Monday, May 14, 2007

النص المؤسس و مجتمعه - خليل عبدالكريم(2)ا

[ 8 ]
تمرد نسوان النبى


تعاقدت نسون " أبى القاسم" على طلب زيادة فى النفقة وسألنه شيئًا من عرض الدنيا أو آذيته بغيرة بعضهن على بعض أو أنه تأذى ببعضهن, فأقبلت الآيتان الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون من سورة الأحزاب { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً. وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } , بالحل الناجع وبما أزاح عن كاهل " سيد ولد عدنان" هذه الأزمة العائلية التى أوشكت أن تعصف بالبيت المحمدى الرفيع العماد والمثل الأعلى والقدوة الطيبة والأسوة الحسنة لكل المسلمين لا فى ذياك الزمان المدهش بل فى ما تلاه من أعصر. [ تفسير القرطبى: المجلد الثامن ص 5244/ أسباب النزول للواحدى ص240/ المقبول من أسباب النزول : لأبى عمر نادى الأزهرى أورده مسلم فى صحيحه والنسائى فى سننه الكبرى, وأحمد فى المسند, ومحمد بن سعد فى طبقاته الكبرى. ومن هذا نثبت صحة الحديث ].



من أدلة الثبوت على شدة وقعها على " خيرة أهل الأرض" أن التيمىّ أبا بكر قام إلى عائشة ابنته يجأ عنقها ومثله فعل العدوىّ ابن الخطاب مع ابنته حفصة.



إنما الحجة الدامغة هى أن " صاحب الخير" اعتزل نسونه تسعة وعشرين يومًا وهو لم يقدم عليه إلا لفداحة موقفهن لأنه صرح أكثر من مرة أن الذى حبب إليه من الدنيا أمران:

الطيب والنسوان كما قرأنا فى سيرته العطرة, إن من عاداته المستقرة أن يمر على بيوتهن جميعًا كل ليلة, { أخرج ابن سعد عن سلمى مولاة رسول الله ـ ص ـ قالت طاف رسول الله ـ ص ـ على نسائه التسع } [ الخصائص الكبرى: للسيوطى ـ الأول ـ باب الآية فى جماعة ص 167 ].



وسلمى خادمته هى التى أرسلها لتبشر زينب بنت جحش بانيثاق آيات من الذكر الحكيم بنكاحه إياها وإذ تحققت الخطة التى أحكمت تدبيرها الأسدية " بنت جحش" سيطر عليها الفرح وشملها السرور وعلتها الغبطة فنفحت سلمى الخادمة أوضاحها التى عليها وقت ذاك وسلمى هذه بحكم وجودها معه بين نسونه هى أعرف الناس بأحواله الشريفة مما يعلى من مكانة هذا الحديث الذى يقويه غيره من الأحاديث والأخبار فى هذه الخصوصية.



{ وقال ابن سعد عن الواقدى عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله ـ ص ـ كنت من أقل الناس فى الجماع حتى أنزل الله على الكفيت فما أريده من ساعة إلا وجدته وهو قدر فيها لحم } [ ذات المصدر والصفحة ـ وفى هامشها: حبب إلى النساء ورزقت الكفيت أى ما أكفت به معيشتى يعنى أضمها وأصحها وقيل أراد بالكيفت قوة الجماع ا.هـ ].



وبرهان آخر يضاف هو أن الاعتزال شمل جميعهن غير الجميلات مثل سودة وحفصة, والوضيئات الحسناوات مثل عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش اللائى حملت إلينا مؤلفات سيرته السامية المنيفة أنه يديم التردد على حجراتهن.



*******



فى هذه الأزمة النفسية التى ألمت بـ " صاحب الحُجَّة" والتى تمنى زوالها جاء " أحسن الحديث" الذى يعايش ولا ينفصل عن الواقع الحياتى وتربطه وإياه آصرة قوية الأسر بالفرج فأشرفت آيتا التخيير اللتين أوردنا نصيبهما فيما سبق. فخيرهن وجميعهن رفض التسريح وهذا هو المتوقع إذ لايعقل ألا تريد واحدة منهن الله والأجر الأعظم والعشرة المثالية مع " متمم مكارم الأخلاق" وتفضل عرضًا من الدنيا قليلاً.



ومن الديهى أن يسر خاطره وبفرح: { قالت عائشة ـ رضى ـ ففرح بذلك النبى ـ ص ـ وضحك } [ التيسير خلاصة تفسير ابن كثير: المتوفى سنة 744هـ ـ بقلم محمود محمد مسالم ـ خريج الأزهر ص 912 ].



وحق له أن يفعل فقد انفكت معضلة كادت تتسبب فى صدع حياته العائلية, وبذا هلت إشراقات من الذكر الحكيم آزرت " المصطفى" ووقفت بجانبه فى شدته وأخذت بناصره وأزاحت عن ما غمه وأقلقه, تمامًا مثل ما حدث فى المرات السوابق.



*******



عندما نزح إلى قرية الحرتين " صاحب البيان" وتبعته القلة التى آمنت بدعوته واعتنقت الديانة التى بشر بها فى أم القرى لمدة ثلاثة عشر عامًا ثم عَدَن بأثرب برهة درس فيها بعناية مكثفة الأحوال إن فى داخلها أو فى ما حولها بعدها بدأ يرسل السرايا وحرص على ألا يؤمر عليها أحدًا من غير المنازيح وخاصة القرشيين لأسباب يدركها اللذعى وينقهها ويلمحها الذكى. وهناك نفر من المؤرخين الأثبات على رأسهم الواقدى يؤكد أنه لم يشرك أحدًا من بنى قيلة حتى غزاة بدر الكبرى وهو ما نرجحه وعللناه فى كتاباتنا السوابق.



*******



لم يمض عليه سوى سبعة أشهر حتى استهلها بسرية وضع على رأسها عمه الحمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر الأحمر وبعدها بشهر واحد عقد لواء آخر لعبيدة بن الحارث إلى رابغ, ولم ينصرم شهر حتى استنفر ثالثة ألقى زمام قيادها إلى سعد بن أبى وقاص وجهه إلى خرار الجُحفة القريب من خُم. [ يوجد فى خُم غدير يؤكد إخوتنا الشيعة أن " المحمود فى الأرض والسماء" أعلن أن على بن أبى طالب كرم الله وجهه وعطر مرقده هو وصيه وهم يحتفلون بهذه المناسبة وأهل السنة والجماعة ينكرون مسألة الوصية مع ملاحظة أن حديث غدير خم ورد فى صحيح البخارى ـ انتهى ].



ثم غزا بنفسه الشريفة الأبواء على رأس أحد عشر شهرًا وفى الثالث عشر بواط حيال صبّة من ناحية ذى خشب ثم أعقبها غزاة بدر الأولى أو الصغرى وما إن بزع هلال السادس عشر حتى غزوة ذى العشيرة. وبعدها بأربعة أسابيع سرية نخلة وأميرها عبدالله بن جحش وسنقلب أخبارها فيما يلحق. ثم سرايا وغزوات أخريات لا موجب لذكرها لأننا لسنا بصدد استقصائها فليرجع إليها من أراد فى مصنفات السيرة المحمدية العاطرة الفاخرة.





*******



[ 9 ]
سرايا بنى الرحمة


لماذا أقدم المصطقى على إنفاذ السرايا ثم بعث الغزوات ولم يمر على مقانه ببلدة الأثاربة سوى شهورر قليلة.

هنلك بواعث عديدة لَبَكَ بعضها بالبعض واختلط أحدها بالآخر وأنشب أولها بمنتهاها والتبس المجلى " السايق" بالمصلى " اللاحق له" ومن ثم يتعذر ترتيبها, منها النشأوى " من النشأة" والنفسى والسياسى والاقتصادى, ولذا فسوف ننسخ طرفًا منها بهيأته المتشبكة ونحاول على قدر الطاقة والوسع تصنيفها:

1 ـ من استقراء المعالم التاريخية والأنساق الإجتماعية ندرك أنه لدى عربان شبه جزيرة العرب الميمونة فإن الغارات ومداهمة العدو وغزوه وتصبيحه وحياطته فى عماية الصبح وهو مستغرق فى نوم عميق, يشكل شطرًا وسيعًا من تكوينهم النفسى ومساحة عريضة من بنيتهم الوجدانية ومكانًا رحبًا من سمتهم الشعورية, فضلاً على أن ما تدره هذه الهجمات من عائد يتمثل فى الأسلاب والغنائم هو مصدر دخل على درجة من الأهمية والاستمرارية معًا حتى إنه من المتعذر أو المستحيل تصور وجود مجتمعهم إذا صفر من الغارات أو خلا من الغزوات أو تجرد من المنهوب أو خوى من المغضوب وهو مَعْلَم مُتوافق تمامًا مع أوديتهم غير ذات الزرع و جهالتهم التى تحول دونهم ومعرفة استخراج المعادن التى لاتقوم بدونها الصناعة.



2 ـ إن الأخذ بالثأر عرف مستقر لديهم وعادة مركوزة فى نفوسهم وتقليد راسخ فى وجدانهم حتى إنهم عندما دعسوا أرض الكنانة بخيولهم المبروكة !!! وغزوها واستوطنوها واستعمروها ونهبوها بقيادة عمرو بن العاص ـ ذلك الذى فعل الأفاعيل فى مصر المحروسة هو وجنوده الأعاريب ـ جلبوا معهم هذه العادة الحضارية الرائعة ـ يا للأسف ـ وما زالت رغم ذهاب أكثر من أربعة عشر قرنًا مُعششة فى الأقاليم التى استوطنوها بحد السيف ثم عدنوا فيها مثل الصعيد ومحافظة الشرقية.



*******



إذا تجاوزنا التنظير إلى التطبيق العملى أو بعبارة مقاربة إذا أنزلنا المبادئ على ما وقع فعلاً , نجد أن " المنصور بالرعب مسيرة شهر" علاوة على أنه ابن بجدتها فإنه أثبت ـ ودائمًا ـ أنه سياسى محنك وقائد فاذ وعسكرى طويل الباع واقتصادى خبير.



أطبق طواغيت مكة على أن ينزح منها تبعه ( = النبى الأمين ) مليطين لا يملك أحدهم شروى نقير حتى دورهم وضعوا أياديهم النجسة عليها فوصلوا قرية اليثاربة وقد صفرت أيديهم حتى من الفلوس " العملات الصغيرة" وليس من بينهم من يعرف مهنة أو حرفة أو صناعة إلا النادر الذى لايقاس عليه إذ من المعروف أن قريشًا قوم تجار والمال هو شريان البيع والشراء وبدونه يتحول التاجر إلى صعلوك. [ فيما بعد وصف " سيد ولد آدم" أحد صحبه وفى ذات الوقت صهره بأنه صعلوك ومن الغريب أنه بعد أقل من ربع قرن تولى هذا الصعلوك ولاية الشام لعشرين عامًا ثم خليفة عشرين أخرى ].



ولولا أن بنى قيلة اظهروا كرمًا وآووا المنازيح لتفاقمت أزمتهم ولغدوا فى وضع بئيس وانطلاقًا من نشأته الرائعة وعبقريته التى لا ضريب لها ألفى أن إرسال صحبه فى سرايا سوف يحقق له ولهم أهدافًا عديدة منها:





أولاً: الموجهة لإعتراض قوافل صناديد قريش:
أ ـ الراحة النفسية الكاملة التى ستشملهم بأن تشفى صدورهم وتريح قلوبهم وتدخل السرور على أفئدتهم من الذين أخرجوهم من بلدتهم الحبيبة وقلوعهم من دورهم واحتازوها واستولوا على نشبهم وتجاراتهم وجِماعه تم ظلمًا وعدوانًا وجورًا واعتصابًا إذ كل جريرتهم فى نظر طواغيت مكة أنهم اعتنقوا الديانة التى أفشاها " سيد بنى هاشم".



ب ـ الخناق الإقتصادى الذى سيضرب أفراد الملأ القرشى الذين لا هم لهم إلا جمع المال من أى طريق بغض النظر عن الوسيلة فهم يتعاملون بالربا الفاحش. [ من بين أكابر المرابين العباس بن عبد المطلب عم الرسول وخالد بن الوليد بن المغيرة سيف الله المسلول قبل إسلامهما ].

واستحلال عرق العبيد بل وأفخاذ الإماء والجوارى, فقد نقلت إلينا مدونات السيرة المحمدية الفياضة أن بعضًا من أكابرهم تملك البغايا اللاتى عرفن بـ " صواحب الرايات الحمر" , فقد سمحت أخلاق أولئك المرازبة الجحاجح أن يغدو الواحد منهم ديوثًا ولا يرى فيه مسبة أو عيبًا أو نقيصة أو مما يحل بالرجولة أو يخدش الكرامة أو يمس الحياء.



ج ـ الغنائم والأسلاب التى يفوز بها الصحاب بعد كل هجمة وإثر كل غارة وعقب كل كبيسة وعزوة ستعدل أحوالهم المالية وتجعلهم أقل اعتمادًا على بنى قيلة مما يمنحهم استقلالاً فى الرأى وحرية فى اتخاذ القرار وطلاقة فى التصرف.



د ـ تخلف فى قلاية القداسة عدد من ضعفة المسلمين الذين منعتهم ظروفهم النزوح إلى يثرب وعندما يتيقن طواغيت قريش أن " سيد البادى والحاضر" أمست شوكته قوية ويداه ذواتى طول وذراعه لها قدرة فلاشك أنهم سيكفون آذاهم وسيرفعون رذالاتهم عنهم, لأن هؤلاء العرب الأجلاف يخبرنا تاريخهم المجيد ؟؟ بل يؤكد أن الجبن طبيعة فيهم والخسة غائرة فى حنايا نفوسهم والنذالة من مقومات تكوينهم ولا تردعهم إلا القوة ولا يعملون حسابًا إلا للغلبة فهم لا يستأسدون إلا على النحيف الأعجف المهزول, أما إذا لاحت لهم أى بارقة منعة فإنهم يولون الأدبار.



هـ ـ القبائل حول مكة وقرية الحرتي المتربصة المنتظرة عندما ترى أن " صاحب الزوجات الطاهرات ؟ " فثأ شدة المكاكوة وكسر حدتهم ووهن جمعهم وألحق بهم الخسائر وأزال مهابتهم ومرّغ كرامتهم فى التراب فإن القبائل الجافية المتبدية ستعيد حساباتها, فإن وجد حلف يربطها بهم فسخته أو موالاة أنكرتها أو إيلاف ضربن به عرض الحائط أو عقد نبذته.



وليس بمستغرب على الأعاريب فهم كما وصفناهم, ثم يرقلون إلى التقرب إلى " سيد الناس جميعهم عربًا وعجمًا" وإلى طلب وده والعمل على نوال رضاه انتظارًا للأسلاب والغنائم والإنتقام من صناديد قريش.





*******

ثانيًا: عن السرايا التى أُرْسِلَتْ إلى القبائل:
أ ـ يأتى فى البدء الظفر بالغنائم فهو قاسم مشترك مع الأول " التعرض لقوافل أهل مكة" والعنصر المادى عامل فى غاية الخطورة ويتوجب أن يتوافر للمنازيح فى أقرب آونة, لأن المليط من النشب الصفر اليدين من المال, الخالى الوفاض , المملق تراه زائغ البصر, مشوش الفكر, نفسيته محمومة ووجدانه مضطرب, ومثله لانفع منه فى شأن دينى ولا رجاء فى أمر دنيوى .. خاصة أنهم ( = المنازحين ) جرثومهم من " أى أصلهم وأسّهم" من سخينة. [ هى قريش, هكذا وصفها كعب بن مالك فى إحدى هجائياته للمكاكوة وقد أعجب الحبيب بهذا الوصف وهذا الشعر وقال له: ما نسى ربك وما كان ربك نسيًا شعرًا قلته ـ انتهى. ومالك أحد شعرائه المدافعين عنه مثل حسان بن ثابت وكعب بن زهير ـ دلائل إعجاز القرآن: لعبد القاهر الجرجانى ـ قراءة وتعليق أبو فهر محمود محمد شاكر ـ ص 17 ـ طبعة سنة 2000 ـ مكتبة الأسرة ـ الأعمال الدينية ـ الهيئة المصرية العامة ].



وقد وصف الذكر الحكيم بنى سحينة أنهم: { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } [ سورة الفجر: 19, 20 ].



ب ـ نشر الديانة الإسلامية التى جاء بها " النذير", ففى حديث محمدى لامطعن عليه ورد فى صحبح مسلم أن أُمِر أن يقاتل لناس حتى ينطقوا باشهادتين فإن فعلوا عصموا دماءهم وأموالهم, وكذا آية السيف { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 191 ]. التى هى باتفاق مدنية وهناك من رأى أنها أشرقت فى رحلة النزوح ما خلا بضع آيات.



ونحن ملزمون باحترام اتفاق العلماء الأثبات على أنها مدينة إذن هى باستنطاق وقائع السرايا والمغازى والبحوث .. قد هلّت قبل تحريكها أو تسييرها أو استنهادها, ومن ثم قرأنا فى أخبار بعضها لا كلها أن قائد أو أمير وأعضاء السرية ملزم بدعوة المغزوين أو المصبحين " بفتح الباء مع التشديد" أو المهاجَمين " بفتح الجيم" إلى الدخول فى دينهم ـ دين الإسلام, فإن فعلوا شملتهم عصمة الأبشار والأموال وإن استكبروا أعملوا فيهم السيف فقتلوا رجالهم عن بكرة أبيهم وأسروا من استأسر " رفع الراية البيضاء" واسترقوا ذراريهم وفتياتهم ونسونهم فإما استبقوهن للمتعة أو الخدمة وإما باعوهن فى أسواق النخاسة واستوفوا أثمانهن.



وفى كلتا الحالتين هم الكاسبون فإن لم يذعن المغزون فى عقر ديارهم وأبوا الإيمان بعقيدتهم غنموا الأموال والأسرى " الرجال" والنساء الفتيات والذرية أما إن أسلموا فعليهم بالظعن إلى أثرب لأن الإسلام لم يتم إلا به , فهذه قاعدة أصلها حديث محمدى شريف فى غاية الصحة, وهنا يغدو الرجال قوة تضاف إلى جيش المسلمين ويفرز اتساعًا لرقعة الإسلام كما يؤدى إلى موازنة تدريجية بين عدد المنازيح وعدد الأثاربة وفيه ترسيخ لمركز " خيرة خلق الله" وهو يعمل بهمة قعساء على إنشاء دولة قريش ـ حلم أجداده قصى وهاشم وعبد المطلب.



ج ـ إشعار القبائل فى كافة أنحاء الجزيرة العربية المباركة بأن نجم بنى سخينة أو المكاكوة أو طواغيت قريش فى أفول ومنعتهم فى طريقها إلى الضمور وضوءهم فى ذبول ومكانتهم فى انحدار, ومن ثم فعلى كل قبيلة تحكيم عقلها فلا تختار الجانب الذى يتدحرج بسرعة نحو الهاوية.



د ـ فى صفحات السير المحمدية العظيمة بضعة أخبار عن عدد من زعماء القبائل ممن راودته نفسه الأمارة بالسوء ووزّه طموحه الأرعن ودفعه شيطانه المريد أن يسيطر على الجزيرة العربية فيسمى هو عميدها وسيدها وملكها وينافس " ذروة سنام بنى إسماعيل".

بيد أن توالى السرايا والغزوات والبعوث والفرق ومهمتها التصفية الجسدية للمناوئين يقطع دابر أحلام أولئك الطائشين ويقنعهم بأنها مجرد أضغاث أحلام أو هى رؤى يقظة لا صلة لها بالواقع وأن وشيجتها بالحقيقة مهترئة وحبلها بالأوضاع الرواهن ذائب.



هـ ـ هناك حصيلة مؤكدة من الغزوات والسرايا والبعوث وهى أسر نسون وفتيات الأعادى الذين لا يستسلمون ولا يسلمون بل يظلون على عنادهم ويتشبثون بكفرهم , ومن بين هاتيك المأسورات الحسناء والوضيئة والفائقة الجمال والبالغة القسامة ومثلهن لا كفئ لهن إلا " صاحب التاج والبراهين". وقد نسخنا فيما سلف أن جويرية بنت الحارث سيد بنى المصطلق وصفتها بنت ابن أبى قحافة أنها حلوة ملاحة تأخذ بنفس من يقع بصره عليها وأن حدسها " عائشة" لم بنزل الأرض فلما جاءت إليه تستعينه على أداء مكاتبتها " ثمن عتقها" للصاحب الذى وقعت فى قرعته " حظه ونصيبه" عرض عليها أن يعتقها وينكحها هو فقبلت على الفور لأنه شرف لم يخطر لها فى يقظة ولم تره فى نومة.





*******



نكاح صفية بنت حيي بن أخطب

وفى غزاة خيبر أسرت صفية بنت حيي بن أخطب أحد زعماء الهود ومن أنشط العناصر التى دأبت على التأليب والتجييش والتحريض ضد " أبى القاسم" وقد قتل زوجها كنانة بن الربيع وهو مالك أمنع وأقوى حصن فى خيبر ومن ثم أصبحت صفية خلاء من موانع النكاح فلما دنا منها وشملها بنظرة فاحصة ألقى عليها رداء " وهى عادة عربية مستقرة تعنى العزم على الزواج" وأمر بها فحِيزت خلفه فعلم تبعه أنه اصطفاها لنفسه.



وسلمها للماشطة " الكوافيرة" أم خادمة أنس بن مالك [ تحول بعد الغزو الاستيطانى النهبوى لدول الجوار من كبار الأثرياء ]. كيما تقينها وتزينها فوصفتها بأنها لم تر بين النساء أضوأ منها.



وأقيمت وليمة العرس حافلة بطيبات خيبر , فأكل المدعوون حتى شبعوا ودخل عليها وهم فى طريقهم إلى الحرتين بالرغم من أنها لم تقضى عدتها الشرعية, وتطوع أحد كبار بنى قيلة بحراسة القبة التى شهدت الدخول وظل ساهرًا طوال الليل متوحشًا سيفه حتى الصباح ففاز بدعوة طيبة " اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى" وعلل اليثربى ما فعله بـ " أن هذه المرأة قد قُتِل أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك " [ نساء النبى: لبنت الشاطئ ـ الفصل العاشر : صفية بنت حيي ـ عقيلة بنى النضير, ص 159 وما بعدها واستندت فى ذلك إلى السيرة النبوية لابن هشام , وتاريخ الطبرى لابن جرير, والإصابة لابن حجر .. إلخ ].



إنما من باب الأمانة العلمية علينا أن نرقم أن نكاح الأسيرات الفواتن شكل قصدًا هامشيًا وبأى حال من الأحوال لم تستهدفه الغزوات والسرايا فى المقام الأول ولم يدخل فى حساباتها الهامة, بيد أن التحليل الموضوعى الصحيح لا يشمل القصود الرئيسية فحسب بل يتعين حتى يغدو مكتملاً وعرّياً عن النقصان أن يضم بين حناياه الأهداف الجانبية خاصة أن الفهوم تختلف والعقول تتباين والأنظار تفترق فى توصيف الغايات فما قد يراه البعض جِذعًا ينتهى الآخر إلى فرع وما قد يذهب إليه واحد أنه جوهر يعده الآخر عرضًا ويقدر نفر أنه خطير فى حين أن الآخرين يؤكدون أن أهميته بين بين.





*******



ثالثا: عن المقيمين فى قرية الحرتين:
أ ـ بالنسبة إلى اليهود الذين حققوا وجودًا كثبفًا فيها وربطتهم ببنى قيلة وشائج متشابكة: الجوار ـ الحلف ـ الولاء ـ المناكحة [ كعب بن الأشرف الذى أرسل " المنصور بالرعب مسيرة شهر" فرقة مما يمكن أن نسميه " سلاح المهمات الخاصة" صفته جسديًا أبوه عربى من طيئ وأمه يهودية]. والعلاقات التجارية والمالية والزراعية وتنشئة الأولاد لدى القبائل اليهودية فالأثربية التى يموت أولادها فى طفولتهم عندما ترزق بولد تبعث به إلى القبيلة اليهودية التى يربطها بقبيلتها عقد ليتربى بينهم باعتبار أنهم أهل كتاب وفيهم البركة, وقد حدث أن كثيرًا منهم اعتنقوا ديانة اليهود ونفر منهم رفض بشدة تركها والدخول فى الإسلام وبعضهم فضل مصاحبة اليهود الذين أجلاهم " أبو القاسم" عنها على العدن فى يثرب بين أهله وعشيرته . انتهى.



فقد ذكرنا فيما سلف أنه فى المبتدأ عمد إلى الملاطفة والملاينة, لكن التركيبة النفسية لأولاد يعقوب من التعقيد بحيث إنها لم تستجب ربما لأن بأيديهم الكتاب المقدس الأول أو لأن التجارب المريرة التى مروا بها والتى حكى رواياتها إسطيرهم العتيق وما وقع لهم بعد تدوينه. ويضاف إليه نظرتهم المتعالية للعرب والعربان والأعراب والأعاريب وما ترسب فى وجدانهم أنهم أرقى منهم فى سلم الحضارة, جِماعة قبض نفوسهم عن مبادلة مبادرات " الحبيب المصطفى" بمثلها ولو اكتفوا بهذا الموقف السلبى لهان الخطب بيد أنهم عمدوا إلى الدس ومالوا إلى الوقيعة وجنحوا إلى الفرتكة وعملوا على النقض وسعوا إلى الإتلاف وعاضدهم تقدير بنى قيلة لهم باعتبار أنهم أصحاب إسطير مقدس وعندهم علم وفير بالكتاب مما دفعهم إلى مزيد من التحريض والتحريش والإفساد.



لقد غاظهم وأحرق قلوبهم أن ما توعدوا به بنى قيلة من ظهور نبى من سلالة إسحق بن يعقوب يستبصرون به عليهم لم يتم إنما الذى دفع الإحباط للهيمنة على نفوسهم ووز اليأس للسيطرة على وجدناهم وحث الخيبة القوية للتغلغل فى شعورهم هو نجاح محمد فى إعادة الوئام والصفاء بين فرعى بنى قيلة لأن هذا التأليف بين قلوبهم أصابهم فى مقتل فهم يستثمرون الشقاق بين العشيرتين ويتكسبون من الفرقة بين الرهطين ويترجون من دوام التناحر بين الفريقين, وفى محاولة يائسة ومخطط ساقط وبادرة وخبيثة أرسل بنو قينقاع واحدًا من شبانهم الرقعاء وفتيانهم المخنثين وأولادهم الخلعاء فجلس بين اليثاربة وأخذ ينشد أشعارًا مما قاله الجانبان فى " يوم بعاث" [ عركة شهيرة بين الأوس والخزرج حدثت قبل الإسلام, سقط فيها قتلى من كل وتوزع فيها أولاد الأفاعى فحالف بعضهم الأوس والآخر الخزرج. أ هـ ]. فاشتعلت الحماسة واتقدت الحمية وارتفع لهيب العصبية وامتشقوا السلاح ليحارب بعضهم بعضًا وليستكملوا ما بدأوه فى وقعة بعاث لولا شجاعة " سيد أهل الله" وحكمته وذلاقه لسانه فأغمدوا السيوف وطفقوا يتعانقون وعيونهم تفيض بالدمع السخين ندمًا على السقطة التى تردوا فيها والزلة التى ارتكبوها والخطيئة التى مارسوها والفحاشة التى أقدموها عليها, ومما زاد مرارتهم وضاعف ندمهم وعمق أساهم لم يلتفتوا إلى مكر أولاد الأفاعى ولم يتنبهوا إلى خبثهم ولم يفطنوا إلى مكيدتهم.



هنا أدرك " الصادق الصادوق" أنه لافائدة معهم أو فيهم وأن الإنتصارات التى يفوز بها فى المغازى والسرايا وترفع رايته إلى عنان السماء ستدفعهم إلى الإلتزام جحورهم والقبوع فى كنيسهم. بيد أن هذا الهدف لم يفلح ولم ينجح كله بل فاز جزئيًا فبعد بدء المغازى والسرايا لملم بنو إسرائيل أرجلهم المفرشحة إنما ظلت أياديهم الوسخة وأصابعهم القذرة وأناملهم الملطخة وراحاتهم الدرناء تعمل فى الخفاء فتحيك الدسائس من وراء ستار وتدبر المكائد وتخطط للفتن ومن ثم عالجهم " السراج المنير" بالدواء الناجح لشرورهم بما إستأصل شأفة آثامهم وقضى على سمومهم فقتل من قتل وغرب من غرب.



ب ـ وصفنا المنافقين بالمعارضين السياسيين الذين هم بمثابة الشوكة فى الحلق أو الطابور الخامس الذى يمالئ العدو ويعاون الخصم ويعاضد المحارب ويساعد المهاجم وأخطر ما فيهم إظهارهم المودة وإبطانهم العداوة وإبرازهم الصفاء وإخفاؤهم الضغينة.



ومن ثم طفق " سيد ولد آدم" يعدهم من ألد الأعداء وإن اضطر إلى ملاينتهم لأنهم ينطقون بالشهادتين ويؤدون صلوات النهار بل ويحضرون بعض مجالسه الشريفة بحسبان أنهم من الصحب والتبع والأوفياء.



وجاءت المغازى والسرايا ضربة على رؤوسهم, إذ انتصر " سيد البادى والحاضر" فى عامتها وفلج فى غالبيتها الأمر الذى أصابهم بالغم وملأهم بالنكد وشحنهم بالكراهية حتى إنهم فى بعض الغزوات والسرايا اضطروا إلى الخروج وسبق أن أوضحنا دوافعهم.



*******



بعض بنى قيلة آمن بدعوة " أشرف ولد عدنان" وهو فى المشاعر المقدسة قرب مكة وتحديدًا فى منى واندفع جمهور غفير منهم إلى اعتناق الإسلام على يد مندوبه الذى بعث به إلى قريتهم مصعب بن عمير وهو أحد الصحبة الخلص المتجردين بينما الغالبية أسلمت عند نزوحه إليهم. إنما الذى لا مشاجة فيه أن شطرًا لا بأس به من الأثاربة ظل مترددًا يقدم رجلاً ويؤخر الآخرى, يظهر ثم يخنس, يبرز ثم يكنس, والدوافع كثيرة والبواعث متعددة والتخضيض أنواع منها: الحماسة للعقيدة السابقة أو الإقتناع بآراء يهود أو لانتصاب العلاقات الملتبكة التى ذكرناها فيما سلف ربما أكثر من مرة.



فجاءت الغزوات والسرايا والبعوث تضع حدًا للذبذبة ولو أنه لم يتم دفعة واحدة, فحين ينتصر المسلمون مثل ما حدث فى بدر الكبرى يتشجعون ولما ينكسرون كما فى غزوة أحد يتقهقرون إذ طفقت نفوسهم تخاطبهم: لو أنهم على حق لما تخلى عنهم ربهم, ولضيق أفقهم لم يدركوا أن الفلج والخيبة فى المعارك مرجعها إلى حُسن التخطيط أو سوئه ودقة الاستعداد أو خرقته وثقل التسليح أو هزاله وهكذا, ولا صلة لهما البتة بالماورائيات ولا وشيجة بينهما وبين الغيبيات ولا حبل يربطهما بالعوالم الخفية ولا علاقة لهما بالكائنات غير المنظورة...... إلخ.



*******



لما شالت كفة الهزائم ورجحت كفة الانتصارات السواحق وارتفعت الرايات المحمدية إلى أعلى عليين, وإذا شئنا الدقة رقمنا أنه بدأت تلوح فى الأفق بشائر الظفر وتظهر علامات الغلبة وتحصحص آيات النجاح, خلف المترددون وراء ظهورهم التذبذب وتركوا الإحجام وفارقوا الارتجاح وطفقوا يعتنقون الديانة الإسلامية على ربث لا على عجل وعلى مهل لا على سرعة وبروية دون اندفاع, بيد أن مصنفات سيرة " المحمود فى الأرض والسماء" أخبرتنا أن إسلامهم لم تشبه شائبة ولم تخالطه عكارة ولم تفسده غيرة وغدا شطر وسيع منهم من خيرة الأصحاب وأبلى بعضهم فى سبيل الإسلام بلاء حسنًا.





*******



الخلاصة
تلك إذن الأسباب أو الدوافع التى وزَّت " صاحب الجهاد" على إصدار قراره الحاسم القيام بالمغازى وبعث السرايا وإرسال البعوث وإنفاذ فرق المهمات الخاصة التى اقتصرت على تصفية الأعداء جسديًا واشتبكت البواعث بالنتائج وبلغ فى عدد منها حدًا يصيب بالربك ويدعو للحيرة ويستنفر الدهش, إذ من الصعب التوصل إلى رأى سديد: هل هذا حضيض أم محصّلة؟.



إنما فى مغلاق الشأن تبقى حقيقة مؤكدة أنه أثبت ويثبت دائمًا فى مختلف مقاطع سيرته المعطاءة أنه عبقرى لا يفرى فريه أحد وفاذ شديد الفذوذة لم تر له جزيرة العرب مثيلاً ولا حتى شبيهًا.



إذ إن القرار الذى نسخناه فى فاتحة هذه الفاصلة ( = إرسال الغزوات والسرايا والبعوث ) من أحكم القرارات التى إتخذها فى حياته المباركة والحصيلة التى نتجت عنه بكل المقاييس: العسكرية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والاعلامية والسياسية فاقت كل التصورات حتى إن عصبة ممن رقموا سيرته المجيدة بهرتهم المغازى فاحتلت رجا ً مفرطحًا من مصنفاتهم ولو أننا نفاصلهم فيه لأن فى مذهبنا أن الحقبة المكية هى الأعظم والأشمخ ولو أن كل مراحل حياته الشريفة هى كذلك وخاصة فترة التأسيس فهى ذروة سنام التألق وقُلة ( بضم القاف ) الروعة وقمة السمو. [ خصصنا لها كتابنا السايق على هذا وقد ظهر بعنوان " فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين" 2001 دار ميريت ].





*******



سرية عبدالله بن جحش


جِماع ما سبق هو فرشة للسرية التى هلّت عقبها آيات من الموعظة / القرآن تقف بجانب " المعصوم من الناس" تعاضده وتؤازره وترفع عنه الحرج وتنفى عنه الضيق وتغرّب عنه القلق وتلقم الأعداء حجرًا وتقطع حجة المناوئين.



تلك هى " سرية نخلة" أو " سرية عبدالله بن جحش" الذى أمره " من تنام عيناه ولا ينام قلبه" على نفر من قريش ودفع إليه كتابًا أى رسالة مكتوبة على صحيفة من جلد مطوية لا يفتحها إلا بعد مسيرة ليلتين وفى بقعة يطلق عليها " بطن نخلة" نشرها وقرأ ما فيها على مسلحته فإذا بها تخيير لهم: من يشاء أن يمضى معه ومن أراد أن يتخلف ويعود لداره.



ومن البديهى أن يسمع جميعهم ويطيع لما يقطع به الرجوع من جبانة.

هذا من ناحية ومن أخرى دأبت الديانات السامية الإبراهيمية الثلاث على دمغ تبعها ببصمة " أكليشيه" الطاعة ووسمه بخاتم السمع والطاعة وشمه بعلامة الإنقياد وكيّه " غالبًا ما يتم ذلك على جبهته " بأثر يقطع به التسليم وليس مصادفة أن وردت " الطاعة" بتصريفاتها المتنوعة عشرات المرات فى القرآن. ومن جانب ثالث إذا رفض النازح " القرشى أو غيره" الإنخراط فى الغزوات والسرايا سيقال له إذن دبّر حالك وشمّر عن ساعديك وقم على أمور معاشك..



ولنستأنف سياقة خطوات السرية:

أمره المكتوب أن يستدبر البطن " بطن نخلة" ويستقبلها هى " نخلة" وفيها فوجئوا بعير لقريش وتشاور المنازيح فيما يفعلون واستقر قرارهم على مهاجمتهم ليحتازوا ما معهم من بضائع فحلقوا رأس أحدهم ليطمئن القرشيون أصحاب العير أنهم عُمَّار بيت الله الحرام ليأمنوا وليصحبوا لقمة سائغة.



وجازت الحيلة على المكاكوة وأمنوا فى أنفسهم وأخذوا يصطنعون طعامًا وبداهة ألقوا أسلحتهم وقيدوا ركابهم وسرحوها ...... هنا انتهز أصحاب السرية الفرصة ةشدوا عليهم فاستأسروا بعضهم وأعجزهم هربًا وقتل آخر واستاقوا العير ومن بين البضائع خمر من زبيب الطائف وشرب الخندريس وقتها حلال زلال.



إلى هنا ومسلك المنازيح لا غبار عليه, حتى حلْق رأس أحدهم ليطن عدوهم أنهم ليسوا أهل حرب بل هم معتمرون قد يجد تبريره تحت شعار أن الحرب خدعة, بيد أن الذى عقَّد المسألة أن القتال وقع فى آخر يوم من شهر رجب وهو من الأشهر الحرم وهى كما هو معلوم أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد وهو رجب , ومن ثم يقال له رجب الفرد وهناك عُرف راسخ الجبال فى جزيرة العرب المباركة أن القتال محرم فيها ولهذا العرف وازع اقتصادى, إذ إن هذه الأشهر جعلوا منها مواسم بيع وشراء وأسواقًا تجارية وتنتقل فيها القوافل فى دروب الصحراء وهى آمنة مطمئنة والذى وزَّ النَزَحَة على تحطيم هذه العرف المتأصل عند جميع قاطنى الجزيرة أنهم لو تركوا العير لدخل الحرم ولأفلتت منهم الغنيمة التى يتحلب ريقهم عليها. ورجع السبعة الكرام بها وبالأسيرين اللذين استسلما إلى أثرب .

[ 1ـ " كتاب المغازى" للواقدى ـ الجزء الأول ـ ص14 وما بعدها, مصدر سابق.

2 ـ " تاريخ الطبرى" لابن جرير ـ الجزء الثانى ـ ص 412 وما بعدها, مصدر سابق.

3 ـ " سيرة ابن هشام " تحقيق د / السرجانى ـ الجزء الثانىـ ص 175 ـ طبعة 1978 المكتبة التوفيقية / مصر.

4 ـ " إمتاع الأسماع" للمقريزى 848هـ ـ تحقيق محمد عبد الحميد النميسى ومرجعه د/ محمد جميل غازى ـ الجزء الأول ـ ص 69ـ الطبعة الأولى 1401هـ / 1981م, الناشر: دار الأنصار بالقاهرة. ].





*******



استحلال الأشهر الحرم


زلزلت الأرض من جراء هذا الحدث فقد اهتبل السفلة المناوئون لـ" أبى القاسم" على تباين توجهاتهم النهزة وطفقوا يوجهون سهام النقد له ولتبعه: " فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا فى الشهر الحرام فأتوا النبى ـ ص ـ فحدثوه الحديث " [ تاريخ الطبرى : الجزء الثانى ـ ص 415 ].



إن عرامة الرغبة لدى ابن جحش وعسكره للإستحواذ على الغنيمة وشدة ميلهم لتملكها وعمق تشوقهم لوضع يدهم عليها دفعتهم إلى أن يدوسوا بأقدامهم على حرمة شهر رجب الفرد ولهم التصريح فى الرساله التى أعطاها لهم" المنصور بالرعب", ولقد وضعت فى حجورنا أسفار السيرة المحمدسة البازخة المنيفة, أن أكثر من واحد من أولئك الصحاب فى سبيل أن يستولى على السلب وهو أخفض نفاسة من الغنيمة لا يتورع أن يقتل الرجل حتى بعد أن ينطق بالشهادتين كيما يؤكد له أنه مسلم مثله ولا يحق له قتله, الأمر الذى أحزن " الرحمة المهداة" فمرة يسأل الصاحب القاتل أو القاتل الصحب: هل شققت قلبه, أى لتعرف هل نطق بالشهادتين عن صدق وإخلاص أم خوفًا من حرّ السيف وفرارًا من القتل, ومرة يجابهه: كيف لك بـ " لا إله إلا الله" ويظل يكررها من شدة بثه وعميق حزنه ودفين أساه حتى يعقب التابع الباطش الفاتك : ليته سكت.



ثم مآبة إلى السياق:

ذاك الصنبع النزق أصاب " صاحب النسب الموصول" وتبعه بالحرج فقد نبح سائر الكلاب الذين يتربصون بهم ويتمنون أن تدور بهم الدوائر وأن تنصب على رؤوسهم النوازل وأن تصك يوافيخهم المصائب:

قالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال. [ السيرة النبوية لابن هشام ـ تحقيق محمد فهمى السرجانى ـ الجزء الثانى ـ ص 177 ـ مصدر سابق ].



وفى رواية ابن جرير الطبرى وهو عمدة مؤرخى الإسلام:

ففخر عليه المشركون وقالوا: محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا فى رجب. [ تاريخ الطبرى ـ الجزء الثانى ـ ص 414 ].



واضطرب المسلمون الباقون فى مكة وهيمن عليهم الربك وأصابتهم الحيرة وشملتهم اللخمة ومن غزارة ما اعتراهم لم يثبتوا على قول, فمرة ادعوا أن الواقعة المشينة ارتكب فى جمادى [ ذات المصدر والجزء والصفحة ], وكرة أخرى زعموا أنهم ( = رجال السرية المغاوير ) إنما أصابوه " يعنى القتيل" فى شهر شعبان. [السيرة النبوية لابن هشام ـ تحقيق محمد فهمى السرجانى ـ الجزء الثانى ـ ص 177, مصدر سابق ].



ومعلوم أن التخبط دليل على التبلبل وبهان على ضعف الحجة وشاهد على المرج.



*******



ليس من المتصور أن يترك اليهود هذه الفرصة دون أن يخبوا فيها ويضعوا " وقالت يهود ـ تفاءل بذلك على رسول الله ـ ص ـ عمرو بن الحضرمى قتله واقد بن عبد الله, عمرو = عمرت الحرب ـ والحضرمى = حضرت الحرب, وواقد بن عبدالله وقدت الحرب, فجعل الله ذلك عليهم لا لهم " [السيرة النبوية لابن هشام ـ تحقيق محمد فهمى السرجانى ـ الجزء الثانى ـ ص 177, مصدر سابق ].



إن اليهود لم يكتفوا بالأقوال المرسلة بل تراهم يعمدون إلى تحريض قريش على الأخذ بثأر رجلهم المقتول فى الشهر الحرام = عمرو بن الحضرمى.



والذى شوش على صناديد قرية التقديس وهم قوم تجار أنهم ذعروا من الإستهانة بالأشهر الحرم من قبل المسلمين لأن دالته المباشرة هى إعلان موت حرمة الأشهر التى تغدو فيها وتروح قوافلهم آمنة مطمئنة بل أنهم , أى المسلمين, كفنوها ( الحرمة ) وصلوا عليها صلاة الجنازة. ولم يعد لها وجود ومن ثم فإن متاجرهم, وهى عماد حياتهم, أمست فى خطر داهم وشر مستطير وتهديد مستمر.



فإذا أضيف تمريغ كرامتهم فى التراب وشرفهم فى الوحل ومكانتهم فى الطين مع قتل واحد منهم وأسر اثنين أصبح لتحضيض بنى إسرائيل إياهم على شن الحرب صدى عميق يلفى منهم آذانًا مصغية ونفوسًا مستجيبة.



*******



ومن ثم بلغ الضيق بـ " المنصور بالرعب مسيرة شهر" مداه حتى إنه " قال لأصحابه: ما أمرتكمبقتال فى الشهر الحرام". [ إمتاع الأسماع: للمقريزى ـ الجزء الأول ص70 / وأسباب النزول: للواحدى ـ ص 43ـ ]. بالرغم من الصحيفة المكتوبة لقائد السرية ابن جحش.

ألعلها " التقية".



ولم يكتف بهذا التعنيف بل إنه وقف العير وأبى أن يأخذ شيئًا.



وشعر ابن جحش وجنده بنكارة فعلتهم وفحاشة صنيعهم وسوء تدبيرهم " فلما قال ذلك رسول الله ـ ص ـ سقط فى أيدى القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ". [السيرة النبوية لابن هشام ـ تحقيق محمد فهمى السرجانى ـ الجزء الثانى ـ ص 177, مصدر سابق ].



وتبكيت إخوانهم لهم مرده فى تقديرنا لأمرين:

أولهما: أنهم رأوا فى فعلة ابن جحش وزمرته تحطيمًا لمعلم هام وعرف مستقر وتقليد راسخ وهو الكف عن القتال فى الأشهر الحرم وعدم رضائهم عنها وعن الباحث اليتيم الذى كمن خلفها.

آخرهما: ما لمسوه بأيديهم وسمعوه بآذانهم ونظروه بباصراتهم ما أصاب سيدهم وسيد الخلق من غم وما علاه من هم واعتوره من قلق من جراء عدم تملك ابن حجش وعصبته لزمام أنفسهم وانسياقهم وراء غريزة الجشع والطمع.





*******



الآيات المنقذة


وإذ بلغت الأزمة ذروتها والمعضلة غايتها والمشكلة أقصى مداها فمن المستحيل أن يذر " الحق / القرآن" " قطب الأقطاب" فى الحالة التى وصفناها, فأشرقت آية عظيمة تتهادى تلبى نداءه الكريم وتحقق طلبته العزيزة وتوفر له مُنيته الملحة والتى وإن لم يصرح بها فقد كشفت عنها شواهد الحال.



" فوقف على ذلك النبى ـ ص ت وقال: لم ىمركم بالقتال فى الشهر الحرام, فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام فنزلت: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } إلى قوله { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ }. [ أسباب النزول: للواحدى ص 41 ].



" فقال المشركون للمسلمين قتلتم فى الشهر الحرام فأنزل الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ـ الآية } [ أسباب النقول فى أسباب النزول: للسيوطى ص 29 ].



والآية هى السابعة عشرة بعد المائتين من سورة البقرة ونصها:

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.



أى " أن القتال فى الأشهر الحرم كبير وعظيم ولكن الأعمال التىارتكبوها مع المسلمين ومع النبى ـ ص ـ ولا تزالون ترتكبوها هى أكبر وأفظع وأشد خطرًا على الإنسانية من القتال فى الأشهر الحرم " [ سيرة المصطفى ـ نظرة جديدة: تأليف هاشم معروف الحسنى ـ ص 319 ـ الطبعة الأولى 1416هـ / 1996م ـ دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ].



وهنا استراحت نفس " المصطفى" الشريفة وهدأ باله واطمأن خاطره فقبل الغنيمة والأسيرين " فلما نزل القرآن بهذا الأمر وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله ـ ص ـ العير والأسيرين " [السيرة النبوية لابن هشام ـ تحقيق محمد فهمى السرجانى ـ الجزء الثانى ـ ص 178, مصدر سابق ].



واخذ " المدثر" خمس الغنيمة وهو أول خمس من أول غنيمة وفادى الأسيرين بأربعين أوقية لكل منهما وهذا أول فداء لأول أسير فى الإسلام. [ إمتاع الأسماع: للمقريزى ـ الجزء الأول ص70].



وهكذا أثبت الذكر الحكيم أنه يدور مع القائد المظفر حيثما دار ويحاثيه أينما ذهب ويواكبه أنى تحرك وما إن يتعرض لضائقة أو يوقعه تبعه فى ورطة أو تتآمر عليه نستؤه تشرق إحدى شموسه النيرة" نعنى آياته" فتجلو عنه الظلمة وتبدد من حوله العتمة وتعيد إلى أساريره الطاهرة : البسمة.وعنها قالت





*******



[ 10 ]
حكاية ماريا القبطية


ردًا على رسالة " أجود الناس" أرسل المقوقس هدية إليه فيها فتاتان إحداهما مارية القبطية " شابة مصرية حلوة جعدة الشعر جذابة الملامح جاءت من أرض النيل .. تحمل فى كيانها سحر مصر وفى أعطافها أريج الوادى العطر .. "[ نساء النبى: لبنت الشاطئ ـ ص190ـ وما بعدها ].



وعنها قالت التيمية ينت ابن أبى قحافة " ما غرت على امرأة ما غرت على مارية وذلك أنها جميلة من النساء دعجة فأعجب بها رسول الله ـ ص ـ وكان أنزلها أول ما قدم بها فى بيت الحارثة بن النعمان وكانت جارتنا وكان رسول الله ـ ص ـ عامة النهار والليل عندها حتى فرغنا لها فجزعت فحولها إلى العالية وكانت يختلف إليها هناك وكان ذلك أشد علينا ثم رزقه الله منها الولد وحرمناه". [ السمط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين: تأليف الإمام محب الدين الطبرى ـ المتوفى 694هـ ـ تحقيق أ. د/ حمزة النشرتى, والشيخ عبد الحفيظ فرغلى ـ ص 246, 247 ـ الطبعة الأولى 1382هـ / 1961م ـ الناشر هو المحقق الأول ].



وذكر المحققان أن المؤلف إمام عالم بلغ منزلة رفيعة فريدة فى العلم وشهد له بها شيوخه وأساتذته وله عشرة مؤلفات فى شتى فروع العلوم الإسلامية خلا " السمط" مما يضفى على كتاباته سمة الصحة والصدق.



وتضيف الدكتورة عائشة عبد الرحمن أنه فى ذياك الوقت شارف الستين ونزوج بعد السيدة خديجة عشر زوجات منهن الشابة الفتية والمرأة الناضجة. [ نساء النبى ص 192 ].





*******



فى يومى وعلى فراشى


عن عائشة قالت: ... فلما كان يوم حفصة, استأذنته أن تأتى أباها فأذن لها فذهبت فأرسل إلى جاريته مارية فأدخلها بيت حفصة قالت حفصة: فرجعت فوجدت الباب مغلقًا, فخرج ووجه يقطر وحفصة تبكى فعاتبته قائلة: أفى يومى وعلى فراشى, فقال أشهدك أنها علىّ حرام انظرى ولا تخبرى بهذا امرأة وهى عندك أمانة" [ المقبول من أسباب النزول: د/ أبو عمر الأزهرى ص 683 مرجع سابق ].



أما الواحدى فيطلعنا على الحوار الذى دار بين " متمم مكارم الأخلاق؟؟" وبين زوجته العدوية حفصة بنت عمر الذى مسّ مارية فى حجرتها وعلى فراشها " دخل رسول الله ـ ص ـ بأم ولده مارية فى بيت حفصة فوجدته حفصة معها فقالت: لم تدخلها بيتى ما صنعت بى هذا من بين نسائك إلا من هوانى عليه, فقال لها لا تذكرى هذا لعائشة هى علىّ حرام إن قربتها, قالت حفصة, وكيف تحرم عليك وهى جاريتك فحلف لها ألا يقربها , قال لها لا تذكريه لأحد " [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 291 ـ مصدر سابق ].



وفى " المختصر": { قيل أصاب رسول الله مملوكته مارية القبطية فى بيت زوجه حفصة بنت عمر وفى يومها فوجدته حفصة فى ذلك فغارت فقال: ألا ترين بأن احرّمها فلا أقربها, قالت: بلى فحرمها على نفسه وقال: لا تذكرى ذلك لأحد} [ المختصر فى تفسير القرآن: مختصر من تفسير الإمام الطبرى ـ لابن صمادح التجيبى وأمهات كتب التفسير ـ تنقيح وتحقيق د/ عدنان زرزور ـ فى تفسير سورة التحريم ص 447 ـ الطبعة الأولى 1399هـ / 1979م ـ مؤسسة الرسالة بيروت ].



حفصة من بين الزوجات غير الجميلات نكحها " المعصوم من الناس" إرضاءً للعدوى ابن الخطاب الذى يعتبر بمثابة وزيره الثانى وقد عرضها قبله على كل من التيمىّ أبى بكر والأموى عثمان فرفضاها رغم شبابها الغض إذ لم تصل إلى العشرين وكثيرًا ما ردد أبوها على مسامعها أن " سيد الناس" لايحبها ولولا هو لطلقها ومع عدم اتسامها بالقسامة ورثت عن بنى عدىّ حدة المزاج ويبدو أنه لم يطق عشرتها وقد جمعت بين الأمرين فطلقها, لكنه سرعان ما راجعها, لأنه أدرك أن طلاقها سوف يغيّر قلب العدوىّ وهو من ركائز مجلس شوراه وله مناقبه.



وهى من اللائى استبقاهن على ذمته لأسباب أخرى بخلاف الرغبة فيهن كزوجات وتنضم إليها سودة بنت زمعة وأم حبيبة بنت أبى سفيان بعكس اللاتى استبقاهن لذواتهن بغض النظر عن أى اعتبار آخر وهنّ : عائشة وأم سلمة وزينب بنت حجش اللاتى تمتعن بحسن فائق ووضاءة بالغة وجمال فاتن وحلاوة آسرة وقسامة أخاذة.



وهذا يفسر قول العدوية: ما صنعت لى هذا من بين نسائك إلا لهوانى عليك. ومن المفسرين المحدثين اخترنا عبد الحميد كشك:

روى النسائى بسنده عن أنس أن رسول الله كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمّها فأنزل الله عز وجل { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ فى رحاب التفسير : للشيخ عبد الحميد كشك ـ الجزء الثامن والعشرون ـ 6 تفسير سورة التحريم ـ ص 7267ـ د. ت. ن. المكتب المصرى الحديث ـ القاهرة ].

ولعل القارئ لاحظ أن هذه المفسر الحديث اختصر الواقعة اختصارًا مخلاً بيد أنه لم يستطع أن يشكك فيها وأورد سندها.



والمؤلفون المحدثون على بكرة أبيهم فى ضروب الإسلاميات ينهجون ذات النهج متوهمين أنهم على حق وأن سلفهم الصالح قد ذكروا الوقائع كما هى على ضلال وبداهة وهو منهاج فسيد علاوة على مجافاته للموضوعية والأمانة العلمية فهم ليسوا بأكثر تقوى ولا أشد ورعًا ولا أعمق إيمانًا من السلف.





*******



لم يحب من الدنيا سوى الطيب والنسوان


بعد أن حلف " ذروة بنى هاشم" للعدوية ألا يقرب أم ولده مارية القبطية وهى بالوصف الذى جاء على لسان التيمية عائشة وهو فى ذات الوقت شديد الإعجاب بها وعامة النهار والليل عندها وهى فى نفس الحين أمته وسريته وجاريته وملك يمينه ومن حقه أن يأتيها ـ ينكحها ويعتليها ـ متى شاء فهذا حقه وحق أى مسلم. تسببت العدوية حفصة إذن بغيرتها الملتهبة ومزاجها الحاد فى أزمة لـ " سيد الأولين والآخرين" فإما ألا يأتى ناحية مارية وهى من من هى وإما أن يحنث بحلفه وحاشاه, أن يفعل, وهو إمام المتقين وصاحب الخلق العظيم والشمائل الكاملة والمناقب الشريفة !!! , مما لا يتصور معه أن يفعل.



وللإبانة عن وقع الضيق على نفس " الفدغم " [ الحسن الجميل والعظيم الجليل" سبل الهدى والرشاد فى سيرة خير العباد" للإمام محمد بن يوسف الصالحى الشامى المتوفى سنة 942هـ وهو المعروف بـ" السيرة الشامية" الجزء الأول ـ ص 612 ـ تحقبق د. مصطفى عبد الواحدـ الطبعة الأولى 1392هـ / 1972م ـ لجنة إحياء التراث الإسلامى ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر]. نذكر أنه لم يحب من الدنيا سوى الطيب والنسوان " عن الزهرى عن النبى ـ ص ـ قال: رأيت كأنى أُتيت بقدر فأكلت منها حتى تضلعت فما أريد أن آتى النساء أى ساعة إلا فعلت منذ أكلتها".



وعن مجاهد قال:{ أُعطى رسول الله ـ ص ـ قوة بضع وأربعين رجلاً كل رجل من اهل الجنة } أى فى الجماع. [ الخصائص الكبرى للسيوطى ـ الجزء الأول ص 168 ].



بيد أن القرآن المجيد لا يفاصله طرفة عبن , يعاضده فى كل موقف ويقف بجانبه فى كل حين فتظهر الآيتان الأولى والثانية من سورة التحريم : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم }



إذن فما عليه إلا أن يكفر عن يمينه التى حلفها { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } أى أوجب لكم الكفارة. [ تفسير غريب القرآن: لأبى محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة ـ تحقيق السيد أحمد صقر ـ ص 472 ـ الطبعة الولى 1398هـ / 1978م ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان // احكام القرآن : للإمام الفقيه عماد الدين محمد الطبرى المعروف بالكيا الهراسى ـ المجلد الثانى ـ الجزء الرابع ـ ص 425 ـ الطبعة الأولى 1403هـ / 1983م ـ وفى الهامش " انظر محاسن التأويل ـ ح/16 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت. ويؤكد الكيا الهراسى أنه: " لا إيمان فى مجرد التحريم" ].



ويذكر الشيخ عبد الحكيم كشك عند تفسيره لسوة التحريم ما يلى:

" وقال ابن جرير ( الطبرى شيخ المفسرين ) إن ابن عباس كان يقول فى الحرام يمين تكفرها ـ وقال ابن عباس " لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة" يعنى أن رسول الله ـ ص ـ حرم جاريته فقال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفر يمينه فصيّر الحرام يمينًا ورواه البخارى ومسلم والدارقطنى. [ فى رحاب التفسير : للشيخ عبد الحميد كشك ـ الجزء الثامن والعشرون ـ 6 تفسير سورة التحريم ـ ص 7267ـ د. ت. ن. المكتب المصرى الحديث ـ القاهرة ].



وبهذا بلغ هذا الحديث قمة التوثيق وذروة التوكيد وقمة الصحة.



*******



ومرة أخرى وليست أخيرة يهدى الذكر الحكيم آيتين كريمتين إلى خيرة خلق الله ترجان عنه الضائقة وتنتزعانه من الحرج وتنفحانه الحل السعيد فيعود إلى مملوكته المحبوبة المعْجبة مارية القبطية بعد أن كفرّ يمينه بل إنه يغدو حُكْمًا لكل مسلم بعده يحلف على إمرأته أنها حرام عليه.





*******



[ 11 ]
حلف عائشة وصفية


نهى " أول من تنشق عنه الأرض" العدوية بنت ابن عبد الخطاب نهيًا قاطعًا أن تخبر أحدًا بما حدث وخاصة زوجاته وبالأخص عائشة التيمية وهذا حديث صحيح أورده الحافظ ( = ابن حجر العسقلانى ) فى الفتح والطبرانى فى تفسيره وابن جرير الطبرى فى التغسير والضياء المقدسى فى المختار وابن كثير فى تفسيره والهيثم بن كليب فى مسنده والسيوطى فى اسباب النزول والحاكم فى المستدرك وصححه الذهبى. [ المقبول فى اسباب النزول: للأزهرى ـ ص 678 وما بعده ].



وطاعة " أحمد" فرض واجب على كل مسلم ومسلمة بنص القرآن المجيد, بل إن هناك آيات تقرن طاعته بطاعة الله جل جلاله وهو شرف لم ينله من فبله أحد من الذين سبقوه, وحفصة تعلمه حق العلم وتعيه جيدًا فضلاً عن أنها زوجته ومن المنظور الإسلامى طاعة الزوجة لزوجها أمر مفروغ منه, ويوجد حديث محمدى شريف يخبرنا أنه لو الأمر بيده لأمر الزوجة أن تسجد لزوجها.



إذن ما الذى وزّ العدوية على مخالفة ذياك النهى الصارم؟, فما إن غادرها حتى أرقلت إلى ابنة عتيق: عائشة تخبرها بالواقعة " فلما خرج نزعت الجدار الذى بينها وبين عائشة فقالت: ألا أخبرك؟ إن رسول الله ـ ص ـ قد حرَّم أمته " أى أنها لن تنتظر حتى تدخل على بنت التيمىّ من الباب بل نزعت الجدار الفاصل بينهما. هناك أكثر من سبب ودافع لهذا السلوك من قبل ابنة عمر:

يأتى فى مقدمها حدة أخلاقها وهذه تمنع صاحبها أو صاحبتها من السيطرة على نفسه ويندفع فيما يندّ عنه من أعمال من أقوال أو أفعال ـ هذا من ناحية ومن رجا آخر فإنها اعتبرت غِشيان " سيد ولد إسماعيل" لأمته على فرشها وفى حجرتها صدعًا لكرامتها وما درت أنه زوج غير عادى وأن هذا يعتبر من خصوصياته التى انفرد بها عن سائر المسلمين مثل استبقائه تسع زوجات على ذمته فى حين أن سائر تبعه لايحق لهم أكثر من أربه لقد دخل الديانة التى بشَّر بها نفر من العُربان لكل واحد منهم أكثر من أربع " بعضهم له عشر" فاضطر إلى مفاصلة الزوائد واقتصر على الأربع, ثم نؤوب إلى السياق.



أرادت العدوية من إخبار التيمية بالحادثة تحقيق غرضين:

أولهما: أن تتحبب إليها فهى تعرف منزلتها لدى " المزمل" فتحمل إليها بشرى تحريم مارية علبه التى ذكرت ابنة إبى بكر أنها ما غارت من واحدة من نسوانه مثلما غارت من القبطية الحسينةز

آخرهما: أن التيمية بمالها من مقام محمود لديه تساعدها على رأب الشرخ الذى أصاب كرامتها, إذ ليس للعدوية " حفصة" فى نفسه من الحظوة ما يمكنها من ذلك, بل لو أن لها أقل نصيب منها لما حدثت الواقعة من الأساس.



*******



هنا دخل " قطب الأقطاب" فى أزمة جديدة أعقبت الأولى وجاءت مُصلية لها, فقد تحالفت التيمية مع العدوية إذ تخبرنا كتب السيرة المعطار والأحاديث المحمدية الشريفة أنه" كانت عائشة ابنة أبى بكر وحفصة تتظاهران على سائر نسونه" وترسّخت الأزمة على ركيزتين:

أ ـ أنهما ابنتا وزيريه ومستشاريه والمساس بهما كطلاق أو ظهار ... إلخ, لن يمر بسهولة بل سوف يخلف وراءه ندوبًا بل جروحًا غوائر فى شتى المناحى السياسية والأمنية والعصبية خاصة أنه يمر بمرحلة دقيقة وسبق أن ذكرنا أن العدوىّ أفلتت من فيه عبارة من جراء حدة مزاجه وشت بحقيقة مكانتها وهى قوله لها : لولاى لطلقك".

ب ـ ان عائشة أحب زوجاته إليه وأصغرهن سنًا وهى فى حدود الخامسة عشرة إبان ذاك ومن اجملهن وكيف لا تغدو كذلك فأبوها أبو بكر له لقب شى بالوسامة والقسامة وهو " عتيق" وقد درجت سيدة نسون قريش خديجة فى حياتها على مناداته به كما أن وادلة عائشة (أم رومان) امتازت بعينين حوراوين بل بالغتى الحَوَر ( = شدة بياض العين مع شدة سوادهما والعرب تفضله فى المرَة ), وهناك أثر يقول: من سره أن ينظر إلى حور عينى الجنة فلينظر إلى عيني أم رومان.



إذن مفارقة هذه الزوجة الجارية الصبية ذات الوضاءة البالغة أمر فيه عَنَت لأى زوج فما بالكم بـ " الأمين" الذى كثيرًا ما ردد أنه ما حبب إيه من دنيا إلا الطيب والنساء و" أنه كان النبى ـ ص ـ يدور على نسائه فى الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشر قلت لأنس " وهو راوى الحديث" أو كان يطيقه؟

قال: كنا نتحدث أنه اُعطى قوة ثلاثين " [ أخرجه البخارى عن طريق أنس ـ وهو خادم " خير البرية" وأعرف الصحاب بأحواله].



كما أخرج ابن سعد عن مجاهد وطاوس واقتصر على عُجُز الحديث " أُعطى رسول الله قوة أربعين رجلاً فى الجماع" [ هذه الأحاديث أوردها فى " الخصائص الكبرى" السيوطى ـ المجلد الأول ـ فى باب للآية فى الجماع ص 167 ـ مصدر سبق لنا ذكره ].



وهكذا تتوالى الأزمات وتظل تزحف حتى تصل إلى عقر داره كأنما لا يكفيه الأعباء الثقال التى يحملها وهو يبشر بديانة جديدة ويُعلى بنيان دولة أجداده وكل واحدة منهما تنوء بها كواهل العصبة من الرجال الأقوياء الأشداء.



*******



ويتشوف " خليفة الله" إلى ما يفك هذه العقدة وإلى نهاية سعيدة تحفظ عليه سلام بيته ولا تبعد زوجته الحبيبة عنه ويظل وزيراه المخلصان على سابق العهد بهما.



ولا يبطئ الهدى المجيد كما عوده وكالبدر فى منتصف الشهر تظهر الآيات الكريمات { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ سورة التحريم 3, 4 ].



وقبل أن نمضى فى التحليل الموضوعى أو التنقير والتنقيب نضع فى بؤبؤ عين القارئ أن النص الحكيم خاطب اثنتين " جاء بالمثنى" .. تتوبا .. قلوبكما وتظاهرا. حقيقة أن كلمة قلوب جاءت بالجمع إنما ضمير الخطاب أو المخاطب ورد بالتثنية !!!!!!!.



وهما حصرًا وتحديدًا التيمية والعدوية " أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب: من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال: عائشة وحفصة" [ المقبول للأزهرى ص 684 مصدر سبق ذكره].



وهكذا قطعت جهيزة قول كل خطيب أى لم تعد هناك ذرة من ريب أن المتظاهرتين هما ابنة عتيق وبنت ابن الخطاب الذى نقل عنه حِبر الأمة ابن عباس الخبر.



*******



الآيتان السابقتان طلبتا منهما الكف عن التظاهر ضد " الخاتم" . بان خيرتهما بين أمرين:

الأول: التوبة عن التظاهر مما يمنح دلالة أنها خطأ أو غلطة لايجوز الإقدام عليها وحتى الإقتراب منها بل مجرد الهم بها, ولقد فسر الشيخ محمد سيد طنطاوى رأس مؤسسة التقديس بمصر " صغت قلوبكما" انها مالت عن الحق. وهو تعبير أوعر من الخطأ. [ معاجم اللغة تخبرنا عن معنى تظاهروا أى اجتمعوا معًا لإعلان الرضا أو السخط عن أمر يهمهم ].

أما ابن صمادح التجيبى فى " المختصر" فيدرج هذه العَمْلة تحت بند البَغى بالسوء لـ " سابق العرب" إذ نص على ما ياتى: وليه وناصره عليهما وعلى كل من بغاه بسوء. [ المختصر فى تفسير القرآن: مختصر من تفسير الإمام الطبرى ـ لابن صمادح التجيبى فى تفسير سورة التحريم ].

الآخر: فى حالة الإصرار على التظاهر ضده فإن ربه ناصره ومؤيده وجبريل والملائكة وكل مؤمن صالح.

وهو جمع كريم وفى ذات الوقت قوى مكين لاطاقة لبشر مهما بلغ به الجبروت ووصل به العُتُوّ وأعماه الظغيان أن يتحداه ويواجهه فما بالك بإمرأتين أولاهما لم تجاوز الرابعة عشرة إلا بقليل والأخرى ناهزت العشرين, وحققت الآيتان مراد " المتوكل" وكفَّت الزوجتان عن التظاهر بل لم تفكرا فى العودة إليه أبدًا.



{ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } هذا خطاب لعائشة وحفصة وتوبتهما مما جرى منهما ... ومعنى صغت أى مالت عن الصواب وقرأ بن مسعود : زاغت. والمعنى إن تتوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة ... { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ } والمعنى إن تعاونتما عليه ـ ص ـ بما يسوؤء من إفراط الغيرة وإفشاء سره ونحو ذلك فإن له من ينصره ومولاه ... " [ كتاب التسهيل لعلوم التنزيل: للإمام العلامة محمد بن أحمد بن جزئ الكلبى ـ الجزء الرابع ص 131 عند تفسير سورة التحريم ـ الطبعة الثانية 1392هـ / 1973م دار الكتاب العربى ـ بيروت ـ لبنان ].



وأورد الزمخشرى الخبر الذى مفاده أن ابن عباس سال عمر بن الخطاب: من هما؟ فقال: عجبًا يا ابن عبباس, كأنه كره ما سال عنه ثم قال: هما حفصة وعائشة, ونضيف أنه هنا قدّم حفصة على عائشة.

ثم استطرد الزمخشرى مفسرًا: { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن الواجب فى مخالصة رسول الله ـ ص ـ من حب ما يحبه وكراهة ما يكره, وقرأ ابن مسعود: فقد زاغت و" إن تظاهرا" وإن تعاونا " عليه" بما يسوؤه من الإفراط فى الغيرة وإفشاء سره فلن يعدم هو من يظاهره وكيف يعدم المظاهر من الله مولاه: أى وليه وناصره... فما يبلغ تظاهر امراتين على من هؤلاء ظهراؤه.

[ الكشاف للزمخشى ـ المجلد الرابع ـ ص 131 عن تفسيره لسورة التحريم ـ مصدر سابق ].



*******



ومن المتيقن أنه بعد أن تابت التيمية والعدوية وكفتا عن التظاهر ضده ثاب إليه هدوؤه وراحته النفسية. وأثبت القرآن المجيد أنه يكلؤه بعنايته ويحوطه برعايته ويشمله باهتمامه ويتولى تفريج ما يعرض له من هموم وما ينتابه من غموم وما يمسَّه من كروب على كافة المستويات, وهذا من رجا ومن آخر تتبدى حكمة نزوله منجمًا أى مفرقًا بدخوله فى علاقة جدلية مع الواقع المعاش إن من جهته أو من ناحية تبعه أو من جانب الأشخاص الفاعلين فى المجتمع كما سوف نرى ونحن نتابع مسيرته المدهشة المُعجبة.





*******



[ 12 ]
لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء


رقمنا فيما سبق مناوأة بنى إسرائيل لـ" الزاهد؟؟" منذ اللحظة الأولى التى وطئت الشريفتان قرية الأثاربة ذات الحرتين وما انفكت سوءاتهم الفعلية وبذاءاتهم الكلامية وسفالاتهم اللسانية تترى فى الخفاء والظهور وفى السر وفى النور والظلماء ـ رغم محاوىته العديدة التى قدمها فى سبيل الموادة أو حتى الحياد الإيجابى حتى انتهى به الأمر إلى إجلاء بعضهم وقتل البعض الآخر, ويقدر بعض الإخباريين أن عدد من تمت تصفيتهم جسديًا من بنى قريظة ما بين الستمائة والنسعمائة من الرجال والصبيان الذين نبت شعر عانتهم.



والجالية اليهودية فى أثرب فى ذياك العهد قدرها أحد الباحثين بأكثر من أربعين ألف نسمة " ... ولذلك فإن اليهود بأسرهم المبنية على زواج الأقارب التى تتكون كل منها من ستة إلى سبعة أعضاء ملاعين كانوا يشكلون عددًا من السكان يتراوح بين 36000 و 42000 نسمة" [ محمد واليهود ـ نظرة جديدة : تأليف د. بركات أحمد ـ ترجمة: محمود على مراد ـ ص 88 الطبعة الأولى 1998 ـ " الأعمال الدينية ـ مكتبة الأسرة ـ مهرجان القراءة للجميع ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ].



وهو عدد ليس مهزولاً بالإضافة إلى أن ذراعهم الاقتصادية بلغت منتهى المُكنة, وينبئنا الإخباريون أنهم تملكوا وقت ذاك أربعمائة دكان صياغة " ذهب وفضة" وهيمنوا على أسواق باكملها وبعضها حمل أساميهم مثل " سوق بنى قينقاع".



وكذا لهم باع طويل فى تجارة السلاح, ولا يُفهم منه أنهم اُلافة أو ممتشقوه, فقد أثبتت السيرة المحمدية الطيبة أنهم جبناء رعاديد خلا الشجاعة والجرأة القولية والإقدام الشفاهى, أما عند اللقاء فهم أشد اضطرابًا وأبلغ ارتعاشًا وأفحش ارتعادًا من النعام.



يقول الباحث د. بركات أحمد:" إن من الغريب أن اليهود يظهرون فى سيرة الرسول كتجار للسلاح والدروع بنفس الصورة التى كانوا يظهرون بها فى انجلترا فى العصور الوسطى التى يصورها الروائى الاسكتلندى والتر سكوت والظاهر أنهم لم يكونوا يستعملون هذا السلاح بصفة فعلية". [ محمد واليهود : ص 110 مرجع سايق ].



*******



القبائل اليهودية الثلاث: قريظة والنضير وقينقاع ربطتهم وشائج متينة بعدد من بطون وأفخاذ بنى قَيْلة, منها ما هو عقد أو حلف أو ولاء بل وأنساب وقرابة, وللأسف فإن كتاب السيرة المحمدية المجيدة يعتمون على الرجا ولا يذكرونه, إذ فى نظرهم يشين الأنصار وهذا وهم, ذلك أن الأوضاع بمختلف أضلاعها هى التى حتّمت انتصاب تلك العلائق ولم يخترها اليثاربة العَرَبة بمحض إرادتهم.



المهم أن تلك الروابط وردت آيات من البيان المحكم إما بمناسباتها وغما تعليقًا عليها:

{ أخرج بن جرير من طريق سفيان الثورى عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جرير عن ابن عباس قال:

كان أناس من الأنصار لهم أنساب وقرابة من قريظة والنضير, وكانوا يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت :" ليس عليك هداهم"} [ المقبول للأزهرى ص 184 ـ مرجع سابق].



ولعل هذا الخبر يشكل محطة عبور من الشك إلى اليقين وجسر انتقال من الريب إلى التحقيق وقناة توصيل من التردد إلى الثبات بصدد الواقعة التاريخية وهى لبْك بنى قيلة بأولاد الأفاعى.



{ أخرج الواحدى عن جزيبر عن الضحاك عن ابن عباس قال:

نزلت فى عُبادة بن الصامت الأنصارى, وكان بَدريًا نقيبًا, وكان له حلفاء من اليهود, فلما خرج النبى ـ ص ـ يوم الأحزاب, قال عبادة: يا نبى الله, إن معى خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معى فأستظهر بهم على العدو. فأنزل الله تعالى:" لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء" } [ الدخيل للأزهرى ـ ص 67 ـ مرجع سابق ].



فهذا العُبادة الذى يحلّى صدره لقبان منفيان, نقيب " ممن حضر أو شهد العقبة", وبدرى " أى قاتل فى غزوة بدر الكبرى" لا يتحرج من إخطار " الناطق بالحق" بقيام حلف بينه وبين أولاد يعقوب بل وإنه على استعداد أن يُجيّش منهم خمسمائة يقاتلةن تحت لوائه ـ فى حين نرى الكتبة المحدثين يغمضون أعينهم ويولون ظهورهم وينأون بجوانبهم عن هذه الحقيقة التاريخية الموثقة التى تمتلئ بها دواوين السيرة الطبية ومؤلفات التاريخ وكتب علم القرآن بشتى ضروبها.



لقد ارتفعت الوشيجة المتين بين الطرقين إلى قُلة قامتها:

{ أخرج أبو داود وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مِقْلاتًا ـ أى لا يعيش لها ولد ـ فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده, فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار, فقالوا لا ندع أبناءن, فأنزل الله عز وجل: " لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى" } [ المقبول للأزهرى ص 140 ].



إن أبجديات سنن الاجتماع البشرى تبصّرنا أن فصم التواصل بين الأثاربة الإسرائيليين واليثاربة الأعاريب من المستحيل أن يقع فجأة ومن المتعذر أن يتم فورًا ومن الصعب أن يحدث بغتة, وهى ظاهرة خطيرة من الحتم اللازم أن تقلق " المُلبّى" وتثير فى نفسه نوازع الإضطرب وفى وجدانه بواعث الملل, لأن استمرار هذه العلاقات الحميمة والروابط العميقة والصلات المتينة يرسّخ خطرًا داهمًا على المنازيح, باعتبار أن اليهود وبنى قيلة من أقرب الاحتمالات يشيآن على أرض الواقع قطْبى الرحا التى هى فى أى وقت على استعداد لطحنهم ... هذا من شق ومن آخر لعله مترتب عليه أو مرتبط به ارتباط النتيجة بالسبب ـ يقف حجرة عثرة أو عقبة كأداء أو حاجزًا عضالاً أو شوكة صلبة حادة فى حلق الدولة القرشية التى عقد " البدر البديع" عزمه على تأسيسها فى قريو الحرتين ليثبت للقاصى والدانى أنه " ابن عبد المطلب" ونذكّر القارئ بالعرض الساذج الذى قدمه عُبادة بن الصامت له, بأن فى مقدوره تجنيد خمسمائة يهودى للقتال معه وبقدر ما أثبت هذا اليثربى طيبة قلبه شأن بنى قيلة على بكرة أبيهم أو أمهم وهذا هو السر فى أن بنى سخينة " قريش" فى سقيفة بنى ساعدة التهموا الكعكة وحدهم ولم يتركوا لهم فتاتة. مع أن البلد بلدهم والديار ديارهم ولا تعليل لهذا اللغز التاريخى إلا بالعبط وخموم القلب لديهم, ثم نعود فنرقم أنه بقدر ما أثبت ذلك ابن الصامت سلامة الطوبة بقدر ما أثبت " المدثر" بعد نظر وحنكة وحصافة ولا نديد لها فى رفضه للعرض, لأنه من المؤكد ـ لا من المحتمل فحسب أن يغدو الخمسمائة يهودى وحلفاؤهم من رهط ذلك العُبادة نواة فيلق معارضة مسلحة وهذه داهية دهياء وباقعة صماء وفاقرة قاصمة للظهر لا يعلم إلا الله تعالى وحده مدى خطورتها على المنازيح ودولتهم الوليد.



*******



وكما تعودنا أنه فى اللحظات الحرجة والوقات العصيبة العسرة وساعات المزنق لا يتخلى الذكر الحكيم بل يظاهره بقوة ويناصره بإحكام ويعاضده بأزر فى سرعان ما تسطع كالنجم فى وسط السماء فى الليل البالغ الحلكة آيات كريمات منه تتوعد ينى قيلة بالجزاء الرادع إذا استمروا فى ولاء بنى يعقوب وجعلته نقيضًا للإيمان ومباينًا للإسلام ومفارقًا للانقياد ومضادًا للإذعان ومخالفًا لليقين.

{ اخرج ابن جرير من طريق ابن إسحق عن محمد بن أبى محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال:

كان الحجاج بن عمرو حبيب كعب بن الأشرف, وابن أبى الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم. فقال رفاعة بن أبى عمر وعبدالله بن جبير, وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من اليهود واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم, فأبوا , فأنزل الله فيهم: " لا يتخذ المؤمنون الكافرون أولياء" إلى قوله " والله على كل شئ قدير" } [ المقبول للأزهرى: ص 153, 154 ـ مرجع سابق, ووصفه المصنف بأنه حديث حسن وأضاف أن الطبرى أخرجه فى تفسيره وابن حاتم فى تفسيره ونعته محقق هذا التفسير بالحسن وأورده السيوطى فى الدر المنثور وهكذا غدا عريًا عن المطاعن, وبعيدًا عن المعايب نائيًا عن القوادح أ . هـ ].



ونسب د. عبدالله شحاته الحديث إلى ابن عباس وذهب إلى ( أن الموالاة تطلق لغة على الحب والصداقة والمباطنة بالأسرار وتطلق على النصرة وكلا المعنيين تصح إرادته ولهذا لايحل للمؤمنين أن يوالوا الكافرين بأى معنى من معانى الموالاة ومن يفعل ذلك فليس من دين الله فى شئ وقد ذكر صريحًا فى قوله تعال:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [ المائدة 51]. والذى لا مشاحة فيه أن اليثاربة العرب بعد أن تلا عليهم " السابق بالخيرات " هذه الآيات الحاسمة التى قرعت أسماعهم وصكت آذانهم وجاءت بعقاب أليم وهو التسوية بين اليثربى العربى واليثربى اليهودى إذا ما والاه وناصره وظاهره ... نقول إن بنى قيلة قد انزجروا وكفوا عن ذلك كله, ولا أدل عليه من أن اليهود عندما اصطدموا بـ " صاحب البيان" وبلغت المواجهة ذروتها وحكم على بعضهم بالتغريب وعلى الآخر بقطع الرقاب وعلى الثالث بقبول الإسلام دينًا لم يجرؤ واحد من العرب الأثربيين أن يؤيدهم أو يقف فى صفهم, حقيقة أن نفرًا منهم تشفع لهم عنده إنما مناصرة أو معاضدة فلا. [ تفسير القرآن لعبدا شحاته ـ عند تفسيره لسورة آل عمران ـ الجزء الثالث ص 55 ـ مرجع سابق سبق أن ذكرناه ].



وبذلك أثمرت الآيات التى حملها القرآن العظيم مفعولها الوثيق وأثبت أنه دائمًا مع " الأعز الأعظم" لايغيب عنه طرفة عين ومن ثم انفرجت عن نفسه الأبية كربة عظيمة وانزاح عن صدره الشريف هم رَجَاح وغادر قلبه الكريم غم ثقيل من الجائز أن يعيق المسيرة ويخربق الخطة ويفسد الرسم الذى ما انفك يُحكم تصويره لتنهض الدولة القرشية وتقف على قدميها.





*******


[ 13 ]
تزوجها وهو مُحْرِم

قبيلة بنى النضير إحدى القبائل اليهودية الثلاث فى أثرب وهى تسامى بنى قريظة فى القوة والمنعة ولم تتوقف عن مناوأة " صاحب التاج" والكيد له بسائر أنواع الكيد. منهم كعب بن الأشرف أبوه من طيئ ثم أحد بنى النبهان وأمه منهم .. وطبقًا للشريعة الموسوية فهو يعتبر يهوديًا و" انتخب كبيرًا لليهود بدلاً من مالك بن الصيف" [ السيرة الحلبية: لبرهان الدين الحلبى ـ الجزء الثانى ص116 ـ نقلاً عن كتاب " محمد واليهود " لبركات أحمد ص 114, 115 ].



وهُزم صناديد بكة فى غزوة بدر الكبرى ( فلما تيقن عدو الله الخبر, خرج حتى قدم مكة فنزل على عبد المطلب أبى وداعة ضبيرة السهمى وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبى العيص بن امية بن عبد شمس فأنزلته وأكرمته وجعل يحرّض على رسول الله ـ ص ـ وينشد الأشعار ويبكى على أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر من قريش ) [ تاريخ الطبرى ـ تاريخ الرسل والملوك: الجزء الثانى ـ ص 488 ـ مصدر سابق ].



ومن نافلة القول أن ننسخ أن الشعر فى ذياك الوقت هو أخطر وسائل الإعلام يحفظونه ويتنافلونه ويؤثر تأثيرًا بالغًا.

ولم يكتف النضيرى ابن الأشرف با اتخذ يشبب ينسون المسلمين فى أبيات فاضحة وممن مدّ لسانه القذر إليهن أم الفضل بنت الحارث قال فى حقها قصيدة منها:

يرتج ما بين كعبيها ومرفقيها وإذا تأتت قيامًا ثم لم تقم

[ المصدر السابق نفس الصفحة ـ وكذلك ( محمد واليهود) مرجع سابق ص106 ].



وقد علق المؤلف على هذا البيت بالآتى ( ويثضح المجون فى هذا البيت حتى يدرك المرء أنه يشير إلى حركة ردفى أم الفضل حين تنخنى )

[ المصدر السابق ص 112 ].



وأم الفضل هذه هى زوجة العباس بن عبد المطلب عم " البرهان " وشقيقة ميمونة بنت الحارث إحدى زوجاتته [ المحبّر: لأبى حعفر محمد بن حبيب الهاشمى ـ ص 112 ـ مصدر سابق ]. التى طلبت الاقتران به وعمرها آنذاك ستة وعشرون عامصا أبلغت رغبتها إلى أختها ثم نقلها عمه إليه فقبل وأصدقها أربعمائة درهم فأشرقت بشأنها الآية : { .... وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ سورة الأحزاب 50]



حدث ذلك فى عمرة القضاء بمكة ولكن القرشيين رفضوا أن يتم النكاح فى بلدهم لأن الثلاثة أيام التى تنص عليها عهد الحديبية انقضت فقال لهم:" ما عليكم لو تركنمونى فَأعرس بين أظهركم وصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه" , " بيد أنهم لجُّوا فى عنادهم وإبائهم فرحل عنهم وبنى بها ( دخل بها ) فى سَرَف قرب التنعيم ـ بعد قرية القداسة بمسافة قصيرة ثم انصرف راجعًا إلى أثرب " [ باختصار من كتاب : نساء النبى لبنت الشاطئ ـ ص 204 ـ 206 وكذلك كتاب " المط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين" لمحب الدين الطبرى ـ الباب التاسع ـ ص 192ـ وما بعدها ـ مصدر سابق ].



وقد أورد المحب الطبرى:" عن ابن عباس أن النبى ـ ص ـ تزوجها وهو مُحْرِم " وقد أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب النكاح والبخارى فى صحيحه فى باب النكاح. [ المط الثمين ـ ص194 ].



وذكر السيوطى فى " باب اختصاصه بجواز النكاح وهو مُحْرِم": ( أخرج الشيخان " أى البخارى ومسلم" عن ابن عباس أن النبى ـ ص ـ نكح ميمونة وهو مُحْرِم ) وذلك فى سنة سبع. [ الخصائص الكبرى: للسيوطى ـ المجلد الثانى ـ ص 542 تحقيق أ.د. حمزة النشرتى وآخرين ـ الطبعة الأولى 1996ـ والمحقق الأول هو الناشر ].



ولا مانع من نكاحه ـ ص ـ وهو مُحْرِم, فإن من خصائصه ـ ص ت حَلّ عقد النكاح فى الإحرام. [ إنسان العيون فى سيرة الأمين المأمون: الشهير بالسيرة الحلبية ـ الجزء الثانى ـ ص 782ـ الطبعة الأولى ـ 1384هـ/ 1984م ـ شركة مكتبة مصطفى البابى الحلبى وأولاده ـ بمصر ].





*******



من لى من ابن الأشرف
ثم نؤوب إلى سياقة التنقير:

خطيئتان مُهلكتان تردى فيهما كعب عليه اللعنة:

أولاهما: سياسة عسكرية وهى تحريشه على قتال " البز الأبلج" وتحريضهم على الهجوم عليه وتهييجهم على حربه.

وآخرهما: شخصية ذاتية تمس وترًا حساسًا لدى اى عربى بل عند كل رجل يغير على عرضه وهى التشبيب بنساء تبعة عامة وبزوجة عمه. [ فى ذياك الوقت لم ينكح ميمونة بعد ا.هـ].



تشبيبًا خليعًا و وتغزل فيهن غزلاً فاضحًا ووصفهن وصفًا داعرًا ونعتهن نعتًا فاجرًا فأصبح السكوت عن هذا النضيرى الخبيث العربيد أمرًا محلاً ةقد بلغ الضيق بـ " الفارق بين الحق والباطل مداه" فقال لتبعه: " من لى من ابن الأشرف". [ تاريخ الطبرى: ص 488ـ سابق, ومن مطالعة سيرته التى هى المثل الأعلى لكل مسلم يثبت أنه إذا قال عبارة: " من لى من فلان أو بفلان" فاعتبره منذ تلك اللحظة فى عداد الأموات ا.هـ.].



فشمرت عن ساعديها المفتولتين إحدى فرق المهمات الخاصة ( الاغتيالات ) وهم غالبًا من الشببة أميرها محمد بن مسلمة الأشهلى. [ الفرقة بأسرها من بنى الأشهل أى جميعهم من اليثاربة ليس من بينهم نازح فرد أ.هـ.].



واغتالته فى عقر داره فاستراح "أول المسلمين" من آثامه الفواحش.



فلما عادوا وجدوا رسول الله ـ ص ـ واقفًا على باب المسجد فقال " أفلحت الوجوه" فقالوا : ووجهك يا رسول الله ورموا برأسه بين يديه فحمد الله على قتله". [ المغازى للواقدى ـ الجزء الأول ـ ص 190 ـ مصدر سابق ].



تلك الخبطة الصمّاء أرعبت اليهود وأخبرتنا كتب السيرة المحمدية ذات الرتبة المنيفة أنهم ما إن تيقنوا منها حتى سيطر الفزع وهيمن عليهم الخوف وركبهم الهلع وهمهم الذعر ( فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودى إلا وهو يخاف على نفسه ) [ تاريخ الطبرى ص 419 مصدر سابق].



وذكر الواقدى فى مفازيه " فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطقوا وخافوا أن يُبيتوا كما بُيّت ابن الأشرف" [ المغازى للواقدى ـ الجزء الأول ـ ص 191 ].



وأثلج هذا الفلج صدر " الأخشى لله" فأعطى تبعه الضوء الأخضر للتخلص من رجال اليهود. [ بداهة دون النساء والفتيان والأولاد الصغار والأطفال. ا. هـ.]. واستئصال شأفتهم وإفنائهم على بكرة أبيهم يعقوب.



( .. فقال رسول الله ـ ص ـ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) [ المغازى للواقدى ـ الجزء الأول ـ ص 191 ].



ولم يقصر الصحب فى تنفيذ الأمر الحاسم الباتر كما السيف الحديد السنين وقد حمل إلينا الطبرى فى تارخه مثالاً وهو أن أحد الصحابة اليثاربة وهو محيصة بن مسعود إثر سماعه الإذن الصريح وثب على تاجر يهودى اسمه " بن سنينة" ربطته بأخيه الأكبر علاقة تجارية وثيقة فقتله فاستفظع أخوه غير المسلم فعلته النكراء, بيد أنه سرعان ما أعلن إسلامه على الفور لا التراخى تحاشيًا أن يلقى مصير شريكه الإسرائيلى. [ إقرأ تفاصيل هذه الأقصوصة فى " ناريخ الطبرى" الجزء الثانى ص 491 أ.هـ. وكذلك المغازى للواقدى ص191, 192 ].



وخلاصة الأمر أن اليهود ( حذرت وخافت وذلّت من يوم قتل ابن الأشرف ) [ المغازى للواقدى ص 192 ].







*******



بنى النضير


بيد أن بنى النضير رغم فرقهم الشديد واستكانتهم الظاهرية, فغنهم لم يعدلوا عن مسلكهم الخبيث ( ذلك أن النبى ـ ص ـ حين قدم المدينة صالح ينو النضير رسول اببه ـ ص ـ على ألا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبى الذى نعته فى التوراة فلما هُزِم المسلمون يوم احد ارتابوا ونكثوا ) [ تفسير النسفى : للإمام أبى البركات عبدالله النسفى ـ الجزء الرابع ـ ص 238, فند تفسيره لسورة الحشر ـ د. ت دار إحياء الكتب العربية ـ عيسى البابى الحلبى ـ بمصر ].



أما الواقعة التى تؤكد غدر بنى النضير فهى شروعهم فى قتل " أجود الناس" غغيلة ومبتدؤها أنه افلت من نازلة بئر معونة عمرو بن امية وفى طريقه إلى يثرب لقى رجلين من بنى عامر فنسبهما فانتسبا ... حتى إذا ما ناما قتلهما وأخذ سلبهما ( كالعادة المتبعة ) ولما ورد على " الكامل" نقل خبرهما فقال له: بئس ما صنعت لوجود عهد بينه وبين رهطهما فرد عليه عمرو بعدم علمه وأمر " الأبرّ" بعزل السلب وبعث به مع الدية التى طلبها عامر بن الطفيل ثم سار " المؤيد المنصور" إلى بنى النضير يستعين فى ديتهما لأنهم حلفاء لبنى عامر فوجد النضيريين فى ناديهم فكلمهم فقالوا نفعل ما أحببت .. اجلس حتى نطعمك فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ومعه نفر من أصحابه فيهم ابو بكر وعمر وعلى, فخلا اليهود بعضهم إلى بعض وقالوا إنكم لن تجدوه على مثال هذه الحالة فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه؟. فقال أحد ساداتهم وهو عمرو بن جحاش: أنا لذلك ونهاهم ين مشكم لأن هذا نقض للعهد الذى بينه وبينهم, ولكنهم أصروا لأنه إن قُتل تفرق أصحابه ولحقوا ببلدهم بكة وبقى بنو قيلة حلفاؤهم, وأضاف سلام:" والله لإن فعلتم ليُخبرن بأنا غدرنا به .. يا قوم أطيعونى هذه المرة وخالفونى الدهر" , بيد أن ابن جحاش هيأ صخرة ليرسلها على " الإكليل" ويحدرها .. ( فلما أشرف بها جاء رسول الله ـ ص ـ الخبر من السماء بما هموا به فنهض رسول الله ـ ص ـ سريعًا كأنه ييد حاجة وتوجه إلى المدينة وجلس أصحابه يتحدثون وهم يظنون انه قام يقضى حاجة ). [ المغازى للواقدى ـ الجزء الأول ـ ص364/365 والسيرة الحلبية ـ الثانى ـ ص 560, وتاريخ الطبرى ص 550, 551 ].



وبقية خبر هذه المكيدة الخسيسة أن تبعه لما استبطأوه عادوا أدراجهم إلى يثرب فأنبأهم بها وأمرهم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم.



*******



أدرك " الوسيم الوجيه" أن ذهابه فى نفر معدود من صحبه إلى معقل بنى النضير ثم جلوسه وإياهم إلى جنب أحد جدران بيوتهم فيه مخاطرة مؤكدة خاصة أنه منذ عام قتل أحد زعمائهم المبرزين كعب بن الأشرف, وربما لمحهم يتشاورون ويتهامسون, وهذا فرض احتمالى لا نعول عليه كثيرًا إنما نستند إلى الحقائق الثوابت من حيث أن محاولة اغتيال " متمم مكارم الأخلاق" لم تتم فمن أين أتت كتب التراث الإسلامى بمثل هذه القصة؟. خاصة أن راويها وربما مبتدعها أو مُخطط لها من قبل ذهابه إلى بنى النضيرهو رسول الله ـ ص ـ والمعروف بذكائه اللماح وفطنته البالغة وبصيرته العسكرية الفذة ورغبته الأكيدة فى التخلص من أولاد الأفاعى اليهود.

ولن تواتى اليهود فرصة مثل هذه ليثأروا لاغتيال سيدهم الذى وقع منذ عام , فتوصل إلى أن أمثل الحلول للخروج من هذه الورطة هو ان ينسل بهدوء كأنه يريد قضاء حاجة ثم يؤوب إلى قرية الحرتين , لأنه لو أشعر أصحابه بجلية الأمر لطوقهم النضيريون وهم عدد محدود واليهود داخل حصونهم ومعهم الحلقة والسلاح فلن يستطيعوا مقاومتهم وبمنتهى اليسر يقضون عليهم إذ كما يقول المثل :" الكثرة تغلب الشجاعة" اصة وانه ليس من المعقول أن يسير إليهم " العابد" وصحبه وهم مدججون بالسلاح لأنهم لم يذهبوا لقتال بل لطلب سلمى وهو حث ينى النضير على دفع دية القتيلين نفاذًا للعقد الذى يربط بينهم ؟؟؟.





*******



قطع النخيل والتحريق


ثم نستأنف السياقة:

أرسل إليهم محمد بن مسلمة وهو اختيار بارع لأنه أوسىّ وبنو النضير حلفاء الخزرج وطالما بجانبهم ضد الأوس وأقربها يوم بعاث إذن فهو ( = محمد بن مسلمة ) يعتبر فى حكم عدوهم ولذا: { قالوا يا محمد ما كنا نرى أن تأتى بهذا الرجل من الأوس } [ المغازى للواقدى ج1 ص 367]. هذا من رجا ومن آخر فهو رأس العصبة التى اغتالت سيدهم ابن الأشرف ـ كيما يبلغهم أن يخرجوا من البلد وأنه أجلهم عشرًا بيد أنهم لم يمتثلوا وأخذوا يتجهزون للمعركة خاصة وأن رأس النفاق وزعيم المعارضة السياسية أرسل إليهم يُمنيهم ويعدهم وعودًا خُلبًا ... فسار المسلمون إليهم وحاصرهم واستمروا خمسة عشر يومًا وهم يقاومون فلجأ ( سيد الكونين ) إلى سلاح يغيظ أولاد يعقوب ويوجعهم وهو سلاح الحرب الإقتصادية ( فأمر رسول الله ـ ص ـ بقطع النخيل والتحريق فيها ). [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 47 ].



فقطعت وحرقت " واستعمل على قطعها رجلين من أصحابه: أبا ليلى المازنى وعبد الله بن سلام فكان أبو ليلى يقطع العجوة وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون ( وهو النخيل ما خلا العجوة والبرنى واحدته لينة ا.هـ. ) ..... وكانت العجوة خير أموالهم " [ المغازى للواقدى ج1 ص 372].



وجاء هذا الأمر بمثابة قاصمة الظهر لبنى إسرائيل بيد أنه أحدث دويًا صاخبًا لدى كافة الفرقاء:

( وجاء رسول الله ـ ص ـ وأحاط بحصنهم وغدر بهم عبدالله بن اُبىّ فكان رسول الله ـ ص ـ إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصّنوا ما يليهم وخربّوا ما يليه .. وقد كان رسول الله ـ ص ـ أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك وقالوا يا محمد إن الله لم يأمرك بالفساد إن كان لك هذا فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه ) [ تفسير سورة الحشر: للشيخ حسن الفريد الكلبايكانى ـ ص 26 ـ الطبعة الأولى 1396هـ / قم ـ طهران ].



ويورد لنا الواحدى النيسابور أنهم جزعوا من قطع النخل وتحريقه ( وقالوا زعمت يا محمد أنك تريد الإصلاح أفمن الصلاح عَقْر الشجر المثمر وقطع النخيل؟ وهل وجدت فى ما زعمت أنه أنزل عليك الفساد فى الأرض؟ . [ أسباب النزول: للواحدى النيسابورى ـ ص 279 ـ والسيرة الحلبية ص 564 ـ وتفسير البيضاوى ص 725 ـ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 47 ـ مصدر سابق ـ تاريخ الطبرى المجلد الثانى ص 552].



أما نِسونهم فـ ( لما قُطعت العجوة شقَّ النساء الجيوب وضربن الخدود ودعون بالويل ). وصاح اليهود فى وجوه المسلمين ( وقالوا لمؤمنين إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون ) [ السيرة الحلبية ـ المجلد الثانى ـ ص 564 ـ مصدر سابق ].





*******



المعضلة والحل


فشق ذلك على النبى ـ ص ـ [ أسباب النزول ـ للواحدى النيسابورى ـ ص 279 ـ مصدر سابق ]. وربما ضاعف هذا الشعور فى نفسه موقف بعض تبعه إذ حاك فى صدورهم قطع اللون وتحريق العجوة ( وحينئذ وقع فى نفوس بعض المسلمين من ذلك شئ ). [ السيرة الحلبية ـ الثانى ـ ص 564 ].



بل بدأ نفر منهم يتردد فى تنفيذ الأمر وهذا شأن خطير لأنه بمثابة عصيان للقائد ( فوجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم وخشوا لان يكون ذلك فسادًا فى ذلك " هكذا وربما فسادًا فى الأرض أ. هـ ) قال بعضهم لا تقطعوا مما أفاء الله علينا وقال بعضهم بل اقطعوا ) [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 297 ].



ونحن نرجح أن أولئك النفر من اليثاربة عمومًا ومن الخزارجة تحديدًا إذ طالما طَعِموا من هذه العجوة والألوان " بلهجتهم وهو جمع لينة أ.هـ"



ومسألة ما دخل فى قلوب تبع " محمد" من إحساس إزاء الإذن بالقطع والتحريق أوردها اثنان من كتب الصحاح الستة : النسائى والترمذى بخلاف الطبرانى وأبى يَعلى والن كثير فى تفسيره.

( اخرج الترمذى والنسائى وأبو يعلى والطبرانى عن ابن عباس فى قوله الله عز وجل { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً }.

قال اللينة النخلة : { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } قال: استنزلوهم من حصونهم قال وأمروا بقطع النخل فحك فى صدورهم فقال المسلمون قد قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا ولنسألن رسول الله ـ ص ـ هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ . فأنزل الله تعالى:

{ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [ الحشر :5].



وبذلك أصبحت هذه المسالة ثابتة والمحاجة فيها ضربًا من المماحكة.



*******



من جراء الدعوة لقطع وتحريق النخيل التى تنتج المحصول العماد الرئيسى لاقتصاد قرية الأثاربة الذين يعرفون قيمته ونفاسته واهميته لديهم جميعًا يهودًا وعَرَبَة قبت ازمة ذات شقين:

الأول: عقائدى أثاره اليهود وهو أنه يُشكل إفسادًا وفسادًا والله لا يأمر به ولا يرضاه ولا توجد ديانة ذات إسطير أو مليطة من كتاب تُقرّه أو تأذن به أو تدعو إليه.

الآخر: عسكرى هو أن التبع وهم الجنود اثّر فى نفوسهم كلام اليهود وأحزنهم منظر نسوتنهم وهن يصحن ويولولن ويلطمن خدودهن أسفًا على العجوة التى تُجذ والنخيل التى تلتهما النيران, كما أن أولئك العسكر وفيهم نسبة واضحة من بنى قيلة يدركون أكثر من المكاكوة بما لايقاس مكانة النخيل وثمانة ما تنتجه كمصدر غذائى ومورد مالى بالإضافة إلى قيام أُلفة حميمة بين اليثربى والنخلة. بحيث إن إقدامه على جعلها وقودًا للحريق بما تحمله من بلح أو تمر واجب عسير على نفسه وصعيب على وجدانه, وحتى نقرب المسألة إلى ذهن القارئ نرقم: تصوّر كيف يغدو حال الفلاح المصرى فى جنوب الصعيد إذا أمرته بتحريق حقول القصب وتدميرها أو الفلاح المصري فى الدلتا إذا دعوته إلى إضرام النار فى مزارع القطن وإتلافها.



ومن ثم أطلعتنا المصادر العوالى من التراث أن صدور الجند الصحاب بدأ يحيك فيها ما يمكن أن نسميه الشعور بالذنب, وهذا يتمثل فى قولهم لـ " أشجع الناس!!" ( هل علينا من وزر ) وطفق بعضهم يتردد فى التنفيذ وقال: ( قال بعضهم لا تقطعوا ... ) من جِماع ذياك شق الأمر.



بيد أن القرآن العظيم!!!, كما هو شأنه معه لايتركه يعانى تلك الأزمة العقائدية العسكرية فتهادت كأنوار الفجر الصادق الآية الخامسة من سورة الحشر التى نسخنا نصها الكريم قبل سطور ومفادها أن تحريق النخل وقطع العجوة تمّ بإذن من الله كما أن ما لم تمتد إليه النار ولم تلحقه الأيادى بالإتلاف بقى أيضًا بإذن الله ؟؟!!.



واستراحت ضمائر الأجناد ما دامت مشيئة ربهم هى التى أمرتهم بما قاموا به وارتفع ما حاك فى صدورهم وغادرها إلى الأبد وتنفس" المحجّة" الصعداء وتبخرت المعضلة وصارت بددًا وتحولت إلى هباء منثور بل غدت كانها كابوس ثقيل يراه النائم فيزعجه فما إن يستيقظ يصبح ذكرى عابرة كما هى فى كتب التراث العوالى.



ويوثق ( الأمر / المثانى / القرآن ) أنه مع " البارع" دائمًا سواء فى حجرات نسائه أو فى ميادين القتال, وهذه هى العلاقة الجدلية التى تلحمه برباط وثيق مع الواقع وهذا هو سر ظهوره منجمًا.





*******



[ 14 ]
النبى ينهى الصحابه عن كثرة الأسئلة


نهى " المرتضى" أصحابه عن كثرة الأسئلة وبصرهم بمآل أتباع " الكُمَّل" الذين سبقوه عندما مشوا فى ذات الدرب, وشددوا فى المسألة فشدد الله عليهم.



وضرب لهم مثلاً بمسلك بنى إسرائيل فى قصة البقرة المُعجبة.



لكن أسئلة الصحبة توالت واستفساراتهم تواترت واستفهاماتهم تتابعت ولهم عذرهم فـ " الأزج / الأزكى" دعا إلى ديانة جديدة مغايرة لديانتهم شملت أرجاء عديدة: العقيدة / العبادة / الأحوال الشخصية / الجزاءات / المعاملات .. إلخ, وهم مليطون من أى ثقافة دينية باستثناء نفر محدود وحتى هؤلاء فإن ما علموه مغاير لما جاء به, لأن الدين الذى بشر به هو الخاتم والمهيمن على ما سبقه زمانًا لا رتبة.



والصحبة بهم تشوّف للمعرفة ولديهم شوق نحو التعلم وعندهم تطلع صوب التفهم وفى باطنهم نهم للإدراك.

هذا من شق.



ومن آخر: اعترضتهم فى حياتهم صعاب عبادية ومشكلات خاصة شخصية ونوازل تجارية أو مالية وقفوا عندها وقد أحاطهم الرَبك وعلتهم " اللخمة = كلمة عربية فصيحة معناها: ثقل النفس ا.هـ" , وشملهم الاضطراب وعمتهم الحيرة وسيطر عليهم الإشكال ... لايدرون كيف يتصرفون ولا أين يتوجهون وفى أى طريق يسيرون.



ومن ثم فليس لديهم وأمامهم إلا " القيّم الكامل" فأمّوه وقصدوه فهو الذى حمل إليهم الديانة الجديدة وهم موقنون أنهم سضيَلْفون عنده الجواب لكل سؤال والرد على أى استفهام والإيضاح لأى استفسار ...



وكنتيجة حتمية تعددت وتنوعت وتباينت ولزام عليه أن يشفى غليلهم وينقع غُلّتهم وهو موقف يتسم بالعسر ويمتلئ بالمشقة ويتضلع من الرهق خاصة إذا تموضع السؤال فى شأن حساس أو تعلق الإستفسار بأمر مريج أو اتصل الإستفهام بموضوع دقيق.



هنا لا يذر القرآن المجيد " الأبطحى" يواجه هذه القضايا منفردًا بل كالمتبع يعاضده ويعاونه ويؤازره ويتشكل جِماعه فى تقديم حل لكل معضلة ونفح فَكّ لكل ازمة وإهداء وتدبير لكل نازلة تختلف صورها وتتباين هيئاتها وتتنوع أشكالها وتتغاير رسومها إنما الذى لا مشاحة فيه ولا ينتطح على صحته عنزان أن المخاطبين بها تلقفوها مسرورين: صدورهم منشرحة وثلوبهم مطمئنة ونفوسهم راضية.



وإليك حفنة مما حباه الذكر الحكيم لـ " الهجود" من نفحات شافية وإشراقات كافية وهبات وافية, فاز بها تبعه وألسنتهم تلهج بالشكر الجزيل والحمد الوفير والإمتنان البالغ والثراء العاطر.





*******



1ـ فى بدء الشأن عند صيام رمضان يظل الطعام والشراب ومعسفة الزوجة مباحًا بالليل مالم ينم الزوج أو زوجته فإذا نعس ثم استيقظ حرم عليه وبالمثل إذا نامت هى فلا يحل له إيقاظها ليباشرها.
وإذ إن ملامسة الحليلة لدى أولئك العُربان طقس يومى فشقّ عليهم, فخالفوه.

( أخرج الإمام أحمد والطبى عن كعب بن مالك ـ رض ـ قال:

كان الناس فى رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد, فرجع عمر بن الخطاب ذات ليلة من عند النبى ـ ص ـ وقد سمر عنده فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت: إنى قد نمت , فقال: ما نمت ثم وقع عليها.

وصنع كعب بن مالك مثل ذلك.

فغدا عمر بن الخطاب إلى النبى ـ ص ـ فأخبره الخبر.

فأنزل الله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ البقرة : 187]

[ ألمقبول من أسباب النزول: لأبى عمر الأزهرى ص 95ـ مرجع سابق, وأضاف المصنف فى غسناده صحيح وان أبا داود " من أصحاب الصحاح" اخرجه بنحوه من رواية ابن عباس.

و ( لبا ب النقول فى أسباب النزول ) للسيوطى ـ ص33 ـ مصدر سابق أورده من رواية عبدالله بن كعب بن مالك وقال: أخرجه أحمد وابن جيري ( = الطبرى ) وابن أبى حاتم.

و ( أسباب النزول ) للواحدى ـ ص20 ـ مصدر سابق.

وقد ذكر الواحدى النيسابورى أن الصحابة " شكوا ذلك لرسول اللله ـ ص ـ فأنزل الله هذه الآية ] .



وينفحنا الواحدى بمُعطى هام هو أن الصحاب عمهم السرور عندما تلا عليهم " الهادى" هذه الآية, كيف لا ومقاربة الزوجات وملك اليمين معلم يومى بارز فى حياتهم المبرورة, وذكر ان مسالة الإنبساط هذه أورها البخارى فى صحيحه وهو أصح كتاب السنة والجماعة بعد القرآن ففرحوا فرحًا شديدًا ـ رواه البخارى [ ذات الصدر السابق ـ ص 31].





*******



2ـ هند بنت أمية .. من بنى مخزوم اشتهرت بـ " أم سلمة" وعُرف أبوها أمية بـ " زاد الركب" لأن من يسافر معه لايحمل زادًا.
تزوجت أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال من بنى مخزوم أيضًا وهو فى ذات الوقت ابن عمة " الفاتح" بَرّة بنت عبد المطلب بن هاشم وأخوه من الرضاعة أرضعتمها مولاة لأبى لهب تبت يداه ـ تسمى ثُويبة.



وأسلم كلاهما ونزحا إلى الحبشة مع من نزح ثم عادا ونزحا مرة أخرى لقرية الحرتين واشترك أبو سلمة فى الغزوات والسرايا ثم مات فى السنة الرابعة وغدت هند أرملة.



وتميزت بجما نادر ووضاءة باهرة وحسن فائق ونضارة ربانية. قبل زواجها " كانت جموع شباب تتسارع لتخطب ودها ولتطلب يدها" [ "أم سلمة أم المؤمنين" إعداد : أ. أمينة أمزيان الحسنىـ الجزء الأول ـ ص50 ـ الطبعة الأولى 1419هـ/1998م ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية / المملكة المغربية ].



إذن جمعت بنت زاد الركب المخزومى بين عراقة المحتد ونبالة الأب وارستقراطية البيت والوسامة والقسامة والملاحة.

فلما تأيّمت وانقضت عدتها وأمست صالحة للتزوج أرقل إليها عتيق عارضًا نفسه عليها ونسى أنه من فرع هزيل فى قريش " تَيْم" لا يصل إلى مستوى ركبة رهطها’ ولأدبها الجم وأخلافها العوالى " ردته فى رفق" [ المصدر نفسه ص 170 ].

فحَجَل إليهل أبو حفص عمر وتلقى ذات الجواب. [ المصدر والصفحة ].

وهو أمر بديهى لا ندرى كيف لم يفطن إليه ابن الخطاب فهو من بطن خَمَيْص ضامر, فأين عدىّ من مخزوم. [ نحن نرجح أن أهم دوافع التيمىّ والعدوىّ لخطبة أم سلمة هو أن يحولا دون نكاح " صاحب البيان" إياها لما تتمتع به من جمال باهر ووضاءة فائقة فتغدو منافسة خطيرة لابنتيهما عائشة وحفصة ونزاحمهما فى مكانتهما عنده ولما يسببه لهما ذلك من غيرة وقلق وهو ما تحقق بحذافيره أ.هـ. ].



ثم تقدم لخطبتها " سعد الخلائق" بيد أنها اعتذرت بلطف ورقة بالغتين وتعللت بأنها مُصبيّة ولعدم وجود ولىّ من اهلها يزوجها. [ السمط الثمين للمحب الطبرى ـ ص 150 ـ مصدر سابق ].



ونرجح أن مرجعه لسببين:

أ ـ حزنها الشديد على زوجها أبى سلمة إذ كثيرًا ما رددت ( من خير من أبى سلمة )؟.

ب ـ الفارق فى العمر فـ " ذو البراهين" عند تزويجه بلغ الثالثة والخمسين ووفاة أبى سلمة فى السنة الرابعة أى سنة آنذاك سبع وخمسون سنة.



أما هند فقد حققت الباحثة المغربية وتوصلت إلى أنها توفيت سنة إحى وستين وأن سنها أربع وثمانون سنة [ المصدر السابق ص 574 ]. أى أنها وقت نزوح ( نعمة الله ) بلغت الثالثة والعشرين من عمرها وعند وفاة زوجها ناهزت السابعة والعشرين ( واستنادًا إلى ذلك نستطيع أن نستنتج أن ام سلمة ولدت قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة أى قبل بعثة الرسول بعشر سنوات ). [ نفس المصدر ص 49 ].



وبحسبة بسيطة نصل إلى أن الفارق ينيف على ثلاثين عامًا.



وقد غضب العدوىّ أشد الغضب حين ردّت " صاحب التاج" ولم توافق على قبول خطبته وكلمها فى ذلك ولكنها أظهرت له أعذارها. [ السمط الثمين للمحب الطبرى ـ ص 150 ].



ونحن نذهب إلى ان غضب العدوىّ الشديد هو ما يسميه علم النفس " عملية إسقاط" فهذا تعبير عن مكنون صدره لأنها أولته ظهرها.



ولكن " صاحب المنر" لم ييأس فَغِبّ أن أخفقت سفارة حاطب بن أبى بلتعة [ ذات المصدر ص 149]. توجه إليها بنفسه يخطبها ويحاورها ويفند ما تعللت به [ أورده أحمد فى مسنده وعبد الرازق فى مصنفه وابن سعد فى طبقاته نقلاً عن " ام سلمة" لأمينة الحسنى ـ ص 110 ـ مصدر سابق ].



كما أن عمار بن ياسر أدى دورًا طيبًا فى إقناعها لقبول نكاح " المُنجد" غياها, فهو اخوها فى الرضاعة. [ السمط الثمين للمحب الطبرى ص 152 ـ مصدر سابق ].



وفى ذات الوقت مولى لبنى مخزوم رهطها [ فى إحدى المرات تلاحى خالد بن الوليد المخزومى مع عمار فى حضرة " الأخشم" , فأغلظ عمار لابن الوليد الذى تعجب واندهش وتوجه للمانح متسائلاً: أتدع هذا العبد يشتمنى؟, باعتبار ابن ياسر مولى لبنى مخزوم أى تابع لهم بيد أن " الشهيم" زجر خالدًا زجرًا عنيفًا. فإذا ثبت أن الواقعة حدثت قبل مراودات الخطبة فإن ما فعله عمار بشأنها يعد لجميل " صاحب العطاء" لأنه انتصر له من خالد سيده السابق وابن الوليد بن المغيرة رجل قريش فى الأيام الخوالى. أ. هـ. ].



وما فعله عمَّار فى هذا السبيل أنه انتزع من حِجر أم هند طفلتها المولودة حديثًا ووصفها بـ " المشبوحة" ـ زينب وذهب بهل لمن ترضعها كيما تتفرغ أمها تفرغًا كاملاً [ السمط الثمين: ص152ـ ونساء النبى لبنت الشاطئ ص123ـ ورد فى الفتح الربانى لترتيب مسند الإمام أحمد: للساعاتى وأخرجه عبد الرازق فى مصنفه وابن سعد فى طبقاته والبيهقى فى سننه نقلاً عن" أم سلمة" لأمينة الحسنى ـ جزء أول ص 58 ].



تم الزواج وانضمت بنت أبى أمية إلى ركب نسوان وزوجات " البارع" وصوّت ذلك عندهن دويًا صاخبًا لما يعلمنه علم اليقين عن فتنتها وحسنها " عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبى ـ ص ـ تزوج أم سلمة وكانت من أجمل النساء " [ السمط الثمين ـ ص152].



وتصف بنت الشاطئ هند بأنها عزيزة ذات جمال وإباء وفطنة, وأحدث دخولها ضجة فى دور النبى وأشاع قلقًا وأى قلق فى الزوجتين الشابتين عائشة وحفصة. [ نساء النبى لبنت الشاطئ ص 118 ]. ومن المحال ألا يقع وأكثر منه ولعل ما صرحت به التيمية ينت عتيق فى حقها يثبته : " لما تزوج رسول الله ـ ص ت أم سلمة حزنت حزنًا شديدًا لما ذُكر لنا من جمالها, قالت: فتلطفت لها حتى رأيتها فرأيتها والله أضعاف ما وُصِف لى من الحسن " [ الإصابة ج/8 ص 241 نقلاً عن نساء النبى لبنت الشاطئ ص 117 و" أم سلمة" لأمينة الحسنى ص 120 وأضافت آخر بخلاف الإصابة وهو " الطبقات الكبرى" لابن سعد ج/8 ص 94].



فأم سلمة ذات أصل عريق وحسب ونسب كما كانت على جانب كبير من النضارة وتتمتع بقسط وافر من الحُسن والجمال مما أحدث ضجّة فى بيت النبى ـ ص ـ عند زواجه منها وأشاع قلقًا وغيرة واضحة فى نفس ضرّتيها عائشة وحفصة. [ أم سلمة : لأمينة الحسنى ص 49, 50].



من نافلة القول أن نرقم أن " أم سلمة" حظيت عند " الذاكر" ومكث عندها ثلاثة أيام بعد أن إختلج عمار منها رضيعتها زينب وعرض عليها أن يمُدّ فترة الُبْث إلى أسبوع بيد أنها ردت ثلّث. [ "السمط الثمين" للمحب الطبرى ص 153].



ويبدو أنها إقتنعت بالثلاثة أيام فقط لأنها افتقدت طفلتها الرضيعة زينب.



وتعددت مظاهر حظوتها لديه منها " تقبيله إياها وهو صائم". [ أخرجه الشيخان فى صحيحهما وهما البخار ومسلم : نقلاً عن " السمط الثمين" للمحب الطبرى ص 155].



ابتداؤه بها عندما يدور على نسائه. [ المصدر السابق ص 156]. نومها معه فى لحاف واحد وهى حائض. [ صحيح البخارى والمسند لأحمد ابن حنبل ـ المصدر السابق ونفس الصفحة ] . إغتسالها معه فى الجنابة فى إناء واحد [ صحيح مسلم : كتاي الطهارة ص 157]. ونص الحديث الشريف: { صحيح البخارى ـ كتاب الحيض المجلد الأول 4 ـ باب: من سمى النفاس حيضا.

294ـ حدثنا المالكي بن إبراهيم قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن زينب بنت أم سلمة حدثته: أن أم سلمة حدثتها قالت: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، مضطجعة في خميصة، إذ حضت، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، قال: (أنفست). قلت: نعم، فدعاني، فاضطجعت معه في الخميلة. [ 316، 317، 1828 ] ش أخرجه مسلم في الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، رقم: 296.

( خميصة) ثوب مربع من خز أو صوف. ( فانسللت) ذهبت في خفية. ( ثياب حيضتي) الثياب التي أعددتها لألبسها حالة الحيض. (الخميلة) هي الخميصة أو هي ثوب له خمل وهدب }.‏

وفى صحيح مسلم: الجزء الثالث. كتاب الحيض ـ 57 ـ باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد. ـ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَا قَالَتْ:

بَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجِعَةٌ مَعَ رَسُولِ اللّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْخَمِيلَةِ إِذْ حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حيْضَتِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنُفِسْتِ؟"

قُلْتُ: نَعَمْ.

فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ معَهُ فِي الْخَمِيلَةِ.

قَالَتْ: وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَغْتَسِلاَنِ، فِي الإِنَاءِ الْوَاحِدِ، مِنَ الْجَنَابَةِ }.



فى هدية النجاشى المردودة عندما قسّمها على نسونه ففضلها عليهن. [ المسند أحمد بن حنبل : ص 158].

تلك الزوجة الغضة النضرة الحسينة الأثيرة عند زوجها " البحر" عندما تؤمه باستفسار من حقها عليه أن يبين لها. فهى فضلاً عما أكسبتها حياة البادية من صفات الشجاعة والمروءة والإعتزاز بالنفس, وغير ذلك من الصفات التى ورثتها عن أبيها فنشأت فصيحة اللسان قوية البيان ذات ذكاء وفطنة. [ أم سلمة : لأمينة الحسنى ـ ص 50].



ولقد أهمها موقف القرآن الكريم من النساء:

{ أخرج الترمذى والحاكم وأبو يعلى وغيرهم أن أم سلمة أنها قالت يا رسول الله, لا أسمع الله ذكر النساء فى الهجرة بشئ ... فأنزل الله عز وجل : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } [ آل عمران 195].

[ ( المقبول من أسباب النزول ) لأبو عمر نادى الأزهرى ص 150. وأضاف بخلاف مصادره التى أوردها فى فاتحة الخبر أن الواحدى رواه فى أسباب النزول والحميدى فى مسنده والبخارى فى التاريخ الكبير والطبرى فى تفسيره وأن الذهبى اقره وصححه والمصنف قال عنه: إسناده صحيح. ـ ( ولباب النقول فى أسباب النزول ) للسيوطى وذكر أن عبد الرازق أخرجه فى مصنفه مسعيد بن منصور وابن أبى حاتم ـ بخلاف الترمذى والحاكم ـ مصدر سابق .

وأسباب النزول : الواحدى ـ ص 92.

( أم سلمة ) لأمينة الحسنى ـ ص 239. وأضافت أن راوى الحديث هم سلمة بن عبدالله بن عمر .. أحد حفدة هند / أم سلمة وسبق أن وصفت مثل هذا الحديث أنه عائلى مما يوثق صحته].



وهكذا تضافرت هذه المصادر والمراجع على علو قدر هذا الحديث ونأيه المطاعن وبعده عن القوادح وخلوه من المثالب. والذى يشحن قلب ابنة أميّة بالهم والقلق والشجن لابد وبطريق الحتم واللزوم أن يصيب " الحفىّ / اللطيف " بقدر وسيع منه لأنها بعلته الحبيبة وزوجته المضلة وحليلته المقربة.



وقد رأينا أنه فى أمثال هذه المقامات يتكرم " المبين المُحكم" ويفتح طاقة منها مكونات الهم وعناصر الغم وأجزاء الإزعاج فعلى الفور انبثقت منه آية بالمساواة بين الذكور والإناث فى الأجر وخاصة أجر النزوح لأنها من بين من نزح مرتين الأولى إلى بلد أصْحَمَة ( الحبشة ) والأخرى إلى القرية ذات الحرتين " أثرب".



فلما تلا " خيرة الله" الآية على زوجته ذات المنزلة الحميمة تهلل وجهها وانفرجت أساسيرها ومن البديهى أن جميعه انعكس على " آية الله" طلاقة وبشرًا وأنسًا.



وتقدم لنا الباحثة المغربية أمينة الحسنى هدية بالغة الثمانة عالية القيمة وهى ان استجابة " مأدبة الله" جاءت على الفور لا على التراخى, لم تتأخر أو تتمهل أو تتباطأ ومردّه إلى المنزلة السامية لابنة زاد الركب . قال الشيخ منصور على ناصف صاحب التاج الجامع للأصول معلقًا: " ففيه إشعار بعلو مكانة أم سلمة حيث أجابها الله بسرعة " [ ( التاج الجامع للأصول فى أحاديث الرسول ) للشيخ منصور على ناصف الجزء الرابع ص 90 كتاب التفسير / نقلاً عن ( أم سلمة) لأمينة الحسنى ص 239 ].



ونأمل أن يتفرس القارئ فى عبارة وردت فى الفقرة التى نسخناها عن الشيخ منصور وهى " أجابها الله بسرعة" إذ تشف عن أن البعض فَطِن إلى العلاقة الجدلية بين الذكر الحكيم والقائد وكذا إلى العلة فى انبثاق سوره وأياته نجومًا ولماذا لم يشرق جميعه فجأة وكرّة واحدة يتيمة. وما علاقة ذلك باللوح المحفوظ؟؟؟؟؟ . ولو أن فطانة الشيخ منصور وأنداده إلى هذا الملمح المُمْعن عُمق شأنه تنبع من منظور الدروشة ولغقالة العقل وتغييب الوعى وتغريب الفكر وتهجيره.



وهو بالطبع بخلاف منهجنا الى إلتزمناه ومازلنا وبداهة لا نُكره غيرنا على اتباعه فكما يقول المثل " لكل شيخ طريقة" بيد انّا على إقناع أن جادتنا هى الأصح والأصوب إلى أن ياتى من يثبت لنا العكس لأننا لا ندعى لمنهجنا العصمة ولا لأفكارنا المطلقية كما يدعى الآخرين وهيئات التقديس السلفية.





*******



3ـ بنو سخينة وأساليب النكاح: جرى المال فى أيديهم لأسباب يند ذكرها عن سياق بحثنا ومن سمة المترفين فى كل زمان أن يتلذذوا بكل ما تصل أيديهم إليه.
ورجالهم فى نطاق الإتصال بنسونهم لا يكتفون بقضاء الوطر وإشباع الغريزة والحصول على الخلفة بل يتغنون فى أوضاع المعاسفة, فمرة مقبلة وأخرى مدبرة وثاثة باركة ورابعة مُجبية, وخامسة شَرْحًا وبفضل أن يجئ مُنكرًا إمعانًا فى الحصول على أعلى قدر من المتعة .. وأمسى هذا المسلك من قبل القرشيين عُرفًا مستقرًا وأمرًا ثابًا وتقليدًا راسخًا يقوم به رجالهم وترحب يه نساؤهم أيما ترحيب.



فى حين أن الأثاربة الأعاريب على العكس لايبغون من مجامعة النساء سوى أن يقضوا وَطَرهم وعلى الحرف مع اكبر قدر من الستر, ولعل مآبه علتان:

الأولى: أنهم تاثروا باليهود الذين ربطتهم بهم علاقات متعددة كما رقمنا, وهؤلاء ـ خاصة طائفة الفريسيين ـ ينظرون إلى العلاقة الجنسية نظرة ضيقة أى يتعين أن تؤدى تحت ضغط الغريزة وبأبسط صورة. احترامًا للمراة وقداسة الزوجية.

الأخرى: أن بنى قيلة أوضاعهم المالية أخفض من مثيلاتها لدى بنى سخينة.



فلما نزح بنو سخينة إلى يثرب نقلوا معهم تلك العادة الرائعة !!. وعند نكاح بعضهم لنسون بنى قيلة أراد ممارستها معهن فاستهولتها الأقريبيات واستنكرنها واستقبحنها ورفصنها بالكلية لأنه حسب علمهن أنها تُرتكب مع الجوارى والإماء والسرارى والمحظيات وملك اليمين أما مع الزوجة الحرة فلا,



عنئذ طقت تساؤلات من فبل الأثربيات توجهن بها إما مباشرة وإما بالواسط إلى " صاحب السلطان" الذى وجد نفسه فى منتصف المسافة فإذا وافق الأثاربة ضاق المنازيح بنو سخينة ذرعًا وهم أجناده الأوفياء , وإذا أرضاهم تململ بنو قيلة وهم الذين آووا ونصروا.



إذن ما المخرج؟



أن يشرق جبريل بآية أو أكثر من القرآن المجيد تضع الأمر فى نصابه الصحيح ويحتفظ للرسول الأمين بأحلافه ورجاله المقاتلين من المنازحين والأثاربة , ولا يستطيع أحد من الفريقين أن ينبس بعدها ببنت شفة.



{ قال ابن عباس إن هذا الحى من قريش كانوا يتزوجون النساء ويتلذذون بهن مُقبلات ومُدبرات فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار, فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بمكة فأنكرن ذلك وقلن هذا شئ لم نكن نُؤتى عليه, فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله ـ ص ت فأنزل الله تعالى فى ذلك { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ البقرة 223 ]. قال: إن شئت مُقبلة وإن شئت بَركة وغنما يعنى بذلك موضع الولد } [ ( أسباب النزول ) للواحدى ص47 . وقال رواه الحاكم / و ( لباب النقول فى أسباب النزول ) للسيوطى ص 31 ـ أضاف أبى الحاكم أبا داود وهو واحد من الصحاح الست / و( المقبول ) لأبى عمر نادى الأزهرى ص 126, 127, 128 ـ وأورد حديثًا مشابهًا قال عنه: أخرجه النسائي عن نافع مولى ابن عمر ].



وهناك خبرًا عن رجل من حمير أتى " أبا القاسم" فقال له:

{ غنى أحب النساء وأحب أن آتى امرأتى مجيبة أى منكبة على وجهها فكيف ترى ـ فأنزل الله تعالى الآية { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ المرجع السلبق ص 129].



ولنلتفت فى هذا إلى ملحظين:

أ ـ قول الحميرى إنى أحب النساء مما يقطع أنه مكون اساسى فى نفوس أولئك العَرَبة الأجلاف الأوباش , وهذا مآبه كما رقمنا فى كتابات لنا سوابق أن حيواتهم تَصْفُر من أى نشاط اجتماعى أو ثقافى أو فنى أو رياضى ومن ثم فليس ثمة أمامهم إلا هذا النزوع.

ب ـ أنه استبيان مباشر توجّه به صاحبه إلى " الفخر " ولا يتصور أن يذر الإعرابى دون إجابة شافية خاصة أنه لابد أن لمح من لهجته وانفعاله وكيفية نطقه أنه يعتبرها بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت.



تدخلت هند أم سلمة فى خبر ثالث وأدت دور الوسيطة بين اثربية وبين " الظَفُور" واستوضحته نيابة عنها لأن المرأة هابته واستحيت أن تتقدم إليه مباشرة خاصة أن فى السؤال حساسية: { أخرج الترمذى واحمد عن أم سلمة قالت: لما قدم المهاجرون المدينة على الأنصار تزوجوا من نسائهم وكان المهاجرون يُجِبون وكانت الأنصار لا تُجبى, فأراد رجل من المهاجرين امرأته على ذلك فأبت عليه حتى تسأل رسول الله ـ ص ت قالت فاستحيت أن تسأله, فسألته أم سلمة فنزلت الآية: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ المقبول ص 130 ونلفت النظر إلى أن من أخرجه الترمذى أحد الصحاح الست وأحمد فى المسند, ووصف المصنف أن إسناده حسن. وأم سلمة لأمينة الحسنى ص 221, 222 ].



قدّ أحسن القصص موقف " المصطفى" فى هذه المسالة التى إمتازت بقدر من الدقة لأن بنى سخينة يحتل موضوع " معاسفة الإناث" مساحة طويلة عريضة من نفوسهم ووجدانهم وغرائزهم.



فى حين أن بنات قيلة علقنها على الكرامة والمكانة والاعتبار الشخصى لأنها ببساطة شديدة تحولهن من حرائر إلى إماء , وإجابة أى طرف لمبتغاه سوف تثير لدى الآخر قدرًا من الغضب المكتوم والحنق المدسوس والغيظ الخبئ, من هذا المنطلق أسعفه بآية لابد أن يتقبلها الجميع بالرضا ويتلقفها بالتسليم ويتناولها بالإذعان, ومما لا مشاحة فيه أن " ذا المقام المحمود" شكر الذكر الحكيم على وقوفه معه يحل له الأزمات.





*******

4ـ النزوع إلى مفاخذة النسون: وإذ إنه مكون رئيسى فى بنية أولئك العُربان ـ فإنه لم يفاصلهم حتى فى ميادين القتال التى لا يشغل فيها المحارب سوى العراك والفر والكر ومنازلة العدو وعلى الأخص لو انه خرج لإعلاء كلمة ربه ونشر الديانة التى آمن بها ولرفع رايتها إلى أعلى .


ومن هنا ما انفكت استفهاماتهم واستيضاحاتهم تدور فى هذا المضمار.

وشكلت أسئلتهم لـ " الأمين" فى هذا المجال نسبة متميزة, ونحن لا تخالجنا ذرة من ريب فى أنه " ذو الخلق العظيم ومتمم مكارم الأخلاق" بشهادة القرآن كان لابد من أن يجيبهم ويلبى ما يجول فى خواطرهم لأنهم عسكره الذين بسيوفهم الباترة ورماحهم النافذة وخناجرهم القاطمة يحقق طابتين عزيزتين عليه أثيرتين لنفسه, ححبيبتين إلى فؤاده:

الأولى: نشر الديانة التى بشر بها { صحيح البخارى ـ باب الإيمان ـ حديث 24: ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ ‏ ‏قَالَ حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ ‏ ‏قَالَ حَدَّثَنَا ‏ ‏شُعْبَةُ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ ‏ ‏قَالَ سَمِعْتُ ‏ ‏أَبِي ‏ ‏يُحَدِّثُ عَنْ ‏ ‏ابْنِ عُمَرَ ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ ‏أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى ‏ ‏يَشْهَدُوا ‏أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ ‏‏مُحَمَّدًا ‏رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ‏‏عَصَمُوا ‏مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ‏}. [ وأخرجه مسلم فى صحيحه ايضًا ].

الآخر: إقامة الدولة التى مهد لها اجداده : قصىّ, وهاشم, وعبد المطلب.



لقى المسلمون فى حنين فى اول المعركة هزيمة نكراء كما حدث فى أحد لولا شجاعة " الشديد" ونفر قليل معه وثباتهم وعدم فرارهم كما فعل الكثير من الصحابة الأجلاء المقربين فلما انهزمت هوازن عسكروا بأوطاس عسكرًا عظيمًا. [ المغازى للواقدى ـ الثالث ـ ص 915 ].



وغنموا مغانم جزيلة حتى إن عددًا من المؤرخين والإخباريين ومصنفى كتب السيرة المحمدية المعطاءة لكل خير يذهب إلى أنهم لم يحظوا بمثلها فى أى غزوة أو سرية ومن بينها سبايا كثيرات من نسوان وفتيات وصبايا قبيلة هوازن وإذ إن " المكىّ المكين" أدرى بنفسيات تبعه فقد وزّع عليهم أنصبتهم على الفور وفى ذات الموقع وكأنما يحدّث نفسه " لِمَ خرجوا معى إذن؟"و وعلى الرغم من انهم فى بدّى المعركة انكشفوا انكشافًا مريعًا وولوا الأدبار ومنحوا عدوهم أكتافهم وظهورهم وأمعنوا فى الهروب حتى إن أبا سفيان بن حرب قال متهكمًا عليهم ( لا ننتهى هزيمتهم حتى البحر ). [ ذات المصدر ص 910 ].



وفاز عدد وفير من الصحبة كل منهم بواحدة أو اثنتين من السبايا الوضيئات فتلمظت شفاهم ولم ينتظروا حتى يصلوا بهن إلى يثرب مع أن المسافة قصيرة وعزموا النية وعقدوا الخناصر وأجمعوا الأمر على مفاخذتهن غِبّ تسلمهن بيد أن أولئك السبايا أبدين قدرًا من المكر وشطرًا من المخادعة ونصيبًا من المخاتلة تهربًا بقدر ما يستطيعن من هتك أعراضهن وهن الحرائر بنات النسب والحسب والشرف, فكلما اقترب صاحبى من واحدة منهن أخبرته أنها ذات بعل , فعكرن عليهم مزاجهم وأذهبن بهجتهم وأطفأن شعلة غريزتهم وفرحهم وتلهفهم و شبقهم لأن معناه الإنتظار ختى تحيض ولو حيضة واحدة وهى " حيضة الاستبراء" أى خلو الرحم من اى شئ علق به حتى يغدو الولد ابن الصحابى حقيقة لا فرضًا.



إزاء ذلك وقع الأتباع فى خاص باص فإما أن يعتلوهن وفى هذا مخاطرة لنسبة الولد إليهم وإما أن يتريثوا حتى تحيض المملوكة وهو لا طاقة بهم على الإنتظار ولا استعدادًا لديهم للبث ولا صبر عندهم على المُكث.



فماذا يفعلون إزاء هذه المشكلة التى أهمتهم وأررقتهم وأقضت مضاجعهم؟.



*******



ليس أمامهم إلا باب " العالم" كيما يلوذوا بجنابه ويقفوا على أعتابه ويطرقوا أبوابه:

{ روى مسلم وأبو داود والترمذى والنسائى عن أبى سعيد الخدرى قال: أصبنا سبايا من سبئ أوطاس لهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج فسألنا النبى ـ ص ـ [ ( لباب النقول ) للسيوطى ص 50 ـ مصدر سابق].

الحديث ورد فى اربعة من كتب الصحاح الستة وفى مقدمتها صحيح مسلم المًصلى ( التالى ) لصحيح البخارى.

كما أن راوى الحديث أبو سعيد الخدرى ذكر أن السبايا ذوات بعول حقيقية لا مجرد ادعاء منهن.

وجاء به الواحدى فى ( أسباب النزول ) برواية الخُدرى أيضًا [ ص 98].

وذكره الأزهرى فى ( المقبول ) بذات رواية السيوطى التى نسخناها قبل سطور وأضاف الآتى:

{ إسناده صحيح ورواه ابن أبى شيبة فى مصنفه واحمد فى المسند وأبو يعلى فى مسنده والبيهقى فى السنن والطبرى فى التفسير والسيوطى فى الدر المنثور ونسبه أيضًا ( = السيوطى لا الأزهرى ) للفريانى وعبد الرازق والطيالسى وعبيد بن حميد [ المقبول للزهرى ص 206 ].

لكن المصنف الأزهرى رقم معلومة على درجة عميقة من الأهمية وهى أن مُسلمًا فى الصحيح أورد فى كتاب الرضاع باب = جواز وطء السبية بعد الإستبراء [ ذات المرجع والصفحة ] , أى أن استبراء رحم الجارية أو المملوكة أو الأمة شرط لإمتطائها.



ومن المفسرين القدامى أو السلف القاضى البيضاوى لقول أبى سعيد الخدرى أصبنا يوم اوطاس سبيًا ولهن ازواج فكرهنا أن نقع عليهن فسالنا النبى ـ ص ـ [ تفسير البيضاوى ص 108].

ومن المحدثين الشيخ عبد الحميد كشك إذ أورد الخبر ذاته بحروفه. [ فى رحاب التفسير لعبد الحميد كشك ج/5 ص 878 ـ مرجع سابق ].

ونذكر القارئ بما سبق أن أسلفناه فى المقدمة أن المحدثين يتعكزون على السلف وياخذون بمقولاتهم دون غضافة أو تعليق أو تفنيد.

ثم نختم بعمدة مؤرخى الغزوات:

وأصاب المسلمون يومئذ سبايا فكانوا يكرهون أن يقعوا عليهن ولهن أزواج فسالوا النبى ـ ص. [ المغازى للواقدى ج/3 ص919 سبق لنا إثباته ].



*******



بعد أن أم التبع " أكرم خلق الله" يسألونه حلاً لهذه المعضلة الجنسية التى اهمتهم واكربتهم وأزمتهم وهو ينقه موقعها فى نفوسهم أمسى الموقف دقيقًا, فمن ناحية هناك " حيضة الإستبراء" التى يتعين عليهم أن ينتظروها ومن ناحية اخرى هو يعلم مدى لهفتهم على وطئ السبايا أو الصبايا الوضيئات, فإذا أباح لهم الوطء جاء ذلك مخالفًا لقاعدة شرعية مستقرة هم يعرفونها والواجب عليهم أن يُذعنوا لها وألا يطلبوا مخرجًا من هذه الزنقة. وإذا أمرهم بالتربص والإنتظار أصابهم أمره بالنكد والتمرد إذ حال بينهم وبين المتعة التى يلهثون وراءها , وهو من عمق الحصافة والحرص على عسكره وغزاته بحيث يدرك أن إدخال الغم على صدورهم لا يعد من حسن السياسة.



وهنا يقتحم القرآن دائرة الأزمة ويحاصرها ويطوقها ويقضى عليها:

فأنزل الله تعالى الآية: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ النساء: 24 ]. [ المغزى للواقدى ج/3 ص 919 ].



وفى تفسير البيضاوى : ( فاستحللناهن وإياه عَنَى الفرزدق بقول: وذات أنكحتها رماحنا : حلال لمن يبنى بها لم تطلّق ) [ ( أنوار التنزيل وأسرار التأويل المسمى تفسير البيضاوى ) ص 180 مصدر سابق ـ وكذلك ( أسباب النزول ) للواحدى النيسابورى ص 98 ـ مصدر سابق].



وفى المقبول: ( يعنى السبية من المشركين: تصاب لابأس بذلك ) [ المقبول فى ألسباب النزول : لأبى عمر نادى للأزهرى ـ ص 207 ].



ويبدو أن البعض منهم تحرّج وربما دفعه لذلك خشيته أن السبية قد علقت من زوجها فأخذ يعزل أى يهريق ماءه خارج الرحم فسألوا النبى ـ ص ـ يومئذ عن العزل فقال: ليس من كل الماء يكون الولد, وإذا أراد الله أن يخلق شيئًا لم يمنعه شئ . [ فى رحاب التفسير : لعبد الحميد كشك ص 878 ].

وبهذه الآية الكريمة حُلت المشكلة وبداهة ان أصحاب السبايا الجميلات عمهم الفرح والسرور وفرحوا بالتفخيذ.



وبها يزيدنا القرآن حجة أنه دائمًا مع " الصبور " لايدعه طرفة عين وأنه معه فى ترحاله .





*******



5ـ إن من يطالع بإمعان السيرة المحمدية التى هى المثل الأعلى لكل مسلم ويقرؤها بروية ويدرسها بعناية يزداد إعجابًا بصاحبها لأن صبره فاق صبر أيوب على رزالات عدة من تابعيه وسخافاتهم وجهالاتهم, ومرده إلى أن مجتمعهم بدائى جنسى وبيئتهم متخلفة ووسطهم أمى , والمدنية غائبة والثقافة مفتقدة إلا فى نفر قليل يسيطرون بها على وجدانهم وحياتهم وإنشاء دولتهم المرجوة.


وأظهر ما نتصبت فبه بداوتهم وتمثلت فى حُشيتهم وبرزت فيه جفاوتهم أسئلتهم السمجة واستفساراتهم السقيمة واستيضاحاتهم المستهجنة واستبياناتهم المرذولة ... إلخ.



( عن ابن عباس كان قوم يسألون رسول الله ـ ص ـ استهزاء فيقول الرجل من أبى؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتى؟ .. ) [ ( لباب النقول) للسيوطى ص 78 , وقال إنه فى صحيح البخارى / و ( أسباب النزول ) للواحدى النيسابورى ص 141 وذكر أيضًا أن محمد بن إسماعيل البخارى قد رواه / و ( المقبول ) للأزهرى ص 310 / وأكد أنه فى صحيح البخارى وأضاف أن إسناده صحيح وأن الطبرانى رواه فى الكبير والطبرى فى التفسير والسيوطى فى الدر المنثور وأنه زاد نسبته لابن مردويه وابن أبى حاتم / و ( التسهيل لعلوم التنزيل ) لابن جزئ الكلبى ص 189 ].



وهكذا ثبت ركاكة وتفاهة عصبة من صحبه من واقع حدي رواه البخارى فى صحيحه ونقلته عنه مصادر من ذوات الرتب العوالى.



*******



وعدد هؤلاء ليس ضئيلاً بل هو مفرطح ومفرشح ووسيع. مما حث " المُتبتل ؟؟" على أن يعتلى المنبر وهو غاضب للغاية ويخطب بشأن هذه السخافات لدرجة أن العدوىّ ابن الخطاب اعتبرها فتنة واستعاذ من شرها:

{ روى أنس أنهم سألوا النبى ـ ص ت فأكثروا المسالة فقام على المنبر فقال: لا تسألونى عن شئ ما دمت فى مقامى هذا إلا حدثتكم به, فقام عبدالله بن حذافة السهمى ـ وكان يُطعن فى نسبه ـ فقال يا نبى الله من أبى ؟ فقال أبوك حذافة بن قيس. وقال سراقة بن مالك, ويروى عكاشة بن محصن يارسول الله: الحج علينا فى كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله ـ ص ـ حتى أعاد مرتين أو ثلاثًا فقال ـ ص ت ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم, والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لتركتم ولو تركتم لكفرتم, فآتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه. وقام آخر فقال يا رسول اله أين أبى؟ فقال فى النار, ولما اشتد غضب الرسول ـ ص ـ قام عمر وقال: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًأ .. } [ مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير: للإمام فخر الدين الرازى ـ ج 6 ـ عند تفسيره المائدة 164 مصدر سابق / والمقبول للأزهرى ص 311 وقال إنه صحيح الإسناد أورده ابن جرير اطبرى رواه فى تفسيره وكذا ابن كثير وفى تفسيره والسيوطى فى الدر وأضاف لما رقمه الرازى على لسلن العدوى : ... ونعوذ بالله من سوء الفتن ].



الذكر الحكيم هل يترك الحنيف يعانى هذا المسلك الجانح والفعل المنفلت من أولئك الصحابة الذين بلغت شدة خشالتهم وكثافة تنطعم دفعه إلى ذروة الغضب وهو مضرب المثل فى الحلم والقدوة والصبر؟؟.



لاشك أن الإجابة ستجئ بالسلب استقراء من مواقف القرآن العظيم معه فأهداه آية كريمة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ سورة المائدة: 10 ].



وفيها إعلام لهؤلاء النفر ولغيرهم بالكف عن ولوج هذا الدرب, وإذ أنه نهى جاء به الفرقان فلا مجال إذن للنقاش فيه أو مخالفته , وبذا استراح " السابق بالخيرات" من هذه المشكلة التى بعثت الغيظ إلى ذاته الشريفة وهكذا يتم تدخل القرآن فى الوقت المناسب لأنه يعاين عن كثب كافة شئونه وأوضاع.





*******

6ـ هاجس الحصول على الغنائم والأنفال والأسلاب هو الذى هيمن على أتباع " الصادق الصادوق" وهم يخرجون بمعيته الشريفة فى اغزوات أو منفردين فى السرايا, وهذا ميراث متأصل فى نفوسهم من النشأة الباكرة والتربية المتقدمة, ويستحيل عقلاً وواقعًا أن يفارقوه أو يفارقهم فى البضع سنوات التى حظوا فيها بصحبة المصطفى فإن سنن الإجتماع ترفضه وتخبرنا عن أن غلف العادة التى ترجع إلى الصبا من أعسر الأمور التخلى عنه.


ومصداقيه أن واحدًا من أسبق الذين تابعوه على ديانته التى بشر بها حزن حزنًا دفينًا يعادل حزنه على مقتل أخيه لأن " المطاع" رفض أن يعطيه سيف أحد قتلى الأعداء فى غزوة بدر الكبرى.



{ عن محمد بن عبد الله الثقفى عن سعد بن أبى وقاص قال: لما كان يوم بدر قُتل أخى عمير وقُتل سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فأتيت به النبى ـ ص ـ قال: فاذهب فأطرحه فى القبض قال: فرجعت وبى ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخى واخذ سلبى .. } [ ( أسباب النزول ) للواحدى النيسابورى ص 155 / و ( لباب النقول ) للسيوطى ص 85 وذكر أن أحمد بن حنبل رواه فى مسنده / و ( المقبول ) للأزهرى ص 533 ـ مراجع سابقة ].



هكذا وجد هذا الصحابى على فقد سلبه أو حرمانه منه ما وجد على قتل أخيه, وهذا ينفحنا مؤشرًا على أن نفوس هؤلاء أسربت حب الغنائم والأسلاب, وتعليله أنها مصدر رئيسى لديهم فهم لا يعرفون الصناعة بل ويحتقرون من يزاولها ويسمونه قيْنًا أى عبدًا, وهناك قبيلة مضاربها قرب أثرب تسمى بنى سليم احترفوا صناعة الأسلحة وبالأخص السيوف فتهكم عليهم هؤلاء العَرَبة وسموهم بالقُيون أى العُبدان.



وبذات القدر سخروا من الزراعة والزراع وعندما امتهن بنو حنيفة الزراعة تهزأ هؤلاء الأعاريب بهم وقالوا عنهم: سيوفهم مساحيهم.



ولما غزوا العراق والشام ومصر وداسوا بخيولهم المباركة أراضيها واستعمروها واستوطنوها ونزحوا خيراتها تعالوا على اهلها ووسموهم ب ( العْلوج ) لأن عملهم الأصيل الزراعة ولم يستحوا أن الأموال الطائلة بكافة صنوفخا التى كسحوها من هذه البلاد ونقلوها إلى واديهم القفر الغير ذى زرع هى نتاج جهود وعرق الفلاحين أو ( العلُوج ).



*******



ثم عود إلى السياق:

لخلو أيدى تبع " الموقر" من أى حرفة أو مهنة ولن بنى سخينة جردوهم من أموالهم التى درجوا على توظيفها فى التجارة. هذا من ناحية المنازيح أما بالنسبة لبنى قيلة فشأنهم كسائر العرب فى اعتبار حب الغنائم وتوابعها بمثابة الغريزة, لجماعه كله حدثت خناقة بين كبار الصحاب وصغارهم وشيبهم وشبيبتهم عليها وفى أول غزاة يخرجون فيها.



{ روى أن يوم بدر: الشبان قتلوا وأسروا والأشياخ وقفوا مع رسوا الله ـ ص ت فى المصاف, فقال الشبان:

الغنائم لنا لأننا قتلنا وهزمنا وقال الأشياخ:

كنا ردءًا لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا فوقعت المخاصمة لهذا السبب} [ ( مفاتيح الغيب ) للرازى ـ المجلد السابع ـ ص 431 ـ مصدر سابق ].



أما القرطبى فيضع بين أيدينا رواية مشابهة أهميتها أن من ادلى بها هو واحد من المقدمين بين تبع ( العدة / الزخيرة ).



روى عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله ـ ص ت إلى بدر فلقوا العدو فلما هزمهم الله اتبعهم طائفة من المسلمين:

وأحدقت طائفة برسول الله ـ ص ت واستولت طائفة على العسكر والنهب, فلما نفى الله العدو ورجع الذين طلبوهم قالوا: لنا النفل, نحن الذين طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهزمهم, وقال الذين أحدقوا برسول الله ـ ص ت ما انتم أحق به منا نحن أحدقنا برسول الله لئلا ينال العدو منه, وقال الذين استولوا على العسكر والنهب ما انتم باحق منا هو لنا نحن حويناه واستولينا عليه. [( الجامع لأحكام القرآن أو تفسير القرطبى ) للقرطبى ـ المجلد الرابع ص 2796 / و ( مرويات غزوة بدر ) جمع ودراسة وتحقيق أحمد محمد العليمى بارويز ـ ص 278, 279 الطبعة الأولى 1400هـ/1980م ـ مكتبة طيبة ـ المدينة المنورة ـ المملكة العربية السعودية. وهو رسالة نال بها المحقق درجة الماجستير من شعبة السُنَّة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ـ هذا الحديث فى مسند الإمام أحمد وفى هامش ص 279: قال البناء فى تعليقه على الحديث فى الفتح الربانى 14/73, قال الترمذى هذا حديث صحيح ثم قال وأورده الهيثمى وقال رجال أحمد ثقات ثم قال: أورده الحاكم فى المستدرك وصححه وأقره الذهبى ـ وبذلك يغدو هذا الحديث صحيحًا بعيدًا عن المطاعن ].



هكذا حولت الأنفال والغنائم والأسلاب الإخوة المتحابين الرحماء بينهم إلى خصوم ألداء يوشكون أن ينقلبوا إلى أعداء, ونلفت نظر القارئ إلى كلمة ( نهب ) وردت فى الخبر مرتين والنهب فى معاجم اللغة هو الإستيلاء على الشئ قَهْرًا واغتصابًا وغلبة.



*******



وعن السيوطى:

{ روى أبو داود والنسائى وابن حبّان والحاكم عن ابن عباس قال: قال النبى ـ ص ـ من قتل قتيلاً قله كذا وكذا ومن أسر أسيرًا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان أشركونا معكم فإننا كنا لكم رِدءًا ولو كان منكم شئ للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبى ـ ص ـ .. } [ لباب النقول للسيوطى ص85 ].



هذا الحديث رواه أبو داود والنسائى وهما من اصحاب الصحاح الستة وكذا الحاكم فى المستدرك وهو من دواوين السنة المحمدية المعتبرة وقد جاء به ذكر الاختصام صراحة.



كما أورده عمر الأزهرى فى المقبول وأضاف فى أسانيد الحديث المذكور بخلاف ما رقمه السيوطى:

صححه الحاكم وأقره الذهبى وأورده البيهقى فى الدلائل وابن أبى شيبة فى المصنف والطبرى فى تفسيره ( قال الشيخ شاكر فى عمدة التفسير: رواه الطبرى بثلاثة أسانيد صحاح إلى ابن عباس, وكذا زاد ابن كثير نسبته فى تفسيره لابن مروديه )

وذكر الأزهرى أن إسناده صحيح. [ المقبول لأبى عمر نادى الأزهرى هامش ص 336 ].



*******



هكذا أمسى اختصام بل عراك الصحابة على الغنائم حقيقة تاريخية موثقة لا يمارى فيها إلا لجوج ولا يجادل بشأنها إلا خصيم ولا يحاج فيها إلا شكِس.



بعد هذا أصبح اللبيب بغير شك ضيق الصدر من تخاصمهم الذى أوضحته لنا هذه الأخبار الصحيحة بيد أن القرآن المجيد لا يذره يعانى هذه الحُروجة فتقبل آية كريمة هى الأولى من سورة الأنفال: { ... يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }



وهكذا فُض الاشتباك بين تابعيه وارتفع عن صدره الكريم الضيق وقسمها عن بَوَاء أى عن مساواة ورضى المتنازعون, وكيف لا يفعلون والتقسيم جاءت به آية صريحة على المقاس أمرتهم بالتقوى وإصلاح ذات البين وبطاعة " المشير" وعلقتها على الإيمان وقرنتها بطاعة الله جل جلاله.



{ فبمجرد أن نزل الوحى بإرجاع ذلك إلى الله ورسوله سلموا الأمر وانقادوا للحق واطاعوا الله ورسوله } [ ( مرويات غزوة بدر ) احمد بارويز ص 273 ].



وبذا على الدوام يثبت القرآن العظيم أنه مع " المُخبِت" لايغفل عنه طرفة عين ويؤكد لنا فى كل حين الحكمة من إشراقه منجمًا.





*******



7ـ ترك اليهود أثرًا غائرًا فى بنى قيلة باعتبار أنهم أصحاب إسطير مقدس هو أقدمها جميعًا ( أخرج أبو داود والحاكم عن ابن عباس أنما كان أهل هذا الحى من الأنصار ( وهم أهل وثن ) مع هذا الحى من يهود ( وهم أهل كتاب ) كانوا يرون فضلاً عليهم فى العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ). [ لباب النقول للسيوطى ص21 ].


وقد رقمنا من قبل ما نقشه منهم الأثاربة رجالهم ونسونهم فى مسألة طيقة الجماع.



ولما وصل المنازيح إلى قرية الحرتين صار من الطبيعى أو البديهى أن تَزْرِب إليهم عدوى التأثر باليهود مباشرة أو عن طريق إخوانهم أعراب قرية ما بين الحرتين.



من بين ما اشتهر عن أولاد يعقوب موقفهم من المَرَة الحائض, فهم لا يؤاكلونها بل ولا يجمعها بهم بيت, واحد ولا شك أن الأوس والخزرج فعلوه ووصل خبره إلى المنازيح وجلهم من بنى سخينة ( قريش ) فحاك فى صدورهم لأنهم حتى ذياك الحين نظرتهم إلى بنى إسرائيل لم تتغير خاصة من ناحية احتيازهم لكتاب مقدس وفيهم علماء دين وعليه نص الذكر الحكيم { أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 197].



ونشد الانتباه إلى ملحظ وفير الأهمية هو أنه لم يصف رجال دين بعلماء إلا هم بل لم يذكر هذا اللفظ فيه كرة أخرى.



والذى خربش نفسية النزحة ليس هو عدم المؤاكلة فهذا مألوف لديهم حتى وهى طاهرة. [ العربة عندما غزوا مصر واستعمروها واستوطنوها واستنزفوا خيراتها أتوا معهم بهذه العادة الحضارية الرائعة حتى إنها ما زالت مهيمنة فى المناطق التى احتلوها مثل الصعيد رغم مضى أربعة قرنًا مع أن المصرى القديم لم يعرفها طوال تاريخه الطويل, ربما لأن المصرى القديم أخفض منهم درجة فى سلم المدنية أ.هـ ].

إنما عزل المرة فى مكان منفصل. لماذا؟.



لأنهم خاصة بنى سخينة لابد أن يعاسفوا زوجاتهم حتى وهن حُيض بأن تُحكم إزارها على منبع الدم ويباشر ما دونه: ما فوقه وما تحته وربما يرى بعضهم أنه لابأس من المفاخذة التامة.



إذن هذا الخطر أزعجهم وهذا القيد أربكهم وهذا النهى ضيّق عليهم, كيف لا وهو سوف يحرمهم من القيام بالطقس الذى يؤدونه ولو جزئيًا, ويمارسونه ولو ناقصًا .



*******



إذن ما المخرج؟

ليس أمامهم إلا أن يهرعوا إلى " المستجيب" يسألونه حلاً ... وبذا قبت مشكلة : إذا خالف يهودًا, ربما تأولوه أنه مناكفة لخطة الموادة والملاينة التى شرع ينفذها كما سبق أن أوضحنا, وإن وافقهم حرم تبعه من عادة شبوا عليها, ويجدون فيها متعة بل هى الوحيدة التى لهم إذ ليس لديهم أنشطة ثقافية أو فنية أو أدبية.



وهنا يأتى القرآن بالحل:

{ أخرج الإمام أحمد مسلم والترمذى والنسائى وابن ماجة وغيرهم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها فى البيوت. فسئل رسول الله عن ذلك ...

فأنزل الله الآية :{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة 222].



فقال رسول الله ـ ص ـ { جامعوهن فى البيوت واصنعوا كل شئ إلا النكاح } [ ( روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى ) المعروف بـ ( تفسير الألوسى ) لأبى الفضل شهاب الدين محمود الأوسى, تحقيق محمود الشرقاوى الجزء الثانى ـ ص 181ـ 1415هـ / 1994م ـ كتاب الشعب الدينى ـ دار الشعب بمصر ].

والحديث أورده أربعة من أصحاب الصحاح الستة, بالإضافة إلى أحمد بن حنبل مما يقطع بصحته.



وأتى به عبدالله شحاته فى تفسيره برواية أنس بن مالك أيضًا نقلاً عن مسلم وأحمد أبى داود وأضاف : غيرهم. [ تفسير القرآن الكريم: لعبدالله شحاته ج/2 ـ ص353 ].



ومما يثبت وجهة نظرنا أن سؤال التبع انصب على مقطع محدد وهو معرفة الاقتراب من المَرَة ولا تهم المؤاكلة والمشاربة أن الآية الكريمة خلت مما يخص غيره ( = الاقتراب ) وما بيّنه الهادى من إباحة كل شئ إلا الجماع ولعل مما يوثقها ما حمله تفسير الأوسى عند تناوله لآية { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ }

وإن اختاره الإمام وقال: إن المعنى اعتزلوا مواضع المحيض. [ المصدر ذاته ص 183].



*******



فى التفسير الوسيط:

جاء أن سبب النزول هو ما ورد بالحديث الذى نسخه الألوسى وبذات الإسناد: مسلم واحمد أبو داود.

بهن ( المقصود باعتزالهم فى المحيض هو تجنب الاتصال الجنسى. [ التفسير الوسيط للقرآن الكريم: تأليف لجنة من العلماء : إشراف مجمع البحوث الإسلامية الجزء الرابع ص 363 وما بعدها ت الطبعة الأولى 1393هـ/1973م من إصدارات مجمع البحوث الإسلامية ـ الأزهر مصر ].

ونضع تحت باصرة القارئ اللوذعى الفطن عبارة ( واللمس نحو ذلك ) وهى حجة تنضم إلى ما سبقها على صحة ما إرتأيناه.

وإن المرء يتولاه العجب من أولئك العربان الذين لا يتوفقون عن إشباع غريزتهم حتى ولو أن الزوجة غريقة فى طوفان دماء الحيض لا يعتقونها. [ الواحدى فى ( أسباب النزول ) ص 46. السيوطى فى ( لباب النقول ) ص 30 ].



*******



ساعتئذ حلّت هذه الآية الكريمة التى نفحها الحق المحكم لـ " فضل الله" ـ المشكلة التى أصابت الصحبة بالسهد وضربهم بالأرق وألزمهم السهر, ولا شك أنهم بعد سماعهم إياها منه تنفسوا الصعداء وعادوا إلى زوجاتهم البائسات يصنعون معهن كل شئ إلا النكاح وما اكرم المعصوم كيف صبر على كل هذه الخُشالات التى لايكاد يمضى يوم إلا ويصدمونه بها سواء فى جلهم أو ترحالهم. ولاشك لانه لم يكف عن حمد الله على أن الذكر الحكيم يلازمه كظله فى عَدَنه وظعنه وانه انبثق نجومًا ليواكب تعاريج واقعه.





*******



8 ـ التجارة فى مواسم الحج: أوضحنا فيما سلف الظروف البيئية والإجتماعية التى دفعت أولئك العربان لاحتراف التجارة وبالمثل الكراء ( = الأجرة سواء للدور أو الدواب ) ولم ينقطعوا عن ممارستها حتى فى المواسم الدينية التى جعلت أساسًا للذكر والعبادة’ فلما جاء الإسلام أسقط فى أياديهم المتربحة ولم يدروا ماذا يفعلون وكالعادة ليس امامهم إلا الموقن فأزلفوا إليه مستفسرين:
روى البخارى عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجَنّة وذو المجاز أسواقًا فى الجاهلية فتأثموا أن يتجروا فى الموسم فسألوا رسول الله ـ ص ـ عن ذلك فنزلت { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } [ البقرة 198]. فى مواسم الحج.



وعكاظ وذو المجاز ومَجَنّة دأبوا على إقامتها على هامش موسم الحج وبمناسيته.

ويقول ابن جزئ الكلبى { فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } التجارة فى أيام الحج أباحها الله تعالى. ويضيف معلومة فى غاية الأهمية , وقرأ ابن عباس: { فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فِى مَوَاسِمِ اَلْحَجَّ } [ ( كتاب التسهيل لعلوم التنزيل ) لابن جزئ الكلبى ص75 ج/1 ].



عن ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر ناس فى الجاهلية فلما جاء الإسلام كرهوا ذلك حتى نزلت: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُم } ـ فى موسم الحج.



وروى مجاهد عن ابن عباس قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة فى الحج يقولون أيام ذكر لله فأنزل الله تعالى الآية فَإتْجِرُوا }. [ ( أسباب النزول للواحدى ـ ص 38 ].



أى حاك فى صدورهم قلق بشأن بيوعهم ومتاجرهم فى مواسم الحج فإما أن ينقطعوا أى يكفوا عنها وفيه خسارة لهم ومفارقة لإلقهم وإما أن ينصرفوا لذكر الله فى الموسم الدينى الكبير كما يحضهم عليه الإسلام فلجأوا إلى الكريم علهم يجدون لديه الحل.



والعدوى ابن الخطاب يوثق أن البيع والشراء هما العمود الفقرى لخولهم عن أبى صالح مولى عمر, قال: قلت يا أمير المؤمنين كنتم تتجرون فى الحج قال: وهل كانت معيشهم إلا فى الحج. [ ( التيسير خلاصة تفسير ابن كثير ) بقلم محمود محمد سالم ص 90 ].



ونلفى توثيق حديث ابن عباس عند صاحب القبول فيذكر:

أخرجه البخارى فى صحيحه فى كتابى الحج والتفسير وأخرجه الحاكم بنحوه وصححه وأقره الذهبى وأورده ابن جرير فى تفسيره, أما المنصف ذاته فوصفه بأنه صحيح. [ المقبول للأزهرى ص 108 / ونضيف أن ابن كثير أورده فى تفسير التيسير ص 90 ].



ويذكر عبدالله شحاته فى تفسيره أن الحديث رواه البخارى عن ابن عباس وعبد الرزاق فى مصنفه وسعيد بن منصور وأن هناك حديثًا مماثلاً فى ذات الموضوع رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس. [ تفسير القرآن الكريم: تأليف عبدالله شحاته ـ ص 303 ج/3 ].



وهكذا بلغ هذا الحديث درجة من الصحة بحيث يمتنع على المُقسط العادل الذى يبتغى وجه الحق أن يمارى فيه.



*******



أولئك العَرَبة يجرى فى دمائهم التعيش من الدخول الريعية التى تأتى دون بذل أى مجهود وقد رأينا فيما سلف كيف أنهم ارتكزوا فى معايشتهم على عرق العُبدان بل وعلى ما تدره أفخاذ جواريهم دون أن يشعروا فيه بأى معرّة أو منقصة إو إخلال بالرجولة أو خدش للحياء والفحولة أو مساس بالكرامة.



ومن بين الموارد الريعية كِراء أو تأجير دورهم ودوابهم للحجاج.



{ أخرج أبو داود والإمام احمد والحاكم وغيرهم عن أبى أمامة التيمىّ قال:

كنت رجلاً اكرى من هذا الوجه وكان أناس يقولون لى إنه ليس لك حج فلقيت ابن عمر , فقلت: يا ابا عبد الرحمن أكى فى هذا الوجه وإن ناسًا يقولون لى ليس لك حج.

فقال: ألست تُحرم وتُلبّى وتظوف من عرفات وترمى الجِمار؟.

قال: قلت: بلى, قال: فإن لك حج.

رجل أتى رسول الله ـ ص ـ فسأله عن مثل ما سألتنى عنه, فسكت عنه رسول الله ـ ص ـ فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية ...

فأرسل إليه رسول الله ـ ص ـ وقرأ هذه الآية وقال: لك حج } [ المقبول للأزهرى ص 110, 11 ].



ويهمنا أن يتيقظ القارئ للعبارة التى ضمها الحديث : { فسكت عنه رسول الله ـ ص ـ فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية }.



وممن ذكر الكراء فى الحج ابن عطية الغرناطى فى تفسيره { قال ابن عمر فيمن أكرى ليحج, حج تام ولا حرج عليه فى ابتغاء الكراء } [ المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز: لبى محمد عبد الحق بن عطية الغرناطى ـ 481هـ /541هـ تحقيق وتعليق أحمد صادق الملاح ـ ج/1 ص55 ـ الطبعة الأولى 1394هـ / 1974م ـ لجنة القرآن والسنة ـ بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية مصر ].



وينفحنا الغرناطى بمُعطى شديد الخطر وقرأ ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ " فِى مَوَاسِمِ اَلْحَجَّ } [ المصدر ذاته ونفس الصفحة ].



وأورد الزمخشرى فى كشافه : وقرأ ابن عباس : { فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ " فِى مَوَاسِمِ اَلْحَجَّ } [ الكشاف للزمخشرى ـ المحلد الأول ـ ]



وقد نسخنا فيما تقدم ما رقمه مفسرون آخرون خلاف الزمخشرى زابن عطية ـ عن قراءة للآية بإضافة { فِى مَوَاسِمِ اَلْحَجَّ } ومع ذلك جاء المصحف العثمانى خُلْوَا منها.



عسى حّبْر الأمة ابن عباس اعتمد فى تلاوتها أو قراءتها على القرآن العظيم الذى كنّه صدره.





ربما طرحناه فى هذه الفاضلة يثبت أن الكراء أيضًا يتضام مع البيع والشراء كنشاط اقتصادى لم يتوقف غالبيتهم عن مزاولته ومن بينهم عدد من الصحابة الكبار المقربين ومن متقديميهم ومتنفذيهم كما اعترف بذلك العدوى دون مواربة أو لف أو دوران: {.. قلت يا أمير المؤمنين كنتم تتجرون فى الحج قال: وهل كانت معيشهم إلا فى الحج }.[ المصدر ذاته ].



ولنلاحظ أن ابن الخطاب جاءت إجاباته بالجمع ( معايشنا ) مما يشى بهيمنة ذياك المنزع على جُلّهم, يضاف إليه ما عُرف عن بنى سخينة حبهم للتجارة.



ولنتساءل هل "النبى الكريم" كان شريكًا لهم فى هذه التجارة.



*******



من جِماع ما سبق نقوا تحدد الموقف فى هذه المشكلة كالآتى:



الصحا ومن بينهم مرازبة جحاحج صناديد يتكسبون مكاسب جزيلة من التجار والكراء فى مواسم الحج وهذا ما ألفوه قبل أن يدخلوا الإسلام. والحج شرع للعبادة وذكر الله والتبتل والقيام بالمناسك وهذا ما نص عليه ( المُحكم / التذكرة ) بصراحة.



ومن ثم فعندما سألوا " اللبيب " أطيقت الأحاديث على أنه توقّف ولم يجبهم على الفور, لأنه لو نهاهم لأحزنهم ذلك لجرمانهم مما يدخل جيوبهم الوسيعة من مال شبّوا منذ نعومة أظافرهم على احتيازه. وبوده ألا يدخل على قلوبهم غمًا ولا يملأ صدورهم همًا قهم جنوده الأوفياء وأعوانه المخلصون وتبعه المناصرون له وعدته فى نشر الديانة الجديدة التى يشيعها والدولة التى يُعلى بنيانها.



ومن رجا آخر, فإن الحج وتوابعه مواسم دينية سُداها الذكر والدعاء والتضرع .. إلخ ولحمتها التجرد من مشاغل الدنيا.



بيد أم الذكر الحكيم لم يترك " أذن خير الناس" أن يتوقف طويلاً فسرعان ما بزغت الآية التى نسخناها قبل وهى الثامنة والتسعون بعد المائة فى سورة البقرة أخبرت الصحابة التجار أو التجار الصحابة وسائر المسلمين من بعدهم ألا إثم عليكم فى البيع والشراء والكراء فى مواسم الحج فانفرجت أساريرهم وطابت نفوسهم وقّرت عينهم فباعوا واشتروا وربحوا وزاطوا .... وحجوا!!!.



وفى كل مرة يقدم لنا البرهان تلو الآخر على أن الذكر الحكيم يأخذ بحُجُزته ولا يدعه نهبًا للحيرة وأن قدومه نجومًا مثّل غاية الحكمة التى خفيت على اليهود الذين اعتبروها منقصة لأن توراتهم أقبلت دفعة واحدة كاملة تامة, وكذلك خفيت على كفار قريش الذين أعتقدوا لجهلهم أن البطاركة الكوامل لابد أن ياتوا بكتبهم لأقوامهم وهى مستوفاة وجاهزة وعلى سنجة عشرة وإنه ( البلاغ / المطهر ) أقام علاقة جدلية مع الواقع المعاش . يعنى حسب الطلب!!!.



*******



وبهذه الواقعة نكتفى بضرب أو تقديم الأمثلة التى توثق بأن هناك شطرًا وسيعًا من القرآن الكريم وآياته طلعت مشرقة تلبية لرغبة " المصطفى" إما عن تشوّف وإما عن توقع وإما عن تربص وإما عن ترضية وإما عن رغبة وإما عن فك أزمة......

وسرعان ما تناصره وتؤازره أو تنافح عنه وفى ذات الوقت تضع فى حجر الفَطِن النَقِه اللوذعى الحُجّة الساطعة والبرهان القاطع على أنها وشيجة الصلة بالواقع المعاش لاتفاصله وبالحياة اليومية لا تفارقها ةبأنشطة الدائبين لا تباينها وهو سر انبثاقها نجومًا متفرقة.

No comments: