[ 7 ]
منع الصدقة عن المحتاج
الآصرة بين العربة الأثاربة واليهود الأثاربة اتسمت بالمتانة ةتحلت بالعمق وامتازت بالقوة واتصفت بالشدة وهى واحدة من اهم المعضلات التى جبهت ( المنصور بالرعب مسيرة شهر ) وحاول فكها بشتى الحلول وقد تناولناها فيما سبق.
من بين الطرق التى سلكها هو أنه نهى بنى قيلة عن رفد ذوى الحوج أو أصحاب المسغبة أو رضخ إخوان الفاقة من اليهود الذين تربطهم بهم وشيجة من أى نوع.
( أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أن النبى ـ ص ـ كان يأمر ألا يُتصدق إلا على أهل الإسلام ). [ لباب النقول للسيوطى ص 35].
وأورده الأزهرى بنصه ثم وصفه بصحة الإسناد وأضاف إلى ذلك إلى ابن أبى حاتم أبا شيبة وأنه رواه فى المصنف وفى تفسير ابن كثير وقال الشيخ شاكر عنه فى العمدة: إسناده صحيح. [ ص248 ].
*******
ومن كتب التفسير:
أورده الألوسى عن ابن حاتم وابن شيبة. [ ( روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى ) لأبا الفضل شهاب الألوسى ـ الجزء الثانى ـ ص 72, 73 ].
وذكره أبو محمد عبد الحق بن عطية رواية عن سعيد بن جبير ( لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم ). [ المحرر الوجيز: ج2 ص 259 ].
ومن المحدثين انتقشه بحروفه عبدالله شحاته. [ تفسير القرآن الكريم ج3 ص 477 ].
*******
وهنا يثور سؤال مهم: لماذا فعل ( الذى أُرسل رحمة بالعالمين ومتمم مكارم الأخلاق ) ذلك؟.
ونحدّس أن الإجابة لاتحتاج إلى فطانة, فمن ناحية قد يدفع مساكين بنى اليهود ليدخلوا الإسلام كيما يعنيهم الذين سبقوهم بالإيمان بما يسد خلّتهم, ومن رجا آخر قد يحدث هؤلاء المحاويج بين اليهود زلزلة ويسببون ربكًا يشغلهم عن مناواة الحبيب ولو إلى حين, وفى ها الإبّان تترسخ أقدام ديانته ويشتد عود دولته التى يعمل ليلاً ونهارًا على تقوية بنيانها, ومن جانب ثالث يدقّ منع الأعاريب الأثاربة من الصدقة على معوزى إخوة القردة والخنازير إسفينَا مكينًا وشدخًا غائرًا وصدعًا عميقًا فى العروة الوثقى التى تَلبِك اليثاربة العربة واليهود وهو شان يوليه ( من جُعِلت له الأرض طهورًا ) عناية فائقة واهتمامًا بالغًا ورعاية مكثفة لأن دوامها بهذه الهيأة ليس فيه خطورة على الدين والدولة فحسب بل هو ضياع محقق لكل الجهود التى بذلها والتضحيات الجسيمة التى قدمها تبعه.
*******
والذى لا مشاحة فيه أن ذياك الحظر أوجد داخل صفوف العرب من أهل يثرب بلبلة وسرّب بينهم قلقًا ودفع إلى عيونهم أرقًا مرده الروابط الحميمة التى شبكتهم ببنى يعقوب منها الحلف والولاء بل المصاهرة والقربى وبعض منهم دأب على ترك أولاده لديهم يتربون وينشأون عندهم وسبق أن رقمنا ذلك تفصيلاً.
فعندما يَحجِنُون عن محتاجيهم العطاء ويصنون عليهم بالصدقة ويقطعون عنهم الإحسان فسوف تشحن صدورهم بالبغضاء وبطريق الحتم واللزوم يؤثر على معاملاتهم خاصة تنشئة عيالهم لأن المرضعات عادة من المعدمين أو المقلين.
كما أن اليهود المياسر سيعتبرونه ضربًا من المُلاحاة أو الشحناء فيعير أفئدتهم على بنى قيلة الذين أقاموا معهم وشائج سميكة أظهرها الأنشطة التجارية المتنوعة.
إزاء ذلك اضطروا لأن يتوجهوا بالسؤال إلى ( المعصوم من الناس ) أن يرخّص لهم فى العودة إلى التصدق على فقراء اليهود.
( اخرج ابن جرير من طريق سفيان الثورى عن الأعمش عن جعفر بن غياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان أناس من الأنصار لهم أنساب وقرابة فى قريظة والنضير وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا ). [ المقبول للأزهرى ص 148, 149 وقال عنه: إسناده صحيح وإنه ورد أيضًا فى تفسير ابن كثير, وقال شاكر فى العمدة: إسناده صحيح ].
وما جاء فى الحديث أنهم اتقوا الصدقة عليهم لاشك أنه من أثر الحديث المحمدى الشريف الذى نسخناه آنفًا كذلك ( يريدهم أن يسلموا ) هو مجازاة لإرادة ( المدثر ) وقصده من الحظر.
أما كتب التفسير فقد أوردت الخبر ذاته.
ففى المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزير لابن عطية ج2, ص 260: ( روى ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات فى بنى قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم ان يسلموا ).
أما القمى النيسابورى فقد رواه عن الكلبى: قال الكلبى: ... إن إناسًا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع فى اليهود, وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا, فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وأرادوهم أن يسلموا واستأمروا رسول الله ـ ص ت فنزلت الآية 272 فى سورة البقرة { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } , فأعطوهم بعد نزولها . [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ المحلد الثانى ـ ص 613 ].
هذا الخبر وضّح الصلات الحميمة التى ربطت بنى قيلة وبنى يعقوب وفى مقدمتها الأصهار والقرابة والرضاع ودأب اليثاربة الأعاريب على رفدهم او بالأحرى الفقراء منهم: وأنهم لما أسلموا انصاعوا للحظر ( عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله ـ ص ـ : لا تصدقوا إلا على اهل دينكم ). [ ذات المصدر والصفحة ].
وقصدوا من ورائه إجبارهم على دخول الإسلام, وسبق أن ذكرنا أن هذا واحد من الأهداف التى تغياها ( سباق العرب ).
بيد أن اليهود اهل عناد إذ هم يعتبرون انفسهم اسبق من غيرهم فى الإيمان بالتوحيد وإسطيرهم أصل الكتب المقدسة, فلم يؤثر منع الأعطيات فيهم. عندئذ تيقن أعاريب قرية الحرتين لأه هذا الموقف سيأتى بآثار وخيمة فى شتى النواحى فأسرعوا إلى ( المزمل ) يستأمرونه ويستأذنونه فى ان يعودوا إلى الإحسان إلى فقراء إخوان القردة والخنازير, فقدّر ما هم فيه من حُروجة وضيق, ومن جانب آخر فإن نهيهم عنه سلاح فعّال سوف يطرح ثمرته فى مدى قريب.
إنما العربة اليثاربة كما كررنا لهم الأيادى المخضبة بدماء نصرة الدين وتدعيم الدولة وبقاؤهم فى هذه الزنقة ليس من الكياسة فى شئ, وهنا يجئ دور ( التذكرة / العجب ) فتطلع كالبدر فى منتصف الشهر إحدى الآيات الكريمة : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء }.
وهكذا انحلت المشكلة وعاد بنو قيلة يَرْضخون ( = يمدون ) لفقراء إسرائيل من صدقاتهم وغحسانهم كسابق عهدهم رعاية لقرابتهم وأصهارهم ... ولمنافع أخرى مُشاكلة وانقلب غمهم سرورًا, ولا شك أن ( محمودًا ) رضى لرضاهم لأنهم أجناده المناصرون الأوفياء,
كما أن الذكر الحكيم يزيدنا بالبرهان تلو الآخر على أنه فى كل مقطع من حياتهم المبرورة لا يتخلى عنهم وأن علاقته بهم وآصرته معهم قوية ومداخلته إياهم وثيقة.
*******
[ 8 ]
قصة تحريم الربا
استقر التعامل بالربا فى مجتمع الجزيرة باعتباره من الريعية التى تضُخ دون بذل أى مجهود مثل عرق العُبدان وما تدره أفخاذ الإماء اللاتى دأبوا على تشغيلهن فى العهورة. ومن بين أكبر المرابين: العباس بن عبد المطلب, الجد الأعلى للعباسيين وخالد بن الوليد بن المغيرة:
( قال السدى: نزلت فى العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين فى الجاهلية. [ أسباب النزول للواحدى ].
فقال النبى ـ ص ـ ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب. [ المصدر ذاته ].
وفى الفترة التى سبقت ظهور الإسلام مثَّل الوليد بن المغيرة دور كبير المرابين وهو شخصية بارزة بين ملأ قريش تمتع بثراء عريض وشهد القرآن الكريم بغناه الطاغى { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا {12} وَبَنِينَ شُهُودًا {13} وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا {14} ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ {15} } [ المدثر: 11 ـ 15 ].
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } عنى به الوليد بن المغيرة , { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا } كثرة عدده أو مساحته. [ المختصر فى تفسير القرآن: لابن صمادح التجيبى ـ ص 460 ].
{ وَبَنِينَ شُهُودًا } وهو الوليد بن المغيرة, كان له عشر بنين لا يغيبون عنه فى تجارة ولا عمل. [ تفسير غريب القرآن: لأبى محمد عبدالله مسلم بن قتيبة ـ 213/276هـ ـ تحقيق السيد أحمد صقر ـ ص 496 ـ 1398هـ /1978م دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان ].
وعقب محقق الكتاب عليه بالآتى:
" هذا قول مجاهد وقتادة وقيل سبعة أو اثنا عشر أو ثلاثة عشر" انظر القرطبى 70, والطبرى 97, والفخر 267. [ المصدر ذاته ].
وإذ إنه من المرازبة الجحاجح ومن صناديد بنى سخينة فهو واحد من القلائل الذين يسنون السنن التى يقتدى بها القبيل مثل عبد المطلب بن هاشم ـ مع الفارق الشاسع بين الرجلين.
وإذ إنه لحّام أى جزار فقد استن قطع يد السارق حتى يردع اللصوص من الإقتراب من نشبه ( ماله ) المُفَرطح. [ فيما بعد انتفش الإسلام قطع يد السارق ].
*******
ولابن المغيرة نزاح أخرى منها أنه من النخبة المثقفة بين سادة قرية التقديس فهو الذى أفتى القرشيين بأن يقولوا عن ( المتربص ) إنه ساحر يفرّق بين المرء وبين أبيه وأخيه وزوجته وعشيرته. [ سيرة ابن إسحق المسماة كتاب السير والمغازى: تأليف محمد بن إسحق بن يسار ـ 85 /151هـ ـ تحقيق الدكتور سهيل زكار ص 151 ـ الطبعة الأولى 1398هـ /1978م ـ دار الفكر بيروت ].
بعد أن وصف الذكر الحكيم وصفًا رائعًا ما زال خطباء المساجد يرددونه حتى الآن ( والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لغَدق وإن فرعه لجنًا ). [ المصدر ذاته ].
ولقد كشف عن عمق ثقافته عندما وصف الكهان وزمرتهم وسجعهم والجنون وتخانقه وتخالجه ووسوسته والشعر ورَجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه والسحرة ونفثهم وعقدهم. [المصدر ذاته ].
وقد أدان القرآن المجيد هذا الموقف الذى اختاره والذى دلّ على الطغيان بالأموا الطائلة والاستكبار بالأولاد العشرة والخُنْزَوَانة [ فيه خنزوانة وهى الكِبَر ونزّت فى أنفه خنزوانة ( أساس البلاغة ) للزمخشرى ]. بالثقافة والصلافة بنبل المحتد والتيهان بشرف الجرثومة ( الأصل ).
كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبى ت ص ـ قدر ما اتى به القرآن: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا قدرت ما أتى به الشعر ولم يكن إياه وكان يقصد فى التقدير تكذيب الرسول بضرب من الاحتيال يمكن تجويزه على العقلاء فلذلك كل تقدير مستحقًا لعقوبة من الله تعالى هى كالقتل إهلاكًا له فهذا معنى { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } [ المدثر 19] أى هلك هلاك المقتول كيف قدر. [ درة التنزيل وغرة التأويل فى بيان الآيات المتشابهات فى كتاب الله العزيز: للخطيب الإسكافى ـ برواية ابن أبى الفرج الأردستانى ـ ص 506 ـ الطبعة الثانية 1977م ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ].
*******
هذه الشخصية المركبة بالإضافة إلى ثقافتها زاولت عدة أنشطة تجارية من بينها الجزارة كما ذكرنا. والتسليف بالربا فلما هلك غير مأسوف عليه خلّف أموالاً جزيلة تتمثل فى ديون طائلة لدى العديد من المدنيين ومن بين ورثته خالد بن الوليد, فطفق يستثمرها على ذات الشاكلة بيد أنه رغم عبقريته العسكرية وفذوذته الحربية وحِنكته القتالية لم يبلغ أبيه فى المسائل المالية وأهم من ذلك فإن الغزوات والسرايا التى شنها المسلمون على قوافل مشركى مكة شكّلت ما يمكن أن نسميه حصارًا اقتصاديًا فلم تعد التجارة فيها مزدهرة كسابق عهدها ومن ثم فإن الفروع التى تمولت منها مثل بنى مخزوم وبنى المغيرة ( وهما من أرومة واحدة ) بدأت تعرف الضيق وتعانى العَسارة وتكابد الشدة.
خاصة بعد أن تقاعس أبو سفيان القائد المحنك للقوافل والخبير الخِرّيت بفِجاج الصحراء ودروبها عن الخروج من مكة خوفًا على حياته بعد أن اكتشف الخطة التى دبرها ( الموقر ) لتصفيته جسديًا ( فى سنة خمس بعث ـ ص ـ عمرو بن أمية الضمرى وسلمه بن أسلم ليفتكا بأبى سفيان بن حرب فنذر بها فهربا ). [ المحبر: لابن حبيب ص 139 ].
وفى الهامش: أرسلهما إلى مكة ليقتلا أبا سفيان غِرة لفعله ذلك مع النبى ـ ص ت قبل وفطن لعمرو فهرب وقتل فى طريقه ثلاثة رجال. [ المصدر السابق هامش نفس الصفحة ].
ويرجع رعب أبى سفيان وقُبُعه فى قرية القداسة وعدم ظَعْنه منها إلى سماعه بمصير كل من: كعب بن الأشرف وسلام بن أبى الحقيق وأسير بن زوام وهم يهود, ونبيح وقيل سفيان الهُذلّى ( بوادى عرنة ). [ أعطى متمم مكارم الأخلاق قاتله عبدالله بن انيس الجَهْنى عصا ( وقال تحضر بهذه فى الجنة فلما مات أدرج العصا فى كتفه ) مكافأة له على اغتيال إياه ووضع رأسه ( = القتيل ) بين يديه الشؤيفتين.ا.هـ ].
وكذلك أم قلرفة الفزارية ( وفى سنة خمس وجه المنصور بالرعب مسيرة شهر ـ ص ـ زيد بن حارثة إلى أم قرفة الفزارية وسَبَ هندًا بنتها ) [ المحبر: لابن حبيب ص 140 ].
( وقال ابن الجوزى فى التلقيح ( ص 64 ) ثم سرية زيد بن حارثة إلى وادى القرى فأخذوا أم قَرْفَة واسمها فاطمة بنت ربيعة وقال محققه: إلى أم قَرْفَة فاطمة بنت ربيعة بوادى القُرى على سبع ليال من المدينة من شهر رمضان من سنة ست من الهحرة وربطها بين بعيرين حتى ماتت, فى مسلم: كان أمير السرية أبو بكر ). [ المصدر السابق هامش نفس الصفحة ].
وعند المقريزى ( وأم قرفة قتلها قيس بن المجسر اليعمرى قتلاً عنيفًا:
وربط بين رجليها حبلاً ثم ربط بين بعيرين ثم زجرهما فقطعاها وهى عجوز كبيرة فأمر رسول الله برأسها فدير بها ليعلم قتلها ويصدق قول رسول الله ـ ص ـ لقريش: ارأيتم إن قتلت أم قرفة؟ فيقولون أيكون ذلك؟. [ إمتاع الأسماع للمقريزى ـ الأول ـ ص 210 ].
وحرص ( الرحمة المهداة ) على الطواف برأس أم قرفة فى دروب وأزقة وسكك أثرب الغرض منه هو إعلام الكافة أن قوة دولة بنى سخينة بلغت شأوًا بعيدًا لأن هذه القتيلة طفق العرب على ضرب المثل بعزتها فيقال: أعز من أم قرفة ( قال الأصمعى: من أمثالهم إذا أرادوا العز والمنعة قالوا: إنه لأمنع من ام قرفة وهى بنت مالك بن حذيفة ( وفى رواية أنها بعلته ) وكان يحرس بيتها خمسون سيفًا بخمسين فارسًا كلهم لها مَحْرم ( = أى لاتحل لواحد منهم, كأن يكون أخاها أو عمها من لا تحل له ). [ ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب: لأبى منصور عبد الملك الثعالبى 350 ـ 429هـ ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ ص 310 ـ بند 469 ـ سلسلة ذخائر العرب رقم/57 ـ طبعة 1985م ـ دار المعارف بمصر ].
ويؤكد شيخ المؤرخين الطبرى الخبر:
( .. فأمر زيد بن حارثة أن يقتل أم قرفة فقتلها قتلاً عنيفًا ربط برجليها حبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقَّاها.
وكانت ابنتها لِسَلَمة بن عمرو بن الأكوع كان هو الذى أصابها فسألها رسول الله ـ ص ت سلمة فوهبها له فأهداها لخاله حَزَن بن أبى قحافة ). [ تاريخ الطبرى ـ الثانى ـ ص 643 ].
*******
إن الختام المفجع لأم قرفة يقطع بأن الحروب الدينية هى أفظع بما لا يقاس من غيرها لأن المقاتلين فيها يتعاركون بأقسى أو أقصى مالديهم من شراسة على امتلاك الحقيقة المطلقة والقول الفصل والكلمة النهائية وأحدهم على حق لا شائبة فيه ولا مهادنة بشأنه, والآخر على باطل ليس فيه ذرة من حق, ولا طريق للتفاهم معه سوى نفيه وتغريبه وتصفيته بأعنف الوسائل.
من هنا تؤكد الإحصائيات أن ضحايا الحروب الدينية من فجر التاريخ حتى الآن ( سواء بين أبناء ديانتين أو أتباع مذهبين فى ديانة واحدة ) أضعاف ضحايا الحروب الأخريات.
ثم نعود إلى سياق البحث:
لاشك أن خَنَس أبى سفيان بن حرب عن تولى رئاسة القوافل التى دأب بنوسخينة على إنفاذها صيفًا وشتاءً ( وهما رحلتا الشتاء والصيف ) أضعف الحركة التجارية فى بكة وأصاب تجارها وفى مقدمتهم بنو المغيرة بقاصمة الظهر.
ومن ثم انقلب الوضع فأصبح بنو المغيرة مدينين للثقفيين طواغيت قرية الطائف ( منهم مسعود وحبيب وربيعة وعبد ياليل وبنو عمير ) [ لباب النقول للسيوطى ص 36 ].
ولبنى المغيرة هؤلاء يد لا تنكر فى معاضدة ( أبى القاسم ) سواء فى نشر الديانة التى يبشر بها أو الدولة التى يرسخ قوائمها, ومنهم شخصيات لها مقام محمود ودرجة رفيعة نذكر منها على سبيل المثال فحسب:
1 ـ أم سلمة: هند بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبدالله بن مخزوم وقد سبق أن رقمنا طرفًا من أخبارها ولا نرى موجبًا للتكرار.
2 ـ عبدالله بن الأسد بن هلال المخزومى وهو ليس من بنى المغيرة مباشرة ( زوج أم سلمة الأول ) وجدها كما ذكرنا المغيرة وجده هو هلال وهما ( ابنا عبدالله بن عمر بن مخزوم ) أخوان وحفيد هلال هو عبدالله بن عبد الأسد وحفيدة المغيرة هى أم سلمة بنت أبى أمية وعليه فزوجها أبو سلمة ابن عم أبيها. [ انظر نسب قريش 337 وجمهرة ابن حزم 141, 142, 143, أم سلمة أم المؤمنين ج1 ـ هامش ص 50 لأمبنة الحسنى ].
إذن هو يمت بقرابة حميمة لبنى المغيرة.
وحمل صدره أوسمة مُنيفة ( قال ابن إسحق: أسلم بعد عشرة أنفس فكان الحادى عشر من المسلمين هاجر مع زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة. قال المصعب الزبيرى أو من هاجر إلى أرض الحبشة أبو سلمة بن عبد الأسد ثم شهد بدرًا, وكان أخا رسول الله ـ ص ـ وأخا حمزة من الرضاعة أرضعتهم ثوبية مولاة أبى لهب واستخلفه رسول الله على المدينة حين خرج إلى غزوة العشيرة وكانت فى السنة الثانية من الهجرة وتوفى أبو سلمة فى جمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة. [ الإستيعاب لابن عبد البر ـ المجلد الرابع ـ ص 306 ].
وأضاف ابن حجر ( وكان ابن عمة النبى ت ص ت أمه برّة بنت المطلب وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه ومات بالمدينة بعد أن رجعوا من بدر, كذا وقال ابن غسحق بعد أحد وهو الصحيح وروى ابن أبى عاصم فى الأوائل من حديث ابن عباس: أول من يُعطى كتابه بيمينه أبو سلمة وقال أبو نعيم: كان اول من هاجر إلى المدينة وزاد ابن مُنْدِه وإلى الحبشة ). [ الإصابة لابن حجر العسقلانى ص 206 المجلد الرابع ].
*******
3 ـ خالد بن الوليد الذى نفحه ( الرحيم / الراضى ) لقبًا باذخًا هو سيف الله المسلول الذى بدُربته الفائقة فى القتال أنقذ جيش المسلمين فى غزوة مُؤتة من هلاك محقق على يد الروم ( بلغ أجناد هرقل مائة ألف بخلاف أوشاب الأعاريب من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى ).
إذ عندما استشهد زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وعبد الله بن رواحة ( القواد ) غدا المعسكر فى أمر مريج فاصطلحوا على تأمير خالد بن الوليد ( فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشَى ( والمخاشاة هى المحاجزة ) ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس ) [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 185 تحقيق طه عبد الرؤوف سعد وآخر ـ القطاع الثقافى بأخبار اليوم ].
وكيما تدرك مدى فضل براعة خالد بن الوليد نكتب أن جيش المسلمين بلغت عدته ثلاثة آلاف أنقذهم من قتل محقق تحت سنابك وبسيوف أجناد الروم المائة ألف بخلاف من انضم إليهم من إفناء القنابل التى ذكرناها وهم أيضًا مائة ألف. [ المصدر السابق ص 180 ].
ولك أن تتصور حجم الكارثة التى من الجائز أن تحيق بالدولة القرشية الناشئة فى يثرب وبالديانة الإسلامية, إذ إن من بينهم العديد من خيرة الصحاب ومن القراء ( حفظة القرآن ) لولا عبقرية ابن الوليد العسكرية الفاذة, هذا بخلاف صفحات مشرقة عديدة لخالد بن الوليد ( شهد من رسول ـ ص ـ فتح مكة فأبلى فيها وجرى له مع بنى جُذيمة ماجرى ثم شهد حنينًا والطائف فى هدم العُزىّ وأرسله إلى أُكَيْدر دومة الجندل فأسره وقال فى حقه هذا سيف من سيوف الله وهذا الحديث رجاله ثقات ). [ الإصابة فى تمييز الصحابة: للحافظ ابن حجر شيخ الإسلام وقاضى القضاة ـ 773/852هـ تحقيق طه عبد لالرؤوف سعد ـ المجلد الثانى ـ ص 376 د. ت دار الغد العربى / مصر ].
4 ـ سلمة بن هشام ين المغيرة ... أخو أبى جهل والحارث يُكنى أبا هاشم كان من السابقين وثبت ذكره فى الصحيح ودعا له الرسول ـ ص ـ وآخرون لما علم بفرارهم من المشركين أن ينجيهم منهم واشترك فى غزوة مُؤتة ولما عيّره وزملاؤه المسلمون بالفرار قال النبى ـ ص ـ بل هو الكرّار ولما مات النبى ـ ص ـ خرج إلى الشام فاستشهد بمَرج الصُفر وقال موسى ابن عقبة با أجنادين ) [ الإصابة لابن حجر العسقلانى ـ المجلد الثالث ـ ص 263, 264 ].
وأضاف صاحب الاستيعاب أن ( كان من مهاجرة الحبشة ومن خيار الصحابة وفضلائهم وكان قديم الإسلام واحتبس بمكة وعُذب فى الله عز وجل وكان رسول الله ـ ص ـ يدعو له فى صلاته.
ولحق برسول الله ـ ص ـ بالمدينة بعد الخندق وخرج مع جيوش أبى بكر لقتال الروم ثم ذكر استشهاد فى أول خلافة عمر ـ رض ـ إما فى مَرْج الصُفر وإما بأجنادين ). [ الإستعاب لابن عبد البر ص 182ـ 184 ].
*******
5 ـ خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومى قُتل أبوه يوم بدر. قال ابن سعد وابن حبان أسلم بمكة يوم الفتح وأقام بمكة. [ المصدر السايق ـ ص 359 ].
وأضاف ابن عبد البر النمرى أن ( عمر بن الخطاب ولاة مكة إذ عزل منها نافع الخزاعى وولاه أيضًا عثمان بن عفان ). [ الإستيعاب فى معرفةة الصحاب: للحافظ أبى عمر .. ابن عبد البر 368/463هـ ـ ص 275 ـ المجلد الثانى تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ على هامش الإصابة. ].
ويقال إن له زواية فى الحديث المحمدى بيد أن البعض ينكره.
وأهم ما فى الخبر أنه بعد فتح مكة أقام بها أى أنه أحد الذين طالبهم بنو ثقيف برؤوس أموالهم, لأن ولاية عَتّاب بن أسيد على قرية التقديس جاءت رديْفال (= بعد ) الفتح الأعظم ).
هذا جهد المُقل فى رصد بعض الصحب من بنى المغيرة ممن عاضدوا النبى فى إفشاء الديانة التى دعا إليها وفى تدعيم أسس دولة بنى سخينة فى أثرب ويشهد ثبت المصادر الرفيعة التى رقمناها أنه كنّ لهم كل ود تقدير بالإضافة إلى من هم بمكة مثل خالد بن العاص, ولنضع فى الوعى اليقظ أنهم من رهط سامق من قريش لايقل عن بنى هاشم الذين بلغت مكانتهم عنان السماء بين العرب والعجم بـ ( الألمعى / الأمة ).
هنا انتصبت مشكلة حادة, طرفاها:
الأولون: هم أصحاب حق فى استرداد أموالهم وهم بنو ثقيف.
فطفقوا يطالبون بنى المغيرة ـ بعد تحريم الربا ـ برؤوس أموالهم متنازلين عن الربا:
( قالت بنو عمرو بن عمير لبنى المغيرة هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم فقالت بنو المغيرة نحن اليوم أهل عُسرة فأخّرونا إلى أن ندرك الثمرة ). [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 59 ].
ومن كتب التفسير العوالى اخترنا تفسير القرطبى:
( ... وذلك أن ثقيفًا لما طلبوا أموالهم التى لهم على بنى المغيرة شكوا العُسرة ـ يعنى بنى المغيرة ـ وقالوا ليس لنا شئ وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم ). [ تفسير القرطبى ـ المجلد الثانى ص 1179 ].
وفى قرية القداسة بَكَّة احتدم الشقاق بين الدائنين والمدينين وأوشك الخلاف أن يتحول إلى عراك, كيف لا والمال عند العُبان شقيق الروح.
فكتب عتّاب فى ذلك إلى رسول الله ـ ص ـ. [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 59 ].
وهذا العتاب هو والى مكة من قبل ( المعلم / المرشد للخير ؟؟ ).
والآخرون: مدينون لكنهم يتمتعون بمكانة أثيرة ولهم ولهم سابقة ( = فى الإسلام ) معروفة وخدمات جليلة للديانة والدولة مع عزة وشرف ونسب وحسب.
الأولون يلحّون فى استقضاء ديونهم والآخرون يستمهلونهم.
واحتد النزاع بين الفريقين وطلبوا رفع الأمر إلى ( المصون / المُضَخّم ) فبادروا إليه بقرية التقديس لإبلاغه به.
ولا شك أنه امر محير بيد أنه كالمعتاد بعث ( مأدبة الله / القرآن ) آية كريمة تهادت حسب الطلب تضم الحل.
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة 280].
*******
هذه الآية العظيمة ندبت الثقفيين الدائنين إلى أمرين:
الأول: إمهال بنى المغيرة حتى يخرجوا من الضيق الذى هم فيه.
الآخر: وهو أميز, إعفاء بنى المغيرة من ديونهم.
( قوله تعالى {وَأَن تَصَدَّقُواْ} ابتداء وخبره{خَيْرٌ} ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المُعْسر وجعل ذلك خيرًا من إنظاره ) [ تفسير القرطبى ـ المجلد الثانى ـ ص 1182 ].
واستقبلها الفريقان ببشاشة فقد استجاب لبذكرالحكيم لسُؤْلهما وأحلّ الوئام بينهما بدل الخصام,والوفاق مكان الشقاق, والمُمالحة( المواكلة ) موضع المُلاحاة ( اللوم العنيف ).
فالثقفيون الديّانة سوف يُنْظشرون حتى يأتى الفرج أو يتصدقون على مدينيهم بمالهم. وبنو المغيرة هدأت نفوسهم لتأخير الوفاء إلى أن تتيسر أحوالهم أو ربما يخبرهم غرماؤهم أنهم عفوا عنهم وهو الخيار الأفضل بنص الآية.
وسعد ( المحرّم للظلم ؟ ) برضا الطرفين وقبولهما لما ندب إليه القرآن المجيد, الذى ينفح البرهان وراء الآخر بأنه دائمًا معهم وأن وشيجته بهم صلبة وينقه كل ذى لب الحكمة السامية التى خفيت على اليهود , فى انبثاقه نجومًا.
*******
[ 9 ]
تحليل الزنا
من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن أحوال مجتمع ما تتغير فى بضع سنين, فالعادات والتقاليد والأعراف وانساق القيم المتجذرة فى أعماق أراده من العسير زعزعتها أو زحزحتها فى وقت قصير مهما بلغت عبقرية المصلح الاجتماعى وسمو المبادئ التى يدعو إليها, إذ إن الأمر يستلزم تطويرًا فى الظروف المادية.
من بين الأدواء التى وجدها ( الناسك / العابد ) فى المجتمع الأثربى رمى المحصنات وهو قذف أو اتهام الزوجات الحرائر ( لا الإماء أو الجوارى أو السرايا ) بالزنا أى خيانة الزوج خاصة فى مجتمع النخبة لأن البعلة فى الطبقة العالية تنظر إلى المخادنة نظرة سهلة لا عسر فيها وهو شأن متعارف عليه عند مثل هذه الطبقة لدى كل الأجناس وفى كافة البلدان وعلى توالى الأزمنة.
فى قرية الحرتين وفى مجتمع النخبة الميسورة أو المترفة أو الغنية كثيرًا ما يلاحظ الزوج أمارات الخيانة الزوجية فى هيأتها وحديثها وعلاقتها بالرجال الآخرين حتى من ذزى قرباه خاصة إذا تقدم فى العمر وضرب الشمط شعر رأسه أو أصابه مرض أو هزال أقعده عن المعشرة وهى مازالت ناضجة نصف أنوثتها متفجرة وشهوتها متأججة بل ربما يدخل أحدهم داره فيرى بعينيه رجلاً يركبها ويسمع بأذنيه أنينها وتأوهاتها.
( عن ابن عباس فى رواية الكلبى أن عاصمًا ( ابن عدى الأنصارى ) رجع إلى أهله فوجد شريكًا على بطن إمرأته فأتى رسول الله ـ ص ـ [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ المجلد الثانى ص 249 ] . فلا يجد الرجل أو الزوج مناصًا من أن يقذف المَرَة أو الزوجة بتهمة الزنا والغالب أن الرجل لا يقصد رمى زوجه إلا عن حقيقة فنفس الرمى دليل على صدقه ). [ المصدر ذاته ص 250 ].
ورمى المحصنة مرض اجتماعى مركب فهو فى ذات الوقت يشكّل سببًا ونتيجة, أما أنه الأخيرة (= نتيجة ) لأنه حاصل انفلات الزوجات خاصة فى الشريحة العليا والمُخدَّرة عندما تسمع أباها أو عمها أو خالها يتهم زوجته أو حتى امرأة أخرى قريبة أو غريبة, جارة أو بعيدة, يترسب فى أعماق وجدانها أن العلاقة الزوجية ليست بالقداسة أو حتى الطهارة التى تظنها, وعندما تكبر وتتزوج تحذو حذو امها أو عمتها أو خالتها أو أختها الكبيرة أو جارتها وهكذا تتحول الرفاقة طقسًا اجتماعيصا مستترًا ودالته تفسخ المجتمع وتحلله, ومن ثم قابله ( الخاشع ) بالامتعاض والنفور وطفق يُشّن حربًا ضروسًا على أُس الظاهرة ليقضى عليها قضاء مبرمًا. ومن ثم انبثقت آية كريمة بعقاب أليم لكل من يتهم متزوجة محصنة { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ النور : 4 ].
وعلاوة على جزاء القاذف الرادع فإن الزوجات لابد أنهن يحْذرن من مواصلة العلاقة الأثيمة لأنها بعد بزوغ هذه الآية سوف تؤدى إلى ضخب مدو وإلى خلخلة الرابطة الأسرية فالرجل أو الزوج المحدود (= طُبق عليه حد القذف ) سوف يثأر لنفسه من التى تسببت فى جلده ثمانين سوطًا, وهكذا فإن النص المحكم شكّل علاجًا وسطًا للمعضلة فالذُكران سيمتنعون عن الإتهام والنسون ـ زوجات أو غبر زوجات للقاذفين لأن الآية لن تقتصر على قذف الزوجات سيرتدعن ويخنسن عن الرَفَق.
*******
بيد أن هذه الآية أوجدت فى نفوس العرب اليثاربة ضربًا من الحرج.
( عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ـ ص ـ: ألا تسمعون يا معشر الأنصار إلى ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله إنه رجل غيور والله ما تزوج امراة قط إلا بكرًا وما طلق امرأة فإجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته, فقال سعد: والله يا رسول الله إنى لأعلم أنها حق وأنها من عند الله ولكن قد تعجبت لو وجدت لَكاع قد تفخذها رجل لم يكن لى أن أهيجه ولا أحركه حتى آتى بأربعة شهداء, فوالله إنى لا آتى بهم حتى يقضى حاجته .. ) [ أسباب النزول للواحدى ص 214 / لباب النقول للسيوطى ص 122 / والمقبول للأزهرى ص 28, 480, 481 ـ ووصف المصنف بصحة الإسناد وأن الهيثمى قال عنه فى الزوائد 7/74: رجاله ثقات. / ويفيد أن السيوطى ذكر أن أحمد بن حنبل أخرجه فى مسنده ].
ومن كتب التفسير أورده القمى النيسابورى بنصه. [ غرائب القرآن المجلد الثامن ص 249 ].
أما القرطبى فقد ذكر ( لما نزلت الآية المتقدمة فى الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ يا رسول الله إن وجدت مع امرأتى رجلاً أمهله حتى آتى بأربعة! والله لأضرنه بالسيف غير مصفح عنه. فقال رسول الله ـ ص ت أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير منى. وفى ألفاظ سعد روايات مختلفة هذا نحو معناها ). [ تفسير القرطبى ـ المجلد السابع ـ ص 4575].
أى أن القرطبى رواه بالمعنى.
وهكذا توثقت صحة هذه الحديث فى المصادر التراثية المرتفعة الرتبة من كتب التفسير ومصنفات النزول.
وهو ثَرّ بالمعطيات منها
1ـ سؤال سيد الأعاريب يَشَف عما اعتمل فى صدورهم غِب أن هلّت الآية { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... }.
2ـ مما يقطع بأن المخادنة لدى الزوجات أمر طبيعى لديهم وشأن وارد وحالة متكررة.
3ـ وتؤيد هذا الفرض الجملة التى فاه بها سيد الخزرج : ( لو وجدت لَكاع قد تفخذها رجل ).
4ـ أطلق سعد على الزوجة لقب لَكَاع وهو العبد أو اللئيم والمرأة لَكُعاء أى حمقاء , مما يؤكد نظرتهم المتعالية للمَرَة وتحقيرهم إياها.
5ـ جاء فى الحديث نسق اجتماعى وهو أن الكبير أو الغِطْريف فيهم إذا تزوج وطلّق لا يجرؤ فرد من القبيل أن ينكحها لغرة السيد الشديدة وهكذا تظل أيّمًا.
*******
وليس ابن عُبادة هو اوحيد الذى حاك فى صدره شئ من الآية بل إننا نستطيع أن نرفم أنه ممثل لأثرياء قرية الحرتين ولا يظن القارئ أن هذا مجرد حدس وتخمين بل حدث بالفعل.
( عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: أنا ليلة الجمعة فى المسجد إذ دخل رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ والله لأسألن رسول الله ـ ص ـ فلما كان من الغد أتى رسول الله ـ ص ـ فسأله فقال: لو ان رجلاً وجد مع امرات رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ, فقال: اللهم افتح فجعل يدعو ). [ أسباب النزول للواحدى ص 214 ].
الأولى أن الآية المذكورة حركت كوامن خبيثة فى نفوسهم وألفوْا فيهما مناسبة للتنفيس عما يضطرب فى قلوبهم ويتلجلج فى حنايا صدورهم ويتقلب فى أعماق نفوسهم.
الأخرى: سبب للأولى وهى أن مخادنة نسونهم لفحول غيرهم عادة منتشرة وإلا فما هو الباعث الحثيث على هذه الأسءلة لو ان المسالة افتراضية؟.
ويؤكد وجهة نظرنا هذه ـ التى نعلم أن البعض يستنكرها من قوة أسطر كافة نواحى هذا المجتمع التُحْفة وعَدّه ذهبيًا ومثالاً يتعين اتخاذه قدوة ـ ما جاء فى عُجُز الخبر ( فابتلى به الرجل فجاء هو وامرأته إلى رسول الله ـ ص ـ فتلاعنا ... فقال رسول الله ـ ص ـ مه فَلعنت, فلما ادبرا قال: لعلها أن تجئ به أسود فجاءت به أسودًا جعدا ـ رواه مسلم ). [ نفس المصدر والصفحة ].
إذن هذا الأثربى تكلم عن حالة واقعية عانى ذلها ومرارتها ورأى بفطرته أن الآية وضعته أمام ثلاثة خيارات عسيرة.
إذا نفّس عن قهره وتكلم عُدّ قاذفًا وجلد ظهره ثمانين جلدة وسقطت شهادته,
وإن قتل زوجته الخؤون ورفيقها قُتل,
فليس امامه إذن إلا أن يلتزم الصمت مغلوبًا على أمره وتُخرج له منكوحته وخِدْنها ( = معشوقها ) لسلنيهما هُزءًا واستخفافًا !!!.
*******
وهذا ثالث من بنى قيلة يبهظه الحد الذى حملته الآية العظيمة لأنه يَنْقَه أن الوسط الذى يعيش فيه تاخذ الزوجات فيه راحتهن فيحاللن من يَروق لهن من الذكران المفعمين بالفحالة, فيرقل إلى ( الغالب متمم مكارم الأخلاق ) يبثه همه.
وفى هذه المرّة ننسخ ما ورد فى واحد من كتب التفسير ذات المقام الرفيع كيما يتكامل شِق الإثبات ويرتفع ( يزول ) قطاع التشكيك والتوْهين:
( لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن الأنصارى: إذا دخل منا رجل بيته ووجد رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة قضى الرجل حاجته وخرج وإن قتله قُتل به وإن قال وجدت فلانًا مع تلك المراة ضُرب وإن سكت سكت على غيظ الله افتح ) [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ المجلد الثامن ـ ص 248 ].
هناك احتمال أن صاحب الخبرين واحد وهو عاصم بن عدى وان رواية الواحدى أغفلت اسمه.
إنما الذى يتجاوز رتبة الاحتمال ويرقى إلى درجة اليقين أن الآية الكريمة هزَّت نخبة من بنى قيلة ولم يرى فيها المنازيح ولا الطبقة المتوسطة أو الخفيضة فى أثرب ما يحركها, لأن نسون الآخرين فى شُغل عن المرافقة فهن مهمومات بتدبير المعاش فعلى سبيل المثال أخبرتنا كتب السيرة المحمدية أن أسماء بنت أبو بكر دأبت على أن تمشى ثلاثة اميال ذهابًا ومثلها إيابًا لتحضر نَوى تحمله على رأسها كيما تُعلف به الفرس الوحيد لزوجها الزبير بن العوام. [ أصبح بعد الغزو النهبوى الإستيطانى الذى تم فى عهود التيمىّ أبو بكر والعدوىّ عمر والأموى عثمان يمتلك ثروة أسطورية نتاج عرق الفلاحين الذين اطلقوا عليهم لقب العُلوج فى الدول التى وطئوها بسنابك أحصنتهم المبروكة مثل مصر وفارس والعراق والشام وشمال إفريقيا ا.هـ. ].
إن الذى يقطع بانزعاجهم البالغ من الآية الكريمة المذكورة هو توجههم إلى ( ذى البيان ) وطرح ملاحظاتهم عليها بين يديه الشريفتين ولعلهما المرّة الأولى التى فعلوا فيها هذا الصنيع الذى يشى بثورة مكتومة.
وهنا انتصبت مشكلة, فصفوة الخزرج والأوس أثارت رَهْجًا ( غبارًا ) حول الآية وزَمْهرت ( احمرت ) عيونهم من حد القذف الذى تضمنته وهم سادة يثرب هذا من رجا. ومن صوب آخر فإن رمى المحصنات داء اجتماعى وبيل له سبب وبئ ويفرز عواقب وخيمة ومن ثم يتعين القضاء عليه قضاءً مبرمًا.
كما أنه إذا تمت الاستجابة للأعاريب الأثاربة انفتح الباب أمام جميع التبع للتعليق بالنقد على أى نص ياتى به القرآن. وهذا شان غائر الخطورة بل هو إن تحريت الدقة مدمر. وهنا وعلى هدى السنة والطريقة التى استنها لنفسه ( مأدبة الله / القرآن ) تتفتح أكاميم آية كريمة يترّوح صفوة بنى قيلة شذاها العطر ورائحتها الفوّاحة وطيبها الذكى فتنفثئ غضبتهم وتبوخ هوجتهم وتنطفئ ثائرتهم وتفتر هوْشتهم:
( ... فما لبثوا إلا قليلاً حتى جاء هلال بن أمية من أرضه عشيًا فوجد عند أهله رجلاً فرأى بعينيه وسمع بأذنه فلم يهيجه حتى اصبح, وغدا على رسول الله ـ ص ـ فقال يا رسول الله: جئت أهلى عشيًا, فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعينى وسمعت بأذنى, فكره رسول الله ما جاء به واشتد عليه, فقال هلال: والله إنى لأرجو أن يجعل الله لى مخرجصا فقال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله هلال بن امية ويبطل شهادته فى المسلمين, فقال هلال يا رسول الله: إنى قد أرى ما قد اشتد عليك مما جئت به, والله علم انى لصادق ـ فوالله إن رسول الله ـ ص ـ يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه القرآن .. فأنزلت { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {5} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ {7} عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ {8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ {9} } [ النور 4 ـ 9 ]. وهى الآيات المعروفة بآيات الملاعنة أو اللعان. [ المقبول للأزهرى ص 481, أخرجه الواحدى وأحمد بن حنبل وقال المصنف والشيخ شاكر: إسناده صحيح ].
ومن بين النقاط التى تهمنا أن هلالاً هذا من ذوى السعة وأصحاب اليسار يمتلك الحيطا، ( كروم ونخيل ) والبساتين وينشغل فيها من الصباح إلى المساء ولا يعود إلا فى العشى ( حتى جاء هلال من ارضه عشيًا ) فلا تجد البعلة الشابة الناضجة مناصصا من إطفاء شهوتها عند غيره خاصة أن هاته الأعرابيات ليس لديهن أشطة ثقافية أو فنية أو اجتماعية تصرفهن عن سيطرة غريزة الجنس عليهن مع توفير أزواجهن لهن الدعة والبلْهنيّة.
ومما له دلالة عميقة أن هذا الهلال المخدوع تقدم فى العمر ولم يعد له أرب فى ملامسة النسون وهو ما صرحت به الزوجة الخائنة إذ إنه أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزاة تبوك ومن ضمن الجزاء الذى وقعه عليهم ( صاحب العلو والدرجات ) مقاطعة المسلمين إياهم فتوجهت إليه الزوجة تستأمره فى ان تظل تخدمه ( تعنى هلالاً ):
( أفتكره أن أخدمه؟ قال:لا, ولكن لا يقربنك, قالت: والله يا رسول الله ما به حركة إلىّ؟ ). [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 286 ـ طبعة القطاع الثقافى ـ بأخبار اليوم ـ مصر ].
فالزوجة هنا نفسّت عما يجيش بصدرها من ضيق لحرمانها من الإمتطاء فأقسمت قبل أن تصف حاله وإلا فمن الميسور عليها أن ترد قائلة: سمعًا وطاعة لأمرك ( يا سيد الثقلين ).
والبعلة التى على هذه الشاكلة يسهل إغواؤها أو ربما هى التى سعت إلى استغواء شريك خاصة وأنه على مخالطة تامة بهم كيما يقوم بما عجز عنه الزوج الذى أصبح كالشَّن البالى.
وثانية تلك النقاط أن ( مقيل العثرات ) كره قالة الزوج المخدوع واشتد عليه لأنه ادرك أن آية رمى المحصنات والحدّ الذى قننته لم يجيئا بالثمرة المرجوة فما زالت زوجات ارستقراطية قرية الحرتين سادرات فى غيهن ومستمرات فى الرفق على بعولتهن مما يدفه هؤلاء إلى رميهن أو قذفهن بتهمة الزنا ثم يفزعون غليه لإيجاد مخرج. [ أسباب النزول للواحدى ص 212, 213 ].
وتخبرنا كتب الأسباب أن ذلك (= التوجه ) إلى ( النور ) بالسؤال تكرر وتراكم وتضاعف مما يقطع بأن الخيانة الزوجية غدت ظاهره لها وزنها, وأنها تنم عن تحلل المجتمع مما يسيئه ويحزنه ( اخرج البزار عن جابر قال: ما نزلت آية التلاعن إلا لكثرة السؤال ) [ المقبول للأزهرى: ص 482 , ووصفه بجودة الإسناد وقال الهيثمى فى الزوائد = رجاله ثقات وقال العراقى فى تخريج الإحياء إسناده صحيح / ونهاية السول فيما استدرك على الواحدى والسيوطى من أسباب النزول لأبى عمر نادى الأزهرى ـ ص 165 ـ الطبعة الأولى 1415هـ / 1995م دار الصحابة للتراث ـ طنطا ـ مصر].
ومن نافلة القول أن نرقم أن كثرة الأسئلة التى سبقت آيات التلاعن تنبئ عن أولئك السائلين الكثيرين دافعهم الحثيث وباعثهم القوى وتحضيضهم الحازب مرده تكرار ملاحظتهم الريب والشكوك على منكوحاتهم.
أما ثالثة النقاط التى شدت انتباهنا فهى عبارة عن علة أخرى لكراهة ( قائد الغرّ المحجلين ) لما صرح به هلال واشتداده عليه هى ان هلال المخدوع الذى شاهد الخَدِيْن على بطن زوجته وسمع بأذنيه تاوهاتها هو من سادة الأوس وأغنيائهم وله يد بيضاء فـ ( أمه أنيسة بنت الهدم أخت كلثوم بنت الهدم الذى نزل عليه النبى ـ ص ـ لما قدم المدينة ) . [ أسد الغابة فى معرفة الصحابة: لعز الدين بن الأثير الجزرى 555/630هـ تحقيق محمد إبراهيم البنا وآخر ـ المجلد الخامس ـ ص 460 ـ د.ت ـ دار الشعب بمصر ].
ومن الذين آزروا فى إفشاء ديانة الإسلام وتأسيس دولة بنى هاشم فهو شهد بدرًا واحدًا وكان قديم الإسلام وكان يكسر أصنام بنى واقف ( رهطه فهو واقفى ا.هـ) وكانت معه رايتهم يوم الفتح ( = الأعظم وهو فتح قرية التقديس ا.هـ ). [ ذات المصدر ونفس الصفحة ].
أما تخلفه هو وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع عن تبوك فمآبه تفرغه الكامل لتثمير أمواله مما وزّ بعلته للمخادنة.
هذا الأعرابى الأثربى السيد فى عشيرته قديم الإسلام والذى يحمل النياشين:
شهود غزاة بدر والاشتراك فى عراك احد, من الصعب أن يفترى على امرأته هذه الفرية الفظيعة. ومن رجا آخر فإن جلده ثمانين على ظهره سوف يهينه ويُذله, وعدم قبول شهادته يودى بكرامته ويمرّغ اعتباره فى الطين.
وجِماعه شيثير رهطه ويُحنق عشيرته ويغضب قبيلته.
*******
ووبصدد توثيق هذا الحديث الذى شكّل عل بزوغ آيات التلاعن نذكر أن الواحدى فى الأسباب ص 212, 213, والسيوطى فى لباب النقول ص 122 أورداه ومما ذكره الأخير وله دلالة ( واجتمعت الأنصار وقال: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ).
أى أن الأمر اقلق بنى قيلة على بكرة ابيهم مما دفعهم للاجتماع والتشاور فى هذا الشان مما يشى باستحالته إلى ظاهرة وليس مجرد حادث فردى. ثم نعرج إلى كتب التفسير كيما يزداد الحديث رسوخًا وتتاكد بينته:
( سبب نزولها هو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن امية قذف امرأته عند النبى ـ ص ـ بشريك بن سمحاء. فقال النبى ـ ص ـ البينة او حد فى ظهرك.
قال: يا رسول الله إذا رأى احدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل النبى ـ ص ـ يقول البينة وإلا حد ظهرك,
فقال هلال: والذى بعثك بالحق إنى لصادق ولينزلن الله فى امرى ما يبرئ ظهرى من الحد فنزلت { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ تفسير القرطبى ـ المجلد السابع ـ ص 4575 ـ فى تفسير الآية السادسة من سورة النور ].
والعبارة التى وردت فى الحديث ( ولينزلن الله فى امرى ما يبرئ ظهرى من الحد ) كثيفة الإيحاء مليئة بالمعنى ثرة الدلالة.
كما أن القرطبى ذكر أن الذى خرج الحديث هو أبو داود وهو احد أصحاب الصحاح الستة, أما الفخر الرازى فقد نسخ مايلى ( فلم يلبثوا إلا يسيرًا ) حتى جاء ابن عم له ( سعد بن عبادة ) يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال: يارسول الله لأنى وجدت رجلاً مع امرأتى رأيت بعينى وسمعت بأذنى, فكره رسول الله ـ ص ـ ما جاء به, فقال هلال: والله يا رسول الله إنى لأرى الكراهية فى وجهك مما أخبرك به والله يعلم إنى لصادق وما قلت إلا حقًا, فقال رسول الله ـ ص ـ إما البينة وإما إقامة الحد عليك.
فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد فبينما هم كذلك إذ نزل عليه الوحى ). [ التفسير الكبير لفخر الرازى ـ المجلد الحادى عشر ـ ص 478 ].
وكما لاحظنا فقد حمل الحديث النص على أن الكراهية ظهرت بوضوح على وجه ( المقدس / المطهر ) إذ أن هلالاً تبينها بسهولة, وكذلك اجتماع بنى قيلة للمداولة فى الشان مما يدل على اهتمامهم به, كذا فإن هلالاً هو ابن عم سعد بن عبادة سيدهم أى أن الأول من قُلّة المجتمع فيهم.
وأيضًا اورد القمّى النيسابورى ذات الحديث فى التفسير. [ غرائب القرآن ـ المجلد الثامن ص 250 ].
كما زَبَره ابن كثير وقال انفرد به البخارى من هذا الوجه. [ التيسير: خلاصة تفسير ابن كثير ـ ص 780 ].
ومن المحدثين انتفشه محقق ( المعجم الموضوعى ) وأثبت أنه ورد فى سنن ابى داود. [ المعجم الموضوعى للقرآن الكريم: تحقيق حمزة النشرتى وآخرين ـ الجزء السادس ـ ص 68 ـ الطبعة الأولى ـ 1999 م الناشر هو المحقق الأول ].
وهكذا تضافرت كوكبة باذخة من الكتب التراثية فى علمى التفسير والأسباب على تقديم البراهين الموثقة على صحة هذا الحديث ونايه عن المطاعن.
*******
بيد ان القمى النيسابورى يضع أيدينا على سبب آخر لبزوغ الآية العظيمة الآنفة الذكر فيقول: ( أما سبب نزول الآية فقد قال ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن عدى الأنصارى: إذا دخل منا رجل ووجد رجلاً على بطن امرأته, فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج وأن قتله قُتل به وإن قال وجدت فلانًا مع تلك المرأة ضُرب وإن سكت سكت على غيظ, الله افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خَوْلة بنت قيس فأتى عويمر عاصمصا وقال:
رأيت شريك ابن السحماء على بطن امراتى خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله فى الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما اسرع ما ابتليت بهذا فى اهل بيتى, أخبرنى عويمر أنه رأى شريكصا على بطن امرأته وكان عويمر وخولة زشريك أبناء عم عاصم, فدعاهم رسول الله ـ ص ـ جميعًا وقال لعويمر: اتق الله فى زوجتك بنت عمك ولا تقذفها فقال: يا رسول الله إنى رأيت شريكًا على بطنها وإنى ما قربتها منذ اربعة أشهر وإنها حُبلى من غيرى, فقال لها رسول الله ـ ص ـ اتقى الله ولا تخبرى إلا بما صنعت, فقالت: يا رسول الله إن عويمر رجل غيور وإن شريكًا يُطيل التردد فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله سبحانه وتعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ص 248 ].
ونخرج من هذا الحديث بالآتى:
أن الخيانة الزوجية فاشية بين منكوحات ذؤابة. وان القرابة الحميمة بين الخائن شريك وعويمر من جهة ةبين الخؤون خولة وزوجها المخدوع من صوب آخر فهم جميعًا أبناء عم لم تَحلْ دون ( الرَفَق ) وهذا مؤشر لايخطئ على تفسخ تلك الطبقة وتحللها من كافة القيم والمبادئ.
ـ أن عويمر يعرف أن بَعْلَته خولة من غيره ومع ذلك يظل يعيش معها تحت سقف واحد وهو شأن بالغ الشذوذ.
ـ أنه ( عويمر ) لم يقربها منذ أربعة أشهر والمَرَة فى ذياك المجتمع المعجب لاتصير على ( الدَعْس ) هذه المدة بل إن ما طالعناه عن أحوالهم يؤكد أن ( الحَفْر أو الدَكّ ) لديهم ذكورًا وإناثًا طقس يومى لابد من ممارسته حتى ولو بمخالفة النهى الجازم الذى حملته النصوص. [ لمزيد من التفصيلات يمكنك الرجوع إلى كتابنا ( مجتمع يثرب ـ العلاقة بين الرجل والمراة فى العهدين المحمدى والخليفى ) وقد طبع مرتين ـ دار سينا بمصر ـ ومؤسسة الانتشار العربى بيروت ].
ولم ينفرد القمىّ النيسابورى بالحديث المذكور بل نفحنا به الزمخشرى وأضاف معلومة تعطى مزيدًا من الضوء فقال ( وكان شريك نزيلهم ). [ الكشاف للزمخشرى ـ الجزء الأول ].
وإذ هو بهذه المثابة فيسهل عليه خِلاط نِسُونهم اللائى لا يمانعن لأحوالهن التى رقمناها فيما سلف.
*******
لعل مما يزيد البحث إضاءة أن نذكر نُتفًا من سيرة كل من عُيمر وشريك.
أما الأول: فهو ( عويمر بن أبيض العجلانى الأنصارى صاحب اللعان, قال الطبرى هو الذى رمى زوجته بشريك بن بن سَمحاء فلا عن رسول الله ـ ص ـ بينهما فى فى شعبان سنة تسع من الهجرة وكان قدم ( مِن ) تبوك فوجدها حُبلى ) [ الاستيعاب فى معرفة الصحاب : لأبى عمر ابن عبد البر النمرى 368/463هـ ـ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ المجلد الخامس ـ ص 348 ـ دون تاريخ ـ دار الغد العربى ـ مصر ].
أى أن خولة وقت اتهام زوجها لها مُغَيّبة ومشكلة المُغيّبات ـ وهن اللاتى يتركهن أزواجهن عند خروجهم فى غزوة أو سرية أو مهمة اغتيال عدو ـ من المشكلات التى أولاها ( المظفر / متمم مكارم الآخلاق ) عناية مركزة وشدد عل من يدخل عليهن إبان غياب أزواجهن لما يعلمه عن تهافتهن على ( السَلْق ). وكيما يطمئن الذين يستنفرهم للقتال على بيوتهم وإلا فسيتقاعسون عند سماعهم الصيحة.
أما الآخر: فـ ( هو شريك بن سحماء وهى أمه واسم أبيه عبدة بن مغيث البلوى حليف النصار ... وعن ابن عباس أن هلال بن امية قذف امرأته بشريك بن سحماء .... ورواه مسلم والنسائى ... ويقال إن شريك بن سحماء بعثه أبو بكر الصديق رسولاً على خالد بن الوليد وهو باليمامة ... ويقال: إنه شهد مع أبيه أحدًا.
وروى ذلك ابن سعيد عن الواقدى بسند له, قال: بعث أبو بكر إلى خالد أن يسير من اليمامة إلى العراق وبعث عهده مع شريك بن عبده العجلانى, وكان شريك احد الأمراء بالشام فى خلافة عمر وبعثه عمر رسولاً إلى عمرو بن العاص حين أذن له أن يتوجه إلى فتح مصر ).
[ الإصابة فى تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلانى ـ المجلد الثالث ـ ص 475 ].
*******
هنا نجد أن الحافظ وشيخ الإسلام وقاضى القضاة ابن حجر العسقلانى ذكر حديث رمى هلال زوجته بشريك بن سحماء والذى انتهى باللعان رواه مسلم وهو التالى لصحيح البخارى أصح كتاب بعد القرآن عندنا اهل الجماعة والسنة. [ أما إخواننا أهل الوصية والعصمة ونعنى بهم الشيعة أخلص المحبين لآل البيت الأبرار الأطهار فهم لا يعدون صحيح البخارى كذلك لأنه ومسلم غضا عن الشمائل المُنيفة للإمام على بن عبد المطلب, وأعرضا عن مرويات حفيده بحر العلوم جعفر الصادق قدّس اله سرّه ونأيا بجنبيهما عن مناقب أهل البيت التى اعترف بها الدانى والقاصى والتى سارت بها الركبان على طول الزمان ا.هـ. ].
وإذ أرسل التيمىّ عتيق شريكصا لخالد بن الوليد فى اليمامة وولاه إمرة أحد الجيوش التى أُرقلت لغزو الشام واستيطانها وكسح خيراتها ليتمتع بها أعاريب الحجاز كما بعث معه العدوىّ ابن الخطاب برسالة يأذن فيها بغزو مصر أم الدنيا لعمرو بن العاص ذلك الذى فعل الأفاعيل هو وعسكره وأوباشه فى أرض المصريين الذين علموا الدنيا الحضارة والمدنية, فإنه ( = شريك ) وقت اتهامه بمخاللة زوجتى هلال وعويمر فى عز رجولته وقمة فحالته وذروة قوته.
وهكذا تكاملت الصورتان:
زوجة بعلها شيخ أو غاب عنها ورجل يتمتع بفحولة عارمة يخالطها ويكثر التردد عليها فكيف لا يحدث الالتقاء المحرم.
ولذك وتأكيدًا لكل ما طرحناه ـ بعد الملاعنة ـ جاء المولود ثمرة الامتطاء غير المشروع شبيهًا بشريك وليس فيه سِحنة البعل المخدوع ذرّة.
ففى قصة هلال بن امية بعد ان تلاعنا هو وزوجته ( فرق رسول الله ـ ص ـ بينهما وقال انظروا فإن جاءت به جعدًا حمش الساقين فهو لشريك ين سحماء وإن جاءت به ابيض سبْطًا أقمر العينين فهو لهلال بن امية , فجاءت به آدم جعْدًا حمْش الساقين. فقال رسول الله ـ ص ـ لولا ما نزل فيهما من كتاب الله تعالى كان لى ولها شأن ). [ المقبول للأزهرى ص 479, غرائب القرآن للقمى ج8 ص 250, التيسير/ خلاصة تفسير ابن كثير ص 780 ].
وسبق أن رقمنا ما رواه الواحدى فى أسباب النزول عن صحيح مسلم فجاءت به أسود جعدًا.
وهذا دليل على أن المولود هو ابن شريك لأنه أسود أجعد وبرهانًا فيه أنههذا الشريك الخائن يُنسب إلى أمه سحماء والسحماء فى معاجم اللغة هى الأسود ولابد أنه أسود مثلها. ومن ثم حمل ولد الزنا ذات الملامح, الأمر الذى دعا ( الحجة البالغة ) لأن يقول ما حمله عجز الحديث الشريف. ومن نكد الدنيا على البلاد التى غزاها هؤلاء العُربان أن يغدو ولد الزنا واللعان هذا اميرًا على إحدها ( قال عكرمة: لقد رأيته بعد ذلك أمير مِصْرِ من الأمصار لايدرى من ابوه ). [ غرائب القرآن للقمىّ النيسابورى ج8 ص 250 ].
*******
وهكذا حَلّت المشكلة هذه الآيات الحاسمة ووجد فيها سادة بنى قيلة وغطاريفهم الدواء الناجع فهدأت نفوسهم واستراحت خواطرهم واطمانت قلوبهم, ورضى سيد الناس لرضاهم, كيف لا وهم من اخلص معاونيه وقدموا الكثير الذى يند عن الإحصاء فى سبيل الدولة التى يبنيها.
وأثبتت أن القرآن على وشيجة متينة بهم مما يصت دعاوى الانفصام والتباعد والتحليق فى فضاء التجريد.
كما رسخت الحكمة البالغة للتنجيم والتبعيض والتفريق التى غابت عن الأذهان الكليلة للمشركين واليهود.
وأعطت رخصة للمحصنات أن يفعلن ما شئن !!!.
*******
[ 10 ]
النجاشى حبيبى
عطية هذا هو اسمه باللغة العربية, بالأمهرية: أصحَمَة, لقبه " النجاشى" حاكم الحبوش.
وعندما نزح المستضعفون من المسلمين إلى أرضه أكرم مثواهم وأحسن وفادتهم وأبلغ ضيافتهم وقال لهم: أنتم آمنون وتوعد كل من يتعرض لهم. وأسبغ عليهم حمايته ورفدهم بالأمان, وقابل النزحة المستضعفون هذا الصنيع بموفور الامتنان, ولذا عندما هاجم أعداؤه أرض وطنه عرضوا عليه الانخراط فى جيشه بيد أنه أبى وشكرهم.
( أخرج الحاكم عن عبدالله بن الزبير عن ابيه قال: نزل بالنجاشى عدو من أرضه فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن تخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جراتنا ونجزيك ما صنعت معنا, فقال: لا, دواء بنصرة الله خير من دواء بنصرة الناس ) ولما أرسل بنو سخينة بعثة إليه للوقيعة بينهم وبينه برئاسة عمرو بن العاص. [ هنا نتذكر الدور المؤسف الذى قام به فى التحكيم بين باب مدينة العلم الإمام على أبى الحسنين والطليق ابن أبى الطلقاء معاوية بن أبى سفيان وتخرج بنتيجة هى انك تجد هذا العمرو دائمًا فى صف الباطل والخذلان ا.ه. ] ومعها هدايا جزيلة له ولبطاركته كيما يطرد ضعفة المسلمين من بلاده, فرفض وصاح فى عمرو بن العاص ومن معه ( لو أعطيتمونى دبرًا(= جبلاً ) من ذلك ما سلمتهم إليكم. [ ذلك الذى فعل الأفاعيل هو وباقى الصحاب وعسكره فى أرض الحضارة التى لم تتكرر حتى الآن. أ.هـ].
ثم أمر فردت عليهم هداياهم ورجعوا بشر خيبة. [ إمتاع الأسماع للمقريزى ـ الأول ـ ص 245 ].
وأورد الواقدى القصة بتمامها مطولة فى مغازيه. [ المغازى للواقدى ـ المجلد الثانى ص 742, 743 ].
ولما أرسل الناصح إليه كتابًا يدعو فيه إلى الإسلام تلقاه بالحفاوة والتجلّة بعكس ما فعله الطاغية كسرى أنو شروان.
بيد ان الدور المتميز الذى أداه النجاشى والذى فاق كل ما قدمه هو تزويجه ( المستقيم ) لرملة ( أم حبيبة ) بنت ابى سفيان التى نزحت إلى الحبشة هى وزوجها عُبيد الله جحش وهنا حن لديانته الأولى النصرانية فارتد عن الإسلام إليها. وبقيت الزوجة تعانى آلام الغربة عن الوطن وفراق الزوج بيد ان ( الصفىّ ) من المستحيل أن يدع هذه الفرصة تفلت, فهى حقيقة ناهزت الأربعين ـ وهى سن متقدمة فى ذياك المجتمع وليس لها سحر صفية ولا ملاحة جُويرية ولا حُسن أم سلمة ولا جمال زينب بنت جحش ولا فتاة التيمية بنت عتيق عائشة ولا وضاءة ابنة مصر القبطية. [ نساء النبى لبنت الشاطئ ص 178 ].
واكنها بنت زعيم قريش ونكاحها سيكسر عينه ويخفف من غلوائه ويُطامن شرته ومن ثم بعث إلى ( عطية ) ليخطبها له فشمر عن ساعديه السوداوين واستجاب له. وأصدقها أربعمائة دينار دفعها لوليها فى العقد خالد بن سعيد بن العاص ثم أقام وليمة تليق بالملوك ودعا إليها النزحة ثم عاد بها المبعوث إلى أثرب وقد قيل إنه عمرو بن أمية الضمرى أو شرحبيل بن حسنة. [ السمط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين للمحب الطبرى ص 162 ].
*******
هذا النكاح تم فى العام الهجرى السايع اى قبل فتح مكة بما يقرب من سنتين وشكل خبطة سياسية شفّت عن الحذق ودلت على المهارة وأبانت الحيلة وأن كل شئ يهون فى سبيل تكوين الدولة الهاشمية الجديدة . وفى رأينا أنه الزواج السياسى الفريد بخلاف الأنكحة الأخرى التى يدعى الطبالون أنها سياسية. [ من هؤلاء الطبالين أعاجم وفرنجة منهم مونتجمرى واط عند تناوله واقعة نكاح ( صاحب التاج ) زينب بنت جحش ].
ورقمنا فيما سبق أن آية عظيمة من الذكر الحكيم { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة 115] هلّت بطلعتها فاتنة البهاء والتألق تبارك هذه الزيجة التى جاءت فى نتائج باهرة يأتى فى مقدمها تليين جُموح صخر بن حرب ( أبى سفيان ) واستمالة بنى امية وهم ذؤابة بنى سخينة ويجمعون بين المال والدهاء السياسى.
*******
هذه هى الأيادى البيضاء التى قدمها النجاشى ( عطية ) لـ ( الراضى ) ولصحبه المستضعفين الذين نزحوا إلى بلاده.
لذا عندما توفى صلى عليه النبى المهذب وأمر صحبه أن يصلوا عليه. ( قال جلبر بن عبدالله وأنس بن مالك وابن عباس وقتادة: نزلت فى النجاشى, وذلك لما مات نعاه جبريل لرسول الله ـ ص ـ فى اليوم الذى مات فيه, فقال رسول الله ـ ص ـ لأصحابه أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم, فقالوا من هو؟ فقال: النجاشى, فخرج رسول الله ـ ص ـ إلى البقيع وكُشِف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشى وكبّر عليه أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه: استغروا له ...) [ أسباب النزول للواحدى ص 93 ].
هذا الحديث الذى رواه ثلاثة من مشاهير الصحب نستقطر منه معلومات ثمينة منها أنه:
1 ـ أظهر أن السماء شديدة العناية بأمر أصحمة ( عطية النجاشى ) حتى إنها كلفت الملاك جبريل أن يبلغ ( الكافى / الكريم ) خبر وفاته فى ذات اللحظة .
والراجح عندنا أن حياطته من قبل السماء بهذه الرعاية المكثفة عِلّتها: موقفه الرائع من المنازيح المستضعفين عندما حطوا رحالهم فى أرضه ولأدائه دور الخاطب فى تزويج رَمْلة بـ ( الغالب ) وفى القرآن المجيد ( هل جزاء الإحسان إلا بالإحسان ).
2 ـ حَمَل الحديث خبر معجزة للطاهر وهى رؤيته أرض الحبشة وهو فى أثرب ثم أبصر سرير النجاشى. [ هذا هو السر فى أدائه وصحبه صلاة الغائب أو الميت عليه ].
3 ـ أخبر الصحب أن ( عطية 9 هو اخوهم وامرهم بعد الصلاة عليه أن يستغفروا له.
*******
بيد ان الأمر بالصلاة على النجاشى عطية والاستغفار له ساط فى نفوس الأصحاب فهو:
1ـ عبد
2ـ حبشى.
3ـ نصرانى.
( روى النسائي عن انس قال: لما جاء نعى النجاشى قال رسول اللله ـ ص ـ صلوا عليه قالو كيف نصلى على عبد حبشى ) [ لباب النقول للسيوطى ـ على هامش ( تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ) للفيروزى آبادى ـ ص 73 ].
هذا الحديث خرّجه النسائى ( أحد أصحاب الصحاح الستة ) أعلى دواوين السنة مرتبة والذى يمارى فيما ورد فيها يُشكّك فى المصدر الثانى ذاته.
وراويه هو أنس بن مالك خادم ( المتضرع فى الدعاء ) ومن مشااهير الصحابة. وأضاف السيوطى أن ابن جرير الطبرى رواه فى تفسيره ( أو روى نحوه ) عن جابر . أما الحاكم فى المستدرك فقد عزاه إلى عبد الله بن الزبير وهو ذاته صحابى معروف, أمه التيمية أسما بنت عتيق وخالته التيمية عائشة وأبو الزبير بن العوام الحوارى وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
ونحن نسأل من يُحاج فيه: ماذا تريد أكثر من هذه الكوكبة الفريدة التى تحلّقت حول هذا الأثر الشريف؟.
( أخرج النسائى والبزار والطبرانى عن أنس أن النبى ـ ص ت صلى على النجاشى حين نُعى, فقيل يا رسول الله , أنصلى على عبد حبشى. [ المقبول للأزهرى ص 192, ونجد هنا أن المصنف زاد على النسائى : البزار والطبرانى, وأضاف فى هامش تالصفحة أن الهيثمى قال فى الزوائد: رواه البزار والطبرانى فى الأوسط ورجال الطبرانى ثقات ].
والذى يهمنا فى هذا الأثر الشريف ان أولئك العُربان وصفوا النجاشى وهو ملك وقدّم جميلاً لعدد غير قليل من سابقيهم المستضعفين ولقائدهم ( سيد الكونين ) ووصفوه بالعبد مما يقطع بمدى ما يتسمون به من كبرياء وخُنزوانة, وفى رواية اخرى وصفوه بالعلج وهو وصف زراية وتحقير يطلقه أولئك العَرَبة على غيرهم من الشعوب كما درج الرومان عللى تسمية خلافهم بالبرابرة, بيد ان هؤلاء يُلتمس لهم شطر من العذر لأنهم أصحاب حضارة وعلم وثقافة ومدنية أما هؤلاء الأعاريب فهم مليطون قطاع طرق من جِماعه فعلام هذه العنجهية. ومن مهازل التاريخ أنهم فيما بعد اطلقوا هذا اللقب المهين على مواطنى الدول التى دعسوها بخيولهم المباركة؟؟. مصر , فارس, العراق, الشام, مع أنها أعلى منهم بما لايقاس فى مدارج الحضارة والمدنية والثقافة, ولكن كما قال سيدهم ( صاحب زمزم ):
إنْ لَمْ تَسْتَحِ فَاِصْنَعْ مَا شِئْتَ.
*******
اتباعًا للمنهج الذى إلتزمناه نثنِّى بما تضمنته كتب التفسير بخصوص هذه الواقعة زيادة فى التوثيق ونكتفى بما أورده القرطبى
( قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ آل عمران 199 ].
قال جابر بن عبدالله وأنس وابن عباس وقتادة والحسن: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي لأصحابه: ( قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي)؛ فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة؛ فأنزل الله تعالى "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم". قال الضحاك: "وما أنزل إليكم" القرآن. "وما أنزل إليهم" التوراة والإنجيل. وفي التنزيل: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين" [القصص: 54]. وفي صحيح مسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ...) [ تفسير القرطبى المجلد الثالث ص 1654 ].
وهكذا نجد أن الصحب استهولوا الصلاة على النجاشى لأنه عِلْج وهوكما قلنا وصف يؤكد ما ذكرناه عن استكبارهم وشموخهم على خلق الله دونأ أدنى مبرر أو سند لهم يبيحه وعلى النقيض التام للمبادئ السامية المعروفة لدى بلدان الحصضرة والقافة والمدنية.
*******
وتبلور الموقف كالآتى:
إما أن يُنَفذ الأمر ويلى بهم صلاة الميت الغائب على ( عطية ) ويستغفر هو وهم له وهو شأن له قدره من الهمية لأن عدم انصياع التَبَع لما يشير به عليهم بادرة مرفوضة ويتعين فى التو ـ لا بعد حين ت قمعها والقضاء عليها.
كما أن الإعراض عن الصلاة على النجاشى فيه بَخْس لِحقه وإنكار لما قدّم من خدمات وتجاهل لصاحب فضل وهذا مُنافٍ لحديثه الكريم: " من صنع فيكم معروفًا فكافئوه ".
هذا من صوب. ومن شق آخر فقسر الصحبة على أمر يكرهونه نعنى الصلاة على ( عطية 9 سوف يصيبهم بالضيق المكتوم والنفور المغطى والحنق المستور, وهو حريص على مشاعرهم حَفِىّ بأحاسيسهم مهتم بعواطفهم ولا يسعى لإحراجهم ولا يعمل على مضايقتهم ولا يقدم على مساءتهم.
إذن ما الحل ؟.
جبريل ينزل بآيات القرآن.
لايقف القرآن فى جانب السلب أو حتى فى جهة الحياد قتنحبس من ىية مجيدة كالنهر العذب تَبُل ريقهم بل وتروى عطشهم, وهى الآية من آل عمران 199 . وبعد أن تضلعت عروقهم من الرىّ ينْقهون أن القرآن المجيد قد تكرّم بتقديم إجابة شافية عن التساؤل الذى يوجهونه إلى ( الآمر الناهى ) وأن عطية ليس عِلْجًا, بل هو على قُلة أهل الكتاب وانه مؤمن بالله تعالى وبالقرآن والإنجيل ومن الخاشعين الذين لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً, وانه من الذين يؤتيهم ربهم أجرهم مرتين.
فأدركوا أن من هذا شأوه يستحق التكريم حيًا وميتًا فرضوا بالصلاة عليه وأشرقت اسارير الناسك بِشرًا وحُبورًا باقتناع أصحابه وادئهم الصلاة والدعاء لعطية.
*******
تلك أمثلة عشرة عن انبثاق آيات للقرآن للإجابة على تساؤلات الصحاب وللرد على استفساراتهم ولإيضاح استبياناتهم. ونعتقد أن فيها غُنْية ولها الصلاحية الكاملة للقيام بدور البينة على الفرض أو الفروض التى طرحناها ومن ثم نكتفى بها إذ توجد بجانبها العشرات, ونضع فى الاعتبار أننا لسنا بصدد إحصاء أو استقصاء, وكل ما يعنينا أن يفطن القارئ إلى ما نؤمه ميدرك ما نتغياه ويفقه ما نرمى إليه خاصة أن الموضوع بكر لم يسبق تناوله.
وليت القارئ العزير يتفحص ما بين السطور وما يتنزل من آيات القرآن الكريم مسرعة حسب الطلب لتنقذ الصادق الأمين وتحافظ على وحدة أصحابه وعسكره وأتباعه وغزاته وتلبية رغبة نسوانه .
*******
Monday, May 14, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment