Thursday, May 24, 2007

الثائر الأحمر - على أحمد باكثير(2)ا

السفر الرابع

(والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم سواء أفبنعمة الله يجحدون).
(ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم).
(قرآن كريم)
1


رجع عيسى بن ميمون الخواص إلى مسكنه بحي العمال في الكوفة، فوجد زوجته وابنتها تنتظرانه على الباب، فما كاد يقع بصرهما على القفف والزنابيل والمراوح التي يحملها على رأسه وفوق كتفيه وتحت إبطيه حتى انبرتا تعدانها وهو يقول لهما: (دعاني أضع هذا الحمل عني أولاً) وهما لا تباليان بما يقول حتى قالت الفتاة: (إنه يا أماه لم يبع إلا قفة واحدة).
- قفة واحدة ولا شيء من المراوح؟
- لا شيء. ها هي ذي كما سرح بها كاملة العدد.
ولم يقل الرجل شيئاً بل قصد إلى ركن في الحجرة الصغيرة التي يسكنونها وهي منزلهم في دار مشتركة. يقطنها معهم أسرتان أخريان من العمال –فوضع عنه حمله ثم دلف إلى فراش بال موضوع في الركن المقابل على حصير جديد من صنع أيديهم فأماط عنه حزم الخوص الملقاة عليه ثم قعد وهو يقول: (الحمد لله على كل حال) ودنت منه زوجته فقالت: (بكم بعت القفة يا عيسى؟)
فأجابها متأففاً: (أما تعرفين ثمنها يا وردة؟ بكم إلا بدرهمين؟).
- لكنك بعت واحدة منها أول من أمس بثلاثة دراهم.
- ذاك امرؤ مغفل وليس يشتري مني كل يوم.
- والله إنه لرجل طيب.
- أجل هو طيب عندك ومغفل عند الناس.
- ويلك يا عيسى، تدعو الطيبين مغفلين!
فقال الرجل وهو بين التضاحك والتضجر: (لم تعجبين من هذا وأنت منهم؟ تأبين إلا أن نعيش هنا في الشقاء والمسغبة وعند أخيك النعمة والملك الكبير).
وكانت الفتاة قد خرجت من الغرفة قبل ذلك لتعد غداءهم في المطبخ، فلما عادت بالخوان معها سمعت زوج أمها يقول ما قال فذهبت تقول: (نعم يا أماه، دعينا نرحل إلى خالي حمدان فإني مشتاقة إلى رؤيته. ماذا يحملنا على البقاء هنا وغيرنا من الناس يرحلون إليه؟).
فنظرت الأم إليها وقالت: (اخفضي صوتك يا مهجورة لا يسمعك جيراننا تذكرين حمدان) فقالت الفتاة وهي تفرش الخوان أمامهما على الحصير: (ما لنا ومالهم؟ إنهم جميعاً ليذكرون حمدان ويتعزمون على الرحيل إلى بلاده).
فقالت الأم: (أجل ولكن لا ينبغي أن يعلم أحد أنه خالك فيقبض السلطان علينا). فبدرها الرجل قائلاً: (والله إن بقينا هنا طويلاً بعد ليعلمن السلطان بأمرنا. إن لكرامة بن مر لعيوناً في كل مكان) ثم التفت إلى الفتاة وقال لها: (هاتي ما عندك يا مهجورة فإني والله لهالك جوعاً).
فانطلقت الفتاة ثم عادت تحمل طبقاً من العدس وضغثاً من الكرات فوضعت ذلك على الخوان، وعمدت الأم إلى زنبيل في الحجرة فأخرجت منه ثلاثة أرغفة من الذرة ثم جلس الثلاثة يأكلون.
قال عيسى: (حرام عليك يا وردة أن تطعمينا هذا، وهناك في (مهيما باذ) رقاق البر وألوان الفاكهة واللحم الوفير).
فقالت مهجورة: (والحلل والحلي والقصر الكبير).
وانتظر الخواص أن تقول زوجته شيئاً ولكنها ظلت ساهمة وهي تمضغ عوداً من الكراث في يدها بقلة اهتمام كأنما تفعل ذلك بدون وعي منها، فلما رآها لا ترجع قولاً قال لها: (إن كان حمدان هذا أخاك حقاً فلا والله لا أدري ماذا يمنعك أن نلحق به ونحن أهله وقد لحق به الأباعد عنه؟).
فظهر الغضب عند ذاك في وجهها، وكانت قد غمست لقمة من الخبز في طبق العدس لتأكلها، فألقتها بين يديها، واضطم مبسمها الأرجواني وجعل يتمور كأنه طعنة فائرة! وعقد العبوس حاجبيها فاقترتا فوق عينين حوراوين قد قفت أهدابهما الطويلة السود فاتسعت حدقتهما تلتمعان، فكان منظرها جميلاً رائعاً. ثم اختلجت شفتاها فسمعها جليساها تقول: (أتماري في صدق قولي يا ابن ميمون؟ أتحسبني ادعيت كذباً أنني أخت حمدان؟ يا ليتني ما بحت بهذا السر لك).
فجعل الرجل يعتذر إليها ويقول لها: (إنني والله ما قصدت تكذيبك يا وردة، فلو كان عندي أدنى شك في صدق قولك لما رأيت مني هذا الإلحاح بالسفر إلى أخيك)
- ارحل إليه وحدك إن شئت، أما أنا ومهجورة فسنبقى هنا.
فقالت مهجورة: لكني أريد أن أراه يا أماه.
- فاتبعيه إن شئت فسأبقى هنا وحدي.
- كلا يا أماه إنني لا أقدر على فراقك.
فقال عيسى: (علام هذا التشبث بالبقاء هنا يا وردة؟).
- قد قلت لك مراراً إنني لا أصير إلى حمدان بعد ما كفر وبدل.
- قلت لك إن هذا كذب كله وبهتان. إنما أعداؤه هم الذين أشاعوا عنه هذه الأقاويل ليصدوا الناس عن اللحاق به.
- أليس هو على مذهب الشيخ الأهوازي ذلك الدجال المارق؟
- ماذا في مذهب الشيخ الأهوازي من بأس؟ ما دعا الناس إلا إلى الزهد والصلاة، وإنما خاف الهيصم وأمثاله منه على أموالهم وأملاكهم، لأنه أعلن حقوق الفقراء والفلاحين فيها، فحرضوا السلطان عليه.
فقالت مهجورة: (نعم يا أماه، لا يعقل أن يكفر خالي حمدان وإنما يحسدونه على ما آتاه الله من الجاه والملك).
سكتت الأم قليلاً ثم قالت: (حسبه أنه خارج على الخليفة وسيأتي يوم مصرعه كما صرع قبله صاحب الزنج وغيره من الخارجين على الدولة! لا أريد أن أشهد هذا المصير).
- كلا يا وردة فإن أخاك قد بلغ من القوة والمنعة ما يجعله يخشى على الخليفة منه ولا يخشى من الخليفة عليه. ولولا ذلك لما تأخر المعتضد عن محاربته إلى اليوم.
- إنما يمهله المعتضد ولا يهمله.
- بل هو يزداد كل يوم قوة. وجموع الناس يهاجرون إليه من كل مكان لينعموا بالعدل في مملكته حيث الرزق مشاع بين أهلها فلا غني ولا فقير. وإن ملكه ليتسع يوماً فيوماً حتى يشمل بلاد الدولة أجمع.
- من أين علمت هذا؟
- هكذا الناس جميعاً يتحدثون عنه.
- فدعنا باقين هنا حتى يمتد إلينا ملكه!
فتنهد الرجل وقال: (إلى متى نصبر على هذا البؤس والشقاء،؟ أيرضيك يا وردة أن تظل مهجورة ابنتنا في هذه الأسمال ولها خال ملك يقدر أن يكسوها حلل الدمقس والحرير؟ آه! من ذا يصدق أن صهري رجل له ملك وسلطان ثم تأبى أخته التي عندي إلا أن تبقيني خواصاً أقنع بالدرهمين والثلاثة؟)
- إنك تزوجتني أرملة فقيرة تعمل خادمة في منزل أم الحارث القابلة، وما تزوجتني أخت ملك أو ذي جاه، وقد عشنا على هذه الحال ثلاث عشرة سنة في عافية وستر، فعلام نجحد نعم الله ونطمع في شيء قد يمسنا من ورائه الضر والهلكة؟.
- يا ليت أم الحارث تعيش اليوم. إذاً لما أقرتك على البقاء هنا في هذه المتربة وعند أخيك الخير والنعمة.
- رحم الله أم الحارث فقد كانت صالحة ورعة، وقد وجدتني شريدة بائسة فآوتني عندها وسترتني لوجه الله لا طمعاً في شيء مني. وقد علمتني الفرائض والقرآن فما إخالها لو عاشت اليوم تنصحني أن أصير إلى أخ لي خارج على إمام المسلمين لأجد عنده حظاً من النعيم الزائل.
ورأى عيسى بن ميمون ألا سبيل إلى إقناع زوجته برأيه في ذلك اليوم، ولكنه لم ييأس من بلوغ غرضه في المستقبل، إذا ما استمر يعالجها الفينة بعد الفينة بحيلة ولطف، وله من تأييد ربيبته المتحمسة لرأيه عون كبير.
2


في عشية ذلك اليوم ركب الهيصم في موكب من حاشيته وأتباعه إلى دار الحكم بالكوفة ليقابل واليها كرامة بن مر في أمر هام على موعد ضربه لزيارته. وكانت دار الحكم في تلك الأيام لا تهدأ ليلاً ولا نهار، فهي تعج بالداخلين والخارجين من الرسل وقواد الجيش ورجال الشرطة  وعمال النواحي ووفود الناس من أهل الكوفة وسائر أنحاء المنطقة وغيرها.
وكان الناس لا حديث لهم إلا حمدان قرمط ودار هجرته (مهيما باذ) وما انضم إليها من القرى والدساكر، وعن ازدياد قوته يوماً فيوماً, وانتشار مذهبه في البلاد. وتسلل أفواج المهاجرين إليه من الفلاحين والعمال والصناع وغيرهم، وعن النظام العجيب الذي أجراه حمدان في مملكته، حيث لا يستأثر أحد دون أحد بأرض أو مال، فلا غني بينهم ولا فقير.
وكانوا يتساءلون عما عسى أن يقوم به المعتضد لإخضاع هذا الخارج الخطير الشأن وللقضاء على فتنته، بين واثق بقدرته على ذلك فليس حمدان بأقوى من صاحب الزنج قبله، ومشفق يخشى أن يعجزه ذلك لتراخيه عن النهوض لحربه من أول ما ظهر حمدان  على البطائح حتى استفحل أمره واستشرى خطره. بيد أنهم كانوا جميعاً يتعجبون من سكوت المعتضد إلى ذلك العهد وعدم قيامه بحركة حاسمة. وعهدهم به أنه سريع النهضة حسام للأمور، وقليل منهم من يعلم أن لهذا التراخي من الخليفة صلة بحركة أبي البقاء التي تدور في العاصمة ويؤيدها المعتضد تأييداً تاماً، وأقل من هؤلاء من يعلم أن هذه الحركة الإصلاحية التي اعتزم المعتضد تنفيذها في البلاد إن هي إلا طلائع تدبيره للقضاء على حمدان.
وكانوا يعلمون أن الهيصم وطبقة الأغنياء عامة من أشد الناس تخوفاً من خطر حمدان، وأكثرهم اهتماماً بأمر القضاء عليه. فلما رأوا موكبه تلك العشية لمقابلة الوالي في دار الحكم توقعوا حدثاً هاماً أن يكون.
ولكن الهيصم انصرف من عند الوالي مغموماً لما جبهه به الوالي من تصميم المعتضد على تنفيذ منهاج أبي البقاء وانصرافه بذلك عن مناجزة القرامطة، فأدرك ألا مناص من حلول الكارثة بأمواله، أما من هذا السبيل أو ذاك.
وكان قد اتصل به سراً قبل ذلك بأيام إسرائيل بن إسحاق، وتلكم معه في مشروع أبي البقاء، ووجوب مقاومته وإحباطه، وهو الذي أشار عليه بمقابلة الوالي للإلحاح عليه بحرب حمدان، وأفهمه أن القضاء على حمدان هو السبيل الوحيد لحبوط مشروع أبي البقاء.
فما خرج من عند الوالي حتى دعا إسرائيل فقابله سراً في قصره.
- ألم أقل لك إن المعتضد وأبا البقاء يأتمران بأرباب الأموال والأملاك في البلاد للاستيلاء على ما يملكون باسم الدين، فهل تسكتون على هذا؟
- فماذا في وسعنا أن نصنع؟
- على أغنياء الدولة أن يتحدوا جميعاً ويعملوا على إحباط هذا المشروع بكل سبيل.
- كيف السبيل إلى جمع كلمتهم وهم متفرقون في البلاد؟
فأراه إسرائيل رسائل وردت إليه من بعض أغنياء بغداد وواسط والموصل والبصرة والأهواز وعسكر مكرم مؤيدة كلها وجوب وقوفهم صفاً واجداً دون المشروع ثم قال له: (فعليك أنت أن تسعى لجمع كلمة الأغنياء في هذه الجهة)
- هذا يسير علي ولكن ماذا نصنع بعد ذلك؟
- كل صعب يهون إذا اتحدت كلمتكم، في وسعكم حينئذ أن تستأجروا العربان لحمايتكم وحماية أملاككم، وترشوا العمال والولاة في الآفاق ليتقاعسوا عن تنفيذ النظام ويتوانوا في تطبيقه، حتى يشعر الخليفة باستحالة ذلك، فيعدل عنه ويتخلى عن سياسة أبي البقاء. وعليكم أن ترسلوا مئات الرسائل إلى الخليفة تلحون عليه فيها بالبدار لمحاربة حمدان، وتعرضون عليه ما يشاء من الأموال لتموين الجيش وتجهيز الحملة.
3


وما علم الهيصم ولا غيره حين استقبل هذا التاجر اليهودي في قصره أن رسولاً من إسرائيل كان يغذ السير إلى مهيما باذ ليقابل حمدان قرمط. وقد ارتدى زي فلاح ليصرف عنه العيون، فلا يحسبه من يراه إلا أحد الفلاحين المهاجرين. فلما وصل إلى منطقة الحدود وبصر به الخفراء هناك قبضوا عليه وأخذوا يسألونه فقال لهم: إنه فلاح مهاجر، فأنفذوا معه من ساقه إلى عامل الحدود.
ومثل بين يدي شاب في نحو الثلاثين، أبيض الوجه، تزينه جمة فاحمة تكاد تضرب في كتفيه، وعيناه سوداوان واسعتان لا تطرفان إلا قليلاً.
- من أين جئت يا مهاجر؟
- من الكوفة.
- ماذا جاء بك عندنا؟
- الفرار من الظلم.
فنظر العامل إلى وجهه ملياً ثم قال له: "حذار يا هذا أن تقول إلا صدقاً وإلا فلا تلومن إلا نفسك".
فشعر الرسول برعدة تسري في أعضائه وقال: "أما إذا قلت لي هذا فسأصدقك".
- أفلاح أنت؟
- لا يا سيدي، أنا يهودي تاجر.
- فما حملك على ارتداء هذا الزي؟
- خشية أن يحال بيني وبين الوصول إليكم.
- ألا تعلم أن مثلك من المحبين لجمع المال لا يمكن أن يجد عندنا ما يحب؟
- بلى يا سيدي، فما للاستيطان جئت، وإنما أنا رسول إلى حمدان قرمط.
- أين الرسالة التي تحملها؟
- أمرت أن أشافهه بها وحده.
فحرك العامل رأسه وهو ينظر إليه تصويباً وتصعيداً، ثم أنفذه مع أحد رجاله إلى مهيما باذ.
4


لاحت معالم مهيما باذ عاصمة حمدان من بعيد، إذ كانت مبنية على نشز كبير من الأرض، وظهرت أبنيتها البيضاء تحيط بها السفوح الخضراء من كل جانب، فكان منظرها تحت أشعة الشمس رائعاً أخاذاً.
وكان الرسول اليهودي وخفيره القرمطي تخب بهما بغلتان فارهتان في طريق معبد يتخلل الحقول والمزارع عن يمينه وشماله، ويتعرج بينها، فلا يريان إلا ما دونهما منه، ثم يبصران طرفه الأقصى صاعداً في السفح حتى ينتهي إلى سور المدينة.
وحين دخلها الرسول أدهشه اشتداد حركة البناء في أحيائها، فلا يكاد يمر بموضع إلا رأى فيه أساساً يبنى، وجداراً يقام، وحميراً تجئ وتذهب موقرة بالمدر والجص، وجمالاً تحمل التبن والخشب.
وسار به القرمطي في دروب واسعة وضيقة، فكلما مرا بعسكري أو جلواز أومأ صاحبه له بالتحية، حتى أفضى به إلى ميدان فسيح يقوم بجانبه قصر منيف كان للهيصم من قبل، فاتخذه حمدان سكنه ودار حكمه، ومن حوله قصور أخرى دونه أنشأها حمدان لخواص رجاله وحاشيته.
فاستقبله حمدان في ديوانه بعد أن قرئ عليه كتاب عطيف النيلي عامل الحدود الذي أنفذه إليه، وقد قام من كان عنده حينما رأوا الرسول داخلاً، كأنه كان قد أمرهم بذلك ليخلو به ما خلا كهلاً ضئيل الجسم معروق الوجه بقي جالساً عن يمينه وهو يقلب أوراقاً بين يديه.
- من الذي أرسلك إلينا؟
- إسرائيل بن اسحق.
- مرحباً بك.. اقعد ثم..
فجلس الرسول على البساط أمامه، وظل هنيهة صامتاً كأنه متردد أن يقول رسالته إلا لحمدان وحده.
- هات فقل رسالتك فإنما هذا عبدان ابن عمي وليس من دونه سر.
فأخذ الرسول يشرح له ما أصاب تجار اليهود في الآفاق من اضطهاد المعتضد واستيلائه على دفاترهم وأموالهم وحبسها عنده لغير جريرة ارتكبوها إلا أنهم كانوا يشجعون حركة العدل الشامل ضد الظلم.
فتبسم حمدان قليلاً، فظن الرسول أنه سيقول شيئاً، فسكت، ولكن حمدان ما لبث أن قال له: "أتمم ما عنك".
- قد بعثني إسرائيل لأنهي إليك ولاءنا وإخلاصنا لحركتك واستعدادنا لإقراضك ما تشاء من المال لتستعين به في حرب السلطان.
- لا حاجة بنا إلى القرض فعندنا مال كثير.
- لا غنى لكم عن المزيد إذا حاربتم السلطان.
- ولكننا لا نريد محاربة السلطان إلا إذا بدأنا بالعدوان، وحسبنا أن نؤمن حدود بلادنا، ونطبق فيها العدل الشامل فهو وحده سلاحنا، وسنضم البلاد إلينا بلدة بلدة، وقرية قرية، حتى تصبح الدولة كلها تحت حكمنا.
- فأين أنتم من حركة أبي البقاء فإن المعتضد يؤيدها ليهدم بها نظامكم!.
- تلك خطة يصعب تنفيذها، فلن يخضع لها أغنياء بغداد ومن بينهم الرؤساء والوزراء والأمراء.
- بل سيخضعهم الخليفة، فقد عزل وزراءه السابقين وأحل محلهم رجالاً من أوساط الناس ممن لا يملكون ضياعاً ولا مالاً.
- فسيملك هؤلاء الضياع والمال بعد قليل.
- كلا! فأبو البقاء صارم في أمره، وله ألوف من الأتباع من كل صنف يتبعون إشارته ولا يقدر حتى الخليفة على مخالفته فإذا لم تعجلوا أنتم بحرب السلطان نفذ أمر أبي البقاء وساد نظامه.
- إنّا أصحاب مذهب العدل الشامل ليسرنا أن يطبق نظام أبي البقاء في البلاد ما كان فيه إنصاف للمظلومين وحد من طغيان المال، فمرحباً بمعاونة الخليفة لنا في ذلك.
- لكن هذا سيؤدي إلى هدم نظامكم.
- كلا بل سيكون ذلك تمهيداً لشيوع نظامنا، إن هؤلاء المظلومين حين يذوقون قليلاً من لذة العدل لن يقنعوا بالقليل ولن يهدأ لهم بال حتى يفوزوا بالعدل كله.
- إني لا أجادلك في رأيك هذا، ولكن بغداد اليوم في اضطراب من جراء الصراع بين أغنيائها وبين أبي البقاء، فلا تضيعوا هذه الفرصة.
- لكنا نرى أن حركة أبي البقاء هذه هي التي مكنتنا من التفرغ لشئوننا وتنظيم مملكتنا على أساس المذهب، ولولاها لانقض المعتضد علينا من البداية فما كنا إذا ذاك بأقوى من الزنج.
وانتهت المقابلة دون أن يتزعزع حمدان عن رأيه في الكف عن محاربة السلطان، ولكنه رضي أن يحالف إسرائيل بن إسحاق ووكلاءه في الآفاق، وأن يستعين دعاة القرامطة بهم، وتعهد في مقابل ذلك بأن يرد لتجار اليهود إذا سقطت البلاد في يده أموالهم التي حبسها المعتضد.
وكان عبدان ساكناً طوال الحوار الذي دار بين حمدان والرسول اليهودي، فلما خرج الرسول من عندهما قال لابن عمه: "إن فيما قال اليهودي لكثيراً من الحق، فلو راجعت رأيك فيه يا حمدان؟".
فأجابه حمدان: "ويحك يا عبدان! أتظن هؤلاء اليهود يريدون لنا خيراً؟ إنهم إنما يبتغون الفتنة ليغنموا من أموالنا، وهل يقوم سلطان المال إلا على أكتافهم؟".
- هذا حق ولكنهم اليوم موتورون من السلطان، ومن مصلحتهم أن نقضي عليهم.
- فإنهم قد خانوا السلطان قبل أن يفعل بهم ما فعل، وإنه ليس من مصلحتهم أن يبطل سلطان المال وهو معبودهم، فإنما أرادوا أن يضرب بعضنا بعضاً وهم ينظرون ويغنمون، إنهم لا يعيشون إلا حيث يعيش الهيصم وابن الحطيم وأمثالهما.
- ولكن أبا البقاء سيقضي علينا يا حمدان.
- أبحد السيف يا عبدان؟
- لا بل بذاك النظام الذي يدعو إليه.
- فما أنصفنا الرجل إذن أن دعانا إلى قراع النظام بالنظام فشهرنا عليه السيف، والله لا أفعل هذا ما حييت.
5


أدرك إسرائيل بن إسحاق لما رجع رسوله إليه ألا مطمع في حمل حمدان على إعلان الحرب، فاغتنم لذلك، وضاعف اغتمامه ما بلغه عن مقاومة الأغنياء في بغداد لمشروع أبي البقاء أنها توشك أن تنهار، فولى وجهه، لتحقيق ما يصبو إليه من دفع حمدان إلى حرب السلطان، شطر سلمية.
وكانت مهيما باذ تدين لسلمية بالخضوع والولاء وتنظر إليها نظر التابع للمتبوع لأنها مركز الدعوة، وكعبة المذهب، ومثابة الإمام المعصوم، وكان الحسين بن أحمد القداحي نائب الإمام المعصوم بها قد منى نفسه لما رأى نجاح حمدان، بالمجيء إلى مهيما باذ ليحل محله، وما أخره عن عزمه هذا إلا خوفه أن يظهر المعتضد عليها، فآثر أن يتريث حتى يرى ما تسفر الأحداث عنه، فلما جاءته رسائل إسرائيل بن إسحاق ورسله لم تزد قلبه على حمدان وغراً، ولكنها قطعت تردده في وجوب البدء في العمل.
6


جيء إلى عطيف النيلي عامل الحدود في غد ذلك اليوم الذي أنفذ فيه الرسول اليهودي إلى حمدان برجل مهاجر، ومعه زوجته وابنته، فلما مثلوا بين يديه راعه جمال المرأة وهي في أسمالها البالية، فافتتن بها حتى شغله الرنو إليها عن الأخذ في سؤالهم كعادته إلا بعد لأي.
ثم سأل الرجل سؤالاً تلو السؤال، دون أن يهتم بالإصغاء إلى جوابه حتى يتمه، وهو في كل ذلك موكل النظرة بالزوجة الحسناء يعجمها علواً وسفلاً، وهي تتقي نظرته بضم ثيابها ورفع جيب قميصها إلى أعلى لستر ما ظهر من بياض نحرها اللامع، وبالدنو من زوجها بالاستتار به، وكلما رفعت بصرها عن الأرض وجدت العينين السوداوين ترنوان إليها تحت الجمة الفاحمة، فتعود إلى الإغضاء.
وقد بدأت الريبة تدب في قلب الرجل وابنته الجارية من سلوك العامل نحو الأم الحسناء، وهمت الأم أن تثور، لولا أن العامل ما لبث أن بش للرجل وقال: "أهلاً بك وبمن معك، أنتم اليوم ضيفي، وغداً سأنزلكم الجهة التي تختارونها من بلادنا" وقام من مجلسه فخرج بهم من ديوانه وأنزلهم داخل داره.
وما راعهم عشية ذلك اليوم إلا أن جاء العامل إلى حجرتهم في الدار، وقد اغتسل وتطيب، فجلس قريباً من المرأة وأخذ يغازلها أمام زوجها ويقول لها: "والله وسر الإمام المعصوم ما في مهيما باذ غادة أجمل منك".
فثارت المرأة وقالت له: "إليك عني! ماذا تريد يا وقح؟
فقال لها متلطفاً: "ألا تعرفين ما أريد؟ أن أضع صدري على صدرك؟"
وقد بهت الرجل فلم يدر ما يصنع، وما كاد يصدق ما ترى عيناه لفرط دهشه.
أما الفتاة فقد هبت تحامي عن أمها وتذود يد العامل عنها كلما مدها إلى ناحية من جسمها فيقول لها: "ما شأنك أنت يا فتاتي؟ اذهبي إلى الحجرة الثانية إن شئت" فتزجره وتنهره وتقول له: "لو يعلم خالي ما تفعل لقطع رأسك!"
فيتضاحك عطيف ويقول: "أين خالك يا جارية، لم تركتموه في دار الظلم؟".
- إنه في مهيما باذ.
- في مهيما باذ! إذن لا خوف منه، إننا هنا لا نقطع رؤوس الناس لمثل هذا، فمن هو خالك يا جارية لعلي أعرفه؟
فحاولت الأم أن تمنعها من الكلام، ولكن الفتاة مالت عنها وصاحت بأعلى صوتها "إنه حمدان!".
- حمدان من؟
وهب الرجل عند ذاك، كأنما أفاق من غشية لحقته، ودنا من العامل فقال له وهو يرتعد من الغضب: "حمدان قرمط سيدك أما تعرفه؟".
فانفجر عطيف ضاحكاً ثم قال: "ماذا تقول يا هذا أجننت!".
- بل أنت المجنون، وغداً والله ليطيرن حمدان جنونك!
- قد أحتمل من هذه الحسناء، ولكني لا أحتمل منك، فاملك غضبك.
- كيف وأنت تغازل زوجتي أمامي!؟
- أيسرك أن أغازلها من ورائك؟ فسأفعل إذن ما تحب.
- كلا لا تغازلها البتة.
- فهل أغازلك أنت؟ أم أغازل هذه الفتاة؟ إنها والله لتسر العين والقلب ولكنها بعد بحاجة إلى ربيع واحد ينضجها، هلمي يا فتاتي أريني ما هذا.
قال هذا وهو يمد يده نحو صدر الفتاة، فردتها بشدة وصاحت: "أين أنت يا خالي حمدان لترى ما يفعل بأهلك؟" وانفجرت باكية فجذبتها أمها وجمعتها إلى صدرها تواسيها وتتقي بها شر هذا الفاسق المغير، وهي تقول: "هوني عليك يا مهجورة غداً يرى هذا الفاسق كيف يؤدبه خالك حمدان، كل هذا منك يا عيسى! قد قلت لك إن هؤلاء القوم لا خلاق لهم ولا دين".
فأجابها زوجها: "محال أن يرضى بهذا حمدان أخوك؟".
فقال عطيف وقد كفكف قليلاً من عبثه وجنونه: "عجباً لكم أتريدون أن توهموني بأن الرئيس حمدان قريبكم حقاً؟".
فقالت وردة: "بل هو قريبنا حقاً وصدقاً، هو أخي وأنا أخته".
- إن كنت تعنين أنك أخته في المذهب فلك ذاك، فنحن هنا جميعاً إخوة وأخوات.
- بل أنا أخته لأبيه وأمه.
- فأنا لا نعرف له أختاً كذلك إلا راجية رئيسة المشهد الأعظم.
فما سمعت وردة اسم أختها حتى هزتها الذكرى، وغلبها الشوق إلى أخبارها، فأنساها أنها بين يدي رجل يريد أن يعبث بشرفها فانبرت تسأله كما لو لم يكن أغضبها منذ قليل: "وما المشهد الأعظم يا سيدي؟".
- بل أنت سيدتي يا حسناء وأنا عبدك وخادمك!
فعاد العبوس إلى وجهها، ولكنها تجاهلت مجونه وقالت له: "بالله عليك قل لي ما هو؟" فقال لها: "لو شهدته ليلة فلن تنسيه أبداً، هو ليلة الإمام، وسر المذهب، ونموذج الجنة التي وعد الإمام بها المستجيبين يتذوقون بعض نعيمها في هذه الحياة الدنيا، آه لو شهدته فكنت من نصيبي؟".
لم تفهم وردة حقيقة معنى المشهد الأعظم مما قال، وكانت تود أن تسأله شيئاً عن أختها بعد، ولكنها لما رأت المرض في عينيه عادها غضبها فعاذت بالصمت، وكانت ابنتها لا تزال لائذة بصدرها وإن كف عنها الدمع، وظل زوجها واقفاً دونهما كأنه يحرسهما، وساد الصمت لحظة كأنها هدنة في معركة لا يدري أحد من الثلاثة ماذا يكون مصيرها، وما تنفسوا الصعداء إلا حين رأوا هذا الفاسق المغير قد قام لينصرف وهو يعتذر إليهم مما أزعجهم، ويطيب خاطرهم، ويؤكد لهم أنهم عنده بأمان لن يروا منه إلا ما يحبون.
فلما سمع الزوج منه ذلك استوقفه قائلاً: "هل لك يا سيدي أن تخبرنا متى توصلنا إلى حمدان؟".
فتغير وجه عطيف بغتة وغشيته كآبة ثم تجلد وقال: "إنه رئيسنا الأعلى، وأنا عامل الحدود، ليس لي أن أدع أحداً يصير إليه حتى يأتيني إذن منه بذلك".
- إنه سيعرف أخته حين يراها.
- ولكني لا أستطيع أن أخالف أمره، فابقوا هنا عندي حتى أكتب إليه بأمركم.
- قل له إذن إن أخته وردة..
- كلا، لا تقل له وردة، قل له عالية..
- ما تقولين يا وردة؟ أتريدين أن لا يعرفك أخوك؟ قل له يا سيدي: وردة.
- كلا يا عيسى، إني عالية، هذا اسمي الأول ولا يعرف حمدان سواه.
فوقف عيسى حائراً متعجباً، وفغرت مهجورة فاها من الدهش، وتطلق وجه عطيف قليلاً قليلاً حتى استنار، ورنقت في عينيه تلك النظرة المريضة، ووقف لحظة يديرهما في وجوه الثلاثة إلى أن استقرتا في وجه تلك الفاتنة التي اسمها وردة أو عالية ثم قال بلهجة المنتصر النشوان: "فهل أكتب إليه وردة أم عالية؟".
فقالت عالية وهي تغض بصرها اتقاء من عينيه وقد كست الحيرة وجهها ستراً رقيقاً من الشجن "اكتب إليه عالية".
7


ما كان عامل الحدود حين وعد عالية وزوجها بالكتابة إلى حمدان في شأنها ينوي الوفاء بما وعد فقد أيقن ساعتئذ من اختلافها مع زوجها في اختيار الاسم أنها غير صادقة فيما تدعيه، وكان قد استبعد صحة هذه الدعوى العظيمة من أول ما طرقت سمعه، وحسب أنهم اخترعوها حيلة للتخلص من قبضته، وظل يعتبرها كذلك حتى ساعة هم الانصراف قاصداً أن يطمئنهم ويزيل ما في قلوبهم من الغم والكدر ليعود في وقت آخر فيعالج المرأة حتى تلين، بيد أنه رأى إصرارهم العجيب على اعتبار هذه الدعوى حقيقة واقعة عند غضبهم وعند رضاهم خامره شك رهيب ظل يعاني شدة وطأته، وهو يتماسك ويتجلد خشية أن يبدو لهم منه الجزع، وما فرج عليه كربته إلا اختلاف الزوج والزوجة في اختيار الاسم.
فحبسهم في داره أياماً قدم فيها كل ما يشتهون من طعام وشراب وكسوة فقضوها فرحين مستبشرين، يترقبون في كل لحظة أن يرد كتاب حمدان بإنفاذهم إلى مهيما باذ، وقد أنساهم ذلك حقدهم على عامل الحدود لسوء معاملته لهم في يومهم الأول، فعقدوا عزمهم على ألا يخبروا حمدان بما كان منه في حقهم، وأعلنوا له عزمهم هذا ليطمئن فأظهر لهم الشكر والعرفان، ولكن بقي في نفس عالية شيء منه، إذ ترى في عينيه كلما جاء ليحييهم ويطمئن عليهم ذلك المرض الذي يملأ قلبها ريبة وشكاً، وكانوا يسألونه كل يوم عن الرد المنتظر من حمدان فكان يقول لهم "اصبروا قليلاً فإنه سيجيء".
إلى أن جاءهم يوماً فتلا عليهم رسالة زعم أنها جواب حمدان على كتابه ينكر فيها أن له أختاً أخرى غير راجية، ويتوعد عامل الحدود فيها لئن عاد إلى ذكر هذه الفرية أو مثلها فلا يلومن إلا نفسه.
فغشي على عالية من هول الصدمة، وذهل عيسى ومهجورة وأصابهما هم ثقيل، فلما أفاقت عالية جعلت تسب حمدان وتلعنه، وتقول وهي تبكي: "والله إني لأخته لأبيه وأمه، أبي وأبوه الأشعث قرمط، وأمي وأمه أمينة الناصرية، ولكنه قد تبرأ من الله الذي خلقه، فلا غرو أن يتبرأ من أخته المنكوبة! يشهد الله إني ما ارتكبت سوءاً في حياتي، ولكنه قدر مقدور عليّ. حسبي الله منك يا حمدان! حسبي الله منك يا حمدان!".
ثم تنظر إلى الثلاثة وتقول: "أتشكون أنتم أيضاً في صدق قولي؟".
فيسكت زوجها وتنتحب ابنتها انتحاباً ويدنو منها عطيف فيقول لها مواسياً: "أما أنا فإني أصدقك، ولكن حمدان رئيسنا الأعلى ولا نستطيع أن نراجع له قولاً" ثم يقول لها: "لا تبتئسي فسأنزلكم داراً حسنة، وأختار لك ولزوجك ولفتاتك عملاً هيناً لا مشقة فيه، وأجري لكم رزقاً موفوراً".
- بل دعنا نرجع إلى بلادنا نحفظ لك هذا الصنيع.
- لا سبيل إلى ذلك يا عالية، فمن يدخل بلادنا لا يخرج منها.
- لماذا؟
- لأنها في مذهبنا كالجنة، من دخلها لا يخرج منها أبداً إلا بإذن الإمام المعصوم.
- لعنة الله على مذهبكم وإيمانكم!
فظهر على عطيف الرعب وقال لها:" بالله لا يسمعن هذا منك أحد فإن جزاءه عندنا القتل".
- دعهم يقتلوني فإني لا أخشى إلا الله.
- إنهم لن يقتلوك وحدك، بل سيقتلوننا جميعاً معك، إذ لم نبلغ عنك، فبالله يا عالية لا تفعلي.
وما زال بها حتى هدأت، ثم جعل يوصيهم ألا يقولوا لأحد إنهم قرابة حمدان بعد أن تبرأ منهم، وإلا عوقبوا وعوقب هو معهم بالقتل، وما تركهم حتى عاهدوه على ذلك.
8


اطمأنت عالية وزوجها وابنتها لما تركوا دار عامل الحدود وسكنوا بيتاً صغيراً أعده لهم في الحلة الشرقية من ظاهر البلدة، وأجرى لهم رزقاً كثيراً وكسوةً حسنة وكلفهم أعمالاً هينة، فعالية ومهجورة تحلبان اللبن في حظيرة الحلائب على مقربة من بيتهم، ثم توزعانه على أهل تلك الحلة بقسط معلوم، فهذا كل عملهما، أما عيسى ففي مصنع للخوص في البلدة يعمل فيه عدد من الخواصين، وقد خصه مدير المصنع برعاية يغبطه عليها زملاؤه ويتعجبون من سرعة تقدمه في الحظوة عنده، فقد يجيء متأخراً عن موعد العمل فلا يلومه المدير، وقد يتباطأ في عمله أو يتكاسل فلا يحاسبه كما يفعل مع الآخرين الذين يتقون غضبه ويخافون صارم عقابه، وأنهم ليحسدون عيسى على تلك الحظوة إلا أن حسدهم له لم يبلغ مبلغ الحقد عليه أو الضغينة لما كان يتصف به عيسى من لين العريكة، وحسن العشرة، وحب الخير، فكان يحسن إلى زملائه بما يفضل عن حاجته من النفقة كلما رأى أحدهم يشكو من قلة ما يأخذ من الأجر والنفقة، وعدم كفايتهما لنفسه وعياله، فكانوا يحبونه على حسدهم له.
وذات يوم وجدوه مغموماً على غير عادته لا أرب له في عمل أو حديث، فأخذوا يسألونه عن حاله لعلهم يقدرون على مواساته بما يكشف همه، فكان يقول لهم ما به إلا قليل من الفتور يشعر به في جسمه، وما أفضى بذات صدره إلا لاثنين منهم اصطفاهما صديقين يثق بهما ويثقان به، فكشف لهما –وقد اختلى بهما في بيت أحدهما- ما يلقاه من تعرض عامل الحدود لزوجته قال له أحدهما:"هل أكرهها على شيء لا تحبه!"
فقال عيسى:"لا ولكنه يغازلها ويأخذ عليها المسالك، فطوراً يستدعيها إلى داره وطوراً يزورها في بيتنا في غيابي، وهي تشكو إلي من مضايقته فلا أدري ما نصنع".
- ما دام لا يكرهها على ما تحب فلا سبيل لك عليه، إنك حديث العهد في مملكة العدل الشامل يا ابن ميمون، وغداً تألف نظامنا فيزول عنك الحرج.
- كلا لا أصبر على هذا.
- إن عطيفاً يؤثرك وأهلك بالرعاية وكثرة الأجر والنفقة فأعرض عنه ولا تفسده على نفسك.
- ويلك يا حارث كيف يسعني أن أرى المنكر في بيتي فأسكت؟
- هبك لا ترى شيئاً ولا تسمع، وحسبك أن زوجتك لا ترضى ففي ذلك عصمة لها من شهوة العامل.
- لكني أخشى عليها منه إذا ظل يراودها يوماً بعد يوم.
فسكتوا قليلاً ثم قال الصديق الآخر:"هذا ما منعني من الزواج هنا يا ابن ميمون!".
- كيف تستقيم الأحوال على هذا المنكر؟
- ما هذا عندهم بمنكر. لا حرج على أحدٍ هنا أن يستمتع بأي امرأةٍ شاءها ما رضيت له، وإنما يعاقب إذا أكرهها على ما لا تريد. هذا مذهبهم.
فقال الحارث مبتسماً:"أليس هو مذهبك أيضاً؟ آه يا عقبة لو سمعك أحد غيرنا".
فأربد وجه عقبة قليلاً ثم سرى عنه وقال:"أنتما ثقتي فلا خوف علي".
قال عيسى: "أفإن راودت امرأة العامل فأغويتها لا يكون له على سبيل؟".
فأجاب الحارث:"لا سبيل له عليك في المذهب".
فاستدرك عقبة قائلاً: "ولكن من يحميه من سطوة العامل؟ إنه يقدر أن يغتالك يا عيسى دون أن يسأل عنك أحد".
- كيف؟ ألا يعاقب على فعلته؟
- أنى لك أن تثبت عليه جريمته؟ ثم في يده أن يعزو إليك تهمة قاصمة.
- ما التهمة القاصمة؟
- خيانة المذهب، أو التجسس للعدو، أو السعي لاغتيال أحد الزعماء أو...
- أو ماذا؟
- سب حمدان أو عبدان.
9


قدم ذكرويه على حمدان بمهيما باذ فسلمه كتاباً خاصاً بعثه الحسين ابن القداح من سلمية ينكر فيه على حمدان تباطؤه عن محاربة المعتضد حتى تخلص المعتضد من الشغب الذي أثاره أغنياء بغداد عليه، ويأمره بأن ينهض في الحال لمحاربته ليقضى على حركة أبي البقاء وإلا أوشكت أن تقضي على المذهب.
بان الغضب في وجه حمدان لما قرأ عبدان الكتاب عليه، فظل هنيهة صامتاً يقلب عينيه الحمراوين تارة في عبدان: وتارة في ذكرويه حتى قال ذكرويه: "بنفسي أنت يا سيدي الرئيس. لوددت لو لم أكن حملت الكتاب إليك!".
فنظر حمدان ملياً إليه ثم قال:"واجب قمت به فلا عليك".
ثم التفت إلى عبدان قائلاً: "أردت أن تحملني على الخضوع لرأيك فكاتبت الحسين بن أحمد في هذا المعنى!"
- لا والله يا ابن عمي ما كاتبته في هذا الأمر ولا في غيره إلا بعلمك.
- أإياي تخادع يا عبدان؟
- أحلف لك برب العزة يا ابن عمي ما فعلت.
- ما أشقاني بأهلي!
- ألا تصدقني وقد حلفت لك؟
- هل بقيت للإيمان عندنا حرمة بعد ما اتبعنا مذهبكم هذا؟
- ويحك يا حمدان، كيف تقول هذا؟ أليس هو مذهبنا جميعاً؟.
- كلا إن مذهبي هو إجراء العدل، ولا أرب لي فيما وراء ذلك من إلحاد في الدين.
فطفق عبدان يعاتبه عتاباً لطيفاً ويقول له:"لا ينبغي لمثلك وأنت قائد الدعوة ومختارها أن تشك في مذهب الإمام المعصوم".
- إنك يا عبدان لتعرف شكي في وجود هذا الإمام المعصوم. ولكن دعنا من ذلك الآن وقل لي هل ترضى أن يتداخل هؤلاء القداحيون في شئوننا؟.
- إنهم جماعتنا وأولياؤنا وحفظة سر الإمام، فلا غضاضة علينا أن نقبل مشوراتهم ونصائحهم.
- لكننا لا نرضى أن نقبل أوامرهم، ونحن أعلم بما ينبغي أن نتخذه من التدابير والسياسة في بلادنا. حسبهم منا رسوم الإمام نأخذها لهم من كد العامل والفلاح في هذه البلاد ليكنزوها عندهم!
- إنهم ينفقونها في سبيل الدعوة يا حمدان، وما كنا لننجح في أمرنا لولا معونتهم لنا وتوجيههم من قبل، ثم إنهم ما أشاروا عليك اليوم إلا بما هو الرأي.
- هو الرأي عندك لا عندي!
- فلنطع إذن أمر الإمام.
- كلا لا أطيع أمر الإمام ولا غيره. إني رئيس هذه الدولة، وعلي أن أعمل لمصلحتها، وليس لي أن أخضع لزيد أو عمرو.
- فيم نجيب كتاب نائب الإمام؟
- أكتب إليه بأننا أعرف بمصلحة بلادنا منهم.
- فسيظنون أننا خارجون عليهم وعلى طاعة الإمام.
- فاكتب إليهم ما شئت، على أن تفهمهم أننا لن نحارب المعتضد حتى يحاربنا وأننا تاركوه ما تركنا.
ونهض حمدان من مجلسه مغضباً، ثم خرج وترك عبدان وذكرويه واجمين.
- ماذا ترى يا ذكرويه؟
- لا بأس يا فقيه الدعوة، ما أرى الرئيس اليوم إلا لقاس النفس، فلنكتم ما سمعنا منه ولنهبه ما قال شيئاً.
- صدقت.
- ولن تعدم معه حيلة ترده إلى السبيل!
فاختلجت شفتا عبدان بابتسامة فاترة وقال:"أجل، ليس لهذا الأمر إلا شهر!".
10


خرج حمدان إلى الصيد –وكان هذا دأبه كلما اكتأب أو غضب –فتسلل عبدان إلى حيث تقيم شهر مع حمدان في الجناح الأيمن من القصر الكبير.
-   ماذا جاء بك يا عبدان في هذه الساعة؟
-   هل لديّ غنى عنك يا شهر؟،
-   بل لديك هم تخفيه.
-   ما أذكاك!
وقص عليها عبدان ما كان من كتاب نائب الإمام وغضب حمدان من جرائه على عبدان، لاتهامه إياه بأنه هو الذي كاتب الحسين بن أحمد في هذا المعنى، ثم قال لها: (ليس لهذا الأمر إلا أنت يا برد الفؤاد!).
فقالت شهر وقد كسا محياها عبوس محبب: (لا سبيل إلى تحويله عن رأيه في حرب السلطان، فأرح نفسك يا عبدان من محاولة هذا الأمر).
-   حاولي ذلك معه مرة أخرى.
-   لقد حاولت كثيراً حتى خشيت أن أفقد سلطاني عليه. أفيرضيك ذلك يا عبدان؟
-   معاذ الله، أنت نبراس الدعوة لا غنى لهيما باذ عنك.
وسكت عبدان قليلاً ثم قال: (وغضبه علي؟).
فتبسمت وقالت: (أما هذا فلك على ألا ينام الليلة حتى أمسحه عنه).
-   شكراً لك يا شهر، والله لا أدري كيف كنت أصنع لولا وجودك.
-   فهل لك من حاجة أخرى؟
-   فتنهد عبدان وقال: (حاجة القلب يا شهر!).
-   فكسرت عينيها تقول مترنمة:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها=فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه=وأنت لأخرى صاحب وخليل
- ما نحن وذاك؟ تلك ليلى الأخيلية قد عاشت في الجاهلية قبل أن يشرق نور الإمام المعصوم، ولو عاشت بيننا اليوم ما قالته.
-   هذا حق، ولكن ابن عمك يغار منك.
-   ولا يغار عليك من غيري؟
-   ما حيلتي في ابن عمك؟ هكذا هو!
-   مذبذب في المذهب!
-   فما تقول في راجية تلك المخلصة للمذهب، رئيسة المشهد الأعظم؟
-   ما بالها؟
-   تغار عليك منى! لها الحق. إنها تحبك!
-   قبحها الله! إني لأكرهها وتكره عيني رؤيتها ولولا...
-   لكنها زوجتك.
-   نعم، يا للدهر الهازل! من ذا يصدق أن عبدان يتزوج في مهيما باذ!
-   فقد تزوجتها وكفى.
-   ما تزوجتها إلا نزولاً على رغبة حمدان. هل كان لي أن أرفض الزواج وقد عرضه علي؟
-   فاكتف إذن بزوجتك فإنها تحبك وتغار عليك.
-   قولي لها تكتف هي بي!
-   لا عتب عليها. رأتك كبير العقل، واسع الصدر، قد اقتلع المذهب من قلبك كل عادة ووهم، فأطلقت لنفسها العنان!
-   فعلام إذن تغار علي؟
- اعذرها يا عبدان. أن رئيسة المشهد الأعظم قد تغلغل سر المذهب في جسدها، ولكنه لما يتغلغل في روحها مثلي ومثلك.
- ليت شعري متى تذهب هذه الوساوس والأوهام من صدور الناس؟ متى يصبح حب الرجال للنساء وحب النساء للرجال كحبهم للطعام والشراب؟
-   هذا يحتاج إلى زمن طويل.
-   لله وللإمام المعصوم ما لقيت من نصب في هذا السبيل، ما أعمق جذور الوهم في النفوس!
- هي في قلوب النساء أعمق يا عبدان. فنصبي أعظم من نصبك. إنك لا تدري أي جهد أبذله لإقناع امرأة ذات زوج أو صاحب تحبه بألا بأس عليها في معاشرة غيره. فإن هي فعلت ارقها الشعور بالإثم وصعب إقناعها بالتخفف من هذا الوهم.
أما الرجال فإقناعهم أيسر فيما أعلم.
- أجل يا شهر، يسهل إقناع رجل بألا بأس عليه في معاشرة غير زوجته أو أثيرته، فهو ميال إلى ذلك بطبعه، ولكن العقبة أن يقتنع بأن لزوجته أو أثيرته مثل هذا الحق، فلا تستهيني بنصبي.
-   أنت تلميذ الكرماني، لا عظيم عليك. لقد كان –أحسن الإمام إليه- يعرف كيف يدعو وكيف يختار.
-   أتذكرين أيامنا ببغداد؟.
-   ما كان أحلاها؟
-   فهلا نعيدها!
-   هيهات يا عبدان، الماضي لا يعود.
-   في وسعك أن تجودي علي بنفحة منها ولو ليلة واحدة في العام.
-   ألليلة الأمام تعني؟
-   آه لا تذكريني بليلة الإمام. لقد كان لي منك حظ فيها حتى جاءت فاختة المشؤومة فأفسدته علينا.
يشير عبدان بهذا إلى ليلة من ليالي المشهد الأعظم عندهم، حيث يجتمع الرجال والنساء في ليلة مخصوصة من العام فيشربون ويطربون، ثم تطفأ عليهم المصابيح فيقع كل على من يليه في ذلك الظلام الدامس، فاتفق أن حمدان وقع على ابنته فاختة فلما وقعت يدها على لحيته لم تملك أن قالت: (يا سوء حظي. وقع من نصيبي الليلة شيخ كبير) فعرف حمدان صوتها، فجرها وخرج بها من المشهد، وغضب غضباً شديداً وعزم على إبطال المشهد الأعظم ومنعه البتة لولا أن شهراً اعترضته، وما زالت به حتى عدل عن عزمه. لكنه حرم على ابنته أن تشهده، فشق ذلك عليها فتشفعت شهر لهذه عنده، فما قبل شفاعتها حتى أخذ على شهر عهداً أن تلزمه حتى في المشهد الأعظم.
11


كان حمدان قد أوى إلى فراشه ليلة، إذ قرع باب غرفته قرعاً شديداً، فصحا من نومه وقال: (من هناك؟).
فأجابه صوت كصوت المرأة: (أنا جلندي!).
فنهض حمدان عن فراشه وارتدى جلبابه وخرج من الغرفة بلطف لئلا يوقظ شهراً النائمة.
وجلندي الرازي من كبار أصحاب حمدان، لا يثق حمدان بأحد ما يثق به. وهو يتصل به رأساً، ولا يغلق بابه دونه بليل أو نهار. وفي يده مفاتيح القصر كلها، ويدخل عليه كلما شاء، وحيثما كان حمدان، بدون انتظار أو استئذان.
وهو كهل مديد القامة، عريض الأكتاف، أزرق العينين، رقيق ملامح الوجه، يتردد شعر رأسه الناعم بين الصفرة والحمرة، وليس في وجهه أثر للشعر، وهو طويل الصمت لا يتكلم إلا قليلاً.
وقد اختاره حمدان رئيساً للشرطة السرية، فله رجال منبثون في كل مكان، لا يعرف بعضهم بعضاً، يقومون بأعمال مختلفة، فمنهم كتبة في الدواوين، واكرة في المزارع، وعمال في المصانع، وسجانون وبناءون وكناسون، وغيرهم. وله عيون من النساء أيضاً من طبقات شتى، وله على كل هؤلاء سيطرة عظيمة، ونظام دقيق، وقد اختار كلا منهم بعد اختبار وثقة.
قال له حمدان، وقد دخلا غرفة أخرى خالية، فأغلقا عليهما بابها: (ما وراءك يا جلندي؟).
فقال جلندي: (نبأ عظيم) ثم حكى لحمدان في جمل مختصرة بينة كيف نمى إليه أن عطيفاً النيلى عامل الحدود قد ترك امرأة مهاجرة سبت حمدان ولعنت المذهب دون أن يعاقبها، لأنه استلطفها، بل أجرى لها ولزوجها وابنتها نفقة كبيرة وخصهم باللطف والرعاية، ثم أغرى زوجها بالخمر والنساء، حتى ضعفت عزيمته فأمره فطلقها ليخلو له وجه الزوجة، ثم اختفى الزوج فلم يعثر له على أثر.
فأمره حمدان بالقبض على عطيف وإنفاذه إليه بأسرع ما يمكنه وبإنفاذ المرأة وابنتها وزوجها إن وجدوه. وسرعان ما انطلق جلندي من عنده، فعاد حمدان إلى غرفته وهو يقول لنفسه: (كأني بكبار أصحاب وقد تخلصت منهم واحداً فواحداً) ثم استلقى على فراشه فنام.
وما كادت الشمس تزول من الغد حتى أدخل عطيف على حمدان في مجلسه بالديوان، وعنده عبدان وعكرمة البابلي وإسحاق السوزاني وغيرهم من وجوه القرامطة، فأمر حمدان بإطلاق يديه من القيد، فوقف أمامه يرتعد من الخوف.
فقال له حمدان: (يعز على أن أفقدك، فدافع عن نفسك).
وكان عطيف قد علم ما سيق من أجله لما رأى عالية وابنتها قد سيقتا معه، ولكنه ظل برهة يتجاهل التهمة حتى صرح له حمدان بها، فجعل يدافع عن نفسه، ويقول إنه ما منعه من التبليغ عن تهمتها القاصمة إلا أن بعقلها مسا.
فاعترضه حمدان قائلاً: (بل بعينها سحر يا لكع!).
فقال عطيف: (والله وسر الإمام ما نلتها بشيء).
- أفختصصتها بالرعاية والنفقة الطيبة جزاء لها على ما قالت فيّ وفي المذهب؟
- بل أردت أن أتألفها بذلك لتؤمن بالمذهب.
- أفلذلك أفسدت عليها زوجها حتى طلقها؟
- إني ما أكرهته على شيء، ولكنه وجد فضلاً من النفقة عند أهلها فأولع بالسكر والنساء حتى كرهت زوجته صحبته، فأشرت عليه بتطليقها رحمة بها ففعل.
- فأين هو الآن؟.
- ما علمت عنه شيئاً إلا أن بعض رجالي حدثوني عن رجل وجدوه ميتاً في بعض طريق الحلة الشرقية ليلاً فدفنوه.
- فسكت حمدان هنيهة ثم التفت إلى عبدان كأنه يٍسأله عن رأيه. فتنحنح عبدان وقال: (إن استطاع عطيف أن يأتي ببرهان على اختلال عقلها حين لعنت المذهب وسبت قائد الدعوة برئت ساحته!).
- فنظر حمدان إلى عطيف قائلاً: (فما برهانك على ذلك؟).
- كلمة كبيرة قالتها لا يمكن أن يقولها من عنده مسكة من العقل.
- ماذا قالت؟
- لا ينبغي أن تقال في مقامك.
- ويلك قلها.
- قالت إنها أختكم.
- أختي أنا؟
- نعم. ما كانت لتقول هذا لولا أنها ممسوسة العقل.
- فأربد وجه حمدان وظل هنيهة صامتاً، وعجب الحضور فطفقوا ينظر بعضهم إلى بعض. قال عطيف: (قد قلت إنها كلمة كبيرة ولولا أمر الرئيس لما حكيتها).
فلم يجبه حمدان على كلمته هذه، وإنما قال له في تردد واحتراس كأنما لا يريد أن يلقي هذا السؤال: (ما اسم هذه المرأة).
- كانت تدعى وردة.. ثم..
- لماذا لم تخبرني بذلك من قبل؟.
- ما سألتني عن اسمها إلا الساعة.
- فاسمها إذن وردة؟.
- نعم ولكنها ادعت بعد ذلك.
- ادعت ماذا ويلك؟
- أن اسمها عالية!
- عالية! هذي التي سبتني اسمها عالية؟.
- نعم يا سيدي الرئيس، قد قلت لك إنها مجنونة.
- فاضطرب حمدان اضطراباً شديداً، واستولت على عبدان حيرة، ووجم القوم يسترقون النظر إليهما وإلى عطيف، وظل عطيف واقفاً لا يدري ما يقول، وقد ازداد اضطرابه وتفصد جبينه عرقاً.
وإذا حمدان ينهض ويأمر بحبس عطيف حتى ينظر في أمره، ويبرح الديوان دون أن يقول للحضور شيئاً. ويخرج في أثره جلندي الرازي. وتلبث عبدان قليلاً ثم قام وسار وئيدا جهة الباب حتى  خرج.
12


ما رؤي حمدان منذ أسس دار هجرته أشد فرحاً من يوم لقي أخته عالية، فقد أحس حين رآها، كأن قطعة عزيزة من نفسه، كان قد فقدها فعادت إليه بما تحمل من ذكريات حلوة ومرة. ونسي ساعة اللقيا كل شيء إلا أنه حمدان القديم أخو عالية. وكانت عالية قد شعرت وهي تساق إلى مهيما باذ مع ابنتها بأنها تود لو ابتلعتها الأرض فلا ترى عيناها وجه حمدان الذي كفر وبدل، والذي يرتكب باسمه وتحت حكمه كل ما شهدته من الجرائم والآثام. ولكنها ما كادت ترى وجهه وهو ينظر إلهيا بين الدهشة والفرح حتى نسيت نفسها فخفت إليه باسطة ذراعيها وهي تهتف: (حمدان أخي!) فاعتنقها وضمها إلى صدره وهو يقول: (عالية! أختي العزيزة!) ورأى الشرطيان الواقفان ذلك، فانسلا خارجين. ولبثت مهجورة واقفة مكانها هنيهة ثم خفت إليهما فاحتوياها بينهما وعالية تقول: (هذه مهجورة بنتي يا حمدان!) فضمها حمدان إلى صدره وهو يقول: (أهلاً بابنتي، أهلاً بمهجورة. لن تكوني بعد اليوم مهجورة!) ونظر إلهيا فرأى فيها مشابه من أمها حين كانت عذراء في قرية الدور، ولكن شيئاً حول فمها راعه وأثار في نفسه شعوراً شبيها بالريبة لم يدر ما سببه وكانت الفتاة إذ ذاك قابضة بيده على معصمه، فلما رأى حمدان كيف لمع فجأة في ذهنه خيال ذلك المارد القبيح الخلقة الذي طرده من قصر ابن الحطيم. بيد أنه سرعان ما طرد عن نفسه هذا الشعور الغريب وقال: (سبحان الله.. هي نسخة منك يا عالية).
وما قطع ما هم فيه من العناق إلا مجيء شهر ثم عبدان ثم راجية وفاختة وثمامة الصغير ثم الليث، فاتصلت حلقات العناق والتقبيل تتخللها كلمات الترحيب والتأهيل وعبارات المودة والشوق، وغلب الجميع فيض من حنان الأسرة الواحدة والرحم الواشجة لم يشعروا بمثله من زمن بعيد، ما خلا شهراً فقد استشعرت في تلك الساعة أنها غريبة في أهل هذا البيت ولكن ذلك لم يمنعها من مشاركتهم فيما هم فيه كأنها واحدة منهم، وما خلا عبدان فلم يستطع أن يرسل نفسه على سجيتها في التعبير عن عواطفه كأن شيئاً يعوقه دون الانسجام معهم على شدة الرغبة في ذلك.
واقترحت راجية أن تنزل عالية وابنتها معها في جناحها، وألحت في ذلك، ولكن حمدان أبى وأصر على نزولهما معه في جناحه، فكان ما أراد.
كانت فرحة اللقيا قد غطت برهة على أبصار الجميع، فلا ترى عالية إلا أنها قد عادت بعد التشتت والضياع إلى أهلها فنزلت بينهم، وهم كذلك لا يرون إلا أن عدد أسرتهم قد زاد بمجيء عالية ومهجورة، إلا أنهم ما لبثوا بعد ذلك أن انقشعت عن عيونهم تلك الغشاوة، ونظروا فإذا عالية ليست منهم وليسوا منها، فهي وابنتها تصليان الفرائض وهم لا يصلون غير أنهم ما نفروا منها، لأنهم يأملون حين يطول بها المقام قليلاً بينهم أن تأخذ أخذهم وتدين بمذهبهم.
وشعرت عالية أيضاً بمثل ما شعروا، وجعلت ترى منهم أشياء ينفر منها طبعها وتشمئز نفسها وهمت أن تنكرها عليهم جهاراً من أول الأمر لولا ما ترى من عطف حمدان عليها وحدبه الشديد على ابنتها، فحملها ذلك على السكوت عنهم إلى حين. إلى أن رابها ذات يوم شيء من فاختة، وكانت عندها تزورها فإذا بشاب لا تعرفه عالية قد جاء فناداها، فقامت فاختة تستقبله وأخذت تعانقه وتقبله في خلاعة وتبذل على مشهد من عالية ومهجورة ثم قالت له: (هلم فسلم على عمتي الجديدة وابنتها) وأقبل الشاب فصافحهما وهو يخالسها نظرات مريبة، فلما رأته فاختة قد دنا من مهجورة جذبت يده وقالت: (هلم بنا الآن،) فخرجا منطلقين في نشوة وعرامة.
فلم تستطع عالية صبراً وقامت من ساعتها فدخلت على أخيها فقصت عليه ما رأت وجعلت تستنكره وتستهجنه وتقول: (كيف يكون هذا وأنت موجود في البيت يا حمدان؟) وما راعها إلا أن أخذ حمدان يهدئها مبتسماً ويقول لها: (إنك هنا حديثة العهد يا أختي. هذا صاحب فاختة ونحن هنا لا نرى بأسا بذلك).
فانفجرت عالية غضباً وذهبت تسب المذهب وتلعنه وتقول لحمدان: (قد كفرت وبدلت فارجع إلى دينك وتب إلى ربك قبل أن يدرك الموت وأنت على هذا الضلال والكفر).
وحمدان يلاطفها ويهدئها ويقول لها: (لا يسمعك الناس تقولين هذا يا عالية) فتثور وتقول: (دعهم جميعاً يسمعوا. هذا منكر كبير. والله لا أعيش هنا بينكم! ردوني إلى بلدي)
فيقول لها وفي صوته رقة الاستعطاف: (ويحك يا أختي، والله لا أقدر أن أدعك تفارقينني. وليس لي هنا أحد سواك).
فنالت كلمته هذه منها منالاً، وغلبتها الرقة فسكتت قليلاً ثم قالت: (إذاً فدعنا نعش أنا ومهجورة في بيت وحدنا).
- فيم يا عالية؟ إني أحب أن تبقيا معي، ولن تري هنا ما لا ترضين بعد اليوم.
- فلست وحدك هنا.
- أتعنين شهراً؟ هذه تحبكما وتخدمكما.
- أفهي زوجتك؟
فتردد حمدان قليلاً ثم قال: (هي صاحبتي يا عالية).
- بعد أن كانت صاحبة عبدان! لا والله لا يظلني معها سقف واحد!
واتفقا في آخر الأمر على أن تعيش وابنتها في قصر صغير يجاور القصر الكبير كان حمدان قد أعده لينزل فيه ضيوفه.
13


بلغ راجية كما بلغ غيرها ما كان من ثورة عالية، فاكتأبوا جميعاً لهذا الحادث وأيقنوا أنه ليس من الاصطدام بعالية بد. وأنكروا على حمدان أن يصانعها إلى هذا الحد في أمر من أمور العقيدة له خطرة على الدعوة والمذهب. وإن لم يجرؤوا على مجاهرته بذلك. وكانت راجية أشدهم استياء من عمل عالية، إذ كانت أسبقهم نفوراً منها لأسباب كثيرة، منها أنها رأت من تعلق حمدان بها ومن مبالغته في إعزازها ما أثار في نفسها كوامن الغيرة والحسد، ومنها أنها لحظت على زوجها عبدان ظلاً من الوجوم قد لازمه منذ حلت عالية بساحتهم، فقدح في نفسها شك من جهة عالية، فجعلت ترقبها وترقب عبدان إذا ضمهما مجلس الأهل، فكانت ترى من عالية ازوراراً عنه، فقام في نفسها أن ذلك حيلة مقصودة لاجتذابه وتأريث حبه القديم، وهي تنظر إلى عالية فتراها أنضر منها شباباً، وأرشق قدا، وأبهى طلعة، كأنما تزيد الأيام جمالها ما تنقص منها هي.
فلما بلغها أن عالية قد منعت فاختة من لقاء مهجورة لئلاً تعديها بسلوكها، ثارت ثائرتها، وعدت ذلك فرصة للتحرش بعالية، فجاءتها في قصرها فما حيتها ولا سلمت عليها، وإنما اندفعت ترميها بالجهل والغباوة، وإنها لا تصلح أن تعيش في مملكة العدل الشامل وإنهم كانوا في خير وسلام قبلها حتى حلت بساحتهم.
فتعجبت عالية من اندفاع أختها وانفجارها على هذا النحو من دون أن تسيء إليها بشيء، فجعلت تهدئها وتقولها لها: (ماذا أغضبك مني؟).
- كيف تمنعين فاختة من مقابلة ابنتك؟ ماذا بها؟ أليس ابنة أخيك؟.
- قد استأذنت حمدان في ذلك فما قال شيئاً.
- إني أعدها ابنتي وهي تقيم عندي.
- فإن سلوكها لا يعجبني وأخشى منه على ابنتي.
- أتعرضين بسلوكي؟
- أما إذ أثرت هذا الأمر، فاعلمي أن سلوكك يا راجية يندي جبيني خجلاً.
- أنت سبية الداعر ابن الحطيم تقولين لي هذا؟
- ما ذنبي أنا فيما اجترمه ذلك اللعين؟
- ألم تلدي منه ابنة السفاح هذه التي تربأين بها عن معاشرة فاختة؟
- كفى لسانك عن مهجورة فهي أشرف منك.
- أشرف مني وهي ابنة حرام؟
- جناية لا يد لها فيها ولا يد لي، وإني لأقول مثل هذا عن ابنك ثمامة لولا أنك اشتركت في الجناية عليه.
- أمسكي عن ثمامة فليس ابن سفاح كابنتك.
- أما جئت به من ذلك الدجال الأهوازي الذي خدعك فأسلمت له شرفك؟
- كان ذلك برضى مني فما هو بسفاح!
- أهذا هو مذهبكم؟ عجباً لكم. تعيرون من أكره على الفاحشة وترضون عمن أتاها عن طواعية ولا أقول شيئاً عن الرجال الذين تستقبلينهم في بيتك في غياب زوجك.
- ما شأنك أنت؟ إني أستقبلهم في غيابه وفي محضره.
- نعم قد بلغني أنه راض بذاك فيا ضيعة الرجولة.
- قد عرفت قصدك، تعانين بهذا لتجذبيه إليك! خذيه لك خذيه لك!.
- لا يا راجية، لا أرضى لي بعلا من لا يغار على زوجته!
- فعيسى بن ميمون ماذا أعجبك فيه؟
- كان والله صالحاً فأفسدتموه.
وأن الأختين لفي هذه المشادة الحادة إذ جاءت شهر، فحالت بينهما، وجعلت تهدئهما وتقول: (هذا لا يصلح. إنكما وإن فرق المذهب بينكما لأختان! ثم جذبت يد راجية فجرتها معها وخرجت بها من قصر عالية).
وكانت شهر حريصة على اجتذاب قلب عالية، واكتساب مودتها من أول ما قدمت عالية، وظلت تتودد إليها بجميل القول والفعل، حتى بعد ما علمت باستنكافها من معايشتها في بيت واحد، فلم يسع عالية إلا أن تقابل ودها بود وإن كانت تنفر منها في الباطن. فإذا صفا الجو بينهما أخذت شهر تترفق بها، وتبث فيها مبادئ المذهب بلباقة، وكانت تشد إذا لانت عالية، وترخي إذا شدت، وكان لها من البراعة ولطف المدخل وحسن المخرج ما تتقي به دائماً غضب عالية أو بغضها، فكانت عالية لا ترى بأساً من سماع حديثها عن الدعوة وهي تضحك وتسخر. وما كانت عالية تستطيع أن تجادلها بالحجة ولا سيما في الآراء المذهبية التي لا تتصل بالحياة العامة، ولكنها كانت تحس ببصيرتها أن ما تقوله شهر باطل كله، ويشتد وضوح بطلانه لها في تلك المسائل الشديد اتصالها بحياة الناس، فهي لا تستطيع مثلاً أن تعد ما بين راجية وعبدان زواجاً حقاً، وتستقبح المشهد الأعظم، وتعده خزياً وعاراً، ولا يقبل عندها البتة أن ذلك مظهر للتحاب والتواد كما يزعم أهل المذهب، فكانت شهر إذا سمعت ذلك منها تنقطع عن النقاش دون أن تغضب أو تغضب صاحبتها، بل إنها لتخدمها وتخيط لها ملابسها وملابس ابنتها مهجورة، وكانت تقول لها: (قد علمت يا عالية أنك استنكفت أن تعايشيني في بيت واحد.. ولكني أعذرك ولا أحقد عليك، لأنك أتيت ذلك بوحي عقيدتك ورأيك، ولو أنك فقهت سر المذهب لتغير رأيك في ولأحببتني لأنك طيبة القلب، كريمة النفس، وإني لأرجو أن يأتي يوم قريب تقتنعين فيه بصواب مذهبنا). فتبتسم لها عالية ولا تقول شيئاً.
إلا أن عالية ما لبثت بعد أن نزلت في قصرها الخاص أن استقبلت النساء فيه فأخذن يترددن عليها، فنصحتهن بالتوبة والرجوع إلى دينهن، وجعلن يشكون إليها ما تنوء به ضمائرهن من التأثم والحرج، وينكرن ما يقال لهن من أن معرفة الإمام المعصوم كافية ليسقط عنهن كل تكليف ويغفر لهن كل ذنب. فتقول لهن عالية: (وأين رأيتن هذا الإمام).
فلما رأت شهر هذا أدركت خطرها عليهن، فصارت تحرض حمدان أن يكفها عن ذلك، فيأتي حمدان إليها مرغماً لا يود أن يغضبها، فيكلمها في هذا المعنى ويتوسل إليها أن تكف. فتقول له: (ماذا يضيركم أن يؤمن الناس بما يشاءون؟ ألستم قد أطقتم لهم الحرية. ورفعتم عنهم التكليف؟ إنك تدعون العدل الشامل فليس من العدل أن تمنعوا أحداً من أن يعتقد ما يشاء)، فيمسك حمدان ويهم بإخراجها من مهيما باذ ولكنه لا يستطيع الصبر على فراقها. وقد أحس أنها قطعة من نفسه عزيزة عليه، وأنها السبب الوحيد الذي يربطه بعد بماضيه: بزوجته أم الغيث وبوالدته أمينة وأبيه الأشعث. ولكن شهراً وراجية تنكران عليه سكوته على عمل عالية، وتحذرانه بأن فتنتها ستشيع في نساء المدينة ثم تستطير إلى رجالها من طريقهن. ويشاركهما عبدان في الإنكار ويشتد حيناً فيه ثم يلين، فتوبخه راجية وتتهمه بأنه يتحبب إلى عالية فهو يغضي عن عملها لذلك.
فلما كثر الإنكار منهم على حمدان، بدا له فمنع النساء من الاتصال بعالية وعزلها في قصرها فكانت تقول له: (أتسجنني يا حمدان لقول الحق؟ أرجعني إلى الكوفة أو أطلقني) فيجيبها متلطفاً أنه لا يقدر على فراقها وأنه مضطر لما فعل وإلا انتفض الناس عليه.
14


كان الغيث وفاختة قد نشآ تحت رعاية عمتهما راجية منذ توفيت أمهما في قرية الدور، فظلا متعلقتين بها وبشهر بعد مجيء هذه مع عبدان، وكانا يحبان هاتين المرأتين على السواء، وبقيا على هذه الحالة إلى أن استقر حمدان في دار هجرته، وظهر شغفه بشهر، فوجد الولدان في نفسيهما شيئاً من السكنى معهما، فسكنا مع عمتهما راجية وزوجها عبدان. أما فاختة فكانت مولعة بتقليد عمتها في هيئتها وزيها، وميلها إلى الخلاعة التبذل. وكأنما كانت تتخذها مثلها الأعلى. وأما الغيث فقد كان يحب عمته راجية، ويعتبرها كأمه، غير أنه كان يشعر بشيء من النفور منها لتبذلها، حتى إنه كان يتضايق من تدليلها له. ولكنه ظل على احترامها إلى أن كانت ليلة من ليالي الإمام حضرها هو كالعادة، فانقلب منها أسيفاً كسيف النفس، وكان قبلها مرحاً كشأن من في سنه من الفتيان، فصار بعد تلك الليلة كئيباً محزوناً، حتى تعجب والده ومن حوله من حاله فكان إذا سئل عما به أنكر أن به شيئاً، وما من أحد يعلم سر حزنه وكدره الطارئين سوى راجية عمته.
فقد اتفق أنه لما شهد ليلة الإمام، وأطفئت المصابيح وقع هو على راجية، وما علم ذلك إلا حينما أفاق من خمار الشراب، فأمسى تلك الليلة مهموماً لا يطيق النظر في وجهها وشاءت هي أن تزيل ما به فقالت له ملاطفة: (إنك يا غيث لحلو المعشر، ولكن إياك أن تعود لمثلها!) فما زاده كلامها إلا نفوراً منها واشمئزازاً. وقالت له: (لا تبتئس فإنه لا يعلم أحد بما وقع غير مولانا الإمام، وهو لا يؤاخذنا بأمر صنعناه في ليلته).
وتعاظم نفوره منها، حتى صعب عليه البقاء معها في منزل واحد، ولا سيما وهو يرى في عينيها حين تنظر إليه أو تخلو به أشياء مريبة. وإذ كان يخشى أن ينكشف أمره لأبيه أو لعبدان صار يؤثر الإقامة في معسكرات الجيش حيث كان يتولى هو قيادة فرقة فيه، بعد أن تدرب على أعمال الفروسية بتوجيه من أبيه. فكان إذا سئل عن سبب ابتعاده عن المنزل اعتذر بأنه يؤثر الإقامة مع رجال فرقته في معسكرهم، ليكون أقدر على الإشراف على شئونهم، فيمتدح حمدان صنيعه هذا ويعجب به.
وكان يحاول التخلص من تلك الكآبة الملازمة له بمختف الوسائل فيعييه ذلك، إلى أن قدمت عمته عالية فما إن وقع بصره عليها حتى انجذب قلبه إليها، ثم ما لبث أن رأى من جمال طلعتها ووقار مسلكها حنانها عليه ما جعله يشعر لأول مرة في حياته بأنه قد وجد ما كانت الأيام قد حرمته من حنان الأم، فغمرها بحبه وأحلها محل التوقير من نفسه، ثم لم يزده ما سمع من قصتها المحزنة إلا حباً لها وعطفاً وحناناً، وكما أحبها وأعجب بها أحب ابنتها مهجورة، فقد وجدها نسخة جديدة من أمها في جمال الطلعة ووضاءة القسمات، وهالة الطهر التي تكسو محياها السمح، ومعاني الانكسار والبراءة التي تفيض من عينيها. وكانت الفتاة تبادله حباً بحب وإن لم تبح به. وظل هو يكتم حبه لها زمناً إذ كان يهابها، ثم تشجع ذات يوم فغازلها كما كان يغازل غيرها من الفتيات اللاتي عرفهن من قبل، ولم يدر بخلده إلا أن تلك هي الطريقة الوحيدة لخطب ودها. فلما نهرته وثارت عليه شعر بصدمة قاسية وأضناه هم ثقيل إذ ظن أنها لا تريده وألا سبيل له إليها فطالع أباه بأمره، وكانت عالية قد علمت بذلك من ابنتها، فلما كلمها حمدان فيما وقع من مهجورة للغيث استضحكت وقالت له: (إن مهجورة لتحب الغيث كما يحبها، فإن شئت يا حمدان زوجناها له على سنة الله ورسوله).
- بل على مذهب الإمام.
- كلا، إلا على سنة الله ورسوله.
فلما رأى حمدان إصرارها على ما تريد، ورأى ما يلقى ابنه من الوجد والكلف، وكان يحبه حباً جماً، عز عليه ذلك، فاستأذن فيه عبدان، فعارض في أول الأمر معارضة شديدة، ثم أذعن لرغبة حمدان على شرط أن يبقى ذلك سراً لا يعلم به أحد من أهل مملكة العدل الشامل.
وتم زواج ابن حمدان على ابنة عدوه ابن الحطيم في عاصمة القرامطة على سنة الله ورسوله، وأنف عبدان راغم. وعاش الزوجان الحبيبان مع عالية في قصرها، وما لبث الغيث أن تأثر بأفكارها وعقيدتها شيئاً فشيئاً حتى صار يصلي الفرائض معها، ويصوم الشهر على خوف من أبيه وملئه أن ينكروا فعله.
وكانت عالية كثيراً ما تحدثه كيف كان أبوه حمدان فلاحاً، صالحاً حتى فتنه هؤلاء القوم، وقد كان مظلوماً فسهل عليهم استدراجه لمذهبهم الذي يسمونه العدل الشامل، وكيف كان جده الأشعث رجلاً ديناً، وجدته أمينة ووالدته سعدى من النساء الصالحات، وأنهم لو عاشوا حتى شهدوا هذه الأمور لتقطعت أكبادهم حزناً وكمداً. وقالت له يوماً وهي تضحك وقد طاب المجلس بين الثلاثة ورق الحديث: (إن مهجورة زوجتك، وأنت يا بني زوجها، فلا أرينك يوماً ترضى أن يشركك فهيا أحد. إنها لك وحدك يا بني، وعليها أن تحفظ عهدك، وترعى شرفك، في محضرك ومغيبك، فإن علمت أنها –لا سمح الله- خانت مع أحد سواك فلا ترين وجهي حتى تذبحها!). فضحك الغيث وضحكت مهجورة وقالت: (وهو يا أماه أليس عليه أن يكون لي وحدي؟). فأجابتها أمها بين الابتسام والعبوس (إن كنت حريصة على رضاه فلن يجد خيراً منك فما حاجته إلى غيرك؟).
فضحك الغيث وقال: (إنها أجمل امرأة في مملكة العدل الشامل، وأنى لي أن أجد فيها زوجاً أخرى تكون لي وحدي؟).
15


لما وثب حمدان وثبته الكبرى على ناحية القاسميات من أرض البطائح، وتم له تأسيس دار هجرته مهيما باذ، قسم الأراضي التي استولى عليها بين الفلاحين ليزرعوها ويستثمروها لأنفسهم، غير أنه أوجب عليهم نظام (الألفة) الذي كان قد دعاهم إليه من قبل، وهو أن يؤدي كل واحد منهم ما يفضل عن حاجته من الثمار والحبوب حتى يكونوا في ذلك أسرة واحدة لا يفضل واحد منهم صاحبه وأخاه في ملك يملكه. وقد عرفهم أنه لا حاجة بهم إلى أموال تكون معهم لأن الأرض بأسرها ستكون وشيكاً لهم دون غيرهم.
ثم أعلن في العام الثاني أنه قد جعل الأرض ملكاً للدولة أي للجميع، ثم وزعها قرى ومناطق، وخصص لكل منها جماعة من الفلاحين لا يتعدونها إلى منطقة أخرى إلا بأمر منه، وهؤلاء يعملون فيها تحت إشراف مديرين يراقبون عملهم. ولكل منطقة أمين يعينه حمدان بنفسه ليجمع المحصول ويحفظه في مخزنها العام.ولا يجوز للفلاح أن يأخذ من المحصول شيئاً، وإنما يعطيه الأمين ما يراه كافياً له ولأهله وعياله الذين يعملون في الأرض معه.
وكذلك حال الحدادين والنجارين البنائين والغزالات والنساجين وغيرهم من الصناع والعمال، لكل منطقة كفايتها من هؤلاء، ويجمع نتاج عملهم ويحفظ في المخزن العام.
وقد أظهر الفلاحون والصناع وغيرهم ارتياحاً لهذا النظام، فأخلصوا واجتهدوا في أعمالهم في بداية الأمر، إذ كان بين هؤلاء كثير من الفالحين الذين ذاقوا البؤس من ظلم ملاك الأرض وجشعهم، وكثير من العمال والصناع الذين عانوا الأمرين من ظلم أصحاب العمل. وكان كثير منهم ممن اعتنق مذهب الإمام المعصوم على يد الشيخ الأهوازي وحمدان من بعده، وتحمسوا لمبادئ العدل الشامل، وعللوا نفوسهم بزوال عهد الظلم والتفاوت لمبادئ العدل الشامل، وعللوا نفوسهم بزوال عهد الظلم والتفاوت بين الناس في الرزق والثروة، ومجيء عهد جديد يتساوى الناس فيه، فلا غني ولا فقير، ولا قوي ولا ضعيف، إذ لا يؤذن لأحد مهما يكن قدره أن يملك شيئاً من الأرض أو المال.
غير أن كثيراً منهم ما لبثوا بعد أن ذهبت عن نفوسهم جدة هذا النظام وروعته الأولى أن نظروا فإذا الناس ليسوا سواسية في ظل هذا النظام الجديد، وإذا التفاوت في العيش بينهم باق كما كان، فقد رأوا أنه إن أعطي لهم ما يسد جوعهم وجوع عيالهم من الطعام، فمن طعام يختلف عن طعام غيرهم ممن هم أرقى طبقة وأعظم جاهاً أو أحب إلى أصحاب الجاه. وأدركوا أن أحدهم إن أعطى كفاية بطنه فإنه لا يعطي كفاء عمله وجهده، فهذه الغلال والثمار والمصنوعات التي ينتجونها بعرق جبينهم وكد أيديهم لا يعطون منها إلا القليل من أدنى أنواعها، ويحمل الجزء الأكبر منها إلى مخازن الدولة لمصلحة الجميع –كما يزعم أولئك أولو الأمر فيهم- حيث تتمتع به الطبقات التي فوقهم. فأخذ منه كل على حسب جاهه ونفوذه. فقد انقلب الأمر من امتلاك الأرض والمال، فامتلاك السلطان والنفوذ بهما، في ذلك النظام الذي شهدوه من قبل، وذاقوا منه المرارة والهوان. إلى أسلوب جديد يقوم على امتلاك السلطان والنفوذ بادئ بدء ثم يأتي من طريق هذين امتلاك ما يخولانه لصاحبهما من بركات الأرض والمال.
ولعل قليلين منهم هم الذين استطاعوا أن يدركوا هذه الموازنة بين النظامين، وعدم الفرق بينهما في النتيجة، على حال من الوضوح يعطيهم القدرة على الإفصاح عنه في عبارات محكمة بينة، ولكنهم إلا قليلاً منهم كانوا يحسون أن أملهم القديم في السعادة التي ينشدونها من وراء هذا النظام الجديد قد خاب وأدرك الجميع أو أحسوا- فقد كانوا يحسون أكثر مما يدركونه- أن السبيل إلى التقدم في مملكة العدل الشامل هذه ليس الاجتهاد فيما كلفوه من العمل أو التجويد فيه، إلا فيما ندر. وإنما هو السعي إلى الجاه والحظوة عند أحد الرؤساء، بضروب التزلف إليه، والتقرب منه، ثم التدرج بعد ذلك في نيل الحظوة من عند رئيس إلى رئيس أعلى منه، حتى يصل الساعي إن واتاه الحظ إلى ذلك الرئيس الأعلى حمدان قرمط.
وكما أن الطموح لجمع المال ومضاعفته بالتجارة وغيرها من سبل الكسب والاستثمار في غير هذا النظام لا ينجو دائماً من الآفات، ولا يخلو من الغرر، إذ قد يجر أحياناً إلى الضياع والإفلاس، فكذلك الطموح إلى الجاه والنفوذ في ظل هذا النظام القرمطي، له آفاته وأخطاره من غضب الرئيس الأعلى أو من دونه من الرؤساء، فويل لصاحبه حينئذ إذ قد يدفع حياته ثمناً لمغامرته من حيث لا يعلم بمصيره أحد، ولا يسأل عنه أحد.
فلما قوي شعور الناس بخيبة الأمل في هذا النظام، ورأوا أنهم لا يجنون من اجتهادهم في العمل إلا ملء بطونهم من الطعام الدون من الذرة والتمر، وقليل من اللبن والجبن، وما يسترهم من الكساء الخشن، بينما تحمل غلال القمح وخيار الفاكهة والتمر إلى مهيما باذ، ليتمتع بها الزعماء وأرباب الجاه والنفوذ وتمون بها الجنود والعساكر الذين يعلفون بأجود الطعام استعداداً للحرب، ولا حرب –أخذ الفلاحون والعمال والصناع يتهاونون في أعمالهم كلما غفلت عين الرقيب عنهم، فأثر ذلك في نتاج الدولة من الحبوب والثمار والمصنوعات، فتوجهت التبعة إلى المشرفين والمديرين، واتهموا بالتقصير في المراقبة أو ضبط النتاج، حتى عوقب بعضهم بالعزل، وأمروا جميعاً بتشديد المراقبة وإحكام الضبط، فصاروا يضغطون على من في عهدتهم من الفلاحين والعمال والصناع ويطالبونهم بالاجتهاد في العمل ويشتدون في عقابهم لأهون تقصير يرونه منهم.
وكان حمدان حين يبلغه هذا يأخذه العجب مما يبديه هؤلاء من التراخي والتواني وقلة الاهتزاز لهذا العدل الشامل الذي أجراه في بلاده، حتى يخيل إليه أنهم يتعمدون تحدي هذا النظام تعمداً، فكا يأمر بإحضارهم إليه ليعرف ما يدفع هؤلاء الناس إلى التقصير في عملهم، مع أنهم يجدون ما يكفيهم من طعام وكسوة.
جئ يوماً بفلاح ظهر منه التكاسل مرة بعد مرة، وكان معروفاً قبل ذلك بصلاح الحال ورجاحة الرأي بين جماعته، فلما مثل بين يديه قال له حمدان: (ألم أطعمكم من جوع؟).
فأجابه (بلى).
- ألم أكسكم من عري وأجعل لكم كنا صالحاً تأوون إليه؟
- بلى.
- ففيم تتكاسلون في أعمالكم؟ ألا تعلمون أن ذلك ضار بمصلحتكم؟
- بل نحن مجتهدون في عملنا ولا نقدر على أكثر مما نعمل.
- اصدقني الحديث ويلك؟
- أتعطي لي الأمان من غضبك؟
- نعم.
- إننا يا سيدي لا نجد في أنفسنا ميلاً إلى العمل لأننا لا نعمل لأنفسنا.
- ألا تعلمون أن عملكم هذا هو الذي منه تنالون رزقكم؟.
- بلى، ولكن أحدنا لا يشعر بأنه يعمل لنفسه ويأخذ كفاء عمله.
- فهل كنتم تأخذون كفاء عملكم إذ كنتم تعملون أجراء لملاك الأرض؟
- لا يا سيدي.
- فما كنتم تتكاسلون إذ ذاك هذا التكاسل!
- إن أردت الحق يا سيدي فإن أحدنا كان يعمل أجيراً لمالك الأرض يأخذ منه أجره كل يوم، فإذا تكاسل كان لمالك الأرض أن طرده من العمل جزاء تقصيره، فيذهب هو ليبحث عن عمل آخر يحرص على ألا يتكاسل فيه، فكان يشعر بأن في وسعه أن ينتقل من العمل عند سيد العمل إلى العمل عند سيد آخر. أما هنا فإن الأرض التي نعمل فيها كلها لمالك كبير واحد لا نقدر أن نجد عند  غيره عملاً، ولا هو يقدر أن يجد قوماً غيرنا عنده يعملون. وقد كنا نشعر أن السلطان هو الحكم بيننا وبين سادتنا إن ظلمونا. أما هنا فإن السلطان هو الخصم والحكم.
- فهل كان السلطان ينصفكم من ظالميكم؟
- قلما كان السلطان ينصفنا منهم، ولكنا كنا نشعر دائماً بأن لنا مطمعاً في ذلك.
- فأنتم اليوم في غنى عن ذلك الإنصاف لأن أحداً لا يظلمكم أو يغمطكم حقكم.
- بل نشعر بالظلم والغبن حين نرى كثيراً من الناس غيرنا يشاركوننا في ثمرة عملنا، بل يأخذون معظمها منا، دون أن يشتركوا في العمل.
- أما كان سادتكم الملاك يصنعون مثل هذا معكم؟
- بلى، ولكنا كنا نحسد مالك الأرض على ما تخوله أرضه من الريع وإن لم يشترك في العمل، أما هنا فقد قيل لنا إن الأرض أرضنا والعمل عملنا، فيعز علينا أن يتمتع بثمرة جهدنا سوانا ممن لا يملكون الأرض ولا يعملون.
- أليس عندك غير هذا من شيء تقوله؟
- والله لقد قلت الصدق كله نزولاً على أمرك واعتماداً على أمانك، ولوددنا أن لو كان في ملكنا أن نعمل خيراً مما نعمل ونبدي مزيداً من النشاط فيه. وطالما حاولنا أن نقنع أنفسنا بوجوب ذلك علينا فيعيينا، ولا نجد الانبعاث له من تلقاء أنفسنا، ولا ندري ما خطبنا إلا أن هذا واقع الأمر.
وقد استدعى حمدان كثيرين غيره من الفلاحين والصناع، فكان جوابهم لا يختلف عن جواب الفلاح الأول إلا في صيغته، فكان حمدان يقوم من مجلسه مغتماً.
- قال لعبدان ذات يوم: (ما تقول في هذا الذي تراه؟).
- هؤلاء يحنون إلى الظلم من طول ما عاشوا فيه، وهم يجتوون العدل لأنهم ما ألفوه.
- ولكنهم كانوا مبتهجين به في بداية الأمر.
- إنما كانت تلك لذة الانتقال من حال إلى حال، ولا يطول أمدها، وقد أخبر النبي عن قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
- أو تذكر النبي بعد يا فقيه الدعوة وأنتم لا تؤمنون به؟
- لا ضير أن نذكره حين نحتاج إليه، وإننا لا نستغني عنه.
- فقل إذن صلى الله عليه وسلم!
فسكت عبدان قليلاً واصفر وجهه وظهر عليه التخاذل ثم ابتلع ريقه وقال: صلى الله عليه وسلم وعلى الإمام المعصوم. هذا حديث ينطبق على حال هؤلاء، وما إخال النبي ألا يعنيهم.
- ألا تدع حيث النبي يشرحه من يؤمنون به، وتأخذ أنت في شرح أقوال إمامكم؟.
- ويحك يا حمدان إنك قائد الدعوة، وما ينبغي لمثلك أن يرتاب في أمامها الحق.
- إنكم قوم لا تعدلون.
- فيم يا ابن عمي؟
- لقد كنا نؤمن بنبينا والأنبياء من قبله فشككتمونا فيهم فما قلنا شيئاً، وجئتم بإمامكم الجديد فيغضبكم أن نشك ولو بعض الشك فيه. أفهذا من العدل؟
- ولكنك تعلم يا حمدان أن الناس إذا بلغهم أنك تشك في أمام فسينفضون عنه وعنك.
فهز حمدان رأسه وهو يقول: (دعنا من حديث الإمام فليس يشغلني أن يكون حقاً أو باطلاً).
- فماذا يشغلك؟
- إني أريد جنة لا يقاد الناس إليها بالسلاسل.
- ذلك مطلب بعيد المنال، فهذه طبيعة البشر لا تغلب.
- فما يمنعنا أن نجاري هذه الطبيعة في نظامنا؟.
- كلا، لا بد من كبح جماحها لصلاح الناس وسعادتهم.
- ففيم إذن أبطلتم الحدود في الشهوات وأطلقتم للناس فيها العنان؟
- ما يكون لنا أن نمنعهم من لذة تهفو إلهيا طبيعتهم.
- فهؤلاء كما رأيت وسمعت قد فقدوا لذة العيش في هذا النظام.
- دع عنك هذه الوساوس يا ابن عمي فلا ريب أنك قضيت على الظلم، وحققت العدل، إذ أقمت نظاماً جديداً لا سلطان للمال فيه. وإن هذا لهو الذي كنت تصبو إليه من زمن بعيد. فما عدا مما بدا؟
فتنهد حمدان ولم يجب.
وكان حمدان قد رفع عن الناس – من أول ما أجرى نظامه في دار الهجرة –الخمسين الصلاة التي كانوا يقيمونها، وقال لهم إن الإمام قد رضي عنهم فأسقطها مكتفياً بالصلوات الخمس.
فما اعترض منهم على ذلك معترض، إذ كانوا في ذلك العهد الأول مبتهجين بالنظام الجديد، مأخوذين بروعته، يعتقدون في كل كلمة يقولها فقيه الدعوة أو قائد الدعوة، لا يرون إلا أنهما يبلغان عن الإمام المعصوم فيسمعون ويطيعون.
وظل كثير منهم يقيمون الصلوات الخمس كعادتهم من قبل دون أن يعترض عليهم أحد، وإن كانوا قد لحظوا أن أبناءهم الصغار دون البلوغ، الذين تأخذهم الدولة لتنشئتهم على مذهب الإمام وتعلميهم بعض الحرف والصناعات، لا يعلمون الصلاة ولا شيئاً من الدين إلا العقيدة في الإمام، والإيمان بمذهب العدل الشامل، والخضوع لأوامر الرئيس الأعلى، والكراهية لمن سوى القرامطة من الناس، وأنهم جميعاً على ضلالة وكفر، وأن أموالهم وأملاكهم حلال لهم، فقد أباح الإمام الأرض كلها للقرامطة، وأن الظلم فاش في الأرض ولا يوجد العدل إلا في مملكة مهيما باذ، وأن مذهب العدل الشامل سينتشر في طبقات الأرض فتخضع الدنيا لمملكتهم وتسير على نظامهم.
فلما اشتد المديرون والمشرفون في محاسبة الفلاحين والعمال على تقصيرهم، ورأوا أن الصلوات الخمس تأخذ جانباً من وقت عملهم، أعلن الدعاة لهم أن الإمام قد رفع عنهم الصلاة جملة. ولكن ظل كثير منهم يصلون كعادتهم، فأمر عبدان بهدم المساجد ونودي في الناس بعقاب من يخالف أمر ترك الصلاة بحجة أن ذلك يدل على نقص الإيمان بأوامر الإمام، فامتنعوا عن الصلاة خشية العقاب إلا أن بعضهم استمروا يصلونها في بيوتهم على خوف وحذر. وما كان الأمر بترك الصلاة ليحدث ذلك السخط في نفوسهم لو بقي ابتهاجهم بالنظام الجديد كما كان. ولكنهم –وقد بدأوا يتململون من ضغطه عليهم وأخذه بمسالك حياتهم، وتفتحت عيونهم على مساوئه وعيوبه –شعروا بالألم الشديد لهذا الأمر، وغلب على ظنهم أن ذلك ليس من أوامر الإمام وإنما اشترعه عبدان ضنا بساعات عملهم أن تتحيف منها الصلاة.
وكان لهذا الأمر أثر بالغ في تذكيرهم بما سلبوا من حرية العقيدة وحرية العبادة، فزاد حنقهم على العهد الجديد، واشتد حنينهم إلى ذلك العهد القديم، حيث كانوا يجدون من طمأنينة الإيمان بالله ما يهون عليهم كل ما يلقون من جور، ويعانون من جهد ومتربة.
وأخذ التذمر يشيع في النفوس رويداً رويداً، فكان النفر من هؤلاء إذا وثق بعضهم ببعض ربما يتناجون به فيما بينهم على حذر من الرقباء قد يبلغ أحياناً إلى أن يندم أحدهم على نجواه خيفة أن يكون بين النفر الذين ناجاهم عين من عيون جلندي الرازي رئيس الجلاوزة العتيد. على أنهم ليحمدون الله على قلة ما يتاح لهم من فرص التناجي، إذ كان لكل امرئ منهم من عمله الدائب تحت الرقابة الصارمة ما يشغله فيعصمهم ذلك من خطر الانزلاق في هذه المهاوي التي لا يؤمن شرها، وإن حرمهم لذة في التشاكي تحن إليها نفوسهم!
وأصبحوا ذات يوم فإذا إشاعة عجيبة ما ملكوا أنفسهم أن تهامسوا بها إذ سمعوا أن عطيفاً النيلى عامل الحدود قد قبض عليه ثم اختفى أثره. وكثيراً ما سمعوا قبل ذلك بمقتل أمثاله من الزعماء واختفائهم من الوجود، فما كانوا يهتمون به. ولكنهم اهتموا بأمر عطيف لاتصاله فيما سمعوا بحادث غريب أثار فيهم الفضول التطلع، إذ يتعلق ببيت رئيسهم الأعلى.
ثم سمعوا أخباراً عجيبة عن أخت حمدان الجديدة: أنها لا تدين بمهذب الإمام، وأنها تندد بفساده أمام أخيها حمدان، وأن بعض النسوة في العاصمة قد افتتن بها، ورجعن عن مذهب الإمام بسببها، وأن حمدان اعتقلها في قصرها وعزلها عن الناس.
16


كان هذا كله يجري في مملكة العدل الشامل، وأن الحوادث لتجري فيما وراءها من البلاد التابعة بعد لدولة الخلافة العباسية، لكنها لا تصل على حقيقتها إلى أهالي مملكة مهيما باذ، إذ كانوا في معزل عن العالم من حولهم، إن سمعوا عنه شيئاً فكأنه صدى يأتيهم من عالم بعيد.
فإنه لما أعلن المعتضد سياسته الجدية على منهج أبي البقاء ثار أغنياء بغداد وكبار ملاكها، ومعهم الوزراء المستوزرون، وانضم إليها بعض الفقهاء بدعوى أن في ذلك تجاوزاً للحكم الشرعي في الزكاة. ولكن المعتضد قاومهم جميعاً، وبدأ التنفيذ بالقوة وقبض على زعماء الحركة المضادة. وبعض تجار اليهود الذين يقومون سراً بتأييدهم، وكان هؤلاء يقولون له: (حارب القرامطة بدلاً من محاربتنا) فيقول لهم قولة واحدة: (لولا هذا الظلم الذي تستثمرونه لما ظهرت فتنة القرامطة ولا غيرهم)، وقد بلغ من اشتداد هذه الحركة وخطرها أن دبروا لخلع المعتضد، وتولية الخلافة لأحد الأمراء من ولد المعتمد. لولا أن المعتضد كشف سر هذا الائتمار فأحبطه، وعاقب المشتركين فيه. وفيهم بعض قواده الأتراك وبعض الوزراء.
وكان لشخصية المعتضد وشجاعته وحزمه فضل عظيم في السيطرة على الأمر، كما كان لجهاد أبي البقاء، وإخلاصه لمنهاجه، والتفاف عامة الناس حوله، عون كبير للمعتضد. ولكن الصعوبة ظهرت في تطبيق المنهاج، إذ كان كثير من الذين أسند إليهم القيام به يتقاعسون عنه، ويتضح أنهم يرتشون من الأغنياء، فيعزلون ويولّى غيرهم مكانهم، فلا غرو أن تعذر تطبيق النظام الجديد في كور بغداد وأعمالها إلا بعد انصرام عام كامل.
وقد كان في عزم أبي البقاء أن يبدأ بتطبيق النظام في منطقة الكوفة أولاً حيث تقوم مهيما باذ عاصمة القرامطة، غير أن ما أبداه أغنياء بغداد من المقاومة الشديدة لهذه السياسة جعله يعدل عن ذلك، ويرى الأخذ بتطبيقه في منطقة بغداد أولاً هو الأصوب، حتى ينهار مركز تلك المقاومة، ثم يزحف النظام رويداً رويداً صوب الجنوب إلى أن يصل إلى منطقة الكوفة ثم يشمل بلاد الدولة كلها فتحاط مملكة حمدان بهذا النظام الجديد من كل جانب. فاستصوب المعتضد رأيه وجرى عليه.
وفي خلال ذلك اكتفى المعتضد بأن أمر عماله في النواحي المتاخمة لمملكة حمدان بالاستعداد لمقاومة القرامطة إن جنحوا للحرب. وبالقبض على دعاتهم الذين ينشرون المذهب القرمطي في نواحيهم، أما عامة الناس من الفلاحين والعمال وغيرهم فيتركون ولا يمسون بسوء، وإن اظهروا ميلاً إلى القرامطة، ما لم يقم أحمدهم بدعوة سافرة إلى الخروج على الدولة. وقد نتج عن هذه السياسة التي التزمها المعتضد أن بعض القرى المجاورة للملكة حمدان قد يستشري في أهلها المذهب القرمطي حت لا يمكن كبح جماحهم إلا بإبادتهم، فيشير المعتضد بترك أهلها ينضمون إلى مملكة مهيما باذ إذا شاءوا، فكان أن أمتد جنوباً. ومن مشارف صحراء الشام غرباً، حيث فشا في بعض عربان الصحراء، إلى حدود واسط شرقاً.
وكان المعتضد ربما يبدو له فيعزم على محاربة حمدان وإخضاعه بالقوة حين يروعه ازدياد نفوذه، وامتداد سلطانه، خشية أن يبتلع الدولة كلها، فيراجعه أبو البقاء ويقنعه بأن ذلك ليس في مصلحة دولة الخلافة، لأن القضاء على مهيما باذ بقوة السلاح، حري أن يجلب عطف أولئك العامة على القرامطة، وأن يمثل حمدان في عيونهم نصيراً للعدل، ألوى به بطش القوة الغاشمة، ويؤكد له أن النظام القرمطي لا يمكن أن يبقى طويلاً إذا جاوره نظام العدل الإسلامي الصحيح، فالرأي أن يترك حمدان وشأنه حتى تنهار مملكته من تلقاء نفسها حين تنزع بأهلها سلامة فطرتهم فيثورون على ذلك النظام القائم على الإلحاد ومغالبة الفطرة الإنسانية . فيقتنع المعتضد ويعدل عما عزم. ومما شجعه على المضي في هذه السياسة ما رأى من حمدان قرمط من توقي الحرب، وما أنهى إليه كرامة بن مر وإلي الكوفة أنه ترامى إليه من عيونه أن عبدان وغيره من زعماء القرامطة يلحون على حمدان بشن الحرب على الدولة، وأن حمدان لا يقرهم على رأيهم، ويصمم على ألا يحارب الدولة إلا إذا بدأته الدولة بالحرب.
واستمر نظام أبي البقاء يزحف صوب الجنوب، وصوب الشمال، من بلد إلى بلد ومن ناحية إلى ناحية، حتى وصل شمالاً إلى منطقة الموصل، وجنوباً إلى منطقة الكوفة والنجف، في مطلع العام الرابع من تأسيس دار الهجرة القرمطية، ومن عجائب الأمور أن ينتهي تطبيق هذا النظام في منطقة الكوفة إلى القبض على جماعة من الأغنياء المقاومين له، فيكون بين هؤلاء حليف لحمدان، هو إسرائيل بن إسحاق، وعدو له هو الهيصم.
17


كانت أبناء حركة أبي البقاء هذه، وتأييد الخليفة لسياسته القائمة على تنفيذ أحكام العدل الإسلامي الصحيح في أنحاء مملكته، تتسرب إلى مهيما باذ والمناطق التابعة لنفوذها، فيسخر منها القرامطة، ويتندرون عليها، ويقوم دعاتهم بتشويهها للناس ويقولون لهم: (إن هذه الحركة التي يقوم بها أبو البقاء ويؤيدها الخليفة لإجراء العدل الجزئي في بلاده، إنما يقصد بها تثبيط الناس عن الاستجابة لدعوة الحق ومذهب الإمام القائم على العدل الشامل، مما يراد بها زعزعة عقيدتكم الراسخة في الإمام وإيمانكم بمذهبه حتى إذا تم لأولئك الظلمة ما أرادوا من ذلك وتم لهم هدم دولتنا ونظامنا –لا سمح الله ولا سمح الإمام المعصوم –عادوا بالناس إلى ظلمهم القديم).
كان هذا في بداية الأمر، حين كان النظام لا يزال في زحفه البطيء صوب الجنوب بعيداً عن بلاد القرامطة. فلما اقترب منهم، وصارت أنباؤه تأتي إليهم مفصلة تنطق بفضله على الناس، وفرحهم به، ولا سيما الطبقات الدنيا من الفلاحين والعمال والصناع، ثار ثائر زعماء القرامطة، وأوجسوا خيفة من تأثيرها في أهل بلدهم أن تفتنهم عن مذهبهم، وتميل بهم عن الولاء لملكة العدل الشامل. وكان الشعور بخيبة الأمل والتذمر من سوء الحال قد شاعا في نفوس الطبقات العاملة عندهم، وما يمسكها عن الانفجار إلا خوف هؤلاء من بطش حكامهم الذين لا يرحمون.
فتشاور عبدان وحمدان في هذا الأمر، واشترك معهما بعض وجوه القرامطة، فاجتمع رأيهم على منع تسرب هذه الأخبار إلى بلادهم لئلا يفتتن بها أهلها، فأمر حمدان بإقفال حدود مملكته بحيث لا يدخلها أحد من غير أهلها، ولا يخرج منها أحد من أهلها، ولكن بعض الأنباء كانت تتسلل مع ذلك إليهم، فمنع حمدان انتقال رعاياه من بلد إلى بلد آخر في مملكته لئلا يتناقلوا ما سمعوه، وحظر عليهم كذلك أن يبعثوا رسائل إلى أهلهم خارج المملكة أو أن يتلقوا مهنهم رسائل. وقد كان ذلك مباحاً لهم من قبل، إذ كانت رسائلهم تفيض بذكر حسنات النظام القرمطي، ووصف ما يتمتعون به من سعادة ونعيم، وتحرض أهلهم أو أقاربهم على الفرار بأنفسهم من دار الظلم إلى دار العدل الشامل، أما اليوم فقد منعوا من ذلك منعاً باتاً، وأصبحت حتى الرسائل التي يتبادلونها في داخل مملكة مهيما باذ لا تسلم من عين الرقيب.
وما انفك دعاتهم، حتى بعد إقفال حدود البلاد يكررون على أسماعهم أن هذا الذي أجراه الخليفة في بلاده، إنما هو خدعة لطوائف المظلومين هناك وتعلة لهم لئلا يفروا بأنفسهم إلى مملكة العدل الشامل. فإذا تخابث بعضهم وقال للداعي: (فما بال المهاجرين انقطعوا عن بلادنا منذ حين؟) أجابهم الداعي: (نحن منعنا دخولهم وأقفلنا حدود البلاد في وجوههم إذ اتضح لنا اليوم أن السلطان قد شدد في الحيلولة بينهم وبين الهجرة إلينا، فصار لا يقدر على ذلك إلا أولئك الذين يرسلهم هو بصورة مهاجرين ليتجسسوا علينا) فيقولون له والريبة في عيونهم: (فما الحكمة في منعنا من الخروج إلى بلاد السلطان) فيجيبهم وهو يكظم غيظه: (إن الحرب توشك أن تنشب بيننا وبينهم، فخشينا على رعايانا إذا قامت أن يمسهم الأذى في بلاد العدو).
فيقولون له: (فإنا قد حظر علينا أن ننتقل من بلدنا إلى بلد آخر في مملكتنا) فيقولون لهم: (إنهم قد تناهى إلى أولي الأمر أن كثيراً من جواسيس السلطان قد تسللوا إلى بلادنا فهم اليوم بين ظهرانينا ولا نعرفهم، فإذا لزم أهل كل بلد أو قرية بلدهم أو قريتهم كان ذلك أحرى أن يتعارفوا بينهم فينكروا الغريب إذا طرأ عليهم ويعرفوه عسى أن يكون جاسوساً) فإذا بعل بمساءلتهم قال لهم غاضباً: (ويلكم أتريدون أن تعرفوا الحكمة في كل أمر من أوامر الإمام المعصوم؟ والله لئن بلغ فقيه الدعوة لجاجكم هذا ليأمرن بقطع ألسنتكم) فيظهرون الاقتناع بكلامه وقلوبهم تنكره.
18


وبلغ حمدان ذات يوم أن قربتين في حدود واسط قد خلعتا طاعته وعادتا إلى سلطان الخليفة، وأن عامليه عليهما قد قتل أحدهما بأيدي العامة، ونجا الآخر بنفسه من بطشهم. ثم بلغه أن كثيراً من الفلاحين المقيمين في الأطراف قد تسللوا هاربين إلى بلاد الخليفة، فما اغتم لذلك ما اغتم لرسالة وردته من الحسين القداحي من سلمية يطالبه فيها بإضعاف ما يرسله من جزية الإمام هذا العام، ويؤكد له ما أمره الإمام به من شن الحروب على المعتضد، وأنه لا يقبل في ذلك عذراً ولا مراجعة، وإلا فإن الذي ولاه قيادة الدعوة لقادر على أن يخلعه ويوليها غيره. وكان عبدان قد أخفى عنه هذه الرسالة أياماً لا يجرؤ أن يقرأها عليه، خشية أن يثير غضبه، لما ورد بها من ذكر الحرب وهو يعلم أن حمدان لا يزال يتهمه بأنه هو الذي كاتب الحسين بهذا المعنى، إذ كان ذلك من رأيه على خلاف رأي ابن عمه. ولكنه لما سمع بانتفاض القريتين على حكم مهيما باذ، وتسلل فلاحي الأطراف إلى بلاد الخليفة، رأى الفرصة سانحة لمراجعة حمدان في رأيه بصدد الحرب، فأظهر له كتاب نائب الإمام وقال له: (ما بقي لك مجال للتردد بعد ما رأيت الأمور تسوء بنا إلى هذا الحالة، فإن لم تبادر إلى الحرب فعلى مملكتنا العفاء).
فغضب حمدان غضباً شديداً وقال له: (قد صح عندي اليوم ما ظننته فيك. إنك تأتمر بي مع هؤلاء القداحيين الأوغاد).
- من لي بما يكشف لك يا ابن عمي أن ما ظننته بي غير صحيح البتة؟.
- فما منافحتك عنهم وإيثارك إياهم علي؟ وما تهديدهم بخلعي وتولية غيري؟ فمن ذلك الغير إلا أنت؟
- أتحسبني يا حمدان أرضي أن تخلع بي؟ والله لئن خلعوك لأخلعن طاعتهم.فنظر إليه حمدان ملياً ثم قال: (ألم يكاتبك الحسين ببعض هذا في رسالة خاصة).
فتلجلج عبدان قليلاً ثم قال: (بلى، فمن أخبرك؟).
- أخبرني الذي أخبرني فهل ساءك أن علمت؟.
- والله ما منعني من إطلاعك عليها إلا خوفي أن ترتاب.
- فقد زدتني بإخفائها ارتياباً.
- لو اطلعت على ما رددت به على رسالته لقلت غير هذا.
- ماذا قلت له في ردك؟.
كشفت لي رسالته أنه يكيد لنا، ويريد أن يفسد ما بيننا، فشككت في إخلاصه فكتبت إليه أن يخبرنا عن مقر الإمام المعصوم ويرينا وجهه وإلا فإنني وإياك لا نتقيد بأوامره.
فتهلل وجه حمدان وقال: (أوكتبت إليه بذلك؟).
- أي والله وسأريك الساعة جوابه على كتابي.
- ما أراني كنت إلا ظالماً لك، فهب لي يا ابن عمي ما كان مني.
- لا تثريب عليك يا حمدان.
ثم أطلعه على جواب الحسين له، فإذا فيه أن الإمام المعصوم قد أذن لعبدان وحمدان أن يطلعا على سره. ويريا وجهه، لما لهما من قدم وفضل في الدعوة، فليشخصا إلى سلمية ليكون لهما هذا الشرف.
فقال حمدان: (أخشى أن تكون هذه خدعة من الحسين).
قد خطر لي مثل ما خطر لك، فإن شئت شخصت أنا إليه وبقيت أنت هنا حتى ترى ما يكون من أمري معه.
- ولكني أخشى عليك أيضاً منه.
- كلا، لا خوف علي منه. إنه إن نوى الغدر فإياك يريد.
19


كان عبدان قد هاله نجاح نظام أبي البقاء في منطقة الكوفة وأيقن أن مملكة العدل الشامل مقضي عليها إن لم يبادر حمدان بمحاربة الخليفة. وقد يئس من إقناع حمدان بذلك، فرجا أن يكون في مقابلته للإمام المعصوم، إن تم له ذلك، ما يرفع عن حمدان الشك في أمره فيطيعه فيما أمر به. ولذلك لم يتردد في الشخوص إلى سلمية بعد أن نال موافقة حمدان عليه.
فاستدعى حمدان ذكرويه وأخبره بنية عبدان، وكلفه أن يرافقه مع جماعة من رجاله الأشداء، وألا يغفلوا عن حراسته في سفر أو حضر، حتى يعودوا به سالماً إلى مهيما باذ. وقد كتموا خبر سفر عبدان عن الناس، فلم يعلم به إلا نفر من وجوه القرامطة.
ومر عبدان في طريقه بصحراء الشام، فوجد أهلها يعظمون ذكرويه ويهابونه ويأتمرون بأمره، لا يشذ منهم عن ذلك أحد فسره أن يرى نفوذ القرامطة لا يزال قوياً في هذه الناحية، كأنما لم يسمع أهلها بانتشار نظام أبي البقاء وتهديده لسلطان مهيما باذ.
فلما كانوا على أميال من سلمية استقبلهم رسول الحسين، فقادهم إلى ضيعة لآل القداح هناك، فنزلوا واستراحوا، وأعد لهم الطعام فأكلوا ، حتى إذا كان المغرب ظهر لهم الحسين فحياهم ورحب بهم، ثم اختلى بعبدان في علية له تطل على روضة غناء، فتشقق الحديث بينهما في شئون الدعوة، وذكريات الأيام التي قضاها عبدان في سلمية في عهد والد الحسين، وغير ذلك. ثم سأله الحسين عن حمدان وسبب تخلفه عن الحضور لرؤية الإمام المعصوم، فاعتذر له عبدان بأن الحال في مهيما باذ لا يسمح له بمغادرتها، بعد ما صار النظام الجديد الذي أجراه المعتضد يتهددها من كل جانب.
فأجابه الحسين والغضب في وجهه: (تلك عاقبة عصيانه لأمر الإمام!).
- أرجو أن يكون في رؤيتي لوجه الإمام ما يشرح صدر حمدان للعمل برأيه.
- أتريد حقاً أن ترى وجه الإمام؟
- نعم، ما قدمت إلا لهذا الغرض.
فضحك الحسين ضحكة أنكرها عبدان في نفسه، ثم قال: (فقد جئت إذن لترى الإمام؟).
فقال عبدان: (سبحان الله، أما دعانا الإمام لذلك فأجبنا؟).
فمضى الحسين في استضحاكه وهو يقول: (قد جاء فقيه الدعوة من مهيما باذ ليمتع عينيه بشهود وجه الإمام!).
- نعم فأين هو؟
- أغمض عينك!
فأغمض عبدان عينيه ثم قال له الحسين: (افتحهما).
ففتح عينيه وقال: (أين هو؟).
- عجباً أتقول أين هو وأنت الساعة بين يديه؟
- إني لا أرى أحداً سواك.
- فإني أنا الإمام!
- أنت!
- بعد وفاة أبي انتقلت الإمامة إلي.
- كان أبوك رحمه الله – نائب الإمام لا الإمام.
- فمن كان الإمام؟
- رجل مستور من أهل البيت من ولد محمد بن إسماعيل.
- فأنا هو.
- كلا لست من ولد محمد بن إسماعيل ولا من أهل البيت، وإنما جدكم عبد الله بن ميمون القداح.
- ماذا تقول في جدي عبد الله بن ميمون القداح؟!
- ماذا أقول في مؤسس دعوتنا وخادم الإمام؟
- بل كان هو الإمام عينه. وقد توارثنا الإمامة عنه.
لكنه ما ادعى هذا لنفسه.
كان ذلك تقية منه، وما كشف عن حقيقته إلا لصفوة أصحابه، وقد ظننتك من الصفوة فكشفت لك أمري، فإذا أنت كالدهماء ما تزال مفتوناً بالنسب العلوي!
فسكت عبدان قليلاً وقد تغير وجهه وجعل يلهث ثم قال: (إن كنت تريد أن تكون الإمام فأي شيء يميزك على غيرك؟).
- علمي ومعرفتي بالمذهب.
- أنا أعلم منك وافقه!
- كان والدي أعلم منك وافقه وعنه ورثت الإمامة.
- نحن في مذهب العدل الشامل لا نورث المال فكيف نورث المواهب والصفات؟
فصوب إليه القداحي نظره ملؤها الحقد والقسوة، وقال بلهجة صارمة: (إني ما طلبتك لأستجدي الإمامة عنك، فإني الإمام ولا إمام غيري، ولو شئت أن أخلعك وأخلع ابن عمك فتعودا كما كنتما فلاحين حقيرين لفعلت!).
- لقد صدق حمدان إذ قال: إنكم طلاب مال وملك، وإنما اتخذتم اسم الإمام قناعاً تخدعون به الناس، ولا وجود له.
- إن أردت إماماً غيري فلا وجود له.
- فنحن إذن برءا منك.
فضحك الحسين متهانفاً وقال: "أبعد ما ملكتم رقاب الناس باسمي تقول لي هذا؟".
- كلا ما ملكناهم إلا باسم العدل الشامل.
- باسم العدل الشامل! أمن العدل الشامل أن تسلبوا الفلاح والعامل ثمرة جهدهما لتكنزوا لأنفسكم قناطير الذهب والفضة؟.
- كذبت! إنا لا نكتنز لأنفسنا شيئاً.
- فأين الأموال التي يجمعها حمدان؟ أيهربها خارج مملكته فيشتري بها أملاكاً وضياعاً؟
- أنتم تفعلون ذلك بالجزية التي تأخذونها كل عام، فوالله لنقطعنها منكم.
- أتذكر الجزية المحدودة وتنسى القناطير المقنطرة التي تحت أيديكم؟.
- هي محفوظة في خزانة الدولة لا يمسها حمدان ولا غيره، في سبيل مصلحة الجميع.
- بل أنتما أسوة غيركما من زعماء مهيما باذ في تسريب الذهب إلى أهليكم خارج المملكة.
- كلا، ما يفعل ذلك منهم أحد.
- ما تقول في ذكرويه، أليس من خير رجالكم؟.
- بلى. ما خطبه؟
- ما برح يرسل الذهب إلى أبيه وإخوته، حتى ابتاعوا الضياع الواسعة في أرض البلقاء، وإن كانوا من قبله لصعاليك.
- هذا بهتان منك. إنما أردت أن تفرق بين قلوبنا بدسك ونميمتك.
- بل تعرفون ذلك جيداً وإنما يتغاضى بعضكم عن بعض.
فضاق عبدان بحديثه ذرعاً ونفد صبره فقال له: (هبنا نفعل ذلك فماذا أنت تريد؟).
- أريد نصيب الإمام الذي نلتم كل هذا باسمه.
- قد خلعنا طاعته فلن يأتيه منا درهم واحد!
- لتندمن وشيكاً على مقالك.
- أتهددني؟
- بل أنذرك!
فنهض عبدان من مجلسه غاضباً فقال له الحسين: (إلى أين؟).
- إلى مهيما باذ.
- ألا تبيت عندنا الليلة؟
- لا والله لا أبيت عند قوم غادرين!
ومشى عبدان جهة الباب فإذا ذكرويه واقف دونه والسيف في يده.
- أنت هنا يا ذكرويه؟
- نعم يا فقيه الدعوة، هذا أمر حمدان قائدنا ألا أغفل عنك.
فبدره الحسين قائلاً: (لا تدعه فقيه الدعوة ويلك! فقد خلعناه).
فقال ذكرويه: (أنا من شيعة حمدان لا طاعة لغيره علي).
- قد خلعت حمدان فلا طاعة له عليك ولا على غيرك.
- حمدان رئيسنا لا نعرف سواه.
فقال عبدان وقد أشرق وجهه: (بارك الله فيك يا ذكرويه) ثم التفت إلى الحسن وقال (أمثلك يا قداحي تخلع حمدان؟ انتظر قليلاً تر ما يسوءك منه).
فقال له الحسين: (بلغ ابن عمك إن وصلت إليه حياً أن غضبي سيحل عليه، ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى!).
20


انطلق عبدان مع ذكرويه ورجاله في غلس الظلام قافلين إلى مهيما باذ. وكان الحديث يدور بينه وبين ذكرويه في شأن هذا القداحي الذي يدعي أنه الإمام المعصوم، وكيف أن حمدان كان صادق الحدس في أمره. فكان ذكرويه يصدقه في قوله، ويبالغ في ذم الحسين وأهل بيته الدجالين الطماعين. حتى إذا وصلوا إلى قرية في بعض الطريق عند الثلث الأخير من الليل قال ذكرويه: (هؤلاء قوم من شيعتنا، فلو نزلنا عندهم نطعم ونستريح حتى يصبح الصباح) فوافقه عبدان وقال له: (أنت أمير الركب فانزل بنا حيث شئت).
فتقدمهم ذكرويه إلى دار كبيرة كأنها حصن من الحصون، فربطوا جيادهم في فنائها، وهم صامتون لا يتكلمون. ودخل الدار يتقدمهم ذكرويه بشمعة في يده تضيء لهم الطريق، فإذا الدار خالية ليس فيها أحد. فلما توسطوها أطفأ ذكرويه الشمعة، فلم يشعر عبدان إلا بالقوم قد شدوا عليه فجروه في الظلام الدامس وهو يصيح: (ذكرويه! يا ذكرويه!). فلا يجيبه أحد حتى القوه في سرداب مظلم لا يرى فيه شيئاً، وإنما سمع صرير باب قد أغلق عليه، وخفق أرجلهم منصرفين عنه، ثم لم يسمع بعد ذلك شيئاً، فأيقن عبدان أن القوم قد غدروا به، وأن ذكرويه قد تواطأ مع الحسين القداحي، وألا سبيل إلى الخلاص من أيديهم. وأستشعر رهبة من ذلك الظلام وخيل إليه أنه سيقضي الدهر فيه. ثم تذكر الصباح، فاطمأن قليلاً، ورأى أن يتذرع بالصبر حتى يسفر النهار فيرى ما يكون من أمرهم معه.
وبات برهة يتحسس الجدران فلا يجد فيها منفذاً إلا الباب الحديد المغلق. ثم غلبه الجهد فنام حيث انطرح من الأرض. وما راعه عند الضحى إلا أحد الجماعة قد دخل عليه ذلك السجن وهو شاكي السلاح، فما حياه ولا سلم عليه، وإنما أوصد الباب من خلفه، ثم جلس على الحصير قريباً منه، وفي يده سوط يلعب به، فجعل عبدان يقول له: (ويلكم، ما هذا الذي صنعتم بي؟ أين ذكرويه؟). فما أجابه الرجل على شيء من ذلك، وإنما ضرب السوط على الحصير كأنه يسكته بذلك ثم قال له: (العن حمدان.. تبرأ من حمدان!).
فعجب عبدان من قوله وأراد أن يسأله: ما دفعهم إلى ذلك؟ فما استمع له الرجل وإنما ضرب الحصير بالسوط ثانية وأعاد قوله الأول، ثم استمر الرجل في صنيعه هذا يضرب الحصير ويقول: (العن حمدان.. تبرأ من حمدان!) وعبدان ذاهل لا يدري ما يقول والرجل يوالي صنيعه بدون انقطاع حتى فقد عبدان صوابه فغشي عليه. ولما أفاق عند الظهر وجد أمامه رجلاً آخر من الجماعة، قد أخذ يصنع معه مثل ما صنع الأول، حتى إذا كان المغرب، خرج الثاني ودخل ثالث منهم، فصنع كالأولين، وقد أظلم المكان فجيء بشمعه تضيئه ثم جاء الرابع ثم الخامس ثم السادس ثم لم يدر عبدان كم عددهم، كلهم يصنع الصنيع ذاك ثم يقوم ويخلفه غيره طوال الليل، لا يدعون له فرصة لكلمة يقولها، أو نعسة ينعسها، أو شربة ما ء يطلبها فما ثم إلا الحصير يضرب والكلمة تقال: (العن حمدان، تبرأ من حمدان!).
فما أصبح الصباح من اليوم التالي حتى انتفض عبدان وجعل يشد شعره كالمجنون وهو يصيح: (ملعون حمدان! أنا بريء من حمدان! ملعون حمدان! أنا بريء من حمدان!).
فكفوا عنه حينئذ وأطعموه وسقوه. وغلبه النعاس فنام ولم يستيقظ إلا العصر فإذا بذكرويه قد دخل عليه، فأراد عبدان أن يقول له شيئاً فما استمع له ذكرويه بل قال له: (أمسك لسانك. أنت هنا تؤمر فتطيع دون توقف أو اعتراض، وإلا فعل بك مثل اليوم الأول. أفهمت يا فقيه الدعوة؟) فلم يقل عبدان شيئاً، وإنما أشار برأسه أن نعم، وعلى وجهه دلائل الحيرة والانكسار.
21


أما حمدان فقد قلق على ابن عمه لما طال غيابه بسلمية، ولم يتلق منه رسالة أو يسمع عنه خبراً. فأخذت الهواجس تلعب بخاطره، وأشفق أن يكون القداحي قد غدر به ولكن أين ذكرويه وجماعته؟ أتراه قد بيتهم جميعاً فلم يسمع عنهم أحد؟ ولكنه استبعد هذا الخاطر لعلمه أن جل القبائل الضاربة في طريقهم إلى سلمية من صحراء الشام تدين لذكرويه، ولا ريب أنها قد علمت بوجهته مع فقيه الدعوة، فلو نزل بهما مكروه لرابها طول غيبتهما، فبحثت عنهما وعن رفقتهما.
فعزم على أن يرسل جماعة من الفرسان ليعلموا له علم عبدان. وأنه لسبيل إنقاذهم لذلك إذ جاء رسول من عبدان فاستقبله فرحاً به، فلما قرئت الرسالة عليه إذا فيها بعد الديباجة:
(أما بعد فقد رأيت وجه الإمام المعصوم حيث كان في موضع حجابه الأقدس، فشملني برضوانه ورعايته، واصطفاني وأدناني، أما أنت يا حمدان فقد لعنك الإمام، وخلعك عن قيادة الدعوة ورياسة مهيماباذ، وتبرأ منك ومن سوء عملك وعصيانك لأمره الذي هو من أمر الله، وإني قد وجدته مطلعاً على ما أسررت وأعلنت، فقد نعى عليك ضعف إيمانك بوجوده، وقلة يقينك في مذهب العدل الشامل، وتسترك على أختك الكافرة بالإمام، وإيوائك إياها في قصر من قصورك، وهي تسب المذهب وتلعنه، كما تشاء، وتفتن نساء مهيماباذ عن دينهن، أما قاصمة الظهر التي استوجبت بها الطرد من رحمته، والفصل من شيعته، واللعنة الدائمة إلى يوم الدين، فهي تقاعسك إلى اليوم عن محاربة دعي بني العباس حتى فشا أمره وتفاقم على مملكة العدل الشامل خطره، ففرطت بذلك في الأمانة التي في عنقك. وقد ولى ذكرويه السلماني مكانك، فانزل له عن منصبك طائعاً قبل أن تنزل عنه راغماً. وإني لألعن من لعنه الإمام وأتبرأ ممن تبرأ منه. وعزيز علي أن آتي ذاك المكان قرابتك مني، ولكن الحق أحق أن يتبع. والسلام على من اتبع الهدى).
فطغى على حمدان الذهول، وملكته الحيرة فانعقد لسانه، وظل ملياً يعض شفتيه ويفرك راحتيه إحداهما على الأخرى، فأشفق قارئ الرسالة، وامتلأ قلبه رعباً وخشية، وجعلت الرسالة تضطرب في يده حتى اجتذبها حمدان منه. فقد وقع في نفسه إذ ذاك أن الرسالة قد تكون مزورة على عبدان. ولكنه لما تأملها لم يبق عنده شك في أنها بخط عبدان وتوقيعه. فزادت حيرته. فصرف القارئ وخلا بنفسه وجعل يتساءل ملياً ماذا دفع ابن عمه إلى ذلك. ثم انجابت عنه الحيرة شيئاً فشيئاً كلما تذكر أمراً من الأمور التي كان عبدان على خلاف معه فيها، كاختلافهما في حرب المعتضد، ووجود الإمام، إرسال الجزية إليه، وبقاء عالية في مهيما باذ، وغيرها. وتذكر رسالة الحسين الخاصة وكيف أخفاها عبدان في أول الأمر عنه ثم رسالته الثانية التي دعاه فيها إلى مشاهدة الإمام جواباً لكتاب عبدان إليه. فأيقن أن عبدان قد خانه وتواطأ مع القداحي وذكرويه عليه. فتنزى قلبه من الألم لهذه الخيانة من أبن عمه الذي رباه صغيراً وتولاه كبيراً وزامله في الجهاد لتحقيق العدل الشامل، وكان يثق به الثقة كلها. ولكنه طوى الألم في صدره، ونهض متجلداً، ودعا ابنه الغيث وقال له: (هلم إلى الصيد).
ولما رجع من صيده دعا جلندي الرازي وبعد أن قص عليه ما كان من عبدان قال له: (أما رابك شيء من جهة عبدان قط؟)
فقال جلندي: (لا والله ما علمت عليه إلا الإخلاص لك).
- لعلك غفلت عنه لمكانه مني وثقتي به.
- كلا ما غفلت عنه، وإن لي لعيوناً عليه وما إخاله يغدر بك إلا مكرهاً.
فأمره حمدان أن يرسل من خاصة رجاله من يستقصي خبره.
وقد أدرك حمدان أن ذكرويه لا يلبث أن يثير أتباعه في صحراء الشام ليغير بهم على مهيما باذ وأن القداحي سيعاونه بالمال والنفوذ، فخطر له أن يعالجه فيجرد عليه حملة تخضع أولئك الأتباع لسلطانه، فيفسد بذلك على القداحي تدبيره، ولكنه آثر أن يتريث قليلاً حتى يستيقن بعد من خيانة عبدان التي يعز عليه أن يصدق بها على توافر الأدلة التي تثبتها.
ولم يغفل في أثناء ذلك عن تصريف شئون دولته. والتيقظ لما يهددها من ناحية الخليفة المعتضد. على أن اهتمامه بهذا الخطر لم يعد شغله الشاغل كما كان من قبل. إذ صار أهم منه عنده أن يحول دون بلوغ القداحي وتابعيه الخائنين ما يريدون. فشرع يحول كثيراً من الجند، الذين كان أقامهم على الحدود لمواجهة خطر السلطان، إلى حيث يرابطون تلقاء صحراء الشام، ليكونوا على أهبة لمنازلة خصومه الجدد.
وأخذ العيون الذين أنفذهم جلندي الرازي لتقصي أخبار عبدان يرجعون واحداً بعد واحداً، فيقصون على حمدان أغرب الأنباء عن عبدان وذكرويه. واتفقت رواياتهم على انهم شاهدوهما يطوفان بأحياء البادية، من أتباع المذهب وغيرهم، ومعهما براءة من الإمام المعصوم بخلع حمدان ولعن من يواليه، فكلما نزلا عند قوم منهم قرأ عليهم ذكرويه براءة الإمام، ثم يقوم عبدان خطيباً فيهم فيذكر مثالب حمدان وكفره بالمذهب وخروجه على طاعة الإمام وتقاعده عن محاربة المعتضد، ثم يحرضهم على النهوض لمحاربته حتى ينزعوا حكم مملكة العدل الشامل من يده ليليها صاحبهم ذكرويه الرئيس الجديد الذي عينه الإمام المعصوم مكان حمدان المخلوع، فإنهم إن فعلوا ذلك أنقذوا مملكتهم من الوقوع في قبضة المعتضد نصير الظلم وحامي سلطان المال، وإلا فعلى مملكة العدل الشامل العفاء.
وكانت الأحوال في مملكة حمدان تزداد سوءاً كل يوم، فالقرى الواقعة في الأطراف تنتقض عليه، فتطرد عماله أو تفتك بهم، والفلاحون والعمال وغيرهم يتسللون ما أمكنهم فيهربون، من لا يقدرون على ذلك منهم يتململون ويتذمرون، وقد ازداد توانيهم عن أعمالهم وتواكلهم فيها، فيضربون على ذلك ويجلدون ولكنهم لا يبالون. وعادوا في بعض الدساكر والقرى يقيمون الخمسين الصلاة ليتشاغلوا بها عن العمل المفوض عليهم ويقولون: (هذه فريضة الإمام المعصوم لا ننقطع عنها لقول أحد) فإذا عوقبوا على ذلك احتشدوا جماعات جماعات فساروا في الدروب يهتفون بأعلى صوتهم ويرددون،:
نحن الداعون=لذي العظمة
من مشرقها=حتى العتمة
الأرض لنا=لا للظلمة!
والويل لهم=في الملتحمة!
فلا ينفض احتشادهم حتى يكون منهم من رجال الشرطة أو الجنود قتلى وجرحى كثيرون. وقد تعاظمت جرأتهم على ذلك لما انتشر فيهم انتشار النار في الهشيم نبأ خروج عبدان وذكرويه على حمدان، ولحاقهما بسلمية عند نائب الإمام، وأن الإمام المعصوم قد خلعه عن القيادة والرياسة وتبرأ منه ومن يواليه، وقد طربوا لهذا النبأ العظيم وبشر بعضهم بعضاً بأن له ما بعده.
وما فعلوا ذلك شماتة برئيسهم حمدان، فإنهم ليحبونه جميعاً ويجلونه، وهو أحب إلى نفوسهم وأقرب إلى قلوبهم من عبدان وذكرويه وغيرهما من سائر الزعماء والكبراء وإنما ضاقوا بالحال الذي هم فيه، فأملوا أن يكون في هذا النبأ ما يؤذن بقرب انفراجه، ويعجل خلاصهم من سياط المراقبين، وحساب المشرفين، وبغي الحاكمين والمديرين وإسراف أرباب النفوذ المقربين، ومن ذلك الهلع الذي لا يفارق قلوبهم، ومن وشاية الواشين، وإحصاء المحصين من رجال جلندي الرازي عين العيون ورئيس الزبانية الرهيب.
22


قضى حمدان شهوراً وهو يترقب مسير ذكرويه لغزو بلاده، ويستعد لملاقاته وتبديد جموعه حتى بلغه آخر الأمر أنه قد تحرك برجاله وفرسانه من أتباع المذهب وغيرهم من عربان الصحراء في جمع كبير. وكان يظن أن ذكرويه سيشتبك بجمعه الكثيف مع معركة فاصلة، فخرج له بجيش قوي على جادة الطريق من الصحراء إلى مهيما باذ حيث بلغه من عيونه أن ذكرويه مقبل بجمعه من ذلك الوجه. فلما توغل بجيشه هناك لم يجد إلا شراذم قليلة من رجال ذكرويه ناوشوه القتال ثم تفرقوا. فقفل حمدان برجاله إلى مهيما باذ مغمومين. قد نهكهم الجهد، وأضعف همتهم خيبة الأمل في لقاء عدوهم والنيل منه. وكان حمدان عسياً ألا يفوته التيقظ لخطة خصمه وتدبيره –فلا يغامر هذه المغامرة قبل أن يستوثق من نجاحها وفائدتها- لولا أن فرط تشوقه إلى القتال قد أنساه كثيراً من حزمه ورأيه.
ولما وصل إلى عاصمته إذا به يعلم أن ذكرويه قد فرق رجاله فهجموا على أطراف المملكة من نواح شتى، فغنموا منها وقتلوا بعض من قاومهم من أهلها. ونشروا في سائرهم براءة الإمام فبلبلوا عقائدهم وشطروهم فريقين: فريقاً يتعصب لحمدان، وفريقاً يتعصب لذكرويه ثم انطلقوا هاربين.
واستمر ذكرويه بعد ذلك يشن الغارات على هذا الأسلوب، فيوزع رجاله عشرة عشرة، أو عشرين عشرين، يأمرهم فيهجمون على هذه الناحية أو تلك، فينشرون في أهلها الفتنة، ويصيبون من رجال حمدان ولا يصابون، ثم يلوذون بالصحراء ويتفرقون. ثم أخذ بعض أهل البلاد يساعدون هؤلاء المغيرين ويتجسسون لهم بل راح بعضهم فانضموا إلى عصابات ذكرويه طمعاً في المال الغنيمة.
وبلغ ذلك حمدان فلم يعبأ كثيراً لوقوعه، إذ أدرك أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم يحبون ذكرويه ويؤثرونه عليه، بل لأنهم يريدون الخلاص من الضيق الذي هم فيه بأي سبيل وعلى أي وجه. وقد علم كذلك أن كثيراً من جنوده قد بدأت تحيك فيهم براءة الإمام التي ينشرها ذكرويه جهده، فما جاهروا بعصيان حمدان. ولكنهم فقدوا النية في قتال ذكرويه. أما طائفة دعاة المذهب فقد مالت قلوبهم جميعاً عن حمدان وتعصبوا لعميدهم فقيه الدعوة عبدان الذي تبرأ منه كما تبرأ منه الإمام. وكان عدد هؤلاء كبيراً، فصاروا يبثون سرا في كل ناحية وجوب تأييد ذكرويه لأن الإمام قد ولاه القياد مكان حمدان وقد كانوا يحقدون على حمدان من قبل ويتهمونه ببغضهم وتحقير شأنهم، والمعارضة في زيادة أرزاقهم، والاستخفاف بعقائد مذهبهم ويقولون: (لولا عبدان لذقنا منه الهوان).
كل هذا دعا حمدان إلى التفكير في أمره، وفي مصير هذه المملكة التي يحكمها، فجعل يحاور نفسه ويناقشها في موقفه من الخليفة العباسي، وموقفه من القداحي وأتباعه، ويستعرض الأحوال التي دفعته إلى الخروج على حكم السلطان وتأسيس مملكة مهيما باذ على أساس العدل الشامل، ثم ما انتهت إليه الأمور بعد ذلك من قيام نظام أبي البقاء العادل في بلاد الخليفة –فسعد أهلها من حيث شقي أهل مملكته وتذمروا من نظامه- وانكشاف أمر هؤلاء القداحيين الدجالين، وفساد مذهبهم، وسوء نيتهم، واختلافهم معه، وتحريضهم رجاله عليه. فها هم أولاء اليوم يحاربونه بسلاح هذا المذهب الفاسد الذي لم تطمئن إليه نفسه قط وإنما جارى عبدان فيه حرصاً عل النجاح في تحقيق العدل الذي يصبو إليه.
فانتهى من هذا التفكير إلى الاقتناع بأنه كان قد أراد بالناس الخير فانقلب إلى شر، وأن عليه اليوم أن يحول بكل سبيل دون وقوع أهل مملكته في براثن هؤلاء القداحيين وأتباعهم، وأن ينقذهم من شر الافتتان بسعرة مذهبهم أو شر التعرض لغارتهم وعدوانهم. وقد أيقن أن ذكرويه إن قدر له النجاح فسينهض بهم لمحاربة المعتضد فيركب بهم الصعب ويحملهم المشقة والجهد، ويزيدهم عذاباً فوق العذاب.
فهم أول الأمر بأن يعلن التسليم إلى سلطان الخليفة والرجوع إلى طاعته، ولكنه خشي ألا يوافقه رجاله على هذه الخطة، فيميلوا عليه ميلة واحدة مع ذكرويه، فلم يبق أمامه ألا أن يترك للناس اختيار ما يصيرون إليه بأنفسهم، فما لبث أن أمر بفتح الحدود، وأعلن في الناس جميعاً أن من شاء منهم البقاء في بلاده فليفعل، ومن شاء اللحاق ببلاد الخليفة فليفعل، وله أن يحمل معه ما يشاء من المتاع الذي في يده. فازدحمت حدود البلاد بألوف المهاجرين من مملكة العدل الشامل، وخشي حمدان أن يصيب هؤلاء مكروه فرتب لهم رجالاً يحرسونهم في طريقهم حتى يوصلوهم إلى مأمنهم.
ثم فاجأ الناس بعد ذلك بإعلان براءته من دين الإمام الكاذب ومذهبه القائم على التضليل والإلحاد والإباحة، وتوبته إلى الله من كل ذلك ورجوعه إلى الدين الحنيف. فهاج دعاة المذهب وماجوا. فأمر بالقبض عليهم واستتابتهم، فمن تاب تركوه ومن أبى قتلوه، وأفلت بعضهم فهربوا ولحقوا بذكرويه.
ولما استحر القتل في هؤلاء بأيدي زبانية جلندي الرازي وقع ذلك من نفوس رجال الجيش، حتى تناجى بعضهم بالخروج على حمدان، فجمع قوادهم ورؤساءهم فقال لهم: (قد بلغني أن بعضكم يريدون الخروج علي، وأنني أدعوكم ألا تفعلوا، فطالما أحسنت إليكم وضاعفت لكم أرزاقكم وفضلتكم على غيركم, فعزيز علي أن تخونوني فتخونوا أنفسكم وشرفكم).
فقالوا له: (فماذا يكون مصيرنا إن بقينا على هذه الحالة معك؟).
فقال لهم: (قد تعلمون مكانكم عندي، فأنا أدعوكم إلى خير من ذلكم. هذا خليفة المسلمين المعتضد قد أجرى في بلاده العدل، وقد جعل من سياسته أن يقبل من يلجأ إليه من رجالنا وأهل مملكتنا، فيكرمهم ويحتفي بهم وأنتم الوجوه والرؤساء فجدير به أن يعرف لكم أقداركم إن لحقتم به. وقد جعلتكم في حل مني أن تبرأوا مني عنده، وتقولوا عني ما تشاءون).
وكانوا يحبون حمدان ويعزونه من صميم قلوبهم، فحين سمعوا منه هذا الكلام جاشت عواطف الرقة في صدورهم، ففاضت عيونهم بالدمع، وجعلوا يقولون له: (سامحنا يا حمدان واعف عنا. أما إنك لأنبل الرجال وأكرمهم، والله لا ندع ذكرويه السلمان يظهر بنا عليك).
فشكرهم حمدان على إخلاصهم ومودتهم ثم قال لهم: (هأنذا قد جعلتكم أحراراً تختارون لأنفسكم ما شئتم، فمن أراد اللحاق بالخليفة فليفعل، غير مقلي مني ولا مودع، ومن شاء البقاء معي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً فليفعل، وله علي أن أحيا معه وأموت معه، بيد أنني أوثر لكم الأولى، فهي خير لكم ولأهليكم، فلا يصدنكم عنها حياؤكم مني. وبعد فقد نصحتكم وأبلغت فانصرفوا وبلغوا هذا لرجالكم جميعاً فأنتم سواسية؟).
فانصرفوا من عنده يتحدثون بفضله ويعجبون بصراحته وإيثاره.
23


كان حمدان قد أفرج عن عالية منذ بلغته خيانة عبدان فصارت تستقبل في قصرها من تشاء من نساء مهيما باذ فتعظهن وتنصحهن بالرجوع إلى دينهن، كما كانت تفعل من قبل. وكان حمدان ربما جلس إليها يستمع منها إلى ما تيسر من القرآن وهي تتلوه من مصحفها. وكان يرى ابنه الغيث يؤم عمته وزوجته بالصلاة فينظر إليهم واجماً ولا يقول شيئاً، وكانت عالية تحضه على التوبة والرجوع إلى دين أبيه وجده وتدعوه إلى القيام معهم للصلاة فيقول لها: (دعيني يا عالية الآن، حتى يشرح الله صدري لما يريد).
أما راجية وشهر فقد غمهما ما كان من عبدان، وساءهما انشقاقه عن حمدان، وأن عذرتاه في سريرتهما، لما كان يلقى من عنت حمدان واعتراضه الدائم عليه شعائر المذهب وحق الإمام. وقد حارتا في موقفها من هذين لا تدريان إلى أيهما تميلان. ثم رأتا أن تتربصا حتى ينجلي الحال بينهما، أزال ما كان في باطنهما من قواطع الغيرة والضغن، فأصبحتا متحابتين متعاونتين. وقد أشفقتا على المذهب من أول ما بلغهما خبر الانشقاق، وتوقعتا أن يجور حمدان على كثير من شعائره. ولم يلبث إن صح ما توقعتاه، إذ أفرج حمدان عن عالية وأباح لها أن تفتن نساء العاصمة عن مذهبهن كما تشاء، ثم أبطل ليلة الإمام، فكان ذلك عندهما الطامة الكبرى. وقد اجتهدت شهر أن تصرفه عن ذلك بأسلوبها الذي تتسلط به عليه، فلم تقدر، فأيقنت أن سلطانها عليه قد زال أو كاد. ثم أخذ ينفر منها شيئاً فشيئاً، كلما أكثر التردد على قصر أخته الكبرى إلى أن هجرها آخر الأمر فانتقلت من قصره وسكنت مع راجية.
فلما أعلن حمدان براءته مع المذهب ورجوعه إلى الدين الحنيف سرت عالية سروراً عظيماً، فانطلقت إلى قصره لتهنئة، فوجدته قائماً يصلي بخشوع فما ملكت دمعها من الفرح. وصعقت راجية ونزيلتها فطفقتا تأتمران وتتشاوران.
فكان من رأي شهر أن تهربا من مهيما باذ وتلحقا بعبدان. فتوقفت راجية في أول الأمر إذ تذكرت ما بين صاحبتها وبني زوجها من الود فشكت في نيتها، وعز عليها أن تساعدها على بلوغ مرامها من حيث لا تفيد هي شيئاً، لأنها تنفر من زوجها عبدان ولا تريد أن تراه، ولكنها مع ذلك تأبى أن تنافسها شهر فيه.
وظلت شهر تلح عليها في الفرار، وتؤيدها في ذلك فاختة، فتمتنع راجية، إلى أن قبض حمدان على الدعاة فاستتابهم وقتل من ثبت على المذهب منهم. فقالت شهر لراجية إن أبيت إلا البقاء تركناك وهربنا أنا والفاختة على رأيها وعزمتعلى عمتها أن تفعل. فترددت راجية قليلاً، ثم أومض في ذهنها ذكرويه، فلان غضبها فقالت لهما: (إني ماضية معكما حيثما تريدان).
وما هي إلا أيام حتى وصل إلى علم حمدان فرار النسوة الثلاث بمعاونة أحد المتشيعين لذكرويه، فلم يظهر عليه أي أسف بين من حضره من رجاله، ولكنه لما خلا بنفسه تنهد وقال: (أواه ما أشقاني بأهلي!).
وقد دعاه فرار أخته الصغرى وابنته إلى التفكير في مصير عالية والغيث ومهجورة وهم بقية أهله، وكلهم عزيز عليه لا يطيق أن يمس أحداً منهم مكروه. وتعجب من نفسه كيف نسي حتى اليوم أن يفكر في مصيرهم، وقد رأى الناس يهجرون البلاد لا يلوون على شيء، ورأى جنوده ورؤساءهم يودعونه كل يوم، والعبرة في عيونهم، ليلحقوا بالخليفة، واستحيا بعضهم من عينه أن تراهم وهم يتركونه، فارتحلوا دون أن يودعوه.
فتردد طويلاً فيما يصنع بهؤلاء الثلاثة الأعزاء، ثم قر عزمه على ترحيلهم إلى الخليفة كأنهم لاجئون إليه متبرئون من حمدان وشيعته ومذهبه، وهو لا يشك أن الخليفة سيكرم مثواهم ويهيء الخير لهم. ولما أخبرهم بعزمه وفاوضهم في ذلك بكى الثلاثة واستعبروا وقالوا قولاً واحداً: (دعنا نبق معك هنا. لا نستطيع أن نخليك وحدك) فقال لهم: (كلا لا سيبل إلى بقائكم في هذي الدار، فإني أخشى أن تقعوا في أيدي القوم الفاسقين!).
فقالت عالية والدموع تنهمر من عينيها: (فأرحل بنا إذن إلى جهة نائية لا يعرفنا فيها أحد، فأجابها حمدان بلهجة صارمة: (كلا يا عالية والله الذي هداني بعد الضلالة لا أدع مهيما باذ تسقط في أيديهم فيشنون الحرب منها على خليفة المسلمين وفيّ نفس يتردد!).
- فهل تنوي أن تبقى فيها حتى تموت؟
- الموت والحياة في يد الله يا عالية، ولكن سأظل فيها ولا أبرحها حتى يرتحل أهلها جميعاً فلا يستعبدهم أولئك الملحدون.
- هلا سلمتها اليوم إلى الخليفة فيحميهم جنوده ويشملك بعفوه!
- وددت يا أختاه لو كان ذلك في وسعي!.
- هذا يسير عليك يا أخي، فما يمنعك؟
- فتنهد حمدان وقال: (يمنعني من ذلك يا أختاه نفسي التي تأبى أن تستعطف أمراً غير الله عز وجل).
*   *   *
وشعر حمدان –على شدة التياعه لفراق هؤلاء الأعزاء واستيحاشه بعدهم- كأنما كان يحمل عبئاً ثقيلاً قبل سفرهم فخف بعده عن ظهره. إذ اطمأن اليوم على تلك الفلذ الثلاث من كبده، فما عاد يخشى عليها من ذل الحياة وسوء المصير.
واستوحش من السكنى في القصر وحده، فأسكن عنده نفراً من صفوة رجاله يسمرون معه ويؤنسون وحدته.
واستمر حمدان يدبر شئون مملكته التي تتناقص أطرافها، ويقل سكانها يوماً فيوماً، وهو يعتمد في ذلك على رجاله الذين بقوا معه وأبوا أن يتخلوا عنه بعد ما أذن لهم في ذلك، وعلى جلاوزة جلندي الرازي وزبانيته الذين بقوا جميعاً ولم يخطر ببال أحد منهم أن يتخلى عن جلندي أو عن حمدان.
وكان يفرح كلما رأى أن ناحية من بلاده قد ترحل أهاباً واحتملوا متاعهم فلا يجد المغيرون من عصابات ذكرويه ما يغيرون عليه. وأمر رجاله فأخذوا يحرضون من بقي من السكان في القرى القريبة من العاصمة أن يعجلوا بالرحيل من ديارهم إلى النواحي التي قد أظلها سلطان الخليفة فعاد إليها أهلها بعد ما ارتحلوا عنها من قبل.
وهكذا جعلت مملكة حمدان يضيق اتساعها من أطرافها كلما امتد إليها سلطان الخليفة، فكان حمدان يفرح لذلك.
وأخذت هجمات ذكرويه تقترب من عاصمة حمدان شيئاً فشيئاً حتى لم يعد أمامه غيرها وغير القرى التي في ضواحيها وأرباضها. وكان معظم سكان العاصمة قد ارتحلوا عنها، فلم يبق فهيا إلا حمدان ورجاله، يصدون الغارات، ويدفعون العصابات، ويحمون من بقي بعد من السكان ريثما يتمكنون من الرحيل.
وأدرك حمدان يوماً أنه قد أدى الأمانة التي في عنقه، وأن رجال ذكرويه لن يجدوا في مهيما باذ ما يستطيعون أن يثبوا به على الخليفة، وقصارى أمرهم إن هم دخلوها أن يقيموا فيها أياماً معدودة، ينهبون ويسلبون فيها ما يجدون مما خلفه أهلها، ثم يهربون إلى الصحراء فراراً من جند السلطان.
فجمع من بقي من رجاله فقال لهم: (قد قضيتم لي الحق الوفاء والأخوة، فأنتم اليوم في حل مني، فالحقوا بخليفة المسلمين، ولأمض أنا لطيتي ولترعكم عين الله!).
ولما ساد الظلام تفرقوا وارتحلوا ولم يبق مع حمدان إلا جلندي الرازي.
قال جلندي لحمدان وهما يسرجان جواديهما في مبرد القصر: (إلى أين نمضي يا حمدان،؟).
فأجابه حمدان بصوت حزين: (إلى حيث لا أدري يا صاح!).
- هل لي أن أقترح عليك؟
- افعل يا جلندي فإنك لذو رأي.
- فسكت جلندي قليلاً كأنه يهاب أن يقول:
- ماذا بك؟ قل.
- ولي الأمان من غضبك؟
- كيف أغضب عليك وأنت صفيي الوحيد؟.
- فهلم بنا إلى الري نعش هناك في خفض ونعيم.
- ويلك أين منا الري؟ هلا اقترحت بلداً أقرب؟.
- فإن فيها أهلي وعشيرتي.
- أأردتنا أن ننزل بها كلا على أهلك المعدمين؟.
- إنهم ليسوا اليوم معدمين فقد ملكوا الضياع والقصور من نعمتك.
- من نعمتي؟
- نعم، فقد كنت أبعث إليهم الذهب والورق من فضل نعمتك علي.
- ويلك أو قد فعلتها؟
- حنانيك يا حمدان، فقد جعلت لي الأمن من غضبك.
فزفر حمدان زفرة الغيظ والغضب وقال له: (اخسأ يا خائن! أفي هذا تأمن غضبي؟ فارتعد جلندي واعتمد بيديه على سرج الجواد ليخفي به ارتعاشهما ثم قال بصوت مرتجف: (إني ما فعلتها وحدي يا حمدان فقد فعلها كثيرون).
- من هم ويلك؟.
- إسحاق السوزاني، وعكرمة البابلي، وعلي بن يعقوب القمر.. و..
- ومن بعد؟
- و.. ذكرويه.
- ذكرويه الخائن! إذن فقد كنتم جميعاً خونة! أغرب عن وجهي!.
- اعف عني يا حمدان
- لا سلطان لي عليك اليوم ولا على أحد غيرك فلا أملك العقوبة ولا العفو.
- بل ما زلت سيدي ورئيسي، وأنا عبدك وخادمك فاعف عني.
- هيهات! قد انتهي كل شيء. فأغرب عن وجهي.
- فأين تذهب يا حمدان؟.
- لا شأن لك بي. فامض عني. امض إلى الري فاستمتع فيها بما سرقته من حقوق العمال والفلاحين. امض لعنة الله عليك!.
ومضى جلندي يسير به جواده هوناً حتى اختفى عن عين حمدان. فوثب حمدان على جواده وهو يقول: (حتى أنت جذب عنانه فدار به ووقف لحظة ينظر إلى القصر وقال: (أين السبيل إلى مهيما باذ؟).
وما أتم كلمته هذه حتى همز الجواد كرة أخرى فانطلق به يعدو صوب الغرب فقطع دروب المدينة الخالية، وخرج من بابها الغربي فانحدر من السفح حتى إذا كان في منتصفه شعر بفارس يعدو خلفه فظنه في أول الأول جلندي قد جاء يتبعه، فأحضر جواده ملء عنانه ليفوت جلندي فلا يدركه. فلما بلغ السهل زاد في سرعة جريه فمضى كالريح يطوي الأرض طياً، وقد ظن أنه قد فات الفارس، فإذا الفارس يطلع له من جهة يمينه، فأيقن أنه عدو يطلبه. وتعجب من سرعة جريه كيف أمكنه أن يلحقه، وعهده بنفسه أنه قلما يسبقه فارس. فضاعف جريه لعله يعجز الفارس عن اللحاق به، فإذا هو صار قريباً منه. فلما رأى ذلك أستعد لملاقاته، فعطف عنان الجواد ليستقبله، فإذا هو قد وقف أمامه على قيد رمح.
قال له حمدان: (من تكون؟).
- لو عرفت اسمي لهبتني، ولكن دعنا نتبارز!
- دعني فإني في شغل عنك.
- كلا والله لا أدعك.
- ثكلتك أمك! لا تدعها تبكي شبابك إذ تبارز رجلاً في الستين لا يبالي أن يحيا أو يموت.
- ويلك إني أسن منك فقد جزت السبعين.
فظنه حمدان يسخر، وكان قد ضاق بمطاولته، فحمل عليه بسيفه وهو يقول: (فدع حفيدتك تبكيك!).
فإذا السيف قد سقط من يد حمدان، وإذا الفارس قد وثب عليه فاعتنقه على جواده وضمه ضمة شديدة، فدهش حمدان وقال له: (بالله من أنت؟).
- أما عرفتني بعد؟.
- لا والله ولا رأيتك.
- أجل إنك لم ترني ولكنك تعرفني!
- من؟.
- شيخك القديم أيها العيار الدوري!.
- سلام الشواف!
- نعم، أنا هو قد جئت لأهديك السبيل.
- لكنك..
- لا لا ما قتلت، وإنما برحت ناحيتكم إلى ناحية أخرى.
ورجع الشيخ إلى جواده فتضاءل حمدان أمامه، ولكن لم يشعر في نفسه بغضاضة من ذلك. واطمأن بصحبته فزال عنه شعور الهارب المطلوب، فبقى واقفاً حتى نبهه الشيخ إلى وجوب السير، فسارا هوناً متجاورين، والشيخ يقص عليه كيف كان يتتبع أخبار حمدان منذ خرج على السلطان، وأسس مملكة مهيما باذ، إلى أن ضعف أمره فيها فجاء هو في اللحظة الحرجة ليأخذ بيد تابعه القديم. وبقيا سائرين كذلك، وحمدان مصغ إلى أحاديث الشيخ لا يقضي منها العجب، حتى لاحت لهما معالم قرية الدور في بقايا ضوء القمر الغارب فتذكر حمدان حاله فأراد أن يسأل صاحبه إلى أين يمضي به أولاً إن الذكرى جاشت في نفسه لما رأى مسقط رأسه، فوقفا ينظران إلى القرية فما لبث أن أستعبر حمدان، إذ انتفضت ذكريات تسع وعشرين سنة حافلة بالخطوب والأحداث، فجعلت تمر بذهنه كأنها موكب عظيم الطول والعرض.
وأدرك الشيخ ما به، فتركه قليلاً يقضي لبانته من الذكرى حتى إذا نبهه إلى المسير قال له حمدان: (إلى أين؟).
- إلى بغداد.
فريع حمدان وخطر له أن الشيخ ربما يريد أن يسلمه إلى المعتضد، ولكنه طرد هذا الخاطر من نفسه، إذ ذكر أن آداب العيارة لا تأذن بمثل هذا الغدر، فقال له: (ماذا نصنع في بغداد؟).
ألا تذكر صاحبيك بهلول وعبد الرؤوف؟
- بلى، أهما حيان يرزقان؟
- نعم، هما هناك وستنزل عند عبد الرؤوف فلا يعرفك أحد.
فتردد حمدان قليلاً، ثم تذكر أن عالية والغيث هناك، وأنه قد يتاح له أن يراهما.
فقال: هلم إذن فإني والله لفي شوق إليهما).
- وسترى أبا البقاء هناك إن شئت.
- أبا البقاء البغدادي!
- نعم، فإنه يزور عبد الرؤوف أحياناً، أفلا تحب أن تراه؟
- بلى والله لوددت لو رأيته فقبلت ما بين عينيه. ولكن بأي وجه أقابله؟
- إنه يحبك يا حمدان ويعجب بك.
- يحبني!
- لا تعجب فلولا أنت لما كان له شأن، ولولا هو لما سقطت يا حمدان، فهل تجد عليه أنه أسقطك؟
- كلا والله إني لأحبه وأجله في نفسي. ولئن أسقطني لقد رفع منار العدل!
- أجل، هذه سنة الله. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
ومضى الصديقان القديمان في طريقهما حتى غرب القمر فحجبهما الظلام.



(تمت)