الصعود الى القمر
تم الهدم و بقيت الأنقاض . تجلت أرض البيت القديم مساحة شبه مربعة فى الفضاء خالية من أى معنى و بلا رموز . و قلت للمهندس و هو أيضا صديقى :
1 أنظر كم هى صغيرة .
فقال و هو يتأملها متفكرا :
1 كان فيها الكفاية لإيواء أسرة ما شاء الله كبيرة .
و استغرق فى تأملاته ثم استطرد :
- لا جدوى اقتصادية من بناء مسكن أو عمارة صغيرة ..
- قلت لك اننى لا أفكر فى ذلك .
- لكن ما تفكر فيه خيال خارق ، اليك مشروعا طريفاً و مفيداً ، أن بنبى مشربا لبيع العصائر و الحلوى ، و سوف يكون تحته فى هذا المكان الأثري ، و الف من يتقدم لاستئجاره اذا عرض للاءيجار فى الوقت القريب .
فابتسمت قائلا : - فكرة طيبه و لكننى لم أقصدك الا لتنفيذ ما فى رأسى ..
2 انه خيال أشبه باللعب
فقلت باصرار :
3 أريد أن أعيد البيت القديم كما كان أول مرة دون أدنى تغيير حاذفا الزمن من الوجود .
و خلوت اليه فى مكتبه و أصغى الى بعناية و يده لا تكف عن الرسم و التخطيط . و دار نقاش مرات فعندما وصفت له المدخل و السلم قال :
- أسلوب فج . و يصدم القادم بوجوده دون أى تمهيد ، دعنى ...
فقاطعته باصرار :
4 ما أريد الا أن يرجع البيت الى أصله ..
و فى لحظة أخرى قال :
- المسكن لن يزيد عن حجرتين أكبرهما صغيرة ..
- أنا عارف .
- و تضيع نصف المساحة لبناء حمام يتسع لخزان لتطهير الزهر و الورد ، و بناء فرن بلدى ، أى زهر و ورد و خبز .. !!
- هذا ما أريد ، و لا تنسى السطح ، فيه حجرة صغيرة صيفيه ، و حجرات لتربية الكتاكيت و الأرانب .
و ضحك صديقى طويلا و لكن يده لم تكف عن التخطيط . انه يعلم جيدا أنى لا أفكر فى الاستثمار . و كان مرجوى أن أقيم استراحة شعبية لبناتها الذكريات و الأحلام ، و تنفع مهربا من هموم الحياة و ضغوطها ، و عندما يتم تأثيثه و تزيينه من من محال خان الخليلى سيكون تحفة ، و لكن بمعنى آخر غير ما قصده صديقى المهندس من بناء المشرب و اعداده للسياح و الأهالى . و لعله أساء الظن .. حذرنى قائلا :
- ستكون فى قلب حى عريق فحذار من تجاوز التقاليد
فضحكت و قلت له :
5 لو فكرت فى شيء مما تعنى لوجدت سبيلي دون حاجة الى هدم و بناء !
و تم بناء البيت أو إعادة بنائه على ما اتفقنا عليه و كنت أتابع خطوات البناء الأولى ثم انقطعت عنه لأستمتع برؤية شكله الجديد و كأنها مفاجأة سعيدة . و قال لى المهندس :
- تم كل شيء كما تريد فأرجو ألا تندم ..
و ذهبت معه لالقاء نظرة أخيرة و التسلم . و عندما أقبلت من أقصى الطريق تراءت المشربيتان كما كانتا تترائيان فى الزمن القديم . و كعينين ترمقان دعتانى للدخول ، قام البيت بين البيوت القديمة على ناحيتيه التى بقيت على حالها دون أي تغيير خارجى ، أما سكانها القدامى - جيران الزمان الأول – فقد تلاشوا فى غياهب المدينة و لم يتردد لأحد منهم ذكر الا فى صفحة الوفيات ، و جعل قلبى يخفق . و رأيت المطرقة معلقة بالباب فرأيت الأيدى العزيزة تقبض عليها . و قال المهندس كالمعتذر :
كان على أن أتخذ الاستعدادات لإدخال المياه و الكهرباء .
فقلت له :
6 فى نيتي أن استعمل المصباح الغازي ..
7 ستكون جاهزة اذا احتجت اليها حتى تفيق من الخيال .
ولكننى أمعنت فى الخيال و أنا أرتقي فى السلم العالي . و حال بلوغي الطابق المعد جذبت الى الوراء البعيد بشدة . غاب عنى صوت المهندس ن كدت أنساه تماما . ها هو الفرن . لكن أين حرارة الدفء و اللهب و المجلس السعيد ؟ و تقت الى عبق الخبيز . و ها هو الحمام بمنوره المزركش و خزانه العريض و الحوض المفعم بالزهر و الورد . و ها هى أنابيب التقطير تكاد تسيل بالرائحة الذكية ، و جلست أراقب اليدين فى نشاطهما العذب و أستمع الى التلاوة . و اندفعت أجرى فى الدهليز بين الحجرتين تطوقني الأصوات المحذرة . و اختلط التهديد بالضحكات العالية ، و اعترضنا الذى يضع على وجهه قناعا من الكرتون رسمت عليه صورة الشيطان ، و جاء صوت معاتباً : " لا ترعبه فالرعب لا يزول " ، و صعدت الى السطح فهالني أن أجد الحجرة الصيفية خالية من غطاء اللبلاب و الياسمين و أن أرض السطح خالية من السلم الخشبي و حبال الغسيل ، و جذبنى صياح الديك الى حجرة الدجاج فهرعت اليها ، و فردت جلبابى و أمسكت بطرفه لجمع فيه البيض .
و صحت فيمن يرافقني : " انظر " و أشرت الى لون المساء الهابط على الحى من خلف القباب و المآذن . و طلع البدر فى خيلاء من وراء البيوت العتيقة فتطلعت اليه بشغف . عند ذاك رفعت فوق الكتف و همس لى الصوت الحنون : " خذه ان قدرت " ، فمددت يدى بمنتهى الحب و الأمل الى البد الساطع ... !!
Monday, May 14, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment