصارى وأحناف بأن منهم الصالح والراسخ فى العلم وأن لا خوف عليهم كما فى قوله الحق: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (سورة المائدة-69).

الهوامش
(1) راجع صحيح البخارى، فى 89-كتاب الاكراه2، باب فى بيع المكره ونحوه فى الحق وغيره.
(2) المصدر نفسه، 68-كتاب الطلاق-11،باب الطلاق فى الاخلاق.
(3) تعارض كثير من آيات الذكر الحكيم ذلك الحديث.
(4) راجع بحث الأحاديث القدسية ص 49 فى هذا الكتاب.
(5) السيرة الحلبية، على برهان الدين الحلبى، مجلد 1،ص 16.
(6) راجع مختصر صحيح البخارى، فى: 60-باب الجهاد، لمعرفة الحديث.

2 comments:

SALEM said...

أولاً من أول سؤال قرأته وجدت أجابتك مخالفة للقرآن
ألم تقرأ قوله تعالي "" ولقد أنزلنا الكتاب والحكمة... الأ ية "" صدق الله العظيم

SALEM said...

قال تعالي"" أنا نحنا نزلنا الذكر وانا له لحافظون"" صدق الله العظيم

قل موتوا بغيظكم