Monday, May 14, 2007

حد الردة المزعوم - أحمد صبحى منصور(5)ا

الرجم في الأحاديث ـ (الحلقة الأولى)

جاء في موطأ مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني بتعليق وتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف تحت عنوان باب الرجم ورقم 693 الحديث التالي: (اخبرنا مالك، حدثنا يحيى بن سعيد انه سمع سعيد بن المسيب يقول: لما صدر عمر بن الخطاب من منى أناخ بالابطح، ثم كوم كومة من بطحاء، ثم طرح عليها ثوبه، ثم استلقى ومد يده إلى السماء، فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، ثم قدم المدينة، فخطب الناس، فقال: يا أيها الناس: قد سننت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة، وصفق بإحدى يديه على الأخرى، ألا أن لا تضلوا بالناس يمينا وشمالا، ثم إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم الرسول (ص) ورجمنا، وإني والذي نفسي بيده: لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فانا قد قرأناها، قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر.!!) انتهى ( ص 241 من موطأ مالك. ط 2. المكتبة العلمية).

لنناقش هذا الحديث في روايته وسنده.. وفي نصه ومتنه ومحتواه..

من حيث الرواة:
مالك بن أنس لم يكتب هذا الحديث، لأن مالكاً لم يكتب "الموطّاً"، ولكن مالكاً كان يروي الأحاديث ويسمعها منه تلاميذه، ثم يكتبونها. ولذا تعددت روايات "الموطّاً" حتى بلغت نحو عشرين نسخة مختلفة، ومنها نسخة أو رواية محمد بن الحسن الشيباني القاضي العباسي المتوفي سنة 189. أي بعد مالك بعشر سنين. ومنهج محمد بن الحسن الشيباني في كتابه "الموطّاً" أن يقول (أخبَرَنا مالك) ثم يذكر الرواة نقلا عن مالك، كما جاء في حديث الرجم (حدثنا مالك، حدثنا يحيى بن سعيد، انه سمع سعيد بن المسيب يقول..)

بمعني اخر فان محمد بن الحسن الشيباني يزعم أو يدعي أن مالك اخبره شفهيا بهذا الحديث بسنده ورواته، وأيضاً بنصه ولفظه.. ثم بعدها قام بتسجيل هذه الرواية الشفهية كتابةً، والله تعالى هو وحده الأعلم إذا كان مالك قد حدثه فعلا بذلك أم لا..

وبالتالي لابد أن يكون محمد بن حسن الشيباني صادقا وثقة حتي نصدقه في أن مالك قال تلك الأحاديث فعلا، ومنها حديث الرجم. فهل كان الشيباني يتمتع بالثقة والتصديق من علماء عصره؟ إن محقق كتاب "الموطّاً" برواية محمد بن الحسن الشيباني يدافع عن الشيباني، وهذا منتظر منه بالطبع. يقول (وكل ما وُجّه من الطعون في محمد بن الحسن (الشيباني) مردود. وقد طعن إبن معين والعجلي في الشافعي: بأنه ليس ثقة، وابن عدي في أبي حنيفة، وأبو زرعة في البخاري: لقوله بخلق القرآن. ويحي بن سعيد في إبراهيم بن سعد، والنسائي في احمد بن صالح، واحمد بن صالح في حرملة، ومالك في بن إسحاق.. وما من عالم من العلماء إلا وقيل فيه شيء من ذلك.) (مقدمة "الموطّاً" ص 24).

ونكتفي بهذا الاعتراف في اتهام أئمة الحديث والفقه لبعضهم البعض، مما ينفي عنهم العصمة والتقديس التي أضافها عليهم المتأخرون في عصور التخلف. ويبقي علينا أن نناقش موضوعيا حديث الرجم في "الموطّاً" بعد أن عرفنا أن مالك لم يكتبه، وإنما رواه عنه الشيباني المتهم في صدقه، والذي يحتاج للدفاع عنه بحجة أن غيره من كبار الأئمة كانوا أيضا متهمين، مع أن الخطأ لا يبرر الخطأ..

نتابع الإسناد الذي يكتبه الشيباني يقول (أخبرنا مالك، حدثنا يحيى بن سعيد انه سمع سعيد بن المسيب يقول: لما صدر عمر بن الخطاب من منى.. الخ..). إذن، مالك اخبر الشيباني شفهيا بأنه سمع يحيى بن سعيد الذي توفّي بعد ذلك يقول أن سعيد بن المسيب، الذي توفي بعد مولد مالك بسنة واحدة، يقول كذا وكذا عن عمر بن الخطاب في خلافته أي قبيل وفاة عمر بعام. ولكن ليس صحيحا أن يروي سعيد بن المسيب حديثا عن عمر بن الخطاب، لأن سعيد بن المسيب كان عمره عامين حين قتل عمر بن الخطاب. فكيف روى طفل صغير حديثاً عن عمر؟ وهذا ما أشار إليه المؤرخ ابن سعد في "الطبقات الكبرى"، وهي اكبر و أقدم مصدر تاريخي لدينا. يقول ابن سعد في ترجمته الطويلة لسعيد بن المسيب ( رُوُيَ انه سمع من عمر، ولم أرَ أهل العلم يصححون ذلك). ولذلك فان ابن سعد تجاهل حديث الرجم في ترجمته لسعيد بن المسيب ورواياته الفقهية، وقد بلغت نحو عشرين صفحة من القطع الكبير(الطبقات الكبرى 5/ 88: 106).

ثم أن سعيد بن المسيب بسبب اضطهاده من خلفاء عصره قد اشتهر بالاعتزال والابتعاد عن المشاكل. وقد رفض عقوبة السكران، إذ سئل عن السكران: هل يذهبون به الي السلطان – فقال: إن استطعت أن تستره بثوبك فافعل. ثم ما لبث أن جعلوا (حدّاً) للسكران ونسبوه إلى عمر بن الخطاب، بمثل ما فعلوا حدا للرجم ونسبوه أيضا الي عمر.. إذن، يستحيل ان يكون سعيد بن المسيب راوياً لهذا الحديث عن عمر..
بل أيضا يستحيل أن يقول عمر هذا الحديث، وهنا ندخل في مناقشة متن الحديث..

من حيث المتن:
1- يلفت النظر ان "الموطّاً" في رواية محمد بن الحسن الشيباني يحتوى على أحاديث مختلفة، منها المنسوب للنبي عليه السلام، ومنها المنسوب للصحابة (مثل حديث الرجم المنسوب لعمر) ومنها ما يسنده الشيباني إلى مالك، ومنها ما ينسبه الشيباني إلى غير مالك، ولذلك قالوا أن الشيباني سمع "الموطّاً" من مالك في ثلاث سنين، اكثر من سبعمائة حديث، هذا مع ان مجموع احاديث "الموطّاً" كلها ( 100) في رواية الشيباني. ومن الطبيعي ان تتناقض الاحاديث في المتن خلال الموضوع الواحد، ونكتفي هنا بمثال محدد وشديد الايحاء: تحت عنوان (باب الوضوء من مس الذكر) أي عورة الرجل. اتي الشيباني بـ 18 حديثا.. بدأ بحديثين يؤكدان على ان مس الذكر ينقض الوضوء، ثم 16 حديثا بعدها تؤكد كلها ان مس الذكر لا ينقض الوضوء..!!

2- ومن ناحية احاديث الرجم بالذات نجد فيها نوعا من التناقض.. ففي الحديث الخاص بموضوعنا المروي عن عمر ينسبون فيه آية للرجم تقول (الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة). ومعلوم ان مصطلح الشيخ والشيخة لا يفيد الإحصان او المحصن والمحصنة، فقد يصل الانسان إلى مرحلة الشيخوخة دون زواج او إحصان. وقد احس محمد بن الحسن الشيباني بهذا القصور في المعنى فاستدرك يقول، تعليقا على حديث آخر في رجم الزناة من اليهود ( الحديث رقم 694 )، (قال محمد: بهذا كله نأخذ، إيما رجل مسلم زنى بامرأة وقد تزوج قبل ذلك بامرأة حرة مسلمة وجامعها فعليه الرجم، وهذا هو المحصن، فان كان لم يجامعها ولم يدخل بها او كانت تحته أمة (جارية) او يهودية او نصرانية لم يكن بها محصنا ولم يُرجَم، وضُرِبَ مائة، وهذا كله قول ابي حنيفة والعامة من الفقهاء).

إن الشيباني (وهو تلميذ لأبي حنيفة واحد الشيخين في المذهب الحنفي) يضح تحديدا فقهيا وتصحيحا لحديث الرجم المروي عن عمر والذي يتضمن عبارة (الشيخ والشيخة اذا زنيا .. الخ). وبهذا التحديد والتصحيح يكون المحصن الزاني المستحق للرجم ليس هو مجرد الشيخ والشيخة ولكنه الذي تزوج بامرأة مسلمة حرة، فاذا تزوج بجارية او يهودية او نصرانية فليس متزوجا فقهيا كاملا او ليس محصنا، وبذلك ينجو من الرجم، وعليه فأنهم يعتبرون الزواج من الروسيات او الاوربيات ( زواج نص ونص..!!) والمهم انها وجهات نظر لبعض الفقهاء وليست تشريعا إلهياً، بل تتناقض مع التشريع الالهي كما سنوضح فيما بعد..

3- وهناك ما هو اخطر في هذا الحديث: انه يتهم عمر بالترويج للاحاديث، ويتهم النبي عليه السلام بأنه ترك اية قرآنية لم يكتبها، ويزعم ان عمر هو الذي يسن السنن ويفرض الفرائض ويترك الناس على السنة الواضحة، وانه مثل النبي يخطب الناس حجة الوداع قبل موته ويوصيهم ولكن بحديث الرجم. ويقول ذلك في صورة دفاعية مسبقة تنبئ عن وجود جدل حول موضوع الرجم. لذلك جعلوا عمر في هذه الرواية يتصدي لمنكري حديث الرجم حتى لا يقول قائل لا نجد حدّين في كتاب الله… ثم يذكر العبارة الركيكة (الشيخ والشيخة اذا زنيا..) ويجعلها آيه قرآنية، كما لو ان الله تعالى لم يذكر في كتابه الكريم قبيل وفاة النبي واكتمال القرآن بآياته وسوره: (اليوم اكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا: المائدة 3). ثم لا تخلو الرواية من التناقض في قوله (لولا ان يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها). فكيف يعتبرها آية ثم يعتدها زيادة في كتاب الله يمتنع عن اضافتها إلى القرآن؟

4- ونحن نرد على هذا الحديث وغيره بما جاء في كتب التراث نفسها..
روي احمد ومسلم والدارمي والترمذي و النسائي عن ابي سعيد الخدري قول الرسول (لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه). واخرج الدارمي –وهو شيخ البخاري- عن ابي سعيد الخدري انهم (استأذنوا النبي في ان يكتبوا عنه شيئا فلم يأذن لهم). والرواية عن ابي سعيد الخدري تقول: استأذنا النبي (ص) في الكتابة فلم يأذن لنا.

وروى مسلم واحمد ان زيد بن ثابت –احد مشاهير كتاب الوحي– دخل على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنساناً ان يكتبه، فقال له زيد: (ان رسول الله امرنا الا نكتب شيئا من حديثه) ، فمحاه معاوية.

وقد وردت احاديث تفيد الإذن بالكتابة، مثل (اكتبوا لأبي شاه). وما ورد ان لابن عمرو بعض كتابات وادعية في الحديث. ولكن المحققين من علماء الحديث رجحوا الاحاديث التي نهت عن كتابة الحديث خصوصا وانه لا يعقل ان ينهي النبي عن شيء ثم يأمر بما يناقضه. ثم، وهذا هو الأهم، فأن النبي عندما مات لم يكن مع الصحابة من كتاب مدوّن غير القرآن الكريم مما يدل على طاعة الصحابة للنبي في عدم تدوين شيء غير القرآن.

وبعضهم حاول التوفيق والمواءمة بين الأحاديث التي تنهي عن كتابة غير القرآن وبين الاحاديث التي تفيد كتابة بعضهم بقوله بأن المراد حتى لا تلتبس الاحاديث بالقرآن. وهذه حجة لا تستقيم مع إعجاز القرآن الذي يعلو علي كلام البشر والذي تحدّى به الله تعالى العرب فعجزوا عن الاتيان بسورة من مثله. وذلك القرآن المعجز للعرب كيف يخشي احد عليه من ان يختلط به شئ اخر؟ ذلك القرآن المحدد بالسور والآيات المرقمة كيف يمكن ان يختلط به غيره وقد ضمن الله تعالي حفظه الي قيام الساعة ؟

ان الثابت ان الرسول لم يترك بعده سوى القرآن.
والبخاري يعترف بأن النبي ما ترك غير القرآن كتابا مدونا. يروي ابن رفيع: دخلت انا وشداد بن معقل علي ابن عباس، فقال له شداد بن معقل: أتَرَكَ النبي من شيء؟ قال ما ترك إلا ما بين الدفتين. أي القرآن في المصحف. قال (ودخلنا علي محمد بن الحنفية فسألناه، فقال (ما ترك الا ما بين الدفتين) [ البخاري 6 / 234 . ط. دار الشعب ].

ومما يؤكد ان النبي نهى عن كتابة غير القرآن ان الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنهوا عن كتابة الاحاديث وعن روايتها..

فأبو بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة النبي وقال: انكم تحدثون عن رسول الله احاديث تختلفون فيها والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه). وهذا ما يرويه الذهبي في "تذكرة الحفاظ". ويروي ابن عبد البر والبيهقي ان عمر الفاروق قال (اني كنت اريد ان اكتب السنن واني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله. واني والله لا اشوب كتاب الله بشيء ابدا). ورواياته البيهقي (لا ألبّس كتاب الله بشيء ابدا). وروى ابن عساكر (ما مات عمر بن الخطاب حتي بعث الي اصحاب رسول الله فجمعهم من الافاق.. فقال: ما هذه الاحايث التي افشيتم عن رسول الله في الافاق؟ .. اقيموا عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت.. فما فارقوه حتي مات). وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ ان عمر بن الخطاب حبس ابا مسعود وابا الدرداء وابا مسعود الأنصاري، فقال: (اكثرتم الحديث عن رسول الله). وكان قد حبسهم في المدينة ثم اطلقهم عثمان .
وروى ابن عساكر ان عمر قال لابي هريرة: (لتتركن الحديث عن رسول الله او لألحقنك بأرض دوس- ارض بلاده- وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الاول – أي ابي هريرة – أو لالحقنك بأرض القردة) أي ارض اجداده من اليهود.

واكثر ابو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر، اذ اصبح لا يخشى أحداً بعد موت عمر. وكان ابو هريرة يقول (اني احدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة– وفي رواية لشج رأسي. ويروى الزهري ان ابا هريرة كان يقول: ( ما كنا نستطيع ان نقول قال رسول الله حتي قبض عمر، ثم يقول ابو هريرة: فكنت محدثكم هذه الاحاديث وعمر حي؟ اما والله اذن لايقنت ان المخفقة – العصا – ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول (اشتغلوا بالقرآن ، فأن القرآن كلام الله). .
وقال رشيد رضا في المنار يعلق على ذلك ( لو طال عُمرُ (عُمَر) حتي مات ابو هريرة لما وصلت الينا تلك الاحاديث الكثيرة). هذا هو موقف عمر من رواية الاحاديث في حياته، ثم نسبوا اليه بعد موته ذلك الحديث الذي يخالف شرع الله تعالى.

وعموما نكتفي بهذا الاثبات في ان النبي اتانا بالقرآن ونهانا عن غيره، وان كبار الصحابة ساروا على نهجه في التمسك بالقرآن وحده. حتي ان تدوين تلك الاحاديث المنسوبة للنبي لم يبدأ الا في القرن الثالث، بعد وفاة النبي بقرنين من الزمان. وكان "الموطّاً" اول تدوين منطم للاحاديث.

وهنا نتساءل: اذا كانت تلك الاحاديث جزءا من الاسلام كما يدعون، وقد نهي النبي عن كتابتها، اليس ذلك اتهاما للنبي عليه السلام بالتقصير في تبليغ رسالته ؟ وهل يعقل ان تكون الرسالة الاسلامية ناقصة وتظل هكذا الي ان يأتي الناس في عصر الفتن والاستبداد ليكملوا النقص المزعوم؟

إن الذي نعتقده ان النبي عليه السلام قد بلّغ الرسالة باكملها وهي القرآن ونهي عن كتابة غيره. اما تلك الاحاديث فهي تمثل واقع المسلمين وعقائدهم وثقافتهم وتمثل في النهاية الفجوة بين الاسلام وبين المسلمين، وحدّ الرجم احد معالم تلك الفجوة. وبدأ الموطأ تلك الاحاديث ، ثم بعد ذلك راجت احاديث أخرى للرجم في العراق والشام وغيرهما في القرن الثالث الهجري دوّنها علماء الحديث مثل البخاري ومسلم، والتوقف معها بالنقد والتحليل لا يتسع له المجال .. ولكن كل تلك الاحاديث الخاصة بالرجم تتناقض مع تشريعات الاسلام في القرآن ..

ذلك ان النبي عليه السلام لم يعرف اسطورة رجم الزاني..


قراءة في احاديث الرجم

قبل الدخول في التفاصيل نضع ملاحظات سريعة:
ليس في القرآن من عقوبة للزنا غير الجلد، وليس في القرآن رجم الزاني، مع ان مصطلح الرجم ومشتقاته جاءت في القرآن في معرض تهديد المشركين للانبياء والمؤمنين ( هود 91، مريم 46، الدخان 20، يس 18، الكهف 20، الشعراء 116).

مع اختراع عقوبة رجم الزاني في العصر العباسي الا انها لم تكن محل اتفاق. ويعترف فقهاء السنّة المعاصرون برفض المعتزلة والخوارج لعقوبة الرجم ( سيد سابق: فقه السنة 2/ 347، موسوعة الفقه على المذاهب الاربعة 5/ 69 تأليف عبد الرحمن الجزيري).

لذلك كانت بعض روايات اهل الحديث والفقهاء عن الرجم موجهة لخصومهم في الفكر. وابلغ مثل على ذلك تلك الرواية في "الموطّاً"، والتي جعل فيها عمر بن الخطاب يخطب غاضبا يحذر من انكار حد الرجم. ومن الرواية قوله فيها ( ثم اياكم ان تهلكوا عن آية الرجم، ان يقول قائل لا نجد حَدّين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله ( ص) ورجمنا). ومن سياق الرواية نعرف ان هناك من انكر عقوبة رجم الزاني اكتفاء بعقوبة الجلد المذكورة في الكتاب الحكيم.

ولم تنجح احاديث الموطأ بعد موت مالك سنة 197 هـ في اقناع المنكرين لحد الرجم مما حمل البخاري المتوفي سنة 256 هـ على ان يأتي برواية أخرى تقول ان احدهم سأل عبد الله بن ابي اوفي وهو من الصحابة المتأخرين (هل رجم رسول الله؟ قال: نعم، قلت: قبل سورة النور ام بعد؟ قال: لا ادري). وجاء مسلم بنفس الرواية في اسنادين مختلفين، والمستفاد من الرواية ان اصرار منكري الرجم على الاكتفاء بعقوبة الجلد للزاني المحصّن وغير المحصّن حملت رواة الحديث على صناعة تلك الرواية لتمنع التعارض بين عقوبتي الرجم والجلد .

ولأن عقوبة الرجم عقوبة وضعية او تشريع بشري لم يرد في القرآن وليس له اصل في الاسلام ولم يعرفه عصر النبوة ، فإن الظروف الاجتماعية والسياسية هي المسئولة عن ولادة هذا الحد ونشأته ولصقه بالاسلام عبر مرويات واقاصيص وحكايات لا تصمد للمنهج العلمي او النقد الموضوعي.

ونبدأ باعطاء لمحة سريعة عن الظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأ وترعرع فيها حد الرجم.

مدرستان متعارضتان : (اهل الفقه والحديث، واهل العقل)
عرف المسلمون منذ القرن الثاني الهجري الخلاف بين المحافظين المتشددين والعقليين المتفتحين.. وتنامى هذا الخلاف من القرن الثالث الي ان انتهى بانتصار المحافظين في القرن الخامس الهجري ليدخل المسلمون مرحلة التقليد والجمود الي ان استيقظوا على مدافع نابليون حين كان شيوخ الازهر يستعينون على الفرنسيس بقراءة البخاري.

في البداية كانت مدرسة "المدينة" تمثل المحافظة والتقليد، وتعيش في استرجاع امجاد عصر النبوة والخلافة الرشيدة حين كانت "المدينة" العاصمة الاولي للمسلمين قبل ان تنتقل عنها الاضواء للشام والعراق. ودارت الحركة العلمية في المدينة حول سيرة النبي ومغازيه وتخصصت في الاحاديث دون الرأي، واعتمدت على اهل المدينة مصدرا من مصادر التشريع. ولأن الحياة الصحراوية تسير على وتيرة واحدة، فان التقليد يفرض نفسه. ولكن اضيف عامل سياسي هو رغبة الامويين ثم العباسيين الاوائل في شغل ابناء واحفاد المهاجرين والانصار عن السياسة حتي لا تعود ثورات الحسين وعبد الله بن الزبير ومحمد النفس الزكية واخيه ابراهيم. ولذلك تم اغراق المدينة بالجواري وشغل شبابها بالمتع الحسية. وما يرويه الاصفهاني في كتابه الاغاني دليل على حياة "المدينة" في القرن الثاني للهجرة. وفي مقابل المجون انشغل آخرون من الفقهاء بالتطرف في الانكار على الماجنين. وكان الطريق الامثل لذلك هو اختراع احاديث الرجم للزاني المحصن التي بدأ بها "الموطّاً" اقدم مصدر فقهي في تاريخ المسلمين.

وفي مقابل المدرسة المحافظة المتزمتة في المدينة اقام ابو حنيفة ( ت 150 هـ ) مدرسة الرأي في العراق، حيث جمع ابو حنيفة بين الفقه والفلسفة وعلم الكلام، وحيث رفض الاسانيد التي يخترعها اقرانه من فقهاء الحديث والتقليد. وبعد مقتل ابي حنيفة بالسم انقسمت مدرسته الي (1) ( محافظين ) كان منهم محمد الشيباني راوي الموطأ وابو يوسف، وكلاهما خدم قاضيا للدولة العباسية، وإلى ( 2) ( متطرفين في استعمال الرأي الفقهي ) الي درجة اختراع فقه الحيل، او التحايل علي الاحكام الشرعية بالآراء العقلية. ولكن بدخول الثقافات الاجنبية المترجمة الي العصر العباسي تأسست مدرسة جديدة للتجديد العقلي حاولت التوفيق بين الفلسفات اللاتينية ومدارسها في انطاكية والرها وجندياسبور والثقافة الاسلامية. واثمر هذا التلقيح عن بروز مدرسة المعتزلة او كما يسمون انفسهم اهل العدل والتوحيد. وأدّى ظهور هذه المدرسة العقلية الي توحيد الفقهاء جميعا في اتجاه واحد ضد هذه المدرسة العقلية الفكرية. ولذلك انتقل الاتجاه المحافظ الي المذهب الحنفي، وظهر الشافعي يمزج مدرستي الرأي والحديث معاً لصالح التقليد ومدرسة الحديث. وبتوالي القرون، صار التجديد الفقهي داخل المذهب الحنفي يجري في اطار تقعيد الثوابت الفقهية التي ارساها مالك من قبل، وهو زعيم المدرسة المحافظة. وابرز ما يعبر عن ذلك هو الفقيه الحنفي علاء الدين الكاساني ت 587 هـ، في كتابه الفقهي الضخم ( "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع")..

وبموت الشافعي سنة 204 كانت الفجوة قد اتسعت وتحكمت بين المدرسة العقلية التي اطلق عليها خصومها الفقهاء اسم ( المعتزلة ) وبين مدرسة الفقهاء والحديث التي اطلق عليها العقليون (الحشوية) أي الذين يحشون عقولهم بالنصوص دون تعقل او فهم. واغرم الخليفة المأمون بالمدرسة العقلية وناصرها في قضية خلق القرآن واضطهد من أجلها المدرسة الفقهية الحديثة المحافظة، وكان زعيمها في ذلك الوقت احمد بن حنبل والمؤرخ محمد بن سعد (ت 222 هـ) واستمر اضطهادهم طيلة عهد المعتصم ثم الواثق. ثم مات الخليفة الواثق فجأة سنة 232، اثر وصفة طبية خاطئة في علاج الضعف الجنسي. وكان الذي يسيطر على خلافته هو زعيم المعتزلة ابن الزيات الذي كان يضطهد ولي العهد الذي اصبح خليفته بسرعة تحت اسم المتوكل. فانتقم من ابن الزيات وقتله بعد قصه هائلة من التعذيب، وتحالف المتوكل مع اهل الفقه والحديث الذين أصبحوا اصحاب السلطة في دولته، وبعد ان كان لقبهم "الحشويّة" اصبح لقبهم اهل السنة. وبتأثير نفوذهم اضطهد المتوكل المعتزلة والشيعة واهل الكتاب والصوفية (أي كل الطوائف الاخري) وتنوع الاضطهاد ليشمل القتل ومحاكمات التفتيش وهدم ضريح الحسين في كربلاء، والزام اهل الكتاب بلباس معين للتحقير. وصارت تلك السياسة سنة متبعة فيما بعد. اذ استمر نفوذ اهل السنة. وقد تأكد التقليد بظهور الامام الغزالي (ت 505) الذي وحّد بين الصوفية والفقهاء في مواجهة الفلاسفة والمدرسة العقلية.

وأدّى هذا الانتصار للمدرسة الفقهية المحافظة الي تقديس الائمة من هذه المدرسة واعتبار احاديثهم ورواياتهم جزءا من الدين لا يستطيع احد مناقشتها مهما كان فيها من تناقض مع القرآن او مع العقل او مع بعضها. والدليل هو ما يحسه القارئ لما نكتبه في نقد مؤلفات تلك المدرسة المحافظة وتراثها الذي لا يزال مقدسا حتي الآن في القرن الحادي والعشرين الميلادي. ويكفينا اننا نجد عُسراً في اقناع القارئ بأكذوبة أحاديث الرجم مع وضوح تناقضها مع القرآن الكريم.

منهجان مختلفان للمدرستين:
لم تعوّل المدرسة العقلية المعتزلية كثيرا على روايات الاحاديث كما لم تركز علي الفقه، واخذت اساسيات التشريع من القرآن. لذلك كان رفضها لحد الرجم الذي لا يوجد في القرن الكريم. وكانت للمعتزلة معاركهم الفكرية الكبري مع المدرسة المحافظة في القضايا العقيدية الخاصة بالله تعالى والقضاء والقدر والسمعيات والميتافيزيقيات. ونكتفي بدليل على منهج هذه المدرسة بما ذكره الجاحظ، المتوفّي سنة 255 هـ؟، في "رسالة القيان" وهو يتحدث عن عدم تحريم النظر الي النساء يقول (وكل شيء لم يوجد محرما في كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله () فمباح مطلق، وليس علىاستقباح الناس واستحسانهم قياس..). ثم استدل بأخبار الصحابة والخلفاء دون ان يذكر اسنادا. ولا ينسى اثناء حديثه ان يتندر بأصحاب الحديث او كما يسميهم الحشوية فيقول (وهذا الحديث وما قبله يبطلان ما روت الحشوية من ان النظر الاول حلال والثاني حرام).
وقد عاش البخاري في عصر الجاحظ. اذ توفي البخاري سنة 256 هـ. ومنهج البخاري -ومدرسة الفقه والحديث– هو في صناعة رواية واسنادها الي النبي الذي مات قبلهم بقرنين من الزمان، ويتم ذلك الاسناد عبر رواة ماتوا ايضا من قبل دون ان يعرفوا شيئا عما اسند اليهم البخاري من احاديثه ورواياته. و نعطي لذلك مثلا من احاديث الرجم، وهو احدي الاحاديث المختلفة عن رجم من اسموه بماعز. يقول البخاري ( حدثني عبد الله بن محمد الجعفي، حدثنا وهيب بن جرير، حدثنا ابي قال: سمعت يعلي بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما اتي ماعز بن مالك النبي ( ص) قال له: لعلك قبلت او غمزت او نظرت. قال: لا يا رسول الله. قال: إنكتها ؟ لا يكني، قال فعند ذلك امر برجمه). ونحن نعتذر اذ نضطر لذكر حديث البخاري بلفظه الذي يخدش الحياء، ونعتقد ان النبي عليه السلام لا يمكن ان يقول هذا القول الفاحش لأنه عليه السلام ما كان سبّاباً ولا فحاشا. ولكن ناخذ من الحديث دليلا على منهجية الاسناد لدي تلك المدرسة التقليدية. فالبخاري يكتب انه سمع شفهيا ذلك الحديث من عبد الله بن محمد الجعفي الذي كان يعيش في عصر البخاري.. وان ذلك الجعفي كان قد سمع ذلك الحديث من وهيب بن جرير وهو من الجيل السابق علي جيل البخاري، ثم ان وهيب بن جرير قد سمع ذلك الحديث شفهيا من ابيه جرير الذي عاش في اواخر العصر الاموي مثلا، وابوه جرير يزعمون انه سمع ذلك الحديث شفهيا من عكرمة مولي ابن عباس، ويزعمون ان عكرمة سمعه من سيده ابن عباس، وابن عباس بزعمهم في هذه الرواية يقول انه شاهد وسمع هذه الواقعة وهو بجانب النبي عليه السلام. والمعلوم ان ابن عباس لم يرَ النبي ولم يسلم الا بعد فتح مكة، وبعدها رجع مع ابيه الي مكة ورجع النبي الي المدينة حيث توفّي. ولذلك يقول ابن القيّم الجوزية في كتابه "الوابل الصيب"، ص 77 (وهذا عبد الله بن عباس مقدار ما سمع من النبي لم يبلغ العشرين حديثا). وبغض النظر عن آلاف الروايات المنسوبة لابن عباس في كتب الحديث، فأن الاسناد الشفهي عبر رواة مختلفين في الزمان والمكان والظروف لا يستقيم مع المنهج العلمي. اذ كيف نصدق رواية واحدة تنتقل بدون تحريف او نسيان عبر عشرات السنين، وعبر عدة اجيال كل منهم يلقيها للاخر شفويا؟ ثم كيف نصدق عشرات ومئات الألوف من الروايات المتضاربة والمتناقضة والمنسوبة الي النبي بعد موته بقرون، وعبر اشخاص موتى لم يعلموا بما اسنده اليهم اللاحقون من روايات؟ ولكن المهم ان هذا الاسناد للنبي هو الجدار الذي احتمي به علماء الفقه والحديث ، والذي جعل لارائهم حصانة من النقد ، وهو الذي اضفي علي ارائهم قدسية ، وفي النهاية هو الذي جعلهم ينتصرون علي اصحاب المنهج العقلي الذين كانوا يسندون اراءهم الي انفسهم ولا يتمسحون بالنبي عليه السلام ولا يكذبون عنه.. ومن افظع الكذب على النبي عليه السلام ان تنسب اليه تشريعات تخالف القرآن الكريم. وفي نفس الوقت ينسبون اليه الفاحش من القول. مثل هذا الحديث السالف.

التشكيك في القرآن:
وبين سطور احاديث الرجم نلمح تشكيكات في القرآن عبر ما نسبوه لعمر (إيّاكم ان تهلكوا عن آية الرجم.. والذي نفسي بيده لولا ان يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة اذا زنيا الخ ). ومعنى هذا ان في الكتاب آيات لم يكتبها ولم يبلغها النبي عليه السلام، وترك هذا لعمر؟!!!

ويأتي البخاري برواية اخري طويلة يتحدث فيها عن حد الرجم، وبين السطور ينسبون لعمر قوله (ثم إنّا كنا نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم ان ترغبوا عن آبائكم.. الخ). ومعنى ذلك ان هناك آيات من القرآن لم تتم كتابتها واعلن عمر عنها فيما بعد..

