بداية الكتاب
اَلسِفْرُ اَلأَوَّلُ وَاَلثَانِى
خليل عبد الكريم
الطبعة الأولى 2002
منشورات الجمل, كولونيا , ألمانيا
دار مصر المحروسة
13 شارع قولة امتداد محمد محمود ـ عابدين , القاهرة ـ مصر
تليفون 3960599 ـ فاكس 6360922
السفر الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الباب الأول
آيات كريمة أشرقت تحقيقًا لِرغبة القائد
وأخرى تلبية لرجاوات تبعه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثانى
آيات ظهرت تلبية لرجاوات تبعه
من ص [ 141 ] إلى [ 200 ]
v الفصل الثانى: آيات كريمة ظهرت تلبية لرجاوات تبعه ................................. 141
1ـ الظهار
2ـ تحريم الخمر
3ـ إرث النسوان
4ـ الرجل لعبته المرأة
5ـ القِبلة المحيرة
6ـ شعائر الصفا والمروة
7ـ منع الصدقة عن المحتاج
8ـ قصة تحريم الربا
9ـ تحليل الزنا
10ـ النجاشى حبيبى
[ 1 ]
الظهار
اتسمت نظرة أولئك العربان للمَرَة الدونية تمثلت فى أمور عديدة منها حرمانها من الميراث لأنها تشارك فى غزوات النهب والسلب ولا طاقة لها بالدفاع عن حمى القبيلة ( ولو أن المسالة تحتاج إلى دراسة أعمق ا.هـ. ) وكذلك فى سهولة فصم عروة الزوجية التى من المفروض أن لها قدرًا من القدسية.
ومن بين صور مفارقة الزوجة عندهم ( الظهار ) وهو أن يقول الواحد منهم لحليلته أنت عَلَىّ كَظهر أمى فَتُعدّ ظالقًا لأنه كما لايحل له أن يعتلى أمه كذلك بتلك الجملة الفلوت غدت زوجته محرمة علبه ولا يحق له أن يمتطيها.
أوس بن الصامت وهو أثربى وأخو عبادة بن الصامت من مشاهيرهم بعد أن استمرت الزوجية بينه وبين مبعولته خولة بنت ثعلبة وتفانت فى خدمته وخلفت له أولادًا وبدأت التجاعيد تظهر فى وجهها والشَمَط ( اختلاط البياض بالسواد ا.هـ ) يعلو شعرها والوهن يدب فى مفاصلها قرر أن يتخلص منها كيما ينكح جارية ( صبية ) نضرة يتمتع بها مذاكيره فبمنتهى الاستهتار نادى على خولة التى أسرعت تلبى فقال لها: أنت على كظهر أمى. صُدمت الزوجة البائسة فلم تتوقع أن يجازيها هذا الصامت جزاء سنّمار ويطلقها دون جريرة إلا الإخلاص له والتفانى فى خدمته وولده ... وفكرت فى هذه النازلة التى حطت على يأفوخها دون توقع فلم تجد إلا أن تفزع إلى ( المرحمة ) وقصَّت عليه عبث زوجها واستهانته بأقدس علاقة تقوم بين اثنين ومن عمق أساها وغزارة بثها وشدة حزنها نطقت بكلام بليغ أوضح دفين ألمها وشفّ عن مكنون نفسها ورفع الستر عن جبئ إحساسها: ( يا رسول الله أكل شبابى ونثرت له بطنى حتى إذا كبرت سنى وانقطع له ولدى ظاهر منى ). [ أسباب النزول: للواحدى / ولباب النقول للسيوطى ص 164 / والمقبول: للأزهرى ص 639 / ووصف المصنف بأن إسناده صحيح وذكر أنه ورد فى مسند أحمد وفى المستدرك للحاكم النيسابورى وصححه وأقره الذهبى, والبيهقى فى سننه. وقال الجاحظ ( ابن حجر العسقلانى ) فى الفتح ( فتح البارى بشرح البخارى ) هذا أصح ما ورد فى قصة المجادلة وتسميتها ا. هـ. وهكذا حاز الحديث رتبة منيفة فى الصحة ].
ويتحفنا الفخر الرازى برواية أخرى:
فظاهر منها فأتت رسول الله ـ ص ـ وقال إن أوسًا تزوجنى وأنا شابة مرغوب فىّ, لما خلت سنى وكثر ولدى جعلنى كظهر أمه وإن لى صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلىّ جاعوا .... [ مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير: للإمام فخر الدين الرازى ـ الجزء الثلاثون ـ المجلد الخامس عشر ـ ص 419 ].
فى هذا الحديث أوضحت الزوجة المغلوبة على أمرها العلة فى الظهار وهى أنها وقت شبابها والرغبة فيها استبقاها حتى شاب رأسها وكبرت سنها وغدت ذات أولاد ومن ثم لم تعد لديها الإمكانات التى بها تعطيه المتعة ففارقها بعبارة من أربع كلمات لكى ينكح فتاة تمنحه ما يرغب.
*******
وهكذا يُثبت هؤلاء العَرَبة أن هاجس المعافسة أو الملامسة هو الذى يملأ أدمغتهم الريّة من العلم, المليطة من الفكر, الخالية من الثقافة.
بعض المفسرين القدامى من جوقة المداحين والطبالين الذين يريدون أن يرفعوا الصحب فوق مستوى البشرية وأعلى من مقام الإنسانية وانهم فى درجة أقرب إلى الملائكة وأن الغرائز والعواطف والنوازع... إلخ يستحيل عليها أن تقترب منهم, نقول البعض من أولئك نفى عن هذا الأوس الباعث الحثيث الذى دفعه للظهار من بعلته ووصفه بأن عنده لَمَمًا أى مسًا خفيفًا من الجنون أو عدم اتزان وتقدير للأمور على وجهها الصحيح, بيد أن الإمام فخر الدين الرازى أوضح أن الَمَم الذى هيمن عليه ودفعه لأن يظاهر من زوجته العجوز بأنه ( الإلمام بالنساء وشدة الحرص والتوقان إليهن ). [ المصدر ذاته والصفحة نفسها ].
ونأمل أن يتفرّس القارئ فى العبارات التى أوردها الفخر فى وصف ذاك الصامت فى ناحية ولعه بانسون لأنه يُعتبر نموذجًا لأولئك الأعاريب فى هذا المجال, وتكملة القصة أن خولة اشتكت زوجها و ( أنه ـ ص ـ قال لها ما عندى فى أمرك شئ ). [ المصدر ذاته والصفحة نفسها ].
لكن ( مأدبة الله ) يستجيب لشكاية خولة على الفور لا على التراخى:
( قالت عائشة: فما برحت " خولة" حتى نزل جبريل ـ س ـ ب ـ الآيات ). [ المقبول : ذات الصفحة السابقة, وأسباب النزول: ذات الصفحة السابقة, ولباب النقول : ذات الصفحة السابقة ].
وهكذا جاءت الآيات الكريمة بالحل فبعد عَدّ الظهار لديهم من أشد صور الطلاق ( قبل الإسلام ) لأنه فى التحريم أوكد ما يمكن, أصبح بعد انبلاح هذه الآيات من اليسير رفعه أو دفعه بالكفارات.
هذا هو المثل الأول الذى نسوقه فى هذا الفصل:
ففضلاً عن أن الآيات الأربع أقبلت بناء على شكوى خولة وإنقاذًا لها من الورطة التى أوقعها فيه طيش زوجها ونزقه فإنه ( العروة الوثقى ) أثبت أن عينه الساهرة تلحظ المجتمع وتتفاعل معه وترتبط بعلاقة جدلية حميمة. { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ . الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ . وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ سورة المجادلة : 1 ـ 4 ].
*******
[ 2 ]
تحريم الخمر
انصياعًا لإكراهات المجتمع الذى شبّوا فبه وانسياقًا لموجبات البيئة التى تربوا فيها ونزولاً على أنساق الوسط الذى نشأوا فيه تمكن شرب الخمر من نفوس الصحاب وعدد من مقدميهم.
( روى أن آية تحريم الخمر نزلت فى ملاحاة جرت بين سعد بن أبى وقاص ورجل من الأنصار وهما على شراب لهما وقد انتشيا فتفاخرت الأنصار وقريش فأخذ الأنصارى لِحيْى جمل فضرب به انف سعد ففرزه يعنى شقّه ... وروى أن ذلك الأنصارى كان عتبان بن مالك ـ روى ذلك الطبرى والترمذى وغيرهما ). [ أحكام القرآن: لأبى بكر محمد عبداله المعروف بابن العربى , تحقيق محمد البجاوى ـ المجلد الثانى ـ الطبعة الأولى 1407هـ / 1987م ـ دار المعرفة ودار الجيل ـ بيروت لبنان ].
ومثال آخر:
( روى حميد الطويل عن أنس قال: كنت أسقى أبا عبيدة واُبى بن كعب وسهيل بن بيضاء فى نفر فى بيت طلحة فمر بنا رجل فقال: إن الخمر قد حُرّمت ). [ أحكام القرآن : للكيا الهراسى ـ المجلد الثالث ـ ص 99 ـ مصدر سابق ].
ومثال ثالث:
دعا أثربى جماعة من كبار الصحب المنازيح والمقيمين على طعام وشراب فلما حضرت صلاة المغرب فتقدم عبد الرحمن بن عوف ليؤمهم فقرأ { قل يا أيها الكافرون } ولكنه خلط فيها ـ رواه الحاكم فى المستدرك عن طريق الثورى عن عطاء, وقال عن حديث صحيح ولم يخرجاه ( = الشيخان البخارى ومسلم ) [ المقبول للأزهرى ـ هامش ص 211 / أحكام القرآن لابن العربى ـ الثانى ـ ص 657 ].
وفى رواية أخرى ان الذى أمهم وهم نشاوى آخر غير ابن عوف إنما يُعد من متقديمهم.
المثال الرابع والاخير:
آية تحريم الخمر: نزلت فى قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا فعبث بعضهم ببعض فلما صَحَوا رأى بعضهم فى وجه بعض آثار ما فعلوا وكانوا إخوة ليس فى قلوبهم ضغائن فجعل الرجل يقول ( لو كان أخى بى رحيمًا ما فعل هذا بى ).
فحدثت بينهم الضغائن فأنزل الله تعالى: { إنما يريد الشيظان ... } إلى آخر الآية. [ أحكام القرآن لابن العربى ـ المجلد الثانى ـ ص 657, لباب النقول للسيوطى ص77 ].
نكتفى بهذا لندلل على أن الخمر تغلغل حبها فى أعماق قلوبهم وأنهم لم يكفوا عن تعاطيها إلا بعد شروق آية التحريم: ( أمر رسول الله ـ ص ـ مناديه أن ينادى فى سكك المدينة: ألا إن الخمر قد حُرّم فكُسرت الدنان وأريقت الخمر حتى جرت فى سكك المدينة ). [ المقبول للأزهرى ص 306, أحكام القرآن لابن العربى ـ المجلد الثانى ـ ص 657 ].
وهذا نص بالغ الثمانة لأنه حمل بين دفتيه معطى عميق الدلالة وهو أن شرب الصريفية ( = الخمر ) منتشر بينهم بكثافة. [ رجعت فى أسماء الخمر إلى كتاب ( نظام الغريب فى اللغة ) تأليف عيسى الربعى الوحاظى الحميرى تحقيق محمد بن على الأكوع ـ ص 94, 95 ـ الطبعة الأولى 1400هـ / 1980م ـ دار المأمون للتراث / دمشق / بيروت ].
كما منع السكارى من حضور الصلاة خلف ( المرشد / الهادى ) فى مسجده.
*******
تفشى معاقرة الخمر ( = القرقف ) من قبل جمهور الصحاب بل وصناديدهم أقلق ( البشير / الحازم ) ومجلس شوراه لأن هؤلاء الصحبة هم أجناده فى نشر الدين وعسكره فى إقامة الدولة ( الحلم ) وقد نسخنا فيما تقدم فى المفتتح كيف تدرّج ( البيان / الصادق ) فى معالجة هذا الأمر بيد أن آية التحريم لم تجئ إلا مُصَلّية وعلى ريث, وفى هذا الإبان أخذ العدوىّ عمر بن الخطاب يتململ ويستعجل الأمر بالكف والنهى عن التعاطى:
( عن أبى ميسرة قال: قال عمر اللهم بيّن لنا فى الخمر فَنزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } النساء 4/ 43 فقال اللهم بيّن لنا فى الخمر فنزلت { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } فقال: اللهم بيّن لنا فى الخمر فنزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }المائدة 5/90 إلى قوله { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } المائدة 5/91 فقال عمر: انتهينا إنها تذهب المال وتذهب العقل ). [ أحكام القرآن للجصاص ـ المجلد الأول ـ ص 323 ].
مع ملاحظة أن العبارة التى وردت على لسان العدوىّ عمر تدل على انه من بين من دأبوا على احتساء الكَلفاء ( = الخمر ) ويؤكده ابن العربى بقوله: ( فقال عمر : انتهينا حين علم أن هذا وعيد شديد ) [أحكام القرآن لابن العربى ـ المجلد الثانى ـ ص 657 و أسباب النزول للواحدى ص 139 ].
ومما له دلالة بالغة هذا الخبر:
( فدُعى عمر فقرئت عليه آية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } 4/43 فكان منادى رسول الله إذا أقام الصلاة: أن لا يقربن الصلاة سكران, فدُعى عمر فقرئت فقال اللهم بين لنا فى الخمر بيانًا شافيًا فنزلت الآية التى فى المائدة فدُعى عمر فقرئت عليه فلما بلغ { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } قال عمر: انتهينا ). [ المقبول للزهرى ص 307 ].
إن قارئ هذا الخبر لابد أن يتساءل: لماذا العدوى بالذات الذى طُلب وقُرئت عليه الآية؟.
ربما لاهتمامه الشديد بهذا الأمر وهو عضو بارز فى مجلس الشورى وربما لسبب ىخر لا بخفى على فطانة القارئ الذكى وإن ذكرناه آنفًا.
وعلى كلٍ فإن الزرجون ( = الخمر ) حتى ذياك الوقت لم تُحرّم أى أنه لا غضاضة على متعاطيها.
وعمومًا فهذه نقطة هامشية.
أما الجوهرى فى الأمر هو أن القرآن العظبم تفضّل بآية كريمة حرمت الصرخدية ( =الخمر ) على معتنقى الديانة الإسلامية منذ بزوغها حتى الآن وإلى ما شاء الله, ولا شك أن عمر قلق ومطالبته بورود بيان فى شأنها وإلحاحه فى الرجاء جِماعه يُحسب له ويضيف زَبْرة لرصيد مناقبه, فضلاً على أن الذكر الحكيم كما يتضح لنا يلاحق احوال ذلك المجتمع ويتصل به بحبل متين.
*******
[ 3 ]
إرث النسوان
قلنا منذ عشرين عامًا إن الدين ثورة على الأوضاع الفاسدة للمجتمع الذى ينبثق فى حناياه ويتولد بين جنباته وينمو بين أضلعه وإن الذين يبشرون به هم ثوار بمعنى الكلمة هدفهم تقويض قواعده المنهارة وتهديم قوائمه المتهالكة وتحطيم أسسه المتهاوية كيما يبنى المبشِّر بالديانة الجديدة مجتمعًا جديدًا فى كل المناحى.
العقيدة ـ العبادة ـ العلاقات الإجتماعية ـ الروابط الأسرية ـ الأسس الاقتصادية ـ التوجهات السياسية .. تجمعها ( أيديولولله ية) ذات خصائص معينة وتنتظمها كما يضم السلك حبات العقد سواء جاءت من جوهر نفيس أو معدن ثمين.
ما إن يعلن الثائر المبارك صوته المبرور مُعْلِمًا بثورته حتى يَغُدّ إليه المطحونون ويَجْذِم إليه المظلومون ويُوضِع إليه المُعوِزون ويَخَبّ إليه المحتاجون ويُرقَل إليه المعدمون ويهرول إليه المنكسرة قلوبهم حسبما درج على مناداة تبعه ثائر مبرور وأحد البطاركة المرموقين عيسى ابن الصديقة مريم.
وجِماع هؤلاء أطلق عليهم ( العَلَم العليم ) ( الأراذل ) يؤمنون بثورته ويقفون تحت رايته ويصطفون خلف لوائه ويدافعون عن الثورة بكل ما لديهم وإذ إنهم مَلِطيون من كل شئ فإن ما لديهم يعنى أبشارهم وجشومهم وأرواحهم يقدمونها فَداءً لها وشهادة فى سبيلها وثمنًا لفَلحِها.
ولكن ما هو التَحضِيْض الذى يُوزّهم إليها؟.
الإجابة اليسيرة هم يرون فيها: سفينة النجاة مما هم فيه من ظلم وبرّ الأمان مما يعانونه من حرمان والدواء الشافى لكافة الأمراض التى تضربهم والأسقام التى تركبهم والأدْواء التى تنخر فيهم واليد التى سوف تنتشلهم من الوَهْدة التى يتدون فيها .. إلخ.
وفى مقابلهم يقف الأغنياء والمرابون وتجار الرقيق والطواغيت والمرازبة والجحاجح والبغاة والظلمة والمستكبرون وهم ( الملأ ).
كما أطلق عليهم القرآن ويفسره الراغب بـ : الذين يملأون العيون رواة ومنظرًا والنفوس بهاءً وجلالاً يناوئون الثائر ويعارضونه بل يحاربونه ويسخرون من تابعيه ويستهزءون من مناصريه ويعبثون بمؤيديه دفاعًا عن أوضاعهم الطبقية وحماية لمصالحهم المادية وتمسكًا بمكاسبهم المالية لأنهم يُنقهون أن دعوته سوف تفقده جمعية ذلك. [ المفردات فى غريب القرآن: للراغب الأصفهانى 502هـ / تحقيق محمد سيد كيلانى ت طبقة 1381هـ / 1981م ـ مكتبة الباب الحلبى ـ بمصر ].
*******
ومن بين الفئات المغلوبة على أمرها النساء فى الجزيرة العربية عندما دعا ( المصلح ) بالديانة الجديدة. [ يقول العمة عنهم فى مصر: صنف الحريم ].
وأوضحنا فيما سلف نتفًا من مظاهر القهر الذى وقع عليهن ومن أبرزها حرمانهن من الميراث وهو الأمر الذى دفع أم سلمة ( سبق نسخنا قطاعًا من حياتها ا.هـ 9. إلى أن ترفع صوتها محتجة باعتبارها من زعيمات النِسون حتى بعد أن زَبَدَهن القرآن الكريم نصف الميراث. [ زَبَدَه يزبده = أعطاه ومنه الحديث المروى: ( إنا لانقبل زبد المشركين ) ـ ( تصحيح الفصيح وشرحه ) لابن درستويه ـ تحقيق د. محمد بدوى المحتوت ـ مراجعة د. رمضان عبد التواب ص 23 ـ الطبعة الأولى 1419هـ / 1998م. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. بمصر ].
( أخرج الترمذى والإمام أحمد والطبلرانى قال: قالت أم سلمة: يارسول الله يغزو الرجال ولا نغزو فأنزل الله تعالى: { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [ سورة النساء 32 ]. ثم نزلت { إنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } الآية. [ المقبول للأزهرى ـ ص191 ـ ووصف إسناده بأنه حسن ].
أما الباحثة المغربية أمينةالحسنى فقد أوردت رواية أخرى:
( أخرج الترمذى من حديث ابن عمر عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله, يغزو الرجال ولا تغزو النساء زاد الحاكم: ولاتقاتل فتستشهد وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى وتبارك: { ولا تتمنوا ما فضل الله به ....... } الآية ) . [ أم سلمة أم المؤمنين ـ مصدر سابق ص 132 ].
يبين أن الحديث بلغ درجة عالية من الصحة فقد أخرجه الترمذى وأحمد والطبرانى والحاكم النيسابورى ووصفه بأنه حديث حسن صحيح الإسناد على شرط الشيخين. كما ذكر السيوطى أن الحاكم خَرّجه فى المستدرك. [ لباب النقول ـ ص51 ].
ولولا ان إختصاص النساء بنصف الميراث حاك فى صدر أم سلمة لما أسرعت بتلك المقولة الاحتجاجية, كما أنها بنت زاد الركب فى ما نرجح ظلت على موقفها فأشرقت آية اخرى { أنى لا أضيع عما عامل منكم من ذكر أو أنثى } فرضيت أو سلّمت أمرها لله تعالى.
*******
بعد هذا الاستطراد الذى دفعنا إلى زَبْره ( نسخه ) موقف هند أم سلمة من ميراث المَرَة, نعود إلى سياقة البحث.
قبل الإسلام أطبق أولئك العربان على نفى النسوان من الإرث بالكلية وهذا موقف لم يُرض ( نعمة الله ) لأمرين:
الأول: فيه إجحاف بالغ بهن ومعلوم وعمق كراهيته له بعد أن ذاق من الكثير فى طفولته وصباه وشبابه.
الاخر: أنهن من أوائل من تبعه وآمن بدعوته, با إن اول من استشهد فى سبيلها امرأة هى ( سُميّة أم عمار بن ياسر ), واشترك فى بيعة العقبة الأخيرة مَرَتان من بنات قيلة هما أم عمارة بنت كعب وأسماء بنت عمر, وهذه البيعة على الأحمر والأسود وشكلت نقطة الانطلاق بالنسبة للإسلام, كما ان مواقف النسوة البطولية فى المعارك خاصة فى غزاة أحد تقطع بعمق إيمانهن بالديانة التى بشر بها وبإخلاصهن وتفانيهن.
فأخذ يتربص النُهزة لعل ( العروة الوثقى / القرآن ) يهديه نصًا يرفع هذا الظلم عن المَرَة ولو جزئيًا, إذ إن إزالة العنت جميعه عنهن أمر عسير بل مستحيل لأن مجتمع العَرَبة ذكورى بطريركى والمساواة بين الرجل والمرأة فى التراث سوف تثير حفيظتهم وتشعل غضبهم.
وهنا جاءت الفرصة:
( أخرج الإمام أحمد والترمذى وابن ماجة والحاكم وغيرهم عن جابر قال: جاءت غمرأة سعد بن الربيع فقالت: يارسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما معك يوم احد شهيدًا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً, فقال: يقضى الله فى ذلك فنزلت آية الميراث, أرسل رسول الله ت ص ـ إلى عمهما فقال: أعط لبنتى سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقى فهو لك ). [ المقبول للزهرى ص 200, 201 ووصف إسناده بأنه صحيح ].
وأورد السيوطى الحديث ذاته وأضاف: ولا تنكحان إلا ولهما مال. ثم ذكر عبارة: يقضى الله فى ذلك , فنزلت آية الميراث. [ لباب النقول للسيوطى ص 49 ].
وجاء برواية اخرى:
( وقد ورد فى قصة سعد بن الربيع وجه آخر: اخرج القاضى إسماعيل فى احكام القرآن من طريق عبد الملك بن حزم أن عَمْرة بن حزام كانت تحت سعد بن الربيع فقتل عنها فى احد وكان له منها ابنه فأتت النبى ـ ص ت تطلب ميراث ابنتها ففيها نزلت ( يستفتونك فى النساء ) الآية ) . [ لباب النقول للسيوطى ص 49 ].
بيد أن الرواية الأولى أصح وأشد توثيقًا وأليق بالمناسبة.
*******
أما الوحدى النيسابورى فيزيدنا برواية شبيهة بواقعة بنتى سعد بن الربيع ( قوله تعال: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } الآية [ النساء : 33], قال المفسرون: إن أوس بن ثابت الأنصارى توفى وترك امرأة يقال لها أم كَجّة وثلاث بنات فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما سويد وعجرفة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته شيئًا ولا بناته وكانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء الرجال الكبار وكانوا يقولون لانعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وحاز الغنيمة, فجاءت أم كجة إلى رسول الله ـ ص ـ فقالت يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك بنات وأنا امرأة ليس عندى ما أنفق عليهن, وقد ترك ابوهن مالاً حسنًا وهو عند سويد وعجرفة ولم يعطيانى ولا بناته من المال شيئًا وهن فى حجرى ولا يطعمانى ولا يسقيانى ولا يرفعن لهن رأسًا .
فدعاهما رسول الله ـ ص ـ فقالا: يا رسول الله ولها لا يركب فرسًا ولا يحمل كلأ ولا يُنكئ عدوًا, فقال رسول الله ـ ص ـ: انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لى فيهن فأنزل الله هذه الأية ) . [ أسباب النزول للواحدى النيسابورى ص 95, 96 ].
وقد حمل كتاب ( المقبول ) للأزهرى ذات الواقعة وأضاف أن امرأة ثابت طلبت من ابن العم خالد بدلاً من سويد وبنات أوس اثنتان لا ثلاث.[ وهذ يوثق ما سبق أن رقمناه: أن الفترة المبكرة اكتظت بالاختلاف فى جُلّ المناحى : الأسماء ( أسامى الأشخاص والأماكن ) والأعداد والوقائع والتواريخ ... إلخ ا. هـ ]. ولكنهما رفضا نكاحهما لدملمتهما, وانه نزلت بشانها آيتان: { وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {111} وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا {127} } [ سورة النساء 111, 127]. [ المقبول للأزهرى ص 196, 197 ووصف الحديث بأنه صحيح ].
أما السيوطى فقد رقم انه ( ورد سبب ثالث: اخرج ابن جرير عن السدى قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون الجوارى ( أى البنات أو الفتيات الصبايا) ولا الضعفاء من من الغلمان, لايرث الرجل من ولده إلا من اطق القتال ـ فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها كَجّة ذلك إلى النبى ـ ص ت فأنزل هذه الآية { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا}[ النساء : 11] , ثم قال فى أم كَجّة { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ النساء: 12]. [ لباب النقول للسيوطى ـ ص 49 ].
ورواية السيوطى فى الباب توثق ما قلناه بشأن الاختلاف فى الأخبار سواء فى الوقائع أم الأسامى أم الأعداد وانه لا يقدح فى جوهر النازلة أو الواقعة.
وهذه ملاحظة هامشية اقتضاها التحليل والتقييم إنما الثابت من الحديث:
1 ـ أن أولئك العربان وضعوا مقياسًا لمن يستحق التراث وهو الذكر الذى يمتطى ظهر الفرس ويحوز الغنيمة وهو معيار يدل على البداوة ويؤكد أن الغنائم هى هممهم المقيم مشغلهم الشاغل. ولنتساءل هل هذا العيار متوفر الآن , هل يوجد فى العصر الحالى غنائم؟, ألا تخرج المرأة للعمل مثلها مثل الرجل بل وأكثر, متبوأة أعلى المناصب , واترك لقريحتك أيها القارئ أن تضع أمامك عشرات من الأسئلة والأمثلة لعلك تجد لها جوابًا تقنع به نفسك , أو مخرجًا تنأى به عن مخارج التراث وتفاسيره وقوالبه.
2 ـ أن ابنى عم قيس بن ثابت ( أو غيره ) لا يعنيهما أن تعيش زوجته وابنتاه ( أو بناته ) فى مسبغة أو لا تتزوجان إذ لديهما مال تنكحان من أجله ت وابنا العم يعلمان ذلك بداهة ـ إنما الذى يهمهما هو الحصول على المال وهو أمر يشف عن جلافة فى الطبع وبداوة فى الذوق وانعدام فى الإحساس وخَواء فى الخلاق وصُفور فى الضمير ومَآبه الافتقار إلى الحضارة والبعد عن المدنية والنأى عن الرقى وجِماعه يؤكد النعوت التى رددناها عن ذياك المجتمع.
3 ـ أن العبارة التى وردت على لسان ( العظيم / العفو ): انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لى فيهن . وعدها نزلت الآية, حافلة بالدلالات ثَرّة بالمعانى جَيّاشة بالإيحاءات ولا تحتاج إلى تعليق وهى غنية عن الشرح ولا تفتقر إلى تبيين, يفهمها الذكى وينفقها الفطن ويدركها اللوذعى ويستوعبها اللبيب.
*******
فى فاتحة هذا الكتاب أخذنا على المفسرين المحدثين استقاءهم الكثير من كتب التفسير التراثية وقد يعترض قارئ: ها أنت ترجع إليهم؟.
وردنا ينحصر فى أمرين:
الأول: أننا ـ بعكس المفسرين المحدثين ـ لا نتوكأ أو نتعكز على القدامى وفرق بين الاستشهاد ببضع فقرات لتحليلها وتقييمها وبين النَهْل والعَبّ.
الآخر: ما نأخذه منهم يدور فى نطاق ( أسباب النزول ) لتوثيق ما جاء فى المؤلفات التى خصصها مصنفوها للأسباب فحسب.
بعد هذه الملحوظة نرجع إلى السياق:
( روى عطاء قال: استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخًا فأخذ الأخ المال كله, فأتت المرأة: يارسول الله هاتان ابنتا سعد وإن سعدًا قتل وإن عمهما أخذ مالهما, فقال ـ ص ـ ارجعى فلعل الله سيقضى فيه ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية [ النساء 11 ], فدعا رسولالله ـ ص ـ عمهما وقال: أعط ابنتى سعد الثلثين وأمها الثمن وما بقى فهو لك, فهذا أول ميراث فى الإسلام ). [ مفاتيح الغيب ـ التفسير الكبير: للفخر الرازى ـ الجزء التاسع ـ ص 47ـ مصدر سابق ].
وما أورده الفخر الرازى ( ثم إنها عادت بعد مدة ) يدل على أن ( مادبة الله / القرآن ) تمهّل حتى أشرقت آية المواريث لأنها تمس عُرفًا راسخًا رسوخ الأجْبَل الرواسى, كما ان الذُكران نازحين وأثاربة سوف يتململون بعد انبثاقها لأنها تنال من وضْعَيهم المادى والمعنوى وقد شبوا وشابوا على إلفه ( = عدم فراقه ) واعتياده وبناء حساباتهم المعاشية على مقتضاه.
أما قول فخر الرازى إنه أول ميراث قُسّم فى الإسلام فمعناه أن نظام التوريث السابق على الإسلام بما فيه حرمان النِسون والجوارى وصغار الغلمان ظل معمولاً به حتى بعد غزوة أحد التى وقعت فى السنة الثالثة من النزوح. [ تاريخ الطبرى ـ الجزء الثانى ـ ص 499 ]. أى أنه استمر سارى المفعول ستة عشر عامًا منها ثلاثة عشر فى قرية التقديس وثلاثة فى قرية الحَرّتين أى ما يقرب من ثلثى عمر الدعوة المحمدية المباركة وهذا يقطع باستقرار عرف التوريث البدوى الذكورى وإلا لما احتاج تغييره هذا المدى الطويل.
*******
ويقول اَلْكيا الهراسى ( وقضى رسول الله ـ ص ـ فى تركة سعد بن الربيع للبنتين الثلثين وللزوجة الثمن والباقى لأخته) [ أحكام القرآن: لعماد الدين محمد الطبرى ج/2 ص 343, وذكر فى الهامش: رواه أحمد والترمذى وأبو داود وابن ماجة ].
ولا يفوتنا أن نلحظ عبارة ( والباقى لأخته) لا لأخيه كما جاء فى روايات سوابق, لأن التباين والاختلاف أهم علامة تَسِم مَرْويات فترة التدشين لعدم معرفتهم بالتدوين الذى درج عليه وأتقنه منذ ألوف الأعوام قبل هذه الأحداث المُعجبة المبروكة أجدادنا قداماء المصريين.
أما أبو بكر محمد بن عبدالله المعروف بابن العربى فقد أورد خبر مجئ زوجة سعد بن الربيع للرسول وشكواها إليه بذات التفصيلات التى عبقت بها الرواية الأصلية التى سقناها فيما سلف وقوله لها ( يقضى الله فى ذلك ) فنزلت { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } وهكذا عاضدت كتب التفسير, مصنفات أسباب النزول فى توثيق خبر شكوى زوجة سعد بن الربيع لحرمانها وابنتيها من ميراثه لأن عمهما استفاه لنفسه وبعدها هلّت بطلعتها المشرقة آية المواريث على مهل وريث. [ أحكام القرآن: لابن العربى ـ مجلد أول ـ ص 333 ].
وهكذا غدا هذا الحديث صحيحًا لا تعتريه أدنى شائبة.
ولا نضيف جديدًا حين نرقم أن الآية حققت مطلب أرملة سعد وكافة النِسون غِبّ أن منحهن ( الإيمان والموعظة ) نصف التراث بعد حرمان امتد مئات الأعوام.
ومن رجا آخر أقبلت الآية كمكافأة للنساء على مواقفهن من الدعوة التى بشّر بها ( سيد الخلق ) والتى نسخنا فيما مضى نُتفًا منها خاصة فى عركة أحد بخلاف عدد من كبار الصحابة أدبر وأعطى ظهره للعدو وهو يعلم أن ذلك من أكبر الكبائر ومن غرائب التاريخ أن من بين من فعله من تولى الإمامة العظمى أى الخلافة, يضاف إلى ذلك أن ( أول من يفيق من الصعقة ) بثاقب بصره ونافذ بصيرته ووسيع أفقه أدرك بعد ما حدث فى أحد النسون فيهن أو لديهن نفع كبير فى ميادين القتال. وللديانة التى يذيعها ويفشيها وللدولة التى يضع فى صرحها لبنة بعد أخرى واللتين تعبران مزنقًا ضيقه ملحوظ وحروجته واضحة وعقباته عديدة وعثراته خطرة ومن ثم فهما ( = الديانة والدولة ) فى أمس الحوجة ليد العون من كل رد فى المجتمع.
وفى حديث له معروف ( النساء شقائق الرجال ) ولرفع روحهن المعنوية ولتشجيعهن على مزيد من البذل ولحضهن على تقديم ضعف العطاء فلا أقل من زبدهن شطر الإرث, وهكذا يثبت القرآن الحميد أنه يواكب جماعة المسلمين وأن عينه عليها وأنه يتفضل بإجابة طلب أفرادها ويتكرم بتحقيق رغبة أعضائها ويتعطف برفع سبب شكاية من يئن ويتوجع من ذُكرانها ونسونها وأن إطلال آياته كالشموس المضيئة بين الحين والآخر بلغ غاية الحكمة التى خفيت عن العقول القاصرة لليهود.
*******
[ 4 ]
الرجل لعبته المرأة
هذه مقولة تنطبق على مجتمع أولئك العُربان, وقد صرح بها أحد كبارهم عندما ناقشته بمنتهى الأدب والخضوع زوجته فى أمر يهمها أو يخصها فصاح فى وجهها: مالك وذاك ما أنت إلا لعبة ألعب بها وقت حاجتى إليها ثم أركنها أسفل الجدار. ومن الجائز أن تغدو الأحاديث والأقوال موضع تهزيل ( من الهزال ) ومجال توهين ومحل تشكيك وهناك شعار شهير لأحد المبرزين فى علم الحديث: أىّ حديث ضعيف قويناه وأى حديث صحيح أو حسن ضعفناه.
وهى دعوى تنضوى على أدنى قدر من المبالغة, لأن دفع الحديث قد يأتى من صوب المَتْن بزعم أنه لا يتفق وما جاء فى القرآن الكريم ( بداهة من وجهة نظر الطاعن ) أو ياتى من ناحية السند, فإن لم يلحق به تاريخية الرواية شائبة أى أن فلانًا روى عن فلان فى حين أنه لم يحدث بينهما لقاء أو يغمز أحد رواته بأنه صاحب بدعة أى ممن تكلموا فى الذات أو فى الصفات ( صفات الله ) أو فى القضاء والقدر أو غيرها أو عرف بالتشيع وهكذا.
فإذا صح المتن وسلم رواته من المطاعن قالوا عنه ( = الحديث ) إنه منسوخ إما بآية وإما بحديث آخر .. إلخ. مع وضع ملاحظة هامة فى الحُسبان وهى أن الحديث الذى يطعن فيه لا يوافق مذهبه أو رأيه أو حتى هواه.
إذن التعكز على مقولة لأحدهم ولو من مرازبتهم لإثبات نظرة أولئك العربان المتدنية للمََرَة لا ينتصب دليلاً قاطعًا.
إنما الأفعال هى التى تقطع المناوئ وتُخرس المشاغب وتُسكت المخاصم:
( كان الرجل يطلق امرأته ما شاء الله أن يطلقها وإن طلقها مائة مرة أو اكثر إذا ارتحعها قبل أن تنقضى عدتها, حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبينى منى ولا آويك إلى, فقالت وكيف ذاك؟ قال: أطلقك وكلما قاربت عدتك أن تنقضى ارتجعتك ثم أكلقك وأفعل ذلك.
فشكت المرأة ذلك إلى عائشة فذكرت ذلك عائشة لرسول الله ـ ص ت فسكت فلم يقل شيئًا حتى نزل القرآن ( الطلاق مرتان .. ) [ المقبول: للأزهرى ص 132, 133. وقال المصنف: رواه الحاكم والترمذى والطبرى عن عائشة ـ رض ـ ووصف إسناده بأنه صحيح وأن الحاكم صحححه فى المستدرك. ورواه عبد بن حميد فى تفسيره ورواه ابن مردويه فى السنن ومالك فى الموطأ ].
وذكره السيوطى فى اللباب بذلك السند ولو أنه اكتفى بالترمذى من أصحاب الصحاح والحاكم النيسابورى ولكنه رَقَم أن المَرَة تشكّت إلى ( صاحب المغنم ) مباشرة دون توسط التيمية بنت عتيق بن أبى قحافة.
وفى أحكام القرآن لابن العربى أن الزواج من الأثاربة بنى قيلة وان شكوى ميعولته أفضت بها بنفسها إلى القرآن الكريم. [ أحكام القرآن: لابن العربى ـ المجلد الأول ـ ص 189 ].
*******
أكد الباحث عبدالله شحاته ـ بعد تمحيص منه ـ مسألة لعب أولئك العُربان بالطلاق ونحن من جانبنا نرجعها إلى استهانتهم بأقدس علاقة ولنظرتهم للمرأة التى تتسم بالتعالى من جهتهم والدونية إلى ناحيتها وجِماعة منبعه التبدىّ.
يوثق شحاته ذلك فيزبر ( أى يكتب ) ( ثبت لأن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة. [ تفسير القرآن الكريم: لعبدالله شحاته ـ الجزء الثانى ـ ص 370 ].
ثم ساق الحديث كما طلع علينا أبو عمر نادى الأزهرى.
*******
إذن نحن بصدد شكاية صحابية من بنات قيلة بثتها بالذات أو بالوساطة للبهاء ضد زوجها الذى عزم على تعليقها نزولاً على العرف المستقر فى المجتمع البدوى الذكورى بأن طلقها حتى إذا قاربت عدتها على النهاية راجعها وهكذا حتى أقرب الأجلين: أجلها أو أجله.
و ( الخالص ) يعلم هذا التقليد المستقر الراسخ فى المجتمع وأنه سلاح فى يد الذُكران يشكمون به النسوة, يهددون به الناشز ويخيفون بموجبه العاصية ويردعون بمقتضاه النفور ولو انتزعه من أيديهم لعصلبن ( = عصلجت ). عليهم ولما استطاعوا التحكم فيهن ( هذا ما يتوهمونه ).
*******
هذا من رجال ( ناحية ), ومن آخر فإن النسون يعانين بشدة الظلم الذى يقع عليهن من جراء استمرار هذا العرف الوبئ والعادة الدنيئة والتقليد الطِفس, ولقد أثبتن منذ فجر الدعوة المباركة أنهن من أشد الأعوان إخلاصًا كما أن الأيام المستقلة تعمق الحَوجة إليهن إن فى جناح الديانة أو قطاع الدولة الوليد.
تلك هى دَوَال العبارة التى وردت فى الحديث الشريف ( فسكت ولم يقل شئ ) بيد أن ( القرآن ) لم يسكت وانىّ له أن يفعل وقد تقدمت بطابتها صحابية أثربية لتصحبح وضع جائر يُضيرها هى بنات جنسها حتى يرث الله الأرض ومن عليها فبعثت آية كريمة ( الطلاق مرتان ) .. استجابت للشكاية وقضت على التقليد الظالم وأنصفت شقائق الرجال وكأنى به ( الكتاب / النور ) يقول لهم ولهن إنى معكم لا أغادركم طرفة عبن وادخل معكم فى علاقات جدلية حميمة ومن هنا لم أنبث دفعة واحدة كتوراة موسى وإنما تهل نجومى على مراحل تنير لكم الجَادة ( الطريق ) أمام مشكلاتهم وتبدد الظلام الدامس الذى عشش حول الكثير من تقاليدكم المتفسخة وتفتح المغاليق التى سكرتها عاداتكم البالية.
*******
[ 5 ]
القِبْلَة المحيرة
رقمنا فيما سلف أن ( رضوان الله ) عندما شرّف قرية الحرتين وخبر أحوال ( إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت ) كما أطلق عليهم يوم قريظة:
أخرج بن جرير عن مجاهد قال: قام النبى ـ ص ـ يوم قريظة تحت حصونهم فقال: يا إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت. [ ( لباب النقول فى أسباب النزول ) للجلال السيوطى, على هامش ( تنوير المقياس من تفسير ابن عباس ) للفيروزى آيادى صاحب القاموس , المتوفى 817هـ ـ الطبعة الثانية 1370هـ / 1951م. مكتبة مصطفى البابى الحلبى ـ مصر ].
وأدرك كثافتهم وفَرشَحة ذراعهم الاقتصادية وقوة تأثيرهم الدينى والاجتماعى باعتبار أنهم ( = القردة لا اليثاربة العربان ) من ذوى العلم الدينى وبأيديهم إسطير مقدس مَنَحَنَ من بيره سائر الإسطيرات التالية:
فصلى تجاه بيت المقدس أو قرية السلام ـ أورشليم ـ وتابعه صحبه. وشكلت البادرة خطوة فى درب الموادعة أو الموادّة التى قرر أن يمشى فيها يقرب من عام ونصف عام, بيد أنهم أثبتوا بحق أنهم قردة وخنازير, فانبثقت آية عظيمة من القرآن ـ وكل آياته عظيمة ـ أذنت له ولتبعه الاتجاه فى الصلاة نحو قرية القداسة العربية أو الكعبة أو إرث إبراهيم!!. [ هناك خناقة ( وهى كلمة فصيحة ) لرب السماء بين المسلمين واليهود على أمرين:
الأول: أيتهما أقدم وأكثر قداسة بَكّة أم إيليا ( أورشليم ).
الآخر: كبير البطاركة وأبوهم وأصل أصولهم إبراهيم أو أبرهام.
( فى مصر يدلعون من يسمى إبراهيم ببرهوم مرة وهيمة أخرى ا.هـ. ).
هل هو يهودى أو حنيف.
ورغم بلوغ عمر العركة المبرورة بدايات القرن الخامس عشر فإن الطائفتين لم تصلا حتى كتابة هذه السطور إلى حل وسط مع أن كليهما تكتظ بطوابير مرصوصة من العلماء والمشايخ والأحبار والربيين ا.هـ ].
*******
تحويل القبلة أقلق عددًا من الصحابة لا بسبب التردد: مكة ( الكعبة ) ثم إيليا ثم مكة مرة اخرى إنما لعلة أخرى مغايرة ولكنها تقترن أو تتصل بها بحبل ربما لا يتسم بالمتانة والشدة إنما فى نهاية الشوط من اليسير العثور على وشيجة لبَكَتْهما ( = خلطهما ).
ما هو موقف أو مصير الصلوات التى صلوها هم ومن سبقهم إلى الدار الآخرة خلال الأشهر الثمانية عشرة صوب القرية التى يقدسها أولاد الأفاعى كما وسمهم عيسى ابن الصديقة مريم. [ علماء المسيحية يؤكدون أن اسم أمة ألله ام عيسى المسيح هو مارى أما مريم فهو اسم أخت هارون أخى موسى , بيد أن القرآن المجيد سماها مريم وتوج سورة كاملة بهذا الاسم وهو شرف منيف لم تنله سيدة نساء الدنيا أم هند الطاهرة خديجة بنت خويلد. وبداهة نحن لاشأن لنا بما يدعيه الدين المسيحى ونتتبع ما جاء بالقرآن وإن اختلف نتيجة تشابه الأسماء, ومن ثم رقمنا اسمها الذى ورد فيه وهو مريم ا.هـ ].
( كان رجال من أصحاب رسول الله ـ ص ـ قد ماتوا على القبلة الأولى منهم أسعد بن زرارة وأبو أمامة أحد بنى النجار والبَرَاء بن معرور أحد بنى سَلَمة وأناس آخرون جاءت عشائرهم فقالوا: يا رسول الله توفى إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا؟. قأنزل الله تعالى { مَا كَان الله لِيُضَيِّعَ إِبْمَانَكُم } الآية. [ ( أسباب النزول ) للواحدى ص 36, ( لباب النقول ) للسيوطى ص 19 طبعة دار الشعب , وقد أورده أبو عمر نادى الأزهرى فى ( المقبول ) وذكر أن إسناده صحيح وأضاف أن ابن كثير أورد فى تفسيره وقال عنه الشيخ شاكر فى ( العمدة ) إسناده صحيح وأخرج بعضه الترمذى فى تفسير سورة البقرة وقال عنه: حسن صحيح, وأبو داود ( من أصحاب الصحاح الستة كالترمذى ) وكذا ابن ماجة فى سننه وهو منهم وأخرجه أحمد بن حنبل فى المسند كما جاء فى صحيح ابن حيان وعزاء السيوطى فى الـ ( لباب ) للطبرى والأخير أورده فى تفسيره ( المقبول ) ص 81 . وهذا وصل هذا الحديث إلى محطة الصحة وهو مطمئن البال].
*******
كالمنهج الذى اتبعناه نيمم صوب كتب التفسير العوالى لنتعرف سبب انبثاق الآية توثيقًا وشدًا لأزر مصنفات ( أسباب النزول ) { مَا كَان الله لِيُضَيِّعَ إِبْمَانَكُم } أى ثباتكم على الإيمان وقيل إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها لما رُوى أنه ـ ص ـ لما وُجّه للكعبة قالو: كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل لإخواتنا فنزلت: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة 143 ]. [ أنوار التنزيل أو تفسير البيضاوى: لقاضى القضاة البيضاوى ص 30 ].
ويؤيد أبو محمد بن عطية سبب إشراقة الآية السالفة الإلماع فيقول: ( فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل من صلاتهم السالفة فأنزل: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }. [ ( المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز ) لأبى محمد عبد الحق بن عطية 481/541هـ تحقيق الملاح ـ ج1 ـ ص 441ـ لجنة القرآن والسنة ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ بمصر ].
وفى تفسير الجلالين: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أى صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثبتكم عليه لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل. [ ( تفسير الجلالين ) وهما جلال الدين محمد بن أحمد المحلى وجلال الدين السيوطى ـ ص20 ـ دون تاريخ ـ مكتبة الجمهورية العربية المتحدة ].
أما المقصود بكلمة إيمانكم التى وردت فى الآية هو صلاتكم كما ذكر الجلالان ويقول الراغب فى مفرداته { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أى صلاتكم }. [ المفردات فى غريب القرآن: للراغب الأصفهانى ـ ص 26 ].
ويعلل ابن عطية تسمية الصلاة بالإيمان ( فسميت إيمانًا إذ هى من شُعب الإيمان ). [ المحرر الوجيز ص 441 ].
*******
إن تحويل القبلة من إيليا إلى الكعبة بقدر ما غاظ بنى إسرائيل نفحهم مجالاً وسيعًا للدسّ والوقيعة والإدعاءات الخبيثة والمزاعم التى تقطر سمًا. ينفثونها فى آذان تبع ( المكتفى بالله ) خصوصًا اليثاربة وهم عُربان ضيقو الأفق, ومحدودو النظرة, منعدمو الثقافة, مليطون من الفكر, فما إن سمع اليهود بآية التحويل حتى ارثقلوا إليهم يبلبلون إيمانهم ويشوشون عليهم إسلامهم ويخلخلون عقيدتهم ويزلزلون ديانتهم الهشة خاصة أنهم حديثى عهد بها إذ لم يمض على إعتناقهم إياها أقل من عام ونصف عام فطفقوا يسألونهم:
أى دين هذا الذى يغير قبلة صلاته, ففى بدىّ الشأن التوجه إلى الكعبة ثم بعدها التحول صوب أورشليم مدينة السلام وعقب أقل من عامين العودة إلى الكعبة مرة اخرى؟.
إن ما علمناه من كتبنا أن القبلة إذا شُرِّعت لا تبدل وكيف تُغيّر والصلاة عماد الدين وأول ركن فيه بعد الشهادتين؟.
إن الأمر لايخرج عن فرضين:
إما التوجه فى الصلاة إلى أورشليم حق وصدق من عند الله فلا يصح تبديله ويتعين الاستمرار عليه إلى يوم القيامة!.
وإما أنه باطل وليس فيه حق ولم يأمر به الرب فكيف إذن يممتم صوب بيت المقدس طوال تلك المدة؟.
أما أن يصبح حقًا ثم يمسى باطلاً فما يقول به عاقل!.
وما السبب فى انقلابه من باطل إلى حق؟.
ألا يدل التحول على أن " أبا القاسم " قد جرفه الحنين إلى مسقط رأسه وإلى دين أبيه واجداده
وأن التحويل بداية فى جادة العودة إليه؟.
وفيم إذن هذا العناء وكل التضحيات؟.
والأهم من جماعه:
ماهو مصير الصلوات التى صليتموها طوال الأشهر الثمانية عشر؟.
وإذا أتيحت لكم الفرصة للتصحيح فكبف بآبائكم وإخواتكم وأبنائكم الذين قُبِروا قبل التحويل وبالتالى انعدمت لديهم أى نُهزة للتصويب؟.
هذه التساؤلات الماكرة التى طرحوها على المسلمين أثّرت فى عدد كبير منهم وفى المقدمة الأثاربة وفعلت فى قلوبهم فعل السحر وأقلقتهم, ونستدل عليه بما جاء فى الخبر: ( جاءت عشائرهم ) أى لم يأت أفراد منهم بل عشائر بالجمع. ومن بين معانى العشيرة : القبيلة. [ تقول عشيرة الرجل = قبيلته ], أى أن قبائل من ماتوا جاءت .. والمقصود هنا: أرهاطهم وأفخاذهم وبطونهم لأن بنى قيلة يشكلون قبيلة واحدة من فرعين هما الأوس والخزرج.
المهم أن الاضطراب هيمن على أهاليهم ولم يقتصر على نفر محدود, مما يشى بنجاح أولاد يعقوب فى دسائسهم وفلجهم فى مكائدهم وظفرهم فى ألاعيبهم, بل إن الغاية بلغت مداها فقد أثرت دعاوى يهود الفاسدة المفسدة إذ ارتد عدد من المسلمين عن دينهم ( وقد ارتد لذلك جماعة ). [ تفسير الجلالين ـ ص 20 ].
وإذ إن الشئ بالشئ يُذكر فلم يرد فى كتب السيرة المحمدية المعطار أو فى مصنفات أحاديثه الشريفة أنه قتل أو امر بقتل هؤلاء المرتدين مما يؤيد مقولة إن الردة ليست حدًا شرعيًا إذ حاشاه أن يسكت ولا يطبق . ا.هـ.
*******
عند ذلك بلغ المَرج أقصاه والهَرَج منتهاه والفتنة ذروتها وصار حتمًا مقضيًا إجابة العشائر على شؤالها عن مصائر الذين يمموا شطر أورشليم ثم ماتوا قبل التحويل إلى كعبة قرية التقديس. [ فى ذياك الزمن المدهش انضوت جزيرة أولئك العُربان على أكثر من عشرين كعبة ولكن لم يكن إحداها بشهرة كعبة بنى سخينة فى بكة. ا. هـ. ].
ولوقف نزيف الردة التى هى طعنة نجلاء فى جسد الدولة الجديدة ولطمة مزلزلة للدين الناشئ إذ إنها فى أمس الحوجة إلى الأجناد والعسكر والغزاة والأعوان لا العكس.
وكمنهاج القرآن الذى استنه الرسول الكريم , سارع لتقديم الحل والإجابة المرضية للنبى ـ ص ـ خاصة أن السؤال لم يطرحه فرد أو نفر محدود بل عِزون ( جماعات واحدتها عِزة ) [ نظام الغريب فى اللغة ص 147 ]. أكثروا الوعوعة وأداموا اللغط وأجلبوا بالضخب وهنا طلعت كالبدر المنير آية { ...وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ...} [ البقرة 143 ], أى صلاتكم ( والأيمان ها هنا الصلاة ) . [ المختصر فى تفسير القرآن: لابن صمادح التجيبى ـ ص 17 ].
فتلاها ( ذو الخلق الكريم ) على تلك الفِئام فهدأت قلوبهم إذ تيققنوا أن ذويهم الموتى قبل التغيير لم يُبخسوا حقهم واستوفوا جزاءهم ونالوا مثوبتهم.
وانفرجت أسارير ( صاحب المقام المحمود ) حين رضوا إذ هم سواعده القوية يقهر بها مشركى الجزيرة على أن ينطقوا بالشهادتين وأعضاء الصلبة فى تأسيس دولة قريش وبنى هاشم التى طالما تمناها الأجداد المباركون.
وفى كل نازلة يؤكد الذكر الحكيم العلاقة الجدلية التى يلتحم بها مع المجتمع وأفراده وأنه لا يتخلى عنهم ولو برهة يسيرة ويلبى طلباتهم ومتطلباتهم دون إبطاء.
*******
[ 6 ]
شعائر الصفا والمروة
انتقش الإسلام كثيرًا من الفترة السابقة عليه. [ تسمى الجاهلية تنقيرًا منها وتبغيضًا فيها وهى تسمية أيديولوجية ]. فى كافة القطاعات, ففى قطاع العقيدة نادى الحنفاء أو المتحنفين بالتوحيد ونبذ الشرك.
وفى شِقْ العبادة نقل شعيرة الحج ( وتبعًا له الاعتمار أو العمرة ) بحذافيرها حذوك القُذّة بالقُذّة ما عدا التلبية فقد نقّاها ( = الإسلام ) من الإشراك مثلما سبقه المتحنفون الداعون إلى التوحيد كما أسلفنا ـ وانتقاش [ فى المعجم الوجيز: انتقش الشئ = اختاره ـ والعامة فى مصر تقول ( نقش ) فلان من فلان الفكرة أو نحوها: نسخها أو استعارها منه أ.هـ. ] الحج له دافعان حثيثان أولهما أنه أكبر موسم تجارى لانتصاب الأسواق التجارية الكبرى مثل عُكاظ ومَجَنّة وذى الحجاز على هامشه, فإلغاؤه سيصيب المكاكوة بخسارة تُكرههم فى الإسلام والعكس صحيح أى استبقاؤه يحببهم فيه ويدفعهم إلى اعتناقه.
والباعث الآخر أن الأعاريب الذين تابعوه على ديانته وشابوا على اداء مناسك الحج وعلى تعظيم الكعبة وتُشْبع هذه الطقوس وجدانهم وتريح نفوسهم وتُثلج صدورهم وتدخل السرور على قلوبهم, فمن الرجا الاجتماعى يعتبر متنفسًا لهم إذ حياتهم تَصْفُر من مثل هذا المنتدى المُفرشَح.
إذن تنتج فوائد جمة يحققها منسك الحج = تجارية / اجتماعية / نفسية / عاطفية / تاريخية ... إلخ. فلو أُلغى بالكلية لقوبل حظره بثورة عارمة أو بالأقل لَغَط وَوَعْوَعَة وصخب, فى حين أن استبقاء سيضرب عدة عصافير بحجر واحد. [ من أراد المزيد فى موضوع ما نقله الإسلام من الفترة السابقة عليه فى شتى القطاعات فننحيله إلى كتابنا ( الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية ) وقد طُبع مرتين وطالبنا البعض بثالثة ا.هـ. ].
من المؤكد أن نلفى من سوف يمارى فى هذه الحقيقة التاريخية رغم تقديمها للأدلة الموضوعية, إذ إن القراء ( أو قطاعًا وسيعًا منهم ا.هـ. ) درج على سماع آراء مباينة فى هذه النقطة بعبارات إنشائية وجمل خطابية ومقولات بلاغية سنين عددًا, فمن العسير عليه أن يهضم الأفكار التى نطرحها لأنها تضاد الهالات التى تحيط بمثل هذه المواضيع والتى رُبِىّ عليها منذ نعومة أظفاره والتى حقنته بأمصال زَبَدته بحصانة تحسبه عن تقبل العقلانية.
ومن هذا المنطلق يقب هذا المثال السادس لكيما يموضع هدفين:
أ ـ إقناع القارئ بأن تشريع الحج انبثق لإرواء ظمأ التبع والأصحاب نفسيًا واجتماعيًا وعاطفيًا بإتاحة الفرصة لهم لأداء منسك طالما ألفوه.
ب ـ تلبية رغبة بنى قيلة أعاريب قرية الحرتين خاصة بتضمين الحج شعيرة الطواف سبعة أشواط ( لاحظ الرقم سبعة ) بين الصفا والمروة لأنها أثيرة لديهم إذ دأبوا على القيام بها تعظيمًا لمعبودتهم مَنَاة.
( أخرج البخارى والترمذى وأحمد عن عائشة فى قوله عز وجل: إن الصفا والمروة من شعائر الله ـ قالت: كان رجال من الأنصار من يَهِل لمناة. ومناة صنم بين مكة والمدينة, قالوا: يابنى الله إنا كنا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة فهل علينا من حرج أن نطوف بها فأنزل الله عز وجل .... الآية ). [ ( المقبول ) للأزهرى ص 85, 86 . ووصفه المصنف بأن إسناد صحيح. خرّج هذا الحديث البخارى فى صحيحه والترمذى فى سننه وقال عنه إنه حسن صحيح وكذا أحمد فى مسنده ].
وجاء فى الـ ( لباب ): ( أخرج البخارى عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما, فأنزل الآية ). [ لباب النقول: للسيوطى ـ ص 20 / الةاحدى فى ( أسباب النزول ) ص 28 ].
هذه رواية أخرى للبخارى, وأنس الذى ورد اسمه فى الحديث هو أنس بن مالك أحد مشاهير الصحابة وهو خادم ( ذى الحهاد ) وفضلاً عن ذلك فهو أثربى ممن كانوا يهلون لمناة.
*******
هذا ما ثبت فى كتب ( أسباب النزول ) ثم نثنى بمؤلفات ( أحكام القرآن والتفسير ).
أورد ابن كثير فى تفسيره الحديث الذى خرّجه البخارى فى صحيحه والذى فيه سأل عاصم بن سلمان أنس بن مالك عن الصفا والمروة الذى نسخناه آنفًا. [ ( التيسير خلاصة ابن كثير ) ص 42 ]. وأورد القرطبى ( ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة فى القرآن قالوا: يا رسول الله: كنا نطوف بالصفا والمروة والله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا فهل علينا حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل .. الآية ). [ ( الجامع لأحكام القرآن / تفسير القرطبى ) للقرطبى ـ المجلد الأول ـ ص 559, 600 ].
هذا خبر بالغ الثمانة, غالى القيمة لأنه صريح النص والدلالة معًا على أن الطواف بالصفا والمروة لم يُذكر فى القرآن فى بدىّ الأمر إنما ورد بعد أن سأل اليثاربة بنو قيلة الذين أدمنوا الإهلال لمناة ثم الطواف بهما ( الموقر ) هل ثمة حرج عليهم أن يفعلوا ؟ فأشرقت آية كريمة به.
إن ما يدل على أن الطواف بين الصفا والمروة فى أول الأمر لم يُشكل ضفيرة فى نسيج الحج أن الآيات التى تناولته فى القرآن العظيم, وهى { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {196} الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ {197} لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ {198} ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {199} فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ {200} } [ البقرة: 196 ـ 200 ]. لم تشمله مع أنها ذكرت أمورًا أخرى أخفض منه رتبة وأدنى منه درجة وأنحف منه منزلة مثل ما يفعله المريض أو من به أذى فى رأسه وكذا الرَفَث والجدال فبه ( = الحج ) وابتغاء التجارة إبانه ثم ذكر الله كالآباء أو أشد.
أما ما ورد فى الآية 97 من سورة آل عمران: { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قهو فرض الحج على الناس ( = المسلمين ) المستطيعين وفى سورة الحج: 27ـ 29 { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ {28} ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق {29} } وهى أيضًا مدينة حديث عن الآذان بالحج فى الناس وكيف أنهم سيأتون من كل فج عميق ورجالاً وراكبين ليشهدوا منافع لهم وليقضوا تَفَثَهم ( ما يصيبهم بسبب ترك الأدهان والغسل والحَلق ) وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالكعبة.
وليس فى إحدى السورتين الكريمتين أى ذكر للطواف ( بين الصفا والمروة ) مع أنه نُصّ بكلتيهما
على أمور ( طبعًا بخلاف الطواف حول البيت العتيق ) هى بكل تأكيد أقل أهمية منه مثل شهود المنافع وقضاء التَفَث والوفاء بالنذور. إلخ. فلو أن الطواف المذكور من الشعائر منذ البداية لما أغفلته آيتا سورتى آل عمران والحج فى حين تكلمتا عما ذكرنا.
والسورة الثانية والعشرون تحمل اسم ( سورة الحج ) [ المستشرق الفرنسى ريجيه بلاشير يذهب إلى أنها التاسعة بعد المائة من رجا ترتيب النزول ـ ا.هـ. ]. بيد أنها صَفُرت ـ أى خلت ـ من ذكر الطواف بين الصفا والمروة ونحن نقدم جِماعه على أنه قرينة على خَوَاء الحج فى المبتدأ من شعيرة ذلك الطواف وقلنا قرينة فحسب لا دليلاً أو حجة لأن آيتى سورتى آل عمران والحج أغفلتا أيضًا ركنًا ركينًا فى الحج هو الوقوف بعرفة.
ويكفى أن مالكًا والشافعى وأحمد بن حنبل ذهبوا إلى أنه ( = الطواف بين الصفا والمروة ) ركن من أركان الحج وساووه بالوقوف بعرفات, وهناك حديث محمدى شريف ( الحج عرفة ) أما الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان فقد ذهب هو وتلاميذه إلى أنه واجب يُجْبَر بالدم.
ولم يقل أحد من الأئمة أو الفقهاء لا من السلف أو الخلف إن ابتغاء الفضل ( = التجارة ) واجتناب الجدال فيه ركن أو حتى واجب.
فكيف تأتى الآيات الكريمات بهذه التفصيلات أو التفريعات أو الهامشيات
ولا تنص على ركن ( فى مذاهب الثلاثة ) وواجب عند الأحناف؟.
*******
هذه واحدة أما الأخرى فهى أن الآية العظيمة الخاصة بالطواف بين الصفا والمروة جاءت بمعزل عن الآيات التى تناولت الحج وجزئياته, فقد حملت رقم {158} من سورة البقرة { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } سبقتها آيتان عن الصبر { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} } ولحقتها آية عن اللعنة التى تصيب من يكتم ما أنزل غليه من البينات والهدى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159}}.
إذن يترسخ اليقين أن مناسك الحج فى فاتحة الشأن ليس من بينها هذا الطواف والمنطقى أن له علة حزبية وبالتنقير والتنقيب عنها ألفيناها:
( أخرج الفاكهى وإسماعيل القاضى فى الأحكام عن الشعبى قال:
كان صنم بالصفا يدعى ( أساف ) ووثن بالمروة يدعى ( ناثلة ) فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما فلما جاء الإسلام رُمِى بهما. وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية فأمسكوا عن السعى بينهما . [ ( نهاية السول فيما استدرك عى الواحدى والسيوطى من أسباب النزول ) للشيخ أبى عمر نادى الأزهرى ص 83 ـ الطبعة الأولى ـ 1415هـ / 1995م ـ دار الصحابة ـ طنطا ].
إذن الإعراض عن السعى بين الصفا والمروة فى بداية الإسلام عِلّته أن بنى سخينة فى الفترة السابقة على ظهوره دأبوا على الطواف بينهما لوجود صنم على كل منهما, أى أنه شعيرة ( جاهلية! ) فتحرّج المسلمون من القيام به فى البداية وهذا ثابت من عبارات الخبر: لما جاء الإسلام رُمى بهما .. فأمسكوا عن السعى بينهما.
بيد أن هذا الخبر فى حاجة إلى توثيق أكثر كيما يغدو السبب الذى نطرحه أكيدًا لا مجرد حَدْس.
( قال عمرو بن الحسين: سألت ابن عمر عن هذه الآية فقال: انطلق إلى ابن عباس فسأله .. فسألته فقال: كان على الصفا صنم فى صورة رجل يقال له أساف وعلى المروة صنم على صورة إمرأة تدعى نائلة, زعم أهل الكتاب أنهما زنيا فى الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين ووضعهما على الصفا والمروة ليُعتبر بهما, فلما طال المدى عُبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكُسرت الأصنام كره المسلمون الطواف لأجل الصنمين ) [ ( أسباب النزول ) للواحدى ص 28 ].
إذن بعد ظهور الإسلام كره الحجاج المسلمون خاصة من بنى سخينة الطواف بينهما
ومن ثم صَفُرت الآيات التى شرَّعت الحج صُفُورًا تامًا منه.
أما السيوطى فى الـ ( لباب ) فقد ذكر أن الحاكم ( أخرج عن ابن عباس قال: كانت الشياطين فى الجاهلية تطوف الليل أجمع بين الصفا والمروة وكان بينهما أصنام فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله لانطوف بين الصفا والمروة فإنه شئ كنا نصنعه فى الجاهلية ). [ لباب النقول للسيوطى ص 20 ].
صاحب المستدرك الحاكم النيسابورى يمدنا بسبب آخر لعدول من أسلم الطواف بينهما, هو أن الشياطين ملأت الطريق بين الجبلين ( الصفا والمروة ) بأصنامها ودأبت على الطواف طول الليل فلما أسلم المكاكوة وبنو سخينة ـ وهم الذين يعلمون ذلك ـ أنفوا من الطواف ومن ثم غُرّب عن منظومة الحج فى أول الأمر.
ولم أستطع أن أعرف كيف رأى مشركو مدينة التقديس العربية الشياطين, وعلموا بتطوافها وهى كائنات لا مرئية وغير منظورة. وهل أصنامها هى ذات أصنام بنى آدم؟, وهل هى مستترة مثلهم؟.
ولو أنها كذلك فكيف تَسَنّى لهم مشاهدتها؟.
وهل الشياطين من عبدة الأصنام أم أن دورهم اقتصر على إغواء الأناس على التعبد لها؟.
فنحن نعلم أن عبادة الشيطان عتيقة وما زالت مستمرة, وأورد صاحب المقبول إضافة طريفة هى أن الشياطين تعزف طوال الليل بين الصفا والمروة ( أخرج الحاكم وابن أبى داود عن ابن عباس قال: كانت الشياطين فى الجاهلية تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة وكانت فيهما آلهة لهم أصنام فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة فإنه شئ كنا نصنعه فى الجاهلية ). [ المقبول للأزهرى ص 88 , ووصف بأنه صحيح الإسناد وأن الذهبى صححه وأقره إذ رواه الحاكم وأن ابن أبى داود السجسستانى أخرجه فى المصاحف. وأن الطبرى رواه فى التفسير والواحدى فى الأسباب. وبذا غدا عريًا من المطاعن. ].
إنما الذى لم يوضحه الخبر كيفية استماع المكاكوة للموسيقى التى طفق الفنانون الشياطين عزفها بالليل ولم يصف لنا أجميلة هى أم قبيحة, وزَبَدنا ( = الخبر ) بمعلومة هى أن الأصنام هى آلهة الشياطين بيد أنه لم يشرح لنا طريقة تعرف الأناسى عليها هل بالرؤية أم باللمس؟.
*******
بعدها نصل إلى محطة كتب التفسير ليزداد الحديث رسوخًا:
(أ) ( .. كان على الصفا إساف وعلى والمروة نائلة وهما صنمان يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا فَمُسِخا حجرين وُضِعا ليُعتبر بهما فلما طالت المدة عُبِدا من دون الله, فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما, فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية ) [ الكشاف للزمخشرى ـ المجلد الأول ـ ص 325 ].
(ب) ( .. لأن بعض الصحابة امتنعوا عن السعى بينهما لأنه كان فى الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف وعلى المروة صنم يقال له نائلة فخافوا أن يكون السعى بينهما تعظيمًا للصنمين ). [ التسهيل لابن جزئ الكلبى ـ الجزء الأول ـ ص 65 ].
(ت) ( أجاب الشافعى بمل يروى أنه كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة وهما صنمان كانا رجلاً وامرأة زنيا فى الكعبة فمُسخا حجرين فوُضعا عليهما ليُعتبر بهما فلما طالت المدة عُبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما فلما جاء الإسلام و كُسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية أن يكون عليهم جناح غى ذلك ). [ غرائب القرآن ورغائب الفرقان ) تأليف نظام الدين الحسين بن محمد القمىّ النيسابورى ـ المتوفى سنة 728هـ ـ تحقيق وتعليق حمزة النشرتى وآخرين ـ المجلد الثانى ـ ص 172 ـ الطبعة الأولى د.ت.ن. ودون ناشر ـ القاهرة ].
(ث) ومن التفاسير المعاصرة اخترنا ( تفسير القرآن الكريم ) لعبدالله شحاته: ( فى رواية النسائى عن زيد بن حارثة قال: كان علىا الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما أساف ونائلة وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما ). [ ( تفسير القرآن الكريم ) لمحمد عبد الله شحاته ـ الجزء الثانى ـ ص 228. ثم أردفه برواية للترمذى: أنهما كانا من شعائر الجاهلية ].
وهكذا تضافرت كتب ( الأسباب 9) قديمة وحديثة ومصنفات ( التفسير ) من السلف والخلف على البرهنة على صحة الحديث الذى أتحفنا بعلة تخلف الصحابة المكيين وعلى الأخص من بنى سخينة عن السعى بين جبلى الصفا والمروة, ومن ثم فإن ( الشفاء / الموعظة ) عندما تفضل وله المنة والشكر فشرّع فرض الحج حجب تلك الشعيرة وانبثقت آياته الكريمة خالية منها لآنه ـ أى الذكر الحكيم ـ على صلة جميمة بما يموج فى المجتمع من نوازع ورغبات, وهذه المرة هى طِلبة الصحاب المكاكوة أول من آمن بدعوة ( الملاحمى / الملاذ ) وضحّى بالغالى والنفيس فى جَبر خاطر بصدور شِرعة الحج وهى صِفُر من الطوف بين الجبلين ولا ندرى كم هى المدة التى استمر تبع ( صاحب الزوجات الطاهرات ) يؤدون الحج دون السعى أو الطواف بين الصفا والمروة.
ولكن الذى ندريه على وجه التحقيق أن عدم وجود ترتيب تاريخى لبزوغ السور والآيات هو السبب فى عدم العلم بالمدة.
*******
ولكن طائفة أخرى لم يُرضها حذف السعى أو الطواف المذكور لأنها أدمنت هذا الطقس أو المنسك وآذها أن تخلو آيات ( البلاغ / المبين ) منه ففزعت إلى ( أول من تنشق عن الأرض ) وسألته: هل من حرج إذا طافت بينهما مثل ما أنها دأبت عليه قبل الإسلام؟ وفد اوردنا الحديث فيما سلف ولا موجب لتكراره. أما هذه الطائفة فهم الأعاريب الأثاربة بنو قيلة الذين آووا ونصروا وبسيوفهم الحداد تنتشر الديانة وتتأسس الدولة السخينية أو القرشية ولهم مكان مُفَرشح ومقام محمود ودرجة رفيعة. وليس من بعد النظر ولا من الحنكة أو الحصافة تجاهل مرادهم ونبذ مرغوبهم وتغريب مطلوبهم.
ومن هذا المنطلق هلّت الآية الكريمة تبشّر اليثاربة العَرَبة بالإستجابة لمطلبهم وانبأهم أنه لا حرج عليهم فى التطواف بين جبلى الصفا والمروة كما دأبوا على فعله قبل أن يعتنقوا الديانة الإسلامية. فانفرجت أساريرهم وأرفل الحبور إلى حنايا صدورهم ـ أما ( الحبيب المصطفى ) فلا مشاحة أنه رضى بذلك فهم ( = أبناء الحرتين ) فلهم عنده منزلة أثيرة, إذ تخبرنا كتب سيرته ـ التى هى كما المسك الفواح ـ أنه ود فى غحدى المناسبات أكد أنه ود لأن يصير واحدًا منهم ثم نفحهم دعوات طيبة وقد أثر هذا الموقف الشعورى البالغ النبالة فى نفوسهم أعمق تأثير ـ وهم بطبعهم عاطفيون ـ فانخرطوا فى البكاء حتى أخْضلّت لحاهم.
ومن جانب آخر وهو لايقل أهمية إذ يثبت الذكر الحكيم دائمًا أن باصرته لا تغفل عن ذياك المجتمع وأنه على الدوام تَلْبِكُه به عروة وثقى.
*******
Monday, May 14, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment