تاريخ التعذيب في الإسلام
ـ هادي العلوي
القسم الأول
مسح ترميزي للتعذيب في الإسلام
في الإصطلاح:
التعذيب اشتقاق حديث تقابله ثلاثة اصطلاحات قديمة: العذاب والبسط والمثلة. وقد استعمل الأولان في العصور الإسلامية بمعنى واحد يشير إلى إيلام الأسير أو المتهم على سبيل الانتقام أو الحصول منه على الاعتراف بشيء ما. والبسط يتعدى بعبارة (عليه) وهو بهذا المعنى مستعمل في دارجة بغداد ولكن متعدياً بنفسه فيقال: بسطه، بمعنى ضربه، والمبسوط هو المضروب، خلافاً للمراد منه في بعض اللهجات العربية الأخرى حيث يعني المبسوطة المستريح والمسرور. وهو اشتقاق من معنى الانبساط يعني الانشراح. أما المثلة فهي تشويه الشخص حياً أو ميتاً..
يرد العذاب في القرآن عند وصف العقاب الأخروي الذي يتم بتعريض أهل النار لصنوف من العقوبات وصفت في القرآن والحديث. وما يعدده القرآن من هذه العقوبات ينطوي اصطلاحاً تحت طائلة التعذيب ومنه: التحريق، الشيء بإنضاج الجلود، التجويع والتعطيش، سقي الصديد وهو القيح وسقي المهل أي المعادن المذابة.. وسيأتي الكلام عن هذه الأمور في القسم الثاني من الرسالة.
أغراض التعذيب وضحاياه:
استخدم التعذيب في العصور الإسلامية المختلفة لأغراض شتى سنقسمها لغرض الدراسة قسمين عريضين:
1 ـ تعذيب لأغراض سياسية.
2 ـ تعذيب لأغراض أخرى.
التعذيب السياسي:
إن التعذيب لغرض سياسي هو الأسبق ظهوراً في الدولة، ويرتبط ذلك بظاهرة الصراع الطبقي الذي تتولى الدولة إدارته من خلال دورها الشرقي المباشرة في سيرورة الإنتاج الاجتماعي، أو من خلال دورها الأوروبي في التعبير عن حاجات الطبقة السائدة في المجتمع. وإحدى الوسائل الأساسية في إدارة الصراع الطبقي هو القمع بأشكاله المختلفة.ويتوجه القمع أساساً ضد الطبقات المنتجة مستهدفاً غرضين: إدامة الإنتاج ومنع المنتجين من الوصول إلى السلطة. وبوجه عام، تلجأ إلى القمع السياسي الحكومات التي لا تملك قاعدة شعبية تكفيها لتبيت حكمها. واعتماد وسائل التعذيب في هذه الحالة يخطط له كوسيلة معوضة عن عزلة الحكام بقصد توفير الرادع الذي يمنع المقت الشعبي من أن يتحول إلى تحرك يهدد سلطة الحاكم. أو تطبيق لهذا النوع من التعذيب يرجع إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان. وكان معاوية يملك قاعدة شعبية متينة في الشام ساعدته على أن يشتهر بالحلم المأثور عنه، لكن استقلاله بالسلطة بعد تنازل الحسن بن علي أثار في وجهه عدة إشكالات.
ـ موقف جمهور المسلمين الذي اعتادوا حكم الخلفاء المقيد بالشرع والذي تجاوزه معاوية بعد أن أقام سلطته الفردية المطلقة.
ـ موقف العرب الذي لم يتعودوا الخضوع لسلطة لا سيما سلطة مستبدة. (اللقاحية الجاهلية).
ـ معارضة أهل العراق المتمسكين بالولاء لعلي بن أبي طالب وأولاده.
والمواقف الثلاثة متكاملة متداخلة لأن الرفض العراقي لمعاوية مرتبط من جهة بالتقاليد البدوية المناوئة للاستبداد ومن جهة أخرى بأسلوب الحكم الإسلامي المستند إلى مبدأ سيادة الشريعة. ومن هنا كان العراق مركز النشاط المعارض للحكم الأموي الجديد. ورغم أن معاوية اشترى ولاء العديد من الزعامات القبلية لهذا الإقليم الخطر فإنه لم يستطع السيطرة على المعارضة التي تحركت أحياناً خارج إطار القبيلة. وقد لجأ أول الأمر إلى المداراة فولى المغيرة بن شعبه، أحد دهاة العرب، حكم البلاد، لكن دهاء المغيرة لم يكن ناجعاً في تخفيف حدة المعارضة فعزل بوال آخر من طراز مختلف، هو زياد بن أبيه، وكان قد نجح في استدراج زياد مستفيداً من عقدة النسب وجمع له ولايتي الكوفة والبصرة اللتين يتألف منهما إقليم العراق آنذاك. وقد أظهر زياد مواهب إرهابية نادرة في صدر الإسلام وصار قدوة لمن بعده من الولاة والحكام المسلمين. وهو مشرع لعدة أمور سارت عليها السلطة الإسلامية فيما بعد، مثل منع التجول والقتل الكيفي وكان يعرف عندهم بالقتل على التهمة أو على الظن، وقتل البريء لإخافة المذنب، وقد طبقه على فلاح خرج ليلاً للبحث عن بقرته الضائعة خلافاً لقراره بمنع التجول في الليل، وقتل النساء، وهو غير مألوف عن العرب. ويخبرنا الطبري أن وكيل زياد على البصرة وهو الصحابي سمرة بن جندب أعدم ثمانية آلاف من أهلها تطبيقاً لمبدأ زياد في القتل على التهمة. ويروى السمعاني في الأنساب أن زياد أمر بقطع اللسان تطوير مبكر لفن التعذيب يدل على السرعة التي تقدمت بها دولة الإسلام في طريق تكاملها كمؤسسة قمعية.
يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: «تشبه زياد بعمر فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد فأهلك الناس». ومناط الشبه هو شدة عمر التي استوحاها زياد في حكم العراق، ومن المعروف مع ذلك أن شدة عمر لم تقترن بحالات قتل كيفي، أو تعذيب، وإنما كانت درج من الحزم والضبط جعلته مهيباً في عيون الناس. ومناط الإفراط هو أن شدة عمر تحولت عند زياد إلى إرهاب دموي استوحاه الحجاج و مضى فيه إلى مداه الأبعد. والحجاج نسخة متطرفة من زياد وعلى يده أصبح الإرهاب حالة يومية شاملة يعيشها الناس على اختلاف فئاتهم ولمختلف الأسباب من سياسية وعادية. وقد أنشأ سجن الديماس المشهور. ويقال إنه كان بلا سقوف. وقدر عدد من كان فيه عند وزفاته بعشرة آلاف من الرجال والنساء.وكان التعذيب يطبق على الأسرى والمعتقلين تبعاً لحالاتهم، لكن الشكل السائد لإرهاب الحجاج كان القتل الكيفي بوسيلته الشائعة وهو قطع الرأس بالسيف.وأضاف الحجاج الصلب بعد القتل للأشخاص الذين لهم وزن خاصة في حركة المعارضة، وكان من ضحايا هذا الإجراء ميثم الثمار، من أصحاب علي بن أبي طالب المقربين.
استمرت سياسة التعذيب لأجل الإرهاب بعد استراحة قصيرة في خلافة عمر بن عبد العزيز، لتأخذ مدى جديداً على يد هشام بن عبد الملك في الشام وولاته في الأقاليم. وطبق هشام بنفسه طريقة القتل بقطع الأيدي والأرجل في بعض الحالات المشددة ومنها إعدام غيلان بن مسلم الدمشقي بتهمة القول بالقدر. وبنفس التهمة أعدم خالد القسري، عامله على العراق، والجعد بن درهم. وقد نفذ الإعدام ذبحاً. ولإعدام هذين الرجلين ملابسات سياسية معروفة في تاريخ القدرية والمعتزلة وكان خالد القسري قبل ولاية العراق والياً على الحجاز وأصدر حينذاك تحذيراً لمن يطعن في الخليفة أن يصلبه في الحرم، أي في داخل البيت الحرام. و من المعروف أن الشريعة حرمت قتل الحيوان في هذا المسجد واختلف الفقهاء فيما إذا كان يجوز قتل الأفاعي والعقارب فيه.
وطبق شقيقه أسد، حاكم خراسان، طريقة قطع الأيدي والأرجل والصلب على أتباع الحارث بن سريج الثائر على الأمويين في المشرق. ولدينا رواية في الطبري تفيد أن الإحراق استخدم في خلافة هشام لإعدام داعية من غلاة الشيعة هو المغيرة بن سعيد العجلي، وكان قد خرج على الدولة في ظاهر الكوفة أيام ولاية خالد القسري.
كانت خلافة هشام صحوة الموت للأمويين، وقد ورثه خلفاء قصار العمر وسط اضطرابات متلاحقة انتهت بالثورة العباسية التي قضت على مروان بن محمد آخر خلفائهم، وبويع للسفاح كأول خليفة عباسي. وقد واصل العباسيون تراث أسلافهم الأمويين وأضافوا إليه. ويذكر الطبري أن عدد من أعدمهم أبو مسلم الخراساني في المشرق بلغ ستمائة ألف بين رجل وامرأة وغلام. وكان إبراهيم الإمام، زعيم الدعوة، قد كتب إليه، بقتل أي غلام بلغ خمسة أشبار إذا شك في ولائه. واجه العباسيون بدءاً من خليفتهم الثاني أبو جعفر المنصور، معارضة متزايدة من نفس الجماعات التي عارضت الأمويين: الشيعة، الإمامية والزيدية، والخوارج والمعتزلة، ومن فرق ظهرت فيما بعد ضمت الشيعة الإسماعيلية ولواحقها وفروعها المختلفة، والخرمية والزنج، فضلاَ عن المنافسين للخلفاء والخارجين عليهم طمعاً في السلطان، واتبعوا لقمعها نفس الأساليب ولكن بعد تطويرها لمضاهاة التصاعد في أشكال المعارضة المسلحة. ولدينا روايات في «مقاتل الطالبين» لأبو الفرج الأصفهاني تفيد أن المنصور قتل بعض العلويين بدفنهم أحياء. وتطور القتل بالتقطيع إلى زيادة في عدد الأوصال المقطعة، فبعد أن كانت الأيدي والأرجل تقطع دفعة واحدة صارت تقطع إلى عدة أوصال ويضم إليها أجزاء أخرى من الجسم. وقد أبلغها الرشيد إلى أربع عشرة قطعة، مع تطوير في الوسيلة تضمنت استعمال مدية غير حادة بدلاً من السيف وبلغ القتل تحت التعذيب أشنع حالاته بعد الحقبة العباسية الأولى. ويرتبط ذلك بتعقد الوضع العام للمجتمع العربي الذي عانى مع ظهور الإسلام مخاضات التدرج من البداوة إلى الحضارة واستكملها في غضون القرن الأول للحكيم العباسي، حيث اقترن تبلور الدولة بالطلاق البائن مع بقايا المثل البدوية. وهكذا جاءت ذروة النمو الاجتماعي متوارية في حالة القمع المنفلت من الضوابط (وهو ما يفسر تبعاً لنفس المعيار حدة الثورة الاجتماعية لدى القرامطة، الذين ظهروا في هذه الحقبة، بالقياس إلى فرق المعارضة التي سبقتها).
وتأوبت الدويلات المنشقة على نهج الخلافة العباسية، لوجودها في نفس المرحلة. وكان الأمراء المتغلبون في المشرق نماذج متممة للخليفة العباسي في التعامل مع خصومهم السياسيين وهو ما نجده أيضاً في الأندلس، لا سيما في إبان الصراع بين ملوك الطوائف. ومن الجدير بالذكر هنا أن التعذيب السياسي ظل مقتصراً على الصراع الداخلي دون العلاقات الخارجية إلا في النادر. وكان هناك تمييز ملحوظ في المعاملة بين أسرى الحرب من الكفار وأسرى الحرب من المسلمين. وكان الأسير الكافر يستقر أو يفادى أو يقتل بالوسائل الاعتيادية تبعاً لأحكام الشريعة في أسرى الحرب ولم تجر العادة على قتله تحت التعذيب.
التعذيب لأغراض أخرى:
قلنا إن التعذيب السياسي هو أقرب ظهرواً في الدولة وأنه موجه في الأساس ضد الطبقات المنتجة لصالح الطبقة أو الطبقات السائدة. على أن الصراع الطبقي لا يتحدد في الواقع بهاتين الجبهتين العريضتين وإنما يسلك طريقه أيضاً إلى داخل الطبقة السائدة آخذاً شكل الصراع على الاستئثار بثمار عمل المنتجين. ومع نشوء حافز السلطة كقيمة مستقلة نسبياً عن وظيفة الدولة الاجتماعية لا سيما قي المشرق، يظهر صراع آخر يتمثل في التنافس على الاستئثار بالمزايا التي توفرها قيادة الدولة.
وتختلف هذه المزايا عن المزايا الطبقية في كونها ناشئة عن السلطة كمؤسسة لها خصوصياتها ضمن المجتمع الطبقي، وهي خصوصية ناشئة بدورها عن امتلاك أداة القمع وللتمتع بالقدرة على توجيه الآخرين وتسيير المجتمع، وبناء على تعدد جبهات الصراع، تتعدد حوافز القمع فتخرج به عن محض الغرض السياسي ليصبح جزءاً من السلوك اليومي للحاكم، أي «نزوعاً» يتعامل به مع سائر فئات المجتمع على اختلاف مواقعها من الخارطة السياسية للدولة. ويحدث أحياناً أن تتظاهر هذه النزعة في شكل من العصاب الذي اشتهر به الامبراطور الروماني نيرون. وظهر في العصر الحديث لدى هتلر وبعض الحكام العرب الصغار. وسنجد في تاريخنا الإسلامي آفات من هذا القبيل يتفق ظهورها مع استشراء القمع السياسي. وقد وجدت حالات تعذيب السياسي على يد العباسيين الأوائل منتهية إلى نشوء التعذيب غير السياسي كاتجاه سائد.
يشمل التعذيب في هذا المنحى:
ـ التعذيب للاعتراف.
ـ التعذيب للجباية.
ـ التعذيب للعقوبة.
التعذيب للاعتراف:
يستهدف انتزاع الاعترافات من المتهم في القضايا العادية كالقتل الشخصي والسرقة. وقد تطرق إليه أبو يوسف في كتاب الخراج وتشكى منه بمرارة مما يدل على انتشاره في الحقبة العباسية الأولى. والشكل المعتاد لذلك هو ضرب المتهم باليد أو بالهراوة أو السوط. وبالنظر لعدم مساس هذه الجرائم بأمن الدولة والمصالح المباشرة للطبقة الحاكمة، لم تستخدم فيها أساليب خارقة للعادة كالتي استعملت في التعذيب السياسي، رغم أنها عكست في ظهورها كحالة متكررة قو النزعة وشمولها. ولعل مما خفف الاندفاع فيه اختصاص القضاة بالنظر في هذه الجرائم بشيء من الاستقلال عن الدولة. و من شأن القضاة التحرج. كفقهاء. عن مخالفة الشريعة مالم يتعرضوا للضغوط من أرباب السلطة أ, يخضعوا لاعتبارات شخصية معينة.
التعذيب للجباية:
وجه لاستحصال الخراج أو الجزية من الفلاحين وأهل الذمة. وتشير رواية عن هشام بن حكيم بن حزام سنفصلها فيما بعد إلى ظهور هذه الممارسة أيام الصحابة. لأن هشام صاحبي. ولكن دون تعيين ما إذا كانت قد حصلت في زمن خليفة راشد أو أموي. على أية حال فإن تعذيب الخاضعين للضريبة قد تفاقم على يد الأمويين بتأثير قوة الداعي إليه وهو الحصول على المال، مع شيوع الامتناع عن الدفع نتيجة سياسة الإفقار التي اتبعه الأمويون ضد مجمل السكان. وترجع الكثير من وقائع التعذيب لهذا الغرض إلى زمن الحجاج، الذي ربطت بعض الروايات بين شدة بطشه وتضاؤل حصيلة الخراج في أيامه. وهناك ما يدل على أن التعذيب أصبح قاعدة متبعة في الجباة، وهو ما كان يعنيه أبو حمزة الخارجي في خطبة ألقاها بالمدينة إثر احتلال قصير الأمد لها عام 128 حين قال مشيراً إلى الخليفة الأموي:
لبس بردتين قد حيكتا له وقومتا على أهلها بألف دينار، قد أخذت، أي الدنانير. من غير حلها وصرفت من غير وجهها بعد أن ضربت فيها الأبشار وحلقت فيها الأشعار» (الأبشار ـ جمع بشرة).
يقصد أبو حمزة جلد الخاضعين للجزية والخراج وحلق شعرهم لإرغامهم على الدفع، وقد صدرت عن عمر بن عبد العزيز عند استخلافه تعليمات لعلاج هذا الوضع تضمنت النهي عن كل صنوف التعذيب ولأي غرض. ويبدو أنه حقق بعض النجاح في وقف موجة التعذيب ولكن رحيله العاجل بعد أقل من ثلاث سنوات أعاد الأمور إلى نصابها السابق. وتدلنا رواية لليعقوبي على استمرار هذه الأساليب حتى عهد الرشيد حيث ذكر أن الفضيل بن عياض، المحدث الزاهد، رأى أناساً يعذبون في الخراج فاستنكره بالاستناد إلى حديث نبوي في النهى عن التعذيب، وتذكر الرواية أن الرشيد لما بلغه ذلك أمر برفع العذاب عن الناس. وارتفع العذاب من تلك السنة. والعذاب الذي رفعه الرشيد هو عذاب الجباية وليس غيره، وقد مر بنا أنه مارس التعذيب السياسي، ولا شك في أنه استؤنف بعد الرشيد، مع افتراض التقيد بالمنع في حياته.
من قبيل تعذيب الجباية تعذيب عمال الخراج الذين يتهمون بالاختلاس وهو أمر مألوف في الوظائف المالية، وكان المتورطون فيه من كافة المراتب، الوزير فرئيس الديوان فالموظفون. وكان من الشائع أن يسطو الوزير أو رئيس الديوان على قدر من الأموال التي تحت يديه بعلم خليفته أو سلطانه، لكن حسابه يؤجل إلى ما بعد العزل، الذي غالباً ما يقترن باستجواب لأجل المصادرة يتضمن التعذيب في حالة الإنكار. أما الموظفون فهم عرضة للاستجواب في كل وقت. و تشتد وقائع الاختلاس، وما يتبعه من تعذيب، حين تكون الدولة في حالة انحلال أو فساد عام وهذا هوا لسبب في استشرائه بعد الحقبة العباسية الأولى حيث سيطر المتغلبون الأتراك على الخلافة منذ مقتل المتوكل وتجزأت الدولة إلى دويلات. وقد استخدمت لتعذيب المختلسين وسائل وأساليب يحتمل أن تكون مكرسة لهذا الغرض، منها التنور الذي ابتكره وزير الواثق محمد بن عبد الملك الزيات، وسنصفه لاحقاً. وقد استمر التعذيب دون أن يتوقف الاختلاس، فكان هناك على الدوام مختلسون من مختلف ومعذبون بتهمة الاختلاس.
التعذيب على سبيل العقوبة:
تتضمنه بعض مواد العقوبات المنصوص عليها في الشريعة وهي الجلد للسكران والزاني غير المحصن والمحكوم بالقذف، والرجم للزاني المحصن، وقطع يد السارق، وقطع أيدي وأرجل قطاع الطرق وصلبهم، ويصح على هذه العقوبات اسم التعذيب من جهة كونها وسائل لإيلام المحكوم سواء كانت خفيفة نسبياً كالجلد أو شديد كالرجم وقطع الأوصال، وهو ما يميزها عن العقوبة الاعتيادية بالسجن الذي تفترض القوانين الحديثة عدم اقترانه بإيلام السجين إلا في الجرائم المعاقب عليها بالأشغال الشاقة. ومن الناحية العملية، لم يستخدم الرجم إلا نادراً، بخلاف الجلد والقطع والصلب التي استمرت في مختلف الأزمان. على أن عقوبات التعذيب لم تتحدد بالشرع وإنما امتدت إلى جرائم عادية أخرى رغم التشديد في النهي عن تجاوز الحدود المقررة. وتتصل بعض هذه الخروقات بأيام النبي محمد نفسه حيث أعدمت امرأة بأمر زيد بن حارثة بربطها إلى فرسين جرياً بها ولم تذكر المصادر ما إذا كان ذلك قد تم بعلمه، وقد مد الحكام المسلمون هذه العقوبات إلى مخالفات أخرى كجرائم الفكر والسرقة، كما استخدموها للتأديب والانتقام الشخصي، وشملت عقوبة التعذيب كذلك حالات القصاص، وهو بحسب الشرع، الإعدام بقطع الرأس في قتل العمد، لكنه تجاوز هذا الحد في القصاص السياسي، ومن أمثلته تعذيب عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب، وتعذيب الخادم الذي قتل أبو سعيد الجنابي مؤسس الحكم القرمطي في شرقي الجزيرة العربية
فنون التعذيب وأبطاله:
لم يكن التعذيب مألوفاً في الجاهلية بالنظر لقيم البداوة المناهضة للتنكيل، وقد ظهرت منه بوادر في المدن التجارية وجهت رئيسياً ضد العبيد، وفي بداية الدعوة الإسلامية بمكة وجد تجار قريش حاجة لإرهاب عبيدهم ومواليهم الذين أسلموا فعذبوهم ليرجعوا عن الإسلام.، وكانت وسيلتهم في ذلك هي التشميس الذي يعتمد على شمس الجزيرة الحارقة، فكانوا يكتفون الضحية ويلقونه في الشمس بعد إلباسه أدرع الحديد أو وضع جندلة على ظهره أو صدره ويترك على هذا الحال ساعات غير محددة قد تستمر مادامت شمس النهار في عنفوانها، وظهر التشميس أيضاً في صدر الإسلام لتعذيب الممتنعين عن دفع الخراج. ويتفاوت مفعول هذه الوسيلة تبعاً لشدة حرارة الشمس، فهي في العراق والجزيرة أوجع للضحية، وفي بلاد الشام أقل إيلاماً.
إن التشميس هو أقدم وسائل التعذيب وهو وسيلة مشتركة بين الجاهلية والإسلام. ونبدأ الآن بعرض مفصل للوسائل التي ظهرت في الإسلام.
حمل الرؤوس المقطوعة:
وتدخل في باب المثلة بالميت. وقد بدأها الأمويون في زمان معاوية، ويقال إن أول رأس حمل في الإسلام هو رأس عمرو بن الحمق، أحد أتباع علي بن أبي طالب، وقد قتله زياد بن أبيه، ومن الحوادث المشهورة في هذا الباب حمل رؤوس الحسين وأصحابه بعد معركة كربلاء، وقد ثبتت الرؤوس على الرماح وسير بها من كربلاء إلى الكوفة حيث قدمت لحاكمها عبيد الله بن زياد، ثم استأنفوا السير بها إلى دمشق لتقديمها إلى الخليفة الأموي، ولم تتكرر هذه المثلة بكثرة أيام العباسيين، إلا أنها انتشرت في الأندلس أيام ملوك الطوائف ومن المبرزين فيها المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية الذي أقام في قصره حديقة لزرع الرؤوس المقطوعة، وكان المعتمد شاعراً.
الضرب والجلد:
باليد أو السوط أو الهراوة أو المقرعة وهو الكل المعتاد في تعذيب الاعتراف، كما استعمل في التأديب والانتقام السياسي، والضرب باليد غالباً ما يكون صفعاً على القفا والوجنتين ولم يكن الغرض منه الإيلام بقدر الإهانة ويضرب بالهراوة على الكتفين والظهر والأرداف. أما المقرعة فللرأس وهي أشد إيلاماً من اليد والهراوة. ويمكن اعتبار المقرعة تطويراً للدرة، وهي عصا خفيفة كان عمر بن الخطاب يحملها في طوافه بالأسواق والدروب ويقرع بها المخالفين لتعليماته، وقد استبدل بها عثمان السوط، أو العصاب بحسب الروايات وكان ذلك من أسباب النقمة عليه.
أما الضرب بالسوط فهو الجلد، وينفذ في المضروب واقفاً أو مبطوحاً وقد يقنطر ويضرب وهو ما اختاره وإلى المدينة لجلد مالك بن أنس مؤسس المذهب المالكي. وكان قد أفتى كما في رواية لابن عبد البر في «الانتقاء» بعدم شرعية البيعة للمنصور لأنها أخذت بالإكراه، فأمر الوالي بتأديبه، وتم ذلك برفعه من يديه ورجليه بعد أن قلبوه على وجهه وأخذوا بجلده على الظهر وليس للأسواط مقدار معلوم إلا في العقوبات الشرعية التي تضمنت حداً أعلى هو مائة جلدة لجريمة الزنى، لكن التحديد الشرعي لم يعمل به وكان المقدار يتحدد تبعاً لرغبة الآمر وربما استمر حتى الموت كما حدث لبشار بن برد الذي جلد بأمر المهدي بعد أن هجاه. وغالباً ما يتم الجلد دفعة واحدة ولكن يحدث أن يقسط على دفعات، ومن أمثلته جلد أبو حنيفة، مؤسس المذهب الحنفي، مائة سوط بأمر حاكم العراق الأموي ـ عمر بن هبيرة ـ لرفضه عرضاً بالعمل في إدارته وقد نفذ الحكم بالتقسيط كل يوم عشرة أسواط، وكان الهدف من التقسيط إعطاءه فرصة للتراجع وقبول المنصب الذي عرض عليه.
تقطيع الأوصال:
ويشمل قطع اليدين والرجلين واللسان وصلم الآذان وجدع الأنف وجب المذاكير (الأعضاء التناسلية للرجل)، وقطع اليد الواحدة منصوص عليه في الشريعة عقوبة للسارق، وكذلك قطع اليدين والرجلين وهو لقطاع الطرق. وقد توسع الحكام المسلمون بعد الراشدين في هذه الوسيلة دون التقيد بالجرائم المنصوص عليها، وطبقت رئيسياً على الجرائم السياسية وكان المقطوع يترك حتى يموت من تلقائه فإذا لم يمت قطعوا رأسه، وأقدم مثال لهذه الطريقة هو قتل عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، وقد أعدم ببتر يديه ورجليه ولسانه وسمل عينيه، ثم قطع رأسه، والبتر وهو الغالب في هذه الحالات أما الصلم والجدع فنادراً ما يحصل ولكن جب المذاكير كان في بعض الأحيان عقوبة يفرضها السيد على عبده إذا صدر منه فعل جنسي لا يرضاه السيد.
سلخ الجلود:
في رواية لابن الأثير أن قائداً من الخوارج يدعى محمد بن عبادة أسر في أيام المعتضد بالله فسلخ جلده كما تسلخ الشاه. ونقل ابن الأثير حادثاً آخر كان ضحيته أحمد بن عبد الملك بن عطاش صاحب قلعة أصفهان الاسماعيلية. وكان السلاجقة قد حاصروا القلعة بقيادة السلطان محمد بن ملكشاه ثم افتتحوها وأسروا صاحبها ابن عطاش. يقول ابن الأثير: فسلخ جلده حتى مات، ثم حشى جلده تبناً. والغرض من حشوه عرضه بعد ذلك للتشهير والتخويف. وقبض المعز الفاطمي على الفقيه الدمشقي أبو بكر النابلسي بعد أن بلغه قوله: «لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة (الفاطميين) وواحد في الروم» واعترف بالقول وأغلظ لهم بالكلام فسلخوا جلده وحشوه تبناً وصلبوه. والسلخ من أشنع صنوف التعذيب ويستدعى الإقدام عليه نزعة سادية في غاية الإفراط، ولذلك لم يتكرر كثيراً.
الإعدام حرقاً:
فرضه أبو بكر على رجل مأبون يدعى الفجاءة السلمي، وكان قد نقل إليه إنه «يؤتى من دبره كما تؤتى النساء» وهو من الأمور التي لم يتعودها عرب الجاهلية وصدر الإسلام. وورد في حروب الردة ما يدل على أن أبا بكر ضمن تعليماته لقادة الجيوش التي أرسلها لمحاربة المرتدين أوامر بالإحراق. وروى الطبري كتابين له في هذا المعنى كما نقل وقائع نفذت فيها أوامره. ويخبرنا البلاذري في «فتوح البلدان» أن خالداً بن الوليد أحرق بعض المرتدين بعد أسرهم وأن اعتراضاً من الصحابة قدم لأبي بكر ضد هذا الإجراء، فردهم أبو بكر قائلاً: «لا أشيم سيفاً سله الله على الكفار» يقصد خالداً.
واستعمل بعض ولاة الأمويين هذه العقوبة ضد الثائرين عليهم. وقد ذكرت آنفاً إحراق المغيرة بن سعيد العجلي حياً بأمر خالد القسري حاكم العراق، وفي أوائل العباسيين أعدم الكاتب عبد الله بن المقفع حرقاً بأمر سقيان بن معاوية أحد ولاة المنصور. وقد طور العباسيون في وقت لاحق هذا الفن إلى شي الضحايا فوق نار هادئة. وهو ما فعله المعتضد بحق محمد بن الحسن المعروف بشيلمة أحد قادة الزنج في البصرة وكان المعتضد قد أعطاه الأمان ثم اكتشف أنه يواصل نشاطه المعادي سراً فأمر بنار فأوقدت ثم شد على خشبة من خشب الخيم وأدير على النار كما يدار الشواء حتى يتقطع جلده ثم ضربت عنقه.
وفي البداية والنهاية أنه وجد نصراني يشرب الخمر مع مسلمة في نهار رمضان فحكم نائب دمشق للمنصور ابن قلاوون بإحراق النصارني وجلد المرأة. فأحرق بسوق الخيل (حوادث 687هـ) والمنصور من حكام المماليك مصر.
تعذيب متعدد الوسائل:
تجمع هذه الطريقة عدة أشكال من التعذيب ضد شخص واحد. وقد استخدمت ضد أسرى القرامطة في بغداد ومن أمثلتها تعذيب ابن أبي الفوارس من قادة القرامطة في سواد الكوفة، بأمر المعتضد وتفصيله كما أورده الطبري.
وعلقت بالأخرى جندلة وترك في حاله تلك من نصف النهار إلى المغرب ثم «قلعت أضراسه أولاً. ثم خلعت إحدى يديه بشدها إلى بكرة متحركة. قطعت يداه ورجلاه في الصباح وقطع رأسه وصلب في الجانب الشرقي ـ من بغداد ـ وحملت جثته بعد أيام إلى محلة تدعى الياسرية كانت تعلق فيها جثث القرامطة ليصلب معهم.
مثال آخر وصفه الطبري أيضاً وهو لصاحب الشامة الحسين بن زكرويه قائد القرامطة في السواد وكان قد أسر مع عدد من أصحابه وجيء بهم إلى بغداد ليعدموا:
«بنيت دكة في مكان عام ونودي علي الناس لحضور حفلة الإعدام، وبدأوا يقتادون الأسرى واحداً واحداً وكان الرجل يؤخذ ويبطح فتقطع يمنى يديه ويحلق بها ليراها الناس ثم ترمى. ثم تقطع رجله اليسرى ويحلق بها لنفس الغرض وترمى، ثم يسرى يديه فيمنى رجليه ويرمى بكل ما يقطع إلى أسفل، ثم يقعد فيقطع رأسه ويرمى به مع جثته إلى أسفل.
وقدم حسين بن زكرويه وضربمئة سوط، وقطعت يداه ورجلاه، وكوى بالنار فغشي عليه فأخذ خشب فأضربت فيه نار ووضع في خواطره وبطنه فجعل يفتح عينيه ثم يغمضهما، فلما خافوا أن يموت ضربوا عنقه. ورفع رأسه على خشبة فكبر الجلادون من فوق الدكة وتبعهم سار الناس بالتكبير». ولم تجر العادة بالتكبير في مثل هذه الأحوال إلا حين يكون الرأس المقطوع لعدو خطر. وهو ما فعله الأمويون عند قطع رأس الحسين بن علي في كربلاء، وكان الحسين بن زكرويه حينما أدخل إلى بغداد واستقبله الناس خاطبهم بقوله: يا قتلة الحسين.
تنور الزيات:
ابتكره محمد بن عبد الملك الزيات وزير الوثائق لتعذيب عمال الخراج المختلسين. وكان يصنع من خشب تخرج منه مسامير حادة وفي وسطه خشبة معترضة يجلس عليها المعذب وقد عذب فيه صانعه بعد عزله زمن المتوكل بسبب إهانة كان قد وجهها إليه قبل أن يستخلف. ووصف الطبري تعذيبه على الوجه التالي: «حبس أولاً. ثم سوهر (منع من النوم) فوكل به سجان ينخسه بمسلة كلما أراد أن يغفو. ثم ترك أياماً فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنباً فقدمت إليه فأكل. ثم أعيد إلى المساهرة أياماً نقل بعدها إلى التنور حيث مكث أياماً كلما أراد أن يغفو سقط على مسمار فانتبه، فكان يضطر إلى البقاء فوق الخشبة المعترضة ومقامة النوم. وهي الفكرة التي تكمن وراء صنع التنور بهذا الشكل، أي أن المعذب يجد أمامه خيارين، إما النوم على المسامير أو السهر طيلة إقامته في التنور.
أشكال مفدرة:
تدخل هذه الأشكال في عداد المبادرات الآنية ولذلك لا تجرى على نسق واحد أو تصميم متبع. وفيما يلي وصف لبعض الوقائع:
القتل بالطشت المحمى:
قبض السفاح العباسي على عبد الحميد الكاتب، وكان في معية مروان آخر الخلفاء الأمويين، فسلمه إلى صاحب شرطته فكان يحمي له طشتاً ويضعه على رأسه إلى أن مات..
الموت بالنورة:
من الوسائل التي قيل أن ابراهيم الإمام، زعيم الدعوة العباسية، قتل بها على يد مروان بن محمد آخر لفاء الأمويين وضع رأسه في جراب مليء بالنورة وشد عليه بإحكام. وقد ترك على هذه الحالة إلى أن مات مختنقاً.
النفخ بالنمل:
سعيد بن عمر الحرشي كان والياً على خراسان لعمر بن هبيرة حاكم العراق (كان المشرق يدار من العراق أيام الأمويين) وكان يستخف بأوامره، فأرسل إليه رجلاً يستطلع حاله، فعاد الرجل فأيد ما ذكروا عنه. وكان سعيد بعد أن علم بالرجل وضع له سماً في بطيخة لكنه لم يمت ورجع إلى العراق فعولج حتى برء. وعزل عمر بن هبيرة سعيداً وعذبه بأن نفخ في بطنه النمل. ولم تذكر الرواية إن كان قد مات أم لا.
التعطيش:
عام 403هـ هجمت خفاجة على الحجاج فقتلوا منهم خلقاً وهرب الكثيرون إلى الصحراء فماتوا عطشاً فقبض الوزير البويهي فخر الملك على قائدهم وأركانه وأمر بصلبهم على مسيل ماء بحيث يرونه ولا يصلون إليه حتى ماتوا عطشاً.
التبريد بعد الجلد:
أورد الغزالي في «إحياء علوم الدين»أن عبد الملك بن مروان خطب ابنة التابعي سعيد بن المسيب، وكانت مشهورة بجمالها، لابنه الوليد فرفض سعيد لورعه ومعارضته لسياسة الأمويين، فأمر عبد الملك بتأديبه فضرب مئة سوط في يوم بارد وألبس جبة صوف ثم صب عليه جرة ماء بارد. وارتكب عمر بن عبد العزيز إجراء مماثلاً بحق خبيب بن عبد الله بن الزبير بأمر من الوليد بن عبد الملك حين كان عمر والياً على المدينة وتقول بعض الروايات إن الوليد لم يضمن أمره صب الماء البارد وإن عمر أضاف هذه العقوبة من عنده، لعل هذا هو السبب في حدة شعوره اللاحق بالجريمة كما تقول الروايات حين أعلن الندم والتوبة وحاول التخلص من الولاية وكان يومذاك في الخامسة والعشرين من عمره.
التكسير بالعيدان الغليظة:
مر بنا ذكر خالد القسري الذي كان والياً على الحجاز ثم على العراق لهشام بن عبد الملك وقد عزل خالد بيوسف بن عمر الثقفي ثم قتل بسبب مخالفات صدرت منه ضد الخليفة، وكان قتله على الشكل التالي:
وضع عود غليظ على قدميه وقام عليهما عدد من الجلادين فكسرت قدماه.. ثم وضع العود في ساقيه فكسرتا بنفس الطريقة. ثم نقل إلى فخذيه ومنهما إلى حقويه وانتهى العمود إلى صدره فكسر، وعندما مات، وكان خلال ذلك ساكتاً لا يتأوه..
قرض اللحم:
استخدمه قرامطة شرقي الجزيرة وكان مؤسس الدولة القرمطية أبو سيعد الجنابي قد اغتيل بيد خادمه بعد أن دخل الحمام، وقام الخادم بعده بقتل عدد من القادة استدرجهم إلى الحمام وقبضوا على الخادم بعد اكتشاف أمره فشدوه بالحبال ثم أخذوا يقرضون لحمه بالمقاريض حتى مات.
إخراج الروح من طريق آخر:
عقيدة خروج الروح من الفم عند الموت أوحت للمعتضد بأشكال من القتل أراد بها إخراج روح المقتول من غير طريق الفم. قال المسعودي في «مروج الذهب» إن المعتضد كان شديد الرغبة في أن يمثل بمن يقتله وذكر من وسائل ذلك:
1 ـ إذا غضب على القائد النبيل أو الذي يختصه من غلمانه أمر أن تحفر له حفيرة يدلى رأسه فيها ويطرح التراب عليه ويبقى نصفه الأسفل ظاهراً فوق التراب ثم يداس التراب بالأرجل حتى تخرج روحه من دبره بعد أن تكون قد سدت كل المنافذ التي يمكن أن تخرج بواسطتها من فمه.
2 ـ يؤخذ الرجل فيكتف ويؤخذ القطن ويحشى في أذنيه وخيشومه وفمه. ثم تضوع منافخ في دبره حتى ينتفخ ويتضخم جسده. ثم يسد الدبر بشيء من القطن. وبعدها يفصد من العرقين فوق حاجبيه حتى تخرج من ذلك الموضع.
قلع الأظافر:
أقيمت وليمة قرشية حضرها هشام بن عبد الملك حين كان أميراً، ووجيه يدعى عمارة الكلبي، واقتضى ترتيب الوليمة أن يجلس عمارة فوق هشام، فاستكثرها منه وآلى على نفسه أن يعاقبه متى أفضت إليه الخلافة، فلما استخلف أمر أن يؤتى به وتقلع أضراسه وأظافر يديه. ففعلوا به ذلك. وكان يقول فيما بعد يندب نفسه:
عذبوني بعذاب.. قلعوا جوهر رأسي
ثم زادوني عذاباً.. نزعوا مني طساسي
بالمدى حزز لحمى.. وبأطراف المواسي
وهنا يذكر أشكالاً أخرى من التعذيب لم تذكرها الرواية ولعلها جاءت استطراداً منه لاستكمال صورة العدوان الذي وقع عليه.
التعذيب بالقصب:
فيروز بن حصين من قادة انتفاضة ابن الأشعث ضد الحجاج في العراق. أسر بع فشل الانتفاضة، وكان تحت يديه أموال طائلة يعود بعضها للحركة، ولاستحصال الأموال منه أمر الحجاج بتعذيبه، فعري من ملابسه ولفوه بقصب مشقوق ثم أخذوه يجرون القصب فوق جسده، ولزيادة إيلامه كانوا يذرون الملح ويصبون الخل على الجروح التي يسببها القصب.. وبعد أن يئس الحجاج من اعترافه بالأموال قطع رأسه.
التعذيب الجنسي:
من الوقائع النادرة في هذا المجال اغتصاب نساء المدينة على يد جنود أهل الشام بأمر من يزيد بن معاوية. وسيرد الكلام عليها لاحقاً. لكني لم أعثر حتى الآن على رواية موثوقة بشأن الاعتداء الجنسي على الأسرى أو المعتقلين. سوى ما رواه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن الحاكم بأمر الله الفاطمي كان يتجول في الأسواق على حمار ومعه غلام أسود ضخم فمن أراد تأديبه أمر الأسود فأولج فيه جهاراً. ويبدو أن التغليظ في النهي عن الزنى جهراً، مع بقايا القيم والتقاليد القبلية قد جعل مثل هذه الاقترافات غير ميسورة. وكان ولاة الأمويين يعتقلون النساء ويقتلونهن أحياناً ولكن مع عدم المساس بشرفهن الشخصي. وقصة زوجة الكميت بن زيد مع والي العراق خالد القسري تحتفظ هنا بدلالة مهمة. فقد كان الكميت معتقلاً بأمر هشام بن عبد الملك وينتظر تنفيذ حكم من هشام بقطع لسانه على قصائده الهاشميات، فدبر خطة هروب مع زوجته فلبس ثيابها وانسل من السجن ليلاً وجاء السجانون صباحاًَ لتنفيذ الحكم، فوجدوا زوجة الكميت في السجن بدلاً منه. وأخذها إلى خالد القسري فلم يزد هذا الإرهابي الخطر على أن قال: حرة فدت ابن عمها!
تعذيب أدبي:
كان يطبق على المخالفات التي لا ترقى إلى درجة الجنحة أو الجناية أو التي لا تمس أمن السلطة مصالحها، ومن وسائله حلق اللحى أو نتفها ـ والنتف يجمع بين التعذيب الجسدي والأدبي معاً ـ وحلق الرؤوس. وكانت هذه العقوبات تفرض أحياناً على الزعران والزنادقة، ومنها قص الشعر الطويل، وكان يطبق على المراهقين أو الفتيان اللاهين. وقد تباهى ابن الجوزي في «القصاص والمذكرون» حملة قادها في بغداد ضد هؤلاء فقصوا فيها «أكثر من عشرة آلاف طائلة ـ أي خصلة طويلة». ومن وسائل التعذيب بإركاب المشهر به على حمار والطواف به في المدينة ومعه أشخاص ينادون بجريمته ويورد الجاحظ في «مفاخرة الجواري والغلمان» تشهيراً بهذه الوسيلة لجارية ماجنة في بغداد قبض عليها وهي تجامع مخنثاً بكنديج (قضيب اصطناعي) ويؤخذ من رواية الجاحظ أنها اعتبرت هذه الوسيلة معادلة للقتل، لأنها كانت تخاطب الرجال عند الطواف بها و تقول متهمة إيهاهم بالظلم: إنكم (......) والدهر كله فلما (......) مرة واحدة قتلتموننا.. وابتكر عبيدا لله بن زياد وسيلة إضافية في التعذيب الأدبي بهذه الطريقة طبقها على الشاعر المتمرد يزيد بن مفرغ الحميري. أمر بأن يسقى مادة مسهلة ثم يطاف به. وكان الشاعر يسلح على نفسه أثناء الطواف.
خارطة التعذيب:
تفاقم التعذيب على يد الأمويين، متلازماً مع تحول دولة المدينة البسيطة إلى امبراطورية يحكمها خليفة مطلق السلطة، لكن ذلك لا يعني أن التعذيب لم يمارس من قبل. وقد أشرنا آنفاً إلى أوامر أبي بكر بحرق المرتدين ودفاعه عن أفعال من هذا القبيل صدرت عن خالد بن الوليد في حروب الردة. ويمكن اعتبار خلافة عثمان نقطة تحول أولية في القمع الإسلامي، فهو مؤسس جهاز الشرطة في الإسلام، وقد ذكر ابن حبيب في «الحبر» اسم مدير الشرطة الذي عينه وهو عبد الله بن منقذ التيمي ـ من قريش ـ ونوه بما يدل على بساطة جهازه، كمؤشر على سلطة قمعية في طور النشوء وانتهج ولاة عثمان نهجاً قمعياُ، محدوداً في دار الإسلام، منفلتاً في دار الحرب (جبهة الفتوحات)... ولم يرد عن عمر بن الخطاب شيء من ذلك؛ أما عليّ فهناك رواية تقول بأنه أحرق مرتدين. وقد أخرجها البلاذري في «أنساب الأشراف» على وجهين يرد في أحدهما أنه أحرقهم أحياء وفي الآخر أحرقهم بعد قتلهم بالسيف. وتربط بعض المصادر هذا الحدث بأتباع عبد الله بن سبأ الذي قيل إنهم ألهوا علياً فأحرقهم في روايات، ونفاهم في روايات أخرى. وتورد الروايات التي ذكرت الإحراق رجزاً قيل إن على أنشده عند أو بعد إحراقهم. وعبد الله بن سبأ مشكوك في تأريخيته، كما أن الغلو لم يكن قد ظهر في زمان عليّ. لكن رواية البلاذري عن حرق المرتدين ممكنة بالنظر لوجود مثل هذه الحالات في ذلك الوقت. ومن المستبعد مع ذلك أن يكون عليّ قد أحرقهم أحياء لما نعرفه عنه من تشدد في مراعاة أحكام الشريعة. والوجه الثاني لرواية البلاذري أحرى عندي بالقول. مع التنبيه إلى أن الرجز الذي نسب إلى علي في هذا الحادث ركيك لا يحتمل صدوره عنه وهو من عناصر الضعف في الرواية. ما لم يكن أضيف إليها فيما بعد.
يستثنى من خلفاء الأمويين عمر بن عبد العزيز، الذي حكم أقل من ثلاث سنوات، ويزيد الناقص الذي حكم ستة أشهر. أما الباقون فكانوا قمعيين بدرجات متفاوتة.وظهرت ملامح نزعة سادية لدى بعض الولاة والقواد مثل زياد بن أبيه وابنه عبيد الله ومسلم بن عقبة المري والحجاج وقرة بن شريك وبشر بن مروان ويزيد بن الملهب وخالد القسري وأخيه أسد. ويروى أن مر بن عبد العزيز استعرض بعض هؤلاء يومياً ـ قبل خلافته ـ فتحدث بما يشعر بالهول من اجتماع عدد منهم وفي وقت واحد. قال: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة.. اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح الناس! واشتهر الحجاج من بين هؤلاء رغم أن فيهم من لا يقتصر عن شأوه. و تقول رواية شعبية إنه كان إذا أعدم أحداً يستمني على نفسه..ويكرس هذا الجنوح في الخيال حالة الاقتران السيكولوجي بين الجنس والعنف مما عسى أن يكون الحدس الشعبي قد لمسه من خلال نموذج سادي تصدر قصص الإرهاب في تاريخنا.
وينتظم الخلفاء العباسيون في نفس السلك. مع استثناءات من النزعة السادية يمكن أن تشمل المأمون والواثق. والخلفاء الذين رقعوا تحت طائلة البويهيين والسلاجقة ففقدوا سلطتهمالفعلية، وخلفاء الحقبة العباسية الأخيرة الذين عاشوا في ظروف خاصة واقتصرت سلطتهم في الغالب على بغداد وما حولها.. وعرف بالدموية من ولاته وقوادهم: أبو مسلم الخراساني وعبد الله بن علي ومعن بن زائدة ويزيد بن مزيد وعقبة بن مسلم ومن الوزراء الفضل بن مروان ومحمد بن عبد الملك الزيات وحامد بن العباس. وفي الأندلس، تميز المعتمد بن عباد بميله إلى التلذذ بمشهد الرؤوس التي كان يأمر بقطعها وقد مر بنا أنه كان يشتلها في حديقة داره. واشتهر بالقسوة معظم ملوك الطوائف من غير المعتمد، وكذا المرابطون والموحدون الذين اقترن تاريخهم بأعمال الإعدام الجماعية التي ذهب ضحاياها مئات الألوف من خصومهم. ومن الخلفاء الفاطميين عرف الحاكم بأمر الله بحالته المرضية التي تجمع بين أعراض التقلب والمزاج الدموي.. وعرف من القرامطة أبو طاهر القرمطي بالمذابح المجانية في مكة وغيرها من النواحي التي امتدت إليها غزواته ما لم نضع في الحسبان احتمال المبالغة في أخباره التي وردتنا في مصادر معادية للقرامطة.
جلادون من الخلفاء يندمون عند الموت:
بتأثير الحرمة المؤكدة للقتل الكيفي والتعذيب كان بعض الخلفاء يتنغصون عند الموت لخوفهم من دخول جهنم، فقال عبد الملك بن مروان ليتني كنت غسالاً. وبغت الفقيه أبو حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه. ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.. (ترجمة عبد الملك من الطبري وابن الأثير) وقال الواثق العباسي: «لوددت أني أقلت العثرة وأني حمال أحمل على رأسي». وطلب منه العهد لولده فقال: لا يراني الله أتقلدها حياً وميتاً. (اليعقوبي 2/83) وفي قوله هذا إشارة إلى حتمية اقتران القمع الدموي بالسلطة الفردية. وقال والده المعتصم عند الموت: لو كنت أعلم أن عمري هكذا قصير لم أفعل ما فعلت ـ الطبري في ترجمته. وانفرد الحجاج براحة ضمير مطلقة ترجع إلى ولائه الديني للأمويين.
موقف الفقهاء:
اشتملت مصادر الحديث على روايات في النهي عن المثلة، أي تعذيب الحي وتشويه الميت حدد الفقهاء على أساسها مواقفهم من التعذيب نعرضها فيما يلي:
ـ حديث عمران بن حصين، أخرجه أحمد بن حنبل في «المسند» والدرامي في «السنن» ونصه: «ما قام فينا رسول الله خطيباً إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة». أورداه من عدة طرق.
ـ حديث عبد الله الخطيمي، أخرجه أحمد ونصه: «نهى رسول الله عن النهبة المثلة».
ـ حديث المغيرة بن شعبة، أخرجه أحمد ونصه: «نهانا رسول الله عن المثلة».
ـ حديث سمرة بن جندب، أخرجه أحمد ورواه ابن هشام في السيرة ونصه مماثل لنص عمران بن حصين.
ـ حديث هشام بن حكيم بن حزام، أخرجه أبو داود في «السنن» ومسلم في الصحيح ونصه: «مر هشام بن حكيم على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله يقول إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا، ودخل على حاكم فلسطين فحدثه بالحديث فأمر بهم فخلوا».
ـ وصية إلى سراياه أوردها ابن هشام في السيرة وأخرجها الترمذي في «الصحيح» نصها: في السيرة: لا تغلوا ولا تمثلوا. في الصحيح: لا تغدروا ولا تمثلوا.
ـ حديث هبار بن الأسود، أخرجه الطبري في «ذيل المذيل» وأبو داود في «السنن»وابن عبد البر في «الاستيعاب» وأورده ابن هشام في «السيرة» والزبير بن بكار في «نسب قريش» بصيغ تتفاوت قليلاً خلاصتها أنه أوصى سرية، أو عدة سرايا، إذا ظفروا بهبار بن الأسود أن يحرقوه، ثم استأنف: لا يعذب بالنار إلا الله، وأمره بقطع يديه ورجليه بدلاً من ذلك.
وكان هبار من بلطجية قريش وللنبي ثأر شخصي معه لأنه طارد ابنته زينت عندما هاجرت من مكة لتلتحق بوالدها وضربها فسقطت من بعيرها، وكانت حاملاً فأجهضت ويختص هذا الحديث بالنهى عن الإعدام حرقاً «ظفر محمد بهبار في فتح مكة وعفا عنه».
ـ أحاديث وردت عن طريق الشيعة، فيها رواية لليعقوبي تؤكد النهي عن التعذيب لأي سبب كان، وحديث في نهج البلاغة بالنهي عن المثلة، وآخر عن أئمة أهل البيت في معاقبة مرتكبي التعذيب بالسجن المؤبد.
تتصل هذه الفئة من الأحاديث فئة أخرى حرمت ضرب العبيد وتعذيبهم، منها:
ـ حديث لليعقوبي: «لا أخبركم بشرار الناس؟ من أكل وحده ومنع رفده وجلد عبده». «الرفد: العطاء».
ـ حديث هلال بن عساف، أخرجه مسلم وابن عبد البر: كنا نبيع البر في دار سويد بن مقرن فخرجت جارية وقالت لرجل منا كلمة فلطمها، فغضب سويد وقال: لطمت وجهها؟ لقد رأيتني سابع سبعة من إخواني مع رسول الله مالنا إلا خادم واحدة فلطمها أحدنا فأمرنا رسول الله فأعتقناها «البر، بضم الباء، القمح».
ـ حديث أخرجه أبو داود في «السنن»: «من لطم مملوكه فكفارته أن يعتقه».
ـ حديث مقارب أخرجه الخطيب في تاريخ «بغداد»: «من ضرب عبده في غير حد حتى يسيل دمه فكفارته عتقه».
وهناك جملة أخرى من الأحاديث بشأن تعذيب الحيوان منها:
إن هذه الروايات تحظى بتوثيق علماء الجرح والتعديل منحي السند ولم يرد بشأنها ما يثير الشك في المصادر التي تناولت الأحاديث الموضوعة أو الشك في المصادر التي تناولت الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة كاللآلئ المصنوعة للسيوطي والوائد المجموعة للشوكاني. لكن توثيق السند، رغم أهميته، ليس حاسماً في تصويب الرواية، ونحن نضع في حسابنا:
1 ـ اتجاهات الفرق المعارضة وبعض المتنورين الذين وقفوا ضد الإرهاب وما يحتمل أن تثيره من الحاجة إلى مبادئ شرعية تسند وقفتهم، وفي تاريخ الحدث أمثلة كثيرة على ذلك.
2 ـ وقائع المثلة في السيرة، وهي تعارض منطوق الأحاديث المذكورة، وقد جرى المستشرقون على الاستفادة من هذا التعارض للتشكيك بالأحاديث، وثمة مع ذلك حجة مقابلة لدى الطرف الرسمي. السلطة المعذبة ـ إلى شرعنة سياساته يمكن أن تقف وراء رواية هذه الوقائع في السرية وتخضعها لنفس القدر من التشكيك، على أني لا أرى مسوغاً لتصميم أحادي يمكن أن تغري به الرغبة في تجاوز أي من هذه الروايات، التي نقلت إلينا في مصادر معتمدة لا يصح إخضاعها للتشكيك الاعتباطي، وتعارض التوجيه والممارسة لا يكفي هنا للترجيح بالنظر لاختلاف الدوافع والظروف التي تحكم كلاً منها، ولأن منحى الانفصام بين الفكر والسلوك، كمنحى سائد بدرجات متفاوتة في تاريخ الوعي البشري يمنع من المعايرة بينهما.
مهما يكن من شيء، فقد تقبل الفقهاء هذه الأحاديث واعتبروها نصاً قاطعاً في تحريم التعذيب، ولا شك أنهم نظروا إلى ما صدر عن النبي في هذا الشأن خصوصياته التي لا تندرج في عداد السنة، وبنيت على ذلك جملة من الأحكام الفقهية تناولت قضايا التحقيق والعقوبات وأمور الحرب سنلم بها في السطور الآتية:
وسائل الإعدام:
لم يتطلع الفقهاء المسلمون إلى يوم تلغى فيه عقوبة الإعدام، مفترضين الضرورة الأبدية للعقوبات ما دام الإنسان مزيجاً من الخير والشر، وإنما تداولوا حديثاً نبوياً يقول: «أعف الناس قتلة أهل الإيمان» أي أن المؤمن إذا اضطر إلى القتل نفذه بأقل الوسائل إيلاماً، وقد استنتج منه ابن تيمية أن القتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أوحى أنواع القتل. يقصد أسرع بحيث لا يتعذب المحكوم به، وينبني على هذا أن الإعدم يجب أن ينفذ بالسيف مادام الوسيلة الأقل إيلاماً، فإذا وجدت وسيلة أخرى حلت محله، وهو المستفاد من الحديث، ولم يلتفت الفقهاء إلى تعارض هذا الحكم مع حكمين بالقتل يقترنان بالتعذيب، أولهما حكم قطاع الطرق، المنصوص عليه في القرآن، بقطع اليدين والرجلين والصلب وهو يقتضي قتلهم بهذه الطريقة، إلا أن جمهور الفقهاء، جعلوا الصلب بعد القتل، وقد أوله ابن تيمية برفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم. لكن القتل بقطع الأطراف هو حد ذاته تعذيب، ولم يكن للفقهاء الذين حرموا التعذيب إلا الامتثال لهذا الحكم بسبب صدوره عن الوحي الإلهي.
الحكم الآخر هو رجم الزاني والزانية المحصنين. أي المتزوجين وهي ذات أصل سومري وكانت تفرض على المرأة المراهطة، وانتقلت إلى المسلمين عن ريق التوراة، ينص هذا الحكم على الرجم حتى الموت، وكانت عقوبة الزانية المحصنة حبسها في منزلها حتى الموت وفقاً لنص الآية «15» من سور «النساء»، ثم نسخت بالرجم، وقد أثار حكم الرجم التباسات ناشة عن شناعته من جهة وعدم النص عليه في القرآن من جهة أخرى، فأنكره فريق من المسلمين بينهم الخوارج وتساهل آخرون في تنفيذه، ويبدو أن القائلين به شعروا بالحاجة أمام الإنكار، إلى توكيد وروده في الكتاب والسنة فقالوا إن حكم الرجم منصوص عليه في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.
ونص الآية كما ترد في مصادر التفسير والناسخ و المنسوخ منسوبة إلى عمر بن الخطاب: «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم».
وقد نسخت تلاوة الآية برفعها من القرآن مع بقاء حكمها، ولا سبيل إلى البت في صحة هذه الرواية لأن أسلوب الآية المدعاة من الركاكة بحيث يصعب القول إنها صادرة عن القرآن، ويزداد الأمر التباساً حين يراد منا أن نقبل بأن آية باقية التلاوة «الآية 15 من سورة النساء» تنسخها آية منسوخة التلاوة «آية الرجم» مما لا جد له نظيراً في الناسخ والمنسوخ، على أن مصادر الحديث والسنة اشتملت على وقائع نفذ فها الحكم على يد النبي وبعض الأحاديث التي تصرح به، مما يعزز الاعتقاد بورود حكم شرعي منصوص عليه في الأصول، وعندئذ قد يكون من المعقول أن يقال أن الآية 15 من سورة النساء قد نسخت بالسنة، ويوافق معظم الأصوليين على أن السنة تنسخ القرآن، على أننا نعثر في «طبقات الصوفية» للسبكي أن الصحابي عبد الله بن أبي أوفى سئل إن كان النبي قد رجم فقال نعم، فسئل: بعدما نزلت سورة «النور» أم قبلها؟ فقال أدري «ص333» وتعزز هذه الرواية الشك في الرجم لأن سورة النور اقتصرت على عقوبة الجلد.
ونظراً لتحريم الاجتهاد في موضع النص، لم يكن ميسوراً إعلان رأي ما بشأن هاتين العقوبتين، ولعل الفقهاء قد وضعوهما على ملاك الاستثناء من حكم الحدث، وهو عام في سائر الأحكام التي قال الفقهاء بوجوب تنفيذها بضربة واحدة سريعة بالسيف.
ويبدو التمسك بهذا الحديث موجهاً ضد وسائل الإعدام التي شاعت بعد الراشدين وهي الإعدام بالتعذيب، وبناء على الاعتبارات نفسها حرم الفقهاء الإعدام بالنار، وقد استندوا إلى حديث هبار، ولم يجعلوا أفعال أبو بكر سابقة وإنما اعتذروا له باحتمال عدم سماعه بالحديث، كذلك لم يعتدوا بروايات حرق المرتدين على يد علي بن أبي طالب لأن الأحكام الشرعية لا تؤخذ عندهم من مصادر التاريخ العام، لا سيما أن هناك روايات تفيد أن كلاً من أبو بكر وعلي نهى عن المثلة.
التعذيب دون القتل:
حرمه الفقهاء بجميع أشكاله استناداً إلى النهي العام عن المثلة، وهو يشمل تعذيب الاعتراف العقوبة وتعذيب العبد وغير ذلك، وفيما يتعلق بالأوان قال أبو يوسف إن الاعتراف الناشئ عن رب المتهم وإيذائه لا يعتد به، وه ما قاله المحقق الحلي. من فقهاء الأمامية. في باب الحدود من «المختصر النافع» بأن السارق وإذا أقر بالسرقة تحت الضرب لا تقطع يده، وفرق بعض الفقهاء بين ضرب المتهم وتعذيبه بالوسائل الأخرى، فحرموا الأخيرة إطلاقاً وتسامحوا في الأول ـ الضرب ـ فقد أجاز ابن تيمية ضرب اللصوص لاستخراج الأقوال منهم. ووضع الماوردي قاعدة عامة بشأن الضرب تمنت جوازه مع قوة التهمة، أي أن تكون هناك دلائل ترجح صدور الفعل عن المتهم، على أن يكون ضرب تعزير لا ضرب حد، أي دون القدر الأدنى للعقوبات الشرعية وهو أربعون سوطاً، ووضع الماوردي للضرب هدفين: أن يضرب ليصدق عن حاله، وأن يضرب ليقر، والأول هو أن يقدم إجابات صحيحة عن أمور أخرى يحتاج المحقق إلى معرفتها في مجرى التحقيق، فإذا ضرب لهذا الغرض أخذت إفادته بالاعتبار، أما إذا ضرب لهذا الغرض أخذت إفادته بالاعتبار، أما إذا ضرب ليقر فإن إقراره لا يصح، لكن المارودي يفتر حالة ثالثة هي أن يضرب ليصدق عن حاله فيتجاوز ذلك إلى الإقرار ـ دون الإقرار أخذ به، وإذا أنكر جاز للمحقق أن يعمل بالإقرار الأول ولكن مع الكراهية، وهنا يتسامح المارودي فيعطي المحقق فرصة للاستفادة من الإقرار بالضرب على أن يكون الغرض من الضرب هو الإخبار عن أموره العامة وليس الإقرار بالتهمة، وهذا اجتهاد من الماوردي المعروف أنه شافعي المذهب، والشافعي لا يوافق على الضرب، وكذا أبو حنيفة ومالك وهو موقف الإمامية أيضاً كما أسلفنا عن المحقق الحلي، لكن المالكية أجازوه خلافاً لإمامهم وقالوا في إجازته إنه سيكون سبباً قي الازدجار حتى لا يكثر الإقدام على الجرائم.
التعذيب للعقوبة غير مسموح به خارج العقوبات المنصوص عليها، واعتبر الفقهاء ما صدر عن الحكام المسلمين بعد الراشدين مخالفاً للشرع، لا سيما في الجرائم السياسية والمخالفات التي تمس شخص الحاكم، وقد عنى الفقهاء بهذه المعضلة أكثر من غيرهم من فئات المثقفين المسلمين بحكم اختصاصهم كرجال قانون «وهم بهذه الصفة يتميزون عن كونهم رجال دين» وقاموا حينذاك بالدور الذي تقوم به منظمات حقوق الإنسان، ولو أنهم أخفقوا مثلها في صد هذه الموجة الجنونية التي لا تزال تعصف بالكثير من البلدان، وتحتوي مصادر الفقه والحديث على مادة وفيرة مضادة للتعذيب ربما تكون أكثر إشراقاً لو أن الفقهاء تجرأوا على إعادة النظر في بعض العقوبات الشرعية كالرجم والقطع لما فيها من عناصر المثلة، وقد مر بنا مع ذلك أنهم اختلفوا حول الرجم حيث أنكره بعض فقهاء الخوارج، ووضع آخرون لتنفيذه شروطاً تؤدي مراعاتها إلى تقليص مداه، فقد اشترطوا لثبوت الزنا أربعة شهود، وهو شرط أصلي في الشريعة ولكن معظم الفقهاء ذهب إلى إثقاله بشرط إضافي وهو أن يكون الشاهد قد رأى فعل الزنا عياناً، أي أن «يرى الميل في المكحلة» كما تعبر عنه عبارة تنسب إلى عمر بن الخطاب قصة زنا المغيرة بن شعبة، دون الوقوف على الهيئة الظاهرة للجماع، أي المضاجعة، ومن المؤكد أن هذا لن يتهيأ للمشاهد حتى في حدائق أوروبا العامة، ناهيك عن أن يكون في المجتمع الإسلامي والفقهاء على اتفاق في أن الرجل والمرأة إذا وجدا في لحاف واحد وكانا غير زوجين يعاقبان بالتعزير فقط.
إن عقوبة الرجم هي كما قلنا للزاني المحصن، أما العزّاب فيعاقبون بالجلد مائة سوط، وقد وضعت للجلد شروط تخفف من أضراره هي:
1 ـ أن يجلد بسوط خفيف بين الشدة واللين.
2 ـ ألا يجرد من ثيابه إلا ما كان منها ثخياً كالفرو.
3 ـ ألا يضرب في الحر الشديد والبرد الشديد وإنما عند اعتدال الهواء.
4 ـ تجنب المواضع المهلكة كالوجه والبطن.
5 ـ أن يضرب قاعداً مع عدم المد والغل والقيد.
6 ـ يجوز تقسيط الجلدات إلى خمسة أيام.
ومع هذه الشروط لا يبقى للجلد مفعول سوى دلالته الأدبية الماسة بكرامة الإنسان وهو ما أدى بالقوانين الحديثة إلى إلغائه في معظم المجتمعات، وللفقهاء تقييدات إضافية للعقوبات، فقد قال أبو حنيفة إن السكران لا يجلد إلا إذا بلغ في سكره حداً لا يفرق فيه بين السماء الأرض أو بين الرجل والمرأة. والمعروف عن أبو حنيفة أنه أباح النبيذ.. وقد استفاد الناس من هذه الرخصة، بينما أثارت هذه الفتوى زوبعة بين أتباعه فضلاً عن خصومه، وقال الفقهاء: إن السارق لا يقطع إلا إذا سرق من مال محرز، والمحرز أن يكون مقفلاً أو مدفوناً من مالكه، ولذا لا يقطع سارق البساتين والزروع، وكذا من سرق من حرز هتكه غيره، ولا يقطع سارق المواد التي يسرع إليها التلف كاللحم والفواكه وسارق المباح الكثير كالخشب، وحددوا معنى السرقة بأخذ المال على سبيل الخفية والاستتار فإن اختلس أو نشل لم يكن سارقاً ولا قطع عليه، ويشمل هذا الحكم النشالين أو الطرارين، ولا يستفاد من هذا إباحة السرقة في هذه الأمور فالمقصود هو عقوبة القطع فإذا لم تتوفر شروطها عوقب السارق بعقوبات أخف كالحبس أو التعزير.
وقال أبو حنيفة بعدم العقوبة على اللواط في رواية، وفي أخرى بالجلد ما دون الحد المقرر للزاني، ويروى عنه أن قال من استأجر امرأة ليزني بها لا يحد لأن العقد يصير شبهة، يقصد أن عقد الاستئجار هو كعقد الزواج، لأنه يتضمن ركنين هما المهر الذي يدفع للمرأة في شكل أجرة، والتراضي بينهما، وأخذ الأجرة دليل مادي على رضا المرأة، وفي المحلى لابن حزم أن أبا حنيفة لم ير الزنى إلا ما كان مطارفة، وأما ما كان فيه عطاء أو استئجار فليس زنا ولا حد فيه. وقد استند في هذا إلى خبر الجائعة التي أتت راعياً فسألته الطعام فأبى عليها حتى تعطيه نفسها فوافقت، ثم جاءت إلى عمر بن الخطاب، فأخبرته فقال: مهر، ودرأ عنها الحد. ولا يعنى هذا القول من أبو حنيفة إباحة البغاء، ويجب على أي حال أن يفهم في ضوء الاتجاه إلى تقليص حالات تطبيق العقوبة على الزنا، مع ما يحمله من التفريق بين زنا الرغبة وزنا الحاجة.
يقصد بالمطارفة ما كان عن مجرد رغبة عابثة، ورواية ابن حزم قرب إلى المعقول، وهي بحسب قصة الجائعة المنقولة عن عمر حكم خاص بالمرأة المزني بها دون الرجل، لأنها زنت اضطراراً ـ لا مطارفة ـ وهذا لا يرفع العقوبة عن الراعي الذي لا تذكر الرواية حكمه، إذا يبدو أنه كان مجهولاً لعمر، وإلا لكان من المفروض أن يقع عليه الحد، ورواية الجويني تفيد أن عدم العقوبة يشكل الرجل ويجب عدم الوثوق بها لأا كتابه مكرس للتشنيع بأبي حنيفة ليس لدراسة الأحكام الفقهية.
ويمكن أن نفهم من مجمل هذه الأقوال أن أبو حنيفة يريد رفع العقوبة عن المرأة التي تزني اضطراراً، وبالطبع فهذا يشمل البغايا لأن زناهن للحاجة وليس للرغبة، ولا بد أن العقوبة لا تسقط عن الرجل «الفاعل» لعدم توفر هذا القيد.ا
ويمكننا أن نرصد اتجاهاً عاماً بين الفقهاء في التشدد في جرائم القتل العمد وقطع الطريق واتساهل فيها عداها، وهناك قاعدة تقول: يخير الشهود «أي من شهدوا الجريمة» بين إقامة الحد عند الإمام وبين الستر على المشهود عليه واستتابته، بحسب المصلحة، فإن ترجح عندهم أنه يتوب ستروه وإن كان في ترك الحد عليه ضرر للناس كان الراجح رفعه إلى الأمام.
وتعطي هذه القاعدة دراً للجمهور في معالجة الجريمة دون رفعها إلى السلطة، ولم يحدد صنف الجرائم المشمولة بهذا الإجراء، لكن الإشارة إلى ما فيه «ضرر للناس» يمكن أن تنسحب على جرائم القتل والسرقة التي لا يجوز التستر على فاعلها ولا بد بالتالي أن يكون المقصود هنا هو الجرائم الشخصية التي يسميها القرآن «فواحش» وهي الزنى وشرب الخمر وما أشبه.
وللقاعدة المذكورة أصل في القرآن هو الآية 16 من سورة «النساء»: «واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما، إن الله كان تواباً رحيماً». والإشارة إلى الرجل المرأة، وقد ذكر الزمخشري في تفسير هذه الآية إن المراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الأمام، فإن تابا قبل الرفع إلى الأمام فأعرضوا عنهما و تتعرضوا لهما، وقد وردت روايات تتضمن هذا المعنى، ففي طبقات ابن سعد عن عبد الرحمن بن حرملة أنه جاء إلى سعيد بن المسيب يسأله: وجدت رجلاً سكراناً افتراه يسعني ألا أرفعه إلى السلطان، فقال له سعيد: إن استطعت أن تستره بثوبك فاستره، ويورد ابن سعد توجيهاً لعمر بن عبد العزيز بعدم التعرض لمرتكبي الفواحش وراء البيوت.
وأوردت مصادر الفقه والحديث قول النبي: «تدرأ، أو ادرأوا الحدود بالشبهات»، ويشتمل هذا الحديث على مبدأ قضائي مهم هو تفسير الشك لمصلحة المتهم، ويقول ابن حزم إن أشد الفقهاء قولاً بمضمونه واستعمالاً له هو أبو حنيفة وأصحابه، ثم مالك،ثم الشافعي.
وشدد الفقهاء على مسألة تعذيب العبيد، وقد استعرضنا بعض الأحاديث المتعلقة بذلك، وهناك اتفاق عام على تحريم الخصاء لأنه مثلة، ويعتبر العبد منعتقاً تلقائياً إذا خصاه مولاه، ولهذا السبب لم تزدهر تجارة الخصيان في العالم الإسلامي آنذاك رغم الحاجة إلى هذا الصنف من العبيد، ويقول أنجلز في «أصل العائلة» إن الأندلسيين كانوا يحصلون على حاجتهم من الخصيان من الامبراطورية الجرمانية المقدسة التي تخصصت في هذه التجارة، وينعتق العبد تلقائياً كذلك إذا عذبه مولاه على رأي الأمامية، وحرموا الضرب واللطم للعبيد ولكن دون أن يرتبوا عليهما الانعتاق ما لم يبلغا حد التنكيل. وهو المبالغة في الإيلام، كما خففت عقوبة الجلد الشرعية على العبد إلى نصف مقدارها على الحر في الجرائم التي تستتوجبها، ويروى عن علي بن أبي طالب أنه قال في تعليل هذا التخفيف: إن الله أكرم من أن يجمع عليه الرق والحد، واختلفوا على حكم السيد إذ قتل عبده، وقد أخرج النسائي حديثاً يقول: «من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه ومن خصاه خصيناه». والحديث مقبول عند عامة الفقهاء والمحدثين لكنهم تفاوتوا في التزامه نصياً: فسره بعضهم على سبيل الزجر والتغليظ في النهي فلم يعتبروه نصاً في العقوبة وقالوا بعقوبة القاتل بما دون القتل، واحتجوا عليه يخبر في سنن البيهقي يفيد أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقتله، وقال آخرون بقتل الحر إذا قتل عبد غيره ومن هؤلاء أبو حنيفة وسفيان الثوري، في وراية عنه، وابن أبي ليلى الشافعي وداود الظاهري، وقالت فئة ثالثة بقتل السيد إذا قتل عبده ومنهم البخاري وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري في رواية أخرى عنه، وأهل السنة والأمامية على اتفاق بأن الحر لا يقتل بالعبد، سواء كان عبده أو عبد غيره، ويكرس رأي هاتين الطائفتين حالة التردي الأشمل في العصور البعد ـ إسلامية مما يتضح على الخصوص من مقارنته بآراء الفقهاء الذين ذكرنا أسماءهم للتو، وهم معدودون، حسب التصنيف الطائفي المعاصر، من أئمة أهل السنة.
وتسقط الحود بالتقادم، وهو للخمر بزوال ريحته من الفم عند العموم، وشهر عند الشيباني، وللزنا والقذف والسرقة مضى شهر عند الفقهاء الثلاثة والتقادم لا يشمل القتل العمد.
أحكام عامة:
1 ـ منع الخصاء للإنسان والحيوان، واعتبروه من واجبات المحتسب الذي يتولى تأديب الخاصي وملاحقته بالقصاص أو الدية في حال حدوث وفاة بسبب الخصاء، وقد طبق المنع الملموس فكان أمراء المسلمين وأغنياؤهم يحصلون بالشراء على الخصيان المجلوبين من خارج دار الإسلام.
2 ـ مراعاة حرمة المنازل بمنع دخولها بغير إذن أهلها، وسمح للمحتسب باقتحام المنزل عند الشك باحتمال وقوع جريمة كأن يصل إلى علم المحتسب أن رجلاً خلا بآخر ليقتله أو احتمال حصول زنا أو لواط، ولا يجوز الاقتحام في حال شرب الخمر لأنه من المخالفات الشخصية التي تعني صاحبها وحده، وفي السماح له بذلك في حال الزنا واللواط إشكال لأنها معدودة في المخالفات الشخصية ولم يوضح النص الفقهي ملابسات الحدث وما إذا كان الفعل على سبيل الاغتصاب.
القسم الثاني
المقتربات الدينية للتعذيب
التعذيب في الأصول هو أحد أشكال القمع الاجتماعي الذي تسلطه الطبقات على بعضها، فهو محكوم بنفس الدوافع إلى القمع، ولو أنه ليس جزءاً ضرورياً منه لأن القمع تتعدد أشكاله تبعاً للظروف والهيئات والأفراد، والتعذيب صدر ويصدر عن فئات وطبقات شتى ومورس ويمارس في أطوار تاريخية ومواقع جغرافية شتى ـ كما تختلط دوافعه الاجتماعية بملابسات نفسية وإيديولوجية يمكن أن تعطيه صوراً ودرجات متفاوتة تتراوح ما بين التعذيب الهمجي البحت، الذي ينصب على كرامة الضحية أو شرفه الشخصي أو يطال معتنقاته الخاصة به.
والتعذيب في الإسلام لا يخرج عن هذا التصميم، أي أنه ليس ممارسة منعزلة خاضعة لبواعث مخصوصة ـ فوق تأريخية، لكنه يتميز بإطاريته الناجمة عن العلاقة بالدين، ولا بد بالتالي من أن يبعث على تساؤلات تحمل على النظر و التوقف، من قبيل: هل صدر الجلادون المسلمون في اقترافاتهم عن مسلك ديني؟ وهل يمكن القول أن إيمان الجلادين يسجل لدى الاقتراف درجة ما من الهبوط تضعه في مستوى أدنى من الإيمان الشعبي الخاضع للفطرة؟ وهل، أخيراً، يتعارض الدين بما هو دين مع أخلاقية التعذيب؟
ومع أن هذه الأسئلة تبدو خارجة عن سياق الوعي العام الذي اعتاد على اعتبار الدين نقيضاً للعدوان والنظر إلى الجلادين باعتبارهم عصاة أو فساقاً لا يخافون الله كما يقال في اللغة الشعبية، فإن طرحها والإجابة عليها قد يؤديان بنا إلى الخروج بنتائج مغايرة. وأنا أشعر من جهتي أن التبسيط الشعبي في مسألة شائكة كهذه يقوم على إغفال التاريخ الشخصي للأديان، فضلاً عن الجهل بالجذور البعيدة للسلوك الديني المحكوم بعوامل معقدة إيديولوجية ونفسية وما أشبه. وسنسعى لهذا الغرض إلى البدء من الجذور لفحصها ثم نصعد منها إلى التاريخ الشخصي للأديان في إضاءة موجزة نأمل أن تنتقل بنا من بساطة الظاهرة إلى بعض الحقائق الضرورية.
اقترن الدين منذ بدايته بالقربان، ويتبوأ هذا المنسك مكانة خاصة في مختلف الأديان: كما ظهر في بعض المذاهب الشبه ـ دينية ومنها المذهب الكونفوشي، وهو ليس ديناً في الأصل لأنه لا يرتبط بمعبود و ينكر وجود الكائنات الروحية، ولكن الكونفوشية تدينت بقدسية مؤسسها الذي كان يعتقد بوجود شيء من التذاهن بينه وبين السماء، وأخذت هنا بالقرينة على أوسع نطاق.
وكان القربان في الطور البدائي مقصوراً على الحيوانات. ثم ظهرت مع الانتقال إلى المجتمع الطبقي ـ طور الحضارة ـ سنة ذبح الإنسان التي زاولتها مختلف الأديان في الشرق والغرب. وكان الذبح يشمل أحياناً عبيد وجواري الملك المقدس لكي يدفنوا معه حتى يحين يوم البعث ويعود الملك إلى الحياة فيعود معه عبيده ليواصلوا خدمته كما كان حالهم في الحياة الدنيا. ومن القرابين البشرية المعتادة عرائس الماء وهن فتيات جميلات كان يلقى بهن في الأنهار الهائجة لتسكين غضبها. وكانت متبعة في مصر والصين. وكان ذبح الإنسان معمولاً به في الديانة المصرية القديمة حتى زمان المصلح العظيم أخناتون الذي أمر بإلغائه واستبدل به قرابين من الحيوانات بينما استمرت قرابين النيل حتى الفتح الإسلامي حيث ألغيت.
وقد واصلت الأديان تمسكها بالقرينة في طورها الوثني، المساوي غالباً للطور العببودي، على صعيدي الإنسان والحيوان. وكانت قرينة الإنسام منسكاً مقدساً يتولاه رجال الدين. وعندما ظهرت الأديان السماوية، وما في حكمها في أديان الشرق الأقصى، كان بج الإنسان قد توقف من زمان بعيد مع التقدم في سلم الوعي الإنساني. والمعروف أن الأديان الراقية قد ظهرت في طور متقدم من تاريخ الحضارة تفرعت عنه ظواهر مختلفة في عدة مجالات.
وقد تمسكت الأديان السماوية بمنسك القربان وأضفت عليه قداسة أشد اقترنت بالتوسع في ذبح الحيوان. ومن مظاهر ذلك في المسيحية احتواء الكنيسة على مذبح يندرج في عداد أقسامها الرئيسية ويستخدم فيه هذا الإسم بنصه إلى جانب المصطلحات الكنسية ذات المدلول الروحاني. ومن مظاهره في الإسلام شعائر «البدن» وهي قرابين الحج، وكانت منسكاً وثنياً فبقاه الإسلام وشدد عليه. ومنه أخذ اسم «عيد الأضحى» ـ أكبر الأعياد الإسلامية وأجلها شأناً. وينبغي التنبيه إلى أن هذا التوسع في الذبح لا يصدر عن الرغبة في توفير طعام للفقراء لأنه خاضع في الأصل لنزعة القرينة في الأديان ومتوارث فيها، رغم أن المؤثرات الاجتماعية في كل من المسيحية الأولى والإسلام الأول كانت حافزاً وراء الدعوة إلى إطعام الفقراء من هذه الذبائح. وهي بالتالي نتيجة فرعية ظهرت على هامش المنسك، ومن المعلوم أنها تزيد في موسم الحج عن حاجة فقراء الحجاز.
وقد عللت اليهودية هذا المنسك برغبة «يهوه» إله اليهود في شم القتار وهو ما جعل نوحاً، تبعاً لأسطورة الطوفان، يقربن حيواناً مشوياً لإرضاء الإله الذي ما أن شم القتار حتى طابت نفسه وسكن غضبه على أهل الأرض. وتتميز أصول الذبح اليهودي بالبشاعة لأنها تشترط للحم الحلال أن يذبح الحيوان نصف ذبحة ويترك حتى يموت موتاً بطيئاً يستفرغ فيه كل دمه. ويرجع ذلك إلى تحريم اليهودية أكل الدم، وهو ما أخذ به الإسلام ـ بوصفه جزءاً من التقاليد اليهمسيحية ـ فوضع شروطاً مقاربة للتذكية، أي الذبح بطريقة تؤدي إلى استفراغ دم الحيوان، لكنه تضمن من الجهة الأخرى تعليمات مشددة للتخفيف عن الحيوان تصدر في الأساس عن المنحى الدنيوي ـ الاجتماعي في الإسلام الأول.
نشأت على هامش القربنة في الأديان عقيدة الفداء. ويرجع أصلها إلى أسطورة اسحق بن إبراهيم بن الخليل. وكان ابراهيم قد تلقى في منامه أمراً بأن يقربن ولده اسحق لربه. وقد روت التوراة هذا الأمر بطريقة اعتيادية تشير إلى احتمال كونه منسكاً معروفاً لمؤلفي التوراة، الذين لا بد أنهم كانوا مطلعين على ممارسات قربنة الإنسان في الأديان الوثنية. وقد استنسخ القرآن رواية التوراة فأظهر ابراهيم وابنه قانعين بالأمر الإلهي، فلم يتردد الوالد في تنفيذ الأمر، كما لم يحاول الولد أن يتملص منه، لكن الله أسرع فأرسل كبشاً ليذبح بدلاً من اسحق. وربما كان لهذه الخرافة تعلق ما بإصلاح اخناتون الذي منع القرابين البشرية، ومن الجدير بالانتباه أن رواية هذا الحدث في التوراة والقرآن ليس فيها ما يشعر بالاستفظاع حيث يأخذ السرد مساره الاعتيادي ويتابعه المؤمنون كأمر إلهي مفروغ منه، حتى يقترب الحدث من نهايته المأمور بها فيأتي الملك وفي يده كبش ليذبح بدلاً من الولد. ولذلك يقول مفسرو القرآن في تعقيباتهم على هذه الرواية أنه لو ذبح ابراهيم اسحق لصارت سنة فيمن بعده: أن يذبح الآباء أبناءهم بدلاً من الأغنام والماشية. ويعني هذا بدوره أن الحيوان يذبح لا للحاجة وإنما لأجل القربان أو ليكون فداء عن شخص معين، ولذا لا تحدد أحكام القربان مآل لحم الذبيحة لأن المطلوب هنا هو «تفجير دم» كما يقول العامة في العراق. ويطبق هذا المنسك في الوقت الحاضر عند الانتقال إلى مساكن جديدة أو شراء مركبة من سيارة ونحوها وغالباً ما يتم غمس الكف في دم الذبيحة وطبعه على بوابة المنزل أو على المركبة.
وقد توسعت فكرة الفداء إلى التعويض عن إنسان بإنسان آخر ولكن على سبيل القضاء والقدر المحدد من قبل السماء. ولتوضيح ذلك أروي هذه الحكاية من كتاب «الفرجة بعد الشدة» للتنوخي، من القرن الرابع الهجري وهي عن رجل، يدعى أبو القاسم العلوي كان في سفر ومعه أحد عبيده وكان كل منهما على حمار، وفي الطريق خرج عليهم أسد وتقدم نحو أبو القاسم فتسمر في مكانه بينما راح العبد يصرخ ويستغيث، ويبدو أن الأسد قد تهيج بهذا الصراخ فتوجه نحو العبد واقتلعه من على حماره وعاد به إلى الأجمة. ويذكر التنوخي أن أبو القاسم حين روى الحادث ختم الرواية بقوله: «قد فداني الله بغلامي» وعقب أحد الحاضرين: ألا تعلم أن لحوم بني فاطمة محرمة على السباع؟ ويلاحظ أن المعقب نسي أن لحوم بني فاطمة أبيحت للأمويين والعباسيين.. وعلى أية حال تدل هذه الحكاية على أن الله يتولى بنفسه ذبح بعض الناس لكي ينقذ غيرهم. وليس من الضروري تبعاً لهذا المبدأ أن يكون بين الفادي والمفدي عداوة تستوجب التضحية بأحدهما للآخر، فالقرار في هذا متعلق بحكمة الخالق وإرادته الحرة. لكن الفكر الديني بوصفه فكراً طبقياً يتجه في الغالب نحو جعل الفادي في مرتبة اجتماعية أدنى، كما هو حال أبو القاسم العلوي وغلامه. وقلما يحدث العكس في الأساطير والحكايات الدينية.
إن عقيدة الفداء بحسب حكاية أبو القاسم العلوي تعني التضحية بحياة إنسان لأجل آخر. وقد شكلت العقيدة بهذا التحديد عنصراً من عناصر الوعي الشعبي يعبر عنه في بعض الأحيان بطريقة عدوانية واضحة، حيث يقال في العراق، مثلاً، عند تعزية حي بميت: راح لكل فدوة ـ أو فاد تبعاً للهجات. وتقوم هذه التعزية على افتراض أن موت إنسان هو بدوره زيادة في عمر إنسان آخر.
وللعقيدة كذلك تعلقات أخروية وظفها رجال الدين لحسابهم ولنقرأ هذا المقتبس من معجم الأدباء لياقوت:
توفي القارئ المحدث أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران في اليوم الذي توفي فيه الفيلسوف أبو الحسن العامري (381هـ) قال الحاكم: فحدثني عمر بن أحمد الزاهد قال: سمعت الثقة من أصسحابنا يذكر أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن مهران رحمه الله في المنام في الليلة التي دفن فيها. قال فقلت: أيها الأستاذ ما فعل اللك بك؟ فقال: إن الله عز وجل أقام أبا الحسن العامري بحذائي (بجانبي) وقال: هذا فداؤك من النار. ثم ذكر الحاكم بإسناد رفعه إلى أبو موسى الأشعري أن رسول الله قال: إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلاً من الكفار فيقول: هذا فداؤك من النار.. وقد علق ياقوت: وهذا الخبر إذا قرن بالرؤيا صار من براهين الشرع.
إن عدم التقيد بالحاجة في تقديم القرابين، مع ربطها بعقيدة الفداء، يكرس نزعة دموية في الأديان ربما كانت صدى بعيداً لمقترب سيكو ـ اجتماعي ينبغي البحث عنه في مجاهل الانثروبولوجيا. على أننا نجد هذه النزعة تقترن في الأديان السماوية بأصول أخرى وثيقة الصلة بها، وهي:
ـ مبدأ الإبادة الجماعية ـ العشوائية (المهابدة).
ـ عقيدة العقاب الأخروي.
ـ قانون العقوبات (الحدود).
يضاف إلى هذه الأصول الثلاثة عنصر نفساني هو صدور الدين عن أب سماوي مطلق الوجود., وسنحاول تفصيل القول في كل منها.
الإبادة العشوائية الجماعية تسمى في الإصلاح الإسلامي «عذاب الاستئصال» ويقصد به إبادة قوم من العصاة يبعث إليهم نبي فيكذبون فيعمهم غضب إلهي يطال رجالهم ونساءهم وشيوخهم وأطفالهم، مع ما في ناحيتهم من أحياء نباتية أو حيوانية. وفي العهد القديم ـ التوراة ـ أساطير عديدة تضمنت هذه العقوبة وتبناها القرآن بعد أن أضاف إليها أساطير عربية مماثلة. وتبدو استعادة هذه الأساطير في القرآن متعارضة تماماً مع مبدأ المسؤولية الفردية الذي شرعه «ولا تزر وازرة وزر أخرى». وقد يرد على ذلك بأن التعارض هنا شكلي لأن عذاب الاستئصال يطبق على أساس الإرادة الحرة للخالق، أما مبدأ المسؤولية الفردية فتطبقه الدولة. وحدود الاختصاص، على صعيد القانون، تتباين بين الخالق والدولة لكن التعارض يظل قائماً على الصعيد الأخلاقي كما سنبينه لاحقاً.
أول تطبيق لعذاب الاستئصال هو الطوفان. وتبعاً للأسطورة التوراتية كان الطوفان عقوبة جماعية أهلكت أهل الأرض كلهم، عدا نوح وأهله والنفر الذين آمنوا به ولذا يعتبر نوح في الإسرائيليات الأب الثاني للبشر. ومع أن دعوة نوح كانت لقومه فإن العقوبة لم تقتصر عليهم. وهنا تعارض آخر مع مبدأ قانوني هام أقره القرآن وهو عدم جواز فرض العقوبة على فعل جرمي لم ينص عليه القانون أو نص عليه في حدود جغرافية معينة ولم يمتد التبليغ به إلى مكان آخر (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).
بقية الاستئصالات اختصت بأقوام ومواقع دون غيرها. وهو هنا شامل أيضاً لكل الكائنات الحية في الموقع المغضوب عليه. والملحوظ فيه أنه جماعي وعشوائي في نفس الوقت. وقد يعم المذنب والبريء كما قد يعم ضحايا الجرائم المعاقب عليها. ويتضح هذا في قصة لوط حيث طبقت الأديان السماوية حكماً يتناسب مع نزعة القربنة، التي مر الحدث عنها، فهي لم تكتف بإعدام المنحرفين جنسياً ـ اللواطيين والمأبونين ـ وإنما أعدمت معهم جميع النساء والأطفال الذين لا يمكن إتهامهم بهذه الجريمة. ومن الملحوظ أنها لم تأخذ في الاعتبار أن نساء قوم لوط كن بدورهن ضحايا الشذوذ الذي حرمن من ممارسة حقهن في الزواج والإشباع الجنسي المشروع. و كان العد يقتضي إخراجهن من تلك القرية ونقلهن إلى قرية أخرى يحصلن فيها على هذا الحق بدلاً من إعدامهن مع الرجال.
يتكامل الإيمان بمبدأ الإبادة الجماعية مع الإيمان بالعذاب الأخروي. ويقوم الأخير على مبدأ المسؤولية الفردية، لكنه يطبق بحق المذنبين بطريقة همجية يمكن أن تكون لها صلة مباشرة بنزعة القرينة في الأديان. وتتضمن المأثورات الدينية في الإسلام استعراضات لأصناف العقوبات الأخروية تأخذ جميعها صفة التعذيب. إن الأداة الرائسة لهذا العذاب هي النار، وهي مشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة، غير أن المأثور الإسلامي تميز بخيال خصب في هذا المضمار يعكس التميز البالغي للمنشئ العربي. فقد ابتكرت أساليب من قبيل: شوي الجلود وإبدالها باستمرار كلما نضجت بالاحتراق حتى لا يتوقف الشعور بالألم. شرب الصديد وهو قيح في حالة غليان يحتسيه المذنب عندما يظمأ فينشوى وجهه بحرارته قبل أن ينزل إلى جوفه ليشعل فيه الحرائق. وسلال طولها سبعون ذراعاً يصفد بها المعذبون. ويلبس أهل النار ثياباً من القطران المصهور. وقد أضاف الوعاظ المسلمون وسائل تعذيب أخرى اختصوا بها فئات معينة من المذنبين. منها وجود واد في جهنم يلقي فيه شارب الخمر ويبقى هاوياً عشرات السنين قبل أن يصل إلى قعره ليستقر فيه، ووجود أفاعي وثعابين تطوق الأجساد وتنهشها في كل لحظة، ومن الأخيلة التعذيبية الخصبة حدث يقول أن من بنى بناء فوق ما يكفيه جاء يوم القيامة يحمله. وقد يكون حديثاً صحيحاً لأن فكرته تتمشى مع اتجاه النبي محمد ضد الترف والإسراف. ويستفاد من هذا الحديث أن أغنياء المسلمين سيأتون يوم القيامة وعلى رأس كل واحد قصره، الذي قد يكون مبنياً من عدة طوابق.
ولجهنم أوصاف كدسها الوعاظ تصدر عن خيال إرهابي مفرط، ولنقرأ هذا الوصف الذي أورده الغزالي في «إحياء علوم الدين» ـ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو على لسان جبرائيل في حديث له مع النبي: «إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت؛ فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهيبها. والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتا جميعاً، ولو أن ذنوباً (دلواً) من شاربها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاته، ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت. ولو أن رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه».
والمعذبون في جهنم لا يموتون لأنه محكومون بالعذاب المؤبد، ومواتهم يعني نهاية عذابهم. وحين صرح صدر الدين الشيرازي بنظريته التي تقول بأن العذاب لا يمكن أن يزيد على عمر المذنبين في الحياة الدنيا وأنه يصبح بعده نعيماً، كفره رجال الدين. ويروى عن الملا محمد كاظم الهزار جريبي أنه لعن الشيرازي عند ضريح الحسين لقوله هذا. ويحتمل أنه جعل لعن الفيلسوف بديلاً عن الدعاء المألوف في زيارة الأئمة، لأن الرواة يقولون أنه كرر اللعن مائة مرة، على الطريقة التي تكرر بها التحيات للأئمة والملائكة داخل المزارات الشيعية.
إن كلاً من عذاب الاستئصال والعذاب الأخروي غير منصوص عليهما في الشريعة لأنهما من خصوصيات الخالق. وكما بينا، فقد تمسك القرآن بمبدأ المسؤولية الفردية في القضاء الجنائي، بينما حرم النبي محمد إحراق الأحياء، أي الإعدام بالنار، لأنه داخل في عذاب الآخر، الذي يتولاه الله ويجوز للبشر أن ينتشبه به فيه.
غير أن هذين الحكمين مندرجان في العقيدة، أي أنهما ملزمان إيديولوجياً ولا ينفصلان عن سائر الأركان والأصول التي يخل إنكار بعضها بسلامة الإيمان. ويعني هذا بدوره أن المؤمن يجب أن يكون موافقاً على هذه الألوان من التعذيب بوصفها من نتائج الحكمة الإلهية الموجهة نحو تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وإذ يوافق المؤمن هنا على أحكام من قبيل المهابدة العشوائية والعذاب في الآخرة فهي لا بد أن تصبح، بحكم الإيمان، جزءاً من منظوره الاجتماعي والأخلاقي، وبالتالي، ومع أن القبول بهذه الأحكام يرد على سبيل التعبد غير المقترن بالممارسة مادامت الشريعة قد حرمتها على الإنسان، فإن عدم تعارضها مع المنظور الأخلاقي للمؤمن يمكن أن يخلق لديه الاستعداد النفسي للتعامل مع هكذا أفعال حينما تصدر عن الإنسان ولو على سبيل الخرق للقانون. ومن المقرر في علم النفس الاجتماعي الماركسي أن شخصية الفرد تتكيف بمعاييره الأخلاقية المستمدة من وسطه الاجتماعي والروحي أكثر مما هي بالمبادئ القانونية المفروضة عليه من فوق. وبسبب ذلك، فإن قدراً ملحوظاً من الانفصام بين القانون والأخلاق لا يمكن أن يخلو منه أي مجتمع؛ حيث نجد القيم الأخلاقية تساهم أحياناً في تخفيف قسوة القانون وأحياناً أخرى في تشديده. وسأضرب ها هنا مثلين متعارضين من تاريخ الإسلام.
أولهما من عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وقد مر بنا أنهما لم يمارسا شيئاً من التعذيب ـ دون أن نهمل الروايات المختلف عليها بشأن قتل المرتدين بأمر علي. وقد عرف الإثنان بعمق العلاقة مع الجمهور إلى جانب قدر ملحوظ من التسامح في العقوبات الشرعية تميز به عمر. ومن الملاحظ بخصوص علي أن أيامه لم تشهد أعمال قمع دموية من النمط الذي تشهده لفي العادة مراحل الانتقال الحادة في التاريخ. وهي المرحلة التي شهدتها خلافته واستغرقتها على قصرها ثلاثة حروب طاحنة انتهت بالانهيار المريع للإسلام الأول.
وتضمنت رسائله إلى الولاة تعليمات مشددة بشأن التعامل مع الرعية على أساس التسامح والعلاقة الإنسانية التي تجمع بين الحاكم والمحكوم في تعارض مع تلك النزعة الانتقامية التي اشتمل عليها قانون العقوبات القرآني. ومع أنه التزم بنصوص هذا القانون في القضايا الداخلية في اختصاصه قد قامت سياسته خارج هذا الاختصاص على التعاطف مع البنيان الجسدي للإنسان. ولدينا عن عمر بن الخطاب مرويات عديدة تشير إلى تجنبه سفك الدماء حتى في حدود الاختصاص القرآني المشمولة بقانون العقوبات. وفي طبقات ابن سعد رواية هامة توضح اتجاهه في هذا الشأن تقول أن والياً كتب إليه أن رجلاً وجد زوجته مع رجل آخر فقتلهما. وكان عمر قد عمم على الولاة أن يعرضوا عليه القضايا التي تتضمن أحكاماً بالإعدام أو القطع ليبت فيها بنفسه، فكتب إلى الوالي كتاباً علنياً بإعدام الرجل وكتاباً سرياً بأخذ الدية منه. وكان غرضه من هذا تطبيق الحكم الشرعي رسمياً، مع ما في إعلانه من توفير عامل الزجر، والالتفاف عليه عملياً بسبب نفوره من هذه العقوبات، ويأتي ضمن هذا التوجه عفوه الكوميدي عن الهرمزان.
يقف وراء سلوك عمر وعلى عامل دنيوي ـ اجتماعي يرتهن في مجمل الأصول البدوية والاجتماعية التي ساهمت في تكوين شخصيتها إلى الحد الذي يمنع من الحكم عليهما وفقاً لاعتبارات دينية خالصة، أي بوصفهما رجلي دين من النمط الشائع. ومن دون أن نتعسف التشكيك في جدية إيمانهما الديني فمن الواضح أنهما قد أعطيا في سياستهما هذه مثالاً على الدور الذي يمكن أن تلعبه الأخلاق في تخفيف قسوة القانون.
المثال الآخر من رجال الدين المعاصرين. إن انتماء هذه الفئة إلى الطبقات الحاكمة الفاسدة قد عزز المنحى الديني الخالص في تكوينهم النفسي. وبالنظر لوجودهم خارج العصور الإسلامية فقد حيل بينهم وبين استيعاب العناصر الدنيوية في الإسلام الأول أو رؤية الطبيعة التعددية لحضارة الإسلام الذاهبة بشكل جعلهم يمثلون العقيدة الدينية بوصفهم مؤمنين وليس مجرد مسلمين وفق المعاييري الانثروحضارية للإسلام. ومن هذا المنطلق ينبغي أن نتوقع ارتهاناً معيناً بين حضور هذه الفئة في موقع ما واستشراء حالة القمع في ذلك الموقع. ويمكن أن نتوفر من هنا على تفسير مقبول لاتجاه الدول الدينية المعاصرة في العالمي الإسلامي إلى التمسك بالتطبيق الحرفي لقانون العقوبات القرآني ـ مع تجاوزه في نفس الوقت بالتشدد في الأحكام التي عرضها الفقهاء الأقدمون برطيقة مرنة ومتسامحة ذكرنا بعض وقائعها في القسم الأول. وبصرف النظر عن اختلافات سياسات هذه الدول، مما يوجب تصنيفها وفق معايير مختلفة على صعيد التحليل السياسي، فإن التركيب الديني الخالص الذي تشترك فيه يعرب عن نفسه في شيوع نهج فاشي على مستوى العلاقات الاجتماعية يحمل من بعيد ذكريات الغضب الإلهي الذي نفس عنه النبي نوح بالقرابين المشوية. وهكذا تواجهنا حالة معكوسة تماماً تقوم فيها الأخلاق الدينية بتشديد قسوة القانون، بالارتهان مع ظرف مساعد يتاح فيه للوعي الديني أن يتبلور ويعزز معطياته بقدر أوفر من الاستقلال.
إن التجارب المستفادة من الأديان تزودنا بأداة للاستنناج يمكن أن نستخلص منها قابلية العوامل المكونة للسلوك الديني لتكوين شخصية دموية فاشية المزاج معادية للإنسان، ومن المعروف أن الوازع الديني قائم على التخويف، وهو المهمة الأساسية لرجل الدين الذي تخصص في تحذير المؤمنين من غضب الآلهة، لكنه كان في نفس الوقت يساهم في تطبيق الغضب الإلهي على رعاياه. وللأديان أدوار مشتركة في هذا المضمار تتفاقم في الحالات التي تجتمع فيها سلطتان متكاملتان دينية وزمنية حيث تتداخل عوامل الخوف الروحي من القوى الخارقة مع الإرهاب الحكومي ـ الإكليروسي. و تنفرد الأديان السماوية هنا بعاملين إضافيين يقترن أولهما بعقيدة المهابدة العشوائية التي تحدثنا عنها آنفاً، وهي غير معروفة في الأديان الوثنية أو غير السماوية بوجه عام. العامل الثاني يتعلق بمفهوم سماوية الدين الذي يرتكز في ملابسات نفسية تتحدد بدورها في عاملين متداخلين: وجود القوة المطلقة التي تتمتع بالقدرة الكلية وتنفرد بالجبروت، مع الامتداد الجغرافي الهائل الذي يتداخل مع عقيدة الوحي في هذه الأديان. إن اطمئنان رجل الدين السماوي إلى الموقع المتميز الذي يحتله في الكون بحكم علاقته الخاصة جداً بالسماء يعطيه شعوراً متضخماً بالهيمنة على رعاياه مشفوعاً في نفس الوقت باستصغارهم. ويعني المأثور الديني بالمقارنة بين ضآلة الإنسان وضخامة الوجود الإلهي ويذهب في اعتباره الإنسان عبد الله إلى جعله حاجة أو شيئاً غير ملموس في حساب السماوات، كما يستخدم جسم الإنسان لإشعاره دائماً بحقارته. ويعبر رجال الدين عن الإنسان بكونه يبدأ: نطفة مَذره وينتهي جيفة قذرة وأنه يحمل ما بينهما العَذَرة ـ أي الخراء.
لا شك أن الطبقات المالكة قد استفادت من هذا الجو النفسي الذي يعيش فيه أهل الأديان السماوية لاستخدام وسائل ناجعة في الإرهاب السياسي. ولو تجاوزنا نموذجاً شائعاً كاليهودي مناحيم بيجن وهو قليل في اليهود لأنهم لم يحكموا إلا قليلً، فسوف نعثر على الحالات الدالة الصالحة للاستقراء في تاريخ الديانتين الكبيرتين: المسيحية والإسلام. ولكن لما كان موضوعنا الراهن هو الإسلام فسوف نمر بالمسيحية مروراً سريعاً لنفرغ بعدها لاستقصاء العناصر القمعية في الإسلام من حيث علاقتها بالتدين.
من المعروف أن المسيحية تخلو من قانون العقوبات، وأن المسيح عارض قانون العقوبات اليهودي، الذي اقتبسته الشريعة الإسلامية فيما بعد. ولكن الكنيسة القروسطية في أوربا سلكت سبيلاً آخر مستمداً من روح الأديان، قائماً على تلبية المطالب الدنيوية في ديانتها لتفرض العقوبات التي تلائمها بحرية أكبر. وهكذا، ففي مقابل التمسك النظري للمؤسسة الإسلامية بجعل النار وسيلة خاصة بالخالق، اتخذت الكنيسة الأوروبية منها منسكاً مقدساً لتعميد المفكرين والفلاسفة، وقد ظلت الكنيسة طوال العصور الوسطى وشطراً من عصر النهضة مصدر الإرهاب الوحيد تقريباً في أوروبا. وكانت كوادر الإرهاب تتألف في العادة من الاكليروس الذين كانوا يديرون هيئات التحقيق والمحاكم ومحاكم التفتيش بأنفسهم وينفذون أحكامهم بأيديهم. ولما ظهرت حركات الإصلاح الديني لم يتوقف هذا الدور وإنما انتقل إلى أيدي جديدة. وقد مرت بنا إجراءات كالفن في جنيف. وكان الإرهاب يتقلص مع تقلص سلطة الكنيسة وظهور الدول العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة. ولهذا السبب استمرت محاكم التفتيش في إسبانيا الكاثوليكية المتعصبة حتى أوائل القرن التاسع عشر حيث أغلقت نهائياً بأمر الامبراطور العلماني نابليون بونابرت.
استدراك:
ينبغي التنبيه إلى أن القمع المسيحي اقتصر على الكنيسة الأوروبية، أما الكنيسة الشرقية التي تألفت رئيسياً من نصارى العرب والسريان فلم تتورط في هذه الأدوار. وقد يكون الفضل في هذا لعدم وصولها إلى السلطة. فالكنيسة الشرقية لم تجد الطبقة الاجتماعية التي تحتاج إلى خدماتها، كما أن المسيحية لم تصبح ديناً سائداً في الشرق حتى قبل الإسلام.. وحسب علماء النفس فإن النزعات الخطرة لا تنطلق إلا إذا صادفت وسطاً مادياً مساعداً. وقد لعبت الكنيسة الشرقية التي تمركزت أساساً في الشرق الأوسط، دوراً أقرب إلى الروح المسيح ـ لا سيما في الجهات التي لم تتمركز فيها سلطة بيزنطية ـ وقامت بوظائف مختلفة تماماً عن وظائف قرينتها في أوروبا: رعاية الفقراء من المؤمنين وتعهد الثقافة الهللينية حتى تسلمها العرب ـ الإسلاميون منها.
ويبدو أن المسيحية الشرقية قد تبلورت في هذا الخط السلمي المعبر عن بساطة المسيحية المبكرة بشكل أضفى عليها مسحة اجتماعية دنيوية حررتها إلى حد ما من عقدة الإرهاب الديني. وقد بلغ الأمر في بعض الحالات إلى التصادم مع مقتضيات الحياة الجاهية التي قامت على الحرب. يعبر عن هذه النقطة بوضوح نص شعري هام لشاعر تغلبي من الجاهلية هو حُنى (كقصى) بن جابر المتوفى عام 570م تحدث فيه عن معاناة قبيلته المسيحية، التي عانت في العراق، من عسف السلطات الساسانية آنذاك. وشاهدنا فيه قوله:
وقد زعمت بهراء أن رماحنا.. رماح نصارى لا تبوء إلى الدم.
وبهراء قبيلة أخرى يظهر أـنها عيرت تغلب أو استخفت بها لأن دينها يضعها في موضع ضعيف، بوصفه دين سلام. وقد انتفض الشاعر ضد هذا الاستخفاف وأكد في البيت التالي بحمية لقاحية:
نعاطي الملوك السلم ما قسطوا لنا.. وليس علينا قتلهم بمحرم.
وعلى أي حال فقد كان مقدراً للمؤسسة الدينية في الإسلام أن تقوم بهذا الدور، والإسلام كما يقول إنجلز دين موافق للشرقيين لاسيما العرب. أي أنه موافق الشرق أوسطيين دون الشرق ـ أقصويين الذين اعتنقوا البوذية وديانات مقاربة لها. أما الإسلام فوصلهم متأخراً فلم يتغلغل فيهم كما تغلغل في الشرق الأوسط. وقد بقيت البوذية حتى زمن متأخر هي المصدر الرئيسي للإرهاب الديني في تلك البقاع.
خلاصة من مجمل ما سبق:
بينت حتى الآن أن قمعية الشخصية الدينية ترتهن بوعائها السيكولوجي المقتوم بالمكونات الثلاثة: نزعة القرينة، عقيدة الإبادة الجماعية، وعقيدة العذاب الأخروي، والأولى كما ذكرت مشتركة بين الأديان. والثانية هي عقيدة يهودية انتقلت بالوراثة إلى المسيحية والإسلام، أي أنها مخصوصة بالأديان السماوية. أما عقيدة العذاب الأخروي فترجع إلى عقيدة البعث المشتركة في معظم الأديان، التي تتفق على فكرة العذاب وإن كانت تختلف في وسائله.
وتتفرد اليهودية والإسلام بعامل رابع في تكوين السلوك القمعي لإتباعهما هو قانون العقوبات المعروف في الإصطلاح الإسلامي باسم الحدود.. تقوم هذه العقوبات على أساس الانتقام من مرتكبي المحرمات الدينية. وهي مستمدة في الأصل من قانون حمورابي. وهذا القانون من أقدم التشريعات في التاريخ كما هو معروف، ويعتبر ظهوره في الألف الثاني قبل الميلاد بمثابة قورة في تاريخ التشريع. لكن اليهودية استعادته بعد ألف عام من ظهوره، أي في مرحلة كانت تفترض تطويره وتجاوزه إلى مدى يتطابق على الأقل مع حدة النقد الذي وجهته الأديان السماوية إلى الأديان الوثنية التي ظهر هذا القانون في عهدها.
وقد استحدثت اليهودية على النقيض من هذا التوقيع مبدأ لم يتضمنه قانون حمورابي، هو مشاركة الجمهور في تنفيذ بعض العقوبات، المفروض أنها من اختصاص السلطة. ويشمل هذا المبدأ بوجه خاص عقوبة الرجم على الزاني والزانية. وهذه العقوبة سومرية الأصل وكانت تفرض على المرأة المراهطة. وتشير قصة الخاطئة التي تجمع اليهود لرجمها فأنقذها المسيح إلى انتشار هذه الممارسة في اليهودية. ومن المعروف أن المسيح الأول أبطل عقوبة الرجم، لكن الإسلام أخذ بها وطبقها على الطريقة اليهودية، أي طريقة مشاركة الجمهور في التنفيذ، بينما اشترط فيما عداها أن يعذب المحكوم علناً ـ «ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين».
وتثير المشاركة في تنفيذ العقوبات أشكالاً تتعلق بالتكوين النفسي للمؤمنين والطابع القمعي للأديان للثواب لكونهم ينفذون حكماً إلهياً. ويتأتى الثواب من قدرة المؤمن على توجيه ضربة لرأس المرجوم بحجر أو عظم أو قطعة خشب يتحصل بها رضوان الله. ثانياً أن تنفيذ الرجم في حالة كون المرجوم امرأة يتخذ بالنسبة للمؤمن الرجل وضعاً خاصاً، يشتمل على عنصر تعويض نفسي عن مطالب أهدرتها الزانية حين وهبت نفسها لرجل غيره. وعندئذ تكون المشاركة في الرجم منفساً جنسياً يضاف إلى الغيرة الدينية فيكون عاملاً على زيادة القسوة في تنفيذ العقوبة.
الثالث والأهم أن اشتراك الجمهور في تنفيذ العقوبات يؤدي إلى تعميم وظيفة الجلاد بجعلها منسكاً شعبياً متلبساً بالإيمان ويقوم الجمهور هنا بدور المطبع الذي ينفي الشذوذ عن هذه الوظيفة بل والارتقاء بها إلى مستوى أعلى تكون فيه وسيلة لنشدان الثواب.
يمكن القول من هنا أن قانون العقوبات السماوي يخلق بطبيعة أحكامه وطريقة تنفيذها، بما في ذلك مبدأ الاشتراك في العقوبة، حالة إرهاب متعاكس يقع على الجمهوري كما يقع منه. ففي ظل هذا القانون يعيش الناس في رعب مستمر من الوقوع تحت طائلة إجراء شرعي قد يؤدي إلى الموت بطريقة بشعة أو فقدان أحد الأعضاء لدى ارتكاب هفوة تنطبق عليها إحدى العقوبات. لكن الجمهور مقتنع بحكم إيمانه الديني بقداسة العقوبة ووافق على تطبيقها بحق الغير، وعلى المساهمة في التطبيق، وهذا يعني أنه يجمع بين صفتين متضادتين: فهو ضحية، وهو جلاد في آن واحد.. وعندما نتذكر أن جمهور الأديان السماوية مشبع برؤى العذاب الأخروي وأساطير عذاب الاستئصال (المهابدة العشوائية) ويعيش في وسط يصطبغ يومياً بدماء القرابين المسفوكة للفداء أو النذر، فلا بد لنا أن نتوقع بناء نفسياً يتماهى بالقمع بالمتعاكس فيدفع إلى التداخل معه حالات القمع التعذيبي التي تقوم بها الدولة مدفوعة بمصالحها في الحكم.
يبدو من هنا مثول الوجدان القمعي كقاسم مشترك بين عناصر المجتمع على اختلافها. ويمكن أن يلاحظ في هذا الصدد أن عدم تعريض المجتمعات العربية إلى تغير جذري في تركيبها الطبقي ـ الموروث أساسياً من البرهة العثمانية ـ قد ساعد على احتفاظ هذا الهاجس بموقعه المؤثر في الوعي العام. وإذ يكون التغير الاجتماعي حتى الآن على درجة من عدم العمق تمنعه من إحداث تحولات جذرية في سلوك الناس ووعيهم، فإن الذي تغير على هذا الصعيد هو في الغالب، الأشكال التي يتجلى بها الوجدان القمعي. لقد كان المؤمنون يطلبون الأجر بالمساهمة في رجم الزناة ويلاحقون المرجوم إذا هرب ليحصلوا منه على شدخة في رأسه تسجل لهم نقطة إيمان إضافية. أما المعاصرون فقد توفرت لهم وسائل جديدة لتطمين هذا الهاجس بعد أن تمت، إلى حدود معينة، تنحية الإيمان الديني لصالح الإيمان السياسي.
الحجاج وهتلر
غراران (أي متشابهان)
للقمع في حضارتين
الحجاج بن يوسف بن الحكم من قبيلة ثقيف الحجازية التي استوطنت الطائف في العصر الجاهلي. وكانت من بين القبائل التي هجرت البداوة واشتعلت في الزراعة باستقرارها في الطائف. هي بلدة تمتعت بوفرة المياه فكانت من أرياف العرب في الجاهلية. وقد استزرعها بنو ثقيف وقريش، التي اعتمدت في معيشتها على البلدة فاتخذت فيها البساتين والمزارع وصارت لها منتجع ومصيف. واشتهرت الطائف بالكروم وحدائق الزهر. وهذه كانت توفر مادة التحلية والتطيب لبئر زمزم حيث كانت تجلب زهور الطائف وتنبذ في البئر حسب مواسمها وكان استقرار ثقيف في م عشر زراعي باعث على قدر من التحول في تكويناتها الاجتماعية والذهنية. فبرز من بينها دهاة تجاوزوا بساطة الشخصية البدوية ليكون لهم موقع في سيرورة تطور ستقودها قريش التاجرة فيما بعد. وقد تساءل خصم محمد في مكة عن السر في نزول الوحي عليه، وليس على رجل آخر من قريش أو ثقيف. (آية 31/زخرف). واتجه أفراد من ثقيف إلى تحصيل المعرفة فسافر الحارث بن كلدة (بفتحتين) إلى إيران ودرس في مدرسة جنديسابور الطبية التي كان يديرها السريان. وهو في مصادر تاريخ العلم العربية طبيب العرب الأول. وقد عاصر النبي فلم يعارضه ولم يؤيده وبقي على حاله هذه بعد استكمال أسلمة العربيا وعاش إلى خلافة معاوية. وكان النبي يوجه المرضى من أصحابه للاستطباب عند الحارث. وكانت له اهتمامات عدا الطب، منها الموسيقى. وقد تعلم الضرب على العود في إيران واليمن، التي يبدو أنه استفاد شيئاً من بقايا حياتها الحضارية الغابرة. ويمكن اعتباره من رواد الثقافة الإسلامية بتطويرها على أساس الجمع بين مصادرها المحلية والخارجية، وبهذا الاعتبار فهو أحد آباء الحضارة التي أنشأها القرشي محمد.
وبرز من ثقيف شخصيات قيادية أسهمت مع محمد في التأسيس من جوانبه العسكرية والسياسية. وينظر إلى المغيرة بن شعبة الثقفي كأحد الدهاة العرب.وقد استعان به محمد في المهام الجليلة والمواقف الصعبة. وفي صدر الإسلام «في وقت مبكر من ظهور الهرطقة الإسلامية» التمع المختار بن عبيد الثقفي كقائد للعبيد والموالي وكمؤسس نحلة من الغلاة تجاوزت الأطر الرسمية للإسلام. وبرز من ثقيف من يمكن اعتباره أميز قائد بين الفاتحين الأوائل.. فقد قاد محمد بن قاسم الثقفي جيشاً من العراق فتح به السند وأدمج هذا الشطر المهم من القارة الهندية في مجتمع الإسلام الجديد. وكان عمره يقل عن العشرين. وفي مجرى التفاقم اللاحق للاستبداد الأموي حظيت هذه الدولة الرهيبة بزعيمين من ثقيف تمثلت فيهما حاجة المستبد إلى أدوات قمع مكافئة لمتطلبات الحرب الأهلية التي استعرت في خلافة الأموي عثمان واشتد أوارها مع انفراد بني أمية بالخلافة. وهذان هما الحجاج بن يوسف الثقافي رديف عبد الملك بن مروان ويوسف بن عمر الثقفي رديف هشام بن عبد الملك. وكان الأخير طباق الأول في دمويته المنفلتة لكنه انكسف في ظل ابن عمه فلم يذكره التاريخ. والشهرة حظوظ!
ولد الحجاج في الطائف عام 40 هـ ونشأ فيها ثم انتقل إلى الشام في خلافة عبد الملك. وأظهر الولاء للدولة قبل أن ينتظم في سلكها، فكان ينبه إلى مواضع الخلل في الأداء ويتحسس ما يضر بمصالحها. ويخبرنا ابن عساكر في ترجمة الحجاج من «تاريخ دمشق» أنه مر يوماً بقاص يحدث الناس عن سيرة أبي بكر وعمر بن الخطاب فاستاء وقال: «ما يفسد الناس على أمير المؤمنين إلا هذا وأشباهه يقعدون ويقعد إليهم أحادث الناس ويذكرون سيرة أبي بكر وعمر فيخرجون (يثورون) على أمير المؤمنين». ويفسر هذا التدخل من الحجاج أمراً أصدره عبد الملك بن مروان بمنع الكلام عن سيرة أبو بكر وعمر. وبقي الأمر ساري المفعول حتى خلافة عمر بن عبد العزيز الذي رتب بنفسه قصاصاً يحدثون الناس عن هذه السيرة. وكانت بداية خدمة الحجاج في الجهاز الأموي اشتغاله شرطياً بإمرة روح (بفتح الراء) بن زنباع الذي كان بمثابة وزير لعبد الملك. وظهرت كفاءته في الجهاز مبكراً فعهد إليه عبد الملك بقيادة جيش جرار إلى الحجاز للقضاء على انفصال ابن الزبير، وأنجز مهمته على الوجه المطلوب فأعاد الحجاز إلى طاعة عبد الملك. وورد عنه في أثناء ذلك ما يدل على ألمعية ثقفي لا يخضع في أدائه السياسي لوساوس العقيدة. فقد حاصر ابن الزبير في الكعبة وأمر برميها بالمنجنيق وحدث أن تجمعت غيوم راعدة فنزلت صاعقة على جيش أهل الشام وقتلت عدداً منهم. فتطير الشاميون واعتبروا ذلك رداً إلهياً على قصف الكعبة. فأوضح لهم الحجاج: «أنا ابن تهامة وهذه صواعقها» وطلب إليهم التريث حتى يصيب عدوهم ما أصابهم.. وفي اليوم التالي نزلت صاعقة على جيش ابن الزبير وقتلت عدداً منهم.. وبذلك استطاع تجاوز الأزمة في معسكره.
وعينه عبد الملك بعد تصفية ابن الزبير والياً على الحجاز. ثم وجد كفاءات تابعه الجديد أوسع مما يحتاج إليه في الحجاز فولاه على العراق. وكانت ولاية العراق أيام الأمويين مركز المشرق كله فصار الحجاج حاكم البقاع الممتدة ما بين العراق ونهايات الثغور في آسيا الوسطى والهند، فكان بمثابة «امبراطور ثان» للأمويين.
كان العراق منذ اندلاع حركة المعارضة في الإسلام أيام الخليفة الثالث قد صار مقرها الدائم. ومثلما كان الوالي الأموي ينظم منه نشاطات المشرق السياسية والعسكرية كان المعارضون من الشيعة والخوارج ينظمون حركة المعارضة في الولايات والأطراف مع الامتداد شرقاً وغرباً. وقد ترتب على الحجاج وهو يواجه مسؤولياته الجسام في إدارة إمبراطوريته لحساب الأمويين أن يتعامل مع حركة المعارضة بالقمع الدموي المنفلت. وليس من المعلوم ما إذا كان الحجاج ينطوي على نزعة دموية أو أنه فتن القمع تبعاً لمطالب أمن الدولة الاستبدادية. وبالرجوع إلى مثال زياد ابن أبيه نقف على حالة مرضية ناشئة عن كون زياد إبناً غير شرعي وهي استغلها معاوية حين سلمه العراق بعد أن ألحقه بأسرته وصار إبناً شرعياً لأبي سفيان. والحجاج لم يعان من هذه العقدة فقد ولد لأب شرعي ونشأ نشأة سوية وسط عشيرته المرموقة الجانب. وتقول بعض الحكايات أنه كان يتلذذ بالقتل. لكن ذلك غير ثابت في سلوكه اليومي مع الناس. يلاحظ أيضاً أن القمع الأموي كان موجهاً ضد المعارضة والطامعين بالسلطة، ولم يشمل الأتباع والأعوان كما سيحصل فيما بعد أيدي العباسيين. وكان أتباع وأعوان الحاكم الأموي آمنين على حياتهم واشتغلوا في وسط غير ملغوم بمؤامرات البلاط التي عرفت في سائر الامبراطوريات ومنها امبراطورية العباسيين. ويرجع ذلك إلى استمرار تأثير اللقاحية العربية طيلة الحكم الأموي مما يتقدم في تحديد ابن خلدون للحقبة الأموية بكونها داخلة في تصنيف البداوة. ومن هنا لم يكن الحجاج مرعباً لحاشيته كما كانت حالة الخليفة العباسي والسلاطين الذين ظهروا على هامش العباسيين.
لكن الحجاج اتباع سياسة قمع استثنائي في تاريخ الإسلام. ولا شك أنه اتصف بخصائص جلاد هي التي جعلته غرار خاص للجلادين المسلمين. لكني أعتقد أن جانباً مهماً من غراريته يرتهن بحقبته التاريخية من جهة بدت بالنسبة له حقبة تأسيس للاستبداد الإسلامي. وكما قلت للتو فالخليفة العباسي كان مرعباً لخصومه وحاشيته على السواء، وقد لا يقل عدد ضحايا بعضهم أو وتيرة وصورة تنكيلهم عما كان عند الحجاج إن لم نجد فيها زيادة مرهونة بدورها بتعقد الصراع الاجتماعي والسياسي بعد الأمويين. وينبغي أن نضع هنا مسألة رد الفعل الذي جوبه به قمع الحجاج من جانب جمهور كان لا يزال حديث العهد بعصر اللاسلطة واللقاح. فضلاً عن ظهره كنقيض لشريعة مستجدة قننت القمع في حدود لا تسمح بانفلات من هذا المستوى. ومهما يمكن فالحجاج تبلور في الوعي الإسلامي كغرار متفرد للقمع الدموي والنظر إليه من هذه الجهة يمثل نظرة الناس إلى حكامهم بوصفهم ورثة الحجاج.
في خطابه الأول على منبر الكوفة يوم استلم ولاية العراق قال الحجاج عبارته المشهورة: «إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها». هو خطيب من البلغاء، وكان الحسن البصري يقول: «ما سمعت الحجاج يخطب إلا وظننت أن أهل العراق يظلمونه!» وفي هذه الصورة البلاغية التي أعلن بها سياسته حلّق الحجاج في خياله الأدبي إلى النقطة التي يتكامل فيها أديب مبدع مع جلاد متفرد. وهي تذكرنا بالخيال البريطاني في الهند حينما كان الموظفون البريطانيون يحشرون قططاً صغاراً في صدور الفلاحات لإرغامهن على دفع الضرائب. والجمع بين «بهاء»الثدي و«بهاء» القطة الصغيرة يقترب في إبداعيته من الجمع في الصورة الأدبية بين رؤوس البشر وعناقيد الكروم التي نضجت للقطاف.
في سعيه إلى بلورة سياسته القمعية استقصى الحجاج سيرة زياد بن أبيه للاستفادة من تجاربه ولعله تعرف عن طريق سماره إلى تجارب أقدم الملوك الروم والساسانيين. والتمس له سنداً من السنة فسأل الصحابي أنس بن مالك عن أقصى عقوبة عاقب بها النبي فحدثه حديث العرنيين (بتفح العين والراء) وهم جماعة وفدوا على النبي متظاهرين بالإسلام فتقبل إسلامهم ولما خرجوا ارتدوا ولقوا في طريقهم راعياً كان يرعى الغنم للنبي فمثلوا به وغرسوا الشوك في عينيه فوجه إليهم قوة ساقتهم إليه ففعل بهم مثلما فعلوا بالراعي. يقول أنس إن الحجاج بعد أن سمع حديث العرنيين خطب في الجمعة فقال: «تزعمون أني شديد العقوبة وهذا أنس حدثني عن رسول الله أنه قطع أيدي رجال وأرجلهم وسمل أعينهم»، قال أنس: «فوددت أني مت قبل أن أحدثه» وكان أنس يداري الحجاج وغيره من أهل السلطان لتمشية أموره المعيشية فلم يعترض عليه ليوضح له أن النبي فعل ذلك على سبيل المقابلة بالمثل في جريمة عادية وأنه لم يطبق هذه العقوبة على خصومه السياسيين. وقد استاء الحسن البصري لما بلغه حديث أنس وقال ليته لم يحدثه. ومن ثم جرى الفقهاء على التحرج في رواية هكذا أخبار حتى لا يساء استغلالها، كما مر في متن البحث في تاريخ التعذيب.
وسيلة القمع الأرأس للحجاج كانت القتل صبراً (الإعدام). ويقدر المؤرخون عدد من أعدمهم في غضون العشرين سنة التي حكم فيها العراق والمشرق ما بين مئة ألف ومئة وعشرين ألفاً. ويمكن التشكيك في الرقم. غير أنه يبقى مهما أنزلناه بعد احتساب نسبة المبالغة المألوفة عند الناس في مثل هذه الحالات ـ فريداً في بابه، ولا يفوقه أو يجاريه في تاريخ الإسلام إلا عدد الذين أعدمهم أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية. وقد قدر ما بين مئة ألف وستمائة ألف. مع احتساب المبالغة هنا أيضاً. وطريقته بالإعدام قطع الرأس بالسيف. والذبح من الرقبة أو القفا في حالات. وطبق التعذيب للاستجواب. وتعذيبه هو الضرب والجلد رئيسياً. واستخدام طريقة بشعة في تعذيب رجل من خصومه لإرغامه على الكشف عن أمواله فكان يوضع عارياً على قصب مشقوق يردد جسد فوق القصب. لكن تعذيباته لم تتطور إلى المستوى الذي بلغته عند العباسيين، الذين كانوا يشوون الثائرين عليهم فوق نار هادئة، (بنفس الطريقة التي اتبعها الألمان في حرب الفلاحين) واستعمل الضواري في بعض العقوبات ولكن ليس على طريقة الرومان. والحدث البارز هنا هو قضية اللص الفاتك جحدر: أطلق عليه أسد جائع بعد أن شد يده اليمنى وأعطاه السيف باليسرى. وقد تمكن جحدر رغم ذلك من قتل السبع فعفا عنه الحجاج.
واقتدى بزياد بن أبيه في إعدام النساء. وكن قد نشطن في صفوف الخوارج. واقتبس طريقة زياد أيضاً في توسيع المسؤولية الجنائية لتشمل أقرباء المطلوب من الأبرياء. كما اتبع سياسته في منع التجمهر وكان يمنع الناس من الركوب مترادفين وألزم كل رجل أن يركب وحده. ومن أبشع إجراءاته القمعية إنزال الجنود مع العوائل بدلاً من أن يبني لهم معسكرات خاصة بهم يعشون فيها. وكان هذا الإجراء من أسباب ثورة عمت العراق والمشرق هي ثورة ابن الأشعث. وكانت من خارج صفوف المعارضة وقد قام بها وقادها نفس أتباعه وأعوانه من العراقيين. وانضم إليها الناقمون على سياسة الحجاج وبني أمية في بلدان المشرق. ولما بني مدينة واسط واستعصهما له، استحدث جوازات دخول للقادمين إليها. وأنشأ سجناً كبيراً في الكوفة يزعم المؤرخون أنه كان بلا سقوف ولا غرف فكان السجناء يتكدسون فيه دون حاجز فيما ينهم. وقد فتح السجن بعد موته. ويختلف الرواة في تقدير عدد من وجد فيه. أقلهم يقول إنهم أكثر من عشرين ألف سجين. وقال آخرون إنهم ثلاثة وثلاثون ألفاً. ونقل ابن عساكر رواية لمحدث يدعى ابن الأعرابي أنهم كانوا ثمانين ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة. وينبغي الشك على الأقل في عدد النساء لأن المسيسات منهن اقتصرن في ذلك الوقت على الخوارج ما لم نتوقع أن يكون بين السجناء متهمون بجرائم ومخالفات عادية.
وتوسع الحجاج في السخرة التي استحدثها معاوية فكانت معظم منشآته ومشاريعه تبنى بتسخير الفلاحين النبط.. وقد واجه هؤلاء الفلاحون محنة أخرى من الحجاج حين بدأوا يهجرون قراهم ويهاجرون إلى المدن. وسببت الهجرة انخفاضاً مريعاً في الإنتاج الزراعي. فشن الحجاج حملات لإعادتهم إلى الريف واستئناف الزرع. وكان عليه استخدام أساليب التحقيق البوليسية لمعرفة النبطي من العربي. وقد تعلموا العربية بسرعة لأن لغتهم السامية كانت قريبة الشبه بها. والنبطي حين ينطق بالعربية لا ينطقها بلكنة الأعجمي نظراً لتماثل الأصوات. ومن وسائل الكشف التي استعملها جهاز الحجاج شم الأيدي إذ يقال إن أيدي النبط ذات رائحة تتميز بها. ولعل هذه من طريقة عملهم وعيشهم مع قلة اهتمامهم بالنظافة على سوية الفلاحين. وكان النبط الذين يكتشفهم جهاز الحجاج يحشرون ويعادون إلى قراهم، وكانت هذه المظلمة سبباً آخر لوثبة ابن الأشعث، التي أسهم الفقهاء في تأجيجها. وكان الفقهاء يأتون إلى أماكن تجميع النبط معلنين احتجاجهم بالبكاء معهم. ولم يكونوا قادرين على غير ذلك في المعارضة العلنية لسياسة الحجاج قبل أن ينخرطوا في ثورة ابن الأشعث الدامية. ولم تحقق الحملات، على أي حال، مردوداً مكافئاً بسبب توزيع المهاجرين على المدن العراقية. ثم أصيبت بالإخفاق التام بعد حركة ابن الأشعث. وقد تحدث المؤرخون عن هبوط الإنتاج الزراعي زمن الحجاج إلى حوالي الخمس مما كان في عهد الراشدين وأوائل الأمويين من خلال حصائل الخراج التي أوردوها لمختلف الحقب. ويرتبط ذلك بالنزوح الجماعي للفلاحين.ومن الجدير بالذكر أن هذا الشكل من الهجرة كان يشجع عليه الإسلام الذي اتجه إلى توسيع رقعة المدن على حساب الريف والبوادي. وحرم على المهاجر أن يعود إلى موطنه السابق. كما حرم إعادته من طرف السلطة. وتفنن في ذلك بحديث: «لا تعرب بعد الهجرة» أي لا عودة إلى مواطن الأعراب لمن هاجر إلى المدن.
كان كل إنسان في عهد الحجاج عرضة للسجن أو القتل أو الإبعاد لأي تصرف لا يرضى عنه الوالي. ومع بقاء اللقاحية العربية فاعلة في وجدان الناس لا سيما فرسانهم وشعراءهم فقد حصل نفور واسع من سياسته التي تضمنت الإذلال المتعمد لأي شخصية حرة تتمسك بثوابتها الجاهلية أو الإسلامية بإزاء سلوك الوالي. وكانت علاقته مع الشعراء سيئة خلافاً لسائر الحكام المسلمين. ولم يتقرب إليه سوى جرير بن الخطفي وهو من خلصاء الأمويين وكانت علاقته بهم علاقة مادح بممدوح من المستوى الذي تمعير في البلاط العباسي. وقد تحداه الفرزدق رغم أنه اضطر إلى مدحه:
ومن قبلُ ما أعييتُ كاسرَ عينه
زياداً فلم تَعْلق عليَّ حبائله
وهرب منه شعراء ولغويون إلى الجزيرة العربية. منهم أبو عمرو بن العلاء أحد كبار جامعي اللغة العربية قال: طلبني الحجاج فهربت إلى واد بصنعاء فأقمت زماناً فسمعت إعرابياً يقول لآخر: قد مات الحجاج فقال الأعرابي:
ربما تجزع النفوس من الأمر
له فُرجة كحل العقال.
فلم أدر بأي شيء كانت أشد فرحاً أبموت الحجاج أم بسماع البيت..
ويحدث آخر: هربت من الحجاج حتى مررت بقرية فرأيت كلباً نائماً في ظل حب (زير ماء) فقلت في نفسي: ليتني كنت كلباً لكنت مستريحاً من خوف الحجاج. ومررت. ثم عدت من ساعتي فوجدت الكلب مقتولاً فسألت عنه فقيل: جاء أمر الحجاج بقتل الكلاب.
أراد صاحب هذا الحديث أن يبين شمول ظلم الحجاج للبشر والحيوانات. لكن في حديثه مدلول مهم ينبغي الالتفات إليه. فالكلاب لم تكن تعارض الحجاج حتى تشملها إعداماته. ثم المنحى الآخر (الوجه الآخر) لهذا الطاغية النموذجي هو ما نجده مشتركاً في مجمل سيرة الحكام المستبدين والدول الاستبدادية القديمة لا سيما في الشرق. إن الأمر بقتل الكلاب هو إجراء يندرج في تنظيمات الحجاج المدنية والصحية. وهنا كانت لرجل ثقيف منجزات مشهودة. والحجاج منظم دولة ومجتمع مرموق. وإليه يرجع أقدم تنظيم للبريد السريع بإنشاء سلسلة منظرات أقيمت بين بحر قزوين وواسط لنقل الأخبار بالإشارة. وقد استعمل فيها الدخان نهاراً والنار ليلاً. وفي مواجهة نقص الإنتاج الزراعي الناتج عن هجرة الفلاحين أنشأ الحجاج مشروعات ري كبرى صممت بطريقة تجمع بين سكان المدن وسكان الريف. ومن أضخم هذه المشروعات نهر حفره من الفرات عند بابل وسماه نهل النيل مضاهاة لنيل مصر. وبنى حول النهر مدينة سماها مدينة النيل استمرت عامرة عدة قرون ثم تقلصت بتمصير الحلة المزيدية في أوساط القرن الخامس الهجري. وقال ياقوت عن النيل أنه خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير. وحفر الحجاج نهراً آخر من دجلة في جنوب وسط العراق سماه نهر الصين. نسبة إلى قرية هناك تعرف بهذا الاسم. و نهر ثالث هو نهر الزاب وهو غير الزاب الكردستاني. واستزرع البقاع المحيطة بهذين النهرين. وفي بنائه لمدينته واسط أظهر الحجاج خصاله الشخصية كحاكم متمدن. كان الغرض من تمصير المدينة أمنياً للابتعاد عن الكوفة المعادية له. لكنه بذل جهداً لاختيار موضع ملائم حضرياً ضمن الموقع الاستراتيجي الذي تحدد بتعاً لضرورات الأمن. ولهذا الغرض شكل هيئة من الأطباء لارتياد الموضع. ويلاحظ هنا إناطة اختيار موضع مدينته بأطباء. وقام الأطباء بجولة ما بين عين التمر عند مدينة كربلاء إلى قرب البصرة فوقع اختيارهم على موضع واسط. وذهب نفسه ليراها فاستطاب كما يقول ياقوت ليلها واستعذب أنهارها (أو نهارها) واستمرأ طعامها وشرابها. وكان الموضع مملوكاً لدهقان فارسي فاشتراه منه. وكان بمقدوره كطاغية أن ينتزعه بدون عوض. لكن طغيان الحجاج كان سياسياً. وعني بنظافة واسط فحرم التبول والتغوط داخل حدودها. وعاقب المخالفين بالسجن. وكانت هذه محنة للبدو والفلاحين المارين بها. وكان من المعتاد أن يقضي الغرباء حاجتهم في الفنادق والمساجد لكن البدو لم يتعودوا ذلك.
كان آخر ضحية للحجاج هو سعيد بن جبير وهو فقيه من أصل حبشي تتلمذ على يد ابن عمر وابن عباس في المدينة وأقام في الكوفة، ثم انضم إلى حركة ابن الأشعث مع زملائه من الفقهاء. وبعد اندحار الحركة لجأ إلى مكة فقبض عليه واليها الأموي وأرسله إلى الحجاج فقتله بواسط. وكان الحجاج يتوجس من قتله لجلالة قدره. وصادف أن مات بعده بأقل من سنة ويروى أنه كان يهذي في ساعة الاحتضار: مالي ولسعيد.. مالي ولسعيد.. وقد ربط الخيال الشعبي بين موته العاجل، وكان في الخامسة والخمسين ومعافى، وبين قتله لسعيد.. ونسبوا لسعيد أنه قال له عندما قدمه ليقتل، أنه سيكون آخر قتيل يقتله.
وقف الوعي اللقاحي مشدوداً أمام ظاهرة الحجاج وكان لم يفق بعد من صدمة زياد وابنه عبيد الله. ولم تنجح إجراءات القمع الاستثنائية في حمل الناس على الهدوء. فكانت حركات التمرد مستمرة طيلة حكمه، وشارك فيها الخوارج بنشاط «بنيما انكفأ الشيعة لالتقاط الأنفاس». وكانت أكبر الثرات هي التي قادها عبد الرحمن بن الأشعث واشترك فيها أهل العراق على اختلاف مواقفهم السياسية وأوضاعهم الاجتماعية. وكانت آخر معاركها أضخمها وهي معركة دير الجماجم التي دامت مائة يوم ولم يتوصل الحجاج إلى كسبها إلا بعد أن توصل إلى شراء بعض الأطراف في معسكر الثوار ليلعبوا في ساعات الصدام الأخيرة دوراً يشبه الأدوار التي لعبها الرتل الخامس في الجيوش العربية في الحروب العربية الإسرائيلية. ومن التحديات الكبرى الأخرى حركة شبب الخارجي وفيها أيضاً بقي الحجاج عاجزاً. حتى ساعده القدر فسقط فرس شبيب به في نهر الفرات أثناء إحدى جولاته القتالية. ووردت حكايات كثيرة عن فدائيين كانوا يردون على الحجاج أو يشتمونه في وجهه ينبغي أن يكون معظمها من صنع الخيال الشعبي. وكان من منتقدي الحجاج في زمانه إمام أهل العراق الحسن البصري رغم أنه عارض الحركات المسلحة بحكم منزعه اللاهوتي. وكان حكمه في الحجاج أنه فاجر فاسق. ولا يقصد بالفجور هنا معناه الجنسي بل المعنى العام للعصيان وارتكاب الكبائر كالقتل ونحوه لأن الحجاج لم يعرف بالإفراط في الجنس ولم يكن زير نساء كما لم يشرب الخمر ولم يشتهر بحب الغناء. وكان عمر بن عبد العزيز يندد بالحجاج في حياته مستفيداً من مكانته كأمير أموي. ولما جاءته الخلافة كان الحجاج قد مات منذ أربع سنوات فنفى أسرته إلى اليمن وكتب إلى عامله عليها: «أما بعد فإني بعثت في عملك (ولاتيك) قدر هوانهم على الله» ابن عساكر 4/84. وفي «إحياء علوم الدين(2/132)» أن عمر بن عبد العزيز عين رجلاً في ولاية فقيل له إنه كان يعمل مع الحجاج، فعزله. فقال له الرجل: إنما عملت له على شيء يسير. فقال له عمر: حسبك بصحبته يوماً أو بعض يوم شؤماً وشراً.
ومن ذيول ولاية الحجاج وثبة يزيد بن المهلب في البصرة وكانت تحت شعار العمل بالكتاب والسنة «وأن لا تعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، وكان للحجاج كاتب من أعوانه يدعى يزيد بن أبي مسلم عيّنه زيد بن عبد الملك والياً على المغرب فأراد أن يسير فيهم بسيرة الحجاج في إعادة المهاجرين من البربر إلى قراهم فوثبوا عليه وقتلوه. وأقرهم يزيد على ذلك لتسكينهم. (طبري 5/359).
وعقد ابن عبد ربه في «العقد الفريد» فصلاً بعنوان: «من قال إن الحجاج كان كافراً» استوفى فيه أقوال الفقهاء وغيرهم في تكفير الحجاج، والتكفير هنا لازم عن سياسته لا عن عقيدته، لكن الفكر الديني تحرج في إدانة الحجاج. نبه رجال الدين إلى تدينه وإيمانه الصادق. وعند أهل الدين أن المسلم إذا لم يكن من أهل الأهواء (خارجي، أو معتزلي، أو باطني) فهو مستحق للغفران ولا يجوز لذلك الحكم عليه بشيء من أفعاله لأن الإيمان لا يضر معه شيء.
أدولف هتلر:
أدولف بن ألويس (Alois) ولد أبوه نغلاً فاتخذ لقب أمه إذ لم يكن يعرف أباه. ثم حمل لقب هتلر باختياره. فهو في هذا اللقب «دعي» النسب. وقد ترددت أقوال عن يهودية الفاعل الذي جاء بالويس إلى الدنيا. وإن لم تجد لها سند يوثق به.
اشتغل الويس موظف جمرك وتزوج وولد له أولاد أحدهم أدولف. ونفهم من هذا أن أدولف هتلر كان يحمل عقدة زياد بن أبيه، التي خلا منها الحجاج بن يوسف. اتجه أدولف أول الأمر إلى الفن، وكان يهوى الرسم، لكنه أخفق في دخول أكاديمية الفنون الجميلة لأن علاماته الامتحانية كانت دون المطلوب. فبقي على مؤله الثانوي. ولم يبذل جهداً للانشغال من أجل كسب الرزق. وإنما اعتمد على التقاعد الذي ورثته الوالدة من الوالد.. إلى أن ماتت الوالدة وانقطع التقاعد فتشرد أدولف، وكان يعيش في مأوى البلدية متنقلاً من مأوى إلى آخر. ولم تكن له قدرة على توطيد وشائج مع الناس وأظهر نزعة عدم تسامح مبكرة. وفي ثقافته السياسية في صباه، نزع إلى مقت الشعوب غير الجرمانية. وبسبب حرمانه ومنبوذيته كان يمقت العالم البرجوازي. لكنه لم يتحول إلى الاشتراكية بسبب كرهه للماركسيين. ويأتي هذا الكره ليس من دوافع طبقية بل من أممية الماركسيين ورفضهم للشوفينية الألمانية والعنصرية الجرمانية. وإلا فإن منسحقاً مثله كان بمقدوره أن يجد الملاذ في طبقية ماركس الجذرية.
تقول الموسوعة الأمريكية إن أدولف كان غير سوي جنسياً. فقد عشق ابنة لأخته غير الشقيقة، وعاشرها كعشيقة، لكنها انتحرت فيما بعد لشعورها بالاختناق تحت ذراعي طاغية كما بدا لها، فعاشر إيفا براون، وكانت شغيلة في حانوت، وبسبب تشرده لم يتكون لديه مزاج عائلي فأبقى علاقته مع إيفا حرة ولم يتزوجها شرعاً إلا في أيامه الأخيرة.
الثقافة الأساسية لأدولف هتلر هي ثقافة العنف. وقد درسه بإمعان من شتى الوجوه. ومن هنا توجه إلى الجيش: أراد أولاً الدخول في الخدمة العسكرية فلم يقبل لعدم لياقته، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى أتاح له فرصة التطوع. وكان ذلك كما تقول الموسوعة البريطانية بمثابة إنقاذ له من الإحباط والحياة المدنية غير الهادفة. واشتغل في البداية ساعياً للمقرات. وقيّمت شجاعته الفعلية بصليب حديد من الدرجة الثانية عام 1914 ومن الدرجة الأولى عام 1918. وفي 1919 انضم إلى حُزيب العمال الألماني كوكيل سياسي عن الجيش. ثم ترك الجيش وتفرغ للحزيب الذي تطور فيما بعد إلى حزب و الحزب الاشتراكي الوطني (النازي).
ظهرت قدرات أدولف هتلر كبلطجي مع تشكيل «عصابة الذراع المتين» التي خصصت لحماية اجتماعات الحزب. وقد استطاع الهيمنة على العصابة ووجهها لمهاجمة الاشتراكيين والشيوعيين. ونما نفوذه سريعاً مع نمو كفاءته في هذا المضمار وفي ظروف كانت ألمانيا فيها متوعكة الروح بعد هزيمتها الشنعاء في الحرب. وأظهر هتلر إلى ذلك مواهب سياسية وتنظيمية ساعدته على التقدم في نشاطه الحزبي. وقد وفر فشل الحكومة الألمانية في السياستين الداخلية والخارجية فرصة لنمو شعبية الحزب النازي استفاد منها هتلر لدفع الحزب إلى المقدمة. وأبدى في هذه المرحلة قدرة عجيبة على الدعاية والتأثير الجماهيري.
وقد تكاملت هذه العوامل في مجملها من ذاتي وموضوعي لإعطائه دفعة هائلة أوصلته إلى قيادة الحزب وأوصلت الحزب إلى السلطة. ومن طريف ما حصل أنه وجد الطريق ممهداً إلى السلطة بالانتخابات دون حاجة إلى عنف! وكانت الانتخابات التي نجح فيها هتلر وحزبه هي آخر انتخابات في ألمانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
الشخصية القمعية لهتلر معروفة، وإجراءاته معروفة ولم تتحول بعد إلى تراث شأن سياسة الحجاج. فقد عايشها جيلنا الذي أدرك مآسي الحرب العالمية الثانية، وهذه الحرب أشعلها هتلر وقد ابتلعت عشرين مليوناً من الأوروبيين عدا المجندين من آسيا وأفريقيا.
تهيأت لهتلر وسائل تعذيب وتنكيل لم تتوفر للحجاج بسبب التقدم الصناعي والتكنولوجي. وقد مكنه ذلك من ممارسة القتل الجماعي الذي لم يكن يتيسر للحجاج بدون السيف. ومعروف أن هتلر استخدم أفران الغاز لإبادة اليهود وغيرهم من خصومه السياسيين والإيديولوجيين، وأن ضحاياه من اليهود وحدهم بلغوا ستة ملايين، مقابل مائة ألف من ضحايا الحجاج. ويرجع الفارق في الكم إلى الفارق في التطور التكنولوجي.. لكن هناك عوامل أخرى حكمت هذا الفارق الضخم في كم الإرهاب الرسمي بين الغرارين، نضع في الاعتبار فروق الشخصية:
1 ـ تشرد هتلر وعائلية الحجاج.
2 ـ شرعية ولادة الحجاج ونغولة هلتر. وهذه لا علاقة لها بمسألة الدم وإنما تنتج مضاعفاتها السلبية في شخصية الفرد من النبذ الاجتماعي. فالمجتمع البشري حتى في أشد حالات الانحلال العائلي كما في الغرب لا يزال يميز بين ابن الحلال والنغل.
3 ـ سوية الحجاج جنسياً وعدم سوية هتلر. وتجربته مع ابنة أخته تكشف عن مضاعفات حادة للنبذ الاجتماعي في شخصيته، وحيث أنه لم يعرف بالشبق أو الإسراف في الجنس والتهتك، فإقدامه على ابنة أخته يجب أن يكون من ملابسات شخصيته الاجتماعية ـ أصله العائلي.
4 ـ انعدام الروادع بالنسبة لهتلر وحضورها في حالة الحجاج. وهنا نقف على جملة أمور:
ففي حالة الحجاج، هناك شرعية يبقى الجلاد مضطراً إلى الرجوع إليها في حالات معينة. واستفساره من أنس بن مالك يكرس هذه الضرورة. وثمت واقعة يرويها المسعودي في أخبار الحجاج من «مروج الذهب» تلقي ضوءاً على هذه الحالة. قال جيء برجل من بني عامر من أسرى «دير الجماجم» فقال له الحجاج: «والله لأقتلنك شر قتلة» فقال الأسير: «والله ما ذلك لك..»قال: ولم؟ قال: لأن الله يقول في كتابه: «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب.حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما مناً بعدُ وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها». وأنت قد قتلت فأثخنت وأسرت فأثخنت فإما أن تمن علينا أو تفدينا عشائرنا. فتراجع الحجاج أمام النص وأطلق الأسير. وأنكر مرة أن يكون الحسنين من ذرية النبي فرد عليه متبحر يدعى يحيى بن يعمر كان من الحاضرين وقال له: كذبت. فقال له الحجاج: لتأتيني ببينة على ما قلت من كتاب الله أو لأضربن عنقك. وتفيد بعض الروايات أنها كانت مناسبة عيد الأضحى فأراد الحجاج أن يضحي به للعيد بدل الشاة. فأحاله إلى آية تتحدث عن إبراهيم فتقول: «ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا. ونوحاً هدينا من قبل. ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون. وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين» وهنا قال يحيى: عيسى من ذرية إبراهيم وهو إنما ينسب إلى أمه مريم. والحسن والحسين ابنا رسول الله من قبل أمهم. فتوقف الحجاج عن قتله إلا أنه نفاه إلى خراسان حتى لا يواصل دعايته في العراق.
ووفرت الثقافة الأدبية للحجاج رادعاً آخر. فكان البعض من ضحاياه يتخلصون من القتل بعبارة بليغة يطرب لها فيعفو عنهم. وتدخل في بابه البلاغة مواقف مصارحة تعجبه فيفرج عن أصحابها. و من نوادر قضية الأسرى في وثبة ابن الأشعث أن أسيراً قدم ليقتل فقال له: إن لي عندك يداً (فضلاً). قال ما هي؟ قال: ذكر ابن الأشعث أمك فرددت عليه. فسأله من يشهد لك؟ فقال: صاحبي هذا. وأومأ إلى رجل من الأسرى. فشهد له الأسير، فسأله الحجاج: وأنت ما منعك أن تفعل كما فعل؟ فأجابه الأسير الشاهد: لقديم بغضي إياك. فقال الحجاج: أطلقوا هذا لصدقه وهذا لفضله.
هتلر لم يكن في وضع مماثل: فهو لم يكن يرجع إلى شريعة سماوية أو أرضية يذكره بها ضحاياه، وكان يفتقر إلى الثقافة، ومعارفه تقتصر على السياسات العسكرية. ويمكن أن نضع إلى جانب ذلك فوارق الوضع الحضاري والقيم الثقافية بين الأوروبيين والعرب. حيث الغلبة في أوروبا للأدب القصصي، وعند العرب للأدب الغنائي. وبالتالي فحتى لو كان هتلر امبراطوراً مثقفاً فإن بيتاً من الشعر أو نثرة بليغة ما كانت قادرة على جعله يلغي قراراً بالقتل. وثمة أيضاً اختلاف طريقة أو آلية القمع. ذلك أن ضحايا الحجاج كانوا يوقفون أمامه فتتاح لهم فرصة للكلام. وكان هو يناكدهم ويتبادل معهم الشتائم. أما هتلر فيصدر أوامره بالإعدام عن طريق المحاكم، وبالإبادة الجماعية عن طريق جهازه البوليسي والعسكري، وبالاغتيال عن طريق عملائه السريين. فليس له علاقة مباشرة بضحاياه تسمح لهم بمحاورته وجهاً لوجه.
لدى البحث في خلفية الجنوح لدى الغرارين نجد ما يلي:
هتلر ألماني مأخوذ بتفوق العرق الجرماني وتحركه الشوفينية الألمانية في وسط مشبع بهذه النزعات التي تنتشر على نطاق أوروبا كنعصرية للعرق الأبيض، وتتفاعل في ألمانيا العرقية الجرمانية. والعنصرية البيضاء لا ترى للإنسان حرمة خارج النسب الآري (مشروطاً بالإقامة في أوروبا، لأن الآريين الشرقيين مشمولون بالتحيز العنصري). وهي لذلك تبيح دمه. وكانت إباحة دم اليهود من هذا الباب. لكن الألماني الذي لا يوافق على هذه العقيدة يعامل كمرتد. ومن هنا إباحة دماء الاشتراكيين والماركسيين الألمان.
ولهتلر رافد من الأيديولوجيا الألمانية المتمترسة بمبدأ القوة والدولة كما تناوب على إشباعها وتأريثها فيخته ونيتشه وهيجل وشوبنهاور وغيرهم . وهو على عدم عنايته بالفلسفة مريد تاريخي لنيتشه.
إيديولوجيا الحجاج هي الحق الأموي المصعّد إلى مرتبة الحق الإلهي. وكان الحجاج يؤمن بالخليفة الأموي إيماناً دينياً هو الذي جعله يقول وقد مرض يوماً: إني والله لا أرجو الخير إلا بعد الموت! جاعلاً من إيمانه بالحق الأموي طرقه إلى الجنة. وهو الطريق الذي بلطه بأجساد المعارضين لبني أمية. ولم تكن للحجاج مشكلة عرقية فضحاياه الأكثر عدداً كانوا هم العرب. كما لم تكن وراءه فلسفة تنظّر للعنف الدموي فيما عدا الخلفية الدينية التي يستمد منها المتدين حين يكون في السلطة مقومات وجدانه القمعي. والحجاج من المتدينين كما يستفاد من سيرته الشخصية.
ماذا قدم الغراران للحضارة والمدينة؟
تقول الموسوعة البريطانية إن هتلر لم يقدم للبشرية أي مساهمة مادية وأخلاقية وإذا استندنا إلى النية فهتلر معاد للإنسان ويتعذر عليه فعل ما يخدم البشر عن وعي. لكن مغامراته العسكرية حملته على تنشيط الصناعة والتكنولوجيا. فتقدمت ألمانيا في زمانه أشواطاً بعيدة في هذا المضمار. وقد انتقلت التكنولوجيا الألمانية إلى البلدان الأخرى فخدمت تطور صناعاتها وتقنياتها. ويأتي هذا الإنجاز غير المقصود في مجرى نمو مدنيّاتي تعيشه ألمانيا والمحيط الأوروبي.ومن شأن هكذا وضع أن تنخرط فيه السلطة بصرف النظر عن نياتها وطريقتها في الحكم. وهو نفس ما يقال عن منجزات الحجاج كتحققات سياقية في مجرى مدنية نامية. ولا مجال بالطبع للكلام عن منجز حضاري قدمه أي من الغرارين الدمويين. فهما مفلسان أخلاقياً: المدنية يهم فيها الجلادون. أما الحضارة فإنشاء معرفي اجتماعي يتكامل فيه جهد الثقافة مع الفعل الشعبي كنقيض للسلطة كمروّج من جهته للقيم الأخلاقية التي تدخل في المنظومات المعرفية لأهل الفكر، ولا شغل للسلطة هنا.
خطوط الإدانة:
مرت بنا آراء المسلمين بالحجاج ومواقفهم منه. والاتفاق على إدانته شامل لجميع المذاهب والفرق بمن فيها الحنابلة الذين أظهرت جماعاتهم انحيازاً للأمويين.وقال عنه الذهبي وهو حنبلي متعصّب: «له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه» (سير أعلام النبلاء ـ ترجمة الحجاج) وهذا أدق تقييم يحظى به الحجاج: حسناته، إنجازاته، مفردات مغمورة في بحر من الذنوب، وكأنها قطع صغيرة من الذهب غرقت في المحيط ففقدها صاحبها وتلاشت آثارها..وذنوب الحجاج هي القتل وليست هي الذنوب الدينية التي يتمسك بها رجال الدين في تمييز الفاسق من المؤمن، فالحجاج كما بينا لم يكن يشرب الخمر أو يستمع إلى الغناء ولم يعرف بالزنى وكان يتمسك بالفرائض والعبادات ويؤديها على أحسن وجه. وهكذا فحين يجعله مؤرخ حنبلي غارق في بحر الذنوب فلا بد أن نتصور حجم الإدانة التي لقيها هذا السفاك المسلم من مُداينيه المسلمين. ويخرج عن الخط شعبيته في بلاد الشام، الموالية للأمويين آنذاك. ويقال إن شامياً وقف على قبره بعد دفنه وقال: «اللهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج» والمقصود بالدعاء أن الحجاج ستكون له مكانة الشفيع عند الله، وهي مكانة تختص بالأنبياء، والشامي يدعو أن تشمله شفاعته حتى يدخل الجنة، ولا يدخل في حساب شعبية الحجاج الشامية إسناد ثقافي. إذ لم يتجرأ فقيه أو متكلم شامي على تزكية الحجاج. وكان الفقهاء والمتكلمون معارضين في جملتهم للأمويين، ولكن ذكر ياقوت في مادة «واسط» من معجم البلدان أن رجلاً يدعى الوهاب الثقفي دافع عن إنجازات الحجاج، ولم أقف على ترجمة لهذا الشخص، ولعله كان مدفوعاً بعصبيته القبلية.
جوبه أدولف هتلر بنفس النطاق الشامل من الإدانة على مستوى أوروبا والكوكب.. لكن ألمانيا مشت وراءه مثلما سار أهل الشام خلف الحجاج، وقد واصل إلى السلطة بالانتخابات، والانتخابات في أوروبا حرة دائماً. وثمة ما يجمعه بالكثير من الألمان وهو العرقية الجرمانية والشوفينية الألمانية مع عبادة القوة والعنف، ولقي هتلر دعم آباء وفلاسفة ضخام من قبيلة عزراباوند ومؤسس الوجودية مارتن هايدجر، وتبنى مبادئه قطاع واسع من مثقفي الطليان والإسبان والبرتغال. ولا يزال شطر وافر من الرأي العام يتمسك بذكرياته من وراء الانخراط في الحركات النازية والفاشية الجديدة. ويمكن القول إن الغرب في جملته يصدر بهذا القدر أو ذاك عن منطلقات هتلر في التعامل مع الشعوب الشقية الملونة. لكن التنوير الغراوي ومعه الكوكبي في العموم يواصل تصديه للهتلرية. وللماركسيين فضل الصدارة في هذه السيرورة المديدة، التي ينتظم فيها العديد من الأحرار غير الماركسيين بل والمتناقضين مع الماركسية إن في منهجها العلمي أو اقتصادها الاشتراكي، وبين المعارضين للهتلرية رجال دين تأثروا بالمنحى الإنساني للأناجيل، وقفوا من هتلر موقف الفقهاء المسلمين من الحجاج، وبخلاف هتلر لم يكن للحجاج نصير من الأدباء غير جرير، الموالي للأمويين. ولم يدافع عنه أحد من الوسط الثقافي طيلة العصور الإسلامية.
أوصاف الحجاج لمن يريد رسمه من الفنانين:
كان أخفش لا يقوى على فتح عينيه في الشمس. ساقاه نحيلتان مجرودتان وبدنه ضئيل. وكان دقيق الصوت غير مكتمل الرجولة في نطقه برغم ما تمتع به من الفصاحة والبلاغة. هكذا وصفه المؤرخون. ومن الأفضل أن ينظر إلى هذه الصفات في حذر لأنها قد تكون انطباعية أكثر منها حقيقية.. والحجاج في الفولوكلور الشيعي أعور، وهي صفة مشتركة لجلادي الشيعة مثل يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد والشمّر بن ذي الجوشن.
كتاب رائع..........شكرا
ReplyDeleteالاشياء العظيمة من أنت يا رجل. إيف قراءة الاشياء قبل وكنت للتو رهيبة جدا. أنا أحب ما كنت قد وصلنا ، كنت أحب ما يقوله والطريقة التي يقول بها. كنت جعلها مسلية وأنت لا تزال إدارة للحفاظ على الذكية. أنا غير قادر على الانتظار لقراءة المزيد منك. هذا هو حقا بلوق كبيرة.
ReplyDelete