التناقض في الروايات:
والتناقض سمة اساسية من سمات الاحاديث. ويظهر التناقض في احاديث الرجم على نوعين: تناقض جزئي في التفصيلات الخاصة بالرواية الواحدة، وتناقض اساسي بين الروايات المختلفة. ومن هذا النوع الاخير حديث جاء به البخاري عن احدهم اعترف للنبي بالزنا فاعرض عنه النبي الي ان حضر الصلاة فصلّى مع النبي، ثم قام للنبي ثانيا يعترف له ويطلب اقامة الحد عليه، فقال له النبي: اليس صليت معنا؟ قال نعم، قال : فان الله غفر لك ذنبك..). أي ان الصلاة تغفر الذنب و تمحو عقوبة الرجم. وهذا ما يتناقض مع الاحاديث الاخري التي تنضح بدماء الضحايا من المرجومين حسب زعمهم.

وبينما تؤكد احاديث البخاري والشافعي ومالك علي ان المحصن عقوبته الرجم فقط، نجد مسلم يروي احاديث مكررة يؤكد فيها ان النبي قال (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة، ثم والرجم ..) وعبارة ( البكر بالبكر والثيب بالثيب ) غير مفهومة. وقد تمت صياغتها على مثال تشريع القصاص ( كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر والعبد بالعبد والانثي بالانثي: البقرة 178 ) ولكن الخطورة في ذلك الحديث انه يجعل عقوبة الزاني المحصن مائة جلدة قبل ان يقتل رجما، وهذا ما يتناقض مع الاحاديث الأخرى.

تأثر اللاحقين بموطأ مالك في احاديث الرجم:
نقل الشافعي روايات مالك، واضاف رواية اخري ليست مذكورة في رواية الشيباني تفيد بأن عمر رجم في خلافته زوجة اعترفت بالزنا. وانتهى الشافعي الي ثبوت الرجم بالكتاب والسنة وفعل عمر، مع انه لم يذكر آية قرآنية ، وتحاشى ذكر الجملة المضحكة التي تقول (الشيخ والشيخة ، اذا زنيا فارجموها..)( الأم للشافعي 6 / 142 : 143 ). وجاء البخاري ايضا برواية تقول ان علي بن ابي طالب في خلافته رجم امرأة يوم الجمعة على ان ذلك سنة النبي. والواقع ان البخاري ومسلم اعتمدا اساسا "الموطأ" وقاما بالبناء عليه وتصحيح رواياته وزيادتها ..

لقد قام البخاري ومسلم بنقل بعض روايات "الموطأ" حرفيا مع اختلاف جزئي في الاسناد احيانا، مثل حديث ان رجلين اختصما الي النبي حيث زنى ابن احدهما بزوجة الآخر حين كان يعمل اجيرا لديه. وتقول الرواية ان النبي حكم بجلد الابن مائة جلدة وتغريبه عاما، وبرجم الزوجة بعد اعترافها. وهناك رواية اخري نقلها البخاري ومسلم عن "الموطأ". وهي مجئ اليهود للنبي ليحكم بينهم في رجل وامرأة زنيا وانهم اخفوا عن النبي حد الرجم الموجود في التوراة واحكامها. وقد كشف لعبتهم عبد الله بن سلام، وحكم النبي برجم الرجل والمرأة.. وهذه الرواية تتناقض مع القرآن، لأن الرجم ليس من تشريعات التوراة الحقيقية، حيث يقول تعالى عن التوراة واحكامها (وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس.. المائدة 45 ). أي لا يجوز قتل النفس الا قصاصا فقط، وعليه فلا يجوز قتل النفس بغير النفس.

وقام البخاري ومسلم بنقل بعض روايات الموطأ بعد تحسينها وتلخيصها او الزيادة عليها..
فالمعروف ان المؤرخ محمد بن سعد اعلن في كتابه (الطبقات الكبري) في ترجمة سعيد بن المسيب ان ابن المسيب لم يلقَ عمر بن الخطاب، حيث مات عمر وابن المسيب كان طفلا في الثانية من عمره. لذلك قام البخاري و مسلم بتلافي هذا الخطأ، اذ اسندا الرواية نفسها وروايات اخري اكثر تفصيلا ليس الي سعيد بن المسيب ولكن الي عبد الله بن عباس. و لكن لم يكن في ذلك تجديد او ابتكار. لأن مالك ذكر في بداية حديثه عن الرجم اول رواية وهي الحديث رقم 692، واسندها الي ابن شهاب الي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس وذكر قول عمر (الرجم في كتاب الله عز وجل، حق على من زني اذا احصن من الرجال والنساء، اذا قامت عليه البينة او كان الحمل او الاعتراف). ثم جاء مالك بعدها بحديث رقم 693 وهو الذي يحوي خطبة عمر المزعومة والتي يذكر فيها الجملة القائلة (الشيخ والشيخة اذا زنيا ..).

وجاء البخاري فاستعمل نفس الرواة والاسناد في الحديث رقم 692 للموطأ وذكر صيغته، ثم اضاف حديثا اخر مطولا فيه خطبة طويلة لعمر، بينما قام مسلم بتلخيص الحديثين ( 692، 693) من الموطأ في حديث واحد. وبنفس الاسناد لابن عباس.

وهناك رواية اخري في الرجم في "الموطأ" تحت رقم 692، وهي رواية ساقطة بكل المقاييس لأن مالك يرويها عن ابن شهاب (الزهري) الذي يروي الحديث بنفسه، مع ان ابن شهاب الزهري كان من التابعين ولم يرَ النبي عليه السلام ولم يدرك عصره. ومع ذلك نقرأ في "الموطأ" الآتي (اخبرنا مالك ، اخبرنا ابن شهاب ان رجلا اعترف على نفسه بالزنا علي عهد رسول الله (ص) وشهد على نفسه اربع شهادات، فأمر به فَحُدّ. قال ابن شهاب: فمن اجل ذلك يؤخذ المرء باعترافه على نفسه).

وجاء البخاري بعد مالك بنصف قرن فتلافى الخطأ وأصلح الاسناد. فقال: حدثني الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن ابن المسيب وابي سلمة ان أبا هريرة قال: اتي رسول الله (ص) رجل من الناس في المسجد فناداه يا رسول الله اني زنيت، يريد نفسه، فأعرض عنه النبي.. الخ إلى ان يقول ( فلما شهد على نفسه اربع شهادات دعاه النبي وقال:أبك جنون؟ قال لا.. الي ان ينتهي الحديث برجم الرجل المجهول.. ثم تتوالى روايات اخري في نفس الموضوع بتفصيلات نعرف ان الرجل المجهول اسمه ماعز، وانه فر من الرجم ولكنهم طاردوه حتى قتلوه..

ثم يأتي مسلم بعد البخاري فيضيف تفصيلات اخري نعرف منها انه اسمه ماعز بن مالك من قبيلة اسلم وانه كان يتخلف عن الغزو ليزني مما جعل النبي يخطب غاضبا قائلا: فما بال اقوام اذا غزونا يتخلف احدهم عنا له نبيب كنبيب التيس، علي ان لا اوتي برجل فعل ذلك الا نكلت به) ويقول مسلم انه ما استغفر له. ثم تأتي رواية اخري تجعل النبي يستغفر لماعز وانه قال ان توبة ماعز تكفي أمة بأكملها– وهنا تناقض جزئي بين روايات مختلفة في موضوع محدد.

ونفس الحال مع حديث المرأة التي اعترفت بالزنا ورجموها بزعمهم ..

نجد البداية بسيطة في الحديث رقم 696 في موطأ مالك يرويه مالك عن يعقوب بن يزيد عن ابيه عن عبد الله بن ابي مليكة، ان امرأة اتت الي النبي فأخبرته انها زنت وهي حامل، فقال لها اذهبي حتي تضعي فلما وضعت اتته فقال لها: اذهبي حتي ترضعيه، فلما ارضعته اتته فقال لها: "اذهبي ختي تستودعيه فاستودعته، ثم جاءته فأمر بها فأقيم عليها الحد.

هذه القصة الدرامية المحزنة أهملها البخاري، واحتفل بها مسلم فألحق قصتها بقصة ماعز في رواية طويلة مؤثرة ، ثم افرد لها رواية اخري، وأعطى مسلم تلك المرأة إسماً هو الغامدية، وفي رواية اخري قال انها من جهينة.

والقصة كفيلة بتشويه الاسلام وسيرة النبي عليه السلام ، فالقصة تقول ان المرأة جاءت للنبي تعترف بالزنا وتطلب منه ان يطهرها بالرجم، وتعبير التطهير بالموت مصطلح مسيحي ليس له اصل في الاسلام، واعترفت بأنها حبلي، فأمهلها النبي – فيما يزعمون – الي ان تلد، فلما ولدت جاءت بالصبي في اللفائف، فقال لها اذهبي فأرضعيه حتي يفطم ويأكل الطعام، ثم جاءت له بعد فطام الطفل، فأمر بالطفل فكفله رجل من المسلمين، ثم امر بحفر حفرة لها الي صدرها، وامر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى به رأسها فتطايرت دماؤها علي وجه خالد فشتمها خالد، فقال النبي "انها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له".

هذه القصة المؤلمة حيكت خصيصا للاجابة علي سؤال فقهي هو اذا كان حد الزنا هو الرجم، أي الموت، وليس الجلد كما في القرآن، فكيف اذا كانت الزانية المحصنة حاملا من هذا الزنا او من قبله؟ وهل يحكم عليها وعلى مولودها بالموت؟ لذلك جاءت الفتوي في هذا الحديث بإمهال المرأة الي ان تضع وليدها وتفطمه، وكأنهم بذلك قد اراحوا ضمائرهم حين يكفل الطفل آخرون بعد اعدام امه في تشريع ليس له اصل في القرآن او في الاسلام، ولم يعرفه الرسول عليه السلام.

وفي تفصيلات قصة الغامدية التي هشم خالد بن الوليد رأسها بحجر ثم شتمها، يروي صانع القصة ان النبي قال لخالد وهو يعاتبه –فيما يزعمون– " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ". وصاحب المكس هو من يجمع الضرائب عند المنافذ التجارية. أو بتعبير عصرنا هو رجل الجمارك. وقد ورد هذا المصطلح في الانجيل مقترنا بالظلم "المكاسون" او "العشارون". وهو مصطلح ساد في الشام قبل الاسلام وبعد الفتوحات الاسلامية، حيث اقتضت الظروف السياسية و الاقتصادية وجود موظفي الجمارك. وهو ما لم تعرفه الجزيرة العربية مطلقا قبل الاسلام او في عهد النبي عليه السلام، ولم تعرفه اللغة العربية حينئذ، وليس من مصطلحات القرآن، مع احتواء القرآن علي الفاظ غير عربية، أي ان هذا الحديث قد تم اختراعه في عصر الخلفاء غير الراشدين، حيث عم الظلم واصبح صاحب المكس ممثلا لظلم الدولة. ويستحق ان يتطهر بالقتل، مثل بطلة " فيلم " " الغامدية"…!!!؟؟

الرجم في الأحاديث ـ (الحلقة الثانية)

التطبيق التاريخي لحد الرجم:
ولكن ظلت هذه الروايات مجرد اقاصيص مؤلمة، اذ لم نجد في روايات التاريخ العباسي الموثقة ما يؤكد تطبيقها.. ولنأخذ علي ذلك مثلا بتاريخ المنتظم للمؤرخ الحنبلي الفقيه المحدث ابن الجوزي..هذا وقد راجعنا أجزاءه كلها (18 جزءا) فلم نجد فيه حادثة واحدة تفيد تطبيق حد الرجم.. مع عنايته الفائقة بالتفصيلات الفقهية التاريخية واحتفاله باخبار الفقهاء والمحدثين والوقائع الشرعية، اللهم الا حادثة يتيمة تعتبر دليلا لنا. وهي ان يهوديا زني بمسلمة مفهوم انها مُحصّنة، وكان اليهودي يعمل كاتبا لاحد اصحاب النفوذ واسمه ابن خلف. فقام صاحب الشرطة بضرب اليهودي عقابا له. فغضب ابن خلف وضرب صاحب الشرطة بحضور اليهود في يوم جمعة، فاشتدت ثورة الناس على ما حدث. وكان ذلك في بغداد سنة 336 ("المنتظم" 13 / 374 ) ولو كان هناك تطبيق لحد الرجم لأصاب اليهودي والمرأة.

وفيما عدا ذلك نتعرف علي تفصيلات كثيرة من "المنتظم عن محنة ابن حنبل وصحبه في موضوع خلق القرآن، وابتداء نفوذ الفقهاء والمحدثين منذ عصر المتوكل الذي اضطهد خصوم الفقهاء ("المنتظم جـ 11). وعلى النقيض من ذلك نجد تطبيقا لحد الردة، وهو حدّ مُختَرَع أيضاً، ولكن تم تنفيذه لظروف سياسية. وكان ذلك تعبيرا عن تأثر السلطة العباسية بنفوذ الفقهاء. فقد قتلوا أحد الشيعة لأنه يدعو الي مذهبه، وقال قبل ان يقتلوه: كيف تقتلوني وأنا اقول لا اله الا الله ("المنتظم" 17 / 39), وقتلوا ابن فقعس لأنه يشتم السلف وكان ذلك في رمضان 258 ("المنتظم" 12/136) . ولذلك يقول ابن الجوزي عن آخر شيوخ المعتزلة في القرن الخامس الهجري، وهو ابو يوسف القزويني (ت 488) أنه احد شيوخ المعتزلة المجاهرين بالمذهب الدعاة له، له تفسير القرآن في سبعمائة مجلد، وكان يفتخر ويقول: انا معتزلي وكان هذا جهلا منه لأنه يخاطر بدمه في مذهب لا يساوي " ("المنتظم" 17/ 21- ) وذلك دليل علي اضطهاد المعتزلة وقتها. والمستفاد من ذلك ان الفقهاء في عصر سطوتهم ركّزوا علي تطبيق حد الردة المزعوم في اضطهاد خصومهم الصوفية والشيعة والمعتزلة، دون اهتمام بتطبيق حد الرجم.. وظل هذا ساريا الي أن ظهر محمد بن عبد الوهاب في نجد والتجأ الي العينية وحاكمها عثمان بن معمر. وفي حوالي منتصف القرن الثاني عشر الهجري، قام ابن عبد الوهاب برجم امرأة اعترفت له بالزنا وارادت ان تتطهر طبقا لاسطورة الغامدية.. وبرجم هذه المرأة شاعت سطوة ابن عبد الوهاب في نجد ودخل في دعوته كثيرون..

ولذلك فان التيار السلفي الوهابي في عصرنا البائس يضع نصب عينيه تطبيق الحدود .. الحدود الزائفة مثل الرجم والردة…

واذا عرف السبب بطل – يا صديقي – العجب ..

ويبقى السؤال الاخير.. اذا لم يكن تشريع الاسلام وهو مصدر حدّ الرجم فمن اين جاء؟
هنا ننقل عن البخاري من "باب المناقب" حديثاً رقم 3560 يقول "حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم".

أي ان مجتمع القرود في الجاهلية سبق العصر العباسي في تطبيق حد الرجم ..
مساء الفل !!!!

احاديث الرجم في كتب اخري غير "الموطأ"
حكي مالك قصة اخري رواها ابن شهاب الزهري: أن رجلين اختصما للنبي، وقد زنى احدهما بزوجة الاخر. وقد حكم النبي – وفقا لهذه الرواية – بأن يجلد الابن مائة جلدة مع تغريمه عاما ، وان ترجم زوجة الرجل الاخر اذا اعترفت بالزنا.

ونقل الشافعي هذه الروايات عن مالك، واضاف عن مالك رواية اخري – ليست مذكورة اصلا في "الموطأ" – تفيد بأن عمر في خلافته امر برجم زوجة اعترفت بالزنا، وانتهى الشافعي الي ثبوت الرجم بكتاب الله وسنة رسوله وفعل عمر، مع انه لم يذكر آية قرآنية، وتحاشي ذكر الجملة المضحكة التي تقول (الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة) .

وفي باب (رجم المحصن) ذكر البخاري احاديث جديدة لم تذكر من قبل، بعضها نسب لعلي بن ابي طالب في خلافته القيام برجم امرأة علي ان ذلك سنة النبي، وحديث اخر عبارة عن سؤال الي احد متأخري الصحابة وهو عبد الله بن ابي اوفي، اذ قيل له: هل رجم الرسول قبل سورة النور ام بعدها؟ فقال: لا ادري. وهو حديث ينم عن جدل أثير حول افتتاحية سورة النور التي تؤكد علي ان الجلد لا الرجم هو عقوبة الزانية والزاني. وتدل على الشك في حكم الرجم بسبب ما جاء في سورة النور. وأحاديث اخري تفيد وقوع عقوبة الجلد لا الرجم علي رجل من قبيلة اسلم وآخر مجهول. وحديث (ماعز) الذي حقق معه النبي – فيما يزعمون – في كيفية ارتكابه الزنا، وقال له: لعلك قبلت او غمزت او نظرت، فقال لا، فقال له النبي – فيما يزعمون كذبا – عبارة بذيئة لا نستطيع كتابتها، وامر برجمه. وذكر البخاري صيغة اخري لحديث سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب الذي تعرضنا له، ولكنه نسب هذه الرواية المطولة لابن عباس.

أما مسلم في أحاديثه، فقد كرر احاديث البخاري في الزنا والرجم مع زيادة في التفصيلات – وهو عموما اكثر تفصيلا وتنظيما من البخاري. وقد اضاف مسلم قصة في رجم امرأة قال مرة انها الغامدية، ومرة اخري انها من جهينة. والقصة كفيلة بتشويه الاسلام وسيرة النبي عليه السلام. فالقصة تقول ان المرأة جاءت للنبي تعترف بالزنا وتطلب منه ان يطهرها بالرجم، وتعبير التطهير بالموت مصطلح مسيحي ليس له اصل في الاسلام، واعترفت بأنها حبلي، فأمهلها النبي – فيما يزعمون – الي ان تلد، فلما ولدت جاءت بالصبي في اللفائف، فقال لها اذهبي فأرضعيه حتي يفطم ويأكل الطعام، ثم جاءت له بعد فطام الطفل، فأمر بالطفل فكفله رجل من المسلمين، ثم امر بحفر حفرة لها الي صدرها، وامر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمي به رأسها فتطايرت دماؤها علي وجه خالد فشتمها خالد ، فقال النبي "انها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له".
هذه القصة المؤلمة حيكت خصيصا للاجابة علي سؤال فقهي، هو اذا كان حد الزنا هو الرجم، أي الموت، وليس الجلد كما في القرآن، فكيف اذا كانت الزانية المحصنة حاملا من هذا الزنا او من قبله؟ وهل يحكم عليها وعلي مولودها بالموت؟ لذلك جاءت الفتوي في هذا الحديث بإمهال المرأة الي ان تضع وليدها وتفطمه، وكأنهم بذلك قد أراحوا ضمائرهم حين يكفل الطفل آخرون بعد اعدام امه في تشريع ليس له اصل في القرآن او في الاسلام، ولم يعرفه الرسول عليه السلام.
وقد بدأ مالك بتدوين اصل هذه الحكاية قائلا ان امرأة اعترفت للنبي بالزنا وانها حامل من هذا الزنا، فامرها ان تاتي اليه بعد ارضاعه، ثم بعد ان تستودعه عند من يقوم برعايته، ثم جاءته فأقام عليها الحد، والمفهوم انه حد الرجم، وان لم يذكر انه الرجم. ثم اشعلت هذه الرواية خيال المؤلفين بعد مالك، حين تكاثرت قصص الروايات عن رجم رجال ونساء، كان من بينهم من اسموه ماعز ومن اسموها الغامدية. وأطال مسلم في حديث ماعز فوق ما ذكره البخاري، واضاف اليه ان الغامدية صممت علي ان يطهرها النبي بالرجم، وذكر القصة التي ذكرناها، ثم اضاف معظم القصة الي امرأة اخري من جهينة..

وفي تفصيلات قصة الغامدية التي هشم خالد بن الوليد رأسها بحجر ثم شتمها، يروي صانع القصة ان النبي قال لخالد وهو يعاتبه – فيما يزعمون – " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " .وصاحب المكس هو من يجمع الضرائب عند المنافذ التجارية. او بتعبير عصرنا هو رجل الجمارك .

وقد ورد هذا المصطلح في الانجيل مقترنا بالظلم "المكاسون" او "العشارون". وهو مصطلح ساد في الشام قبل الاسلام، وبعد الفتوحات الاسلامية. حيث اقتضت الظروف السياسية والاقتصادية وجود موظفي الجمارك. وهو مالم تعرفه الجزيرة العربية مطلقا قبل الاسلام او في عهد النبي عليه السلام، ولم تعرفه اللغة العربية حينئذ، وليس من مصطلحات القرآن ، مع احتواء القرآن علي الفاظ غير عربية، أي ان هذا الحديث قد تم اختراعه في عصر الخلفاء غير الراشدين، حيث عم الظلم واصبح صاحب المكس ممثلا لظلم الدولة. ويستحق ان يتطهر بالقتل، مثل بطلة " فيلم " " الغامدية "…!!!؟؟

واخذت هذه القصص والروايات سبيلها للتدوين في كتب الاحاديث اللاحقة لتصبح احد معالم التشريع للمسلمين، خصوصا وقد احتفل بها الوعاظ والقصاص مع الفقهاء، واصبح الجميع يرددونها علي انها "حق". ويؤكد هذا "الحق" التطبيق العملي الذي راح ضحيته رجال ونساء تم قتلهم بتشريع ما نزل الله به من سلطان.
وندخل بذلك على الحق القرآني الذي ينفي عقوبة الرجم، او ما يسمى بحق الرجم.

أكذوبة الرجم الغت تشريعات القرآن في عقوبة الزنا
عقوبة الرجم للزاني والزانية لم تأت في القرآن، وان كانت قد جاءت في التوراة الموجودة لدينا. وتأثر المسلمون بذلك فأضافوا عقوبة الرجم لجريمة الزنا في حالة الاحصان او الزواج، وقد انشغل الفقهاء بأحاديث الرجم التي الغت التشريعات القرآنية الخاصة بعقوبة الزنا، بحيث اصبحت تلك التفصيلات القرآنية مجهولة.

وقد جاءت عقوبة الزنا في القرآن علي النحو التالي:
الزانية والزاني اذا ضبطا في حالة تلبس، فالعقوبة مائة جلدة امام الناس. بذلك بدأت سورة النور بافتتاحية فريدة ترد مقدما علي اولئك الذين يتجاهلون وضوح القرآن وبيان تشريعاته. يقول تعالي في تلك الافتتاحية الفريدة { سورة انزلناها وفرضناها وانزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون}. وبعدها قال تعالي مباشرة { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.

ومن الصعب اثبات حالة التلبس في جريمة الزنا، ومن الصعب ايضا ان يحدث إقرار بالوقوع في الزنا ينتج عنه عقوبة الجلد. ولكن من السهل ان يشاع عن امرأة ما بأنها سيئة السلوك، وتتكاثر الشواهد علي سوء سمعتها. وحينئذ لابد من عقاب مناسب بعد الإشهاد عليها بأربعة شهود بأنها من اللاتي (يأتين الفاحشة) ولكن لم يتم ضبطها. وذلك العقاب ليس الجلد، وانما هو عقاب سلبي. يكون بمنعها عن الناس ومنع الناس عنها الي ان تموت او تتزوج وتتوب، يقول تعالي (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتي يتوفّاهُنّ الموت او يجعل الله لهن سبيلا) النساء 15. وبمجرد اعلان توبتها، يطلق سراحها او تتزوج، فقد تخلصت من وصف اللاتي يأتين الفاحشة.

وجاءت تفصيلات القرآن بعقوبة الجارية المملوكة، اذا وقعت في الزنا. فإن كانت الجارية تحت سيطرة سيدها او يجبرها علي ممارسة البغاء فليس عليها عقوبة، اذ انها لا تملك حرية الاختيار. يقول تعالي (ولا تكرهوا فتياتكم علي البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومن يكرههن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم) النور 33.

واذا تزوجت الجارية وتحررت من سيطرة مالكها ووقعت في جريمة الزنا فعقوبتها خمسون جلدة أي نصف ما علي المتزوجات الحرائر اذا وقعن في الزنا، ( فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما علي المحصنات من العذاب ) النساء 25.

وقد تكون الزانية زوجة مطلقة لا تزال في فترة العدة، ومن حق المطلقة في فترة العدة ان تظل في بيت الزوجية، ولكن تفقد هذا الحق اذا وقعت في الزنا، وحينئذ يكون من حق زوجها ان يطردها، ولكن بشرط ان تكون جريمة الزنا مثبتة حتي لا يتاح لزوجها ان يتجنى عليها بالباطل. يقول تعالي عن تلك الزوجة المطلقة (لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن الا ان يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله) الطلاق 1.

والقرآن يصف الفاحشة بأنها (فاحشة مبينة) أي مثبتة، ضمانا لعدم الافتراء بلا دليل.. وعقوبة الطرد هنا تضاف الي العقوبة الاخري، وهي مائة جلدة.

وهناك عقوبة اخري لتلك الزوجة المطلقة اذا وقعت في الزنا بعد اتمام الطلاق، وهي انه من حق الزوج ان يمنعها عن الزواج الي ان تدفع له بعض ما اعطاه لها في الصداق او المؤخر. والشرط ان تكون جريمة الزنا في حقها مثبتة بالدليل. يقول تعالي (يا ايها الذين امنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الا ان يأتين بفاحشة مبينة) النساء 19. والعضل هو منع المرأة من الزواج. والقرآن يحرم العضل الا في حالة المطلقة الزانية.. فيجعل من حق الزوج ان يمنعها من الزواج الا بعد ان تعيد له بعض ما دفعه اليها من مهر.

وفي كل الاحوال فالمرأة الزانية أي التي لا تتوب عن الزنا لا يتزوجها المؤمن، وتلك عقوبة اخرى اضافية. يقول الله تعالي (الزاني لا ينكح الا زانية او مشركة، والزانية لا ينكحها الا زانٍ او مشرك، وحُرّم ذلك علي المؤمنين)النور3.

وتأبى تفصيلات القرآن إلا ان تضع عقوبة للزنا في حالة استثنائية ومستبعدة، وهي افتراض وقوع نساء النبي أمهات المؤمنين في تلك الجريمة. وهنا تكون العقوبة مائتي جلدة في تلك الجريمة، أي ضعف ما علي النساء الحرائر، وفي المقابل فلهن في عمل الصالحات ضعف ما علي المحسنات. يقول تعالي (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين، وكان ذلك علي الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقا كريما) الاحزاب 30، 31.

ولأن العقوبة هنا مضاعفة فلا بد من كون الجريمة مثبتة، او بالتعبير القرآني (من يأت منكن بفاحشة مبينة) فالأمر هنا يخص نساء النبي أمهات المؤمنين، وهو امر فظيع هائل لا بد من التثبت فيه.

والتشريع القرآني المحكم يصف عقوبة الزنا –التي هي الجلد– بأنها ( عذاب )، والعذاب يعني ان يظل الجاني حيا بعده لا يموت بسببه. وبتعبير آخر، لا محل هنا لعقوبة الرجم التي تعني الموت.
والقرآن حين تحدث عن عقوبة الزنا قال (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) ، لم يقل الزاني المحصن والزانية المحصنة او غير المحصنة، وانما جاء بالوصف مطلقا (الزانية والزاني) وقدم الزانية علي الزاني لأن المرأة هي العامل الاكثر تأثيرا في تلك الجريمة. بينما قال عن السرقة (والسارق والسارقة فاقطعوا) لأن الرجل هو الاساس والعنصر الغالب في جريمة السرقة.

والمهم ان عقوبة الزنا مطلقا هي الجلد لا الرجم (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) اذن فالجلد هو العذاب.

وفي حالة الجارية التي تزني بعد زواجها قال تعالي: ( فاذا أحصنّ فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما علي المحصنات من عذاب) أي خمسون جلدة. أي انه وصف عقوبة الجلد للجارية بأنها عذاب.. والقائلون بأن التي تتحصن بالزواج ثم تزني تعاقب بالرجم كيف يفعلون مع قوله تعالي (فعليهن نصف ما علي المحصنات من العذاب) هل يمكن تنصيف الرجم؟ وهل هناك نصف موت؟

وفي حالة نساء النبي يقول التشريع القرآني (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين). فوصف عقوبة لجلد بأنه ( عذاب ) قدره مائتا جلدة. والقائلون بأن عقوبة المتزوجة هي الرجم، كيف يحكمون بمضاعفة الرجم لنفس الشخص؟ وهل يموت الشخص مرتين؟ هل يقتلونه بالرجم مرتين؟

والرجل اذا عجز عن اثبات حالة التلبس بالزنا علي زوجته ولم يستطيع احضار الشهود فيمكن ان يشهد بنفسه امام القاضي انها زانية اربع مرات، ويؤكد شهادته الخامسة بأن يستجلب لعنة الله عليه ان كان كاذبا، وتلك حالة اللعان. ويمكن للزوجة المتهمة ان تدفع عن نفسها عذاب الجلد بأن تشهد اربع شهادات بالله بأن زوجها كاذب في اتهامها، ثم تؤكد في شهادتها الخامسة بان تستجلب غضب الله عليها ان كان زوجها صادقا في اتهامه لها. يقول الله تعالي (والذين يرمون ازواجهم ولم يكن لهم شهداء الا انفسهم فشهادة احدهم اربع شهادات بالله انه لمن الصادقين، والخامسة ان لعنت الله عليه ان كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد اربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين، والخامسة ان غضب الله عليها ان كان من الصادقين) النور 6 : 9.

ويهمنا هنا ان الله تعالي وصف عقوبة الزنا بأنها عذاب. فقال (ويدرأ عنها العذاب) وهو نفس الوصف الذي سبق لعقوبة الجلد.. اذن عقوبة الزنية المتزوجة هي الجلد وليس الرجم.

ثم ان تشريعات القرآن في الآيات السابقة تعامل المرأة الزانية علي انها تظل حية بعد اتهامها بالزنا واقامة عقوبة الجلد عليها، وكذلك الزاني. فالقرآن الكريم يحرّم تزويج الزاني او تزويج الزانية من الشرفاء. فلا يصح لمؤمن شريف ان يتزوج زانية مدمنة للزنا، ولا يصح لمؤمنة شريفة ان تتزوج رجلا مدمنا علي الزنا (الزاني لا ينكح الا زانية او مشركة والزانية لا ينكحها الا زان او مشرك وحرم ذلك علي المؤمنين) النور : 3. ولو كان مصير الزاني او الزانية هو الرجم موتا لما كان هناك تفصيل في تشريعات حياته طالما هو محكوم عليه بالموت. ونفس الحال في إضافة عقوبات للمطلقة الزانية باخراجها من البيت ومنعها عن الزواج حتي تدفع بعض المهر، واذا كان هناك عقوبة الرجم علي تلك الزانية المحصنة لما كان هناك داع لتشريع يمنعها من الزواج ثانية، أو يسمح بطردها من البيت في فترة العدة.

وأكثر من ذلك ..

فالله تعالي يتوعد الزناة بمضاعفة العذاب والخلود فيه يوم القيامة اذا ماتوا علي اصرارهم علي الزنا، الا من تاب وآمن وعمل صالحا، فاولئك يبدل الله تعالي سيئاتهم حسنات ( يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) الفرقان : 69 ، 70. فاذا كان مصير الزاني هو الرجم فلن تكون له فرصة للتوبة والايمان والعمل الصالح الذي تتبدل به سيئات الزنا الي حسنات. بحيث تخفي عنه صفة الزاني ليحل محلها وصف الصالح عند الله تعالي … ذلك ان الزاني صفة وكذلك الزانية، وهذه الصفة تلحق بمن اشتهر بالزنا ولم يستطيع الاقلاع عنه. فأن اقلع عنه وتاب سقطت عنه تلك الصفة ولحقت به صفة اخري هي التائب أو الصالح، وذلك عند الله تعالي.

ومع هذا البيان الواضح في تشريعات القرآن، فان احاديث الرجم والانشغال بها اضاعت تشريعات القرآن فيما يخص تفصيلات العقوبة في الزنا، او بتعبيرهم "نسختها" وابطلت حكمها. ومع ان عقوبة الرجم لم ترد في القرآن ومع ان العقوبة الواردة في جريمة الزنا تؤكد علي الجلد فقطن الا ان اقتناع المسلمين بأكذوبة الرجم جعلته الاساس التشريعي السائد حتي الان في كتب التراث وفي تطبيق الشريعة لدي بعض الدول ( الاسلامية ). ويكفينا في التدليل علي عمق التأثر بذلك التشريع المخالف للقرآن ان القارئ لنا الآن يدهش اشد الدهشة حين يكتشف ان الرجم ليس من تشريع القرآن والاسلام.. ويكفينا في عمق التأثر بذلك التشريع المخالف للقرآن انه علي اساسه قتل الالاف رجما و ربما سيقتل مثلهم في المستقبل، وذلك بحكم ما انزل الله تعالي به من سلطان، ويقول تعالي ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ) الانعام 151، الاسراء 33. ويقول (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما) الفرقان 68. فلا يجوز قتل النفس الاسلامية الا بالقصاص فقط وهذا هو الحق القرآني..

ان من اعظم الحرمات حرمة النفس البشرية وحقها في الحياة.. ومن اعظم الجرائم ان تقتل تلك النفس الزكية بغير حكم انزله الله تعالي الذي حلق النفس والذي انزل الشرع.

واعظم الجرائم علي الاطلاق ان تفتري تشريعا بقتل النفس الزكية، ثم تنسبه الي الله تعالي ورسوله
( فمن اظلم ممن افتري علي الله كذبا او كذب بآياته انه لا يفلح المجرمون، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل اتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض، سبحانه وتعالي عما يشركون) يونس 17. وحقا ما افظع الافتراء علي الله تعالي ورسوله في التشريع في الحدود التي يقتلون فيها البشر خارج القصاص وفي العقائد ( اتخاذ شفعاء من دون الله، مع ان الله وحده هو الشفيع وهو الولي وهو النصير) .
الإسناد في الحديث ـ (الحلقة الأولى)

في عصر الخليفة المأمون كان الشاعرالعتابي يسير في شوارع بغداد، فدخل السوق وهو يأكل الطعام، وكان ذلك يخالف المروءة أو"الإتيكيت" لدى أرباب الطبقة العليا، ولذلك احتج عليه صديقه قائلا "أتأكل الطعام في السوق ويراك الناس؟" فقال له العتابي ساخرا: "وهل أولئك ناس؟ إنهم بقر"، فاحتج صديق العتابي وزمجر، فقال له العتابي: "سأريك إن كانوا ناسا أم بقرا". ثم صعد إلى الربوة ونادى في الناس "يا قوم هلموا أحدثكم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم )، فتدافع إليه الناس واجتمعوا حوله، واقبل يحدثهم يقول: روى فلان عن فلان عن فلان أن رسول الله.(صلى الله عليه وسلم) قال. وظل يخرج من حديث إلى أخر وقد تعلقت به العقول والقلوب والعيون، وسيطر على المستمعين، إذا حرك يده يمينا تحركت رؤوسهم يمينا، واذا أومأ برأسه يسارا التفتوا يسارا، إلى أن قال لهم ...وروى غير واحد (اى أكثر من واحد) أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ لسان احدكم ارنبة انفه دخل الجنة)) وسكت...فإذا بكل واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول أن يصل به إلى ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍانفه، وأصبح منظرهم جميعا مضحكا، فالتفت العتابي إلى صديقه ساخرا وقال: ألم اقل لك إنهم بقر؟

ما الذي جعل عقول أولئك الناس تغيب حتى تتدلى ألسنتهم وهم سكارى غائبون عن الوعي؟ انه التصديق، التصديق والإيمان بأن ما يقوله العتابي قد قاله النبي (صلى الله عليه وسلم) فعلا. وما الذي جعلهم يؤمنون ويصدقون بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد قال ذلك الكلام...انه الإسناد أي أسند أو نسب ذلك الكلام للنبي (صلى الله عليه وسلم) عبر العنعنة أي قال حدثني فلان عن فلان عن فلان...الخ.. إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال. وهذا معنى الإسناد، وهذه هي خطورته على العقل.

تغييب العقل
حسنا...دعنا نتخيل أن العتابي يسير الآن في الشوارع القاهرة ويركب المواصلات. ويرى شيخا يصعد الاتوبيس يدعو المسلمين للتبرع لإنشاء المسجد الفلاني ويستشهد بحديث ((من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصرا في الجنة)) ويرى العتابي كيف يسارع الناس الطيبون بالتبرع حتى يضمن كل منهم لنفسه قصرا في الجنة! هل تريد أن تتوقع تعليق العتابي؟ إذن استحضر عقلك ولا تعطه إجازة، وتفكر في معنى ذلك الحديث المنسوب كذبا للنبي عليه الصلاة والسلام..انه يؤكد على أن كل من بنى لله مسجدا بنى الله تعالى له قصرا في الجنة، مهما كان الشخص مؤمنا أو كافرا، ومهما كان مصدر المال طيبا أو خبيثا، يعنى أن السيد هتلر من حقه أن يكون له قصور في الجنة إذا بنى بضعة مساجد، ويعنى أيضا أن كل مختلس وظالم وناهب لأموال الناس يستطيع إذا بنى ببعض أمواله الحرام مسجدا أن يدخل الجنة. هل يتفق ذلك مع تشريع الإسلام؟

ثم إن الحديث الذي يبيع قصور الجنة لكل من يتبرع ببناء مسجد يحدد لنا منذ البداية اقل مساحة مقبولة للمسجد، يقول ((من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطشاة)) أي يكون مساحة المسجد كقدر ما تتحرك به ساق القطاة حين تفحص بساقيها الأرض. والقطاة هي طائر صغيرة الحجم اقل من العصفور الصغير.. إنها في الحدود 5 سم2، أي من بنى لله مسجدا ولو كانت مساحته 5 سم2 بنى الله له قصرا في الجنة حتى لو كان من مال حرام، مهما كانت شخصية ذلك المتبرع ، وحتى إذا كان ذلك المسجد 5 سم2 لا يستطيع دخوله إلا النمل والصراصير الوليدة....هل يعقل أن يتكلم النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا الكلام؟!!
ولكن ذلك الحديث تم إسناده أو تمت نسبته للنبي عليه الصلاة والسلام، ورواه ابن ماجه في "مسنده" عن فلان عن فلان. وآمن الناس بصحة ذلك الإسناد. ومن هنا فان ذلك الحديث الكاذب هو المسئول عن إقامة 38 ألف مسجد وزاوية في القاهرة الكبرى في العشرين سنة الماضية، وكلها تنشر ثقافة التطرف عبر أحاديث مسندة أو منسوبة للنبي (صلى الله عليه وسلم) زورا، وهى تخالف القرآن والسنة الصحيحة للنبي عليه الصلاة والسلام، وبدلا أن تتوجه لبناء مساكن للشباب والعائلات التي تسكن المقابر، فأنها توجهت لبناء مساجد إيديولوجية، تزيد عن حاجة المسلمين الذين يستطيعون الصلاة في كل مكان، ومع العلم بأن حق ابن السبيل في تشريع الإسلام ثابت في الزكاة الرسمية والصدقة التطوعية والفيء والغنيمة، ولا يصح إلالتفات لرعاية أبناء السبيل من الأغراب إلا بعد ضمان المسكن والطعام لأبناء البلد، فكيف إذا كان أبناء البلد أنفسهم لا يجدون السكن بحيث ضاعت أحلام الشباب في الزواج وأصبحت العنوسة أزمة مستفحلة.. ومع ذلك تفاقمت تلك المشكلة لان أموال الصدقات استنفذها أرباب الصحوة السلفية في بناء عشرات الألوف من المنابر التي تؤسس لدولتهم القادمة! ومن دعائم تلك الدولة ثقافة التراث للعصور الوسطى، تلك الثقافة التي أصبحت مقدسة عبر الإسناد، أو عن طريق نسبتها زورا للنبي عليه الصلاة والسلام... مهما خالفت العقل والإسلام.

إن الإسلام الصحيح هو دين العقل، بل أن "التعقل" أو استعمال العقل هو سبب إنزال القرآن (يوسف 2، الزخرف3 ) ولكن الإسناد أوجد خصومة مستحكمة بين المسلمين والتعقل، بحيث يكفى أن يصعد أي محتال ليقول ((قال رسول الله)) فيسارع الناس بتصديقه ويمتثلون لما يقول دون أي تفكير، لا فارق في ذلك بين مثقف أو عامي، وسواء كان ذلك في المسجد أو في وسائل الإعلام أو وسائل المواصلات... أي في كل زمان ومكان أنت محاصر بالإسناد.

الإسناد قضية علمية
ومنذ عشر سنوات تقريبا جاءني صديق منزعج، قال أنه فوجئ ببلدته بالصعيد وقد سيطر عليها الشباب السلفي وأعادوها لما كان عليه السلف، ومن ذلك أنهم أوجبوا على العريس ليلة الدخلة أن يحمل عروسه إلى بيته وهى داخل زكيبة أو شوال، لان ذلك ما جاء في السنة والأحاديث. فقلت لهم أنهم قرأوا خطأ ذلك الحديث القائل بأنهم كانوا يدخلون بالنساء في شهر شوال، وكانت نكتة هائلة، وعاد صديقي إلى أهل بلدته وقرأ لهم الحديث بالتشكيل الصحيح، وأنقذ بذلك بنات القرية من تجربة التعبئة في الاشوال والزكائب....إلا أن مشكلته معي لم تنته.

لان صديقي أصبح يعتقد بوجوب أن يتم الزفاف في شهر شوال، دون غيره من الأشهر، طالما أن إسناد الحديث صحيح للنبي (صلى الله عليه وسلم) حسب اعتقاده. وسئمت من النقاش معه في موضوع الإسناد، فقلت له أخيرا: إذن أنت تؤمن بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال ذلك الحديث فعلا؟ فقال في ثبات: نعم، قلت له: وهل تقسم بالطلاق من زوجتك أن النبي قال ذلك؟ عندها بهت وسكت ولم يرفع رأسه...قلت نعم. لو قرأت عليك سورة ((قل هو الله احد)) وطلبت منك أن تقسم بالطلاق إن الله تعالى قال ذلك وأنها من القرآن، هل ستفعل ؟ قال نعم .. قلت هذا هو الفرق بين القرآن وأحاديث التراث. لا
إذا جاء احد بآية قٌرآنية فلن تطالبه ببرهان أو إسناد طالما تؤمن بالقرآن، أما إذا قيل لك حديث منسوب للنبي (صلى الله عليه وسلم ) فات من حقك ـ بل من واجبك ـ أن تسأل عن إسناده أو عن دليل نسبته للنبي (صلى الله عليه وسلم)، فالقرآن قائم على أساس الإيمان، اما الحديث المنسوب للنبي فهو قائم على الشك. ولعلاج هذا الشك اخترعوا الإسناد، أي أن ذلك الحديث رواه فلان عن فلان...الخ حتى النبي لإثبات أن النبي قال ذلك الحديث، إذا كان الإسناد صحيحا، أو لم يقله إذا كان الإسناد ضعيفا، وفى عصرنا لم يعد أحد يهتم إذا كان الإسناد صحيحا أو ضعيفا، فيكفى أن يقال قال رسول الله (ليصدق الناس فورا أن النبي قال فعلا هذا الكلام). ونرجع للإسناد الذي يؤكد أن الحديث مثل جدار يريد أن ينقض ويقع فيقوم ((الإسناد)) بإسناده حتى لا يسقط ولا ينهار... فالقرآن قضية إيمانية أما الحديث فليس قضية إيمانية، وإنما هو قضية علمية عندهم ، تدخل في باب البحث والاجتهاد وليس في قضايا العقيدة واليقين، ولذلك اختلف علماء الجرح والتعديل في مدح راو أو تجريحه، وفى اثبات حديث ما أو نفيه، فالإمام مسلم في صحيحه لم يكتف بما قاله البخاري أستاذه ولم يأخذ بكل أحاديثه ولم يترك ما تركه البخاري من أحاديث ، فجاء صحيح مسلم مختلفا عن صحيح البخاري ، ثم جاء الحاكم فأستدرك على البخاري ومسلم ، وقبلهم جميعا كان احمد بن حنبل مختلفا في مسنده ثم جاء المتأخرون أكثر اختلافا. ولأنها قضية علمية عندهم تقوم على الاختلاف في وجهات النظر فان أحدا لم يحكم بتكفير أحد...إذ هي أمور ظنية بحثية إنسانية وليست أمور العقيدة والدين.... أما القرآن فهو محل الإيمان والتصديق لكل مسلم، ولذلك فان الله تعالى يؤكد في آيتين أن الحديث الوحيد الذي ينبغي أن نؤمن به وحده هو حديث الله تعالى في القرآن الكريم ((فبأي حديث بعده يؤمنون: الاعراف185، المرسلات50 )) بل أكثر من ذلك يجعل الله تعالى الإيمان به وحده إلهاً لا شريك له قرينا بالإيمان بحديث في القرآن وحده، يقول تعالى ((تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون، ويل لكل افاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كان لم يسمعها فبشره بعذاب اليم:الجاثية 8:6 )).
وفى الوصية الأخيرة من الوصايا العشر في القرآن الكريم يقول تعالى عن القرآن((وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبيل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون:الانعام153 ))
فالقرآن أتى من الله تعالى طريقا مستقيما لنتبعه وحده، ولا نتبع الطريق والسبل الأخرى حتى لا نقع في الاختلاف، وفى هذه الآية الكريمة تأكيد على أن القرآن هو المصدر الوحيد للإسلام، فالطريق المستقيم لا يكون إلا واحدا وحيدا، وحيث أن الخط المستقيم لا يتعدد فهو أقصر الطرق التي توصل بين نقطتين. أما الطرق الأخرى فتقوم على الإختلاف والظن والريب، ومن المعلوم أن الروايات والأسانيد لها طرق وسبل متفرقة.ويؤكد علماء الحديث أنها كلها ظنية، أو كما يقول الله تعالى عن القرآن وغيره من الطرق والسبل((وان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله أن يتبعون إلا الظن وان هم إلا يخرصون: الأنعام 116 )) وهذا خطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم ) نفسه أنه إذا أطاع أكثرية البشر أضلوه عن القرآن وأبعدوه عنه حيث يتبعون الظن والأوهام . وهكذا فان النبي (صلى الله عليه وسلم)يتبع القرآن وحده.وبذلك تتابعت الأوامر للنبي عليه السلام ولنا عن القرآن((كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به، وذكرى للمؤمنين ، اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء: الأعراف 2 : 3 )فهناك أمر ونهي، أمر باتباع القرآن ونهي عن اتباع غيره. حيث انه وحده الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحيث كان النبي متبعا للقرآن وحده، وحيث كان خلقه القرآن... وحيث سيتم حساب البشر جميعا يوم القيامة ـومنهم الأنبياء ـ على أساس الكتب السماوية وحدها. والكتاب السماوي واحد في أساسياته، مهما اختلفت اللغات والظروف.وليس في أي كتاب سماوي ما كان يعرف بالإسناد، وإنما هو كلام الحق تعالى، إن شئت آمنت به وان شئت لم تؤمن، وحسابك عند ربك يوم القيامة.

الإسناد يناقض المنهج العلمي
إن الإسناد قضية علمية تتراوح بين الشك والاثبات وليست قضية إيمانية، ومع ذلك فان الإسناد يناقض المنهج العلمي والتعقل المنطقي.
إن البخاري مثلا عاش في القرن الثالث عشرا الهجري ومات سنة 256 هـ. أي بينه وبين النبي عليه السلام قرنان ونصف قرن من الزمان.وإذا اعتبرنا الجيل أربعين عاما فان بينه وبين البخاري ستة أجيال.( لاحظ أن بيننا وبين عصر محمد على أربعة أجيال فقط).فكيف يستقيم في المنهج العلمي أن تتداول ستة أجيال كلمة ما منسوبة للنبي عبر الروايات الشفهية حتى يأتي من يسجلها بعد النبي بمائتين وخمسين عاما؟ ولنأخذ على ذلك مثلا من أحاديث البخاري...ونناقشه من حيث الإسناد ومن حيث المتن والموضوع.
ونختار من أحاديث البخاري أهونها على عقلية القارئ التي عاشت على تقديس البخاري بسبب إسناد أحاديثه للنبي (صلى الله عليه وسلم ).

تحت عنوان ((باب مباشرة الحائض)) أورد البخاري أحاديث تؤكد أن النبي عليه السلام كان يباشر نساءه جنسيا أثناء المحيض، ونختار منها هذا الحديث بإسناده ((حدثنا إسماعيل بن خليل قال اخبرنا عن بن مسهر، قال اخبرنا أبو إسحاق هو الشيبانى عن عبد الرحمن بن إلا سود، عن أبيه عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله (ص) أن يباشرها أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها، قالت: وايكم يملك إربه كما كان النبي (ص) يملك إربه )) (صحيح بخاري بحاشية السندي مكتبة زهران مجلد 1 الجزء الأول ص64 )

والحديث السابق ينقسم إلى جزئين السند والمتن:
فالسند هو سلسلة الرواة الذين عن طريقهم تم إسناد الحديث إلى النبي (صلى الله عليه وسلم )، وهم ستة: إسماعيل بن خليل الذي حدث البخاري بهذا الحديث وكان في جيل أستاذه البخاري. وقد ذكر أن الذي حدثه بهذا الحديث على بن مسهر الذي لم يره البخاري وعاش في القرن الثاني، وهكذا تمتد السلسلة إلى أبى اسحق أو الشيبانى، ثم إلى عبد الرحمن الأسود، ثم إلى أبيه، ثم إلى عائشة أم المؤمنين، التي زعموا أنها قالت متن الحديث ونصه. وأولئك الرواة تسلسلوا عبر الزمن، والبخاري لم ير منهم إلا واحدا هو الذي ادعى انه حدثه بذلك الحديث. والرواة الماضون الذين عاشوا في أزمنة متعاقبة لا يوجد دليل على أنهم رووا ذلك الكلام، ويستحيل عقلا بالمنهج العلمي اثبات صدقهم في نقل تلك الرواية شفهيا عبر قرنين ونصف قرن من الزمان الملئ بالفتن والاضطرابات، وعبر ستة أجيال اختلفت ظروفهم . وحتى لو تخيلنا أنهم جميعا عاشوا في نفس الزمن ونفس الجيل فان احتمال الكذب والنسيان والاضطراب وارد في النقل الشفهي لتلك الرواية عبر ستة أشخاص خلال أربعين عاما، بل خلال أربعين يوما بل ربما خلال أربعين ساعة.وهذا واقع في الحياة العملية حين نتداول قصة حدثت في يوم وليلة، فيلحقها التغيير والتبديل، طالما رواها أكثر من راو، وكل منهم يضفى عليها من عنده بحيث تختلف عن الأصل، فكيف بمئات الألوف من الأحاديث أسندوها للنبى (صلى الله عليه وسلم )بعد موته بقرون ؟
وحقائق التاريخ في العلم المسمى بعلم الحديث تؤكد أن اختراع الإسناد تم في القرن الثاني الهجري، حيث تكاثرت الروايات الشفهية وتكاثر الكذب فيها، فاشترطوا إسنادها عبر رواة سابقين كانوا ماتوا فيما بين منتصف القرن الثاني إلى عصر النبي (صلى الله عليه وسلم )، أولئك الرواة المذكورون الموتى لم يكن لهم علم بذلك الذي أسندوه إليهم من روايات.وعليه فقد تبارى العلماء في عصر التدوين، في بداية عصر المأمون في تسجيل أسماء رواة كيفما اتفق. وهذا ما تواصلنا إليه خلال أبحاث متخصصة، ثم وقعوا في النزاع والاختلاف في تعديل ذلك الراوي أو تجريحه، تبعا للاختلاف المذهبي والهوى الشخصي، وقد تأسس علم الحديث والجرح والتعديل على أساس الاختلافات الفقهية والعقيدية والفكرية بين المسلمين في العصر العباسي وما تلاه.
ونعود إلى البخاري في باب ((مباشرة الحائض ))ونقرر أن متن هذا الحديث قد تكرر في عدة أحاديث أخرى، تنسب للنبى (صلى الله عليه وسلم ) انه كان يباشر نساءه في المحيض، وكلها أحاديث كاذبة لأنها تنسب للنبي عليه السلام انه يخالف القرآن، إذ يقول تعالى: ((يسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين:البقر 222 )) أي أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وسلم ) عن المحيض، وانتظر النبي (صلى الله عليه وسلم) الإجابة من السماء فنزلت الآية تؤكد على اعتزال النساء جنسيا في المحيض وعدم الاقتراب منهن بعد حتى يطهرن، ثم يبيح الاقتراب منهن بعد الطهر.
وهنا تناقض جلي بين الآية الكريمة وحديث البخاري بحيث انك إذا آمنت بالقرآن فعليك بتكذيب البخاري، أما إذا آمنت بحديث البخاري فأنت بالتالي تكذب بالقرآن، ومن هنا كان تأكيد الله تعالى في القرآن على الإيمان بحديث القرآن وحده، وما عداه ليس محلا للإيمان، وإنما هو قضية علمية قائمة على الشك، والحقائق فيها نسبية وليست مطلقة مثل حقائق الإيمان، وبالتالي فان تصديق الإسناد هو الذي يجعلها قضية إيمانية بالتزوير.
وعموما فان علم ((الجرح والتعديل))انصب أساسا على فحص الإسناد أو سلسلة الرواة، دون اهتمام يذكر بفحص المتن أو موضوع الحديث نفسه، وقام فحص الإسناد على أساس الهوى المذهبي والشخصي فلم يحدث إطلاقا أن اتفقوا على أن ذلك الراوي ثقة أو انه ضعيف، لان من يمتدحه أهل السنة يهاجمه الشيعة وهكذا بين سائر الطوائف والفرق، ونتج عن ذلك الاختلاف في الحكم على كل راو في سلسلة الإسناد أن صارت الأحكام نسبية حتى داخل كل فرقة أو مذهب، وبالتالي قسموا الأحاديث حسب درجتها من الثقة والصحة إلى قسمين كبيرين.
(1 )الأول الحديث المتواتر وهو صحيح بدرجة مائة في المائة، وقد اختلفوا فيه، فقال بعضهم انه لا يوجد أصلا حديث متواتر مقطوع بصدقه، وقال بعضهم انه يوجد حديث متواتر واحد وهو حديث ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ))وقال بعضهم انه حديث متواتر ولكنه يخلو من كلمة متعمدا.ورأى بعضهم أن الحديث المتواتر ثلاثة فقط، وارتفع بعضهم بالأحاديث المتواترة إلى خمسة أو سبعة.
(2 ) أما القسم الثاني ماليقين،يث فهي الأحاديث الآحاد وقد قالوا بأن كل الأحاديث المذكورة في كتب الأسانيد (السند) هي أحاديث آحاد، اى رواها واحد عن واحد.وهى تفيد الظن ولا تفيد اليقين، وذلك لا يكون إلا في آيات القرآن.وقالوا أن أحاديث الآحاد يمكن العمل بها إذا ترجح صدقها أو إذا اتفقت مع أية قرآنية.
ونعود إلى الإسناد في أحاديث الآحاد وقد قسموا أحاديث الآحاد (وهى كل الأحاديث في رأينا ) إلى درجات من حيث الصحة من حسن وغريب وضعيف الخ...وهو بلا شك تقسيم مضحك لأنه يعنى بالنسبة للسند للنبي (صلى الله عليه وسلم)قال هذا الحديث بنسبة 70 % أو قال ذلك الحديث بنسبة 50 %أو 10 % وذلك لا يستقيم مع المنهج العلمي، لأنه أما أن يكون النبي (صلى الله عليه وسلم)قد قال ذلك الكلام، فتكون نسبة إسناده للنبي (صلى الله عليه وسلم)هي 100 %، وإما أن يكون النبي لم يقل هذا الحديث فتكون نسبة إسناده للنبي (صلى الله عليه وسلم)هي صفر في المائة، ولا توسط بين هذا وذاك.وبالتالي فان المنهج العلمي يستحيل معه إسناد ذلك الكلام للنبي بعد ستة أجيال من الروايات الشفهية، وبعد أن تم اختراع تلك الرسائل من الرواة بعد موت أصحابها بعشرات السنين، والمنهج القرآني يتفق مع المنهج العلمي في ذلك.

الإسناد يناقض المنهج القرآني
ان إسناد قول ما للنبي (صلى الله عليه وسلم) يعنى تحويل ذلك القول أو الحديث أو الخبر إلى حقيقة دينية يكون المسلم مطالبا بالإيمان بها والعمل وفقا لأحكامها.وهذا لا يتأتى إلا للقرآن وحده، فالقرآن كتاب محفوظ بقدرة الله تعالى له بداية وله نهاية، ينقسم إلى 114 سورة، وكل سورة تضم آيات محددة مرقمة والله تعالى يقول للمشركين عن القرآن ((وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله:البقرة 23 )) وبغض النظر عن موضوع الآية وهو تحدى المشركين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن فان الآية تؤكد ان ما نزل على النبي هي آيات القرآن الكريم فقط، وليس هناك في الإسلام حديث إلا حديث الله تعالى في القرآن.أما تلك الأحاديث التراثيةالواحد،ا فلا أول لها ولا آخر.وهى تتناقض حتى في الكتاب الواحد، وربما في الصفحة الواحدة.
ان إسناد قول ما للنبي (صلى الله عليه وسلم ) وجعله حقيقة دينية هو اتهام للنبي (صلى الله عليه وسلم )بأنه فرط في تبليغ الرسالة، ولم يبلغ بنفسه تلك الأحاديث المنسوبة إليه، ولم يقم بتدوينها وكتابتها كما حدث مع القرآن.لأن تلك الأحاديث لو كانت جزءا من الدين ولم يبلغه الرسول للناس ولم يقم بتدوينه فان النبي (صلى الله عليه وسلم)ـ على ذلك ـلم يبلغ كل الرسالة، وانه ترك جزءا منها يتناقله الناس ويختلفون فيه إلى ان تم تدوينه بعد النبي بقرون ولا يزالون يختلفون فيه.
إلا إننا نؤمن ان النبي عليه السلام قام بتبليغ الرسالة كاملة وهى القرآن ولم يكتم منه شيئا ونزل قوله تعالى يزكى النبي ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا :المائدة3 )) فاكتمل الإسلام باكتمال القرآن ، بل ومات النبي(صلى الله عليه وسلم )بعدها مباشرة، وتروى الأسانيد والأحاديث نفسها ان النبي (صلى الله عليه وسلم)نهى عن كتابة اى شئ غير القرآن ، وان ابا بكر وعمر وعثمان وعليا قد نهوا عن رواية وكتابة اى حديث منسوب للنبي، ولذلك امتنع تدوين ما نسب للنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ان جاءت الدولة العباسية وعصور الفتن والإضطراب المذهبى فتم تدوين أحاديث نسبوها للنبي (صلى الله عليه وسلم) عبر ذلك الإسناد ، وهى تحمل كل معالم التناقض مع القرآن وعصر النبي عليه السلام، إلا ان ذلك الإسناد اعطى لها قدسية وحصنها من النقد والنقاش فعاشت حتى الان بيننا تنشر بيننا التطرف والتخلف وكل مايسئ للإسلام العظيم.

وعليه فان الخروج من هذا المأزق يحتم الغاء ذلك الإسناد، اى قطع الصلة بين تلك الأحاديث والنبى عليه السلام، رحمة بالاسلام وتماشيا مع المنطق والمنهج العقلى والعلمى ثم ننظر إلى متن الحديث وموضوعه في ضوء انه ثقافة تعبر عن العصور التي تم تدوينها فيها .ثم نبحثها من خلال ثقافة عصرها تاريخيا وحضاريا بما فيها من خطأ أو صواب ، اى تصبح تراثا معدوم التقديس ، كأى تراث بشرى تنعكس عليه احوال البشر من ارتفاع وهبوط وصلاح وفساد. واذا نظرنا للبخارى مثلا بهذا المقياس فقط انصفنا الإسلام ورسول الله عليه السلام ، والا كنا في عداد اعداء النبي (صلى الله عليه وسلم )الذين سيتبرأ منهم يوم القيامة (الانعام112 :116/الفرقان.30 :31 ). نقول هذا عن علم ودراسة بما يحتويه البخاري من أحاديث تطعن في النبي والإسلام، وظلت محصنة من النقد بسبب حماية الإسناد وما اضفاه على البخاري من تقديس ورهبة.
الإسناد في الحديث ـ (الحلقة الثانية)

الإسناد يناقض مفهوم الشهادة
وقف المتهم بالقتل في قفص الاتهام ونودى على الشاهد الأول، سأله القاضى : هل اعترف امامك المتهم بالجريمة ؟ فقال الشاهد :لم اسمعه بأذنى ، وإنما اخبرنى باعترافه اخى.عندها اسقط القاضى شهادته واستدعى اخاه فقال: لم اسمع اعترافه بنفسى وإنما روى لى هذا الاعتراف ابي ، فأسقط القاضى شهادته واستدعى اباه ، فقال الاب :لم اسمع اعترافه ولكن روى الاعتراف لى أبى الذي مات امس. ومن الطبيعى ان يطلق القاضى سراح المتهم ويطرد الشهود لانهم ليسوا شهودا .حيث ان
الشهادة تكون بالسماع الشخصي المباشر والرؤية العيانية المباشرة ....

هذه بالطبع قصة رمزية تؤكد على ان الإسناد عبر اقاويل سماعية خلال عصور متباينة ليس لها أساس ولا يأخذ بها اى نظام قضائى، فالبخارى لم يعش عصر النبي (صلى الله عليه وسلم )وكذلك الرواة الذين سبقوه ، والصحابة الذين عاشوا عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) انشغلوا بالفتوحات والفتن والمنازعات عن كل ما نسبوه إليهم ، وحتى لو رووا أحاديث فمن اين لنا ان نتأكد مما قالوه ، وليس بيننا شاهد عاش من عصرهم وبقى حيا قرنين من الزمان ، ثم كتب بنفسه ما سمع بأذنبه وما شاهد بعينيه؟ وحتى لو فعل ذلك فأن من حقنا ان نتشكك فيما قال بسبب الشيخوخة وضعف الذاكرة ((ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكى لايعلم من بعد علم شيئا:الحج5 ))

ان الإسناد عبر أجيال من الموتى يناقض الشهادة القانونية ، وبالتالي فانه من الظلم للإسلام ان تقوم تشريعاته ـوهى اصل القوانين ـ على شهادات زائفة مشكوك في صدقها .ولهذا فان التقديس الحقيقى للشريعة ان تقتصر على الكتاب الحكيم ، الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إن سنة النبي هي في تطبيق القرآن وفق ظروف عصره .

وبالمناسبة نرجع للقرآن في موضوع الإسناد والشهادة ونعطى منه ملمحين :
- فالشهادة في مفهوم القرآن هي الرؤية والسمع بالحواس، وبالمعاصرة والمعايشة ، وهى جزء اساسى من تشريع القرآن .وفى الشهادة على الديون يوجب القرآن تدوين الشهادة حتى في ايسر المعاملات ((ولا تسأموا ان تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى اجله:البقر 282 )) فهل ينطبق تشريع الشهادة في القرآن واحكامه على إسناد شهادات منسوبة للنبي في التشريع وغيره عبر أجيال من الرواة الموتى عاشوا بين عصر النبي وعصر التدوين ، وهم لم يروا شيئا ولم يسمعوا شيئا؟

-ونقل القرآن الكريم في قصة وسورة يوسف اتهام شقيقه بالسرقة ، ان يوسف قد رتب اتهام اخيه الشقيق بالسرقة حتى يتسنى له ان يحتفظ به معه ، وكان اخوة يوسف في رحلتهم الثانية لمصر قد ضغطوا على ابيهم يعقوب كى يسمح لهم باصطحاب اخيهم معهم ، فلما احتجزه يوسف عزيز مصر بتهمة السرقة يئس الاخوة من استعادته فقال اخوهم الاكبر ((ارجعوا إلى ابيكم فقولوا يا ابانا ان ابنك سرق ، وما شهدنا إلا بما علمنا ، وما كنا للغيب حافظين:يوسف ـ81 ))اى ان اخاهم الأكبر يقول لهم ليشهدوا بما رأوه من ضبط المسرقات في وعاء اخيهم ، وما كانوا للغيب حافظين ....وهذه هي الشهادة من اناس عايشوا الحدث وشهدوا بما رأوه ، ومع المعايشة والحضور والشهود والمعاصرة فان هناك من الخفايا التي لايعلمونها .....فالشهادة في المفهوم القرآني ان تشهد بما رأيت وسمعت بنفسك مع الاقرار بأنك لاتعلم غير ما شهدت بنفسك ، وما خفي عنك لا يعلمه إلا علام الغيوب .واذا طبقنا مفهوم الشهادة هذا على الإسناد وضح لنا التناقض الهائل بين الشهادة التي ينبغي ان تقوم على الحق المرئى والمسموع من الشاهد المشاهد وبين الإسناد وهو كذب صريح ليس فيه شهادة أو شهود على الاطلاق ، اذ كيف يشهد الميت أو يحكى الحى على مالم يره ومالم يعش احداثه؟

موضوعات المسند
الإسناد هو سلسلة الرواة والعنعنة وقد عرضنا لها....أما المسند فهو موضوع الحديث من الحديث .والان نشير إلى موضوعات المسند أو ما جاء به الإسناد الينا من موضوعات تخالف القرآن والإسلام.

ان الأحاديث كلها تصب في ثلاثة موضوعات رئيسية، وهى ( 1 ) الغيبيات(2 ) التشريعيات (3 )إلاخلاقيات أو الترغيب والترهيب
في الغيبيات : اسندوا للنبي أحاديث يخبر فيها عن غيوب الماضى قبل عصره ، وعن غيوب المستقبل في الدنيا ، غيوب الاخرة من علامات الساعة ووقائع القيامة ، والحشر والشفاعة والعرض واحوال الجنة والنار .وكلها اكاذيب لان القرآن يؤكد على ان النبي عليه السلام لا يعلم الغيب ، ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسه السوء ، وانه عليه السلام لايدرى ما سيحدث له أو لغيره، وانه لا يعلم شيئا عن علامات الساعة أو علم الساعة ، وليس له ان يتحدث عن كل تلك الغيبات(الأنعام 50 ، الأعراف 187 ، 188 ، الاحقاف9 ، النازعات 5:42 ، الجن 27:25 مجرد امثلة ).

ويرتبط بالغيبيات ما نسبوه للنبي (صلى الله عليه وسلم) من أحاديث الشفاعة يوم القيامة، وهى تناقض القرآن الذي يجعل الشفاعة لله وحده تقوم بها الملائكة حين تقدم العمل الصالح للصالحين يوم الحساب، أما النبي نفسه فلا يملك لأحد نفعا أو ضرا(البقر 255، 354، 133، 48 ، طه109 :110 ، الأنبياء 26 :28 ، النجم 26، الزخرف86 ، ق21 ، الزمر19 ، لقمان34:33 ) ومع ذلك فان اكاذيب الشفاعة البشرية يوم القيامة قد جعلها الإسناد من المعلوم من الدين بالضرورة مع خطرها الشديد في تدهور اخلاق المسلمين.

وفى التشريعات:اسندوا للنبي (صلى الله عليه وسلم )انه كان يفتى في أمور التشريع ، وهذا يناقض حقيقة قرآنية اساسية وهى ان النبي (صلى الله عليه وسلم ) كان إذا سئل عن كل شئ كان ينتظر الاجابة من الوحى ، فينزل عليه الوحى (يسألونك عن كذا فقل لهم كذا ) ...ومن تدبر الموضوعات التي سئل فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) وانتظر الاجابة من السماء يتضح لنا انه كان يمكنه ان يجيب بنفسه من واقع معلوماته العامة ، مثل سؤاله عن الاهلة(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج:البقر 189 ) ومثل سؤاله عن موضوعات اليتيم، وقد تكررت آيات القرآن في الحض على رعاية اليتيم ، ومع ذلك كانوا يسألونه عن اليتيم ، إلا انه لم يبادر بالاجابة وانتظر الوحى فينزل الوحى يؤكد ما سبق قوله في رعاية اليتيم كقوله تعالي ( و يسالونك عن اليتامي قل اصلاح لهم خيرا و ان تخالطوهم فإخوانكم: البقرة 23).

وفي موضوع الظهار- وهو احد انواع الطلاق – اصرت امرأة علي ان يفتي لها النبي ( صلي الله عليه وسلم) و تعجلت الحكم ورفض النبي و انتظر نزول الوحي ونزل قوله تعالي (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الي الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير: المجادلة 1 ) فالمرأه تعجلت و اخدت تجادل النبي (ص) تطلب منه حكما فلما يئست منه اشتكت الي الله تعالي فنزل الحكم ، و هكذا كانو يستفتون النبي فلا يفتيهم ، و انما ينتظر حتي تنزل الفتوة وحيا من السماء ، كأن يقول تعالي ( ويستفتونك في النساء فالله يفتيكم فيهن : النساء 127 ) لم يقل (قل افتيكم ) بل ان الله تعالي هو الذي كان يفتي و يشرع (( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة : النساء 176).

بايجاز .. كانت مهمة النبي (صلي الله عليه وسلم ) مقتصرة علي التبليغ دون الافتاء، و حين كانوا يسألونه أو يستفتونه كان ينتظر الاجابة من الوحي حتي في الامور المعروفة لديه، وكانت سنته هي في تطبيق ما ينزل عليه وحي بإمكاناته البشرية وبامكانات عصره ، هذا ماكان في عصر النبي (صلي الله عليه وسلم ) وهذا ما يؤكد ان للإسلام مصدرا وحيدا هو القرآن. أما نحن فمن حقنا ان نجتهد في تطبيق تشريع القرآن وفق ظروف عصرنا و اجتهادنا يقبل الخطأ والصواب ونحن مسئولون عنه ، وبهذا يعلو الإسلام فوق الزمان و المكان محفوظا بتشريعه الي قيام الساعة وبعيدا عن اخطاءنا وخطايانا .. إلا ان الإسناد نسب للنبي تشريعات تخالف القران مثل الرجم و حد الرده والحسبة و جعل من حق الحاكم ان يمتلك الأرض و من عليها ... و بالاضافة الي اختراع الإسناد لتلك التشريعات المخالفة فان العصر العباسي اخترع مفهوما جديدا لالغاء التشريعات القرآنيه تحت دعوي النسخ . مع ان النسخ في القران واللغة العربية معناه الاثبات و الكتابة و ليس الحذف والالغاء ( راجع كتبنا عن : النسخ ، وحد الردة ، والحسبة ، و القرآن و كفي مصدرا للتشريع ).

وفى الاخلاقيات : نسبوا للنبي (صلى الله عليه وسلم)أحاديث في الترغيب والترهيب أفسدت اخلاق المسلمين اذ كانت ترتب الجزاء العظيم على مجرد كلمة أو قراءة سورة أو صلاة ركعتين ، وبمجرد ان يقول الانسان ذلك أو يفعله فقد ضمن الجنة مهما ارتكب من ذنوب وآثام ، وبالتالي فعليه ان يسعى في الأرض بالفساد ثم يضمن الجنة بمجرد ان يقول لااله إلا الله...وهذا يخالف منهج القرآن الاخلاقى الذي يجعل الجنة من نصيب الذين الذين امنوا وعملوا الصلحات ، اى حفلت حياتهم بالإيمان والعمل الصالح النافع وليس مجرد كلمة أو تبرع من مال حرام وسط حياة حافلة بالاثام .

وعن طريق أحاديث الغيبيات والتشريعات والاخلاقيات أقام الإسناد دينا جديدا مخالفا للقرآن واكسب ذلك الدين المخالف قدسية حين نسبه للنبي ، ومن اسف فإنه إذا تعارضت 150 أية قرآنية كلها تنفى شفاعة النبي مع حديث الشفاعة في البخاري فان الناس ينحازون للبخارى...اليس كذلك ؟

التراث المقدس وغير المقدس
ما سبق ينصب اساسا على التراث السنى الذي اسنده رواة السنة للنبي (صلى الله عليه وسلم )فأصبح ذلك التراث السنى دينا مقدسا .إلا ان الشيعة لهم ايضا تراثهم الذي أسندوه للنبي (صلى الله عليه وسلم)والى على وذريته واصحاب القداسة من الائمة .واصبح ذلك التراث ايضا دينا مقدسا ، يقف في موقع الخصومة للتراث السنى المقدس بسبب الخلاف السياسى العقدى والحركى .

ثم جاء التصوف ابنا للتشيع متخففا من طموحاته السياسية فأعرض عن السند ، ولم يهتم باختراع سلسلة الرواة .اذ يقوم التصوف في عقيدته على الاتحاد بالله وحلول الذات الالهية في نفس الشيخ الصوفى ، وحين تشرق انوار المعرفة الالهية في داخله ـ بزعمهم ـ ينطق بالعلم اللدنى ، وحينئذ فليست هناك حاجة للرواة لأنه جلس ـبزعمهم ـمع الله في الحضرة الالهية .ومن هنا كان الصوفى في العصر العباسي الثاني يقول" حدثنى قلبى عن ربى " وامتلأ كتاب" احياء علوم الدين "للغزالى بأقاصيص وأقاويل من هذه النوعية أو ان يقول "اوحى الله لبعض الصالحين "هذا بالاضافة إلى أحاديث نسبها للنبي (صلى الله عليه وسلم)بدون إسناد وقام العراقى في تخريجها باثبات انها "لا اصل لها "اى لم يذكرها غير الغزالى، أو بعبارة أخرى اخترعها الغزالى اختراعا . ثم اضاف الصوفية إلى ذلك المنامات، اى يزعم احدهم انه رأى النبي في المنام فقال له النبي كذا وتحفل كتب الصوفية بهذه المنامات ، ثم الهواتف اى يسمع الصوفى هاتفا يقول له كذا ..وفى العصر المملوكى كانت المنامات تغلف التراث الصوفى وتؤثر في الحياة المملوكية سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا، حتى كان المألوف ان يدعى احدهم انه يرى النبي (صلى الله عليه وسلم)يقظة وليس فقط في المنام ، واشهر من ادعى ذلك كان السيوطى ، وقد ذكر ذلك الشعرانى في ترجمته له في الطبقات الصغرى .
بايجاز نقول :ان الإسناد حول التراث السنى والشيعى إلى أديان مقدسة زورا وبهتانا وشجع الصوفية على الافتراء على الله ورسوله بدون إسناد . والاسناد مع قداسته المزعومة فانه لايصمد امام النقد لأنه يحمل اوزارا من التخريف والاخطاء الموضوعية تؤكد حاجته إلى تلك القدسية لتحميه من سهام النقد والاعتراض.

إلا ان التراث العقلى (الذي يستحق الاحترام حتى ولو اختلفنا معه )لم يكن محتاجا للاسناد أو القدسية ـولذلك ظل تراث المعتزلة والمفكرين منسوبا إلى اعلام تلك الطوائف العقلية ، لم يحاول الجاحظ ـمثلا ـان ينسب اراءه للنبي (صلى الله عليه وسلم )بل نسبها لنفسه والى من قالها من زملائه واصدقائه ، واذا قرأت الجاحظ في" البخلاء " و"البيان والتبيين "وباقى رسائله وجدت رائحة الثقافة الجاحظية وعصره وبيئته وازددت له احتراما لأنه كان صادقا مع نفسه ، وقد مات الجاحظ سنة 255 هـ .وعاش معه في نفس العصر البخاري (ت256 هـ).الذى نسب ثقافة العصر العباسي للنبي (صلى الله عليه وسلم)عبر ذلك الإسناد المشئوم فأوقع بالنبى (صلى الله عليه وسلم)والإسلام افدح الاضرار .

ومع الاسف فان الغلبة لم تكن للجاحظ والمعتزلة ومنهجهم العقلى ، وإنما كانت بسبب الظروف السياسة لمن كان يسميهم العصر العباسي الأول بالحشوية، اى الذين يحشون عقولهم باسانيد كاذبة منسوبة للنبي (صلى الله عليه وسلم)، ويحاولون نشر ارائهم بهذه الطريقة ، لقد انحاز المأمون ثم المعتصم والواثق للمعتزلة .وحدثت فتنة خلق القرآن التي اضطهد فيها ابن حنبل ، ثم جاء الخليفة المتوكل وكان حانقا على المعتزلة وزعيمهم ابن الزيات ، فقتله وانحاز للحشوية "اصحاب الحديث والسنن" وتعصب لهم وارسل دعاتهم في الافاق لنصرة السنة فيما يحكى بن الجوزى في المنتظم ، ودخلت الدولة العباسية في دور الضعف واحتاجت أكثر إلى اخضاع العوام بالدين ، فازداد دور الشيوخ من الفقهاء ثم الصوفية ، وكى يتم للشيوخ اخضاع العوام كان لابد من الاستناد إلى مرجعية دينية تكون لافتة ، يشيرون اليها دون مناقشة ، وقام الإسناد بهذه المهمة .وبالتدريج تعود الناس على الخضوع بمجرد ان يقول لهم الشيخ روى ان النبي (ص)قال .ثم بمرور الزمن اصبح الشيخ يقول بكل ثقة ..((قال صلى الله علبه وسلم كذا )) كأنه سمع ذلك من النبي (صلى الله عليه وسلم)بنفسه ودون إسناد ، ودون ذكر انها رواية قالها أشخاص ، قد يخطئون وقد يصيبون ، وهذا ما تسمعه حتى الان من شيوخ المواصلات في القاهرة عن الذي يبنى مسجدا ولو كمحفص قطاة ...ثم ظهر في عصرنا اتجاه جديد بين الجماعات السلفية وهو اختراع الحديث ، تخدم وجهة نظرهم مثل حديث ((من اكرم شرطيا اهانه الله)) وقد عقب بعضهم على ذلك الحديث المخترع في هذه الأيام قائلا : كيف كيف يستحل الكذب على الرسول (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال الشيخ المتطرف انه لايكذب على النبي وإنما يكذب للنبي ...اى ان اختراع الأحاديث لايزال ساريا ..

بين الحديث والسنة
ويبقى السؤال الاخير ، هل تلك الأحاديث هي سنة النبي عليه السلام ؟
هنا نضع بعض الحقائق القرآنية والحقائق التراثية .

1. معنى السنة في القرآن هو المناهج أو الطريقة وذلك فيما يخص تعامل الله تعالى مع المشركين .كما ان معناها هو التشريع الالهى ، وبالمعنيين فان السنة في القرآن تأتى منسوبة لله ، اى سنة الله ، يقول تعالى في تشريع خاص بالنبى (صلي الله عليه وسلم)((ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ، سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان امرا الله قدرا مقدورا :الاحزاب 38 ))وفى الآية الكريمة يتضح ان ((فرض الله )) يعنى(( سنة الله )) يعنى ((امرا الله)) هي ((شريعة الله)) اى السنة معنها الشرع..
2. وهذا يتفق مع المعنى اللغوى لكلمة السنة ، تقول ((سن قانونا )) اى شرع قانونا ، واذا تم سن القانون اصبح شريعة واجبة التنفيذ.
3. وهذا ايضا يتفق مع المعنى الفقهى لمصطلح ((السنة العملية)) اذ تعنى السنة العملية العبادات من الصلاة وزكاة وحج وصيام..
4. وفى كل ذلك فان الله تعالى هو صاحب التشريع الذي نزل في القرآن الكريم، والنبى عليه السلام هو القدوة لنا في تطبيق ذلك التشريع ، لذلك يقول تعالى ((لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة :الاحزاب 21 ))لم يقل كان لكم في رسول الله سنة حسنة ، لان السنة هي سنة الله، أما النبي عليه السلام فهو القدوة الحسنة في تطبيق سنة الله وشرع الله..
5. إلا ان بعض فقهاء التراث يقولون ان السنة العملية هي العبادات التي اشرنا اليها ، أما السنة القولية للنبي فهي تلك الأحاديث التي أسندوها إليه بعد موته بقرون فيما يعرف بكتب الصحاح وغيرها . وهنا نختلف معهم ، لان السنة القولية للنبي عليه السلام هي ما ورد في القرآن في كلمة "قل "التي يتميز بها القرآن ، وقد تكررت كلمة "قل "للنبي في القرآن (332)مرة ..وكانت الموضوعات التي ترددت فيها كلمة "قل" تشمل كل ما يحتاجه المؤمن من أمور الدين ، وبعضها يؤكد ما جاء في القرآن ايضا بدون كلمة "قل".وكان النبي عليه السلام مأمورا بأن يقول ذلك القول المنصوص عليه في القرآن كما هو دون زيادة أو نقصان ، اذ لايملك ان يتقول على الله تعالى شيئا في أمر الدين ((ولو تقول علينا بعض الاقاويل ، لاخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين ، فيما منكم من احد عنه حاجزين :الحاقة44 :47 )).باختصار ان السنة القولية للنبي هي كلمة ((قل )) طالما ان السنة تعنى الشرع المفروض اتباعه .
6. ويقولون أن تلك الأحاديث هي مصدر المعرفة بالصلاة والعبادات .وهذا خطأ ظاهر لان تلك الأحاديث اقاويل ، والسنة هي طريقة تأدية للعبادة وكان معروفا تأدية العبادات ليس فقط قبل عصر البخاري وغيره ، بل كانت معروفة قبل نزول القرآن ، اذ كانت هي الملامح الاساسية لملة ابراهيم التي أمر الله تعالى النبي والمسلمين باتباعها حنفاء ، بل ان تلك الأحاديث التي رويت فيما بعد النبي بقرون لم تتعرض بالتفصيل لكيفية تأدية الصلاة. وأكثر من ذلك أنها تشوه الصلاة وتشكك فيها.
7. ومن الطبيعى ان النبي عليه السلام وهو يقيم دولة وينشئ امه ويواجه مكائد اعدائه ان تكون له اقوال وتعليمات، كما كانت له تطبيقاته في تنفيذ شرائع القرآن خارج العبادات ، مثل اعداد الجيش والقوة الحربية .وذلك كله يدخل ضمن التاريخ والسيرة ، وليس ضمن الدين الذي يعلو فوق الزمان والمكان .
8. والملاحظ ان العصر العباسي حين قام بتدوين سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)بأثر رجعى فأنه تجاهل ما ينفع الناس منها ، لان ذلك الذى ينفع الناس كان ضارا بالحكام من الخلفاء المستبدين ، وقد قامت دولة النبي الاسلامية على أساس الشورى أو الديمقراطية المباشرة حيث يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم ، وحيث كان الناس مصدر السلطة والقائمين ايضا بالسلطة .وعاش أهل المدينة على ذلك في حياة النبي ، وتركهم النبي يحكمون أنفسهم بأنفسهم دون ان يعين لهم حاكما ، والسيرة الحقيقية للنبي عليه الصلاة والسلام كانت تؤكد ذلك من خلال أكثر من خمسمائة خطبة النبي (صلى الله عليه وسلم)في المدينة ، ومن خلال مجالس الشورى التي تحدث عنها القرآن الكريم في الآيات الاخيرة من سورة النور و سورة المجادلة وسورة النساء.

وتلك الديمقراطية المباشرة في عهد النبي عليه السلام كانت تناقض تماما الاستبداد العباسي حيث يملك الخليفة الأرض ومن عليها دون حسيب أو رقيب ، ولذلك اهمل التدوين العباسي أكثر من خمسمائة خطبة للنبي عليه السلام والمئات من مجالس الشورى ......واستبدل بذلك تأليف تشريعات وسيرة تتفق مع ثقافة العصر العباسي ، ثم قام الإسناد بتحويل هذه الثقافة العباسية إلى دين عن طريق الإسناد ...وبمرور الزمن اصبحت تلك الثقافة العباسية مقدسة لايجرؤ احد على نقد مصادرها من كتب (الصحاح) والدليل على قداساتها المترسبة في القلوب والعقول هو تلك الرهبة التي يحس بها القارئ لهذا المقال.
ليس حراما اتخاذ التماثيل

1 ـ من تفاهة الشيوخ الوهابيين والرسميين غرامهم بالحظر و التحريم لينغصوا على الناس التمتع بما أحل الله تعالى ، واذا كانت القاعدة الأصلية فى دين الله تعالى ان الحلال المباح هو الأصل فإن الأساس فى تشريع الفقه السلفى هو الحظر وان الاستثناء هو الحلال المباح. وفى كل حين يطلع علينا شيوخ الوهابية فى الأزهر وفى السعودية بتحريم شيئ جديد من المخترعات الحديثة او التأكيد على تحريم ما سبق تحريمه فى عصور التخلف و الظلام.ومن ذلك تحريم اتخاذ التماثيل بل وكل الرسوم و الصور .. ونناقش الموضوع باختصار..
2 ـ فى العصر الجاهلى كان العرب يعبدون الأولياء بزعم انها تقربهم الى الله تعالى زلفا (الزمر: 3 ) وكانوا يقيمون للأولياء المقدسين لديهم تماثيل يطلقون عليها (الأصنام) كما يقدسون القبور المدفون فيها تلك الأولياء أو يزعمون أنهم مدفونون فيها، ويطلقون على تلك القبور المقدسة (الأنصاب )وهى نفس الأضرحة فى عصرنا ، وكانوا يقيمون أعيادا لتلك الأنصاب أو الأضرحة ، وهى ما نسميه فى عصرنا (موالد).
نزل القرآن الكريم يؤكد على اجتناب تلك الأصنام و الأنصاب ، لم يقل بهدمها أو تدميرها ،و انما مجرد اجتنابها و الابتعاد عنها . قال تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) الحج 30 ) ، وقال عن الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام أنها من عمل الشيطان وأمر المؤمنين باجتنابها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ المائدة 90 )
ومعنى اجتناب الأصناب والأزلام ان تظل قائمة ولكن بدون قدسية ، وتلك هى روعة الاسلام ، فليست المشكلة فى الأنصاب والأزلام ، هى مجرد أحجار مصنوعة لا تدرى من أمرها شيئا . المشكلة فى العقلية التى تصنع من الأحجار اصناما و انصابا ثم تعبد ما صنعته بأيديها ،وقديما قال ابراهيم عليه السلام لقومه ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ " الصافات 95 )أى تنحتون التماثيل بأيديكم ثم تعبدونها ؟ فكيف يصنع ذلك عاقل ؟ وقال لهم )إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) العنكبوت 17 ) أى هم الذين يشيعون اساطيرالإفك والكرامات على تلك الأصنام وتلك القبوروأصحابها الموتى ، ويصدقون الافك وتصبح تلك الأوثان معبودة حيث تقام عليها تجارة رائجة ، هى تجارة الإفك و الاحتراف الديني..
العقل البشري المجرد يأبي ان يصنع الانسان تمثالا ثم يعكف عليه عابدا متضرعا . والعقل المجرد يأبى ان يقيم ضريحا على جثة انسان ميت ثم يطوف حول ذلك القبر او الضريح عابدا متسولا. اذا كان يقدس الجثة الميتة المدفونة تحت الضريح فان تلك الجثة اذا خرجت له من تحت الأرض فسيفر منها قرفا وخوفا و رعبا، وبالتالى فان التقديس هو لأحجار الضريح وما عليه من زجاج وخشب و ستائر..
العقل البشري المجرد يعرف أن تلك الأحجار وما عليها من مواد بناء هى مجرد أحجار ومواد بناء لا تختلف عن أى أحجار ومواد اخرى فى أي بيت أو أى دورة مياه.
اذن ما الذى يعطي العقل البشري أجازة ويجعل الانسان يعطل عقله وينحني أمام تلك الاحجار خاضعا خانعا عابدا خاشعا ؟ ذلك الانسان قد يكون مهندسا مثقفا أو خبيرا علميا فى أحدث فروع التكنولوجيا ولكنه ينسى عقله وذكاءه وآدميته وينحني خاشعا أمام بعض أحجار قد جئ بها من على الأرض التى يسير عليها بحذائه..
نعود للسئوال : من الذى جعل الانسان يعطل عقله ويعبد تلك الأحجار ؟ الله تعالى يقول : انه الشيطان ، ويجعل الأنصاب رجسا من عمل الشيطان (المائدة 90) بالطبع فإن الشيطان ليس هو الذى يصنعها بيديه ، وليس هو الذى يشيع عنها الكرامات و المعجزات بلسانه ، ولكنه الذى يوحي الى أوليائه من الكهنة وسدنة الأضرحة ومحترفى التجارة بالدين فيقومون عنه بكل ذلك ، وبهذا تقام أحيانا عدة أضرحة أو قبور لنفس الشخص ، فهناك مثلا عدة أضرحة للحسين وعدة أضرحة لعلى زين الدين العابدين بن الحسين ، وعدة أضرحة للسيدة زينب أخت الحسين، وعدة أضرحة للسيد البدوى ما بين طنطا وأسوان.. والذين فقدوا عقولهم لا يجدون فى ذلك بأسا..
اذن المشكلة ليست فى الأحجار والتماثيل الحجرية ولكنها فى العقلية ، ولذلك أجرى القرآن الكريم حوارا عقليا مع المشركين ليوقظ العقول ، فإذا استيقظ العقل انفض الناس عن عبادة تلك الأضرحة وانتهى تقديسها وأصبحت مجرد صخور ومجرد تماثيل ومجرد قبور..
3 ـ قبل عصر الجاهلية عاشت أمم سابقة عبدت الأصنام والأنصاب واضطهدت الرسل فدمرهم الله تعالى، وبقيت آثارهم ومعابدهم يمر عليها أساطين قريش فى رحلتى الشتاء و الصيف، أى أن الأضرحة المقدسة والأصنام المعبودة تحولت الى مجرد آثار صخرية مهجورة.
لم يأمر الله تعالى المسلمين بتدمير تلك الآثار لأولئك الأمم الذين ابادهم الله تعالى قديما، بل على العكس ، أمر الله تعالى بالسير اليها و البحث فيها للعبرة و الاعتبار .
4 ـ ان من ضمن الفرائض التى أهملها المسلمون فريضة السير فى الأرض. وقد تكرر الأمر بهذه الفريضة مرات عديدة ، وكان الهدف علميا وتاريخيا من ذلك السير فى الأرض..
علميا بالبحث فى كيف بدأ الله تعالى الخلق "أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ،قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) العنكبوت 19 ، 20 )
وتاريخيا بالبحث فى آثار الأمم السابقة من خلال ما تركوه خلفهم للعبرة و الاتعاظ ، يقول تعالى (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) غافر21 ) بل ان الله تعالى أخذها حجة على الجاهليين أنهم يسيرون فى ترحالهم فى رحلتى الشتاء و الصيف ويمرون على آثار السابقين من الأمم التى أهلكها الله تعالى دون ان يزوروها للعظة والاعتبار( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) طه 128 )
أى ان زيارة الآثار وبحثها علميا هو فريضة اسلامية منسية ،وهذه الآثار هى معابد وتماثيل كانت معبودة ومقدسة فى عصرها ثم اصبحت مجرد آثار أو أحجار .
5 ـ هذا هو الاسلام ..فماذا عن المسلمين ؟
معظم المسلمين فى تناقض مع الاسلام فى كل شيئ بدءا من العقيدة الى الشريعة والسلوك .
عاد معظم المسلمين الى ما كان عليه المشركون من عبادة الأولياء الأحياء و الموتى ، وتناسى المسلمون معظم الآيات القرانية التى تدعو لعبادة الله تعالى وحده ونبذ عبادة الأولياء والأنصاب والقبور المقدسة، بل إن خاتم النبيين محمدا قضى معظم حياته يناضل ضد عبادة الأضرحة و القبور، ثم انتهى الحال بالمسلمين الى تحويل قبره الى ضريح مقدس يحجون اليه ويجعلون ذلك من مناسك الحج ، ومن حج ولم يزره – على زعمهم- فقد جافى النبي .والمضحك انهم مع وقوعهم فى عبادة الأضرحة والموتى الا انهم ظلوا على تحريم الأصنام أو التماثيل المعبودة.
بل بالغوا وتطرفوا فحرموا كل الصور وكل التماثيل.
وهنا وقعوا فى خبل عقلى آخر، فالتماثيل المعبودة والقبور المقدسة ليست محرمة فى حد ذاتها وانما الحرام هو عبادتها، انها مجرد أدوات والأدوات ليست محل تحريم أو تحليل، وانما يقع الحلال و الحرام على طريقة استعمالها .. السكين ليست حراما وانما يحرم استعمالها فى القتل ظلما بينما يجوزالدفاع بها عن النفس ، وكذلك البندقية وكل الأدوات .
6 ـ التمثال ليس حراما او حلالا فى حد ذاته وانما يحرم ان تقدسه وتجعله صنما معبودا، وهو مباح وحلال أن تتخذه حبا فى الفن والجمال أو بغرض التجارة .
نفس الحال فى القبور: القبر العادى لا باس به ، فلا بأس بزيارة قبور الموتى من الأهل ، وهذا يختلف عن الذهاب لضريح مقدس يطلب منه الناس المدد ويقفون أمامه فى خشوع وتضرع معتقدين فيه النفع والضرر.
7 ـ لقد ذكر القرآن الكريم كلمة "التماثيل" فى موضعين الأول : فى قصة ابراهيم حين أنكر على قومه عبادة التماثيل وقال لهم ) مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ " الأنبياء 52 )،هذه هى التماثيل المعبودة ، والانكار هنا علىعبادتها وليس عليها هى ذاتها لأن الانكار على البشر لا على الحجر. الثانى : فى قصة سليمان حين كانت الجن تصنع له تماثيل "يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ) سبأ 13 ) "والتماثل هنا عادية تستخدم للتمتع بها كزينة وزخرف حلال. فهل تكون التماثيل حراما وكان نبى الله سليمان يتخذها للزينة ويصنعها له الجن بأمر الله تعالى ؟
ان التماثيل ليست حراما فى ذاتها، وليست رجسا من عمل الشيطان طالما لم تتخذ اصناما معبودة مقدسة . وهذا ما تجاهله أئمة الفقه السني فى خبل عقلى كان عاديا فى عصور الظلام فى القرون الوسطى. ثم جاء الفقه الوهابي فاستعاد هذا الخبل فى عصرنا وأعاد الى الأذهان كل ذلك الأفك الذى تسلح بأحاديث كاذبة منسوبة للنبي محمد عليه السلام ، تجعل الملائكة " لا تدخل بيتا فيه صورة او فيه كلب" وتحرم التصوير ، ليس فقط الفن التشكيلي بل وسالتصوير الفوتوغرافي .
وهذا الخبل الفقهي المسلح ايضا بدولارات البترول يضع الاسلام فى مأزق مع الحضارة ، هذا مع أن الاسلام سبق عصرنا فى الابقاء على التماثيل حتى الأصنام المعبودة منها وأجرى حوارا لتنظيف العقل من تقديسها .. بل ودعا الى السير فى الأرض للكشف عنها للبحث و الدراسة .
بقيت آيات القرآن شاهدا على تخلف المسلمين المتمسكين بالفقه الوهابي السني ولتثبت ان الطالبان حينما دمروا تمثال بوذا فقد خالفوا تعاليم الاسلام وفكره الحضارى ..

No comments: