Monday, May 14, 2007

عصافير النيل - إبراهيم أصلان

إبراهيم أصلان

عصافير النيل

إلى الولدين: (هشام) و(شادي)

انتبهت الجدة من غفوتها.
تركت مكانها عند الزير.
وتلمست الجدار حافية حتى البوابة.
وقفت تداري جسمها في صدغ الباب, وتطل برأسها. تتفرج على ابنها عبد الرحيم, الذي خرج محمولاً إلى العربة المفتوحة.
ظلّت تبتسم وتكلّم نفسها حتى انفضَّت الزحمة.
لمحها الحاج محمود الفحّام, واتّجه إليها:
(ادخلي انت يا خالة هانم. إن شاء الله يبقى عال).
(إنت مين يا خويا?)
(أنا الحاج محمود).
(يا صلاة النبي. ابن دولت?).
(لأ, أنا الحاج محمود الفحّام).
(بتاع الفحم?).
(أيوه).
(وجيت امتى يا خويا?)
(أنا هنا من بدري).
(الحمد لله على السلامة. اتفضل).
(تعيشي).
(ما يصحش).
(معلش. ادخلي انت علشان الزحمة).
(تسلم من كل ردي. هم شايلين الواد عبد الرحيم ورايحين فين?)
(أنا رايح اشوفه وارجع اطمّنك).
قالت الجدة:
(يخيّبك يا عبد الرحيم. لازم الانتخابات رجعت تاني).
وسألت: (إنت يا خويا عاوز تروح لهم?)
(أيوه. حا غير هدومي وأحصّلهم).
(حتلاقيهم حدا الدكاكين, في أول البلد, ما هو المنشاوي باشا نجح).
واستدار الحاج إلى الناحية الأخرى وقال: (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله).
(تشرف يا خويا وتآنس. أهلاً وسهلاً).
واستدارت بجرمها الصغير:
(بنت يا دلال. هئ هئ هئ).
ودخلت.

كانت أمينة في المطبخ. والأستاذ عبد الله بن عثمان قاعد في الصالة, يحتسي القهوة ويدخن. كان يتفرج على التلفزيون, ويلمح الولد الكبير, عبر باب حجرة النوم الموارب, وهو يجرّب هدومه كلّها أمام المرآة, أمّا الولد الصغير, الذي استلقى بالعرض داخل المقعد الكبير, دماغه على مسند, وساقاه متدليتان من فوق المسند الآخر, فقد كان يتابع الشاشة, ويقاوم النعاس.
في ذلك الوقت كانت المذيعة الشابة تقف وسط مجموعة من التلاميذ الصغار عند سفح الأهرام, تسألهم عن عددها, وأسماء من بنوها, والأولاد يرفعون أصابعهم ويجيبون: خوفو. خفرع. منقرع. بينما المدرِّسة المرافقة, تظهر على الشاشة أحيانًا, وتختفي. وعندما قالت المذيعة:
(طيِّب, مين يعرف الفراعنة بنوا الأهرامات ليه?)
لم يجبْ أحد.
ثم رفع أحد الأولاد إصبعه.
(قول يا حبيبي).
وقربت الميكروفون من فمه. قال الولد: (هم بنوا الأهرامات, علشان يدفنوا فيها حضرة الناظر).
(يا خبر).
وضحكوا, المذيعة, والولد النعسان.
الأستاذ عبد الله أيضًا ضحك, وأطفأ سيجارته.
فكّر أن يقوم ويخبر أمينة بما قاله الولد, لكن صوت الكناري, ارتفع مدويًا داخل الصالة.
كان القادم هو سلامة, الشقيق الأوسط للأستاذ عبد الله.
ولأنه جاء على غفلة توقّع الأستاذ أن يسمع ما لا يدعو إلى الراحة.
تأكدت شكوكه عندما رأى سلامة يجلس وهو يباعد ما بين ساقيه, ويتكئ بمرفقيه على ركبتيه, ويتطلع إليه وهو صامت.
لم يشأ, من ناحيته أن يتساءل, ولكنه فضَّل أن يكتفي بالابتسام ويؤجل الكلام, مراعيًا ألاّ تكون عملية التأجيل أطول من اللازم, لكي يبدو موقفه طبيعيًّا, ولكي يجبر سلامة على الحديث دون أن يسأله, وما ذلك إلاّ لأن الأستاذ لم تكن تعجبه حالة الجدية التي يصطنعها شقيقه كلما جاءه بواحد من أخباره السوداء غالبًا, والتي تخص العائلة. كان يضايقه أكثر أن سلامة يداري ما يشبه الابتسام وهو يحدّق إليه, أو يتشاغل بالنظر إلى الثلاجة الموضوعة في ركن الصالة, كما يفعل الآن, كأنه لم ير هذه الثلاجة عشرات المرات من قبل, كأنه يريد أن يخيفه, أو على الأقل يقلقه, في الوقت الذي كان يجب عليه, هو بالذات, معرفة أن شقيقه الكبير, وقد تلقى من الأخبار أسوأها, لم يعد من السهل إخافته, لذلك لم يكن الأستاذ راضيًا. وكاد الصمت بينهما أن يكون سخيفًا لولا أن أمينة بانت من المطبخ وهي تقول:
إزيّك يا ابو أمل, وازاي سامية?)
اعتدل سلامة, وفي أسًى حقيقي, قال:
(بقى لنا يومين ما نمناش يا ام عصام).
(حد تعبان من العيال والاّ إيه?)
(يا ريت).
وأخرج علبة سجائره, وانشغل.
وبما أن الموضوع فُتح فعلاً, فإن الأستاذ تساءل, بهدوء:
(إيه الحكاية?)
(ستّك هانم).
(إيه? ماتت هي كمان?)
(يا ريت).
(يا ريت ازاي?)
(علشان اللي بيموت, بنعرف طريقه, لكن دي اختفت).
(اختفت ازاي يعني?)
(يعني فص ملح ودابت).
(ستّك هانم?)
سلامة هزّ برأسه موافقًا.
(من إمتى الكلام ده?)
(دلال بتقول من يومين تلاتة).
ونفخ دخان سيجارته وقال أنهم, من ناحيتهم, لم يتركوا مكانًا لم يبحثوا فيه, فضل الله عثمان (إحدى مناطق حي إمبابة قرب القاهرة) بيتًا بيتًا, الحواري التي حول فضل الله عثمان, الأقسام, المستشفيات, حتى المشرحة:
(دوّرنا فيها).
وأمينة قالت:
(يا ساتر يا رب).
(الحاج محمود الفحّام كان في المشرحة من ساعتين).
والأستاذ عبد الله استغرب جدًا:
(راحت فين يعني?)
(أنا باقول جايز, والله أعلم, تكون راحت البلد).
(أي بلد? ولمين? دي بقى لها أكتر من تلاتين سنة ما سافرتش).
وفكّر قليلاً, وأضاف:
(وبعدين تسافر إزاي? دى تجاوزت التسعين).
سلامة قال:
(ستك عندها ماية وأربعين سنة النهار ده).
(انت بتقول إيه?)
(باقول لازم تسافر).
(أسافر فين?)
(البلد).
هكذا قال سلامة وهو يغيّر من نبرة صوته, ويوضح أن ستّه لو كانت موجودة في البلد الآن, ولم يسأل عنها أحد, فسيقولون أن أولاد ابنتها تركوها في هذه السنّ تسافر وحدها:
(وتبقى فضيحة).
ثم إن عبد الله هو الوحيد بينهم الذي عرف البلد وهو كبير:
(يبقى لازم هو اللي يسافر, صحّ?)
أمينة قالت:
(صحّ).
والأستاذ قال:
(أسافر أقول يا مين هناك?).
(قول يا أي حد. المهم نبقى سألنا).
وباعد ذراعيه على جانبي المسند:
(فين الشاي يا أم عصام?)
(الشاي على النار يا ابو أمل).
انتهى الأستاذ من حلاقة لحيته النابتة البيضاء.
ارتدى قميصًا من قمصانه المكوية, ومسح الحذاء المركون.
ووقف أمام المرآة, يرتب شعره الذي شابه البياض.
وفي الطريق, كان إحساسه, الذي نادرًا ما خانه, يقول له إنه سوف يجد زوجة خاله دلال واقفة في فتحة الباب, بوجهها الضاحك, تخبره أنهم عثروا عليها, وأنه سوف يتقدم إلى حجرتها الصغيرة المعتمة, في نهاية الطرقة الطويلة, يطلّ عليها, ويراها على الكليم بثوبها الأسود, يضحك معها ويخبرها كيف يعتقد سلامة أنها تاهت, ثم يجلس مع دلال في الحجرة الكبيرة, يشرب الشاي, ويعود.
اتخذ الأستاذ طريقه إذن, ودخل فضل الله عثمان من نهايته المفتوحة على أرض السوق الكبيرة الخالية التي تقع شمال النيل. كلما جاء إلى فضل الله عثمان شعر بالحرج من كبر سنه, فكر في ذلك بينما هو يعبر إلى جوار عربة محمد أفندي الرشيدي المتربة, تحت شباك شقتهم القديمة المقفل. وكان فضل الله عثمان يوشك الآن أن ينتهي, عند قطر الندى الممتد من النيل شرقًا وحتى غرب المدينة, حيث يقع بيت خاله, ومن مكانه, كان في وسعه أن يرى المدخل البعيد, وعندما اقترب أكثر, أدرك أنه كان مفتوحًا.
كانت دلال تجلس على الحصيرة البلاستك المفروشة أسفل المدخل المفتوح.
ما أن لمحته حتى انفجرت باكية.
اتجه الأستاذ إلى الحجرة الكبيرة وقد بدأ الهمّ يركبه فعلاً, وجلس راغبًا في سماع كل شيء بالتفصيل. كانت الحجرة تسع سريرًا عريضًا, وطاقمًا أسيوطيًّا, وكنبة بلدية تحت النافذة الطويلة. وعلى الجدار المطلي بالجير الأخضر الباهت, عُلّقت صورة بالأبيض والأسود في إطار ذهبي قديم. لكن دلال لم يكن لديها الكثير لكي تضيفه إلى كلام سلامة: لقد لاحظت يوم السبت أنها لم تسمع أية حركة داخل الدار, وعندما اتجهت إلى حجرتها لم تكن هناك, ولما لقيت أن المداس اختفى, تأكدت أنها خرجت.
(مداس ايه?)
(اللي كانت بتلبسه لما تيجي خارجه).
(هي كانت بتخرج?).
(أبدًا).
(إمّال إيه?).
دلال قالت ما معناه, أن الجدة هانم, من يوم ما ماتت ابنتها نرجس, أم الأستاذ عبدالله, وهي تبحث عن مداسها لكي تلبسه وتروح لها, وبعدما بدأت هذه الحكاية تغيب عن بالها, مات ابنها عبد الرحيم, وهي رجعت مرة ثانية تبحث عن المداس لكي تلبسه وتروح لهم, ولذلك خبأته منها وراء الزير.
(تروح لهم فين?)
(ربنا وحده اللي يعلم).
(يمكن راحت لهم القرافة?).
(لأ. دي هي بيتهيأ لها إنهم عايشين).
(عايشين?).
(إمّال إيه?)
والتفتت إلى الولد عبد الله الصغير الذي يجلس في ركن الفراش وقد طوى ساقيه:
(قوم يا واد هات باكو شاي).
نظر الأستاذ بدوره إلى الولد الذي يحمل اسمه, والذي كان من عادته أن يتجاهله, ثم أشعل سيجارة وقال:
(في رأيك أنت كده, تكون راحت فين?)
(مفيش قدامنا غير البلد).
(هي تعرف تسافر?)
(يمكن سألت وحدّ دلّها).
قال:
(حاجة غريبة جدًا).
(لازم تسافر بُكره يا أستاذ عبد الله).
(ربنا يسهل).
(اعمِل معروف يا ابو عصام).
وقامت تعمل الشاي.
وقام هو واقفًا.
اقترب من الإطار الذهبي القديم.
راح يتأمل الصورة التي جلست في مقدمتها أمه نرجس, ما زالت بصحتها, وإلى جوارها الجدة هانم, ضئيلة في طرحتها السوداء, وخلفهما, كان خاله عبدالرحيم, ممتلئًا وشابًّا, بشعره الطويل المفروق. وبينما هو واقف انقطع النور, وجاءت دلال تحمل لمبة الجاز الكبيرة. وضعتها على قاعدة النافذة الطويلة, التي فتح نصفها العلوي على فضل الله عثمان, المعتم.
مرّة, النور انقطع فجأة على نرجس وهي قاعدة تتفرج على التليفزيون.
نرجس ارتعبت لأنَّها لا تخاف من شيء في الدنيا مثل العتمة. ومشت خطوة واحدة في انتظار البهي عثمان, الذي كان عند جابر البقّال.
وعندما تبينت حفيف الجلباب عند الباب قالت:
(أبو عبده?)
والبهي قال:
(أيوه).
ودخل المطبخ.
نرجس وقفت حتى سمعت يده وهي تنكش في علبة الكبريت, ورأت النور الخفيف وهو يأتي من الطرقة, وراقبت خيال الفوطة المعلقة في المسمار وهو يكبر على الحصيرة, ثم ينسحب إلى الجدار ويصغر, أمام لمبة الجاز التي جاء يحملها بين يديه الاثنتين.
البهي رأى نرجس وهي على هذه الحال وابتسم.
وضع اللمبة على التلفزيون ومسح زجاجها الدافئ بكفيه وعلاّها, وسألها عن علبة الكبريت التي طلب منها أن تحتفظ بها وتنور لنفسها إذا النور انقطع. وهي رجعت مكانها وقعدت على الكنبة وقالت إنها غلبت من عيال ابنتها إحسان, الذين لا يتركون شيئًا في مكانه أبدًا.
البهي عثمان سمعها وأخرج ورقة أسبرين من جيب الجلباب وهو واقف.
وضع القرصين على لسانه وتناول القلة من جنب التلفزيون وأخذ شربة ماء وابتلعهما, وقعد على الكنبة الأخرى ومد يده الممسكة بالمسبحة على ركبته المثنية, وركن الشمال على المسند وأخبرها أن أم حسين البقّالة أعطته قبل الظهر ربع جنيه قديمًا, وأنه أعاده إلى ابنها جابر, أخذه وأعطاه ربع جنيه آخر, ولمس جانب فمه بأطراف أصابعه.
ونرجس سألته عما إذا كان ضرسه لا يزال يؤلمه. والبهي قال:
(آه).
(طيب يا خويا اخلعه).
(يا ستّي).
(ما دام بيوجعك).
(أنا لسه ح اخلع واعمل يا أم عبده?).
نرجس قالت إن كل الناس تفعل ذلك في مستشفى الموظفين, وإن وجع ساعة ولا كُلّ ساعة:
(ولا انت يعني عليك ذنب, تفضل طول عمرك وانت تعبان منه?)
(لا طول عمري ولا حاجة. آهو شويه كده, لغاية الواحد ما يروح لحاله).
نرجس سكتت وفكرت في أسنانها التي كانت تعوم وتقع في فمها دون أي وجع, وقالت:
(أنا اللي أسناني خابت لوحدها).
وإنها كانت ترميها من الشباك:
(سليمة وزي الفل. النور اتأخر).
(زمانه جاي).
(يا ترى مقطوع عند الجامع?).
(فضل الله عثمان كلّه عتمة).
وقال إن العيال لم يظهروا. لم يَرَ أحدًا منهم. ولكن نرجس قالت إن الولد عبد الله الصغير كان هنا, وسلامة, زمانه ساحب مراته وجاي.
(الكلام ده امتى?)
(وانت نايم).
(وإحسان?).
(عيالها كانوا هنا. نرجس الصغيرة, والواد وليد).
وأخبرته أنه قعد وقال:
(هاتي شلن يا ستّي).
أخذه وهبد الباب وراءه وخرج.
أبو عبده قال إن هذا الولد, بلون شعره وعينيه, يذكّره بالشيخ راشد الذي كان في البلد. أبو الشهيد عبد السميع الله يرحمه:
(فاكراه يا نرجس?).
نرجس عدلت جسمها على الكنبة وقالت:
(فاكراه قوي).
ووصفت له جلبابه المقطوع وطاقيته المدورة, وكيف كانت تجري وراءه من بعيد, هي بنت, مع أولاد يحيى, من عند دار الطناحي, إلى سيدي علي الشنبابي غرب البلد:
(ده كان كافر يا ابو عبده).
أبو عبده هز دماغه وقال:
(سبحان الله).
وأخبرها أن راشد بعد أن تاب, كان يقف أمام باب سيدي علي الشنبابي ويهمس في خرم المفتاح ويقول:
(واد يا علي, سلام عليكم, افتح يا واد. أنا راشد).
وكان باب الجامع المقفل بترابيس النحاس من الداخل يفتح على الناحيتين, وراشد يدخل ينام والباب يقفل من ورائه.
(ده من عيلة اللبودي يا ابو عبده).
(عارفُه, وعارف ولاد عمه كلهم. أرضهم كانت على المصرف البراني).
(شوف الدنيا, يا ترى راشد مات يا ابو عبده?) (تلاقيه مات, من يدري).
نرجس مصمصت بفمها الخالي من الأسنان وقالت: (يا دي الخيبة على حكاية النور دي يا أولاد).
وصمتت قليلاً:
(يا ريتك يا ابو عبده لما اموت, توصل لي سلك بلمبة في التربة).
(ازاي الكلام ده?)
(تعرف, ولو أسبوع واحد).
البهي عثمان كان أول مرة يسمع فيها كلامًا بهذا الشكل.
وقال:
(دي تضرب يا وليه).
نرجس قالت:
(أبدًا. والنبي ما يجرى لها حاجة).
البهي عثمان سكت وتهيّأ له أن اللمبة لن تضرب. وفكر بينه وبين نفسه: (صحيح, إيه اللي يخليها تضرب?) لكن عقله راح ناحية الملكين وهل يصح أن يكون الحساب في نور لمبة الكهرباء أو لا يصح. واستغفر ربنا وهرش رجله الشمال, وبدا له أن الموضوع غريب في نوعه, وغادر الكنبة وأتى بعدة الشاي, وابور السبرتو, والبراد الأزرق, والأكواب.
نرجس رجعت تقول إنه يستطيع أن يأخذ وصلة سلك من عبد الخالق الحانوتي, ويشتري لمبة ولو خمسين شمعة, مثل التي في الحمام, ودواية: (يعني عمرها ما تكلف خمسين قرش, والا يمكن أربعين. تعرف, أسبوع واحد, لغاية ما آخد على الضلمة).
أبو عبده وضع السكر في الأكواب وهو يقول في سره:
(وصلة إيه يا خويا وسلك إيه?) وفكر أن السلك بعد تركيبه في المقبرة لا بد يردم عليه, وبعد أن يردم عليه يخرجه من تحت الأرض في الناحية الثانية من الطريق, ويصله بالفيشة عند عبد الخالق الحانوتي. وطبعًا ممكن يتعرى من الرطوبة وأي واحد يدوس عليه ويتكهرب: (ده يموت, وتبقى دوشه).
وأشعل وابور السبرتو. وضع عليه البراد الأزرق, ومد لها يده بعلبة الكبريت.
طلب منها ألاّ تضيعها هذه المرة.
وهي أخذتها منه, خبأتها تحت المسند وهي تقول بأسى, إن أولاد إحسان شياطين, لا يتركون شيئًا في مكانه, أبدًا.
فوجئت نرجس بحركة في العتمة.
خارج باب الشقة المفتوح.
قالت وهي تلم رجليها:
(مين?)
قال شقيقها:
(منورين).
وقال البهي عثمان:
(أنت فين من بدري?)
(في الدار).
وجلس على حافة الكنبة ويداه في جيبي جلبابه.
قالت نرجس:
(سايب امك في العتمة وجاي ياعبد الرحيم?)
ضحك:
(هي دريانة ان كانت عتمة ولا نور?)
ظل النور مقطوعًا حتى انتهت صلاة الظهر, ثاني يوم, في جامع السنية القريب, والبهي عثمان تناول الشبشب من الدولاب المنصوب مثل المكتبة في مدخل الجامع, ومشى بقامته القصيرة في الشمس الحامية حتى وصل إلى أم حسين البقالة, ودخل من باب البيت, وراح يصعد الدرجات القليلة وهو يعري ساقيه النظيفتين ويحمد ربنا أن الطوبة وقعت على أم حسين ولم تقع عليه.
عندما اقترب من باب الشقة الموارب, لمح محمد أفندي الرشيدي في الناحية الأخرى من الحوش. ولما لاحظ أنه طويل وهو لابس الجلباب المخطط على أول درجة من السلم الداخلي, تصرف بسرعة, بحيث ترك ذيل الجلباب ينزل على قدميه, ومد يده بهدوء لكي يدفع الباب ويدخل من سكات, لكن محمد أفندي الرشيدي أحس به وقال:
(إزيك يا سي البهي?).
وأمسك ساعة الجيب وقربها من عينه اليسرى وهو واقف, ثم رفع وجهه, بأنفه الكبير, ونزل درجة السلم وجاء.
وبعدما عدل السلسلة المشبوكة في عروة الزرار, وتركها مدلاة على صدره:
(عامل إيه دلوقت يا أبو عبد الله?)
(نحمده يا أبو حنان).
أبو حنان سمعه وظل ينظر إليه, ثم وضع يده على كتفه وأخذه نحو شباك المنور المفتوح, وسأله بصوت خفيف عن هذا الكلام الذي سمعته أم حنان من أم عبدالله:
(انت صحيح طلعت على المعاش?)
البهي عثمان سند كتفه جنب قاعدة الشباك, وشم رائحة الرطوبة والفراخ, وابتسم كمن يريد الكلام, وسكت.
وأبو حنان قال:
(الله. إذن الكلام صحيح?)
(هو صحيح. بس انا تقدمت بشكوى).
أبو حنان بهت قليلاً, ومال برأسه إلى الأمام:
(قدمتها لمين?)
(للمسؤولين).
(إزاي الكلام ده?).
البهي عثمان خلع رجله من فردة الشبشب وثناها تحت الجلباب, أخذ يحك باطن ساقه العارية بإصبع قدمه الكبيرة وهو يقول إن الموضوع حدث فيه خطأ, وإن الحكومة أخرجته على سن الستين بدلاً من الخامسة والستين:
(أصل انا معيّن على الكادر الفني).
(الكادر الفني?)
(إمّال انا باصرف بدل طبيعة عمل ليه?)
(بتصرف كام?)
(عشرين في المية).
(على الشامل?)
(لأ. على الأساسي).
أبو حنان استغرب وقال:
(ازاي الكلام ده?)
والبهي عثمان شعر بالارتباك حين وجده رجع وقال: (إزاي الكلام ده?) لثاني مرة, وبعد فترة بسيطة من المرة الأولى, ولبس الشبشب وأراد أن ينصرف لأنه قدر أن يحافظ على طهارة وضوئه منذ صلّى الفجر حاضرًا, وهو يريد الآن أن يذهب إلى المرحاض.
وبدأ يبعد عن شباك المنور ويقرب من باب الشقة.
ومحمد أفندي الرشيدي لحقه وقال:
(لكن ده شيء غريب يا أبو عبد الله).
(يا سيدي).
(طيب وبعدين?)
(ما انا قلت لك يا ابو حنان).
(خطير ازاي?)
(زي ما باقول لك كده).
(لكن دي غلطة).
(إنت متأكد?)
البهي عثمان قال: (أيوه), لأنهم من حوالي سنة أخذوا منه الموتوسيكل وسلموه دفتر الحضور والانصراف واعتبروه من الكادر الكتابي: (ما تعرفش ازاي نسيوا حكاية الموتوسيكل دي خالص).
(أخدوه ازاي? ده عهده).
(هو إيه?)
(الموتوسيكل).
(القومسيون).
(القومسيون الطبي?)
(آه).
(ازاي الكلام ده?)
البهي لما سمع هذه الجملة لثالث مرة, وجهه المدور ازداد احمرارًا من كثرة الضيق, وقال:
(يا سيدي هو اللي كتبه).
(يعني تقرير رسمي?)
(أهي ورقة كده).
(الورقة دي, كتب فيها إيه?)
البهي عثمان تنهد وقال:
(كتب إني لازم أسلّمه).
(تسلّم إيه?)
(الموتوسيكل يا أخي).
(أيوه أيوه).
وفكر وقال:
(طيب. حيث إن الموضوع كده. إيه رأيك بقى في مشروعنا?)
(أيّ مشروع?)
(مشروعنا بتاع زمان يا ابو عبده. الدكان).
(دكان إيه?)
(دكان عمك مجاهد. بتاع الفول).
(ماله?)
(خلاص. الراجل انتهى).
(لا حول ولا قوة إلاّ بالله).
محمد أفندي الرشيدي قال إن ذلك ليس هو المهم. المهم الآن هو الدكان:
(لازم ناخده).
(ناخده إزاي?)
(زي أي حد يا أخي).
وطلب منه أن يلاحظ أنه الآن على المعاش, يعني لا شغلة ولا مشغلة, ممكن يقوم من النوم, يصلي الفجر حاضرًا ويفتح الدكان, ويظل جالسًا فيه حتى يعود هو من العمل:
(أصلّي العصر وآكل لقمة وأستلم منك. مش عيب أبدًا).
(والفلوس?)
(أي فلوس?)
(اللي حانشتري بيها البضاعة?)
محمد أفندي الرشيدي قال إنها مبالغ لا تذكر. وإنه لو فكر معه سوف يجد أن المطلوب لن يزيد عن صفيحة جير يدهنون بها الواجهة والجدران, ورفين من خشب أو ثلاثة, وكمية من البضاعة في الحدود المعقولة. بعد ذلك, كلها سنة ويخرج هو الآخر على المعاش ويعمل معه في وردية واحدة. لأن التجارة سوف تكون اتسعت.
والبهي عثمان قال بطريقة لا تخلو من اهتمام:
(على العموم الأعمال التجارية مربحة).
(جدًا. وبعدين خد عندك), وبدأ يعد على أصابع يده وهو يسأل ويجاوب: حجم الدكان? مناسب. المكان? جميل. المشوار? خطوتين. الإيجار? ملاليم:
(إيه تاني يا أبو عبد الله?)
أبو عبد الله رأى الأصابع التي كان أبو حنان يعدّ عليها وهي تنثني إصبعًا وراء الآخر, ورفع مقدمة دماغه الخالية من الشعر, ونظر في أنف محمد أفندي الرشيدي, الذي وضع يده على كتفه وعاد به إلى مكانه عند باب الشقة الموارب وهو يطلب منه أن يتوكل على الله, ونبهه إلى أن أهم شيء الآن هو عدم الكلام في هذا الموضوع أمام أيّ أحد, خصوصًا أم عبد الله. وأكّد:
(أبو عبد الله?)
(عيب يا بو حنان).
(طيّب سلام عليكم).
ورفع ذيل الجلباب, وبدأ ينزل السلم.
(عليكم السلام ورحمة الله).
وفتح الباب .. نظر إلى نرجس التي كانت قاعدة تتفرج من الشباك ويدها على خدها.
اتجه إلى الحجرة الداخلية وقلع الجلباب ورماه على السرير, واقترب من سترته الحكومية المعلقة في مقبض الشباك. وضع يده في الجيب الخارجي وأخرج علب السجاير ومشط الكبريت, وشب على أصابع قدميه ورأى الحاج محمود الفحام وهو يجلس على الدكة في هذه الناحية من فضل الله عثمان, والعم مجاهد وهو نعسان جنب قدرة الفول الكبيرة على عتبة الدكان, واتجه مسرعًا إلى المرحاض وهو يشعل السيجارة.
أغلق الباب على نفسه جيدًا, ورفع الفانلة حتى صدره وأنزل السروال, وقعد يقضي حاجته ويدخن, ويرى خياله في المياه الخفيفة على البلاط ويلعب فيها بعود الكبريت, ولما ارتاح, مال ورمى العود في الفتحة المدورة, وهز دماغه وقال:
(الله يخرب عقلك يا ابو حنان)..
أثناء صلاة العصر, أقبل عليه الحاج محمود الفحام من آخر الجامع, وأخبره أنَّ فتحي عماد المحامي, والمرشح عن الدائرة لعضوية مجلس الشعب, سوف يلتقي بالناخبين في أرض السوق, بعد صلاة العشاء مباشرة, واقترح عليه أن يقدم له صورة من الشكوى.
البهي عثمان فوجئ بأن الحاج محمود على علم بالموضوع, وتطلع إليه صامتًا, ثم قال:
(لا يا راجل?)
(صدقني يا أبو عبدالله. ده مرشح الحكومة)
كان يتكلم بصوته المبحوح وهو واقف بقامته القصيرة الممتلئة, وجلبابه البلدي المفحّم, وقد انحدرت طاقيته الصوفية عن شعره القصير الشايب. والبهي عثمان أسرع بالابتعاد في فضل الله عثمان. وبعد صلاة العشاء, طوى صورة الشكوى ووضعها في مظروف بريد جوي ملون دسه في جيب سترته الداخلي, وغادر فضل الله عثمان يرافقه كل من الحاج محمود الفحام, وعبد الرحيم, ومحمد أفندي الرشيدي. وظلّ طول الطريق يسير متخلفًا عنهم بخطوة أو خطوتين وهو يبتسم في نوع من الحرج, وركل طوبة بقدمه اليمنى, مرة, وكاد أن يقع.
عندما وصلوا إلى أرض السوق, وجدوا المقاعد مرصوصة على شكل دائرة كبيرة تتوسطها منضدة خالية عليها مفرش, وحولها أربعة مقاعد في انتظار المرشح ومعاونيه. أسرع محمد أفندي الرشيدي يدفعهم للجلوس في الصف الأول على مقربة من المنضدة. وكان المعلم صبحي يقف في الخارج وعينه تتابع الطريق في الانتظار. أما القهوجي فقد كان في حالة من الحماس الملحوظ وهو يضع أمامهم أكواب الكركديه الساخن.
كانت أغلب المقاعد ما زالت خالية.
وبدا البهي عثمان محرجًا وهو يشرب الكركديه,
لكن باله انشغل فجأة, ومال على الحاج محمود الفحّام, وهمس في أذنه القريبة:
(لكن انت يا حاج عرفت منين?)
(عرفت إيه يا أبو عبد الله?)
(الكلام ده).
(كلام إيه?)
(بتاع الشكوى والحكاية دي)
(خروجك على المعاش يعني?)
البهي عثمان هز دماغه على نحو غير محسوس.
والحاج محمود همس قائلاً إن محمد أفندي الرشيدي, أبو حنان, أخبره بكل شيء, وتهدج صوته الأجش:
(إحنا أهل يا ابو عبد الله. مش كده والاّ إيه?)
والبهي عثمان قال:
(آه).
ورمق محمد أفندي الرشيدي بجانب عينه وهو يشعر بالكراهية له وللشعر القصير الذي يتدلّى من فتحة أنفه المقرفة.
صحيح أنه طول عمره لم يكن يشعر نحوه بأي ارتياح, إلاّ أن هذا الشعور كان يزيد أو يقل حسب الظروف, وهو الآن في ظرف من الممكن أن يقبل فيه العمى ولا يقبله. وراح الرواد يتزايدون. وراح الصخب يعلو في انتظار المرشح الذي تأخر. وبدأ البهي يشغل وقته بالتفكير في كل العيوب التي يعرفها عن الرشيدي, وأولها حكاية ذهابهما إلى الجامع لأداء الصلاة, أيام الشباب, وكيف أنهما سجدا لله عز وجل, حين تدحرجت بريزة فضيّة من جيب أحد المصلين واستقرت أمامهما, وكيف أنه لمح, عندما ركعا, يد محمد الرشيدي تنزل على البريزة بالضبط, وكيف أنه بعد أن قال: (سبحان ربنا الأعلى) ثلاث مرات, وسحب كل منهما يديه واعتدل, كانت البريزة, بقدرة قادر, قد اختفت.
وفي حوش البيت قبل أن يفترقا, راح البهي يحدق إلى جيب جلباب الرشيدي العلوي, ويبحث عن علامة البريزة الثقيلة في القماش الخفيف.
وأفاق على الهياج الذي صنعه مرافقو المرشح الذي وصل محمولاً من طريق النيل وهو جالس بين ذراعي اثنين من الرجال.
وضعوه على المقعد بعناية.
كان يلهث في بدلته الكاملة وقد تدلّى منديله الملون من جيب السترة. ولاحظ البهي عثمان أن الرجل ممتلئ الجسم وشعره فضي, ووجهه المحمر مائل على صدره, وفي فمه اعوجاج خفيف, وكان الشيخ على السني خطيب الجامع يجلس إلى يمينه مبتسمًا, بوجهه الطيب, ولحيته الكبيرة السوداء. كانت المقاعد كلها مشغولة, ووقف عدد كبير من الناس. كما لاحظ أن المرشح سرعان ما هدأت أنفاسه, وفتح عينين رماديتين, وفوجئ بصوته الجهوري وهو يصيح:
(مساء الخير يا رجّالة).
وتلفت بوجهه هنا وهناك وهو يقهقه دون صوت, وعدل من وضعه, وسكت.
كانت هناك مجموعة من المرافقين تتجول بين الناخبين لكي تتأكد من أن كل واحد شرب كركديه. والبهي لاحظ أن محمد أفندي الرشيدي طلب كوبًا آخر شربه وهو في حال من اللذة الواضحة, وأن المرشح عاود إغلاق عينيه ومال رأسه الثقيل, واستند بخده إلى يده, بينما اتكأ بمرفقه على المنضدة. وشعر البهي بالاشمئزاز من دناءة الرشيدي, وفَطِن إلى أن كل مجموعة بدأت تتحدث مع بعضها, وبدأ يظن أن اللقاء كان من أجل شرب الكركديه فقط, ولكنه فهم من الكلام أنهم في انتظار المنشورات من المطبعة لكي يتم توزيعها عليهم. واقترح الحاج محمود الفحام أن يقوم أبو عبد الله بتسليم الشكوى للمرشح, ولما لاحظ أنه لم يردّ عليه, قدم الاقتراح نفسه إلى محمد أفندي الرشيدي الذي قال:
(هو لسه ما سلمهاش?)
والتفت إلى البهي عثمان:
(جرى إيه يا أبو عبد الله? قوم ادخل عليه).
ولكن البهي تجاهله تمامًا, في حين تنبه عبد الرحيم للكلام ومد يده:
(هات يا سي البهي).
التفت البهي إليه, وعندما لاحظ إصراره, مد يده بالمظروف الملون وهو يقول:
(الراجل نايم يا عبد الرحيم).
ولكن المرشّح لم يكن نائمًا تمامًا لأن خده انزلق على كفه وهو ما زال مغلق العينين, وترك مرفقه على المنضدة وراح يفرد أصابعه ويلمها في الهواء, ولما لامست أطرافها لحية الشيخ علي السني أمسك بها يمسدها برفق ويجذبها, بينما ظهرت أمارات التفكير على وجه الشيخ الذي مال إلى سطح المنضدة مع حركة الجذب. وفي ذلك الوقت اخترق أحدهم الزحام وهو يحمل إلى صدره مجموعة من رزم الورق المربوط, وصاح:
(المنشور يا باشا)
انتفض المرشح منتبهًا, وأفلت اللحية وهو يصيح:
(مستنى إيه: وزّع على الرجالة. ده معمول علشانهم).
والتفت إلى الشيخ علي:
(ولاّ إيه يا فضيلة الشيخ?)
ابتسم الشيخ ولم يعلّق.
أمسك البهي عثمان بالمنشور ورأى الصورة الباهتة في أعلاه, وقارن بينها وبين الرجل ولاحظ أنها تشبهه, ومر بعينه على السطور المكتوبة عن الخدمات التي سبق له القيام بها, وانتبه لصوت المرشح الذي رفع يده بنسخة من المنشور وهو يصيح:
(والله. والله. أنا لو ناخب, لازم أدي صوتي للراجل ده).
وانفجر ضاحكًا, وشاركه الآخرون.
ولما لاحظ عبد الرحيم أنهم اقتربوا منه لكي يحملوه, أسرع نحوه ودفع بالشكوى إلى جيبه, بينما لحقه الحاج محمود الفحام وصاح أن هذا الرجل الطيب, مشيرًا إلى البهي عثمان, سوف يضمن له أصوات فضل الله عثمان كلها. ورآه البهي وهو يهز رأسه متأثرًا بينما هو يجلس على الأذرع المتقاطعة. وقبل أن يستديروا به في طريقهم إلى العربة الكبيرة المفتوحة (...).
ظلوا صامتين حتى وصلوا إلى فضل الله عثمان.
حينئذ قال الحاج محمود الفحام:
(أنا متفائل خير بالراجل ده).
وقال عبد الرحيم وهو يمشي واضعًا يديه في جيوب الجلباب:
(أما يبقى ينجح الأول. وحتى بعدما ينجح, محتاج زيارة تانية).
وعلق محمد أفندي الرشيدي:
(ده مرشح الحكومة يا سي عبد الرحيم. أنت شفت العربية اللي ركبها?)
البهي عثمان تجاهل كلام الرشيدي, ورد على عبد الرحيم قائلاً:
(ده كان قاعد نايم).
وقال الفحام:
(من التعب يا ابو عبده. طول النهار بيلف?) (يقوم يلعب في دقن الشيخ علي السني?)
قال الرشيدي: (إزاي الكلام ده?)
البهي عثمان وقف عن المشي وقال غاضبًا: (أيوه لعب, مسك دقنه وشدها).
(ما حصلش).
وقال عبد الرحيم: (جرى إيه يا إخواننا? ما احنا كلنا شفناه وهو ماسك دقن الراجل وبيشدها).
(أنت قصدك لما افتكرها كباية الشاي?)
(كباية الشاي?)
(أمال إيه?)
والبهي عثمان فكر, وقال:
(طيب وإيه جاب الكباية اللي على الترابيزه? عند دقن الشيخ علي, اللي في وشه?)
ولما سكتوا, أضاف:
(غير كده, تيجي منين كباية الشاي, إذا كانت الناس كلها, شربت كركديه?) ودون أن ينظر هنا, أو هناك, ابتسم ابتسامة معناها: (آه يا بهايم يا ولاد الكلب!)
لم يستطع أحد أبدًا أن يوقف البهي عثمان عن الطريق الذي اندفع إليه.
طول الليل يكتب وينسخ شكاوى يوضح فيها كيف أن المصلحة ظلمته في خمس سنوات كاملة من مدة خدمته.
ومهما كان الوقت الذي تنتبه فيه نرجس, وتفتح عينيها وهي نائمة على جنبها في عز الليل, كانت تراه وهو منكفئ على الطبلية يكتب دون توقف, وقد تكومت الشكاوى وصورها على الكنبة المجاورة لكتفه اليسرى. وتناثرت على الكليم من حوله, أوراق سليمة وممزقة, بيضاء ومسطرة, وأخرى من الكربون.
في البداية كان البهي يكتب بقدر من التركيز, ويكتفي بشرح حكاية الظلم الذي وقع عليه, والنتائج التي لا يمكن تصورها, في حالة عدم قيام الحكومة بإصلاح الأمر. وكان واثقًا بأنها سوف تصلحه, لأن الخطأ الذي وقع واضح, هو معين على الكادر الفني, وكل الأوراق الرسمية تثبت ذلك, أي أن سن خروجه على المعاش يجب أن يكون في الخامسة والستين, أما اعتباره على الكادر الكتابي, عن طريق الخطأ, وإنهاء مدة خدمته في سن الستين, فهو لن يحرمه فقط من العمل وصرف مرتبه كاملاً طول السنوات الخمس التي يستحقها, ولكنه سوف يحرمه من عشرة جنيهات, بواقع جنيهين علاوة عن كل سنة, وهو ما يعني زيادة معاشه, عندما تنتهي مدة خدمته الفعلية, في سن الخامسة والستين.
والحقيقة أن البهي عثمان صرف الليالي حتى استطاع أن يعرض موضوعه بوضوح بحيث يمكن لأي مسؤول أن يفهمه, الأمر الذي ملأه اعتزازًا بقدرته التي تجلت وقت الحاجة. وقد أغلق الباب, وجلس أمام نرجس على الكنبة الأخرى, قرأ لها الشكوى متمهلاً, بصوت سمعته غريبًا في أذنيها. وعندما أعاد القراءة مرة أخرى, وهو واقف, تغير شكله أكثر, الأمر الذي جعلها تسرح بعيدًا عن الكلام الذي تسمعه. كلام يبدأ بالبسملة, والتحية, ثم يعرض موضوعه, يقول إنه لا يتصور أن يحدث معه ذلك بعد اثنين وأربعين عامًا من الخدمة, لم يوقع عليه خلالها جزاء واحد, لذلك فهو يطالب برفع الظلم عنه, وردّ السنوات الخمس التي هي من حقه, أسوة بكل زملائه المعينين على الكادر الفني نفسه. وكان ينهي شكواه قائلاً إنه يحتفظ لنفسه بحق المطالبة بالتعويض إذا استمر هذا الخطأ, وهي عبارة استقرت في وعيه بسبب من طابعها القانوني, ولأنه صادفها في العديد من الشكاوى التي كان شاهدًا عليها. كان يلقيها في إيقاع بطيء منذر. الأمر الذي جعل نرجس تنتبه, ويأخذها شيء من الوجل.
إلاّ أن الآمال التي علقها لم تستمر طويلاً; جاءت الإجابة تقول إنه حُوِّل قبل عدة سنوات من الكادر الفني إلى الكادر الكتابي بعد أن قرر القومسيون الطبي, عند تجديد رخصة القيادة, أن نظره أصابه الضعف, ولم يعد قادرًا على قيادة الموتوسيكل وجمع الخطابات من الصناديق, وأنه بالفعل, اشتغل مسؤولاً عن دفتر الحضور والانصراف, وقد وقع في حينه بتسلم ذلك العمل الكتابي.
هذا الكلام صدمه وجعله يغير من مضمون شكواه بحيث اتخذت طابع الاستغاثة الصريحة. أرسل عشرات منها إلى المصلحة, والوزارة والنقابة, والنائب العام, والاتحاد الاشتراكي, كما كتب رسالته الأخيرة إلى الرئيس جمال عبد الناصر. أخبره أنهم أثناء فرز الخطابات, كانوا يعثرون على منشورات الضباط الأحرار (بسبب مظاريفها المتشابهة) قبل قيام الثورة, وأنهم لم يبلغوا عنها, بل كانوا يعطونها لزملائهم الموزعين لكي يقوموا بتوزيعها دون أن يشعر واحد من المسؤولين. كان يأمل أن الرئيس سوف يقدر أنه أحد الذين أخلصوا للثورة وساهموا في نجاحها. وبينما هو يتوقع ردًا مات عبد الناصر فجأة.
تطورت المشكلة, تحدثت معه نرجس والعيال. طلبوا منه ألاّ يهتم, وأن الوقت قد حان لكي يستريح: (وبعدين فرقها بسيط, يعني تعوضه من توفير المواصلات). والبهي عثمان كان يهزّ رأسه مقتنعًا بشيء من الحرج, إلاّ أنه, بينه وبين نفسه, كان مؤمنًا بعدم موافقته على قبول هذا الوضع أبدًا. كان يبدأ يومه بحلاقة ذقنه أمام المرآة وهو يتطلع إلى وجهه الطفولي المشرب بالحمرة, وعينيه الجميلتين, ويسوى شاربه القصير الذي شابه البياض, ويرتدي بذلته البنية ورباط عنقه اللامع, ويحمل ملفًا فيه صور عدة من شكواه الأولى ويتجه إلى المصلحة. أما الآن, فقد جعلته النتائج السلبية يفقد نضارته تمامًا, كان يبدأ يومه بارتداء ثيابه على عجل, يتناول الملف الذي تضخم وذبلت أوراقه, دون حلاقة, ويندفع دون تمهل.
كان يعود آخر النهار مهدودًا, من حيث لا يعلم أحد.
لم تعد نرجس تراه نائمًا, في الليل, أو في النهار.
مع الوقت, تخلّى تمامًا عن عاداته السابقة; فهو يرتدي أي بنطلون أو قميص يخصّه أو يخص أحدًا من الأولاد ما دام قريبًا من يده, الأمر الذي جعل كل واحد منهم حريصًا على ثيابه. كما أنه صار يسخر علانية من حرص نرجس على مشاعر الناس ولم يعد يهتم إطلاقًا بما يقوله فلان أو فلانة, وتوقف تمامًا عن الذهاب إلى الجامع.
البهي عثمان, رفع قدمه اليمنى, بقدر ما يستطيع.
صعد إلى عربة نصف النقل, وجلس بجوار نرجس في أول الدكة الخشبية, داخل صندوق السيارة المصنوع من مشمع, مبقع, ومقطوع.
كان يرتدي بدلة بنية قديمة وكرافتة لامعة.
يده اليمنى تتشبث جيدًا بالقائم الحديدي المبروم, ويده اليسرى تمسك المسبحة, وأجرة الركوب.
وبينما كانت نرجس ترتدي ثوبها الثقيل الداكن, وطرحتها الحريرية السوداء, وتميل برأسها لكي تتفرج على الطريق, كان هو يميل بركبته من سكة الركاب الذين يصعدون.
تحركت العربة وقد امتلأت, ووقف الرجال على المصدّ الخلفي وهم يمسكون بعارضة السقف المغطى. راحت تتقدم ببطء وهي تتأرجح بحمولتها, وتتوقف مرارًا بسبب العربات, وأكوام الزبالة والناس. وعندما عبرت المزلقان, انخفض المصدّ واحتكّ بقوة بحديد القضبان.
قال البهي وقد آلمته الخبطة في مؤخرته الجافة:
(العربية بقت على الزُّنط).
وضحك الرجل المعلق على يمينه, والتفت إلى جاره.
البهي عثمان لاحظه فورًا, ورفع مقدمة رأسه الخالية من الشعر, وابتسم متسائلاً بعينيه المجهدتين.
قال الرجل موضحًا:
(اسمه الجنط, مش الزُّنط).
استغرب البهي عثمان, وانشغل باله طول الطريق.
وعندما نزلا, وعبرا الشارع, فتحت نرجس فمها الخالي من الأسنان:
(هو أنت كنت بتقول إيه, لما الناس ضحكت عليك في العربية?)
توقف على الرصيف وسألها غاضبًا:
(مش كان فيه حاجة زمان, اسمها الزُّنط?)
(الله. هو إيه اللي كان فيه حاجة زمان, اسمها الزنط?)
(إمال أنا جبت الكلمة دي منين?)
(جرى إيه يا أبو عبده? مش هو ده الطرطور الصوف, اللي كانت المصلحة بتسلمه لك مع البالطو الشتوي, قبل ما تطلع على المعاش?)
أبو عبده تأملها قليلاً, وواصل مشيه صامتًا.
وهي أضافت:
(ده إحنا لسه عندنا واحد منهم).
(في الشقة?)
(والنبي شايفاه وأنا بارّوق الدولاب).
وتوقفت في قطر الندى, أمام البيت الذي يطل على فضل الله عثمان:
(وأنا لابسَة بالمرّة, أطلّ على خالتك هانم, وأجيب لك المنشار اللي أنت عاوزه من عبد الرحيم).
قال:
(عبد الفتاح مين?)
(جرى إيه يا راجل? باقول لك عبد الرحيم, أخويا).
ودفعت الباب الخشبي المردود, ونزلت العتبة, وتقدمت في الطرقة الطويلة:
(يا جماعة يا للي هنا). صاحت دلال من الداخل: (ادخلي يا عمتي).
وقال شقيقها وهو يُغادر الحجرة الكبيرة:
(تعالي يا ام عبد الله).
(أمك عاملة إيه يا عبد الرحيم?)
(أهي زي القردة).
(أحسن من امبارح?) (بكتير).
ورافقها إلى الحجرة الصغيرة في نهاية الحوش المسقوف. وتبعهما الولد عبد الله الصغير, وبقية الأولاد. كانت نائمة في العتمة, غير واضحة في ركن السرير. قال الولد:
(قومي يا هانم. بنتك جت).
قال عبد الرحيم وهو يلكز الولد: (نرجس يامّه).
(تعالي يا ختي).
(خليكي نايمه. أنا قاعدة مع العيال برّه).
نرجس قعدت في الحجرة الكبيرة. ودلال عملت الشاي. شربوه وتكلّموا. ولما قامت, عبد الرحيم رافقها وهو يحمل المنشار.
فتحت الباب ودخلت. كان الجو حارًا.
الشقة كلها مضاءة, والشبابيك مقفلة, والبهي عثمان قاعد على كنبة الصالة أمام التليفزيون المفتوح, بالفانلة واللباس.
الطرطور الصوفي الطويل يغطي رأسه حتى الحاجبين. وحافته العريضة مدلاة حول رقبته, بعراويها الصغيرة التي تثبت في ياقة المعطف أثناء مطر الشتاء.
ضربت نرجس بيدها على صدرها وهي تجلس على حافة الكنبة الأخرى.
وأمسكت بذقنها وقالت:
(بسم الله الرحمن الرحيم).
وقال عبد الرحيم وهو واقف بالمنشار في فتحة الباب: (إنت لابس إيه في دماغك? ده الجوّ ولعه).
كان صامتًا. في عينيه انفراجة.
رأسه المختفي داخل الطرطور مائل قليلاً إلى ناحية.
يمناه في حجره, والأخرى ممتدة على ركبته المثنية العالية.
والمسبحة القديمة مدلاة.
من أصابع اليد الملمومة.
في شمس النهار.
على جانب من الدرب المترب الصاعد.
بين مدافن سيدي عمر.
جلست نرجس على الأرض باكية وحولها بناتها. ونساء فضل الله عثمان النائحات في جلابيبهن المعفرة السوداء.
وعندما مرّ بها البهي عثمان, محمولاً في صندوقه الخشبي المغطى بالقماش الباهت المنقوش, على بعد خطوات قليلة منها, رفعت وجهها بالعيون التي جف فيها الدمع.
صاحت تعاتبه:
(كده برضه تعملها يابو عبد الله?).
الدنيا صيف, والبلح الأحمر طلع.
ونرجس كانت وحدها لأن البهي عثمان كان في المصلحة, والولد عبد الله في المدرسة, والعيال فوق السطوح.
كانت تسرّح شعرها الطويل المفروق, وجهها الخمري محمرّ ودافئ, وتضيق عينيها كلما تعثرت الفلاية الخشبيّة في خصلاته الكثيفة الدكناء.
عبد الرحيم فاجأها وسلم عليها. سحب القفتين داخل الحجرة وقعد على الكنبة حتى نشف عرقه وارتاح. وهي لمت شعرها على ظهرها وبدأت تسأله عن البلد. ولكن عبد الرحيم خرج إلى فضل الله عثمان ومنه إلى قطر الندى, ومشى بجلبابه البلدي وحذائه الجديد حتى طلع إلى طريق النيل ووقف بقامته الكبيرة على حافة الشاطئ.
راح يتفرج على البنات وهن يغسلن الأواني أسفل الدرج الحجري. وراقب الأولاد الذين يصطادون السمك بالسنانير, ولاحظ أن كل ولد منهم يمسك غابة رفيعة أقل من متر أو أطول قليلاً, وأن السمك الذي يخرج من الماء كان صغيرًا وهو يرتجف تحت الشمس, ويضيء.
عبد الرحيم تقدم ونزل الدرج الحجري المبتل وسأل أقرب الأولاد:
(أنتم بتصطادوا بإيه يا شاطر?)
قال الولد:
(بنصطاد بسنّارة).
(أنا باسأل عن الطُّعم).
فتح الولد يده عن كرة صغيرة لدنة: (دي?)
(آه).
(دي عجينة). (قمح ولا درة?)
(باقول لك عجينة. بس زفرة).
وجذب السنارة بشدة, ولكنها خرجت خالية من الماء.
حينئذ رفع عبد الرحيم وجهه, وتطلع بعينيه الواسعتين إلى سطح النهر الذي غضنه الهواء الخفيف. وبعد أن أخذ كفايته من الفرجة على الأولاد, والبنايات النظيفة الهادئة في الجانب الآخر, صعد الدرجات المبتلة وهو يلم ذيل الجلباب, وعبر الطريق إلى ناصية حارة (حوّا) وتمهل أمام ربيع بائع شباك الصيد والسنانير, ورأى حزمة الغاب الرفيعة المركونة عند مدخل الدكان, ورجع إلى فضل الله عثمان.
كان البهي عثمان قد عاد من البوستة. قلع بدلة المصلحة والطربوش ولبس الجلباب. ونرجس ضفرت شعرها وربطت المنديل. والولد عبد الله رجع من المدرسة, سبق خاله ووقف مع أخيه سلامة وأخته الصغيرة إحسان, وفي يد كل منهم قرصة صغيرة يقضمها. يتابعون أمهم التي رفعت ملاءة السرير ذي الأعمدة الطويلة السوداء حيث وضعت بلاص المش الصغير, وقدر السمن البلدي, وعلبة العسل الأبيض, وراحت تلتقط أعواد البرسيم عن قطع الجبن القريش التي امتلأت بها المصفاة النحاسية, وطلبت من البهي أن يضع لها القفة الخالية على ظهر الدولاب, وسحبت القفة الأخرى. تناولت منها عددًا من الفطائر البلدية الثقيلة التي ترشح بالسمن البلدي ووضعتها في غطاء الحلة النحاسية الكبيرة, وركنت القفة بما تبقى فيها من أرغفة العيش المرحرح والقرص الوردية الصغيرة المعجونة بالحليب الخالص, والتي جعلت البهي عثمان يشم رائحة البلد وهو واقف على الكنبة بقامته القصيرة النظيفة, يعدل القفة الخالية على ظهر الدولاب. وعندما دخل عبد الرحيم نزل واحتضنه:
(سلامات يا عبد الرحيم).
(إزيك انت يا سي البهي?)
(بخير, كنت فين?)
(طلعت على البحر وجيت).
(الحمد لله على السلامة).
(الله يسلّمك. إزيّك يا واد يا عبد الله?)
وقال عبد الله دون أن يلتفت:
(كويس).
كانت نرجس قد أطفأت الوابور, ووضعت الصينية النحاس على الطبلية, ومدت طبق الأرز الكبير وسلطانية الشربة القيشاني, وزوجًا من الفراخ المحمّرة التي أرسلتها أمها هانم من البلد:
ورجعت تقول: (أمك عامله إيه يا عبد الرحيم?)
(بتسلم عليكي).
(وستك عزيزة?)
(زي القردة).
(وخالك عبد العزيز?)
(حلو).
وقال البهي عثمان وهو يمضغ: (لسه الميه بتحرقه).
(آهي ساعات تحرقه وساعات يروق).
(لما نيجي مسافرين ناخد له علبة فوار. الفوار هنا حلو قوي).
(فوار إيه?)
(مخصوص للحرقان). (وماله).
هكذا قال عبد الرحيم وهو مشغول بتلك الغابة الطويلة التي رآها في حوش البيت وفي آخرها مقشة من اللوف الأحمر. وقال (هي الغابة اللي في الحوش دي بتاعة مين?)
قالت نرجس: (بتاعتنا).
(وسايبينها في الحوش ليه?)
(أصلها طويلة على الأوضة (كلمة من أصل تركي تعني الغرفة). بتسأل ليه يا عبد الرحيم?)
(عاوز أعملها سنارة).
(سنارة إيه يا وله? أنت جاي مصر تصطاد ولا جاي تشتغل?)
وقال الولد عبد الله: (هو إيه اللي سنارة? دي تروح لنص البحر).
وتساءل البهي: (جبت جواب التعيين ولا نسيته?) (معايا).
وقعد يأكل وهو ساكت. ثم انشغل فترة المساء بإعداد الغابة الطويلة بينما نصفها خارج الحجرة بسبب طولها الذي جاوز الأمتار الخمسة بقليل.
اشترى أكبر هلب وجده عند ربيع بائع السنانير, وثقّالة من الرصاص, وخيطًا متينًا ربطه بطرف الغابة بعد أن خلع اللوفة الحمراء سليمة كما اشترطت نرجس عليه, حتى يمكنها أن تستخدمها وقت اللزوم. عبدالرحيم فعل ذلك بينما البهي عثمان جالس على الكنبة يدخن السيجارة اللف, يراقبه وهو نعسان, بوجهه الأبيض المشرب بالحمرة, وشعره الأجعد الداكن, وعينيه اللوزتين.
وقام الولد عبد الله وأتى بسنارته الصغيرة من جنب الدولاب:
(اصطاد بدي أحسن يا خال).

وتأمل عبد الرحيم الغابة الرفيعة وقال:
(ما هي قدامك أهه. سنارة).
(بتاعة العجين?)
(ودود كمان).
(ما تنفعش).
وعلق البهي عثمان: (دي حاجة ودي حاجة).
وقال الولد: (هو حر. بس لما العيال تضحك عليه, ماليش دعوه).
قال عبد الرحيم: (اسكت يا واد يا ابن نرجس. اسكت).
وتثاءب البهي ساخرًا: (يسكت إزاي? ما يصحش).
ضبطت نرجس براد الشاي على الوابور المشتعل:
(ما هو صحيح يا عبد الرحيم. الناس كلها بتصطاد بسنانير صغيرة).
توقف عبد الرحيم عن تركيب قطعة الرصاص, وقال:
(جرى إيه يا نرجس? هو قنايه? ده بحر (يطلق عدد كبير من المصريين على النيل اسم البحر).
وعقد قطعة الفلين المدورة.
لفّ الخيط على الغابة الطويلة, وركنها خارج الحجرة. ونام.
عندما قاموا في الصباح, أعادوا المرتبة التي نام عليها عبد الرحيم والأولاد إلى مكانها مع المرتبة الأخرى على السرير العالي, وتناولوا إفطارهم من الفطير والجبن والعسل الأبيض وشربوا الشاي.
قسمت نرجس واحدة من الفطائر البلدية شرائح متساوية, مع كل شطيرة أضافت قطعة من الجبن القريش وبعض القرص, ووضعت الطرحة على رأسها, ودارت بحمولتها على جيرانها من السكان.
عندما عادت, خرج البهي عثمان من المرحاض وهو يخبط بالقبقاب, وقد توضأ وأعدّ نفسه لصلاة الجمعة, بينما غادر عبد الرحيم البيت وهو يحمل على كتفه أطول سنارة شهدها فضل الله عثمان حتى ذلك الوقت, والولد عبد الله يتبعه بالصندل والجلباب.
نزل عبد الرحيم درجات السلم الحجري المبلول, وتقدم يسارًا على الحافة وهو يفحص المكان تحت قدميه, وركن الغابة ولمّ الجلباب على وسطه, وانتزع من طمي الشاطئ, بكلتا يديه, حجرًا كبيرًا ألقى به, وراح يلتقط دود الصيد الطويل الأحمر الذي راح يفر وهو يلاحقه, ثم أعد كرة من هذا الطمي حول الدود الذي جمعه لكي يظل حيًّا. واستبقى واحدة في راحة يده, يصفق عليها بيمناه, ولما همدت قطع منها طرفًا طعّم به هلب السنارة, وترك البلغة للولد عبد الله الذي استلقى على الشاطئ, خوض في ماء النهر الذي بلل سرواله المدلّى, وطوّح الخيط بكل قوته, وراح يتابع الغمازة.
وما إن امتدت الغابة الطويلة غير المستوية وتقدمت على كل شيء سواها حتى أثارت انتباه الأولاد, وساد الشاطئ جو من الترقب والقلق.
وانتهت الخطبة الطويلة, كما انتهت صلاة الجمعة بالمصلى الذي يعلو الشاطئ, وعبد الرحيم واقف يتابع الغمازة بعينين يقظتين, حتى بدأت تغطس وتطفو على سطح الماء.
تحفز وهو يقبض على الغابة جيدًا في انتظار التوقيت المناسب, وفجأة جذبها بكل قوته. وانسحب الخيط سريعًا وهو يثير رذاذًا ويدور في الهواء ثم يقترب, وفي نهايته الصيد الأدكن الذي ما إن واجه عبد الرحيم حتى خمشه بقسوة في أنفه وهو يرفرف ويطير محلقًا بطرف الخيط, لأنه كان عصفورة علقت في هلب السنارة أثناء طيرانها في الجو. وصدم عبد الرحيم لأنه لم يفهم وظن الشيء خارجًا من الماء. كما بوغت الحاضرون حين رأوه يصعد الشاطئ متعثّرًا وبعيدًا عن السلم يقع ويقوم, ولكنه رغم ذلك يظل قابضًا على الغابة الطويلة رافعًا إيّاها, واندفع الأولاد وراءه والعصفورة المشبوكة تأخذ طرف الخيط وتحلق به أعلى من الجميع, حتى صارت زفة كبيرة اتجهت ناحية الكوبري الكبير.
عاد عبد الله إلى فضل الله عثمان وألقى بلغة خاله وراء الباب. وقالت نرجس:
(إيه دي يا عبد الله?) (البلغة بتاعة خالي عبد الرحيم).
(إمال هو فين يا وله?)
(ما أعرفش).
(يا مصيبتي. يبقى غرق في البحر).
(ما غرقش ولا حاجة).
(أمال جايب بلغته ليه يا عبد الله?)
(هو اللي سابها وجري).
وقام البهي عثمان واقفًا: (جري?)
(والناس كلها بتجري وراه).
وصرخت نرجس: (ليه? عمل إيه يا عبد الله? اتكلم).
(أصل السنارة بتاعته اصطادت عصفورة).
وقال البهي عثمان وقد اصفرّ لونه: (يا نهار اسود. عصفورة?)
(آه. من البحر).
(إزاي الكلام ده?)
(بس عصفورة لونها أزرق).
(وهو فين دلوقت?)
(جري ناحية القِسم)
وظهر التردد واضحًا على وجه البهي عثمان: (القِسم?) وحدق إلى الولد بعينين غاضبتين: (آه يا ابن الكلب يا وسخ).
وقال عبد الله وهو يوشك على الهرب... (الله. وأنا مالي?)
أسرع البهي إلى فضل الله عثمان وهو يمسك ذيل الجلباب, بينما خطفت نرجس الملاءة ووضعت البرقع على وجهها واندفعت.
عندما عثروا عليه بعد رحلة صيده الأولى تلك, كان منهكًا في جلبابه المبلول, وقدميه الحافيتين. كان وجهه مجروحًا وشعره منكوشًا بعد أن أضاع طاقيته الجديدة حتى أنكرته نرجس, واقتربت منه لتعرفه.
عادوا به إلى فضل الله عثمان, وأغلقوا الباب على أنفسهم.
اغتسل عبد الرحيم ونام مغمض العينين. لم يهدأ إلاّ بعد أن أعدت له نرجس كوبًا من الشاي ودعكت جبهته بنصف ليمونة خضراء.
حينئذ فقط فتح عينيه وأدارهما فيمن حوله. ثم انخرط في البكاء.
عندما أفاق, بعد أن أزالوا الحصاة من كليته اليمنى, رآها أمامه بالبالطو الأبيض المحبوك, وغطاء الرأس المشبوك في شعرها الأشقر.
ابتسمت له بعينيها الملونتين, وانصرفت.
في المرة الثانية مدّت يدها وعرّتْه.
غيرت الضمادة, ونظفت بطنه المكشوف (...).
مع كل غيار جديد كان جسده كله يتوقع تلك اللمسة التي لا ينساها. وعندما لاحظ أنها لم تَعُدْ إلى فعلها مرة أخرى, أدرك أنها تشعر بالحرج لأنه يتابعها بعينيه. لذلك فكر أن يعفيها من هذا الحرج. وكانت وسيلته أن يجعلها تظن أثناء الغيار أنه غير منتبه, بل مشغول بأشياء أخرى. لذلك يتجه بنظره ناحية النافذة البعيدة, أو يغمض عينيه تمامًا. ولكنها كانت تنتهي من عملها, وتسحب طرف الجلباب على ساقيه المشعرتين.
إلاّ أنها, قبل أن تنصرف, كانت تتمهل عند وجهه القمحي وعينيه البنيتين, ونظرة الامتنان الوديعة التي يستقبلها بها. لقد أدركت أنه ابن أسرة طيّبة, مقتدرة. شقيقته نرجس فتية وجميلة, تزوره كل يوم وهي لابسة الغوايش الذهب والحلق والكردان, محملة بأكياس الفاكهة التي توزع منها على المرضى والحكيمات. كما كان للبهي أفندي, زوجها, هيبته وهو يدخل في بدلته الصوفية وربطة عنقه البنية بنقوشها الداكنة وطربوشه الأحمر, حيث يجلس صامتًا على حافة السرير بشعره الأجعد اللامع, يلف السيجارة من علبته المعدنية المنقوشة, ويتطلع إليها بوجهه المشرب بالحمرة وعينيه الفاتنتين. كان اسمها أفكار. وكانت تعرف, مثل غيرها من العاملين, أن عبد الرحيم أودع أمانات المستشفى مبلغًا كبيرًا من المال, قال إنه إيجار أرضه الموجودة بالبلد (والحقيقة أنه كان نصيبه من ثمن قطعة أرض باعوها لأنها خارج الزمام) كما تعرف أنه موظف حكومي. تصوب له النظرة من عينيها الجريئتين فيرجع عينيه على الفور. وعندما تحضر نرجس لزيارته وتسأله عن الجرح يطمئنها ويشكر لها في الست الدكتورة.
مرّة قالت نرجس: (أنهي دكتورة يا عبد الرحيم?)
(اللي بتغير لي).
(البيضة الحلوة دي?)
(أيوه. طيبة وإيدها خفيفة قوي).
(دي الممرضة يا وله).
ضحك وقال: (لأ يا شيخة).
(الله, مش أفكار?)
(أيوه).
(والنبي الممرضة بتاعة العنبر).
نرجس لم تضيع وقتًا. كانت تريد أن تبعده عن بسيمة الموضة بأي ثمن. تحدثت مع أفكار وعرفت عنوان البيت الذي كان على مقربة من سيدي حسن أبو طرطور. ولم يمر على خروج عبد الرحيم من المستشفى عدة أسابيع إلاّ وكان قد خطبها.
في البداية, عندما أخبرته نرجس بموافقة أفكار على الخطبة, لم يقتنع لولا اللمسة القديمة التي لا ينساها ويتذكرها في كل وقت (...), ولا يمنعه من الاستمرار إلاّ جرح بطنه. هذه اللمسة التي كانت سرًا بينهما هي التي جعلته لا يستبعد الموافقة. ومع الوقت تقبل حقيقة أن بشرتها وردية. وعينيها لونهما أخضر وأصفر وشعرها أشقر. لكن مسألة أن صدرها نحيل ومع ذلك عندها كل هذه المؤخرة الكبيرة والساقان الممتلئتان هي التي جعلته يلزم مكانه, مع إحساس مبهم بالأسى, واليأس.
مع ذلك, تمت الخطبة وكتب الكتاب في يوم واحد. واتفقوا أن يكون الزفاف في مثل هذه الأيام من العام القادم. ذهب عبد الرحيم مع البهي عثمان إلى شركة بيع المصنوعات المصرية واشترى بدلة صوفية لونها زيتي وبها خطوط رفيعة بيضاء, وقميصًا أبيض وكرافتة. راح يراقب البهي عثمان وهو قاعد على الكنبة يعقدها حول ركبته المثنية, ثم انحنى أمامه بياقة قميصه المرفوعة وارتداها. وجاءت أمه هانم من البلد بقامتها الممشوقة ووجهها المشرق في طرحتها الكريب جورجيت السوداء, وجلست بكبريائها المعروف تداري إعجابها بجمال أفكار التي ألبسوها شبكة عبارة عن سوار على شكل ثعبان ثقيل وحلق ودبلة. وفي الركن, إلى جوار البهي عثمان, جلس عبد الرحمن, عمدة البلدة وابن عم عبدالرحيم, الذي جاء بعربته المرسيدس البيضاء, ومعهم الخال الكبير عبد العزيز أبو شنب بوجهه الغاضب وعينه شبه الحولاء, والذي أصرّ بعد كتب الكتاب على عدم البيات والعودة إلى البلد, بأية طريقة كانت.
أفكار لاحظت أن عبد الرحيم يخشاها ولذلك شجعته. كأن تمسك يده لكي تشرح له شيئًا, أو تلمسه أثناء مرورها بمؤخرتها التي كان لها موضع خاص بالنسبة إلى أفكاره, والحقيقة أنه حاول أكثر من مرة أن يتجرأ عليها ويلمسها لكن قواه خذلته تمامًا. كان مجهدًا من لون شعرها وعينيها وبشرتها وصوتها الحريمي الآمر. وعندما وقفت تتحدث معه بالجلباب البيتي المكشوف وتفرجه على قمصان النوم الخفيفة التي أرسلها لها خالها من الخارج, ظل يتفرج ويسمعها وهو حزين فعلاً. ولاحظ أنها انتهت من إغلاق الحقيبة القديمة وانحنت أمامه. وضعتها تحت الدولاب واعتدلت. تركت خدها قريبًا من فمه وأسبلت عينيها. استغرقت في تأمل ملاءة السرير بطريقة غامضة. حينئذ تذكر لمسة إصبعها (...) وهو في المستشفى وفكر أن يقبّلها ولكنها ابتعدت بوجهها قليلاً وأُحرج هو من مدّ شفتيه لكي يطولها, ووجد من الأسهل عليه أن يمد يده المدلاة بينهما ويمسك الجلباب من تحت إلى تحت ويعرّيها. وأفكار احمرّت وخلصت جلبابها منه بالعافية وتركت الحجرة غاضبة. وهو طلب إجازة عارضة ولم يذهب ثاني يوم إلى العمل.
باتت أفكار حريصة, منذ ذلك اليوم, على ألاّ تنفرد به في أي مكان, أو تعطيه ظهرها في أية حال من الأحوال.
انتهى الربيع واستأجرت له نرجس الدار التي تطل على فضل الله عثمان من أوله. وعبد الرحيم توقف تمامًا عن ارتداء بدلته الصوفية التي اشتراها من أجل الفرح. ولمّ القميص الأبيض بياقته المنشاة وركنهما في الدولاب.
عندما يعود من العمل يقلع بدلة المصلحة الصيفية ويرتدي الصديري البلدي بجيوبه الكبيرة التي تسع محفظته وأوراقه تحت أي من جلابيبه التي قام بتفصيلها الغمريني, خياط البلد الذي لا يضاهيه أحد في مصر كلها. أفكار كانت تعجب بقماش هذه الهدوم عندما يزورهم في البيت وتراها على قده. وعندما ذهب إليهم ليلاً لكي يأخذها مع شقيقتها الصغرى إلى السينما الصيفية بعد أن فتحت بثلاثة أفلام, وجدها لابسة فستانًا كحليًا وحزامًا رفيعًا أبيض, وشعرها الأصفر ذيل حصان ونائم على ثديها الأيسر, ونظرت إليه:
(الله. هو انت مش رايح?)
(رايح فين?)
(رايح فين? السينما).
(إزاي بقى. التذاكر أهه).
ومد يده إلى جيبه العلوي وأخرجها.
(إمال مالبستش ليه?).
عبد الرحيم نظر إلى جلبابه النظيف المكوى, وحذائه المربوط, وضحك: (ألبس إيه, هو انا قالع?)
(يا بني آدم تلبس بدلة, قميص وبنطلون, أي حاجة تانية).
(بدلة إيه بس, هو انا مسافر?)
وتوقفت أم أفكار التي كانت تذهب وتجيء عبر الصالة: (جرى إيه يا أفكار?)
(هو إيه اللي جرى إيه يا ماما?)
وقامت واقفة فانحدر ذيل الحصان عن ثديها الأيسر واختفى وراءها.
(مش ممكن امشي معاه بالشكل ده).
(يا بنتي دول خطوتين).
وقالت البنت الصغيرة: (يعني مش ح نروح السيما يا أبله).
أفكار جلست. (ما ينفعش). وفكرت وقالت:
(هات التذاكر دي).
تناولتها.
قالت البنت الصغيرة: (النبي خليه ييجي معانا يا أبله).
تأملت التذاكر وابتسمت: (وقاطعهم صالة كمان?), ومدت يدها بواحدة:
(اتفضل روح البس وحصّلنا. أنا رايحة علشان البنت بس).
وقالت أمها: (والنبي ما عندك حق يا أفكار).
(يا ماما السينما عرض مستمر. يعني مش حايفوته حاجة. وكمان فيه حاجات لازم يبقى عارفها من دلوقت. أنا لا يمكن أخرج معاه وهو لابس جلابية أبدًا, وبعدين هو مش زعلان).
والتفتت: (أنت زعلان يا عبد الرحيم من كلامي?)
(أبدًا والله).
(طيب روح غير هدومك وحصّلنا).
وعندما اقترب من الباب لحقته البنت الصغيرة وقالت: (البس وتعالى قوام, علشان تتفرج معانا).
وعبد الرحيم انصرف وهو محرج جدًا من البنت. وقالت الأم لابنتها التي كانت تشد ثوبها أمام المرآة:
(والنبي يا أفكار ما عندك حق).
وزعقت: (إنت عاوزه تفضحيني?)
(يا بت ده لسه خام. أنت علّميه).
وعبد الرحيم لم يغير هدومه ولم يذهب إلى السينما. قضى السهرة مع أخته وزوجها والأولاد. لم يكن يتكلم عليها كلامًا سيئًا أمام نرجس حتى لا تكرهها. في النهار يحوم حول المستشفى من بعيد, وفي الليل يريد الذهاب لرؤيتها مثل العادة, ثم يتذكر أختها الصغيرة وحرجه منها ولا تطاوعه نفسه. ويقول: (بدلة إيه) هو أنا البهي جوز أختي? أما دي مصيبة والله).
ونرجس لاحظت أن هناك شيئًا لا تعرفه وقالت له: (يا عبد الرحيم ما تقطعش رجلك من عندهم. دي مراتك).
بحث عن قميص الفرح حتى وجده تحت الهدوم, لبسه ولبس البدلة وذهب إليها في المستشفى أثناء ورديّتها. أفكار استقبلته أمام زميلاتها استقبالاً طيبًا. لم تسأله لماذا لم يأت إلى السينما وإن كانت عيناها توقفتا عند ياقة القميص المدعوكة وهمست:
(ابقى اكوي القميص).
قالت ذلك بابتسامة كبيرة من عينيها الملوّنتين.
وعاود الذهاب إلى منزلها بالجلباب. وهي قالت: (عادي, ما دام مفيش خروج).
وكانت حماته تنتهز الفرصة لتحضَّه: (يا خويا أنت عارف البنات, بتحب تتباهى بعرسانها).
أو تطيب خاطره: (ما تزعلش من أفكار, دي تقدم لها دكتور ورفضته).
وتقول: (بكره تعقل لما تدخل دنيا. أصلها لسه صغيرة).
ثاني زيارة إلى المستشفى كان بالبدلة الحكومية الصفراء عندما غادر العمل وذهب مع نرجس وبرفقتهما الولد عبد الله الذي قفز من أعلى جبلاية جنينة الأسماك وتعلق من تحت ذقنه بالسلك الشائك العالي وظل يتأرجح به في الهواء حتى انقطع, مخلفًا له جرحًا عميقًا داميًا.
رحبت أفكار بنرجس وقامت باللازم وهي صامتة تمامًا. وفي أول فرصة التفتت إلى عبد الرحيم وهو واقف في بدلة المصلحة بأزرارها النحاسية اللامعة:
(إيه الهدوم دي?) (أصْلي جيت من المكتب على هنا على طول).
لم يَرَها عبد الرحيم ثانية إلاّ بعد أن أخذته نرجس وتوجّهت إلى هناك, في مناسبة عودة خالها من غربته في خارج البلاد.
كانت ترى أن ما يحدث نوع من دلع البنات. أما البهي عثمان فقد كان عنده رأي مختلف, لأن مسألة العناية بمظهره الخارجي أصبحت خصلة طبيعية فيه بعدما أدرك أهميتها, وهي العناية التي كانت محل تأثير في كل من رآه من أهل البلد, بحيث إن أي واحد منهم كان يعجز فعلاً, عن التفرقة بين طريقته في اللبس وطريقة أي موظف آخر من أبناء مصر. صحيح أنه لا يرتدي بدلته البنية إلاّ في المناسبات, ولكنه لا يتركها هكذا إلاّ بعد أن يكون قد نظفها بالفرشاة الخشنة ووضعها على الشماعة وألبسها نصف جلباب قديم, أما بدلة المصلحة الصيفية أو الشتوية فإنه لا يرتديها إلاّ بعد أن يكون قد سخن المكواة على الوابور المشتعل وبخَّها بالماء وكواها, ولا يرتديها إلاّ على قميص وكرافتة وبعد أن يلمع أزرارها. وقبل النوم ضروري أن يعد علبة الورنيش والفرشاة الناعمة, وينظف الحذاء, ويركنه.
كان هذا هو أسلوبه الذي لم يغيّره, وهو الأمر الذي جعله يدرك, منذ البداية أن أفكار لا ينفعها إلاّ واحد يعرف كيف يهتم بمظهره. لذلك, عندما خرجت نرجس مع عبد الرحيم في طريقهما لإعادة العلاقات, بحجة السلام على الخال العائد من السفر, انتظر البهي عثمان حتى ابتعدا, وقال بصوت مسموع:
(هئ. ابقى تعالى شخ على قبري).
جلست نرجس وعبد الرحيم والتمت العائلة كلها.
وقالت البنت الصغيرة: (أنت مش بتيجي ليه يا عمو?)
عبد الرحيم ربت على ظهرها وهو ساكت. ودخل الأوسطى عباس بعد أن انتهى من صلاة العشاء في الحجرة الداخلية, وقالت أم أفكار:
(الحاج عباس, أخويا وخال العروسة).
قالت نرجس: (يا ألف مرحب).
وأضافت أم أفكار: (أم عبد الله, أخت سي عبد الرحيم, العريس).
وجلس الأوسطى على الكنبة وربّع قدميه, ومال ناحيتهما بجلبابه الأبيض وعلبة السجاير المارلبورو واضحة في جيبه العلوي, وابتسم:
(يا هلا بيكم).
كان الكلام قليلاً أثناء شرب الشاي, وعندما انتهوا منه صمتوا تمامًا, وأم أفكار غابت وعادت بتفاحة قسمتها بالسكين وأعطت نصفها لنرجس ونصفها لعبد الرحيم وهي تقول:
(على لساني ولا تنساني, آخر واحدة والنبي).
أكل عبد الرحيم نصيبه, وبعد أن حمد ربنا انتبه لصوت نرجس وهي تمسح أسنانها القوية البيضاء وتقول:
(دي طعمها جاز يا أولاد).
ومدّت يدها إلى أم العروس التي تناولت التفاحة وقربتها من أنفها:
(آه والنبي, ريحتها جاز بصحيح, يمكن من السكينة).
وقال خال العروس: (إمال انت يا سي عبده, أكلتها إزاي?)
وعبد الرحيم ابتسم وقال: (أنا افتكرت إن التفاح طعمه كده).
وضحكوا جميعًا.
وأفكار قالت له وهو يخرج وراء أخته: (يعني لازم تعرفهم إنك كمان, عمرك ما أكلت تفاح?)
وعبد الرحيم قال: (أنا باهزّر).
في اليوم التالي دخل على نرجس والبهي عثمان.
قعد على الكنبة وقال: (مش انا طلقت أفكار).
(يا مصيبتي).
(آه والنبي).
وابتسم.
في الحوش الواسع لمصلحة البوستة العمومية, كان دوس باشا يقف صباحًا بقامته القصيرة الممتلئة, يده اليسرى في جيب سترته (البليزر) الزرقاء, واليمنى مرتفعة بالسيجار الغليظ, بينما وقف على مقربة منه جنرال إنكليزي مع عدد آخر من الضباط في ثيابهم العسكرية, وارتفعت في أركان هذا الحوش الواسع تلال من الأكياس والطرود المختومة والرسائل الواردة باسم الحلفاء.
كان الجمع شاخصًا إلى مصعد البضائع الحديدي الكبير, المعطل بين الدور الأرضي والأول, في انتظار رجال الإطفاء الذين يعتلونه بخوذاتهم النحاسية اللامعة ويعملون على تشغيله.
كان الجنرال يقف بالشورت الطويل والقلشين ويداه معقودتان وراء ظهره, بينما كان دوس باشا, مدير (البوستة) العمومية, ينفث دخان سيجاره البني الغليظ, بقدر واضح من الخمول والتأفف, حين تحرك المصعد فجأة إلى أعلى, ثم توقف, وبدأ يهبط.
كان مصعد البضائع هذا من طبقتين. وله باب واحد جرّار. عندما جذبه السعاة ظهرت في الطبقة الأولى منه ورقة مفتوحة عليها بقايا طعام, وبطانية مكومة.
(...)
ظل الجنرال صامتًا دون أن يدلي بأي تصريح, أما دوس باشا فقد تطلع إلى ساقي الخفير النائم والمرأة الجالسة وهو يلامس طرف المنديل القرمزي في جيب السترة العلوي, ثم قطع السكون بأن همس لأحد معاونيه الذي شخط في المرأة التي قامت نصف قومة, وراحت تبحث بين ساقي عبد الرحيم العاريتين حتى عثرت على الحذاء والحقيبة, ودلت ساقيها وقفزت (...).
أرادت المرأة أن تنصرف ولكن أحد الضباط مد يده وانتزع (الكاب) مع شعرها المنكوش, الأمر الذي دفعها إلى الصراخ (...).
وتقدم الضابط من الجنرال وأدّى التحية العسكرية, مادًّا يده بالكاب المطوي.
لم يعلق الجنرال بشيء أو يتناول الكاب, ولكنه رمق دوس باشا بجانب عينه وغادر المكان الذي لم يلبث أن خلا من العسكريين الذين أقلتهم ثلاث من عربات الجيب المكشوفة, كانت واقفة عند المطافئ.
أشار الباشا إلى المرأة بأن تنصرف. فراحت تجري وهي تحمل الحذاء في يد والحقيبة في اليد الأخرى, واختفت في شارع صندوق الدين المجاور.
بدأت محاولات عدة, أمكن بعدها إقلاق عبد الرحيم فانقلب على ظهره وتمطّى, واستراح على جنبه القريب وهو يريد أن يطوي ذراعه تحت رأسه, ثم انتبه قليلاً, ورفع نصفه الأعلى معتمدًا على يده. ظل يتأمل فيهم بعينيه المحمرتين وبدا كأنه أدرك حقيقة الموقف. وبذل جهدًا كبيرًا في ارتداء ثيابه وهو قاعد تحت السقف الحديدي المنخفض, ولكنه رفض النزول. استقر في مكانه حتى صدر قرار وقفه عن العمل قبل أذان الظهر
(أنت اتجننت?).
(...)
رآها جالسة على السرير, وقد انكفأت على نفسها (...) تبكي, والدموع تسحّ وتذيب الكحل عن جفونها, وترسم خطين في لون الحبر على بودرة خديها المهدّلين.
كانت تجفف عينيها الكابيتين بطرف قميصها الحريري المرفوع, بينما الروب معلق في كتفيها ومرمي وراءها, على المخدة المبلولة.
آخر النهار, البهي عثمان حلق ذقنه مرة أخرى ولبس البدلة والكرافتة. ونرجس لبست هي والأولاد, وذهبوا ليحضروا الفرح الذي أقيم في ساحة القرية التي تقع تحت سفح الهرم الكبير.
زحمة هائلة وزغاريد وطبل ومزمار بلدي وتحطيب ورقص خيول وأولاد ونساء ورجال. مولد كبير. ابتسم له البهي عثمان بينما استغربت نرجس وقالت:
(يخيبك يا عبد الرحيم).
كانت سعاد شقيقة أسامة أفندي زميل عبد الرحيم في المصلحة. ونرجس لاحظت أنها تبدو نحيلة أكثر من المرّة التي رأتها فيها عندما جاءت مع عبد الرحيم لخطبتها. كان الخال عبد العزيز قد اختفى من البلد ورفضت أمه هانم أن تترك الجدة عزيزة في مرضها لتحضر الفرح. وكان عبد الرحيم قد كف عن ارتداء الجلباب خارج البيت واعتاد القميص والبنطلون. وأدرك أن مرض جدته, وهي التي لم تمرض أبدًا, يعني أنها سوف تموت. وإذا فعلتها وماتت فإن مسألة زواجه سوف تؤجل لمدة سنة على الأقل. لذلك فضل الانتهاء منه, خصوصًا أن الحاج مرتجي وعده بألا يكلفه بأية مصاريف. وكان وجه سعاد المطلي بالأبيض والأحمر جميلاً, وهي قاعدة على الدكة في فستان الزفاف تتفرج على الرقص وتهزّ قدميها وفمها مفتوح طول الوقت. وعبد الرحيم إلى جوارها في البدلة والكرافتة ينفض رماد السيجارة عن حجره بينما يده الأخرى تبعد أيدي الأولاد الذين يقفون وراءهما على الدكة ويتكئون على دماغه وكتفيه.
وعندما استعدوا لركوب العربة الميكروباص المخصوصة, في نهاية السهرة, جلست نرجس وعبدالرحيم وسعاد على الكنبة الوسطى, والبهي إلى جوار السائق, بينما جلس الولد عبد الله وإخوته على الكنبة الخلفية. وجاء الحاج مرتجي والد العروس وهو يحمل ملاءة سرير مربوطة على ثياب ابنته قذفها على شبكة العربة وثبتها, ووقف أمامهم بشاربه الطويل ورأسه المعصوب. كانت العائلة كلها وراءه, ولاحظت نرجس أنه يقف وأصابع قدميه في لون الطين وهي طالعة من الشبشب البلاستيك الأخضر. وصاح بصوت عال وهو يمسك ذيل الجلباب ويعري ساقيه النحيلتين:
(مع ألف سلامة, اتوكل يا أسطى عبد الفتاح).
واستدارت العربة لتغادر الساحة التي يطل عليها الهرم الكبير, تصاحبها زفة هائلة من الأولاد, بينما الأسطى عبد الفتاح يضغط على آلة التنبيه باستمرار.
وحقيقة الأمر أن سعاد التي هي نحيلة العود كانت قليلة الكلام. وكانت عادتها التي عُرفت عنها أن تذهب وتجيء في جلباب البيت وهي رافعة أنفها الواضح إلى أعلى, مما أضفى عليها شيئًا من الشموخ, وجعل نرجس تشعر ناحيتها بالتوجس ولا تعرف كيف تتعامل معها.
ومع أن كلامها, إذا تكلمت, كان يبدو عاديًا فإن نرجس كانت تسمعها وتسكت لأنها تجده من الكلام الذي لا يساعد على الأخذ والرد. كان عبد الرحيم يأتي بها لكي يقضي السهرة معهم. حينئذ تجلس متربعة على طرف الكنبة وتتابعهم في صمت. وكانت الدهشة تبدو في عينيها إذا نظرت إلى عبد الله الذي صار شابًا الآن. وإذا تكلم عبد الرحيم عن والدها الحاج مرتجي باعتباره أول من فتح دكانًا في هضبة الهرم: (قبل سعاد ما تتولد), كانت تعلق:
(قدح الفول المدشوش كان بصاغ).
وتسكت.
وكان هذا من نوع الكلام الذي تقصده نرجس وتتحدث عنه مع البهي.
أما البهي عثمان فقد كان يفتح فمه, تظهر على وجهه ابتسامة خفيفة وهو يعبث بالمسبحة ويقول في سره:
(الله. اشمعني الفول المدشوش يعني?)
وفي كل سهرة كان عبد الرحيم يتحدث عن الكنز الموجود في المقبرة الفرعونية التي بنى عليها الحاج مرتجي بيته. وكانت نرجس, يوم الخطوبة, قد دخلت هذا البيت الذي بني من طبقة واحدة ووجدت حجراته كبيرة, ومعظمها يفضي إلى بعضه بعضًا, وأرضها من دون بلاط. وكانت دورة المياه واسعة ويربّون فيها فراخًا وإوزًا أبيض, وجديًا أحمر, بينما كانت فتحة المرحاض في منتصف الحجرة إلى درجة أن نرجس خجلت أن تشلح وتقضي حاجتها أمام هذه المخلوقات الحية. وكان عبد الرحيم يقول لها:
(إمال احنا بنقول إيه من الصبح?)
ويشرح لها كيف أن الحاج مرتجي عمل فتحة المرحاض فوق البئر التي تصل إلى سرداب المقبرة حتى لا يكتشفها أحد: (كل البيوت كده). ويبتسم لها ويسألها إن كانت تذكر الرجل الذي كان يرتدي العباءة.
(فين?)
(في الفرح).
(فرحك أنت وسعاد?)
(أيوه).
(جرى إيه يا عبد الرحيم? ده بقى له سنة دلوقت).
والبهي عثمان يقول: (الراجل التخين?)
(لأ. الأقرع).
(أقرع?)
(أيوه يا أخي. اللي كان جنب الحاج مرتجي على طول).
وتعلق سعاد: (أبو البت فريال).
والبهي ينظر إليها يلتفت إلى عبد الرحيم:
(ماله?)
(أهو الراجل ده لقى في المقبرة اللي تحت بيته حتة رخام: (قد كده). ويباعد بين ذراعيه: (وحواليها فرخة وسبع كتاكيت دهب).
(يا نهار أسود).
وعبد الرحيم يضحك: (إمال أنت فاهم إيه?)
(والحاج مرتجي?)
يتنهد عبد الرحيم. يقول إنهم يبحثون عن حل لأن البئر التي في مقبرتهم عميقة: (وكل ما ينزلوا فيه اللمبة تنطفي).
وتعلّق سعاد: (قبل الحصان ما يموت).
وكان مثل هذا الكلام هو الذي يزيد في قلق نرجس من ناحيتها. وتقول: (الحصان?)
(آه. فيه ناس بتلاقي فرخة, وبدل الكتاكيت بيض).
وتلتفت نرجس وتسألها: (ذهب برضه?)
وسعاد تجذب أطراف الجلباب حتى أصابع قدميها: (لكن لازم حبال).
وكان هذا يضاعف من غضب نرجس ويقرفها.
كانت أم سعاد قد ماتت وهي صغيرة وتولت الابنة الكبرى عفاف تربيتها مع أشقائها الذين تربوا من صغرهم تحت الهرم يسترزقون من الأجانب ويجيدون لغاتهم. في ذلك الوقت كان الحاج مرتجي يمتلك حصانًا مزينًا بالورود الحريرية الملونة يؤجرونه للسياح بالساعة. الحصان مات والمعلم بكاه وتقبل فيه العزاء. أما الأولاد فقد توزعوا في أكثر من مكان. ولدان في إيطاليا وولد يسمعون أنه في ليبيا وأحيانًا يسمعون أنه في العراق. أسامة أفندي هو الوحيد الذي توظف بالابتدائية في مصلحة البوستة العمومية, وهو يقضي معظم الأيام مسافرًا في القطارات مع أكياس البريد من مكان إلى مكان. وكانت عفاف أرملة, ولديها أولاد صغار تعيش معهم عند أبيها الحاج مرتجي الذي أصابه المرض الآن ولكن في قدميه فقط. كل يوم يحملونه ويسندون ظهره إلى الجدار القصير حيث يجلس في مواجهة الهرم الكبير الذي يشغل ثلاثة أرباع الدنيا من أمامه وهو يتكئ بمرفقه على سرج الحصان الذي رفض أن يفرط فيه, والربع الباقي يكشف له قدرًا معقولاً من السماء والبيوت الواطئة المنحدرة وأجولة العدس والفاصوليا والفول المدشوش المرصوصة على عتبة دكانه الصغير. كان يشعر أنه أكمل رسالته بزواج البنت الصغرى من عبد الرحيم أفندي. ويمدّ قدميه المريضتين أمامه ويدخن الجوزة, ويتناول طعامه, ويشخط في العيال الذين لا يعيرونه اهتمامًا بسبب عدم قدرته على الوقوف وحده والجري وراءهم. هكذا يقضي يومه حتى ينام على روحه ويتهدل شاربه, ويميل دماغه على صدره أو كتفه ويحملونه إلى داخل البيت. والمعلم عندما ينام يصبح ثقيلاً كالقتيل. لم يكن في وسع عفاف أن تدخله دون معاونة من أحد. ولهذا كانت كثيرًا ما تضطر إلى وضع الغطاء عليه وتركه في مكانه حتى يستيقظ في اليوم التالي ويواصل قعدته دون أن يغضب, أو يعلق بأي كلام.
وسعاد تتردد كثيرًا على بيت أبيها. يعود عبد الرحيم من العمل فلا يجدها ويعرف أنها هناك. تمضي عدة أيام في رعاية أبناء شقيقتها عفاف المشغولة ما بين أولادها والحاج مرتجي والدكان حتى عدمت صحتها تمامًا.
لم تكن سعاد تعود وحدها أبدًا حتى يذهب ويأتي بها.
في كل مرة كانت تأتي ومعها شيء من الفول أو الأرز والعدس وبيض الفراخ. كما كانت تأتي بولد أو ولدين من أبناء شقيقتها. ونرجس تطل عليهم وتلاحظ أن البيت مستور, وأن سعاد لم تحبل بعد. وتسألها:
(أبوك عامل إيه يا سعاد?)
(الحمد لله. لكن بيموت). ومرت أيام قليلة ومات.
ذهبت سعاد للوقوف بنفسها في الدكان. وتفرغت عفاف لرعاية البيت والعيال وأسامة أفندي اختفى تمامًا في عربات البوستة الملحقة بالقطارات.
اعتاد عبد الرحيم أن يتردد عليهم ويراها حافية القدمين وترتدي بنطلون بيجامة رجاليًا تحت الجلباب. يقضي معهم ليلة أو ليلتين, يضاجعها أينما تيسّر وينصرف.
واعتادت هي أن تأتي إلى فضل الله عثمان كل جمعة أو جمعتين, تأخذ شيئًا من ثيابها وتنصرف.
مع الوقت أخذت أغراضها كلها وتوقفت.
كانت الدار, كما أطلق عليها عبد الرحيم وأهله, هي الحوش الأرضي لأحد البيوت الحجرية الكبيرة التي بنيت في أوائل القرن, وكان بابه الخشبي قد فتحه الحاج عباس الكبير عنوة أثناء الحرب العالمية الثانية, حيث يمكنه اصطحاب جماعته واختراق فضل الله عثمان واللجوء إلى شاطئ النهر إذا ما اشتدت الغارة. أما طبقات البيت التي يشغلها بقية السكان فقد كان لها مدخل آخر رئيسي, في الشارع الخلفي.
كان لهذا الحوش ثلاثة مناور مفتوحة على السماء. وكان عبد الرحيم قد تسلمه خاليًا إلاّ من حجرة واسعة بابها على يسار الممر, لها شباك طويل بقضبان. أما الممر فهو طويل وفي نهايته مساحات خالية تصل بينها طرقات معتدلة أو مائلة, وفي عمق المكان مرحاض منخفض.
خلال هذه السنوات كان عبد الرحيم قد أقام مجموعة من السقوف الثابتة والمتحركة, والسدود التي جعلت من المكان دارًا ريفيّة لا يعرفها إلاّ أهلها. هذه الفتحات متروكة لضوء الشمس إذا دخل الشتاء. وهذه الكوى البحرية إحداها موجهة إلى حجرة الأم, وأخرى إلى الطرقة الطويلة المواجهة للمدخل المفتوح على فضل الله عثمان حيث سهرات الصيف الطويلة, وكان عبدالرحيم قد بنى مرحاضًا جديدًا من الخشب الحبيبي بعلو ثلاث درجات من الطوب. كان يأتي بألواح الخشب القديمة من السوق ويركنها من أجل مشاريعه الطارئة. أقام عشه فراخ لها باب من السلك, ومزودًا صغيرًا لجدي كان قد اشتراه قبل أحد الأعياد تلبية لرغبة والدته في التضحية. وعندما جاءت دلال من البلد أعدّ لها مطبخًا به رفوف وله نافذة تطل على الزير الكبير الذي بنى له حاملاً مفتوحًا من الطوب والإسمنت ووضع تحته صفيحة سمنة خالية لتلقي نقاط الماء.
كانت الجدران ممتلئة بالمسامير الطويلة التي عُلقت عليها حبال البامية الجافة والفلفل الأحمر وحزم البصل والثوم. وكان الأستاذ عبد الله بن عثمان وهو ينتقل من مكان إلى آخر, في سبيله للوصول إلى حجرة جدته الضائعة, ينحني وهو يرفع حبال الغسيل الممتدة بين هذه المساميرَ المدقوقة. كما كانت هناك مشنّات ممتلئة بأوراق الملوخيّة أو النعناع المقطوفة التي تركت لتجف. كما علقت مجموعة من المناخل الحرير والسلك وغربال قديم ومقاطف فيها بقايا خبز ودقيق وردَّة. وفي أحد الأركان ماجور عجين مقلوب كان يستخدم كمقعد, وتباعدت في الجدران طاقات مسدودة وضعت فيها لمبات الجاز الكبيرة والسهاري المطفأة وعلب فارغة وأوراق مطوية أو ملفوفة ومربوطة بشرائط من قماش. وكان قد بنى مصطبة طويلة في زاوية مستورة من آخر الحوش, وضع عليها حشية ومسندًا صغيرًا, يمكن استخدامها للقيلولة بعيدًا عن دوشة الراديو والأولاد. وكانت الأم الكبيرة هانم قد طلبت, حال وصولها, كانونًا على مقربة من حجرتها الصغيرة ظلت تستخدمه حتى بدأ الأولاد يجلسون عليه ويتبرزون أو يبولون. وبين حقبة وأخرى, كان عبد الرحيم يخلط الإسمنت والرمل ويقوم برشّ الجدران التي يتساقط ملاطها عن كسور الدبش القديم الذي وضع كيفما اتفق, أو يضيف مجرى جديدًا إلى مجاري المياه المحفورة جنب الجدران حيث تلتقي كلها في مجرى واحد رئيسي يصب في البالوعة المدورة في ركن الدار.
توقف الأستاذ عند حجرة الجدة التي في الناحية اليمنى. كانت خالية ومعتمة, مشبعة برائحة خبزها المبلول. فراشها الصغير مرتب. وكليمها المفروش قديم وباهت, وصندوق عرسها الخشبي بأحزمته النحاسية الصدئة المنقوشة في ركنها الداخلي المعتم. كان يعرف أن خاله قد أعدّها, من زمان, كمطبخ من أجل الاستعداد لزواجه من أفكار, وهو الزواج الذي لم يتمّ. ثم هيأها لكي تستخدمها انشراح لمبيت أولادها الثلاثة عندما فكر في الزواج منها. كما احتفظت الحجرة بوضعها كمطبخ أثناء زواجه الثالث من سعاد والذي لم يستمر طويلاً. لقد تغيرت الدار تمامًا منذ مجيء أمه وزواجه من ابنة بلدهم دلال التي حملت بعد شهر وعدة أيام.
دلال تنام قبلهما.
إذا عاد عبد الرحيم مبكرًا تعمل لهما الشاي قبل أن تتركهما. ومهما كان الوقت الذي يعود فيه عبد الرحيم تنتبه لحركته وهو يفك اللفافة ويضع ما يأتي به في الصحن وينادي: (قومي يامّه). والجدة تجلس معه في مقدمة الحوش وفضل الله عثمان مفتوح أمامهما عن آخره. بين حين وآخر تمد يدها إلى الصحن وتتناول فتفوتة من التشكيلة التي اعتاد أن يأتي بها: قطعة صغيرة من الجبنة الرومية أو البيضاء أو قطعة من الحلاوة الطحينية, فضلاً عن عدة زيتونات, مرة خضراء ومرة سوداء. وتقضي هي السهرة في مضغ كسرة خبز أو قطعة جبن في حجم عقلة الإصبع وإذا حاولت مرة أن تلوك زيتونة بلثتها الخالية كانت تبلعها ببذرتها رغمًا عنها. ولذلك تابت عنه رغم حُبّها له. ولما كان يأتي لها بصنف جديد مثل قطعة من الجبن الشيدر أو النستو أو الروكفور فإنه يلفت نظرها إلى ذلك ويطمئن إلى أنها لاحظت فارق الطعم بين هذه وتلك. ويتحدثان طول السهرة عن البلد أو العمدة عبد الرحمن, والأرض أو نرجس, أو أي شيء من الأشياء حتى يشقشق نور الفجر على فضل الله عثمان. ولما مات عبد الرحيم كان عبد الله بن البهي عثمان يشتري لها الأصناف ذاتها, ويعطيها لدلال لكي ترتبها في الصحن, وتضعها في مقدمة الحوش, لأن الجدة ظلت تغادر حجرتها ليلاً وتجلس مكانها المعتاد ويمر عليها الوقت وتضحك وتقول: (الواد عبد الرحيم اتأخر), وترد عليها دلال التي تغالب النوم لكي تراقبها: (زمانه جاي). وأحيانًا تمد يدها إلى جيب السيالة وتطمئن إلى الورقتين من فئة عشرة جنيهات اللتين كانت تحتفظ بهما فيها منذ سنوات طويلة, من أجل تكاليف خَرْجتها عندما تموت: أجرة السيارة التي سوف تنقلها من مصر إلى البلد, والكفن وأجرة المغسلة والحانوتي والمعددة والليلة التي سوف يحييها الشيخ مصطفى الصفتي الصييت المعروف (وكان قد مات قبل أربعة وثلاثين عامًا), وكذلك مصاريف العشاء الذي سوف تعدّه نرجس للمعزين من أهالي فضل الله عثمان. ومع أن هذه السيالة التي تحتفظ فيها بالورقتين كانت مشبوكة بدبوس في الجلباب الأسود الداخلي الذي ترتديه تحت الجلباب الأسود الخارجي, نجح عبد الرحيم قبل سنوات في التسلل إلى حيث الدبوس واستولى على الورقتين الماليتين ووضع مكانهما ورقة كراس مسطرة. ودلال كانت تعرف لأنه كان يطلب منها ساعة غسيل الهدوم ألاّ تخبر أمه بأوراق الكراس المطوية داخل السيالة, ودلال من ناحيتها لم تكن تستغرب منه أي شيء بعدما رأته يربط أسنانه المريضة بخيط مثبت إلى الجدار بمسمار طويل, يشعل سيجارة لكي يخدع نفسه ويقول لها كلميني في أي حاجة, وتسأله هي: (أكلمك في إيه يعني?) ويقول: (يا ساتر عليكي, باقولك...) ويجذب دماغه فجأة لتتدلى في نهاية الخيط سنّه الطويلة المسودّة. لم تكن بينهما كُلفة على الإطلاق.
(...)
(أعمل لك شاي تاني?)
قال الأستاذ: (متشكر قوي. أنا شوية وماشي).
قالت دلال إنها, كلما انقطع النور, افتكرت نفسها في البلد, وإن عبد الرحيم, ربنا يرحمه ويسامحه, لو كان سمع كلامها وباع الأرض, أعطى لنرجس نصيبه, وبنى بنصيبه دارًا بدل الدار الكبيرة التي باعها برخص التراب, كانت أخذت العيال, وراحت عاشت هناك على قرشين المعاش, لكن: (ادي إحنا انقطعنا, لا أهل, ولا دار, ولا أرض, ولا بلد).
كان الولد عبد الله الصغير قد نام.
وكان الأستاذ يقف وسط الحجرة يتأمل الصورة المعلقة, ويداه في جيوب البنطلون, وقال: (الأرض دي مكانها فين بالضبط?)
(في البلد يا سي عبدالله).
(جوه البلد يعني?)
دلال قالت إنه لا توجد غيطان داخل البلد, الغيطان كلها خارج الزمام, لما تنزل في محطة القطار, تجد الناحية الثانية من السكة الحديد, كلها على مدى الشوف, مزروعة:
(أهي الأرض هناك).
(ومين اللي فيها دلوقت?)
(إزاي يعني?)
(مين اللي مأجرها?)
دلال قالت إن: (اللي مأجّرها?)
كان العمدة عبد الرحمن, حطّها في كرشه وكتب حيازتها باسمه مع غيرها من الأراضي, ورجع قال إنه أجّرها لواحد, الواحد مات من زمن, وعياله ركبوها من بعده وماتوا. وأضافت إن الله وحده هو الذي يعلم إن كانت عيال عياله هي التي تزرعها هذه الأيام أم أنهم أجّروها لأحد آخر:
(آهي البركة فيك بقى).
الأستاذ عبد الله استمع لهذا الكلام, وأدرك سريعًا أنه مقبل على تجربة جديدة تمامًا. ثم أسعفته بديهته إلى الاقتناع بأنه لن يصل في هذه القضية إلى أية نتيجة, ولكنه طبعًا سوف يقوم بواجبه باعتباره المسؤول عن العائلة الآن وكبيرها, وتساءل عما إذا كان عليه أن يهيئهم نفسيًا لتقبّل فشل موضوع الأرض الذي يعولون عليه كثيرًا, أم أن عليه أن يسكت, وعندما يأتي وقتها, يحلها ربنا? حينئذ جاء النور المقطوع فجأة وصاح سلامة من عند الباب:
(النور على قدوم الواردين).
وجلس.
عندما جاءت دلال بالشاي باعد ذراعيه على جانبي الكرسي وتساءل عما إذا كانت هناك أخبار جديدة. ولما لم يعلق أحد قال إنه لم يترك أحدًا يقابله بدون أن يسأله:
(أصل القعدة كده زي قلتها).
الأستاذ عبد الله شعر بالضيق من هذه الطريقة التي زادت عن حدها في الكلام, وبانت على وجهه علامات الاستهجان. وكان تقديره لشقيقه في هذه اللحظة أنه صحيح طيب, لكن مجرد حمار, وأن الحكاية القديمة التي جرت بينهما لظروف موضوعيّة تمامًا لا تبرر له أبدًا أن يضع نفسه معه على قدم المساواة, خصوصًا من الناحية الفكرية. صحيح أن حالة الارتباك, أو التوتر, في علاقاته بكل الناس الذين التقى بهم بعد الإفراج عنه كانت من المسائل الملحوظة, إلاّ أنها كانت حالة متبادلة بينه وبينهم, ولقد ظل لسنوات طويلة يرى في عيونهم ما لا يفهمه, وظل لا يعرف على أي نحو, مثلاً, يأخذون كلامه, وإلى أي درجة يمكنه أن يتبسط مع هذا أو ذاك. كان أبوه قد مات في غيابه الطويل, واستقبلته أمه فاتحة ذراعيها, وهي تجري حافية في فضل الله عثمان. كان هو الذي بكى. أما هي, فقد واصلت سيرتها الأولى, نرجس, في نظر الكل, ردّت فيها الروح. تغلبت على الحزن, والمرض, والإعياء. تعد له الإفطار وتوقظه من النوم. تدخل عليه بالشاي, تجلس, تحكي له عما جرى في فضل الله عثمان: (اسكت يا عبد الله يا ابني, ولا دريت باللي جرى لعمك أحمد الرشيدي), وتتابع أثر ما تحكيه بعينين فيهما تساؤل, فيهما رجاء. كانت تواصل ما انقطع حول أمور لم يعُدْ يعرفها, ولا يذكرها.
وعبد الله قضى الليل عند ليلى, وفي الصباح عاد إلى فضل الله عثمان.
طلع السلالم القليلة, ونقر على زجاج الشراعة ونرجس قالت: (مين?)
(أنا يا امّه).
(أيوه يا عبد الله).
وفتحت الباب.
عبد الله فوجئ بالصالة ممتلئةً بالدخان. ورأى أمه تسبقه ناحية المطبخ وهي تقول لاهثة:
(اقفل وراك).
كانت قاعدة عند المرحاض وأمامها أوراق أمسكت فيها النار وآثار هباب وحقيبة جلدية مفتوحة إلى جوار ركبتها اليمنى, والمقشة اللوف مرمية.
عبد الله عرف الحقيبة, وعرف الورق وقال:
(بتعملي إيه يا امه? وإيه اللي جاب الورق ده هنا?)
(اصبر يا عبد الله).
وتناولت بعض الأوراق التي لم تحترق بعد, أشعلتها وراحت تقلبها حتى أتت عليها النيران ثم فتحت الحنفية وتركت الماء يجري وهي تدفعه بالمقشة حتى نظفت أرضية المرحاض. أغلقت سوستة الحقيبة الفارغة, وقامت وهي تعتمد على ركبتيها وتقول:
(كانت مليانه على آخرها).
والتفتت إليه.
(افتح الشباك).
واندفعت شمس الصباح وأضاءت سحب الدخان ولمست مسند الكنبة اليمنى. ونرجس أمسكت بالفوطة وراحت تطوّحها وتهوّي الصالة. ثم جلست في ركنها المختار عند التقاء الكنبتين وجففت وجهها بطرف جلبابها العلوي وهي تجذب جلبابها الداخلي على قدميها وتكحّ وتقول:
(ولا دريت إيه اللي حصل).
(هو إيه اللي حصل?)
(الجماعة بتوع الحكومة).
(حكومة?)
(راحوا سألوا عن صاحبك حمامة ومراته).
(سألوا فين?)
(في البيت اللي كانوا ساكنين فيه).
وأشارت إلى الحقيبة الخالية وقالت إنها لو عرفت أنه سوف يأتي الآن كانت تركتها ولكنها خافت:
(يفتشوا زي المرة اللي فاتت).
(حمامة اللي جابها?)
(لا. سلامة).
(سلامة أخويا?)
(جابها بعد أبوك ما خرج على طول).
وأخبرته أن أصحاب البيت الذي كان يسكن فيه حمامة وزوجته قالوا للحكومة إن سلامة هو الذي أتى بهم ليسكنوا عندهم:
(عدوك لما عرف أن بتوع الحكومة سألوا عنه هو كمان).
(وهو فين دلوقت?)
(هربان عند حماته).
(أنا لازم أشوفه).
(زمانه جاي. فطرت?)
خرج عبد الله إلى فضل الله عثمان.
كان سلامة يركن ظهره إلى الجدار تحت بلكونة حماته المنخفضة.
أشار له بيده فاقترب مسرعًا. ثم مشى على مهله بالقميص والبنطلون, وصعد الدرجات القليلة وراء عبدالله وهو يقول:
(شفت اللي حصل?)
وعندما جلسا في الحجرة الخارجية فرد ذراعيه على جانبي المسند الخلفي.
وعندما التقت عيناه بعيني شقيقه أوشك أن يبكي. كان وجهه صبوحًا وفتيًا في ذلك الوقت.
أخرج عبد الله علبة سجائره ولكن سلامة رفض. وجاءت نرجس بطبق نظيف وطلبت من سلامة أن يقوم ويحضر الفول لكي يفطر هو وأخوه.
تناول سلامة الطبق. وضعه إلى جواره وقال:
(حاضر يا امّه).
ولم يتحرك.
قال عبد الله إنه يريد قبل كل شيء أن يعرف حكاية هذه الحقيبة:
(أخدتها من مين? وأخدتها ليه?)
وقال سلامة.
(أنا لا أخدت ولا هببت).
وأخبره أنهم تركوها أمانة عند سامية زوجته.
(إمتى?)
(قبل ما يعزّلوا).
(وليه ما قلتش).
(أنا عرفت امبارح, بالمصادفة).
وقال إن الحكومة لما سألت عن حمامة وزوجته, أصحاب البيت أخبروهم أنهم عزلوا, وأن سلامة قد يعرف عنوانهم الجديد لأنه هو الذي أتى بهم إلى هنا, وأن الحكومة طلعت خبّطت على الشقة عندي:
(كنت أنا هنا).
(إمّال عرفت ازاي?)
(لما رجعت بالليل, السكان قالوا لي).
(قالوا لك إيه بالضبط?)
(هات سيجارة).
وقال إنهم أخبروه أن تجار موبيليا من دمياط سألوا عن حمامة وزوجته لأن عليهم أقساطًا متأخرة, والأوسطي سعد الميكانيكي أخبره أنهم حضروا في عربة ميري وركنوها وراء الجامع. وأضاف سلامة أنه فهم طبعًا. ولما تكلم مع سامية تذكرت الحقيبة وأخرجتها من تحت السرير. ونفث الدخان وقال:
(موبيليا قال, دول كانوا نايمين على الأرض يا با).
ونرجس قالت من الصالة: (قوم يا سلامة هات الفول وافطروا الأول).
(أيوه يا امّه). ولم يتحرك.
وجلس عبد الله يدخّن ويفكّر.
قال إن المسألة بسيطة, على شرط أن أي واحد يسألك تقول إنك التقيت بهم مصادفة يبحثون عن سكن في المنطقة, وإنك أخبرتهم بهذه الشقة التي تجاورك. وفيما عدا ذلك لا تعرف عنهم أي شيء. وتساءل سلامة عن هؤلاء الذين سوف يسألونه.
وقال الأستاذ: (أي حد يسألك).
(وهم ح يشوفوني فين علشان يسألوني?)
(في البيت مثلاً).
(وانا إيه اللي يوديني البيت?)
(إمال ح تروح فين?)
(أي حتة).
(بقى ده كلام?)
(إمّال استنّاهم?)
(طبعًا).
وقال إنهم إذا حضروا فلا بد أن يجدوا سلامة في البيت يمارس حياته العادية ويتصرف معهم كأنهم تجار موبيليا من دمياط. لكن إذا ترك البيت فمعناه أن هناك شيئًا خطيرًا:
(وانَّك هربان).
وجلس سلامة يفكر في الكلام.
وجاء صوت نرجس من الخارج يطلب منه أن يسمع كلام أخيه, ويقوم يحضر الفول لأنها وضعت الشاي على النار. وارتفع خبط على شراعة الباب, وهب سلامة واقفًا, بينما انتبه عبد الله والتفت إلى الشباك المفتوح. ونرجس قالت: (مين?)
(أنا ابو سامية).
وعاد سلامة للجلوس, بينما فتحت نرجس الباب. ودخل الحاج فريد وهو يبعد يديه الملوثتين عن حجر الجلباب:
(إيه الحكاية يا سلامة?)
قال سلامة: (أبدًا). (لا حول ولا قوة إلاَّ بالله).
ولمح عبد الله بطرف عينه: (مالك انت بس ومال الحاجات دي?)
وتنهد: (أما أقوم).
قالت نرجس: (الشاي يا ابو سامية).
وقال الحاج فريد إنه فك الموتور وتركه في حوش البيت.
(بقى لنا يومين مش لاقيين نشرب كباية ميه. حاجة تقرف. سلامو عليكم).
وهنا قال عبد الله إن أخطر شيء هو ما يحدث الآن. أنت تحكي لسامية, وهي تحكي لأبيها, وهو يحكي لكل من يقابله, مع أن المفروض أنك لا تعرف أي شيء سوى أن هؤلاء الناس مجرد تجار موبيليا من دمياط.
وأمره أن يطلب فورًا من سامية والحاج فريد ألاّ يتكلما في هذا الموضوع إطلاقًا. ولفت نظره إلى أن الحكومة لو عرفت أن حمامة وزوجته يعرفونني, في الوقت الذي أنت فيه أخي, فإن الكل: (ح يروح في داهية).
وانشغل سلامة, للحظة, بالتفكير فيما لاحظه عندما خبط الحاج فريد على الباب.
وفيما بعد, عندما انفردت به نرجس وطلبت منه أن يسمع كلام أخيه الكبير وينفذه بالحرف, التفت إليها وهو يمسك بضلفة الباب وقال:
(على فكره يا امّه, لما الحاج فريد خبط على الباب, أخويا عبد الله كان عاوز ينط من الشباك).
كان الأمر واضحًا بالنسبة إليه: لو الحكومة كبست عليه وسألته فإنه سوف يقول إن حمامة وزوجته هما في الأساس صديقا شقيقه عبد الله, وإن عبد الله نفسه هو الذي طلب منه أن يجد لهما مسكنًا على مقربة منه. وفيما عدا هذا فإنه, لا يعرف عنهم شيئًا. هذا موضوع مفروغ منه. سامية تقول: (قال يا روح ما بعدك روح). وهو يقول: (الله? إذا جالك الطوفان, ارمي ولدك تحت رجليك) لكن المشكلة كانت في الحالة العجيبة التي استولت عليه, الحالة التي تجعله يذهب إلى بيت أمّه بدلاً من الذهاب إلى المطبعة, حالة هذا النوع الغريب من الإسهال المتصل, والذي يدفعه دفعًا, أثناء النهار, إلى الجري السريع الذي لا مثيل له, والذي يلجئه, أثناء الليل, إلى شاطئ النهر, أو أي ركن مظلم, يفك البنطلون ويقعد, يعافر, ويتوجع وهو في غاية الألم, والخجل, ولا من مغيث.
كان سلامة يناضل في أكثر من اتجاه.
وفي ذلك اليوم, طلع السلم قفزًا, كعادته في الأيام الأخيرة. قلع الحذاء والبنطلون وهو واقف يلهث في صالة الشقة الصغيرة وتفادى الولد الذي كان يلعب بكنكة القهوة الفارغة, وأسرع إلى المرحاض, وسامية قامت من وراء ماكينة الخياطة, ركنت الحذاء وعلقت البنطلون.
وضعت الطبلية وعادت بطبق ملوخية وورك فرخة مسلوقة.
سألته وهو يجلس على الحصيرة ويمد يده بنسيرة من الورك إلى الولد الذي ترك الكنكة واقترب: (ح تنام?)
(ربنا يسهل).
(كنت عاوزاك تسرج ديل الجلابية بتاعة فريدة, وتركّب الزراير).
(أما اصحى).
وغسل يديه وأشعل سيجارة, وأسرع مرة أخرى إلى المرحاض.
بعد قليل سمع, وهو في محنته, أصواتًا بعيدة وكلامًا غير واضح, ثم نقرًا على باب المرحاض, وسامية تطل عليه. كانت فتلة رفيعة بيضاء تتدلى من ركن شفتيها ووجهها في لون الليمونة الصفراء. همست:
(جم يا سلامة. جم).
سلامة تأمل وجهها المرعوب وهو قاعد لامم هدومه والسيجارة في يده, ووجد نفسه يقول: (ولا يهمّك).
وابتدأ يغسل نفسه مع أنه لم يكن قد فعل شيئًا. وأثناء خروجه اصطدمت به سامية وهي تحمل الطبلية وتكاد تنكفئ, قال غاضبًا:
(حاسبي).
والتفت إليهم: (أهلاً وسهلاً. اتفضلوا).
كانوا ثلاثة. دخلوا إلى الحجرة وهم يتلفّتون حولهم, ووقف سلامة في المدخل المفتوح وقد اتسعت ابتسامته:
(هيه, شاي, ولا قهوة?)
(هيه, شاي, ولا قهوة?) (لا شكرًا).
هكذا قال أصغرهم, بينما كان الثاني يلتفت إلى صورة ملونة معلقة لأعضاء فريق الزمالك وأمامهم كأس مصر. أطل سلامة خارج الحجرة فاقترب وجهه من وجه سامية التي تقف خارج الباب مباشرة. حدق كل منهما إلى وجه الآخر. وهمست:
(همه. مش كده?)
لم يردّ عليها. صاح كأنها هناك في المطبخ: (الشاي يا أم محمد). والتفت.
مد يده بعلبة السجائر ولكنهم رفضوا.
(إحنا سألنا عنك من كام يوم).
(قالوا لي).
وقال إن السكان أخبروه أن تجارًا من دمياط سألوا عن الأخ اللي اسمه حمامة. وقال إنه:
(زعل قوي), لأنه لم يكن موجودًا, وأضاف أن والدته مريضة جدًا وهو يذهب لزيارتها يوميًا.
قال أصغرهم إنهم يريدون رؤية حمامة وزوجته. وسلامة قال: (يا ريت).
وأخبرهم أنه لم يعرف أنهم عزلوا إلاّ بالمصادفة. ونادت سامية من الصالة خرج سلامة وعاد بصينية الشاي التي تجاهلوها: (مش انتوا أصحاب يا سلامة).
سلامة هز رأسه نفيًا.
(إحنا عارفين علاقتكم ببعض. جيرانكم قالوا لنا).
قال, وقد تلاشت ابتسامته, إنه لو كان يعرف مكانهم فلماذا ينكر? وإن كل علاقته بهم أنه كان عائدًا من العمل في أحد الأيام وهو يركب العجلة, وضحك:
(أيام ما كان عندي عجلة بقى...)
كنا في رمضان وساعة إفطار والدنيا فاضية.. ولما نزل عن العجلة لكي يدخل البيت, فوجئ بواحد يسأله عن طريق سكن, بالمصادفة, الأوسطى رزق السباك عنده حجرة خالية, شاور لهم على البيت وهو واقف. ومن يومها لم يرهم إلاَّ مرة أو مرتين أثناء دخوله أو خروجه من البيت, وصاح:
(طفاية يا أم محمد).
في الصالة, كان أحدهم يفحص الصور العائلية الموضوعة تحت زجاج الشيفونييرة المشروخ. كان يفحصها واحدة واحدة, وعندما انتهى قال: (أنت مأجّر الشقة دي بكام?)
(تمانية جنيه في الشهر. إيجار قديم).
اتجه الآخر إلى حجرة النوم وفتحها:
(قد التانية?)
(أصغر شوية).
واتجه إلى المطبخ, وأثناء عودته أطل داخل المرحاض.
قال سلامة: (لكن بادفع كل أسبوع خمسة جنيه للنزح. أصل ما فيش مجاري).
(الورقة دي يا سلامة فيها نمرة تليفون. إذا عرفت أي حاجة عنهم, اتصل بينا على طول).
ونزلوا السلم الضيق.
ظل واقفًا حتى قدر أنهم وصلوا إلى الحوش, وصاح: (مع السلامة).
جلس على الكنبة وقد ترك باب الشقة مفتوحًا. ونظر إلى سامية وسألها عن الجلباب الذي تريد منه أن يسرج ذيله ويركب له الزراير.
عندما ذهب إلى فضل الله عثمان والتقى بعبد الله, تحدث معه في أشياء مختلفة ثم قال, بشكل عابر تمامًا, إنه التقى الحكومة. وحكى له الموضوع بنوع من التأني الواضح. وكان يقطع كلامه أحيانًا لكي يشرب, أو يذهب إلى دورة المياه.
وعبد الله استمع إليه, ثم أخبره أنهم قبضوا على حمامة.
سلامة بُهت...
ظل صامتًا وقد ظهرت عليه علامات التردد. شعر أن الموضوع لم ينتهِ. وبانت بوادر الإسهال على وجهه, وقال : (قبضوا عليه إزّاي يعني?)
عبد الله قال إن المباحث التي زارت سلامة بالأمس, أمسكت العربجي الذي نقل المرتبة والكتب والمخدات وعرفوا منه العنوان. سلامة همس:
(ومراته?) (مراته لسة هربانة).
وفي اليوم التالي, قبض على عبد الله نفسه.
أثناء خروجهم, طلبت منه دلال أن يطمئنها, حين يرجع من البلد.
وسلامة قال: (أنت مسافر بكره?)
ورد الأستاذ: (إن شاء الله).
(ماتنساش موضوع الأرض).
كانا يتقدمان في فضل الله عثمان.
والأستاذ لاحظ أنه صغر, أو ضاق عما كان, وملأه العجب من أرضه التي ما زالت تعلو هكذا, بحيث إن المداخل على جانبيه ظلت تزداد انخفاضًا مع الأيام. كان يفكر في أصحاب المباني القليلة التي كان يعاد بناؤها, أيام صباه, وكيف كانوا يجعلون مداخل بيوتهم الجديدة تعلو عن الأرض بثلاث درجات على الأقل, معتقدين أنها سوف تصبح في مستوى الشارع مع مرور الوقت, إلاّ أن الأرض كانت تواصل الارتفاع, لتحول هذه إلى مداخل منخفضة بدورها. وكان بوسعه دائمًا أن يفرق بين عمر مبنى عن آخر بالنظر إلى مدى انخفاضه عن غيره, والآن كان يشعر بالرضى لأن أحدًا ممن يعرفهم لم يره. شباب من جيل آخر يقفون على النواصي. سلامة يلقي عليهم التحية وهو يسير إلى جواره منتصب القامة ومزهوا. والأستاذ, من ناحيته, يرى في ذلك نوعًا من الافتعال السخيف. ولمح عربة الدكتور رفعت مركونة تحت نافذة العيادة المفتوحة.
آخر مرة جاء فيها إلى فضل الله عثمان, رأى البنت شربات الصغيرة التي كانت تلاحقه من زمان بعينيها الشقيتين, والتي كانت تشاركهم اللعب على شاطئ النهر بضفيرتيها, ثم اختفت مثل غيرها من الأولاد والبنات. لمحها كومة كبيرة من اللحم تجلس على الأرض حافية في مدخل أحد البيوت دون أن يعرفها. وما إن اعتدل حتى سمعها تقول, بين الكلام والغناء:
آخر مرة جاء فيها إلى فضل الله عثمان, رأى البنت شربات الصغيرة التي كانت تلاحقه من زمان بعينيها الشقيتين, والتي كانت تشاركهم اللعب على شاطئ النهر بضفيرتيها, ثم اختفت مثل غيرها من الأولاد والبنات. لمحها كومة كبيرة من اللحم تجلس على الأرض حافية في مدخل أحد البيوت دون أن يعرفها. وما إن اعتدل حتى سمعها تقول, بين الكلام والغناء: (والله زمان يا سلاحي).
التفت وعرفها من عينيها, وابتسامتها الجميلة القديمة.
وتهلل وجهها لما أدركت أنه عرفها. وقالت, بصوت مسموع جدًا: (اتفضل).
(متشكّر).
هكذا همس وهو يحس بشيء مثل العار.
وخيل إليه أن هذا هو البيت الذي كانت تجلس أمامه. ولكنه لم يكن واثقًا. وكانا يمران أمام باب بيتهم القديم, وشباك شقتهم المقفل فوق عربة العم محمد الرشيدي التي نامت إطاراتها الفارغة وأكلها التراب. وكان دكان محمود عبد اللطيف يلوح من بعيد. شيء غريب فعلاً. كانوا يجلسون أمام الراديو الألماني الذي اشتراه أبوه من حسن السوداني, وراء هذا الشباك المقفل, عندما دوّت طلقات الرصاص وساد هرج. وسمع صوتًا يقول (أيوه. هوه اللي هناك ده), ثم علت الأصوات وتداخلت, ليهيمن صوت عبد الناصر صائحًا: (أيها الإخوة المواطنون, أيها الرجال, ليبق كل منكم في مكانه. إذا مات جمال عبد الناصر, فكلكم جمال عبد الناصر). طوال الليل وعمليات القبض على الإخوان المسلمين والتفتيش عن الأسلحة تعم المنطقة كلها, وفي الصباح, ازدحمت صالة شقتهم بمحمد الرشيدي ووالده الحاج أحمد الرشيدي والحاج محمود الفحام وخاله عبدالرحيم وغيرهم بينما وقف أبوه ممسكًا بالجريدة التي حملت صورة المتهم, وسمعه يصيح فجأة: (يا نهار أسود, ده محمود السمكري) صعد على الكنبة ورأى الصورة ولكنه لم يتعرف إلى محمود السمكري جيدًا. في طريقه إلى المدرسة صباحًا كان يراه وهو يجلس بالقميص والبنطلون وراء منضدة صغيرة من الصاج, أسمر اللون وممتلئًا قليلاً, يعطي جنبه للطريق وهو يتلو القرآن ويتمايل في إيقاع منتظم وقد عصب رأسه بمنديل. خيّل له أن وجه صاحب الصورة أكثر ضخامة وسوادًا. اندفع جاريًا مع غيره من الأولاد ناحية الدكان. كان الباب عبارة عن شيش من الصاج يثبت إلى الأرض بقفل كبير, وكأن شيئًا قويًا قد ضغطه على المحتويات حتى ألصقه بالجدار الخلفي, بينما ظلت حافة هذا الباب مثبتة في مقدمة الدكان. سنوات طويلة وهو على هذه الحال, ثم تعاقب المستأجرون. مرة رآه محلاً للحلاقة, ومرة رآه ممتلئًا بأكياس الإسمنت الورقية الفارغة بينما جلس أمامه رجل يقوم بفك هذه الأكياس وقطع زوائدها, ليقوم آخر بتحويلها أكياسًا أخرى صغيرة. الآن, في ضوء النيون, وراء الطاولة الزجاجية وبرطمانات الحلوى وأكياس الشيبسي والبوزو واللبان, والبالونات الملونة المعلقة, كانت البائعة الشابة واقفة تعبث بالمسجل الصغير.
عند الناصية صافح شقيقه, ولاحظ دكان صانع الحقائب المدرسية, وكيف انخفض مدخله إلى الحد الذي جعله يلمح كتفي العجوز وهو يجلس هناك تحت مستوى الأرض وراء المنضدة التي وضعت عليها ماكينة الخياطة, واللمبة المدلاة من السقف تكاد تلامس قمة رأسه الخالية. وقبل أن يخرج إلى طريق النيل, جاءه صوت سلامة من بعيد:
(ماتنساش موضوع الأرض).
جلس على حافة الشاطئ.
كان النهر ساكنًا, وبدت أضواء المصابيح التي انعكست فيه عكرة وذاوية.
فكر عبد الله بن عثمان أن الماء نائم.
الأرض?
تلك التي يحلم بها إخوته.
أين? وكيف?
كانت هذه الأرض ملكًا, في الأصل, للجدة الكبيرة عزيزة.
وعزيزة ماتت.
الثلث ورثته ابنتها هانم, جدّته, والثلثان ورثهما ابنها عبد العزيز, شقيق جدّته.
وظل عبد العزيز يفلحها بنفسه.
لكن عبد العزيز مات.
والعمدة عبد الرحمن أعطاها لمستأجر من معارفه.
أبناء عبد العزيز لهم الحق في ثلثي الإيجار.
وهانم الثلث.
لكن هانم ماتت.
الثلث, يرثه أبناء هانم.
نرجس, وعبد الرحيم.
ثلث لنرجس, وثلثان لعبد الرحيم.
ونرجس ماتت.
المفروض أن يرثها عبد الله وإخوته.
وعبد الرحيم مات. والمفروض أن ترثه دلال وعيالها. ودلال أخبرته أن العمدة عبد الرحمن مات, والمستأجر القديم مات, وعياله ماتوا ولا أحد منهم يعرف أين هي الأرض ولا من يركبها الآن.
حكاية, لا أول لها ولا آخر. صحيح أن كل حي منهم له حق, ولو شبرًا, في هذه الأرض.
لكن أين? وكيف?
ويسافر يقول يا من...?
راح يمشي ويفكر. وقام عبد الله واقفًا.
زمان كانوا يستقبلونهم على رصيف المحطة. ينحنون عليه ويعبثون بشعره. يحملون الحقائب عن أبيه ويتجهون إلى الدار حيث تقف جدته هانم وأمها عزيزة في ركن البوابة الكبيرة. كان يعرف أنه سوف ينزل من القطار, يعبر الطريق السريع ويتجه إلى مدخل القرية, حيث شونة القمح في الناحية اليمنى والطاحونة في اليسرى, تلك التي كان صوت صفارتها المتقطع يظل يتردد ليل نهار في أذنيه طوال فترة الإجازة. بعد أن يمشي قليلاً يجد الطريق قد أصبح اثنين. يمتد أحدهما إلى الجهة التي ذهب فيها مع سالم لكي يلعبا عند الساقية وشجرة الجميز الكبيرة والنخلة التي زرعوها يوم مولد أبيه (النخلة دي يا واد يا عبد الله زرعوها يوم ما اتولدت), كان يقبض على كفه ويقف تحتها, قال: (اسمها نخلة البهي). وسيدي علي الشمبابي الذي ظلت أمه تذكره طول العمر. وراشد الميكانيكي الذي كان يعود في آخر قطار ويصيح في العتمة وهو مخمور أيام الانتخابات, (...) ويصيب أهل القرية بالرعب, ثم أطلق لحيته ولبس الجلباب على اللحم وصار من أولياء الله الصالحين. مرة أكل من ثمار الجميز السابح في ماء الترعة. وفي الليل تقيّأ وخافوا عليه, وأيقظوا سالم من النوم وأخبرهم واطمأنوا.
أما الآخر فيفضي إلى دكاكين. وهناك مَنْحل, في الجانب الأيسر من الطريق. وهناك جُرن, والبحيرة, وبيت جدته هانم وأمها عزيزة.
كان الخال الكبير عبد العزيز يصنع له أرجوحة من حبال يربطها في عروق السطح العالية.
مرة أكل ثمرة باذنجان رومية عسلية اللون قطفها بنفسه من شجيرة قصيرة خضراء.
(...)
مرة كان شباب يهيجون العصافير التي تبيت في سقف حوش الدار الكبيرة. يقبضون عليها بالطواقي المفتوحة, ويعطونه واحدة لا تلبث هي الأخرى أن تطير.
مرة أخذه خاله عبد الرحيم وسهر مع شباب كبار على مصطبة ممتدة عند البحيرة الكبيرة. كانوا يرفعون وجوههم في صمت إلى واجهة قصر كبير من الطين بها صف عالٍ من النوافذ الطويلة المعتمة. فجأة, لاح نور برتقالي خفيف في واحدة من هذه النوافذ العالية من لمبة محمولة. وبان وجه بشعر طويل, ثم انطفأت اللمبة.
وهمس صوت: (عايدة).
وهو صغير, كان الأولاد في مثل سنه, ينصبون فخاخهم على شاطئ النيل, ويغطونها بطبقات رقيقة من التراب, أو الأعشاب, لا يتركون ظاهرًا منها إلاّ تلك الديدان الدقيقة, أو حبات القمح, والأرز, التي يطعّمون بها هذه الفخاخ المصنوعة من السلك.
بين حين وآخر, وهو واقف, كان يرى فخًا أو أكثر وهو ينطبق, يثير رذاذًا من القش والعفار وقد أمسك بواحدة من تلك العصافير الصغيرة, التي كانت تنتقل, بين أغصان الأشجار المائلة, وشاطئ النهر المنحدر.
حصل لنفسه على فخ, ولكنه لم يفلح أبدًا في اصطياد عصفور مثل بقية الأولاد, هؤلاء الذين يباهي الواحد منهم باصطياد أكثر من عصفور في اليوم.
كانوا يربطونها بخيوط رفيعة, ويدعونها تحلق, وهي جريحة, وتقع وهم يمسكون بطرف الخيط, ويضحكون.
جرّب حظه على امتداد الشاطئ كله.
نقل فخّه من موضع إلى آخر.
وضع قمحًا, وأرزًا, كما استخدم الديدان الصغيرة, وكان الفشل من نصيبه, كانت نرجس تعرف, وزاده ذلك إحساسًا بقلة الحيلة, والخجل من أقرانه, والألم.
مرة, ذهب يشتري شيئًا, أثناء عودته, لمح عصفورًا صغيرًا يعرج, وقد اتكأ بكتفه على أحد الجدران. حمله مسرعًا.
وضعه في جيب جلبابه الجانبي, وصعد الدرجات القليلة. أعطى ما اشترى لأمه وهو حريص على أن يبدو طبيعيًا. أخذ فخه من تحت طاولة الكنبة, أخبرها أنه ذاهب لاصطياد عصفور, وخرج كأنه ذاهب إلى شاطئ النهر, صعد السلم خفية إلى سطح البيت.
أراد أن يضعه في الفخ, ويمضي فترة, ثم يعود إلى أمه حاملاً العصفور, كأنه اصطاده.
اعتلى الحجر الكبير عند سور السطح, وأخرج العصفور من جيبه, وفتح حلقة الفخ.
حاول أن يجعله ينطبق على رقبته, برفق, لكنه صوصو من الألم.
حاول مع قدميه, جناحيه, لم يكف العصفور عن الألم, وهو الذي لم يطاوعه قلبه, وقف يفكر في هذه المشكلة, فجأة, رمقته عينه القريبة بنظرة لامعة, خمشه بأظافره الرفيعة الحادة.
جرحه, وقفز.
مال وراءه.
تابعه وهو يهبط ناشرًا جناحيه الخفيفين, ويحط على سور السطح المجاور المنخفض.
ومضت فترة, وألقى بنفسه مرة أخرى.
كان يحاول, إلاّ أنه ظل يهبط حتى حاصرته جدران البيوت في الحارة الجانبية الضيقة.
أوشك أن يقع بين الأولاد الذين راحوا يقفزون في محاولة للإمساك به, بينما هو يتشبث بخشونة الأحجار هاربًا, وقد التفت إليهم بوجهه الصغير, مرفرفًا من جدار إلى آخر حتى هدّه الإعياء, وعندها أدرك أن العصفور هالك لا محالة, لكن العصفور تعلم الطيران, نهض محلقًا حتى صار فوقه, وحوم مرتين, ثم اندفع يعبر الأسوار والأشجار, ويعلو في براح السماء البعيدة, ويختفي.
صعد درجات السلم على مهله.
فتح باب الشقة, ووقف في الصالة, لمح قدمي زوجته النائمة عبر باب حجرة النوم الموارب, ودخل غرفة الولدين.
كل واحد على سريره المعدني المفروش. الكبير جذب الغطاء حتى رقبته, والصغير دفع الملاءة إلى حافة السرير.
سحبها عليه, ودثره جيدًا.
وبينما هو مائل يربت على ظهر الولد النائم, شعر عبد الله بن عثمان بيد أبيه تلامس كتفيه من خلف.
وارتجف في العتمة.
وفي عنبر الرجال, كانت دلال تجلس على البلاط بجوار الدولاب المعدني الصغير الذي وضعت عليه علب الدواء, وبطاقة التأمين الصحي, ودورق الماء, والكوب.
كان المغص يشتد عليها فتمد ساقيها تحت السرير, أو تلعب بالخرطوم الأصفر المدلى من أسطوانة الأكسجين. وبين وقت وآخر, كانت ترفع رأسها لتطمئن إلى عبد الرحيم الذي جلس على الفراش منذ أيام, وقد تعب قلبه وزحف الورم إلى وجهه وقدميه, فإذا رأت دماغه مائلاً على صدره أكثر مما يجب, أو بان لسانه وانقطع نفسه, كانت تقوم وهي تتشبث بحافة السرير, تفتح صنبور أنبوبة الأكسيجين كما علموها, وتتناول الخرطوم الرفيع, وتروح تحرك طرفه أمام فمه المفتوح وأنفه المائل. تظل تفعل ذلك حتى تنتظم أنفاسه ويستفيق. حينئذ تغلق الصنبور وتعود إلى مكانها. تستغرق في أي شيء يخطر على بالها, أو تعيد ترتيب الأشياء على الدولاب, أو تذهب إلى دورة المياه, أو تسأله:
(أعصر لك لمونة يا عبد الرحيم?)
(اقعدي).
(بتقول إيه? مش سامعة).
(أختي نرجس جت?)
(لسه).
(عبد الله ابن اختي جه?)
(لسه. هو انت عاوز حاجة?)
(عاوز سيجارة).
ويميل بعينه, ويهمس: (الراجل اللي قاعد هناك ده, أبو طربوش, هاتي منه سيجارة, قولي له لغاية عبد الله ما ييجي).
وتتلفت دلال حولها وتقول: (هو فين اللي قاعد ده? الناس كلها نايمة ياعبدالرحيم, وما حدش لابس طربوش).
(طيب اسكتي).
(هه?)
(اسكتي).
(أديني سكتّ).
وتقعد.
كان العنبر صغيرًا, به أربعة أسرة مشغولة بمرضى قلب وفشل كلوي. وكانت دلال خلال الأيام التي رافقت فيها عبد الرحيم قد عرفت سكة الشارع, وحجرة الحكيمات, ودورة المياه. وفتحت الدولاب, وقعدت تنكش في نشرات الأدوية, وتبتسم لنفسها دون أن تحس بنرجس التي جاءت تلهث في ثوبها الأسود, وهي تحمل كيسًا من البرتقال, وقعدت على حافة السرير وقالت:
(إزيك النهار ده يا عبد الرحيم?)
وقالت دلال دون أن تكفّ عن الابتسام: (أختك جت يا عبده).
(أختي مين?)
(أختك ام عبد الله).
(إزيك يا نرجس?)
(إزيك انت يا عبد الرحيم?)
(أنا كويس).
وقالت نرجس: (عواف يا دلال).
(الله يعافيكي يا عمتي?)
وتناولت كيس البرتقال وحشرته في الدولاب: (أقشر لك واحدة يا عبد الرحيم?)
(واحدة إيه?)
(برتقان).
(لا).
مدت دلال يدها وأخذت واحدة قشرتها وبدأت تأكلها ولكن المغص زاد عليها وقرصها أسفل بطنها, وفكرت أن تترك عبد الرحيم برفقة عمتها نرجس, وتنزل إلى العيادة الخارجية, تقطع تذكرة وتدخل إلى الحكيم يكشف عليها ويصف لها العلاج. ولكنها تذكرت أنها غادرت الدار في فضل الله عثمان مسرعة وراء عبدالرحيم وجاءت إلى المستشفى دون أن ترتدي سروالها الداخلي, ووضعت نصف البرتقالة على سطح الدولاب الصاج, وقامت واقفة, ومالت عليه وقالت:
(عبد الرحيم. عبده).
وفتح عبد الرحيم عينيه دون أن يرفع رأسه أو يردّ.
(أنت سامعني?)
(أيوه).
نرجس انتبهت للكلام, ولكن البنت دلال همست داخل أذن عبد الرحيم اليمنى, وطلبت منه أن يعطيها سرواله الداخلي:
(أكشف بيه, وأرجعه لك تاني).
وقال عبد الرحيم: (هيه?)
(اديني لباسك أنزل أكشف بيه).
ومالت نرجس وهي تنقل عينيها بين الاثنين دون أن تتمكن من السمع: (فيه إيه يا ولاد?)
وثقل رأس عبد الرحيم لفترة, ثم سمعته نرجس وهو يتساءل إن كان معنى هذا أن دلال تقف أمامه الآن: (من غير لباس?)
ونرجس ضربت بيدها على صدرها وقالت: (يا مصيبتي. إيه الكلام اللي بتقوله ده ياعبدالرحيم?)
وقالت دلال: (يا خويا قيمة ما انزل لغاية الدكتور واطلع).
(آه يا مره يا بنت الكلب).
ابتسمت دلال وهي تستدير. وغاب هو مرة أخرى.
وعندما أفاق, رجع يقول: (لباسي?)
وضمت نرجس أصابعها أمام فمها الخالي من الأسنان: (يا نهار منيّل. كلام إيه ده يا ولاد?)
وقالت دلال: (جرى إيه يا عبده? هو أنا حاكله?)
(آه يا مره يا بنت الكلب. يا بنت تفيدة يا ناقصة).
وهمست نرجس: (عيب يا عبد الرحيم).
(اسكتي يا نرجس).
(طيب يا خويا وطّي صوتك).
(أوطّي صوتي ازاي? أنا لازم أفضحها).
وبدأ يلهث.
اتجهت دلال إلى أنبوبة الأكسجين. وراقبتها نرجس وهي تفتح المحبس, ثم وهي تحرك الخرطوم أمام أنفه وفمه المفتوح, ولاحظت أن عبد الرحيم هدأ وترك رأسه يرتاح على صدر دلال الممتلئ.
ونرجس مدت يدها من سكات وتناولت الخرطوم الذي تركته دلال على طرف السرير, وحركته أمام شفتيها وخدها الأيسر, وانتبهت بعينيها وهي تحس بهذا النفس من الهواء الرطب وهو يلامس بشرتها مثل خيط غير مرئي. ورفعت وجهها إلى الأسطوانة الطويلة عند رأس السرير, وإلى عبد الرحيم الذي نام بينما دلال تعبث بشعره الناعم بأصابعها السمينة البيضاء.
وجاءت ممرضة سمراء اللون.
وقفت في مدخل العنبر وقالت بمرح: (إيه يا دلال, جوزك عامل إيه?)
حلو يا ست سلوى. تعالي كلي برتقان).
(متشكرة).
اتجهت الممرضة إلى الأنبوبة. أغلقت الصنبور, ووضعت يديها في جيبي معطفها الأبيض, وأشارت برأسها إلى نرجس: (أمك?)
(لا. دي عمّتي. أخت سي عبد الرحيم).
(أهلاً يا حاجة).
واستدارت خارجة.
قالت نرجس وهي تتابع مؤخرتها المحبوكة: (أهلاً يا ختي).
وقال عبد الرحيم دون أن يفتح عينيه: (طول عمرك وانت مَرَه دون).
وقالت نرجس: (هو فيه إيه يا عبد الرحيم?)
(بنت الكلب عاوزة تورثني بالحيا).
(أهو طول النهار على كده يا عمّتي).
وفتح عبد الرحيم عينيه وقال: (لمى رجلك بعيد عن المية يا نرجس).
نرجس مالت ونظرت تحت قدمها المدلاة, ورأت البلاط الجاف, ولما سألته عن مكان هذه المياه قال: (في القناية).
وهي استغربت وقالت في سرها: (قناية إيه يا أولاد? هو احنا في الغيط? ده أحنا في المستشفى).
وقال عبد الرحيم: (أمك هانم عامله إيه يا نرجس?)
(أمك حلوة).
(والعيال?)
(يا خويا كلهم حلوين. خليك انت في نفسك).
وقال عبد الرحيم: (يا سلام يا نرجس). وأخبرها أن الولد عبد الله الصغير لو حفظ جدول الضرب: (يبقى عال).
وقالت دلال: (ما هو حافظه).
(اتلهي).
(والنبي حافظه).
(والنبي ما حد خيّبه غيرك).
(أنا?)
قال: (آه).
وثقل برأسه على صدرها.
مات.
حاولت أن تجعله يجلس كما كان في الأول ولكنها لم تقدر وتأكدت أنه مات.
وما إن صرخت حتى وقعت نرجس بين الحياة والموت.
واستيقظ المريض الذي يرقد على السرير المجاور, ومال يتطلع إليهم بوجهه الشاحب وعينيه الغائرتين.
حاولت دلال أن تمسك نفسها تحت ثقل الجسد الذي كانت تحوطه بذراعيها دون أن تكف عن الصراخ, الأمر الذي جعل عبد الرحيم يقوم من الموت ويقول غاضبًا: (أنت بتصرخي في ودني كده ليه?)
خرست دلال واختلط عليها الأمر ولم تعد ترى.
وجاءت الممرضة سلوى وقالت: (مالك يا دلال, بتصرخي ليه?)
واعتدل عبد الرحيم على صوت الممرضة وقال: (أنا عارف إيه اللي جرى لها?)
انحنت الممرضة على نرجس وربتت على خدها: (قومي يا حاجة. المريض بخير).
وفتحت نرجس عينيها وهي نائمة على البلاط: (إخص عليك يا عبد الرحيم).
ومسحت عينيها بمنديلها الصغير.
وابتسمت.
محمد أفندي الرشيدي طلع على سطح البيت ونظر إلى عربة ابنه المركونة أمام الباب وأم حسين البقالة وهي مشغولة ببيع العيش.
محمد أفندي رفع دماغه بشعره الخفيف ولاحظ سطوح البيوت الخالية إلاّ من حبال الهدوم المنشورة, وقال إن أم حسين الحمارة ضيّقت السكة بهذه الأقفاص, وأية عربة تريد أن تمر من هنا لتذهب إلى السوق, لازم تقوم هي من مكانها وتسحب هذه الأقفاص لغاية عتبة الدكان. ومال برأسه أكثر ورأى فضل الله عثمان من أوله. وعندما وجده خاليًا ولا توجد أية عربة قادمة أحس بالضيق وغادر مكانه ووقف أمام الصبّارة المتربة في ركن السطح. رأى طينها الذي جف وتشقق داخل آنية الفخار المدورة, وفكر أن يذهب إلى الحمام ويملأ كوب الماء الكبير من الحنفيّة ويرويها.
راح ينزل السلم على مهله دون أن يلتفت إلى باب شقته المفتوح, وعندما وصل إلى الدور الأرضي, وقف أمام الباب الموارب, ومد إصبعه ونقر على باب الشراعة المقفل.
(ادخل ياللي بتخبّط).
محمد أفندي وضع كفه على خشب الباب.
دفعه بهدوء وهو يستمع إلى صريره البطيء ولبث واقفًا حتى تعودت عيناه عتمة المكان, ورأى الست أم عبد الله التي تجلس في ركن الصالة.
تقدم وقعد على طرف الكنبة القريب وهو يلم حجر جلبابه ويقول: (صباح الخير يا ست ام عبده).
(أهلاً يا سي محمد. أهلاً وسهلاً).
ونظرت نرجس بعينيها الدقيقتين إلى سلسلة الساعة المعدنية وهي مثبتة بعروة الزرار ومدلاة على صدره, وقالت إن أحدًا من الأولاد ليس هنا: (كان عمل لك كباية شاي).
(مفيش لزوم. هم كلمتين, وردّ غطاهم).
(خير).
محمد أفندي الرشيدي رفع وجهه إلى صورة البهي عثمان وهي في البرواز المعلق على الجدار المطلي بالجير الأخضر الباهت, ثم نظر إلى قدميه في شبشب أم حنان, وفكر أنها هي الصورة نفسها التي أخذها المرحوم في استوديو عنتر على البحر ولكنها مكبرة. وسألها أكانت عرفت أنهم اشتروا عربة فيات 821. ونرجس قالت: (أمال إيه). وأخبرته أن: (ده كلام له شهور). وأنها التقت أيامها بأم حنان في المنور وهي تسقي الفراخ وقالت لها مبروك. (تاني يوم على طول).
محمد أفندي قال إنه سمع بهذا الكلام: (لكن أنا زعلت قوي لما لقيت ابنك بيفضّي الهوا من العجلة).
(إبني?)
(يوماتي على الله).
(وده مين فيهم يا ترى? عبد الله ولا سمير ولا سلامة?)
(أهو أي واحد فيهم).
ولكن نرجس قالت كيف ذلك? إذا كان عبد الله الحكومة ماسكاه, وسمير وسلامة لا يأتون إلاّ في النادر, والبنات كل واحدة عايشة في بيتها مع زوجها وعيالها?
(لكن بيزوروكي).
(وافرض? دول رجاله يا أبو حنان).
وأبو حنان قال إن عبد الله وسمير وسلامة أولادنا, ولو كانت المسألة عبارة عن يوم أو يومين:
(كنت قلت وماله, يلعبوا زي ما هم عايزين).
ثم أوضح لها أن هذا شيء يطول أمره لأنها عربة 821 وموتورها بالعرض:
(الـ 821 كده).
موتورها بالعرض. وهي عربة ملاّكي فعلاً, وأي واحد يراها أمام الباب يقول إنها ملاّكي:
(لكن احنا ناويين نقلبها تاكسي).
ونعمل لها عمرة, وهذا شيء يحتاج إلى مصاريف كبيرة, قد تأخذ شهرًا, أو سنة, أو الله أعلم: (وطبعًا عيب قوي يفضلوا طول المدة دي يفضّوا العجلة, واحنا ننفخها, وهم يفضّوها, واحنا ننفخها).
ونرجس نزلت عن الكنبة وهي تقول إن هذا الكلام لا يصحّ أبدًا وإنه زاد عن حدّه.
وأسرعت بمغادرة الصالة ووقفت في الحوش ورفعت رأسها بالمنديل الأسود وراحت تنادي: (يا أم حنان. أنت يا أم حنان..)
وأبو حنان تركها تنادي وغادر الشقة ونزل الدرجات القليلة ووقف في مدخل البيت عند مؤخرة العربة المركونة. وظل هكذا حتى سمع صوت الصفير المكتوم, وتقدم ورأى البنت الصغيرة التي تجلس بجلبابها الحريري الأخضر عند العجلة الخلفية وفي يدها عود الكبريت الخشب.
كانت تحشره داخل البلف , والهواء المحبوس يندفع ويغلق عينيها ويطير شعرها الناعم, وراح يعبر الطريق متمهلاً, ويقف أمام ام حسين البقالة: (صباح الخير يا ست ام حسين).
أم حسين أمسكت بالرغيف القريب وألقت به في الناحية البعيدة من القفص المكشوف: (أهلاً وسهلاً).
(البنت بنت حسين ابنك, يوماتي على الله, تفضّي الكاوتش بتاع العربية).
(اضربها).
(لأ يا ست ام حسين, فيه ناس كبيرة لازم الواحد يرجع لهم, وبعد وفاة أبو حسين, بقيتي انت الكبيرة بتاعة الدكّان).
(ولما انا الكبيرة بتاعة الدكان, أسيب البيع والشرا, وأقوم أجري ورا عيلة?)
(طيب والحل يا ست ام حسين?)
(ما انا باقول لك مش عاجبك. لما تلاقيها بتعمل كده, امسكها اقطم رقبتها).
ثم صاحت: (قومي يا بنت من عندك. أنا عارفة إيه اللي عاجبك في المخروبه دي?)
والبنت قامت تجري وهي تضحك بصوت مسموع.
وأبو حنان قال إنها لو كانت مسألة يوم أو يومين كان تركها تلعب كما تريد, لكنها مسألة طويلة. الست أم عبدالله عندها فكرة كاملة عن الموضوع. والتفت إلى جامع السنية في الناحية الأخرى من فضل الله عثمان:
(هو الضهر أذّن وإلاّ لسه?)
وقالت أم حسين إنها لم تسمع: (ما هي حاجة تقلب الدماغ).
استدار محمد أفندي الرشيدي ودخل البيت.
طلع السلالم القليلة ومد يده بهدوء ودفع الباب الموارب وهو يستمع إلى صريره البطيء, ورأى أم عبدالله وهي تجلس مكانها, وفكر أن يسألها أين كبّروا صورة المرحوم أبو عبد الله وكم كلّفت هي والبرواز, وراح يصعد السلم حتى وصل إلى السطوح.
كان حفيده الصغير قد رفع جلبابه عن بطنه المنفوخ ووقف يبول على الصبارة المزروعة: (آه يا كلب).
وراح الولد يجري ضاحكًا دون أن ينزل الجلباب أو يكف عن التبول.
ظل يتفرج عليه ويتابعه وهو ينزل السلم, ثم اتجه إلى سور السطح, ونظر مرة أخرى إلى فضل الله عثمان, ورأى العربة مركونة أمام الباب, وأم حسين البقالة وراء الأقفاص. ولمح البنت الصغيرة وهي تأتي من بعيد فتراجع على الفور وخبأ نفسه جيدًا. فكر أن يتركها تطمئن وتلعب في العجلة, ثم يذهب إلى الحمام ويملأ كوب الماء الكبير من الحنفية ويصبّه عليها من هنا. وتطلّع إلى الصبارة المتربة. ورأى آثار البول وقد تناثر على أوراقها وبين لونها النظيف الداكن. وقال إنها تجلس الآن على الأرض بجلبابها الأخضر, تدفع عود الكبريت في بلف العجلة, والهواء يطير شعرها وتضحك. واقترب على أصابع قدميه حتى التصق بالسور, ومال بنفسه فجأة.
لكن محمد أفندي الرشيدي, لم يستطع أبدًا أن يراها.
نرجس استغربت كلام محمد الرشيدي عن أولادها وكاوتش العربية وقالت: (يا دي الخيبة على كده ياولاد). وخطر على بالها الفرق بينه وبين والده المرحوم أحمد الرشيدي. ورأته رأي العين وهو يمرّ أمام باب الشقة أثناء طلوعه أو نزوله, وبطنه الكبير يرفع الجلباب ويجعله قصيرًا من الأمام وطويلاً من الخلف, يمرّ وهو يصيح بصوته: (عواف يا ست أم عبد الله). كان ناظر محطة قدّ الدنيا قبل خروجه على المعاش وكلمته واحدة. لم يكُن يعيبه إلاّ عدم الصلاة التي أغضبت منه السنيّة في الجامع وأرسلوا له الحاج محمود الفحام, وكلّموا ابنه محمد والبهي لكي يضغطوا عليه, ثم فاتحوه بأنفسهم, وهو يقول إن شاء الله ولا يذهب. ظل بصحته وصوته يجيب آخر فضل الله عثمان, إلى أن قام أولاد الحرام الذين لا يعرفهم أحد بالاعتداء عليه, وبهدلوه, ياعيني, في الشهر الكريم وساعة الإفطار, وهو قاعد مع أولاده على الطبلية. البيت كله سمع الصوت وهو ينادي مستغيثًا: (يا عم أحمد, يا عم أحمد يا رشيدي). والرجل قام من على الأكل واندفع يلبي النداء صائحًا: (جايلك). وفتح باب الشقة ليفاجأ بضربة من (بونيه) حديد هرست ذقنه وكسرت عدة أسنانه وخرمت أنفه وألقت به على ظهره غارقًا في دمه وقاطع النفس ياولداه, البيت كله جرى على السلم. لكن فضل الله عثمان كان خاليًا من الناحيتين لا يوجد به مخلوق يوحّد الله. ونرجس نظرت ناحية الباب الموارب وشعرت بالخوف وفكرت في عيالها والبيت الذي خلا عليها. اثنا عشر ولدًا وبنتًا فقدت نصفهم وهم أطفال. ولأن الذين رحلوا لم يبرحوا قلبها فإنها تخلط بينهم وبين الأحياء. تلاحظ ذلك عندما تدعوها الظروف إلى الكلام على عيالها, فهي تعدهم على أصابعها بتمهل لكي تفرز الباقين من الغائبين. ترفع الإصبع وتقول: عبد الله, وترفع الثاني وتقول: إحسان, سلامة, سمير وهكذا. وقالت الله يرحمك يا سي البهي. وتذكرت يوم ذهبت لرؤية أمها, أقل من نصف ساعة شربت فيها الشاي ورجعت هي وعبد الرحيم لتجد أن ربنا افتكره وهو قاعد على الكنبة بالفانلة واللباس ولابس زنط المصلحة. كان رحيمًا بها وجعلها تذهب لزيارة أمها في هذه اللحظة بالذات. ونرجس قالت في نفسها يا ترى لو لم تذهب لرؤية أمها كان البهي: (ح يموت برضه وهو قاعد على الكنبة بالفانلة واللباس? ولا وهو بيكلمها? ولا وهو نايم ولابس هدومه?) واستغفرت ربنا. وتذكرت أنه طلب منها أن تحضر المنشار من عند عبد الرحيم, وأن عبد الرحيم أحضره لما جاء معها, وقالت: (يا ترى كان عاوز المنشار في إيه?).
ولما لم تعرف زاد أساها وقالت: (يا ريتني سألتك ياسي البهي).
وبكت وهي قاعدة وحدها.
قالت نرجس:
(مش بسيمة ماتت يا عبد الرحيم?)
التفت عبد الرحيم صامتًا, بعينيه المجهدتين.
كان النور مقطوعًا من فضل الله عثمان, واللمبة الجاز على التلفزيون في الجانب الآخر من الصالة, ضوؤها المحمر الخفيف يخايله الهواء, ويحرك الظلال.
(والنبي ماتت).
(مين قال لك?)
(زينب. بنت علي منصور).
(يا ترى كانت عيانة?)
(ما قالتش).
اعتدل عبد الرحيم قليلاً وهو يجلس على الكنبة, هزيلاً في جلبابه الكتان, قدمه اليمنى تكاد تلامس ركبة شقيقته التي قعدت على الكليم المفروش في ملتقى الكنبتين. البراد الأزرق على الوابور المشتعل, والصينية القيشاني, بإطارها المعدني القديم, عليها عدّة الشاي, وأعواد النعناع الذي ذبلت أوراقه.
(أم حنفي بعافيه شويه. رحت أطل عليها, لقيت زينب عندها. أنت عارفها والا لأ? بنت علي منصور صاحب البيت القديم?).
(عارفها مش بنته الصغيرة?).
(صغيرة? دي بقيت ناظرة مدرسة).
قالتها نرجس وهي تحدق عبر باب الشقة المفتوح إلى حوش البيت المظلم, وقد أرهفت أذنيها وأطبقت فمها الخالي من الأسنان. فعلت ذلك حتى انتفض غطاء البراد من غليان الماء, فانشغلت بصب الشاي, وانتبه عبدالرحيم لرنين الملعقة في زجاج الأكواب:
(صعبت عليّه المنيّلة. فضلت الدموع تسح من عينيه طول ما أنا قاعدة, أنا دور وأم حنفي دور, لما عمينا).
وجففت عينيها بطرف جلبابها الأسود, وتنهدت: (يا الله.. ربنا يغفر لعبيده).
عبد الرحيم فهم المعنى الذي قصدته نرجس. وفكّر أن يقول, كما قال قبل سنوات طويلة, إن مشيها لم يكن سيئًا كما كان يشاع. فكّر أن يبوح لها الآن, للمرة الأولى, بأن بسيمة هي التي رفضت أن تتزوجه, وأنه كان مستعدًا لعمل أي شيء, حتى بيع الأرض, من أجلها. أراد عبد الرحيم أن يُسمع نرجس هذا الكلام, لكنه قال, بينه وبين نفسه: يا واد لا تقول ولا تعمل. ما بقاش ييجي منه) وانقطع وشيش الوابور فجأة عندما أطفأت نرجس شعلته, واختفت ملامح وجهها لما زادت العتمة, وبدأت تعود. ورفع كوب الشاي, وشم رائحة النعناع.
سبحان الله.
عشرون عامًا الآن?
خمسة وعشرون? ثلاثون?
كان يصعد خلسة إلى حجرتها الوحيدة على سطح البيت.
الدولاب في مواجهة الباب, والفراش في الناحية اليمنى, وفي الجانب الآخر, تحت النافذة العالية المفتوحة (يرى السماء من خلالها حين ينام على الفراش), كانت تضع تسريحة بمرآة بيضاوية, صغيرة ولامعة. وكان عندها إصبع روج وعلبة كريم ومشط, وزجاجة عطر, وبودرة وكحل بلدي. وكان عندها فستانان, واحد أصفر بزهور حمراء, خفيف وله حزام, وواحد صوف من قطعتين, وعدد كبير من الكيلوتات الحرير وقمصان النوم العريانة. تحطّ أحمر وأبيض, وتكحل عينيها. تطلع وتنزل, وتقعد طول النهار مع السكان وتهزر, بجسدها الجميل الأبيض, واستدارة كتفيها الناعمتين. ظلت تفعل ذلك رغم كل الكلام حتى أطلقوا عليها (بسيمة الموضة), واتهموها بالمشي البطّال. يتذكرها عبد الرحيم وهما وحدهما في الحجرة, قبل أن يسبقها إلى محطة الترام لكي يذهبا إلى سينما (أولمبي) على مقربة من بوستة العتبة حيث يعمل. هو عند الباب, وهي هناك, تفتح دولابها وتقف طويلاً, رأسها بشعرها الكثيف المقصوص مائل إلى ناحية. يدها اليمنى في خصرها, واليسرى مرتفعة تمسك ضلفة الدولاب التي لا تفتحها كلها, تتأمل ثيابها القليلة, بألوانها الزاهية.
يستعجلها دون فائدة. فهي تراها أولاً على بعضها بعضًا. ثم تتوقف عيناها عند كل واحدة على حدة. تعيد وضع هذه, وتلمس تلك, القطع التي رتبتها بعناية على الرفوف شبه الخالية, بعد أن أعطته ثياب زوجها الأول.
كان ينصرف وهي ما زالت في وقفتها, فرحانة بهدومها وحائرة. وعندما تلحقه, وقد ارتدت فستانًا من الاثنين, كانت تبدو في زينتها مثل عروسة, ملونة ومعطرة.
وتضحك. أحيانًا كانت زينتها تحرجه.
وساعات كان كلامها بالصوت العالي يخجله.
يذكر ملامحها الغاضبة, ودهشتها: (أنت بتنكسف مني يا عبد الرحيم?)
وبكت.
ظلت طول الطريق تبكي أمام الناس ولا تبالي.
رفضت أن تسامحه, أو تركب الترام.
وفي الصباح, صالحته.
بدأت تعامله كأي واحد من السكان, تبتسم له, وتسلم عليه.
لم تخرج معه بعد ذلك أبدًا.
عبد الرحيم أخذ رشفة أخيرة من الكوب.
ومد يده إليها.
هي حدقت في صمت, وهو ابتسم في النور الخفيف. ولمح أوراق النعناع مائلة, على كمية من تفل الشاي المبلول.
كانت نرجس تفكر, وهي قاعدة مكانها في ملتقى الكنبتين, أن أول شيء سوف تفعله, (لما يفرجها ربنا), أن تشتري طبق قيشاني واسعًا للأرز, وسلطانية شربة كبيرة, بدلاً من تلك التي كانت عندها أيام زمان, وانكسرت.
كانت نرجس تفكر في ذلك وتستغرب, لأنها باعت ذهبها كله, البندقي عيار الأربعة والعشرين, كردان أمها هانم, المشغول أبو دلايات, وخلخال ستها عزيزة, وشبكة البهي عثمان, الغوايش, والحلق المخرطة الثقيل. وباعت نحاسها الأحمر, الحلل, والمصفى, والإبريق القديم, وطشت الحموم والغسيل, والمغرفة. باعته مع قسوة الأيام. حتى طقمها الصيني الجميل, لم يبق منه إلاّ صينية الشاي, تهشم قطعة وراء الأخرى. الصحون الواسعة والضيقة, فناجين الشاي والقهوة, وأطباقها الصغيرة المرسومة, واللبّانة, والسكرية, والملاّحة الصغيرة. نرجس تفكر في ذلك وتستغرب, لأنها لا تشعر برغبة في تعويض شيء من ذلك كله, هي تحمد ربنا على أن هذه الأشياء كانت عندها في الأوقات الصعبة, وأن ثمنها سترهم بين الناس. ولكنها تمنت طول الوقت, أن تعوض طبق الأرز القيشاني الطويل, وسلطانية الشربة الكبيرة, بوردها الخفيف, وغطائها الذي تعلوه الكرة الذهبية المدورة.
أشياء كثيرة ضاعت وهي قاعدة مكانها في ملتقى الكنبتين.
ذكراها تعاودها, مثلما تعاودها ذكرى الناس.
سريرها العالي الذي انتهى به الحال مفكوكة أعمدته الطويلة, وشبابيكه المزخرفة السوداء, بحوافها المحلاّة بكرات النحاس الصغيرة الصفراء, التي كان الولد عبدالله يفكها وهو صغير, يسد خرمها, ويلعب بها البليْ مع الأولاد.
ظلت الأعمدة والشبابيك, وخشب الملة الزان, مركونة في حوش البيت وراء السلم. واحتل مكانها سرير منخفض بشبابيك صاج مسدودة, عريض وله سوستة. لا تعرف نرجس لماذا رضيت بذلك, ولا كيف تركت سريرها القديم مركونًا, يمرّ الصيف عليه وينزل المطر, ويتغير حاله ويضيع, قطعة وراء الأخرى. لم يبق منه إلا عروسة واحدة من أربع عرايس نحاس, كل عروسة تشبه الكوب المقفول, منقوشة ولها خصْر, وفتحة ضيقة, لكي تركّب في نهايات الأعمدة, وتربط فيها أطراف الناموسية, بقماشها التولّ الخفيف.
كانت العرايس تظهر, على غفلة, وتختفي.
في الأول, ضاعت واحدة, وضاعت الثانية, والثالثة.
وظلت الأخيرة موجودة حتى الآن.
تغيب, وتبين.
تعثر عليها في بير السلم.
تغسلها وتجففها حتى تلمع, وتركنها في مكان معلوم, وتختفي, سنة, أو اثنتين.
ثم تجدها في يد أحد الأولاد, أو تتعثّر بها أثناء سيرها, أو ترفع داير السرير وتسحب شيئًا فتجدها وراءه. كانت تتركها مكانها بعيدًا عن الأيدي, وتمرّ الأيام لتجدها قد اختفت. وتتعلم من التجربة. تسحب شيئًا وتجدها فلا تتركها مكانها, بل تحملها إلى مكان آخر, تحت الهدوم مثلاً, أو بين المراتب في نهاية السرير, أو وراء كتب عبد الله قبل أن يحملها إلى بيته. وتمرّ الأيام وتنسى المكان, وتغادر نرجس مكانها. ينتهي النهار وهي قاعدة على الكليم. المنديل انحدر عن شعرها الذي شابه البياض, وتراكمت حولها الكراكيب التي كانت تحت السرير, وتحت الكنبات, وتحت الكرسي الكبير, والتي كانت في المطبخ. وفي منضدة التليفزيون المقفلة, والدولاب, الهدوم المخزونة, والزنط الذي بحث عنه البهي وارتداه يوم رحيله, كانت مرمية كلها على الأرض, وعلى المساند المقلوبة, وهي تجلس هكذا وقد أغلقت فمها الخالي من الأسنان, وجف وجهها الملتهب, تتأمل العروسة, وتقلّبها في حجرها, وتمسح الغبار عن نحاسها القديم المنقوش, وتفكر في مكان تضعها فيه بحيث لا تغيب أبدًا عن عينيها.
الدنيا ليل, والعيادة في دور أرضي من بيت بلا باب في فضل الله عثمان. صالة كبيرة فيها مقاعد مختلفة الأحجام. والأرض خشب لون التراب لكن مكنوس. عبد الله قاعد على يمين المكتب الصغير, والتومرجي العجوز عند الستارة المدلاة على مدخل حجرة الكشف البعيدة, وهناك, صورة باهتة لامرأة ترضع طفلاً من صدر عريان, والنور خفيف, والجير واقع عن الجدران.
كان عبد الله في انتظار الطبيب. يحاول مرة بعد المرة أن يستعيد شيئًا مما بقي في الذاكرة, حين ترددت به أمه صبيًا على هذا المكان.
يذكر وجهًا شابًا, بشوشًا, ضاعت ملامحه,
يذكر شعرًا منكوشًا, أو خشنًا, مائلاً إلى الحُمرة.
لا بد أنه تغير الآن.
كان يعرف أن لأمه ثقة كبيرة به, طبيب فضل الله عثمان القديم وأقربهم إلى البيت.
مع أنَّ أولادها, وأولاد أولادها, يترددون الآن على الطبيب الشاب في العيادة المشتركة فوق الجامع, فإن سيرة المرض لا ترد أبدًا دون أن يذكر الدكتور رفعت بشكل أو بآخر.
(الدكتور رفعت عالجها وبقت زي الفل).
تقول. (أهو الدكتور رفعت أول ما فتح, كانت تذكرته بخمسة صاغ).
(ما تبصش للعيادة المبهدلة اللي هو فيها,
بيقولوا لك عنده عيادة تانية, كبيرة في باب اللوق , كشفها غالي قوي).
(أسكت يا عبد الله يا ابني, امبارح وانا داخله عند ستّك هانم, لمحت الدكتور رفعت وهو نازل من العربية, ما عرفتوش, السكر هدّه يا عيني)
وارتجفت الستارة قليلاً, وخرج الطبيب العجوز تتبعه امرأة شابة وهي تعدل من ثياب طفل تحمله.
جلس وراء المكتب الصغير المزدحم, وبدأ ينكش في الورق, بينما راح عبد الله يحدق إلى الوجه الغريب الباسم. سمعه يقول: (هو النهار ده إيه يا حاج شوقي?)
(الخميس).
هكذا قال الحاج شوقي بصوت نحيل وهو يعد الحقيبة الصغيرة السوداء.
(أشوفه يوم الاثنين), قال, وهو يمد يده بالتذكرة دون أن ينظر إليها: (معلقة أول ما تروحي البيت, ومعلقة الصبح. يعني كل يوم معلقتين), وعبث في كوب ممتلئ بالملاعق, انتقى واحدة, رفعها أمام المرأة الشابة وقال:
(قدّ دي).
(حاضر).
ولاحظ عبد الله أنها وسط, بين الكبيرة وملاعق الشاي الصغيرة.
(مش حتلاقي معلقة قد دي, إدّيله مرة ونص من المعلقة اللي عندك, ورضّعي الولد).
وبينما هي تخرج: (لازم ترجّي القزازة قبل ما تدّيله الدوا. ما تنسيش).
(ربنا يخليك يا دكتور).
(مع السلامة).
والتفت إلى عبد الله باسمًا.
خرجوا إلى فضل الله عثمان.
مشوا في نور اللمبات القليلة على واجهات المحلات المغلقة.
كان التومرجي يسبقهما والحقيبة مدلاة في يده. وعندما وصلوا إلى مدخل البيت المفتوح, سبقهما عبدالله إلى الداخل.
أثناء الكشف. مال على أمه وهمس: (الدكتور رفعت يا امّه).
لم يتلق جوابًا. كانت نرجس في غيبوبة منذ أيام, وكان الطبيب قد أعاد مقياس ضغط الدم إلى التومرجي الذي راح يطويه ويعيده بعناية إلى الحقيبة المفتوحة على ركبتيه.
اتجه الطبيب إلى حافة الكنبة وجلس بين الأولاد والأحفاد الذين ازدحم بهم المكان..
سمعه يقول: (بقى لها قد إيه وهي كده?)
ارتفع صوت البنت نرجس الصغيرة وعيناها محمرتان من البكاء: (النهار ده رابع يوم).
هز الطبيب رأسه وهو جالس تحت صورة البهي عثمان المعلقة على الجدار. وبينما هم يميلون نصفها الأعلى لكي يعدلوا ثيابها, قامت نرجس من غيبوبتها, وقد انحدر المنديل وتعرّى رأسها الثقيل, وبان شعرها الخليط من فحم وفضة:
(فيه حاجة باينة من جسمي يا اولاد?)
(أبدًا يا امّه).
وانحنت نرجس الصغيرة وجذبت الجلباب حتى قدمي جدتها.
(ابقى طُلّ انت بقى على اخواتك يا عبد الله).
وصرخت البنات: (بعد الشر عنك يا امّه).
كانوا يبكون, أو يربتون عليها, ويقبلون رأسها العاري وهم يريحون ظهرها إلى مسند الكنبة الذي تراكمت عليه علب الدواء, وفي تراجعها مدت يدها في الفراغ كمن يتشبث بشيء ومدّت الابنة الكبرى إحسان يدها إلى يد أمها, والتقطت نرجس تلك اليد, جذبتها إلى فمها, وقبلتها.
قال الطبيب: (بلاش كده. اللي يحبها صحيح, يدعي لها).
وفي فضل الله عثمان, أضاف: (ربنا يسهل وتتحسن شوية, لأننا محتاجين نعمل لها شوية تحاليل في المستشفى, وهي حاليًا مسكينة, لا تقدر تروح ولا تقدر تيجي).
وقال عبد الله: (أنا شايفها تعبانة قوي يا دكتور).
هز الطبيب رأسه وهو يتابع التومرجي الذي كان يبتعد: (تَعبانة).
وحكَّ مقدمة حذائه في أرض فضل الله عثمان: (يعني, ممكن تقعد, تتكلم, تضحك, لكن ترجع زي ما كانت? صعب).
ودون أن تفارقه تلك الابتسامة الحزينة, رفع وجهه, في ضوء لمبة الحاج محمود الفحام, بشعره القصير الأبيض إلاّ من بقع ما زالت مائلة إلى الحمرة. وخيل إلى عبد الله وهو يعاود التحديق, أن شيئًا من ملامح الطبيب الشاب, البعيد, عبرت فجأة, لتخلي مكانها فورًا لذلك الوجه العجوز المتعب.
كأنه هو, وليس هو, راح يبتعد....
في ليل الطريق.
كان فضل الله عثمان صامتًا ومهجورًا إلاّ منهم, ومن الأعمدة الخشبية الطويلة العارية, والحبال المجدولة, وأقمشة السرادق الثقيلة المطوية, وأقفاص الجريد التي امتلأت باللمبات الملمومة في الأسلاك الكهربائية المجدولة, وأطباق البلاستيك المخرّمة.
تراجع عبد الله إلى الوراء, ونظر من مكانه, عبر شباك الصالة المفتوح, ورأى شراعة باب الحجرة الداخلية المظلمة حيث تقضي ليلتها الأخيرة في الغد سوف ترحل, وتغيب إلى الأبد. غريبة.
كان يعرف أنها تخاف من العتمة, وقال: (هي الأوضة دي من غير لمبة?)
(لمبتها محروقة من زمان).
هكذا قال شقيقه الصغير. وأضاف أنه كسل, لأن أمه لم تكن تدخلها.
قبل أيام, عندما نقلوها من مكانها في ملتقى الكنبتين, من أجل زوارها, إلى الحجرة الداخلية, أخبرته شقيقته هانم أنها لم تدخل هذه الحجرة منذ مات أبوه. وفوجئ عبد الله لأنه قضى معهم سنوات بعد موت الأب دون أن يلحظ ذلك. كان يراها أثناء دخوله وخروجه وهي نائمة أو جالسة في ركنها أمام التليفزيون أو مرفقها على المسند ويدها على خدها تتفرج من الشباك. يجلس معها, ثم يتركها إلى الحجرة الخارجية وهو يظنها تفعل ذلك أثناء القيلولة, أو السهر.
(يامّه, يامّه الدكتور قال بلاش أكل الحادق).
(الله. طيب افرض يا عبد الله يا بني, أن البني آدم مات, يموت وهو نفسه في الحاجة?)
وها أنت تنتهين...
محرومة من كل حاجة كان نفسك فيها, إلاّ الحادق.
(الأباجورة فيها لمبة).
هكذا قال سلامة.
عبد الله عبر فضل الله عثمان.
صعد الدرجات القليلة, ودخل من باب الشقة المفتوح.
كن منكفئات إلى جوار الجدران, والصغار ينامون على الكنبتين تحت الأغطية.
نزع اللمبة من الأباجورة المطفأة, واتجه إلى الحجرة الداخلية. فتحها, وسرعان ما استقر نور الصالة على طرف السرير. كانت الجدة هانم جالسة وراء أمه التي يغطيها المفرش الأخضر المنقوش, الذي أهدته لها زوجته في عيد الأم. كانت تهمس, وتحادث ابنتها, دون أن تنتبه لوجوده.
سحب المقعد وبدّل اللمبة. ولما ضغط الزرّ لم تعمل.
أعاد المقعد إلى مكانه, وترك الباب مواربًا, لكي يسمح لضوء الصالة, أن ينفذ إلى الداخل.
ظلت إحسان يقظة حتى ذهبوا إلى القرافة وعادوا. كانت البنات قد انتهين من إعداد الصالة لاستقبال الحريم.
طلبت من دلال أن تأخذ أطفال العائلة إلى دارها, كما طلبت من حنان أن تتولى إعداد القهوة, واتخذت لنفسها مكانًا بجوار جدتها العجوز, وراحت ترحب بالجارات وحبيبات الأم الراحلة.
لم تكن الشمس قد دخلت من الشباك حين تجمعن بالهدوم السود على امتداد الجدران داخل الصالة وحتى الدرجات القليلة المفضية إلى فضل الله عثمان, تاركات تحت الشباك خاليًا حيث تربعت المقرئة ذات الصوت الرجالي, والنظارة التي كشفت رغم سوادها عن بياض العين الوحيدة المفتوحة. وأمامها, كانت فردة شبشب نسائي نظيفة موضوعة تحت طرف القاعدة المستديرة الثقيلة, التي تحمل العمود القصير, وتجعل مكبر الصوت المعدني يميل ناحيتها. وكانت هناك مطفأة زجاجية مغسولة, وصينية من القيشاني, مرسوم عليها غصن بورق أخضر, وورد بلدي خفيف.
ظلت الابنة الكبرى تحصي الوجوه التي بانت فجأة, الوجوه التي تعرفها من أهل فضل الله عثمان, والتي كانت من أهله وغادرت, وتتأمل الوجوه الأخرى التي لا تعرفها, وتتمنى لو كانت أمها نرجس موجودة الآن لترى ما فعله الزمن بأم فلانة أو أم فلان, وراحت تشم رائحة الخزين في الهدوم التي أخرجت من قاع الدواليب حتى أحست بالدوخة. والتفتت إلى جدتها هانم التي ضاعت بحجمها الضئيل, وانسدلت طرحتها وهي منكفئة لا يظهر منها إلاّ طرف أنفها الدقيق فوق شاربها الخفيف. تتأخر كثيرًا قبل أن تردّ على من ينتبه لها ويعزيها, أو تمد يدها بعيدًا عن اليد الممدودة, أو تضحك فجأة وهي تداري ضحكتها في عبّها. ولكنّها, إذا تكلمت, فإن صوتها في كل الأحوال كان يسمع واضحًا ونقيًا.
وارتفع نحيب أم حنان في منديلها وهي تهمس: (يا حبيبتي يا نرجس. يا أم عبد الله).
ونزلت الدموع من عيني إحسان, تركتها تسيل على وجنتيها المحمرتين دون أن تجففهما, حين غادرت البنت نرجس فرشتها, وطلعت من باب الحجرة الموارب.
وقفت البنت مأخوذة وشبه نائمة في حلقة السواد والنهنهة تلك.
(...)
حدقت إحسان إلى ابنتها وهي تهمّ بالقيام...
همست: (بنت يا نرجس).
لكن البنت استدارت على نحو غريب.
استقبلت شعاع الشمس الذي جاء الآن من شباك الصالة المفتوح, وتجمعت في شعرها المنكوش هالة من الزغب والنار, وانفرجت شفتاها الممتلئتان.
وابتعدت.
كانوا انتهوا من شرب الشاي, وتحدثوا كثيرًا, تذكروا, وابتسموا.
(الله يرحمك يا امّه).
هكذا قالت إحسان, بوجهها الحزين, وعينيها المغسولتين من أثر البكاء.
كانت تعصب رأسها بالمنديل الأسود, وتمسك كوب الشاي عند منضدة التليفزيون الذي غطوه بالفوطة الكبيرة الباهتة,
عندما انتبهوا لنقر خفيف على شراعة الباب.
كانت القادمة هي أم رزق, التي تذهب وتجيء طول النهار, بقامتها النحيلة الضامرة, وملاءتها الملمومة السوداء, تطلعت داخل الصالة وهي واقفة في فتحة الباب, وقالت:
(عواف يا جماعة).
(أهلاً وسهلاً).
(تعيشوا وتفتكروا).
(تعيشي).
همست وهي تضمّ أطراف الملاءة على وجهها: (كنت عاوزاكي في كلمتين يا أم نرجس).
ونزلت الدرجات القليلة المفضية إلى الشارع, ووقفت.
تبعتها إحسان: (خير).
قالت أم رزق إنها تريد منها أن تعطيها شيئًا, من رائحة المرحومة.
(من عينيه, أجيب لك إيه?)
(الشال القطيفة الأحمر).
(شال قطيفة أحمر?)
(أهو يدفيني, ويفكرني بيها).
وإحسان استغربت. وقالت إن أمها, الله يرحمها, لم يكن عندها شال أحمر.
أم رزق شكّت في الكلام.
وإحسان عادت وأقسمت لها أن أمها لم تلبس في حياتها شيئًا أحمر.
(إمال يا أختي, مين اللي كان بيلبس شال قطيفة أحمر?)
(هنا في البيت?)
(متهيأ لي).
(ما اعرفش).
(تكون ام خليل اللي ساكنة في أول الشارع?)
(يمكن).
ضيّقت عينيها: (هي ام خليل, مفيش غيرها).
حينئذ سألتها إن كانت تحب أن تأتيها بشيء آخر, جلابية مثلاً.
وأم رزق اندهشت: (يا مصيبتي, جلابية?)
ولمت الملاءة: (كده برضه يا ام نرجس, ده كلام تقوليه).
واستدارت غاضبة, وانصرفت.
(أروح أطل على ستّكم وأرجع).
قال عبد الله وهو يرى وجه خاله الذي تهدم بدون طاقم الأسنان: (أوصّلك يا خال?)
(خليك انت عشان أخواتك).
ومشى حتى آخر فضل الله عثمان, وفتح الباب.
عبر الحجرة الكبيرة القريبة, واتجه إلى نهاية الحوش المسقوف, وتوقف عند زير الماء, وأطل برأسه من الباب الصغير المفتوح.
كانت الجدة جالسة على الكليم القديم المفروش, بجلبابها الأسود, ووجهها الصغير يتجه بزاوية ناحية الصندوق الكبير المنقوش: (عواف يا امّه).
قالت دون أن ترمش: (مين?)
(أنا عبده)
(تعال يا خويا).
وقف صامتًا وهو يميل برأسه الكبير من فتحة الباب.
(أختك نرجس عامله إيه يا عبده?)
(أبدًا يامّه).
(أختك نرجس يا وله?)
(الحمد لله).
(الحكيم شافها?)
(آه).
(يعني قامت ولا لسّه?)
(لسه).
(وعيال اختك هناك?)
(أيوه).
(وعبد الله رجع داره).
(كلهم هناك يامّه).
(سايبهم لوحدهم وجاي?)
(أنا راجع لهم تاني).
(هو المداس عندك?)
(ليه?)
(هات المداس يا وله خليني اقوم اشوفها).
(أما النهار يطلع اوديكي).
(وقابلت عبد الرحمن?)
(أول الشهر أسافر له).
(وكلّمته عن الأرض?)
(كلمته).
(كلّمته ازاي يا وله وانت لسه ما سافرتش?)
(ما انا كلمته قبل كده ولسه ح اكلمه تاني).
(خد عبد الله معاك).
فظلت شاخصة ناحية الصندوق الكبير المنقوش اعتدل في وقفته: (عاوزة حاجة?)
(ترجعوا قبل الليل يا وله. سلم على ابوك عبد القادر, وخالك عبد العزيز. يالله. مع السلامة).
عاد إلى الحجرة الكبيرة, وضغط زرّ الكهرباء, وأضيئت اللمبة المعلَّقة في السلك المدلى من سقف الحجرة العالي, وجلس على الكنبة صامتًا.
تطلع إلى الجدران الجيرية الباهتة, وصورته المعلقة, شابًا في سترة المصلحة, وإلى كراسي الطاقم الأسيوطي التي تباعدت وامتدت أياديها الخشبية العارية صوب السرير العريض واستقرت عيناه عند الملاءة المقطوعة. رفع رجله ولمها تحته, واستند بمرفقه إلى مسند الكنبة تحت شيش الشباك الطويل المقفل. وجاءته الترنيمة من عمق الدار:
(نادى المنادي وسمعتُه بوداني, من مات شقيقه ما يعوضوش تاني).
أراح رأسه على كفّه وقد أعطى جنبه للمكان, وطفرت دموعه في هدوء, ثم بدأ فكه يرتجف.
كان يجهش دون صوت, كأنما هو يمضع البكاء.... داخل فمه الخالي من الأسنان.
في الطريق إلى المستشفى
قال سلامة إن أم حنان سبقت إلى سيدي عمر لكي يفتحوا المقبرة, وإن أبوخالد لم يذهب إلى العمل, لكي يقوم بالغُسْل.
وتساءل الأستاذ: (أبو خالد مين?)
(جوز اختك).
(هو بيعرف يغسّل?)
(ممكن قوي).
(وإذا ما عرفش?)
(الحاج محمود معاه).
(الحاج محمود مين?)
(الفحام).
(هو بيعرف?)
(أكيد).
ثم أضاف أنها ليست شغلانة, وأن أولاد خاله أولى بالمصاريف التي سيأخذها المغسل الغريب.
وعندما وصلوا إلى المستشفى لمحتهم دلال وابتدأت تولول ومعها عدد من نساء فضل الله عثمان.
وانضم الأستاذ إلى الرجال.
ومضت فترة.
وصاح صوت من عند العنبر الصغير: (الأستاذ عبد الله).
تلفت حوله, وقال الصوت: (اتفضل).
قال سلامة وفي عينيه نظرة لوم واضحة: (ما هو انت الكبير).
(يعني إيه?)
(يعني لازم تحضر الغُسل).
واقتربت منه عجوز معصوبة الرأس, أعطته لفة خفيفة: (خد دي يا خويا معاك وانت داخل).
تناولها, واتجه إلى هناك.
أطل الحاج محمود الفحام من الباب الموارب. سحبه إلى الداخل وهو يشدّ على يده مبتسمًا: (ازيك يا عبد الله يا بني?)
ثم تجهم: (البقية في حياتك).
كان يرتدي جلبابه البلدي الغامق, وطاقيته الصوفية منحدرة إلى الوراء, أما زوج شقيقته فقد كان يشمر ذيل جلبابه الخفيف وكمّيْه, ويقف وراء حوضٍ عالٍ من الإسمنت مكسوٍّ ببلاط السيراميك الأبيض, وله حافة في ارتفاع بلاطة واحدة. وكان خاله عبد الرحيم ينام على سطح هذا الحوض, وأنفه مسدّدإلى أعلى.
وقف عبد الله حائرًا حتى مدّ زوج شقيقته يده وتناول اللفة وفضها. كانت تحتوي على لوفة صفراء, وصابونة برائحة في غلاف عليه وجه امرأة حسناء, وزجاجة كولونيا عارية.
قال الحاج بصوته الأجش: (الليفة ناعمة?)
ورد أبو خالد: (تمام).
(وريني).
وفركها في كفه التي سود الفحم أظافرها, والتفت إلى عبد الله:
(لو خشنة ممكن تجرحه, لأن البني آدم مننا طول ما الروح فيه ممكن يستحمل, لكن أول ما ربنا يفتكره, جلده يبقى رهيف, وأي شيء ممكن يؤثّر فيه).
وأعادها إلى أبي خالد الذي قال: (إيدك معايا).
وتعاونوا على رفع عبد الرحيم حتى جعلوه يجلس في مكانه.
كان الأستاذ يدفع ظهره من الخلف, وأبو خالد يسحب الجلباب من تحته, بينما رفع له الحاج محمود ذراعيه واحدة بعد الأخرى. وخلع له الفانلة القطنية. ولما صار نصفه الأعلى عاريًا تمامًا أعادوه كما كان. كان عبد الله بن عثمان يتراجع مقاومًا ثقل الجسد العاري. وعندما لامست يداه سطح الحوض سحبهما قبل أن يستقرّ رأس خاله, فاصطدمت مؤخرته بالإسمنت صدمة خفيفة ولكن صلبة. رمقه أبو خالد بنظرة لوم سريعة. وارتجف الأستاذ وقال في سرّه: (لا مؤاخذة يا خال). ولاحظ أن خاله ابتسم له, ابتسامة خفيفة غير مبالية.
جذب أبو خالد سروال عبد الرحيم البفتة, وفتح حنفية يتدلى منها خرطوم طويل من البلاستك الشفاف, وترك الماء يتدفق على رأس عبد الرحيم, وراح يدعكه بالصابونة. تطلع عبد الله إلى الماء والصابون وهو يجري على وجه خاله دون أن تطرف عيناه نصف المغمضتين وبينما أبو خالد يعدله على جنبه تحركت يد عبد الرحيم وستر نفسه. وصاح الحاج:
(وحدوه).
ورد الأستاذ بصوت مخنوق: (لا إله إلاّ الله).
وفجأة, قال الحاج: (استنى يا أبو خالد).
توقفت يد أبي خالد عاليًا بينما ظل الماء يتدفق من الخرطوم على فم عبد الرحيم وأنفه.
ونقل الحاج عينيه بينهما: (إحنا ناسيين حاجة مهمة جدًا).
وصمت لحظة, وأضاف: (أي واحد غير طاهر لازم يخرج).
والتفت إلى عبد الله: (لا مؤاخذة يا جماعة, إحنا في حضرة ملائكة)
واعتدل: (توكّل على الله).
بدأ أبو خالد يدعك الصدر والبطن والذراعين. وعندما انحدرت يد عبد الرحيم وعرّى نفسه, قال الحاج: (سيبه على راحته خالص).
وأبو خالد غطى عورته بفوطة صغيرة بيضاء ونظف تحتها, كما نظف الساقين حتى وصل إلى الأصابع ودعكها إصبعًا إصبعًا, وتراجع إلى الوراء, تأمل الجسد كله, وقال: (تمام كده?)
ابتسم الحاج: (لأ).
(ليه?)
(الطهر).
قال أبو خالد: (مش الطهر بس, ده الطهر, وبعدين الوضوء).
واتسعت ابتسامته: (ما تخافش, أنا صاحي).
(بصراحة, أنت ماشي عال لغاية دلوقت).
وبدأ أبو خالد يرش عبد الرحيم بالماء وهو يضيّق من فتحة الخرطوم بطرف إصبعه, ويردد بصوت منغم:
(بسم الله ما شاء الله, لا إله إلا الله).
وصاح الحاج: (وحّدوه).
ورد الأستاذ: (لا إله إلا الله).
وأبو خالد انتهى من تلاوة (قل هو الله أحد), والحاج قام بلف رباط من الشاش أسفل الفكين وأعلى الرأس. وبدا عبد الرحيم في نظر ابن أخته, كأنه يعاني التهاب اللوزتين.
وأتوا بالكفن ملفوفًا مثل السجادة الخفيفة.
ظلّ عبد الله يدفع الظهر بكلتا يديه حتى وضعوا الكفن وراءه, وقلبوه على جنبه الآخر, وسحبوا طرف اللفة من هناك, ورفعوا الفوطة الصغيرة عن عورته بعد أن ستروه بالقماش الجديد.
وتراجع عبد الله لكي يوسع لهما.
كان القماش يزيد عن طول خاله بمقدار قدم عند الرأس, وأخرى عند القدمين.
قام زوج أخته بربطه من أعلى الرأس مباشرة, ومن أسفل القدمين, بينما تقدم الحاج وربطه من وسطه بقماشة نظيفة مثل الحزام, وفتح زجاجة الكولونيا, وراح ينثر محتوياتها على عبد الرحيم وهو في القماش المحكم.
وعبق المكان كله بخليط من رائحة الصابون المعطر والليمون, وقال الحاج: (هاتوا الخشبة).
وفُتح الباب.
وجد عبد الله بن عثمان نفسه يصيح في الهواء الطلق: (هاتوا الخشبة).
وتردد الصوت: (هاتوا الخشبة).
كانت الشمس تسطع, والجو حارًا.
وجلس يسند ظهره إلى جدار العنبر الصغير.
ورآهم يتزاحمون تحت النعش في طريقهم إلى العربة الطويلة السوداء, حيث دفعوا الصندوق إلى داخلها, وأغلقوا بابها الخلفي.
وسمع عويل نسائي قصير. وراح كل واحد يسرع إلى ناحية.
قامت دلال من نومها.
تناولت صحنًا معدنيًا نظيفًا, وأخذت الولد عبد الله الصغير في يدها, واتجهت بصوتها ناحية الحجرة الجانبية البعيدة: (صباح الخير يامّه).
وبحثت دلال بعينيها عن العجوز دون أن تتبينها في عتمة المكان, وقالت:
(صحيت).
(العيال راحوا المدرسة?)
(النهار ده الجمعة).
(طيب يا أختي ادخلي).
(أنت خارجة يا دلال?)
(لغاية الدكان. عبد الله جعان).
وصاح الولد: (هانم).
(هو بيقول هانم?)
(إيوه. قليل الأدب).
(هىء هىء هىء. انت يا واد عارفني?)
(جرى إيه يامّه. هو صغير?)
اتجهت دلال إلى الباب. وقالت العجوز: (انت خرجت يا دلال?)
(خارجة أهه).
(ما تتأخريش. عبد الرحيم زمانه جاي).
استدارت دلال, وفتحت الباب.
خرجت إلى فضل الله عثمان, ومرت على شباك عمتها نرجس المترب المقفول, ورفع الولد عبد الله وجهه وقال: (عمتي نرجس ماتت).
جذبته من يده, قال: (وعبد الرحيم مات, وهانم مش عارفة).
(يا واد اسكت).
(دي مابتفهمش حاجة خالص).
(يا نهارك اسود يا عبد الله, إوعى يا واد تتكلم معاها في حاجة زي دي).
(مش عبد الرحيم وعمتي نرجس يبقوا ولادها?)
(أيوه ولادها).
(خلاص. انا ماليش دعوة).
اشترت الفول, وأثناء العودة, قالت: (مش عبد الرحيم, يبقى ابوك?)
(ما انا عارف).
(يبقى مالكش دعوه إزاي?)
(مش هو اللي راح المستشفى, ومات?)
(دي حاجة بتاعة ربنا).
(هو كل حاجة بتاعة ربنا?)
دفعت دلال الباب, وهبطت إلى الرطوبة والظل. وارتفع صوت العجوز مرة أخرى: (ما تقفلش الباب يا عبد الرحيم. دلال برّه).
(أيوه يا عمة).
(إنت جيتي يا دلال?)
(جيت).
(عبد الرحيم معاكي?)
انشغلت دلال بوضع قليل من الملح والزيت على الفول, وتناولت رغيفًا من المقطف المعلق.
(إنت سامعاني يا دلال?)
(سامعاكي).
ردت دلال بصوت مخنوق.
وهالها وجه العجوز وهو يطفو مضيئًا بالخضرة, في الجو المعتم وراء الزير, ويختفي.
مدت الجدة يدها إلى جوارها, فأمسكت بمداسها القديم.
وضعته في قدميها, ومشت في الطرقة الطويلة المنخفضة عن مستوى الأرض, توقفت عند الباب المفتوح, وصعدت.
داهمتها شمس النهار.
جفلت.
غطت فمها بطرف طرحتها الخفيفة السوداء, ومدت قدمها إلى فضل الله عثمان.
بدأت تخطو لكي تذهب إلى نرجس في بيتها القريب ناحية الشمال, تحسست الورقة المطوية في جيب جلبابها الجانبي, فكرت أن تشتري شيئًا ولا تذهب بيد خالية, اعترضتها جلبة إحدى عربات الكارو, فالتصقت بالجدار خائفة على نفسها, واستدارت مع الحمار حتى مرت العربة وابتعد الخطر, وواصلت مشيها, بعدما تغيّر اتجاهها, دون أن تدري.
(إيه الحكاية يا خال?)
ويفتح عبد الرحيم عينيه وهو نائم, بصعوبة:
(أنا كويس), ويبتسم:
(أنا مش حاموت, قبل ما آخد الأرض).
(طيّب شدّ حيلك).
تغيب ابتسامته.
(فاكر زمان يا خال, لما سنّارتك اصطادت عصفورة?) (عصفورة?)
وتَبينُ عليه الدهشة: (أمك قالت لك, إن بسيمة الموضة, ماتت?)
(آه).
وأغمض عينيه.
كيف كانت تعرف, لترسل ضحكتها الفاجرة تهدر هكذا في عز الصمت?
تختار أوقاتًا يكون فيها الكرب قد سكن واحدة من حجرات البيت أو أكثر وتطلقها, قارحة, تزري بالمصائب, وتشحن الخلق, بالهيجان والبهجة.
كيف كانت تعرف, هي الوحيدة داخل حجرتها البعيدة العالية, حيث السطوح الخالية, ونجوم الليل, والنيل?
جلس الأستاذ طويلاً أعلى الشاطئ المنحدر.
كانت لحيته نابتة وبيضاء. وكانت صبية تقرفص على حافة الماء, تفرغ مثانتها تحت جلبابها القطني المشدود.
في مقدمة الحوش المعتم المفروش, المنخفض بمقدار درجة عميقة عن أرض الطريق, وحيث اعتادت الجدة والخال أن يقضيا سهراتهما الطويلة, جلس عبد الله بن عثمان وحيدًا, يرى فضل الله عثمان من أسفل.
تحت عارضة الباب, تغيب شريحة من الأدوار العليا للبنايات القريبة, ويصعد الغياب مائلاً حتى تتضح نهايات البيوت البعيدة, وينفتح المكان على رقعة من سماء الليل, تنسدل, ستارة صافية, ومعوجّة, لا تخلو من زرقة, ونجوم.
فضل الله عثمان من هنا, مساحة طافية من الظل والنور.
اللمبات هالات محمرة متباعدة على المحال القليلة المقفولة, في قلب كل هالة, لم يكن في وسع الأستاذ أن يميّز شيئًا, ولكن في أطرافها, حيث يخفّ النور, أو تشفّ العتمة, كان يميّز أحيانًا ضلفة شباك, أو بابًا, أو مسحةً من جدار.
والجدة هانم ما زالت تمشي.
تبحث عن بيت ابنتها نرجس ناحية يدها الشمال, وشبّاكها الأخضر المفتوح.
تدور مع الأزقة, وتغيب في الحارات.
تفتش في وجوه الناس.
تلج البيوت المفتوحة وتغادرها.
وتدخل الدكاكين على أصحابها, تتفرج, وتلمس فترينات العرض الزجاجية بأصابعها الدقيقة الجافة, وتضحك في عبها.
وتداري اخضرار وجهها الغريب في طرحتها الحريرية السوداء.
إذا داهمها الليل تحتمي بالماء. تنام جالسة بجرمها الصغير تحت شجيرات الخروع بأوراقها العريضة المائلة على حافة النهر الساكن, تغفو, وتقوم على ارتجافة الفجر الفضي عبر الكوبري الحديدي القاتم. تبلل وجهها, وتمضغ قبضة من الأعشاب الرطبة وتحبو. تطلع أعلى الشاطئ المنحدر, وتقف هناك تحت الكافورة الكبيرة العالية.
الجدة هانم تنظف ثوبها من قش المكان.
وترهف أذنيها صوب موكب عربات الكارّو القادمة من سكة القناطر وهي تقترب, محملة بالخضر الطازجة. تتابع خبب الخيل التي يقودها الرجال النائمون في ضباب الصباح. تسمع رنين الأجراس النحيلة وهي تتأرجح. تشيّعها وهي تخبو وتغيب, واحدة تلو الأخرى عند انحناءة النهر,
وتنادي, علّ أحدًا يسمعها:
(مش رايح البلد يابني?)
الورّاق, صيف 1998

No comments:

Post a Comment