أبو بكر الصديق ماذا تبقّى منه في الفكر السنّي؟
بياناته الشخصية
اللقب: الصديق، عتيق
الكنية: أبو بكر
اسم الشهرة: أبو بكر الصديق
الاسم بالكامل: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة .
اسم الأم: أم الخير سلمي بنت ضحي بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة
اسماء زوجاته:
الأولى: قتيلة بنت عبد العزي بن عبد الله . انجبت له عبد الله واسماء .
الثانية: ام رومان بنت عامر بن عويمر . انجبت له عبد الرحمن وعائشة .
الثالثة: اسماء بنت عميس . انجبت له محمدا
الرابعة: حبيبة بنت خارجة بن زيد . انجبت له ام كلثوم بعد وفاته .
اسماء اولاده:
عبد الله . شهد مع ابيه حرب الطائف ومات متأثرا بجراحه في خلافة والده .
اسماء (ذات النطاقين [ تزوجها الزبير بن العوام، ثم طلقها، وعاشت مائة عام .
عبد الرحمن: شهد بدرا مع المشركين، ثم اسلم .
عائشة: ام المؤمنين .
محمد: تربي في بيت (علي ابن ابي طالب) بعد ان تزوجت امه اسماء بنت عميس من الامام علي، وشارك في الهجوم علي عثمان، وعينه الامام علي في خلافته علي مصر، وقتله عمرو ابن العاص .
ام كلثوم: ولدت بعد وفاة ابيها، وتزوجها رفيق ابيها الصحابي طلحة بن عبيد الله في شيخوخته.
صورته الشخصية: كان ابيض نحيفا، خفيف العارضين، احدب، معروق الوجه، غائر العينين، بارز الوجه .
تاريخ ميلاده: بعد مولد النبي (ص) بسنتين واشهر .
تاريخ البيعة بالخلافة: بيعة السقيفة يوم وفاة النبي } ص) اول ربيع الاول سنة 11هـ .
ثم البيعة العامة في اليوم التالي، يوم الثلاثاء 2 ربيع الاول سنة 11هـ .
تاريخ الوفاة: مساء الاثنين 22 جمادى الاخرة سنة 13هـ .
مدة خلافته: سنتان واربعة اشهر الا عشر ليال .
اهم القضايا التي تثيرها خلافة ابي بكر:
1. المناقب
2. ولاية الحكم
3. الردة والفتوحات
4. الذمة المالية للحاكم
وهي كلها قضايا متداخلة . ونتعرض لها في هذه المقالة البحثية العاجلة.
اولا: المناقب:
والمقصود بها المناقب التي وضعها اهل السنة في ابي بكر مقابل الذم الذي وضعه فيه الشيعة، والفريقان معا استخدما نفس الاساليب، وهي الروايات والاحاديث التى وضعها الشيعة في ذم ابي بكر، ووضعها السنة في مدح ابي بكر وتعداد مناقبه ومكارمه .
صار من اسس التدين الشيعي التبرؤ والتولي، أي التبرؤ من ابي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير وعمرو ومعاوية، في مقابل تولي ونصرة علي بن طالب وبنيه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وذرية الحسن والحسين. وفي اطار التبري والتولي هم يختلفون، منهم من يبالغ في التبرؤ الي درجة تكفير ابي بكر وعمرو وعثمان.. الخ .. ويبالغ في موالاة "علي" الي درجة التأليه والتقديس له ولذريته من الائمة، مع اختلاف في شخصيات الائمة، ومنهم من يتوسط كالزيدية الاوائل، فيكتفي بتفضيل علي على ابي بكر وعمر وعثمان، ويعترف بخلافة الراشدين، ولا يؤله عليا وذريته .
وفي المقابل فان السنة اتفقوا علي أفضلية ابي بكر ثم عمر ثم عثمان علي "علي" بنفس ترتيب الخلافة، الا انهم لم يطعنوا في علي، بل حرموا الطعن في كل الصحابة، واعتبروهم مثل النجوم في الهداية، ونهوا من خلال حديث صنعوه عن اتخاذ الصحابة غرضا للهجوم ..
وهكذا بدأت كتابة المناقب في فضائل الخلفاء الراشدين في التراث السني في مقابل التراث الشيعي الذي يقدس عليا والائمة .
الا ان كتب المناقب السنية لم تلبث ان عرفت تنوعا في عصور التخلف والتقليد. اذ لم يقتصر الامر علي تزايد التقديس للخلفاء الراشدين، وانما ضموا الي دائرة المناقب ائمة المذاهب الفقهية، حيث انعدم الاجتهاد وانحصرت الحياة العقلية في ترديد ما قاله الائمة، خصوصا مع تزايد الانخراط في التصوف وسيطرته، وافضي ذلك الي دخول شيوخ التصوف في مجال المناقب، فكتبوا مصنفات في مناقب وكرامات شيوخ التصوف.. واصبح ذلك عنصرا اساسيا في تدين المسلمين وحياتهم الفكرية يُعبّر عما يسمي بعبادة الابطال. ومن الطبيعي ان يتم تصوير اولئك الابطال بطريقة تختلف تماما عن حقائق التاريخ. ولكن يتم تسويغها بصنع الاحاديث المنسوبة للنبي، تلك التي جعلوها تمدح الخلفاء الراشدين وائمة المذاهب، بالاضافة الي المنامات الصوفية التي جعلوا فيها النبي يشيد بائمة التصوف، الذي ظهر بعده بعدة قرون .
اذن، كانت البداية في كتابة مناقب ابي بكر في اطار الصراع الشيعي السني، وتبارز الفريقين بالاحاديث المصنوعة. ولا شك ان من يكتب في تاريخ ابي بكر قلما ينجو من الاستشهاد بتلك المناقب دون ان يدري خلفيتها السياسية والاجتماعية، وأن كتابتها قد بدأت في عهد التدوين بعد أبي بكر بقرنين و أكثر.
علي اننا نلاحظ تفاوتا من حيث الكم والنوع بين المناقب المكتوبة في ابي بكر في عصر الازدهار الفكري وبين مثيلتها المصنوعة في عصور التقليد والتخلف. وذلك امر طبيعي لأن عبادة الابطال او صناعتهم انما تروج في عصور التخلف التى يأخذ فيها العقل اجازة مفتوحة. والفكر السلفى الوهابى المسيطر الآن على معظم افئدة المسلمين قد استعاد تقديس الأسلاف وتراثهم واعتبره صحيح الاسلام ومن اجله يتهم بالكفر كل من يجرؤ على مناقشته من داخله ومحتكما فيه للقرآن الكريم. وهو نفس ما فعلته قريش فى جاهليتها حين تمسكت بثوابتها الدينية المتوارثة ورفضت الاحتكام بشأنها الى القرآن "البقرة170ـ171" "المائدة 104" "لقمان21" "الزخرف22ـ24".
و الله جل وعلا يجعل القرآن العظيم حكما فيما نجد عليه اباءنا لنقوم بعملية تصحيح مستمرة لواقع عقائدنا حتى لا تنشأ فجوة بين ما يجب أن يكون عليه الواقع العقيدى للمسلمين وعقيدة الاسلام التى لا تقديس فيها الا لله تعالى وكلامه او قرآنه الكريم. الا أن اسناد تراث المسلمين ـ زورا ـ لله تعالى ورسوله جعله دينا موازيا للاسلام يتمسك به السلفيون ومن اجله ينكرون القرآن طالما تعارضت آياته مع مجرد حديث واحد من مفتريات البخارى وغيره.
المهم انه بدأت عبادة الأبطال او تقديس الأسلاف فى تاريخ المسلمين بكتابة مناقب الصحابة الكبار ثم تطورت نوعيا وكميا بين عصر الأزدهار الفكرى وعصر التخلف العقلي الذى لا زلنا نتمتع به بفضل نفوذ السلفيين البتروليين.
ونعطي علي ذلك امثلة ..
المؤرخ محمد بن سعد{ توفى 222 من الهجرة} صاحب "الطبقات الكبري" وتلميذ الواقدي وصديق احمد بن حنبل وصاحبه في قضية خلق القرآن، هذا المؤرخ لم يذكر من المناقب التي اشاعتها الاحاديث عن ابي بكر سوي حديثين هما }:من سره ان ينظر الي عتيق من النار فلينظر الي هذا} يعني ابي بكر، وحديث اخر في جعل ابي بكر وعمر سيدي كهول اهل الجنة وشبابها ما عدا النبيين والمرسلين .
وقد توفي ابن سعد سنة 222، وبعده بقرن من الزمان عاش الطبري خصم الحنابلة والذي كان ضحية لانغلاقهم الفكري. ونري الطبري لم يذكر في تاريخه عن مناقب ابي بكر الا حديثا واحدا هو الذي يزعم ان النبي قال له (انه عتيق من النار). والواضح ان تلقيب ابي بكر بلقب عتيق هو الذي اوحي لهم بعتقه من النار .
وقد توفي الطبري سنة 310 هـ، وبعده بنحو ثلاثة قرون جاء المؤرخ الحنبلي ابن الجوزي المتوفي سنة 597 وهو من كبار علماء الحديث. ومع ذلك فلم يذكر من احاديث مناقب ابي بكر الا اربعة فقط. وهو (هذا عتيق الله من النار) و (من سره ان ينظر الي عتيق من النار فلينظر الي هذا) . وحديث فظيع يفتري فيه الراوي ان جبريل نزل علي محمد عليه السلام وكان أبو بكر يرتدي عباءة قديمة، فقال جبريل للنبي: ان الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك: قل لابي بكر: أراضٍ انت عني في فقرك هذا ام ساخط؟ فقال أبو بكر: أأسخط عن ربي؟ انا عن ربي راضٍ..). ثم حديث آخر يزعم فيه احدهم ان محمد بن الحنفية قال لأبيه علي بن ابي طالب (أيّ الناس خير بعد رسول الله؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت ان اقول من فيقول عثمان، فقلت: من انت؟ فقال: ما انا الا رجل من المسلمين). وبهذا الحديث انتزعوا اقرارا بأفضلية الخلفاء الثلاثة على "علي" وذلك وفقا لعقائد اهل السنة .
أي اننا خلال محطات فكرية ثلاث من القرن الثالث الي نهاية القرن السادس -من بداية عصر الازدهار الفكري الي خفوته- لم نعثر لدى محققي المؤرخين والمحدثين السنيين الا على بضعة احاديث في مناقب ابي بكر. فاذا قفزنا الي القرن العاشر الهجري، بداية العقم الفكري والتخلف العقلي، وجدنا تنوعا في تأليف مناقب ابي بكر يعبر عن تطور هائل في عقلية عبادة البطل وتقديس السلف و تأليه الصحابة وتحصينهم من النقد والنقاش وهو موضوع طويل يستحق بحثا مستقلا. ولكن نكتفى ببعض الأشارات التى تتجلي فيما كتبه السيوطي (ت 911) في "تاريخ الخلفاء" عن ابي بكر، ونقرأ في العناوين: الصديق افضل الصحابة وخيرهم، الآيات التي نزلت في مدحه او تصديقه، الاحاديث الواردة في فضله، الاحاديث المشيرة الي خلافته، حديث في فضله، وتحت هذه العناوين تفصيلات، نأخذ منها بعض الامثلة:
فهناك احاديث تجعل ابا بكر شعيرة دينية وضمن معالم الايمان، مثل حديث (حب ابي بكر وشكره واجب علي كل امتي [، وحديث يقول فيه علي ابن ابي طالب (لا يجتمع حبي وبغض ابي بكر في قلب مؤمن [وفيه اتهام للشيعة بالكفر، وحديث (حب ابي بكر وعمر ايمان، وبغضهما كفر)، وحديث ] حب ابي بكر ومعرفتهما من السنة) وحديث (اني لأرجو في حبهم لابي بكر وعمر ما ارجو لهم في قولة لا اله الا الله) . أي مساواة بين شهادة الاسلام وألوهية الله تعالي بحب ابي بكر وعمر!
واحاديث تجعل النبي ينطق بالغيب وبما سيحدث لابي بكر، علي مثال حديث: (انت عتيق الله من النار)، مثل حديث النبي الي جبل أحد حيث تحرك بزعمهم، فقال النبي للجبل (اسكن فانما عليك نبي وصديق وشهيدان). وحديث ابي هريرة الذي يقول (تباشرت الملائكة يوم بدر فقالت: اما ترون الصديق مع رسول الله في العريش). والمتخلفون عقليا الذين وضعوا هذا الحديث لم يعرفوا ان ابا هريرة وقت غزوة بدر كان كافراً، لأنه لم يسلم الا بعد غزوة خيبر!
وحديث ابن عباس: (هبط جبريل وعليه طنفسه وهو يتخلل بها، فقال له النبي: ما هذا يا جبريل؟ فقال جبريل ان الله تعالي أمر ملائكته ان تتخلل في السماء كما يتخلل أبو بكر في الارض"!. وحديث (ان الله يكره فوق سمائه ان يُخَطّأ أبو بكر) أي يرميه الناس بالخطأ .
وحديث (اما انك يا ابا بكر فأول من يدخل الجنة من امتي) وحديث (انت صاحبي علي الحوض) وحديث (عرج بي السماء فما مررت بسماء الا وجدت فيها اسمي محمد رسول الله، وأبو بكر خليفتي) وحديث ان ملك الموت سيقول لابي بكر عند موته (يا ايتها النفس المطمئنة) وحديث (الناس كلهم سيحاسبون الا ابا بكر) وحديث (دخل النبي المسجد وهو آخذ بيدي ابي بكر وعمر وقال: هكذا نبعث) وحديث (انا اول من تنشق عنه الارض، ثم أبو بكر ثم عمر [.
واحاديث اخري مسندة كذبا للصحابة أو التابعين تجعل المتحدث يعلم غيب السرائر الذي لا يعلمه الا الله تعالي وحده، مثل حديث عمر (لو وزن ايمان ابي بكر بايمان اهل الارض لرجح بهم). وقول الزهري (من فضل ابي بكر انه لم يشك في الله ساعة قط) .
واحاديث تفضله علي الناس جميعا ما عدا الانبياء، مثل (ما طلعت الشمس ولا غربت علي احد افضل من ابي بكر الا ان يكون نبيا). وحديث (اتاني جبريل فقلت له يا جبريل حدثني عن فضائل عمر بن الخطاب، فقال: لو حدثتك بفضل عمر مدة ما لبت نوح في قومه ما نفذت فضائل عمر، وان عمر حسنة من حسنات ابي بكر). وقال الربيع بن يونس: مكتوب في الكتاب الاول (ولا نعرف طبعا ما هو ذلك الكتاب الاول): مثل ابي بكر الصديق مثل القطر (المطر) اينما وقع نفع) ويقول الربيع بن يونس ايضا (نظرنا في صحابة الانبياء فما وجدنا نبيا كان له صاحب مثل ابي بكر الصديق) وهذا الرجل المفتري الربيع بن يونس لم يجد من يسأله هل تعلم عدد الانبياء اولا قبل ان تعرف اصحابهم ؟ وهل لديك علم بسرائرهم؟ ولكنه التهاون بقدسية الغيب الالهي الذي جعلهم يتجرأون علي قول هذه الطامات .
هذا بالاضافة الي " تفسيرهم" لايات كثيرة علي انها نزلت في ابي بكر وفعلوا مثل ذلك مع عمر .
واضاعوا حقائق الاسلام
واولي هذه الحقائق: انه ليس في الاسلام ايمان بشخص، حتي ولو كان شخص النبي، وانما الايمان يكون بالوحي الذي نزل علي شخص النبي، وليس بشخص النبي البشري. يقول تعالي (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل علي محمد وهو الحق من ربهم.. محمد 2). لم يقل وآمنوا بمحمد، وانما (وآمنوا بما نزل علي محمد) أي الايمان بالوحي، أي بالقرآن الذي يكون فيه محمد نفسه اول المؤمنين به. اما الايمان بشخص محمد فذلك يعني البداية لتأليهه، ولا اله مع الله ولا اله الا الله. ولذلك نزلت ايات كثيرة لتؤكد علي بشرية النبي وتؤكد علي اخطائه هو والانبياء لتظل العصمة للنبي بالوحي فقط، وليظل التقديس خالصا لله تعالي وحده. واذا كان شخص محمد خارج القرآن قضية تاريخية ـ كما هو الحال فى الروايات التاريخية فى السيرة النبوية وما بينها من تعارض داخلى، بالأضافة الى تعارضها مع حقائق القرآن "وهذا أيضا يستحق بحثا منفصلا" ـ فأنه بالتالي لا يكون لابي بكر او عمر او علي وسائر الشخصيات التاريخية موقع في عقائد الاسلام. وبالتال – ايضا يكون ادخال هذه الشخصيات في تديّن المسلمين ابتعادا عن حقائق الاسلام، خصوصا وان ذلك تم عن طريق احاديث كاذبة .
وثاني هذه الحقائق: ان النبي محمدا عليه السلام لا يعلم الغيب، وليس له ان يتكلم في الغيبيات. وبهذا نزلت اكثر من عشرين آية قرآنية، منها ما يؤكد ان النبي لا يعلم ما سيحدث له او لغيره في المستقبل في الدنيا او في الاخرة "الأعراف 187 ـ 188" " الأحقاف 9"، ومنها انه لا يعلم ما سيحدث من احوال الاخرة وعلامات الساعة ووقتها ، النازعات 42 ـ 46 وانه لا يعلم سرائر الناس وما تخفيه صدورهم من ايمان او نفاق حتى اولئك الذين يحيطون به." التوبة101 . أي ان تلك الافتراءات المنسوبة للنبي انما تعكس عقليات عصرها وعقائدهم، ولا شأن للاسلام او خاتم النبيين بها .
وثالث هذه الحقائق، ان تزكية النفس او الغير بالتقوي ممنوعة. فلا يصح ان تمدح نفسك او غيرك بالصلاح (الجمعة 5: 6، البقرة 94: 96، النساء 49: 50) وقد قال تعالي (فلا تزكوا انفسكم، هو اعلم بمن اتقي: النجم 32[
وهناك حقائق اخري يطول شرحها. ولكن نكتفي بذلك لندخل في ملامح الدولة الاسلامية في خلافة ابي بكر .
ثانيا: ولاية الحكم
الاسلام دين ودولة. الا ان دولة الاسلام ليست دولة دينية ولكنها دولة مدنية هدفها الاول (اقامة القسط بين الناس] (الحديد: 25). اما الدولة الدينية فهدفها ادخال الناس الجنة بالاكراه وحد الردة وتغيير المنكر بالقوة، وذلك بالمخالفة للقرآن الذي يجعل الهداية مسئولية شخصية ]الاسراء 15، القصص 56 [ .
ودولة الاسلام المدنية تجعل الامة مصدر السلطات، ولو كان النبي وهو الحاكم فظا غليظ القلب لانفض الناس من حوله، واذا انفضوا من حوله فلن تكون له دولة، بل ستعود اليه قصة المطاردة والاضطهاد. لذلك جعله الله تعالي هينا لينا مع الناس، وامره بأن يستشيرهم لأنهم مصدر السلطة والقوة (آل عمران 159). اما في الدولة الدينية فالخليفة يزعم انه يستمد سلطته من الله، وانه مسئول امام الله عن الرعية، أوالاغنام التي يحكمها او يملكها، ويعاونه في حكمها الملأ او اهل الحل والعقد وهو ما يذكرنا بفرعون وملائه وحرص القرآن الكريم على ترديد قصته وملامح الأستبداد وذهنية الحاكم الطاغية فيها لكى يفهم المسلمون. ولكنهم ما فهموا ولن يفهموا طالما يقدسون الطغاة وينتفضون غضبا اذا حاول باحث مسلم عرض تاريخهم على القرآن الذى يزعمون الايمان به.
وفي دولة الاسلام فالمسلم هو كل انسان مسالم بغض النظر عن عقيدته، لأن العقائد مرجعها لله تعالي يوم القيامة، أي ان الدين لله تعالى والوطن للجميع على قدم المساواة والعدل. اما في الدولة الدينية فالمواطنون درجات اعلاهم الخليفة والمقربون منه، ثم جهاز السلطة من الفقهاء والجند والموظفين، ثم الذين علي مذهب السلطان من المسلمين، ثم الويل كل الويل لاصحاب المذاهب الاخري والاديان الاخري في داخل الدولة .
وفي دولة الاسلام لكل فرد فيها – بغض النظر عن عقيدته- الحق المطلق في شيئين: العدل وحرية العقيدة والفكر، ولكل فرد حقوق نسبية على قدر امكاناته في المشاركة السياسية ـ أي الحكم - وفي الامن وفي الثروة .ويكون المجتمع هو صاحب الحق المطلق في الثروة والسلطة والامن. اما في الدولة الدينية فالخليفة هو الذي يملك الارض ومن عليها، وهو الذي يحتكر السلطة والثروة والامن وعقائد الناس وقلوبهم، ومن عصاه فمصيره القتل في الدنيا والجحيم في الاخرة، او هكذا يزعمون .
وهذه الدولة الاسلامية اقامها النبي فعلا في المدينة (فالدولة هي شعب + ارض + نظام حكم). الا ان بداية التغيير في اسس هذه الدولة الاسلامية حدث في خلافة ابي بكر نفسه، ثم تفاقم التغيير في عهده بالفتوحات العربية التى حملت اسم الاسلام زورا وبهتانا , وهى التى أوصلت المسلمين بعده الي الحرب الاهلية في الفتنة الكبري التى أسقطت الدولة الاسلامية نهائيا وبدأت عصر الخلفاء غير الراشدين . ومع ذلك تبقي الدولة الأسلامية واقعا تاريخيا حيا لا مجال لانكاره , أقامه خاتم النبيين ـ عليه و عليهم السلام ـ ثم أضاع اصحابه ملامحها شيئا فشيئا . و لأن الدولة ألأسلامية كانت واقعا حيا في العصور المظلمة فانه من الممكن اعادتها فى عصرنا الحالي,و هذا ما نجح فيه الغرب حين انهى سيطرة الكهنوت و التراث الدينى وتمسك بدلا منهما بحقوق الانسان و القيم الأنسانية العليا. و حقوق الأنسان و القيم الأنسانية العليا هى جوهر ألاسلام فيما يخص تعامل البشر فيما بينهم , وهى جوهرالشريعة الأسلامية الحقيقية والدولة الأسلامية على نحو ما فصلناه فى مؤلفات لنا سابقة .
وحقوق الأنسان والقيم الأنسانية العليا هى جوهر الخلاف بين الدولة الأسلامية و نقيضتها الدولة الدينية, تلك الدولة التى عرفها المسلمون بعد دولة ما يسمى بالخلفاء الراشدين تمييزا لهم عن الخلفاء غير الراشدين ممن احترفوا الظلم والأستبداد تحت لافتة الاسلام. وفى عهدها تم تدوين التراث ونسبته ـ زورا ـ لله تعالى ولرسوله ليصبح مقدسا محميا من النقاش و مصونا عن النقد. وفى عصرنا البائس هذا يراد لنا ان نبتلع هذا التراث دون نقاش لكى نتيح لأصحابه ان يركبوا ظهورنا حكاما باسم الأسلام وهم اعدى اعدائه. ويكفى ان الأسلام اصبح بهم متهما بالارهاب والتخلف والتعصب والرجعية والجمود. و هو فى الأصل دين السلام والعدل و الحرية والتقدم والتسامح , ورسوله ـ عليه السلام ـ بعثه الله تعالى ـ ليس ليقاتل الناس حتى يقولوا لااله الا الله وليكرههم على دخول الاسلام كما يقول ذلك الحديث الكاذب , ولم يبعثه ربه جل وعلا بالسيف بين يدى الساعة كما يردد دعاة الوهابية ـ وانما بعثه ربه جل و علا رحمة للعالمين. ان اقرب النظم اقترابا من نموذج الدولة الاسلامية هى دولة الاتحاد السويسري ودول اسكندنافيا التى تطبق الديمقراطية المباشرة، وتظل ابعد الدول عن نموذج الدولة الاسلامية هي الدولة الدينية التى اقامها المسلمون فى العصور الوسطى بعد فترة انتقالية بين الدولة الأموية ودولة الرسول محمد ـ عليه وعلى كل الأنبياء السلام ـ وهذه الفترة الأنتقالية هى ما يسمى بالدولة الراشدة , و كان أبو بكر اول خلفائها, وجاءت دول المسلمين الدينية لتجعل منه ومن اصحابه جزءا من مقدساتها لا يجوز لأحد الأقتراب منهم الا بالتحميد والتمجيد حيث لم يعودوا بشرا يخطئون ويصيبون مثلما وصف الله تعالى أنبياءه فى القرآن الكريم .
ان تدوين التراث قام في ظل الدولة الدينية العباسية، لذلك اهمل التدوين كل ما يخص الشوري وفرضيتها كالصلاة والزكاة (الشورى 38 آل عمران 159) والتأكيد علي حضور مجالسها في المسجد لكل الناس (الايات الثلاث الاخيرة في سورة النور) وما كان يحدث في مجالس الشوري من امور عرضت لها سورة المجادلة . هذه التربية السياسية الديمقراطية ضاعت ولم يتم تدوينها في عصور الاستبداد السياسي العباسي، ولم يبق من دليل عليها الا ايات القرآن الكريم .
ان الدولة الاسلامية التي انشأها النبي عليه السلام كانت ضد منطق العصور الوسطي القائم علي الاستبداد الديني والسياسي، ولكن وجود النبي ونزول الوحي كان مما يعين هذه الدولة علي الثبات، خصوصا مع دخول الناس في دين الله افواجا خلال قوى الاعراب والقريشيين بعد فتح مكة،فلما مات النبي وانقطع الوحي نزولا اجبرت القوى الجديدة هذه الدولة ان تبدأ التنازلات علي حساب القرآن وما كان عليه النبي عليه السلام . وبدأها أبو بكر في بيعة السقيفة وحرب الردة والفتوحات، أي انه اضطر للتعامل مع العصور الوسطي بمنطقها علي حساب المعتقد الاساسي للدولة الاسلامية. وكان حتما ان ينتصر في النهاية منطق العصور الوسطي, فانتصر بالامويين ثم العباسيين. وحين انتصر منطق العصور الوسطي في العصرين الاموي والعباسي زالت كل ملامح الدولة الاسلامية، واصبحت الحاجة ماسة الي تشريع مخالف للقرآن، وتمت صياغة هذا التشريع عن طريق علماء السلطة بالاحاديث المفتراة والفتاوي وهجر القرآن وتشريعاته تحت مسميات شتى كالنسخ والتأويل والفقه والتفسير. ولنا مع كل منها وقفات توضح التناقض بينها وبين الأسلام.
بعد هذا التوضيح نعود الي ابي بكر والخريطة السياسية للمنطقة في عهده بعد موت النبي محمد عليه السلام.
في اواخر ما نزل من القرآن نعرف ان الناس قد دخلوا في دين الله افواجا، وهذا ما كان يبدو علي السطح. ولكن الوحي الذي انزله عالم الغيب قد اخبر ان المنافقين من الصحابة كانوا صنفين، صنف مكشوف معروف، وصنف مرد أو أدمن النفاق لا يعلمهم النبي بل الله وحده الذي يعلمهم. بل ان الآية التي تحدثت عن محمد والذين معه ووصفتهم باستدامة الركوع والسجود وان سيماهم في وجوههم من اثر السجود، هذه الاية تقول في النهاية (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة واجرا عظيما: الفتح 29) أي قالت (منهم) ولم تقل جميعهم. أي انه بغض النظر عن علامات الخشوع والسجود فان ما في القلب شيئا اخر. وهكذا فان اهل المدينة منهم السابقون ومنهم من خلط عملا صالحا واخر سيئا، ومنهم من ارجأ الله تعالي امره اليه يوم القيامة، ومنهم المنافقون المعروفون – ومنهم المنافقون المجهولون، ثم ممن كان حولهم من الاعراب منافقون (التوبة 46-، 61 -، 67-، 74-، 97- 110) . والقرآن يتحدث دائما عن اصناف لا عن اشخاص . ثم يضاف الي ذلك الملأ القرشي، اشراف قريش من بني امية الذين اسلموا بعد الفتح حرصا علي الجاه والثروة بعد تاريخ حافل بالعداء لله تعالى ورسوله. وليس معقولا ان ينمحى هذا العداء وثاراته بمجرد التسليم الظاهرى والجلوس مع النبى بضع مرات قبل موته.
وقد كان النبي بشخصيته وهداية الوحي له يستطيع التعامل مع كل هذه الاصناف بدليل نجاحة في ضمهم جميعا للاسلام بمعناه الظاهري، وهو ايثار السلم (الحجرات 14-،) فدخلوا فيه افواجا . ولكن تغير الوضع بعد موته، ولذلك تحتم التنازل عن الملمح الاول من ملامح الدولة الاسلامية، وهو ولاية الحكم . ولنستعد هنا لمفاجأة .
اذ ليس في الدولة الاسلامية حاكم بأي معني من المعاني المألوفة سياسيا. الحاكم المستبد يناقض شريعة الاسلام وعقيدته، والحاكم بمفهوم العقد الاجتماعي العلماني الغربي مرفوض ايضا في شريعة الاسلام. في العلمانية الغربية يتنازل الشعب عن السلطة لمن يقوم بانتخابهم ومن يمثلونه وينوبون عنه في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، اما في الدولة الاسلامية فالدولة هي الشعب، بمعني ان الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه في نظام يقوم بادارة الحكم فيه اولو الامر، واولو الامر أي اصحاب الشأن والخبرة والاختصاص في الموضوع المطروح بحثه وتنفيذه (النساء 59، 83[. وطاعتهم مقيدة فى اطار طاعة الله تعالى ورسوله, اى الرسالة اى القرآن الكريم.
والشوري الاسلامية تعني الديمقراطية المباشرة في كل حي وفي كل قرية ومدينة، وحضورها فريضة عينية علي كل انسان ذكر او انثي، ولا يجوز التسلل منها او الاعتذار عنها الا بعذر قهري (النور [62: 64) وفيها يتم الحكم والمساءلة، ولذلك فان اوامر السياسة كانت تتوجه الي مجتمع المؤمنين، علي سبيل المثال: سورة المائدة 8، 33-، 51-، 54، 75 النساء، 2-، 5-، 25-، 29-، 58-، 71-، 94-،[ وليس الي حاكم، بل ان كلمة " حكم " ومشتقاتها فيما يخص التعامل بين الناس تعني في القرآن الكريم الحكم بين الناس أي في امور التقاضي لأن الاساس الاول في الدولة الاسلامية هو اقامة القسط مع العدو والصديق. والموضوع طويل ونكتفي منه بالتأكيد علي ان دولة النبي في حياته كانت تدار بالناس وليس عن طريق حاكم، وذلك وفقا لآليات يطول شرحها عرضنا لها فى كتابنا عن ديمقراطية الأسلام، ولكن المهم ان ابا بكر ضحي بذلك كله وهو يواجه الوضع الجديد بعد موت النبي، فكانت بيعة السقيفة التي اسفرت عن تعيينه حاكما او خليفة علي خلاف ما كان مألوفا في عهد النبي، ولو كان تعيين حاكم من اسس الدولة الاسلامية النبي لبادرالنبى محمد عليه السلام الي تعيين من يخلفه، الا انه تركهم علي ما كانوا عليه يحكمون انفسهم بأنفسهم، فكان ما كان ..
بعد موت النبي ارتفعت رءوس المنافقين، ويلاحظ كثرة حديث القرآن ـ في اواخر ما نزل ـ عن المنافقين. ثم بعد انقطاع الوحي نزولا وبعد موت النبي انقطع الحديث القرآني عن المنافقين فى المدينة وخارجها، فهل قدموا استقالتهم من نادي النفاق ؟!! المنتظر ان يكونوا عنصرا هاما في العمل علي اسقاط الدولة التي يكرهونها، خصوصا وان حمي الردة انتشرت بين الاعراب المنافقين حول المدينة، وقد ربطت الايات بين الفريقين في قول الله تعالي (وممن حولكم من الاعراب منافقون، ومن اهل المدينة مردوا علي النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم: التوبة 101 [ ثم الي جانب ذلك هناك القريشيون من مسلمة الفتح وزعماؤهم من بني امية وقد اسلموا حديثا بعد طول عداء، وازاء هذه الاخطار كان اول ما يفكر فيه المخلصون من المسلمين هو البيعة وأخذ العهود والميثاق علي التكاتف سويا لمواجهة خطر الاستئصال خلف قائد حربي في هذه الظروف الاستثنائية .
ومفهوم البيعة في القرآن وفي ثقافة عصر النبي لا يعني البيعة لحاكم، وانما البيعة علي التمسك بالاسلام او الجهاد في سبيل الله حين التعرض للخطر (الفتح 10، 18، الممتحنة 12، الاحزاب 15 [ ولكن البيعة في السقيفة اكتسبت مفهوما اخر، انتهز فرصة الخطر الداخلي والخارجي ليكسب البيعة مفهوما سياسيا اصبحت بها تعنى تولي الحكم أوالعهد بالحكم . سواء كان ديمقراطيا بعض الشىء في عهد الخلفاء الراشدين، ام كان وراثيا استبداديا، كما في عهد الخلفاء غير الراشدين وأذنابهم من مستبدى حكام المسلمين فى عصرنا البائس.
ونرتب الاحداث حسبما جاءت في روايات التراث السنّي.
فبعد موت النبي مباشرة اجتمع الانصار في سقيفة بني ساعدة، واتفقوا علي تولية سعد بن عبادة الذي كان مريضا، ولم يمنعه مرضه من الحضور، وخطب فيهم سعد موضحا حقهم في الحكم ـ ولو كان الوحي ينزل لأخبر عن مكائد المنافقين فى هذا اليوم ـ ووصل الخبر الي عمر فأسرع الي ابي بكر وكان مع "علي" يشرف علي تجهيز جثمان النبي للدفن. وخرج أبو بكر مع عمر الي السقيفة وفي الطريق لحقهم أبو عبيدة بن الجراح. وفي السقيفة خطب أبو بكر متوددا للانصار وقال لهم: نحن الأمراء وانتم الوزراء. فاحتج عليه الحباب بن المنذر مطالبا بحق الانصار، وقال: فان أبى هؤلاء فمنا امير ومنهم امير. فرد عليه عمر بعنف فاشتعل الشجار وامتشق الحباب سيفه، فالتقطه منه عمر واتجه به ليقتل سعد بن عبادة. ولكن اسرع أبو بكر فأنقذ سعدا، فقال له عمر: قتله الله انه منافق. وانتهي الامر ببيعة ابي بكر البيعة الخاصة، ثم بويع البيعة العامة في المسجد في اليوم التالي .
ورفض سعد بن عبادة ان يبايع ابا بكر، وقيل له: (لئن نزعت يدا من طاعة او فرقت جماعة لنضربن الذي فيه عيناك [. ورد سعد رافضا البيعة (والله لا ابايع حتي اراميكم بما في كنانتي واقاتلكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي). ونصح بشير بن سعد ابا بكر بألا يرغم سعدا علي البيعة " لأنه لن يبايع حتي يقتل، ولن يقتل حتي يقتل معه ولده وعشيرته ولن يقتلوا حتي يقتل الخزرج، ولن يقتل الخزرج حتي يقتل الاوس، فلا تحركوه، فأنه ليس يضركم، انما هو رجل واحد طالما تركتموه) فتركوه .
وكان سعد بن عبادة من اشد الناس غيرة، ما تزوج الا امرأة بكرا، وما طلق امرأة فتجاسر احد علي زواجها بعده، وكان بعصبيته وماله وشخصيته عنصر قلق لأبي بكر وعمر بعد الاهانة التي لحقت به في السقيفة، خصوصا بعد تولي خصمه عمر الخلافة. لذلك لم يطق الامر وترك المدينة بعد ان قسم امواله علي ذريته. وحدث انه بعد وفاته في الشام ولدت احدي نسائه ولدا فقال عمر لابنه قيس ان يدخل الوليد معهم في الميراث، فقال قيس بن سعد: "اني لا اغير ما قال ابي سعد ولكن نصيبي لهذا الولد". الي هذا الحد بلغت طاعة قيس لابيه بعد موته، مما يعطينا لمحة عن خطورة سعد السياسية والشخصية .
وهذا يفسر لنا من ناحية اخري موتته الغامضة في حوران بالشام، اذ عثروا علي جثته هناك مقتولا، وقد تغيرت ملامحه، واشيع في المدينة ان الجن قتلته، وان الجن قالت في ذلك شعرا:
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة رميناه بسهم فلم نخطئ فؤاده
وبهذا تم التخلص نهائيا من معارضة الانصار، وبقيت معارضة بني عبد مناف .وآل عبد مناف هم الهاشميون والامويون، فهم معا ابناء رجل واحد هو عبد مناف .
ومن الطبيعي ان يحتج علي هذا الوضع ـ تولية أبى بكر الخلافة ـ أبو سفيان ومن علي شاكلته من اصحاب الثقافة القريشية الجاهلية. بل ان ابا قحافة والد ابي بكر كان ينتمي الي هذه الثقافة. اذ تعجب كيف يصبح ابنه حاكما في وجود بني امية وبني هاشم وهم كبار قريش، لذلك لا نعجب اذ ردد أبو سفيان نفس المعني ثائرا حين قال (ما بال هذا الامر في اقل حي من قريش) وقال (ما لنا ولابي فصيل) يتندر علي ابي بكر، (انما هي عبد مناف) وصرح (اين المستضعفان: علي وعباس) ودعا الي بيعة علي، فزجره "علي" قائلا (طالما عاديت الاسلام واهله فلم تضر شيئا). وأخيرا هدأ أبو سفيان حين استرضاه أبو بكر بتعيين ابنه يزيد قائدا، فقال حين بلغه الامر (وصلته رحم [ .
وكانت بيعة ابي بكر شيئا جديدا بالنسبة لعلي المشغول بدفن النبي وتجهيزه. واجتمع بعض المهاجرين المحتجين في بيت علي ومعهم الزبير بن العوام (وأمه صفية عمة النبي) وتخلفوا عن بيعة ابي بكر. وامتشق الزبير سيفه وقال: لا اغمده حتي يبايعوا عليا. أي طالما في الامر حاكم فعلي هو الاولي. وجاءهم عمر فقال: والله لأحرقن عليكم البيت او لتخرجن الي البيعة. فخرج عليه الزبير بالسيف فتعثر فوقع فأخذوا منه السيف و.. وبايعوا ابا بكر. وتسكت المصادر السنية عندها، وتترك فجوات تحتاج الي من يملأها، خصوصا في العلاقة الحميمة بين ابي بكر وعمر وموقفهما معا من على وآل بيته (طبقات ابن سعد 3/1/128-، 3/2/144- تاريخ الطبري 3/218: 223، تاريخ ابن كثير 7/ 33[.
ثالثا: الردة .. والفتوحات:
بعد تأمين الجهة الداخلية بتعيين ابي بكر حاكما كان لا بد من مواجهة خطر الردة .
وليس صحيحا ان ابا بكر حارب المرتدين. ولكن الصحيح ان المرتدين هم الذين حاربوا ابا بكر والمدينة. والروايات التي دونها العصر العباسي عن حركة الردة فيها تناقض، واحدة منها تقول ان ابا بكر صمم علي قتال مانعي الزكاة، وعارضه عمر ـ مع أنه المشهور بشدته ـ قائلا (كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله امرت ان اقاتل الناس حتي يقولوا لا اله الا الله وان محمدا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه الا بحقها وحسابه علي الله) فقال أبو بكر: والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة [
وهذا الرواية كاذبة. فليس صحيحا ان الرسول قال (امرت ان اقاتل الناس حتي يقولوا ..). فذلك الحديث المزعوم الذي يستحل قتل الناس يعارض قوله تعالي (لا اكراه في الدين) وعشرات الايات الاخري فى تشريع القتال فى الأسلام. ثم انه يعني الاستئصال التام لأهل الكتاب ومن يطلق عليهم " اهل الذمة " وهم لا ينطقون الشهادتين، وقد آن الأوان لاعلان تبرئة النبي من هذا الحديث الدامي الذي لا يزال يحرض علي الارهاب .
وليس صحيحا ايضا ان النبي كان يأخذ الزكاة من القبائل. بل ان الزكاة كانت تؤخذ من اغنياء اهل الحي لكي يتم توزيعها علي فقراء الحي انفسهم، أي انها ليست حجة للمرتدين علي الاطلاق في ان يواجهوا ابا بكر برفض الزكاة، لأنهم حسبما تعودوا في عصر النبي هم الذين يدفعون الزكاة لفقرائهم .
وليس صحيحا ايضا ان هناك إكراهاً وإرغاماً من السلطة علي تحصيل الزكاة. اذ انه قبل ذلك بقليل تكاسل المنافقون عن دفع الزكاة، فأمر الله تعالي النبي الكريم بألا يقبل منهم الزكاة، وقال (قل انفقوا طوعا او كرها لن يتقبل منكم، انكم كنتم قوما فاسقين، وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله وبرسوله، ولا يأتون الصلاة الا وهم كسالي، ولا ينفقون الا وهم كارهون، فلا تعجبك اموالهم ولا اولادهم: التوبة 53ـ55-.[
وليس منطقيا ايضا ان يبادر أبو بكر بحرب طاحنة لأناس يقبلون الطاعة الا دفع الزكاة وهو في حالة ضعف سياسي وحربي .
والمنطقي والصحيح ان العصر العباسي وضع ملامحه في هذه الرواية، خصوصا ارغام (الرعية) علي دفع الاموال والا اعتبرهم مرتدين.
والرواية التي نقبلها هي التي تؤكد بين سطورها ان الاعراب المحيطين بالمدينة اعدوا جيشين لغزوها في مكانين مختلفين، وبعثوا بوفد للتفاوض، واهدافه الحقيقية رصد دفاعات المدينة. وفهم أبو بكر انهم جواسيس فرفض التفاوض معهم، وقام بتدعيم قواته داخل المدينة وحولها. وفعلا، وكما توقع أبو بكر هاجم القسم الاول من المرتدين المدينة، فبعث حرس المدينة يستغيثون بأبى بكر فأمرهم بالثبات، ثم انطلق أبو بكر باهل المدينة الي طليعة المرتدين فقهرهم، فهربوا الي حيث الكمين او القسم الثاني في منطقة ذي حسي. وانتهت المعركة بهزيمة كاملة للمرتدين، وأكد أبو بكر هذا النصر بانتصارات اخري علي الاعراب المرتدين من عبس ومرة وذبيان وكنانة وهزمهم في ذي القصة، ثم تتابعت حروب الردة الي ان اوصلت جيوش المسلمين الي مشارف الشام والعراق، فكانت الفتوحات .
ذلك ان ابا بكر اراد تصدير الشوكة الحربية للاعراب الي خارج الجزيرة العربية ليستفيد من قوتهم الحربية في اكتساب ارض جديدة ويتخلص من متاعبهم، والا كان سيظل في معارك متصلة مع قبائل تحترف القتل والاقتتال والاستحلال طلبا للعيش، وتلك حياتهم التي استمرت قرونا قبل الاسلام، وبعده ايضا.. الا ان الفتوحات جعلت ابا بكر يتغاضي عن ملحمين اثنين اخرين من ملامح دولة النبي، وهما: ان يكون القتال في الدفاع عن النفس فقط، وليس للهجوم، وان يعاقب العدو المعتدي بأرغامه علي دفع الجزيرة اذا انتصر المسلمون، والجزية غرامة يدفعها المعتدي المهزوم في كل زمان ومكان .
الذي حدث هو ان القواد الغزاة في دولة ابي بكر وعمر كانوا يطلبون قبل الهجوم – ممن جعلوه عدوا: اما الاسلام، واما الجزية واما الحرب، او بمعني اخر، ارغامه علي الاسلام والا فالجزية، والا فليحارب قوما اعتبروا الغزو جهادا يضمنون به الجنة او النصر. وتلك ثقافة لم يعرفها عصر النبوة، الا انها ثقافة العصور الوسطي التي تعامل بها أبو بكر، انها ثقافة الاكراه والارغام التي تخالف الاسلام .
رابعا: الذمة المالية للحاكم:
الا ان ابا بكر حافظ علي ملمح هام للدولة الاسلامية، وهي الشفافية والطهارة المالية. فاذا كانت الدولة الدينية تجعل الخليفة يملك الارض ومن عليها، وليس عليه رقيب فيما ينفق وفيما يجمع من اموال، فأن الدولة الاسلامية تجعل الثروة: ملكا للمجتمع، وهي للافراد طالما احسن الفرد استثمارها، والا وجب الحجر عليه وكان سفيها، يقول تعالي ]: ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها: النساء 5[ . وهنا نلاحظ ان المسلمين حتى اليوم يعطون اموالهم طوعا أو كرها لأكثر المخلوقات سفاهة ـ أى حكامهم الذين يتندر العالم المتحضر على مخازيهم وسفههم ـ وقد أضاعوا البترول وحقوق الأجيال القادمة فيه فى اللهو والأنحلال و قتل بعضهم البعض واكتناز اموال لا يستحقونها وسلاح لا يستعملونه الا في قتل انفسهم، وفى الدعوة للكهنوت الوهابى وتكذيب حقائق القرآن والأسلام. أن الأسلام الحق هو اعظم نعمة وقد أضاعوه واستخدموا نعمة البترول فى الصد عن سبيل الله تعالى. اقرأ فيهم وفى غيرهم قوله جل وعلا: "ألم تر الى الذين بدلوا نعمت الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار.."ابراهيم 28" واقرأ ما بعدها للعظة و الأعتبار.
وفي الغرب، فأن الحاكم هناك يأخذ راتبه من اموال دافعي الضرائب بعكس ما نتمتع به في عالمنا الثالث، حيث يمتن علينا الحاكم بأنه ينفق علينا في الصحة والتعليم والخدمات، كما لو كان ينفق من ضيعته او حر ماله، ثم ينفق اموال الامة بما يحلو له. ولكن الواقع التاريخي يثبت انه في ظلام العصور الوسطي كان أبو بكر اول حاكم يأخذ مرتبة او عطاءه من المجتمع. او بتعبير السيوطي "اول خليفة فرض له رعيته العطاء". اذ كان يعمل تاجرا، وبعد الخلافة ذهب الي السوق كعادته الا ان عمر وبعض المسلمين ارجعاه والزماه ان يتفرع للحكم مقابل مرتب سنوي قدره الفان، وطلب علاوة "فقال زيدوني فان لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائه" .
وعند احتضاره امر أبو بكر ابنته السيدة عائشة ان تعيد " العهدة" الي بيت المال، وقال لها "اما انا منذ ولينا امر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، لكنا اكلنا من جريش طعامهم ولبسنا خشن ثيابهم". وامرها ان تعيد لبيت المال عبدا وبعيرا وقطيفة .
وبعد موته جئ بهذه " العهدة " الي عمر فقال باكيا: "رحم الله ابا بكر، قد اتعب من بعده ".
وتلك هي المنقبة التي تسجل لأبي بكر .
أبو هريرة والكلاب
ـ هل تريد ان تكون مفكرا ؟ ضع نصب عينيك سؤالا واحدا يقول :" لماذا ؟" احمله على كاهل عقلك تواجه به كل مألوف من الثوابت المحيطة بك . منذ صغرى وأنا أحمل هذا التساؤل يسعدنى ويشقينى ويفعل نفس الشىء مع من يقرأ لى .
2 ـ أول "لماذا" طرأت على عقلى هى أخطر "لماذا" على الاطلاق .
كنت صبيا صغيرا يرى فى أبيه المثل الأعلى ، أبى كان فقيرا كريما عفيف النفس متسامحا مبتسما دائما برغم مرضه وضعف صحته . كان مأذون القرية الذى يتنازل عن معظم أتعابه رغم فقره ، ويتنازل عن الأجرة من الطلبة الفقراء الذين يقوم بتعليمهم القرآن وتأهيلهم لدخول الأزهر، ويمضى يومه بين الصلاة والقرآن والقراءة معتكفا عن الناس . مات فى الخامسة والأربعين حين كنت فى الرابعة عشر من عمرى، ولا زلت أذكر كيف حببنى فى التاريخ والسؤال والاستفهام بلماذا حتى أفهم التاريخ والحياة بصدق.
كان أبى يرحمه الله تعالى هو موضوع أول وأخطر " لماذا " فى حياتى .
فى ظل الاحتراف الدينى السائد والتدين السطحى الغالب كنت أقارن بين أبى الأزهرى والشيوخ الشعبيين المشهورين بالولاية الذين تشاع عنهم أساطير الكرامات، بينما هم فى الحقيقة جهلة ومنحرفون، أى أنهم عند الله تعالى فئة " مسجل خطر " وعند الناس أولياء الله تعالى الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون . لا وجه للمقارنة بينهم وبين أبى ،" فلماذا " أصبحوا هم أولياء لله بينما ظل أبى شيخا عاديا مع علمه وورعه ؟. فى صغرى قلت لنفسى اذا كان هذا هو الاسلام فهو ظلم أرفضه ، واذا كان الاسلام يرفض ذلك الظلم فلا بد أن أتأكد بنفسى . هذا هو السبب الذى جعلنى أختار التصوف لبحث الدكتوراه . دخلت فى البحث فى التصوف فتبين لى وجود فجوة هائلة بين الاسلام والمسلمين ، بالتعمق فى بحث الفقه والتراث السنى اتسعت تلك الفجوة لتصبح تناقضا وعداءا مستحكما بين الاسلام ومعظم المسلمين.
الفضل فى هذا الاكتشاف الذى أتعبنى واتعب غيرى يرجع لكلمة " لماذا ؟" .
3ـ "لماذا" أخرى ظريفة تسللت الى عقلى وجعلتنى اقف موقفا متشككا من الفقه والحديث والسنة منذ كنت طالبا فى الاعدادى الأزهرى
تعلمنا فى الفقه أن الكلب نجاسة مغلظة لا بد من التطهر منه سبع مرات احداهن بالتراب. ولكن القرآن الكريم يقول شيئا مختلفا . لو كان الكلب حيوانا نجسا ما صحبه أهل الكهف معهم وهم يتسللون لواذا من قريتهم الظالم أهلها . أهل الكهف شباب أطهار وصفهم الله تعالى بأنهم فتية آمنوا بربهم وزادهم الله تعالى هدى ، فكيف لمن كان فى منزلتهم فى التقوى والايمان أن يصحب معه كلبا اذا كان الكلب نجسا يتأفف المؤمن من الاقتراب منه كما نفعل نحن الان ؟.
لقد أباح الله تعالى لنا أن نأكل مما تصطاده لنا كلاب الصيد ، فاذا ماتت الفريسة بين انيابها فلا حاجة لذبحها بل نطهوها مباشرة لأن أسنان الكلب طاهرة مثل السكين الذى نذبح به. وأذا كان رب العزة قد جعل هذا تشريعا فى كتابه الحكيم { المائدة 4 } فلماذا يكون الكلب نجسا نجاسة مغلظة وهو الذى نأكل مباشرة مما يصطاده لنا بأسنانه ؟
سألت نفسى " لماذا " جعل الفقهاء السنيين الكلب نجسا بالمخالفة لتشريع الاسلام ؟
وتتابعت "لماذات " كثيرة عن الكلب المظلوم فى تراثنا الفقهى وحياتنا المعاصرة.
4 ـ يلفت النظر أن الكلب – عكس القط - مشهور بالوفاء لصاحبه وخدمته باخلاص ، يستوى فى ذلك ان كان الانسان يعيش فى الصحراء الجليدية أو فى الريف المصرى أو فى الصحراء العربية. أن من أقذع الهجاء فى العصر الأموى ما قاله جرير الخطفى فى قوم الأخطل.
قال يصفهم بالبخل الشديد :
قوم اذا استنبح الضيفان كلبهم قالوا لأمهم بولى على النار
فتمنع البول ـ شحا أن تجود به ـ وما تجود الا بمقدار
كان من عادة العرب فى البوادى أن يشعلوا النار ليهتدى بضوئها الضيوف . وكان من عادة الضيوف ـ السائرين فى ليل الصحراء اذا اقتربوا من مضارب قبيلة ما - أن يتحرشوا بالكلاب لتنبح فيعرف أهل القبيلة أن ثمة ضيوفا قادمين فيتأهبون لاستقبالهم . ويتهم جرير قبيلة الأخطل انه اذا استنبح الضيفان كلبهم ليلا أطفأت أمهم النار - ببولها ـ حتى لا يصل اليهم الضيوف .
بغض النظر عن تلك الصورة الشعرية المضحكة الموحية والنابضة بالحياة التى رسمها جريرفى شعره فان الكلب هنا يبدو فيها عنصرا هاما فى الحياة العربية ، ولا يزال . والقصص فى التراث كثيرة عن ذكاء الكلب ووفائه لصاحبه .
والسؤال هنا أيضا لماذا يعامل الفقه السنى الكلب بهذا الاحتقار مع عظيم فائدته ووفائه واخلاصه ؟
5 ـ ان أقوى قبيلة فى العصر الأموى كانت قبيلة " كلب " التى كانت تنتمى الى قبائل العرب اليمنية القحطانية مثل الأنصار. كانت "كلب "هى القبيلة التى كانت تسيطر على الطرق المؤدية للشام ، وكانت لها صلات وثيقة بالأمويين فى مكة . تزعم الأمويون رحلة الشتاء والصيف ، وبتحالفهم مع قبيلة "كلب " كانت قوافل قريش تسير فى الشام لا يتعرض لها أحد . ثم اختار الأمويون الدخول فى الاسلام حرصا على مصالحهم السياسية والتجارية ، وبعد اخماد حركة الردة أقنعوا أبا بكر والمسلمين بفتح الشام والعراق . وأحيا الأمويون التحالف القديم مع قبيلة "كلب " فسهلت " كلب " للمسلمين غزو الشام والعراق . وتوثق التحالف بين " كلب " ومعاوية اثناء ولايته على الشام ، و بسيوفهم استطاع أن يقيم ملكه . مذ كان معاوية أميرا على الشام فى خلافة عمر تزوج ابنة بحدل الكلبى أشهر زعيم لقبيلة "كلب" وانجب منها ابنه " يزيد ". كانت ميسون بنت بحدل الكلبى منذ أن استقر بها المقام فى قصر معاوية فى دمشق تحن الى حياة الصحراء وخشونتها ، وقالت فى ذلك شعرا مشهورا ، كان منه:
ولبس عباءة وتقر عينى أحب الى من لبس الشفوف .
فطلقها معاوية وأرسلها لأهلها ومعها ابنها يزيد ليتربى هناك فى مضارب أخواله فى الصحراء ليتعلم الفروسية والفصاحة. ولم يؤثر هذا الطلاق فى الحلف بين معاوية وقبيلة " كلب " بدليل أنهم هم الذين أرسوا توارث الحكم لأول مرة فى تاريخ المسلمين بتعيين ابن ميسون الكلبية "يزيد بن معاوية" ولى عهد لأبيه ثُم خليفة بعده.
وظل تاريخ الدولة الأموية يتأرجح فى أتون الصراع بين قبيلة "كلب " أقوى القبائل العربية القحطانية اليمنية وقبيلة " قيس " المضرية أقوى القبائل العربية الشماليةالعدنانية، حتى انشقت " كلب " على الأمويين وانضمت للدعوة الجديدة التى أقامها العباسيون فانهارت الدولة الأموية .
هذه القبيلة المشهورة - التى أقامت الدولة الأموية وأسقطتها والتى قامت على أكتافها الفتوحات العربية من بدايتها حتى وصلت الى آسيا الوسطى شرقا وجنوب فرنسا غربا - كان اسمها " كلب ". لم يستنكف أحدهم ان يقول بملء فمه أنه "كلبى " ، أوانه " ابن كلب " فلماذا أصبحت كلمة " ابن كلب " لعنة وسبا فى حياتنا الاجتماعية المتاثره بالفقه السنى ؟
6 ـ أكثر من ذلك انك لو بالغت فى شتم عدو لك ستقول له أنه " ابن ستين كلب " أو ما يعنى انه :" ابن كلاب " والمثل الشعبى المصرى يقول " كلب أبيض وكلب أسود ، قال : كلهم أولاد ستين كلب " أى "أولاد كلاب " وليس كلبا واحدا. مع اننا نعرف ان احد اجداد النبى محمد عليه السلام اسمه "كلاب "، يعنى اذا نسبت النبى محمد لجده " كلاب " وقلت انه "ابن كلاب " فقد قلت نسبه الحقيقى الشرعى ولا عيب فى ذلك ، ولكن الفقيه السنى سيصاب بامساك واسهال فى بطنه و" حول " – بفتح الحاء وفتح الواو – فى عينيه اذا طرأت له هذه الفكرة.
7 ـ باختصار : أننا ـ نحن العرب ـ الشعب الوحيد الذى يعترف بفضل الكلاب ولكن يجعلها نجسه ومحتقرة ويجعلها شتيمة وسبا ولعنة. والسؤال هنا " لماذا"؟ .
سألت نفسى منذ الصغر لماذا هذا الظلم لهذا الحيوان المخلص الوفى . وتجدد السؤال الى أن عثرت على السبب ، أنه أبو هريرة ، أكبر وأشهر كذاب فى تاريخ المسلمين وتراثهم.
8 ـ أبو هريرة مع شهرته الا ان اسمه الحقيقى مختلف فيه، طغت على اسمه كنيته :" أبوهريرة" بسبب شهرته بحمله للقطط الصغيرة . ولو ظل رجل يحمل قطة صغيرة فى ذهابه وايابه وسيره وحله وترحاله بحيث يطلق عليه : أبو هريرة لكان محلا للسخرية من الناس. وهكذا كان أبوهريرة فى حياته كما جاء فى تاريخه ، كان الناس يستهزئون به وكان يستمرىء منهم هذا الاستهزاء حتى وهو شيخ فى أرذل العمر ، حتى وهو أمير على المدينة فى الخلافة الأموية ، اذ كان يستهزىء به الكبار والأطفال طبقا لما جاء فى تاريخه . وموعدنا مع مقال خاص عما قالوه فى التراث السنى ذاته عن أبى هريرة حين كان "مسخرة " للمعاصرين له.
انه أقل الناس صحبة للنبى محمد عليه السلام ، الا أن شهرته ترجع لعاملين: لأنه عاش طويلا بعد موت كبار الصحابة ، ولأنه انحاز الى الأمويين يفترى لهم الأحاديث التى تناصرهم ، ويقوم القصاصون برواية احاديثه بعد الصلاة حيث كان القصاص وظيفة رسمية فى العصر الأموى تعادل منصب القضاء ،حيث كان القصاص يقوم بوظيفة وزير الاعلام فى عصرنا.
وابو هريرة - بأحاديثه التى نشرها القصاصون وتداولها الناس بالرواية الشفهية - هواشهر مؤسسى الثقافة السمعية التى لا زلنا أسرى لها حتى الآن ، وهى المسئولة عن تخلفنا العقلى والفكرى والدينى خصوصا بعد تدوين هذه الثقافة السمعية الشفهية ونسبتها كذبا وزورا للنبى محمد عليه السلام فى العصر العباسى ، اذ أصبحت دينا اسمه " السنة " وله تشريع يسمى " الفقه السنى ".
9 ـ أبو هريره فى تخلفه العقلى كان متعصبا للقطة منحازا لها فى كراهيتها للكلب ، أبو هريرة المسكين كره الكلاب لأن الهرة تكره الكلاب. وانعكس هذا فى أحاديثه التى جعلت الكلب نجسا محتقرا، تقول : (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار). (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات). (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب). رواه مسلم حديث رقم 279)
وجاء الفقه السنى يأخذ بأحاديثه ويجعلها دينا، ويختلف فى التفصيلات كالعادة .
ننقل هنا بعض الفتاوى السنية الوهابية المعاصرة التى أحيت التخلف السنى فى عصر الانترنت ، تقول الفتوى "المباركة" :
" ذهب الجمهور إلى نجاسة الكلب بجميع أجزائه وذهب الحنفية في الأصح عندهم إلى نجاسة سؤره وطهارة بدنه، وذهب المالكية إلى طهارة سؤره وبدنه، والراجح هو مذهب الجمهور، قال الإمام النووي في المجموع: مذهبنا أن الكلاب كلها نجسة، المَُعَلَّم وغيره، الصغير والكبير، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ، . واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات. رواه مسلم .
وعن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب. رواه مسلم ، وفي رواية له: طهر إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبع مرات.
والراجح نجاسة الكلب، ونجاسة جميع أجزائه، وإنما يجب غسل ما أصاب من ثوب أو بدون أو غيره بسؤره أو بدنه المبلول. والله أعلم."
ولتأكيد وجهة نظر أبى هريرة اخترع السنيون أحاديث أخرى نسبوها لأم المؤمنين عائشة، ورواها البخارى ومسلم تزعم أن من يقتنى كلبا ينتقص من أجره كل يوم قيراطاً. وأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة.
نكتة يضحك منها كل مكتئب محزون أن يقال أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة. لا يوجد الآن بيت فى العالم لبس فيه صورة انسان أو حيوان أو نبات، كما أن معظم البشر يحملون أوراق هوية أو جوازات سفر تحمل صورهم. فاذا كانت الملائكة لا تقترب من اى صورة مرسومة أو فوتوغرافية { فضلا عن السينما والتليفزيون ) فالمعنى الوارد أن الملائكة لن تدخل بيتا على الاطلاق ، فهل نجارى التخلف السنى ونسأل ببراءة : هل يعنى هذا أن الملائكة ستقضى ليالى البرد القارس فى الشارع معرضة للاصابة بالبرد والانفولنزا ؟؟
ذلك الافتراء الذى يزعم أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة أو كلب يخالف الحقيقة القرآنية التى تؤكد أن النبى محمد عليه السلام لا يعلم الغيب وليس له ان يتكلم فيه . ولكن الجهل السنى افترى هذه الأحاديث ليؤكد الخرافة ويحعلها دينا.
نكتة أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب تخالف أيضا القرآن الكريم . المؤمن بالقرآن الكريم يعلم ان هناك اثنان من الملائكة يلازمان كل انسان ويسجلان كل ما يلفظ من قول أو ما يفعل من فعل. طبقا لذلك التخلف السنى الوهابى من الممكن لأى شخص أن يتصور نفسه فى بيت ملىء بالعاهرات يفعل ما ما يشاء وسيضمن أن معاصيه لن يتم تسجيلها اذا اوقف كلبا على باب البيت ليطرد البوليس والملائكة أيضا. وهناك تطبيقات أخرى لهذه الفكرة الجهنمية لكل سارق وقاتل وخائن ومرتشى ونصيحة لهم باصطحاب الكلاب لطرد الملائكة وخداعها.
الفضل لهذه الأفكار العبقرية يرجع للتخلف السنى وأحاديثه المضحكة البائسة.
نعود الى أبى هريرة امام الفقه السنى لنرى كيف حاباه ذلك الفقه المتخلف فى أحاديثه وتشريعاته . فأكثر مما سبق تخلفا وسذاجة هو انحياز الفقه السنى للقطة واعلان طهارتها كيدا فى الكلب ، ووفاء لشيخهم أبى هريرة المأفون ، فرووا أحاديث تؤكد على طهارة القط – لاغاظة الكلب، ونقلت الفتاوى الوهابية هذا التخلف كالعادة فى عصر الانترنت. تقول احدى فتاويهم :" ..فإن الهر طاهر. ففي الموطأ والمسند والسنن أن أبا قتادة دخل على كبشة بنت كعب بن مالك وهي زوجة ابنه ، فسكبت له وضوءا ، فجاءت هرة لتشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه. فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقالت: نعم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ليست بنجس ، إنما هي من الطوافين أو الطوافات." فالحديث صريح في طهارة الهر كما هو واضح. وإذا كان طاهراً فلا يؤثر استلقاؤه على فراش المصلي ، ولا ملامسته له على صحة صلاته. ولكن يجب التحرز من بوله لأنه نجس عند الجمهور. ولمزيد من الفائدة فإن الكلب نجس على الراجح من أقوال أهل العلم، ونجاسته مغلظة يجب غسلها سبعاً على الراجح من أقوالهم أيضاً، وهو بعد موته أشد نجاسة منه قبل الموت، فما أصاب منه من رطوبة ثوباً أو بدناً أو غيره، فإنه يغسل سبعاً إحداها بالتراب. "
المهم أن الصراع بين القطة والكلب قد جعله أبو هريرة دينا وتشريعا ، وتأكد ذلك التخلف المضحك بالفقه السنى فى العصور الوسطى وظلاميتها. ثم جاءت الصحوة السلفية الوهابية لتبعث ذلك الافك المفترى وتنسبه للاسلام .
وفى الوقت الذى ينوء فيه المسلمون بكل أوزار العصر من تخلف وديكتاتورية وفساد وحروب أهلية وزلازل وفقر ومرض وانحلال يقوم الوهابيون السلفيون بنشر هذا التخلف المضحك لمناصرة القط والكيد للكلب ووفاء لشيخهم المقدس أبىهريرة ـ حامى حمى القطط والعدو اللدود للكلاب .
وبهذا التراث السنى الفقهى وبالصحوة السلفية المعاصرة تأثرت ثقافتنا السمعية المتخلفة فكافأنا الكلب على اخلاصه وخدمته لنا بجعله نجسا ولعنة متناسين تشريع القرآن والمكتوب فى تاريخنا نفسه. كل ذلك بسبب كذاب أشر وأفاك أثيم اسمه أبو هريرة .
10 ـ كل ذلك أيضا لأن احدا لم يسأل السؤال السحرى " لماذا "
هل تعرفون " لماذا" لا نسأل "لماذا" ؟
لأن اسرى الثقافة السمعية المتخلفة - الذين يعبدون الثوابت وما وجدنا عليه آباءنا - لا يسألون لماذا . هم قطيع من الأنعام طبقا لما وصفهم به رب العزة فى القرآن الكريم { البقرة170 ـ 171 } بل هم أضل سبيلا : ( الفرقان 44 ).
11 - المفجع ان الاخوان المسلمين - فى عصر الانترنت - يريدون أن يحكمونا بشريعة أبى هريرة التى لا يعرفون غيرها ..!!
والسؤال لك عزيزى القارىء الذكى هو : "لماذا "؟
النبى محمد عليه السلام كان يقرأ ويكتب، وهو الذى كتب القرآن بنفسه
مقدمة :
المستشرق الفرنسى جاك بيرك كان مشهورا بصداقته لشيوخ الأزهر. هذا المستشرق ترجم القرآن للفرنسية ثم كتب بحثا بالفرنسية بعنوان (اعادة قراءة القرآن ) طالب فيه باعادة كتابة المصحف وفق ترتيب النزول . وردد نفس الهراء القائل بأن القرآن كان يكتبه الصحابة على الرقاع والجلود ، وذلك بحضرة النبى محمد الذى كان لا يقرأ ولا يكتب . لم يستطع أحد من أصدقاء جاك بيرك فى الأزهر أن يفند دعواه فى اعادة كتابة القرآن وتغيير مواضيع آياته. قام الدكتور وائل غالى شكرى بترجمة هذا الكتاب الى العربية ، وطلب منى الناشر أن أكتب مقدمة للكتاب أرد فيها على المؤلف المستشرق جاك بيرك . كتبت ـ متطوعا ـ مقدمة الكتاب ، محللا ومنتقدا منهج جاك بيرك فى دعواه ، ورددت عليها . وفى أساس الرد أثبت خطأ الزعم الذى قاله علماء التراث بأن النبى محمدا عليه السلام لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب ، وأن هناك من كتب الوحى .لأنه بناء على هذا الزعم الباطل بنى جاك بيرك دعواه ، بل على أساس هذا الزعم الباطل يتأسس الطعن فى القرآن ، وهذا الطعن فى القرآن بدأه علماء التراث أنفسهم فيما يعرف " بعلوم القرآن " وفقا لما كتبه الباقلانى والسيوطى وغيرهما. لو قرأ مسلم بعض صفحات مما يعرف بعلوم القرآن وصدق الروايات والأساطير التى فيها خرج مكذبا للقرآن شاكّا فى كل آياته وسوره. باختصار فان اكذوبة أن محمدا عليه السلام لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب وأن هناك كتبة للوحى ، ـ هذه الاسطورة الكاذبة هى أساس الطعن فى القرآن. ثم جاء جاك بيرك وقال اذا كان القرآن مكتوبا بهذا الترتيب غير المنطقى بيد كتبة الوحى فلماذا لا نعيد كتابته بترتيب موضوعى أو حسب السنين. رددت عليه وتم نشر الكتاب عن طريق دار النديم للنشر فى أواسط التسعينيات. فى حينه كتب الكاتب الصحفى حسين جبيل فى الأهرام المسائى مشيدا بالفكرة الجديدة التى أتيت بها ، وقوة الاستشهادات التى تؤيد أن النبى محمدا عليه السلام كان يكتب ويقرأ وأنه هو الذى كتب القرآن بنفسه. ومع ذلك فلم يسمع أحد بالموضوع ، ومرّ الحدث بدون جدل أو تعليق، الى أن أعادت روز اليوسف القصة فثار الجدل ، واحتدم النقاش ، وأصبحت معركة فكرية امتدت من روز اليوسف الى صحف المتطرفين والاخوان ، حيث كتب المتطرفون ومنهم الشيخ سيدعسكر أمين مجمع البحوث وقتها يحكم بتكفيرى بسبب هذه القضية. لم أرد عليهم الى أن طلبت منى روز اليوسف الرد فرددت .
فى فترة ازدهار نسبى للصحافة المصرية كانت مجلة روز اليوسف رائدة فى التنوير و مطاردة الفساد .قادها وقتئذ الكاتب النابه عادل حمودة و معه فريق من الشباب اليبرالى فى مقدمتهم ابراهيم عيسى. أوسعت لى روز اليوسف نافذة لنشر مقالاتى ، فكنت أنشر فيها كل بضعة أشهر مقالا على قدر احتمال المجلة الليبرالية لآرائى وأفكارى. وفى شهر رمضان فى احدى سنوات التسعينيات نشرت لى أربع مقالات متتابعة فيما أذكر. وأكتسبت روزاليوسف الكثير من الاحترام ، وكان ما تكتبه يصبح قضية الأسبوع أو الشهر أو العام. ، ولكن ما لبثت أن فقدت كل هذا الاحترام حين تم عزل رئيس تحريرها الاستاذ محمدالتهامى وابعاد عادل حمودة وابراهيم عيسى، وجىء بصحفى حكومى ليتولى رئاستها فانحط بروزاليوسف وبتاريخها وسمعتها الى الحضيض.
طلبت منى روز اليوسف كتابة تعليق على من يقول باعادة كتابة المصحف لتنطبق كتابة القرآن مع الكتابة العربية العادية، فوجدتها فرصة لتنشر لى روز اليوسف ـ بنفوذها الواسع وتوزيعها الضخم ـ ما سبق وأن كتبته من قبل فى مقدمة كتاب " اعادة قراءة القرآن " والذى لم يلتفت له أحد . بادرت بارسال ملخص المقدمة المشار اليها فى مقال صغير وفق ما تسمح به مساحة النشر فى روز اليوسف.
وصدرالمقال فى روز اليوسف بتاريخ 21/10/96-عدد(3567) صفحات : 74/75/76
نشرت روز اليوسف ما يلى مقدمة لمقالى قالت فيها:
( فى عام 1971 نشرت مجلة الهلال دراسة للدكتور احمد حسين الصاوى طالب فيها بصراحة بضرورة تغيير رسم المصحف وقال وقتها : إن هذه مشكلة ملحة جدا ، إذ لا يقبل عاقل أن(ترسم ) بعض كلمات المصحف بخلاف ما تعلمه قراء العربية من هجاء وإملاء ، وحين قرأنا المقال مرة اخرى طلبنا من الدكتور احمد صبحى منصور وهو عالم درس فى الأزهر، وكان يدرس فى جامعته ،أن يوافينا برأيه . حين طلبنا منه أن يكتب مقالا حول هذا فاجأنا بقنبلة من نوع مختلف حول ما نؤمن به جميعا ، وهو ان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان يقرأ و يكتب وهو كاتب القرآن. ومعه أدلة ، ونحن ننشر ونطرح الأمر للجدل)
أعيد هنا الآن نشر المقال كما هو، ثم أذكر ما حدث بعد نشره:
هل كان النبى عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب.. ؟
دكتور احمد صبحى منصور
إذا اراد شخص أن يطعن فى القرآن فعليه بكتب التراث . خصوصا ما يعرف منها بعلوم القرآن . فإذا قرأ بضع صفحات وصدق ما قرأ خرج متشككا فى آيات القرآن وسوره وكتابته وكل شئ. وقد وفرت تلك الروايات التراثية الفرصة العظمى للمستشرقين فى كل إتهاماتهم للقرآن وآخرهم المستشرق الفرنسى جاك بيرك . فى كتابه :(إعادة قراءة القرآن) .
اما إذا اردت ان تعرف الحق من القرآن عن القرآن فلتقرأ معنا بعين نقديه ما يلى:
المشهور فى كتب التراث ان النبى محمدا صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ و لا يكتب وانه استعان بمن يكتب له الوحى ،وان احد كتبة الوحى ارتد . ذلك كله يوحى بالشك فى تدوين القرآن ، ولكن الاخطر فى تلك الرويات هو ما قالوه عن جمع عثمان للمصحف ، وتأثر هذا الجمع بالفتن السياسية التى صاحبت خلافة عثمان ، ثم أراء أخرى تنسب للحجاج بن يوسف تغيير بعض الكلمات فى القرآن .. فأين الحق فى هذا كله ؟!
موقف شيوخنا الابرار غاية العجب، فهم يدافعون عن التراث وما يسمى بعلوم القرأن بكل ما فيها من طعن في القرآن وفي خاتم النبيين (ص) ،ولا يجرءون على مناقشتها وتوضيح خطورتها ، ثم اذا تصدى مفكر مسلم لمناقشة هذه الروايات البشريه اتهموه بالكفر وإنكار السنه . فاذا قام بعض المفكرين بنقل هذه الرويات والاعتماد عليها اتهموه بالطعن في القرأن ،مع انه ينقل من التراث "المقدس"الذي يتركونه لينفجر في عقائد الناس وعقولهم.
دعونا نسأل اولا :
هل صحيح أن النبي محمد(ص) كان لا يعرف القراءة والكتابه ؟
وهل صحيح انه عهد لأصحابه بكتابة القرأن فكتبوه حسبما تيسر على اوراق الشجر، وعلى الحجر وعلى الرقاع ؟
وهل صحيح انه ظل كذلك حتى جمعه ابو بكر الجمع الاول من أفواه الصحابه، ومن على الوراق والاحجار والرقاع؟
ثم جمعه عثمان الجمع الأخير....؟؟!!!
هل يعقل أن يكون النبي محمد(ص)الذى كانت معجزته القرأن لا يقرأ ولا يكتب؟ ذلك القرآن الذي هو معجزةعقلية لكل البشر في كل زمان ومكان، هل يعقل ألا يستطيع تدوينها فيترك ذلك لاصحابه ؟
وهل يعقل ان يكون النبي محمد (ص)لا يعرف القراءة والكتابة وهو الذي كان يتاجر للسيدة خديجة في الشام ،فكيف يكون الوكيل التجاري لايعرف القراءة والكتابة وهو يتعامل مع أهل الشام المشهورين بمهارتهم ودهائهم التجاري؟
لا يعقل طبعا .
ثم ناتي للقرأن بعد العقل........
إن القرأن الكريم يؤكد على أن النبي محمدا (ص) كان يقرأ ويكتب .
فأول ما نزل للقرأن هو امر إلهي :(اقرأ)، والله تعالي لا يأمره بالقراءة إلا إذا كان قارئا.....
ولانتصورعقلأ ان يقول له ربه : (اقرأ) فيرفض قائلأ : (ما انا بقارئ)، كما لا نتصور عقلا ان يكون ذلك الراوي لتلك الرواية حاضرا مع النبي محمد(ص) حين نزلت عليه الآية، وحتى لو حضر فكيف يسمع حوار الوحي.إذن هي رواية ملفقة.
والقرآن يؤكد على ان النبى محمدا (ص) كان يقرأ القرآن من صحف مكتوب فيها القرآن :( رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ) "البينة 2" اى كان يتلو بنفسه من صحف ،وليس من أوراق الشجر او الاحجار او الرقاع .
والقرآن يؤكد على ان النبى محمدا (ص) قبل البعثة كان لا يتلو كتبا سماوية ،وكان لا يخطها أو يكتبها ، فلما اصبح نبيا تعلم القرأة والكتابة ، واصبح يتلو القرآن ويكتب آياته ،يقول تعالى :( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ "العنكبوت 48".
ويقول تعالى عن مشركى مكة واتهامهم للقرآن بانه " أساطير الاولين " : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ).. " الفرقان 5" ، ويهمنا هنا ان المشركين اعترفوا بان النبى محمدا(ص) كان هو الذى يكتب القرآن بيده، وان أصحابه كانوا لا يكتبون القرآن ، وإنما كان دورهم فى تملية النبى (ص) فقط إذا ارادوا نسخ بعض السور ليقرأوها ، وكانوا يملون عليه من نسخة أخرى ، وكان ذلك يحد ث بكرة واصيلا فى الصباح والمساء ، أى أنه ليس هناك كتبة للوحى كما زعموا .
بل إن هناك ايات عديده تؤكد كلها ان النبى محمدا كان استاذا للمؤمنين، يتصرف معهم كما يتصرف الاستاذ الذى يعلم التلاميذ القرآن، يتلوه عليهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة(البقره 129،151، ال عمران77،الجمعه 2).
ثانيا :
ولكن القرآن يصفه بانه (أمى)أى لا يعرف القراءه والكتابه ، وهذا هو مفهوم (الأمى) فىالتراث.
ولكن مفهوم (الأمى)و (الأميين)فى القرآن يعنى الذين لم ينزل عليهم كتاب سماوى سابق .
فاليهود والنصارى هم اهل الكتاب او الذين أوتواالكتاب ,وغيرهم من سكان الجزيره العربيه هم (أميون)اى لم يأتهم كتاب سماوى قبل القرآن ، وبهذا كان يميز القرآن بين اهل الكتاب العرب وبقيه العرب الذين لم يكونوا يهودا,او نصارى، واقرأ فى ذلك قوله تعالى :( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ )و(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )....(ال عمران20، 75 )....(فالأميون)أي العرب الذين لم يأتهم كتاب سماوى فى مقابل اهل الكتاب العرب ،وخصوصا ان مصطلح(عربي ) لم يات فى القرآن وصفا لاهل الجزيرة العربية اولبعضهم دون الاخر،إذ كانوا جميعا عربا، وإنما جاء وصفا للسان العربى الذى يتكلمون به ، ونزل به القرآن .إذا كان الطريق الوحيد فى التمييز هو وصف بعضهم بانهم اهل كتاب ووصف الاخرين بانهم "أميون". بل وصف القرآن بعض الذين يقرأون ويكتبون من اليهود بأنهم "أميون" حيث كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يزعمون انه من عند الله .. فقال أنهم "أميون" لانهم جهلوا بالكتاب السماوى فاصبحوا كباقى العرب الذين لم يأتهم كتاب سماوى ، والخلاصة ان كلمة "أمى" لا تعنى الجهل بالقرءة والكتابة ، وإنما تعنى غير اليهود والنصارى .
المهم أن نفهم القرآن بمصطلحاته هو ، وليس بمصطلحات التراث ، والمهم أيضا ان وصف النبى محمد (ص) بالامى يعنى الذى لم ينزل عليه كتاب من قبل القرآن ، مثل قومه الأميين .
ثالثا:
نفهم مما سبق انه ليس هناك كتبة للوحى ، بل هناك كاتب وحيد للوحى هو محمد (ص) نفسه، وهو وحده المؤتمن على كتابة القرآن . والسؤال الهام هو: لماذا ؟.
لأن للقرآن الكريم نوعية خاصة من الكتابة ، وهذه الكتابة القرآنية لا تزال حتى الان مختلفة عن الكتابة العربية
العادية ، وهى ما يعرف الان بالرسم العثمانى نسبة الى الخليفة الثالث عثمان بن عفان ،والذى حدث ان النبى (ص) اتم بنفسه كتابة وجمع القرآن وترتيبه فى نسخة اصلية ، ومات (ًص) تاركا هذه النسخة لدى أم المؤمنيين حفصة. وكانت تلك النسخة الاصلية مرجعا للتلاوة ،وفى عهد أبى بكر قام بنسخ -اى كتابة- أول مصحف.. فالذى فعله أبو بكر ثم عثمان هو نسخ المصحف من النسخة القرآنية الاصلية المكتوبة بخط النبى (ص) وليس كتابة او جمع القرآن ، بل ان كلمة "مصحف" ليست من مصطلحات القرآن ،بل هو اصطلاح نبت بعد النبى (ص) ليدل على الحصول على نسخة من القرآن تتكون من "صحف القرآن بين دفتين " فيكون ذلك مصحفا، وذلك ما فعله أبو بكر و الصحابة خلال الفترة الاولى قبل الفتنة الكبرى. وفى عهد عثمان توطدت الفتوحات وانتقل القرآن بالمصاحف الى تلك البلاد بعيدا عن المدينة ،وحدث خلط فى نقل المصاحف حيث نقلوا بعضها بالكتابة العربية العادية المخالفة لنوعية الكتابة القرآنية. وكان حتما ان تختلف القراءة وان يختلف المسلمون، ولذلك اسرع عثمان فجمع المصاحف المخالفة واحرقها وألزم الناسخين بنقل النص القرآنى بالكتابة القرآنية الفريدة .
ولا زال ذلك مرعيا حتى الان ، وهو ما يعرف بالرسم العثمانى نسبة الى عثمان .
ونعود الى نفس السؤال :
لماذا كان النبى (ص) هو الوحيد الذى كتب القرآن ، ولماذا يكتب القرآن بهذه الكيفية المختلفة عن الكتابة العربية العادية ؟
نعود الى الآية الكريمة التى عرضت لاستهزاء المشركين بالنبى ، وهو يكتب القرآن بنفسه يمليه عليه اصحابه : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ).. " الفرقان 5")، وياتى الرد من الله تعالى بإشارة غير متوقعة :( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) الفرقان 6 )
أى فالقرآن ليس اساطير الاولين ، بل إن الله تعالى الذى انزله هو الذى ( يعلم السر فى السماوات والارض).
وهو تعالى الذى ادخر سرا فى نوعية الكتابة القرآنية ليكون أحد مظاهر الاعجاز فى عصور ستأتى فيما بعد .
ونعطى بعض الامثلة السريعة ، ان هناك سرا فى ان كلمة واحدة مثل "الايكة" تكتب بطريقتين مختلفتين ، ففى سورة (الحجر:78) ، وسورة (ق:4) تكتب هكذا (الأَيْكَةِ ) ، وفى سورة (الشعراء:176 ) ، وسورة (ص: 13) تكتب هكذا (لئيكة) ، وكلمة( إذن) تكتي احيانا (إذن) واحيانا (إذا) .
والالف تحذف من بعض الكلمات ويعوض عنها بالف صغيرة مرسومة مثل : ( الرحمن ، السموات) ، وتبقى الألف فى كلمات اخرى (الناس ) ، ( السيارة) ، واحيانا تاتى نفس الكلمة بألف مثبتة احيانا ، ومحذوفة الالف احيانا مثل كلمة (تبارك) و(تبرك) .
ولا شك ان هناك قواعد سرية للكتابة القرآنية ، ولكن لم يكشف عنها النقاب بعد ، لانها مرتبطة بأعجاز عددى ورقمى بدأت ملامحه تظهر ، وستتوالى الاكتشافات مع دخول العالم فى عصر ثورة المعلومات حيث تصبح الارقام هى اللغة العالمية السائدة بالكمبيوتر، وحيث تتضح وتتأكد علاقة الكتابة القرآنية وحروفها بالارقام ، وحيث يتأكد الغرب المتقدم الذى لا يؤمن الا بالعلم المادى ان الذى انزل القرآن لا يمكن ان يكون سوى خالق السماوات والارض ، والذى يعلم السر فى السماوات والارض ، وحيث يتأكد من يعبدون التراث ان ذلك التراث أساء للقرآن الكريم حين كتب عنه هذه الروايات .
رابعا:
ومما يبعث على الفخر أن المصريين هم اول من فتح الباب فى اكتشاف الإعجاز العددى للقرآن. ذلك الإعجاز الذى يرتبط إرتباطا وثيقا بنوعية الكتابة الفريدة للقرآن .
1-بدأ ذلك الدكتور عبد الرزاق نوفل فى كتابه( الإعجاز العددى فى القرآن الكريم) ودار كتابه حول التناسق الغريب بين كلمات القرآن . فمثلا كلمة (الدنيا)وكلمة( الآخرة)كل منهما تكرر فى القرآن (115) مرة.
2-ومن خلال الكمبيوتر إكتشف الدكتور رشاد خليفة إعجاز الرقم (19) فى كلمات وحروف وآيات القرآن . والعلاقات المعقدة بينها . وكان ذلك الإعجاز الذى اكتشفه فوق تحمل إمكاناته العقلية فإدعى النبوة .ولقى مصرعه... وكنت شاهدا على طرف من حكايته .
3- وتلقف منه الراية مصرى مقيم فى كندا وهو الاستاذ محمد مصطفى صادق . وأجرى ابحاثه حول الرقم (7) فى القرآن . وعثر على نتائج غريبة فى تناسق الحروف والكلمات فى الكتابة القرآنية .
4- ثم إختار الأستاذ مراد الخولى –المصرى المقيم فى كندا ـ نهجا آخر فى كشف الإعجاز فى الكتابة القرآنية . هو حساب قيمة الكلمة القرآنية عدديا طبقا لعلم الحرف . حيث يكون لكل حرف قيمة عددية . ووصل إلى نتائج مذهلة .. وربط احيانا بين هذه النتائج والأعجازات المتصلة بألرقم (19) . (7)
والواضح أن البحث لا يزال فى بداية الطريق .. وأن الإعجاز العلمى للكتابة القرآنية يستلزم المزيد من الجهد ، وسيكون حديث الدنيا فى القرن الواحد والعشرين .. والله تعالى اعلم .)
انتهى المقال ، ولكن بدأت الضجة فى صحف المتطرفين ومجلاتهم ، منها ما كان حزبيا ومنها ما كان حكوميا ، وتعدى الأمر الى المساجد ، وتفنن الجميع فى الهجوم والتكفير والالحاح على أن هناك مؤامرة دفعتنى الى هذا القول للنيل من معجزة القرآن. كلام لا يقوله الا المجانين، والعادة انه حينما يتحكم التعصب يقدم العقل اجازة مفتوحة. لم يسأل أحدهم نفسه من منا الذى يدافع عن القرآن ؟ أنا بهذا المقال أم هم بغوغائيتهم وجهلهم وصراخهم وغبائهم المصنوع محليا وتراثيا؟
كالعادة لم أرد. وحتى لو أرسلت ردا الى تلك الصحف فلن تنشره، بل قد تنشر الرد على ردى دون أن تنشر ردى نفسه كما فعلت جريدة الوفد حين كان يهيمن عليها جمال بدوى . فوجئت بعدها بالصديق عادل حمودة يتصل بى ليلا يخبرنى أن ردا على مقالى جاء من عميد احدى الكليات الاقليمية بجامعة الأزهر، وانه ـ أى عادل حمودة ـ يريد نشر هذا الرد من ذلك الشيخ مشفوعا بردى أنا أيضا عليه. وأن فرصتى الوحيدة فى الرد عليه هو أن أقرأ رد ذلك الشيخ وأكتب الرد فى نفس الليلة وأرسله صباحا ليلحق الطبع. أرسلت ابنى على عجل الى روز اليوسف فجاء بنسخة من المقال، وسهرت الليل حتى كتبت الرد عليه ، وفى الصباح الباكر كان ردى جاهزا أمام عادل حمودة الذى بادر بنشر مقال الشيخ ومقالى متجاورين. وكان هناك ردّ آخر بذىء لا يستحق الرد عليه فتجاهلته عقابا لصاحبه ، وهذه هى طريقتى فى تأديب السفهاء .. وما أكثرهم فى هذا الزمن الردىء
( ملاحظة : أرسلت لى روز اليوسف مقال "الدكتور العميد محمد جبل " بكامله وكان طويلا ، ولكنهم عند نشر مقاله لاحظت أنهم حذفوا بعض أجزائه ـ ربما لضيق المساحة ـ ونشروا ردى على المقال بالكامل ومنه الرد على بعض ما حذفوه من المقال المذكور )
وبتاريخ 18 /11/96 ، وفى عدد [3571 ] نشرت روز اليوسف فى صفحاتها : 54_55_56_57_58
ما يلى :
خلافات أزهرية فى قضية فقهية
هل كان النبى (ص) يقرأ ويكتب ؟
نشرنا مقالا للدكتور احمد صبحى منصور نفى فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أميا ..وقال انه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب وأن (الأمى) لفظ لم يكن يطلق على من لا يعرف القراءة والكتابة ..وقد وصلنا ردان حول هذا الموضوع ننشرهما وننشر تعليقا للدكتور احمد صبحى منصور.
النبى محمد لم يكتب القرآن
كلمة(أمى) معناها فى كتب التفسير .. لا يقرأ ويكتب
حين قال النبى( ما أنا بقارئ).. لم يكن يرفض امر الله
هذه النظرية فبركة وخيانة للعلم والناشئة والأمة
بقلم د. محمد جبل
نشر فى عدد21/10/96، من روز اليوسف بحث للدكتور احمد صبحى منصوريقرر فيه أن النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ ويكتب ، وأن وصف النبى محمد بأنه(أمى) معناه أنه ليس من أهل الكتاب الذين هم اليهود والنصارى .
وقد إحتج د.احمد صبحى منصور لرأيه المذكور بأدلة عقلية من ناحية ، وبآيات من القرآن من ناحية أخرى، كما أنه ابدى رأيا فى فى محتويات التراث فى مجال علوم القرآن.
وهذه مناقشة علمية للبحث المذكور :
اولا:
وصف القرآن الكريم النبى محمد(صلى الله عليه وسلم) بأنه النبى الأمى فى آيتين فقال فى الأولى :(... ورحمتى وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الذكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل ... )(الأعراف 156_ 157)وقال فى الأخرى (... فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى ...)(الأعراف 158)
والمرجع هو بيان المعنى اللغوى لأى كلمة فى اللغة العربية . ولا مجال للإجتهاد فى المعنى اللغوى إلا فى حدود تحرير التعبير عن ذلك المعنى أى تدقيقه .
والمرجع فى بيان المعنى المراد بألكلمة القرآنية هوكتب تفسير القرآن، وهو مجال للإجتهاد لمن توافرت فيه الأهلية والأدلة ، وبشرط الإلتزام بإطار المعنى اللغوى . وهو إطار واسع يشمل المجاز والكناية ودليل الخطاب الخ ..والالتزام بإطار المعنى اللغوى ضرورى تماما . لأن التحلل منه يلغى اساس التفاهم الذى هو وظيفة اللغة . وإذ بدا تعارض بين نص محترم (مقدس أو تشريعى ) فالواجب الأول هو الإجتهاد لدفع التعارض الظاهر .وبيان أنه لا حقيقة له . وهذه أمور ليست ـ أو لا ينبغى ـ محل خلاف بين اهل العلم .
وقد أجمعت المعاجم العربية القديمة التى ذكرت لفظ ( أمى ) (لسان العرب وتاج العروس ومفردات القرآن والقاموس ومقاييس اللغة والمصباح ) . على معنى لفظ (الأمى) هو ( الذى لا يكتب) وأضافت الثلاثة الأولى(و لا يقرأ من كتاب )أو (لا يقرأ المكتوب) وسنبين قيمة هذه الإضافة بعد قليل .
أما كتب التفسير فقدى أجمعت ايضا على أن معنى الأمية عدم معرفة الكتابة ( تنظر تفسير الطبرى ,, وتحقيق شاكر’’ 2/259 و282 وابن عطية( ط قطر) 1/363 والزمخشرى( دار المعرفة) 1/78 والقرطبى( دار الكتاب)7/289 وأبى حيان 4/403 وابن كثير ، مكتبة التراث الإسلامى 1/116 ) وقد اضاف ابن عطية( ولا يقرأ فى كتاب ) وعبارة القرطبى لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها ’’ أى قراءة الكتابة ’’ وهى اضافة توضيحية قيمة . ولكن يمكن الإستغناء عنها . لأن الفيصل فى الأمية من عدمها هو معرفة الرموز الخطية للكلام (الحروف وتركيباتها، وممارسة رسم هذه الرموز بألخط . فمن عرف الرموز ومارس رسمها فليس أميا ، وهو يستطيع قراءتها عادة. ومن لم يعرف الرموز ولم يمارس رسمها ولم يمارس رسمها فهو أمى وهو لا يستطيع قراءة الرموز حينئذ، ومع ذلك فالأضافة المذكورة جيدة لأنها تضيف توضيحا يجنب اللبس الذى يظهر فى عبارة الطبرى 2/257. والفخر الرازى فى تفسيره (ط الغد العربى) 7/306 . حيث عرف الأميين بأنهم الذين ’’ الذين لا يكتبون ولا يقرأون ’’ هكذا دون أن يقولوا ’’ ولا يقرأون المكتوب ’’ - مما يوهم أن مجرد القاء الكلام المحفوظ عن ظهر قلب مثلا هو من القراءة التى تتنافى مع وصف الأمية . وهذا غير صحيح .
والأساس اللغوى لذلك التحريرهو أن كلمة’ الأمى ’هى على صيغة النسب إلى ’ الأم ’ والأم هنا معناها أصل الشئ ومبتدؤه. جاء فى لسان العرب ’ ام كل شئ اصله ..’ . ومن ذلك الأم: الوالدة لأنهامبدأ الولد(فتح البارى الحلبى 9/222 ) .أى المصدر الظاهر لوجوده فى عالم الأفراد . فالأمى هو انسان على أصل خلقته ومبتدئها كما ولد .. وهو على الفطرة ولم يكتسب مهارة تكسر هذه الفطرية وتنهيها . والكتابة هى اهم المهارات الصناعية والكتابة هى أهم المهارات التى تخص الإنسان وتنهى فطريته أى اميته . ومما يشهد لهذا التحرير تفسير – الرسول صلى الله عليه وسلم – الأمية ’’إننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ’’ صحيح البخارى ط الشعب 3/53 ’’ ولم يذكر القراءة . ومعنى هذا الحديث اننا لا نفتقر فى عبادتنا ومواقيتها الى إلى كتاب (أى كتابة) ولا حساب( تفسير ابن كثير1/116 ) فالأمية هى عدم معرفة الكتابة ولا قراءة المكتوب . والقراءة التى تنافى الأمية هى القراءة مطالعة من صحيفة أو كتاب . أى قراءة المكتوب .
والخلاصة أن هناك إجماعا فى المعاجم العربية وكتب التفسير التى ذكرناها – بإستسناء عبارتى الطبرى والفخر الرازى المذكورتين – على معنى الأمى وهو: الذى لا يكتب ولا يقرأ المكتوب .
ثانيا :
فى مقابل لفظ (الأمى) فى وصف النبى – صلى الله عليه وسلم – بأنه لا يكتب ولا يقرأ المكتوب جاءت الفاظ فى بعض الآيات القرآنية يوهم ظاهرها أن النبى صلى الله عليه وسلم يكتب ويقرأ ويتلوا صحفا- مما يتعارض مع التفسير المذكور. وهذه الألفاظ الموهمة هى التى إعتمد عليها د.صبحى فى إدعائه ان – صلى الله عليه وسلم كان كان يكتب ويقرأ المكتوب ، وأن لفظ (أمى ) إنما يعنى( الذى ليس من اهل الكتاب ) الذين هم اليهود (اهل التوراة ) والنصارى (اهل الأنجيل) . وسنقف الآن على الألفاظ الموهمة التى إعتمد عليها د. صبحى .
1- القراءة .. فى قوله تعالى – فى أول مانزل (( إقرأ باسم ربك..)) اول سورة العلق . يقول د. صبحى ( إن الله لا يأمر نبيه بألقراء إلا إذا كان قارئا) . ويقول : (ولا نتصور عقلا أ، يقول له ربه إقرأ ، فيرفض قائلا ما أنا بقارئ ، كما لا نتصور عقلا أن يكون ذلك الراوى لتلك الرواية حاضرا مع النبى – صلى الله عليه وسلم – حين نزلت عليه الآية ، وحتى لو حضرفكيف يسمع حوار الوحى ، إذن هى رواية ملفقة ) هذا كلام د. احمد ، وهذه الفقرة من كلامه مزدحمة بإلأخطاء .
(أ) فالمعنى الأصلى الدقيق للقراءة هو حفظ المادة المقروءة أى وعيها فى القلب . لأن التعبير بالقراءة مشتق من قول العرب عن الناقة أو الشاة بأنها (قرأت ) أى حملت جنينا فى بطنها . ويقولون قرأت النجوم أى غابت( فى جوف الأفق ) وأقرأت الحية أى اجتمع سمها فى مقره فى جوف بدنها ( لسان ا لعرب ,قرأ, . وثلاثة كتب فى الأضاد 1/6 ) ففى كل هذه الأمثلة تعبير عن مادة تدخل فى الجوف الباطن. وهكذا المعنى الأصلى للقراءة . وقد جاء هذا الإستعمال الأصلى للقراءة فى القرآن الكريم فى قوله تعالى (( سنقرئك فلا تنسى )) حيث اجمع المفسرون على أن هذه الآية وعد من الله أن يجعل نبيه يحفظ القرآن فلا ينساه .
ثم إن القراءة تستعمل فى فرعين لذلك المعنى الأصلى أحدهما : مطالعة الكلام المكتوب – من حيث ان تلك المطالعة هى رافد تكون الكلام المقروء ومعانيه فى القلب . فاستعمل اللفظ فى سبب المعنى الأصلى .
وثانيهما القراءة بمعنى أن ينطق بلسان ماهو مختزن فى قلبه . فاستعمل لفظ الأصل للتعبير عن المسبب عنه وقد جاء الإستعمالان فى القرآن الكريم ، فمن قراءة المكتوب (( حتى تنزل علينا كتابا نقرأه )). الإسرء /93 –فهذا صريح فى القراءة مطالعة من كتاب . ومن القراءة بمعنى الإلقاء دون مطالعة من كتاب قوله تعالى (( فإذا قرأنه فإتبع قرآنه )) فهنا لا يحتمل أبدا أن تكون( قرأناه ) معناه طالعناه من كتاب . تعالى الله عن ذلك
والآن فإن د.صبحى يظن أن للقراءة معنى واحدا هو مطالعة كلام مكتوب . وفسر به قوله تعالى :(إقرأ بإسم ربك) وهذا غلط والصواب معناها - إقرأ القرآن باسم ربك أى مستعيننا أو مبتدئا هذا الأمر به – تفسير ابن عطية15/58 والفخر دار الباز 23/ 14-15 . والقرطبى 20/ 119 . وابى حيان 8/492 . وأبى السعود )- أى ليعه قلبك أو ليحفظه بأمر الله ، كما قال تعالى (( سنقرئك فلا تنسى )) فالآية الكريمة إفتتاح لنزول القرآن على قلب النبى – صلى الله عليه وسلم – (( نزل به الروح الأمين على قلبك ...)) الشعراء 194 .وفى البقرة 97 ((فإنه نزله على قلبك ... )) وهو إفتتاح مصحوب بإعداد قلبه الشريف لوعى ما ينزل عليه بمعونة الله تعالى .ومن اجل ذلك كرر الأمر إقرأ ثلاث مرات .
وقد بينا من قبل أن القراءة التى تنافى الأمية هى القراءة مطالعة لمكتوب .والأمر هنا ليس فيه مطالعة لمكتوب حسب الروايات الصحيحة .
(ب) أما عبارة الرسول( ما أنا بقارئ ). فليست رفضا – ولا يعقل أن يرفض بشر أمر ملك من السماء –وإنما هى بهذه الصيغة نفى أى انا الرسول – صلى الله عليه وسلم – يخبر عن نفسه أنه ليس لديه ما يقرأه أو ما يعيه ويلقيه كما أنه لا يقدر أن يقرأ مطالعة , وهناك عبارة اخرى للرواية وهى ماذا أقرأ أو كيف أقرأ .. [فتح البارى مصطفى الحلبى 1/ 26 ] فهذا إستفهام واضح المناسبة.
(ج)أما كلام د.صبحى عن راوى حديث بدأ الوحى هذا وانه لم يكن حاضرا وحتى لو كان حاضرا فكيف يسمع .وأن الرواية ملفقة . فهو كلام جزافى سوقى إذ لم يقل أحد على الأطلاق أنه كان هناك راو حضر المقابلة بين النبى صلى الله عليه وجبريل . ثم روى ماحصل . وإنما الذى أخبر عن الذى حدث فى هذا اللقاء الخطير هو النبى نفسه- صلى الله عليه وسلم- حدث به عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها وهى روته بألفاظه –صلى الله عليه وسلم- ففى صحيح البخارى 1/3 ( فجاءه الملك فقال إقرأ قال ما أنا بقارئ . قال أى النبى فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى : فقال إقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذنى ...) الخ .. فألرواية صحيحة تماما وقد سبق بيان معنى (إقرأ) فيها . حسب ما اسلفناه .
2- التلاوة يستند د. صبحى فى إدعائه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتب ويقرأ المكتوب إلى قوله تعالى( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) البينة 2. كما إحتج بقوله تعالى ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لإرتاب المبطلون ) العنكبوت 48.
1- التلاوة لها فى اللغة معنيان .أحدهما إلقاء الكلام والنطق به أى دون مطالعة من صحيفة – كما جاء فى لسان العرب( تلا ) حيث قال فى قوله تعالى ( وإتبعوا ماتتلو الشياطين على ملك سليمان ..) البقرة 102.قال عطاء إى ماتحدث وتقص وقيل ما تتكلم به كقولك فلان يتلو كتاب الله أى يقرأه ويتكلم به . أى أنا إستعمال تلا هنا يرادف الإستعمال الفرعى الأخير لكلمة إقرأ حسب ما اسلفنا ه. وقد جاء هذا الاستعمال فى القرآن الكريم كثيرا جدا . لكن أوضح ما جاء من ذلك واقطعه للجدل ما اسند فيه فعل التلاوة الى الله عز وجل مثل: ( نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق )" القصص3" ، ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) "البقرة 252" وآيات اخرى ، إذ لا يستطيع احد ان يزعم ان الله عز وجل يتلو من صحيفة ، والاستعمال الثانى للتلاوة هو القراءة من كتاب او صحيفة –وهذا الاستعمال يرادف استعمال القراءة بالمعنى الفرعى الاول الذى اسلفناه . وقد جاء فى القرآن الكريم : (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها) " أل عمران 93" . والان فإن المفسرين فسروا قوله تعالى ( رسول الله يتلو صحفا مطهرة)بانه يقرأما تتضمن الصحف من المكتوب :اى يلقى عن ظهر قلب ما صار صحفا لانه انزل من قبل ودون اى يعيد قراءته ، او ما يصير صحفا بعد ان يسمعه الكتبه ويدونوه . وعبارة الفخر " انه اذا تلا مثل المسطور فى تلك الصحف كان تاليا ما فيها " ( ينظر تفسير الفخر 16/574 والقرطبى 2/142 وايضا تفسير ابن عطية 15/528) . وتفسير ذلك ان النبى (ص) كان مكلفا ان يتلو على الناس للهداية والتذكير فى كل موقف يناسب ذلك .وقد جاء التعبير عن هذا التكليف فى قوله تعالى على لسان رسوله : ( وأمرت ان اكون من المسلمين . وان اتلو القرآن ) " النمل 91/92"-
فهذه الآية (يتلو صحفا) ليس فيها دليل مكتوب على ان البنى كان يقرأ المكتوب.
اما الآية الثانية وهى ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) "العنكبوت48)" واحتجاج د. صبحى بهذه الآية قائم على اساس ان عبارة "من قبله" اى من قبل نزول القرآن عليه (ص) تعطى ان الرسول اصبح - بعد نزول القرآن عليه- يتلو من كتاب ويخط اى ان الاحتجاج هنا هو احتجاج بما يسمى دليل الخطاب او مفهوم المخالفة . وبصرف النظر عن عدم اعتداد كثير من الائمة بمفهوم المخالفة ، فإن الذين قبلوا الاحتجاج به وضعوا لذلك شروطا منها ان لا يعارضه ما هو ارجح منه (إرشاد الفحول للشوكانى 179) ، وهذا عارضته الاخبار المستفيضةباستمرارأميته (ص).
2- اكتتب : استدل د. صبحى ايضا على ان الرسول (ًص) كان يكتب بقوله تعالى حاكيا ادعاء الكفار ( وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيلا )"الفرقان5" حيث ظن د. صبحى ان اكتتب معناها كتب ، ثم صور الامر كان النبى (ص)يجلس بين أصحابه ليكتب لكل منهم نسخة من القرآن وهم يملونه ما كتب . واسف ان اقول ان هذا تصور قمىء جدا بناه د. صبحى على غلطة فى فهم الفعل اكتتب ، والكفار اذكى من ان يدعوا ادعاء يسهل كشف زيفه لان الذين كانوا يكتبون فى ذلك العصرالجاهلى كانوا معدودين مشهورين ولم يكن محمد منهم . والصواب ان الفعل اكتتب على صيغة افتعل ، وهذه الصيغة قد تستعمل للطلب كما يقال اقتصد فلان اى طلب او كلف من يقصده . وكذلك احتجم اى طلب او امر من يحجمه: وهذا المعنى يسميه الصرفيون التصرف والطلب والاجتهاد ( كتاب سيبويه : تح هارون 4/74 ).
3- والمقصود بالاجتهاد هنا بذل الجهد لتحصيل الفعل . وعبر بعض الصرفيين عن هذا المعنى بالتسبب. الخلاصة ان معنى الآية هو ان الكفارقالوا عن القرآن انه اساطير الاولين اى هو كلام مما سطره القدماء فى كتب او صحف. وان النبىصلى الله عليه وسلم كلف من يكتب له نسخة من تلك الاساطير ثم انه كلف او استأجر من يمليها عليه اى يقرأها عليه صباحا ومساء ليحفظها ثم يقول انها اوحيت اليه . هذا هو ادعاء الكفار وإذا فمعنى "اكتتب" هنا هو طلب من يكتب له فهو يدل على الامية لا على الكتابة كما ادعى د.صبحى .
بنى د. صبحى على ادعائه ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المكتوب أدعاء اخر هو انه لم يكن هناك كتبة للوحى . وأنما كان النبى هو الذى يكتب الوحى بنفسه . وهذا تسور على حقائق ثابته تاريخيا: فان امر كتبة الوحى للنبى صلى الله عليه وسلم ثابت ومشهور . جاء فى صحيح البخارى ( ط الشعب 6/225 ) قال ابو بكر ( لزيد ابن ثابت ) انك رجل شاب عاقل لا نتهمك . وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ...) وفيه( 6/226 – 227 ) باب كاتب النبى صلى الله عليه وسلم عن البراء بن عازب – وهو صحابى قال : لما نزلت ( لا يستوى القاعدون من المؤمنيين غير أولى الضرر والمجاهدين فى سبيل الله ) (" النساء 95" قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ادعى لى زيدا وليجىء باللوح والدواة والكتف او الكتف والدواة )...الخ وفيه (5/60) فجاءه زيد ومعه الدواة واللوح او الكتف فقال اكتب ..) الخ ( اللوح : كل مسطح عريض من العظم او الخشب . وكانوا يكتبون على عظم الكتف لعرضه ) فهذه الاخبار والتفاصيل قاطعة بوجود كتبة للوحى منهم زيد بن ثابت . ومنهم الخلفاء الاربعة وأبى بن كعب والزبير بن العوام .. ( واكثر من 15 منهم عبد الله بن سرح الذى كان يكتب الوحى ثم ارتد ثم عاد الى الاسلام يوم فتح مكة – وأنما خص زيد بن ثابت بلقب كاتب النبى صلى الله عليه وسلم لانه كان اكثر الجميع ممارسة لكتابة الوحى ( ينظر فتح البارى "الحلبى" 10/396) .
د- ذكر د. صبحى ان استعانة النبى صلى الله عليه وسلم بمن يكتب له الوحى – دون ان يتولى ذلك بنفسه . وان ارتداد احد كتاب الوحى – كل ذلك يوحى بالشك فى تدوين القرآن – على ما قال د . صبحى ، واقول إن الرؤساء والكبار والقادة فى كل زمان كانوا – ومازالوا – يستعينون بافراد يثقون فى أمانتهم ويختارون بعناية شديدة ، والقاعدة ان هؤلاء الافراد يلتزمون ( مثلا هل افشى سر توقيت حرب العاشر من رمضان ؟ . او سر توقيت تاميم قناة السويس ؟ وهناك الاف من الامثلة ) ، ثم ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحفظ القرآن بمجرد تنزيله عليه,قال تعالى ( سنقرئك فلا تنسى) "الاعلى 6" ، ( إن علينا جمعه وقرآناه)..( إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وكان صلى الله عليه وسلم يتلوه على الصحابة من حفظه لا من صحف ، وإنما كان تسجيله كتابة إلهاما من الله ليكون إحدى وسائل تحقيق نزوله استمرت نحو ثلاثة وعشرين سنة ، فكان يكتب فى صحف متفرقة لانه ما زالت تتنزل منه آيات الى ما قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بايام ( فتح البارى 9/272) ، وكان جبريل يحدد للرسول (ص) السورة والترتيب الذى توضع فيه الآيات الجديدة . ( ينظر تفسير القرطبى 1/61 و 3/375).ثم انه عند جمع القرآن فى مصحف فى عهد ابى بكر اعتمد فى ذلك سندان: الحفظ والخط ، " قال ابو بكر لعمر وزيد : اقعدوا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه ( كتاب المصاحف لابن ابى داود12) قال ابن حجر : وكان المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب ( يعنى الكتابة) .او المراد انها شاهدان من الرجال يشهدان على ان ذلك المكتوب كتب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فتح البارى 10/388).
ثانيا : 1- كلام د. صبحى عن التراث خلاصته ان به روايات تثير الشبهات ، واذا سلمنا بهذا جدلا فإن التصرف العلمى هو ان نقرأ ونتدبر ونمحص ونستخلص الحقائق الصحيحة ونقدم للناشئة هذه الخلاصات ، وندع الروايات كما هى يدرسها القادرون على التمحيص والاستخلاص ، اما ما يريده د. صبحى وهو بناء صور للحقائق تكون ملساء خالية من كل ما يثير شبهة ، وتستمد من تصوراتنا لذلك فهذا هو عين التزييف ( والفبركة) والخيانة للعلم وللناشئة وللامة والبناء القائم على صخور خشنة خير الف مرة من بناء مملس الظاهر باطنه كئيب مهيل.
ب- كلام د.صبحى عن اسرار الرسم القرآنى ، وعن علاقته بالارقام بعضه له معنى ، والبعض الاخر متاهات غريبة جن بسسبها د. رشاد خليفه – كما قال د. صبحى . والقرآن كتاب دين وتشريع – وهذه رسالته للناس عامة ، أما الالغازالرياضية فهى –ان صحت – لاهلها من الخاصة ، ويمكن تكلفها وتقليدها ، والقرآن الكريم معجز لا يقلد .
أستاذ أصول اللغة والعميد السابق لكلية اللغة العربية بالمنصورة – جامعة الازهر
بعدها نشرت روزاليوسف ردى على هذا الرد.
الدكتورأحمد صبحي منصور يرد:
القرآن فوق تفسيره
النبى (ص) كان يقرأ ويكتب وهو الذى دون القرآن
كتب التراث متناقضة والذين يستخدمون التراث متناقضون
النبى(ص) قال:( هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده )
( ذكرتنى ردود الافعال على مقالى الذى يؤكد ان النبى (ص) كان يقرأ ويكتب وانه كتب القرآن بنفسه ، باللهجة التى ثارت فى الاندلس بعد ما اعلنه الفقيه أبو الوليد الباجى (403-474)هجرية أن النبى محمدا (ص) كان يقرأويكتب ، فثار عليه الفقيه ابوبكر بن الصائغ واتهمه بالكفر ، واشتعلت مأذن الاندلس وقتها بتكفير الفقيه الباجى ، وهجوه بالقصائد.
كأن التاريخ يعيد نفسه ، فهذا عميد لإحدى الكليات يكررالكلام المعروف المعتاد ، ولا ينسى ان يتطاول علينا فيقول :"ان هذا تصور قمىء جدا بناه د.صبحى على غلطة فى فهم الفعل اكتتب" ويقول :" ما يريده د. صبحى وهو بناء صور للحقائق تكون ملساء خالية من كل ما يثير الشبهة ..فهذا هو عين التزييف والفبركة والخيانة للعلم وللناشئة وللامة " اى اننا نقدم تصورا قميئا جدا ، وهو عين التزييف والخيانة ..فهل هذا الاسلوب فى الحوار يتفق مع آداب الاسلام وأخلاق العلماء؟!
ومع اننى لا أهتم كثيرا بالرد على الخصوم فى الرأى ، الا اننى أجدها فرصة لتوضيح الفارق بين منهجين فى التفكير الاصولى: منهجى الذى اسير عليه وهو الاجتهاد بالتعامل المباشر مع القرآن العظيم بعد دراسة متعمقة للتراث بكل محاسنه ومساوئه وتناقضاته ، والمنهج الاخر الذى لا يرى القرآن إلا من خلال المشهور والمتداول من كتب التراث المشهورة ، وأذا تعارض القرآن مع رواية تراثية وأقوال للائمةفما يقوله التراث هو الصحيح . لأن القرآن عندهم( حمّال أوجه ).. ولو أنصفوا لعرفوا ان القرآن الكريم" كتاب احكمت آياته "، وان لا مجال فيه للعوج والاختلاف ،وانه "لا بأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "، وانه لا يمكن ـ على حد قولهم ـ ان يوجد تعارض بين ظواهر الأيات طالما نفهم القرآن من خلال القرآن وبمصطلحات القرآن نفسه وليس من خلال التراث ، وان التراث هو الذى لا يوجد فيه حد أقصى لتناقضاته ، وكل طالب فى الازهر قد اصيب رأسه بصداع مزمن من تكرار الكلمة المأثورة "اختلف فيها العلماء ".
والأستاذ العميد اوضح المنهج الذى يسير عليه حين قال : إن المرجع فى بيان المعنى هو معاجم اللغة العربية ، والمرجع فى بيان المراد للكلمة القرآنية هو كتب التفسير . أى بدون المعاجم اللغوية وروايات التراث لا نستطيع فهم القرآن .
ولن نرد على ذلك بالأيات القرآنية التى تؤكد ان القرآن "كتاب مبين "وأن آياته " بينات" ، اى واضحات المعنى ،ولن نردد ما أكده رب العزة الذى جعل القرآن ذاته " أحسن تفسيرا " ، ولن نستشهد بما قاله ابن كثير فى مقدمة تفسيره من ان أحسن التفسير ان القرآن يفسر بعضه بعضا، ولن نلفت الاذهان الى ان كلمة " تفسير" ذاتها تحوى أهانة للقرآن الواضح المبين ، لان الكتاب الغامض الذى يحوى لوغاريتمات هو وحده الذى يحتاج الى تفسير ، ولن ننبه الى انه ليس مما يليق برب العزة أن ينزل علينا كتابا عسيرا الفهم الى درجة يحتاج معها الى أطنان التفاسير البشرية المختلفة والمتناقضة .
لن نرد بهذه الحقائق وغيرها ، ولكن نكتفى بهذه الملاحظات :
1_لكى تفهم القرآن لابد أن تتدبره وتتعقله من خلاله هو ، وبمفاهيمه هو ، وخصوصا أن القرآن لم ترد فيه
إحالة إلى شروح أخرى تعين على فهمه .
2_ إن المعاجم اللغوية قد تم تدوينها بعد القرآن بقرون ، وهى خير دليل على أن اللغة العربية كائن متحرك تختلف فيها معانى الألفاظ من عصر لأخر ، ومن مكان لأخر ، ولولا القرآن الكريم لاندثرت اللغة العربية كما أندثرت الآرامية قبلها ، وكما اندثرت السريانية واللاتينية بعدها حيث تحولت اللهجات الناتجة عنها الى لغات مكتلمة،
المهم أنه لا يجوز أشتراط فهم القرآن بمعاجم لغوية كانت ترصد حركة اللغة حتى عصرها ، ولذلك فإننا نجد عجبا حين نرجع إليها فى عصرنا ، ولعل الأستاذ العميد لا يعرف أن كلمة(عميد ) ظلت حتى العصر العباسى تعنى(المريض حبا )، وفى ذلك يقول الشاعر :" وإنى من حبها لعميد.." ، ويقول الفيروز آبادى ، فى معنى كلمة عميد " هدّه العشق" اى أمرضه العشق ..فهل نحاسب ذلك العميد بمعاجم اللغة العربية طبقا لمنهجه ونطلب له الشفاء من العشق؟.
3_ إن مصطلحات القرآن تختلف عن مصطلحات المسلمين التى نبتت فى عصور لاحقة طبقا لحركة اللغة ، والامثلة كثيرة ، ليس فقط فى كلمة "الامى" و"الاميين" ، ولكن أيضا كلمات مثل "حد" ، "حدود" التى تعنى فى القرآن الحق المشروع ، وهى عندنا تعنى العقوبة ، وكلمة "السنة" التى تعنى فى القرآن (الشرع الإلهى ) أو " المنهاج الإلهى " وجعلنا لها معنى اخر ، وكلمة "التعزير" التى تعنى فى القرآن التقديس والمناصرة والتكريم . وتعنى عندنا الاهانة ..الخ.. فكيف نفهم القرآن بغير مصطلحاته هو ؟!
4_ أما ان يكون التراث بتفاسيره ورواياته هو المرجع فى بيان القرآن، فالتراث هو مجال تخصصنا ، وهو كما قلنا ملىء بالتناقض حتى فى هذه القضية، ونعطى للأستاذ العميد ما يؤكد له من التراث ان النبى كان يقرأ ويكتب، يروى الطبرى فى تاريخه ( 2/300: 301) ، حديث نزول جبريل بالوحى يقول : "فجاءنى وانا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ فقلت ما اقرأ.."، الى ان يقول : فقرأته .."، اى انه يقرأ من الكتاب .
وفى تاريخ الطبرى ايضا عن اشتداد مرض الموت بالنبى ، وذلك مذكور فى البخارى (3/91 حاشية السندى .مكتبة زهران) أنهم اختصموا عند النبى ، وهو يحتضر ، فقال لهم : "هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ..فاختلف اهل البيت واختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما اكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله (ص) قوموا ، قال ابن عباس : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب .."، اى انه حسبما تؤكد روايات التراث انه كان يكتب.
ولكن المشكلة ان روايات التراث تتناقض حتى فى الموضوع الواحد ،وهذا ما يجعلنى فى الابحاث الخاصة بالقرآن الكريم والرسول الكريم لا اعول عليها كثيرا اكتفاء بالقرآن ، وصدق الله العظيم (ومن اصدق من الله حديثا).
والطريف ان ابن هشام فى روايته عن صلح الحديبية وكتابته يقول: "فبينا رسول الله (ص) يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو.."، ثم يقول : " فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالا .."،ثم يناقض نفسه فى اخر الرواية فيقول عن على بن ابى طالب انه "كان كاتب الصحيفة".
ومن الطبيعى فى هذا التناقض ان نحتكم الى القرآن الكريم ..وقد احتكمنا إليه .. وهذا هو منهجنا ، ومانرجو ان نلقى الله تعالى عليه .
اما منهج العميد فهو اعلاء مفاهيم التراث فوق القرأن وآياته البينات ، وهو يقول بجراة هائلة على كتاب الله " جاءت الفاظ فى بعض الايات القرآنية يوهم ظاهرها ان النبى (ص) يكتب ويقرأ ويتلو صحفا .. مما يتعارض مع التفسير المذكور ، وهذه الالفاظ الموهمة هى التى اعتمد عليها د. صبحى فى ادعائه .."، اى ان الفاظ القرآن العظيم "موهمة" اى تفيد الوهم ،اي ليست محكمة ،وأن لها ظاهرأ يجلب ذلك الوهم ، اى ليست محكمة ، اما الباطن فيها فعلمه عند أهل الباطن، أي أئمة التراث ، وبالتالي فإنه إذا تعارضت هذه الألفاظ القرآنيه مع مفاهيم التراث ،فهي (موهمه)، ولابد من إخضاعها للتراث . وإذا كانت مفاهيم التراث ورواياته متعارضة،واذا كان فهم القرآن من خلال التراث يجعله (حمال أوجه) ويجعله متعارضا ، فإن الاستاذ العميد ينصح بالاجتهاد لدفع هذاالتعارض ،فكيف أنتهى به اجتهاده؟!
إن منهج العميد التراثى قد اوقعه فى التناقض مع نفسه :
فهو يقول بثقه شديدة " أجمعت كتب التفسير على ان معنى الامية عدم معرفة الكتابة"، ثم يقول فيما بعد ان بعض المفسرين "قالوا فعلا بان الأميين تعنى غير اهل الكتاب "،فكيف يكون هناك إجماع إذا على ان الأميين هم الذين لا يعرفون القرأءة والكتابة؟!
ومع انه يؤكد ذلك الاجماع على ان النبى (ص) كان أميا بمعنى لا يقرأ ولا يكتب ، ومع انه يتعجب من رأينا بانه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ ويكتب ، فيقول :" لم يقل بذلك اى من المفسرين طوال اثنى عشر قرنا من الزمان"إلا انه يناقض نفسه فيقول : ان هناك من قال بان النبى (ص) عرف القرأءة والكتابة بعد ان نزل عليه القرآن ، وانهم احتجوا بقوله تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك )، وانهم احتجوا بنفس الاية التى احتج بها د .صبحى "، اى ان الاستاذ العميد اجتهد بمنطق التراث وتناقضه فتناقض مع نفسه.
مع هذا يتطاول علينا الاستاذ العميد ويتهمنا بالتصور القمىء "جدا" لأننا غلطنا فى فهم الفعل "اكتتب" فى قوله تعالى : ( وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيلا ) .. وقد قلنا ان المشركين كانوا يمرون على النبى وهو يكتب القرآن بنفسه لاصحابه ،ويمليه عليه بعض اصحابه ، والعميد يرى ان معنى "اكتتب" اى طلب ان يكتبوها له ، فإذا كان النبى يطلب منهم ان يكتبوها له فمن كان يمليها عليه ؟ لأن العميد الفاضل نسى ان يكمل الآية (..اكتتبها فهى تملى عليه) ، والذى يملى عليه شىء لابد ان يكتبه بنفسه .. أليس كذلك؟!
وقد اجهد العميدالفاضل نفسه لكى يؤكد من خلال اللغة ان كلمة "اكتتب" تعنى طلب ، وهو هنا يخلط بين اكتتب و"استكتتب " لان السين والتاء فى بداية الفعل الماضى هى التى تفيد الطلب ، تقول استقتل اى طلب القتل ، استمات اى طلب الموت ، استحضر ،استكتب..وهكذا.. أما اكتتب أو ما ياتى على وزن افتعل ، فالمشهور أنها تفيد التصرف والاجتهاد فى الفعل ، وقد ذكر هذين المعنيين المشهورين وتجاهلهما ، لأنهما لا يناسبان المفهوم القرآنى فى قوله تعالى : (اكتتبها) ، اى اجتهد وتصرف فى كتابتها المعجزة ، وقد اوضحنا فى مقالنا السابق ان هناك إعجازا سريا فى الكتابة القرآنية ، وهذا يفسر لنا بقاء الكتابة القرآنية الفريدة بخط النبى (ص) دليلا على ان القرآن محفوظ بقدرة رب العالمين .
وبنفس الطريقة فى الانتقاء يقول العميد ان للقرأءة والكتابة معنيين : قراءة المكتوب وتلاوته ، وقراءة المحفوظ فى القلب وتلاوته ، وهو ينفى عن النبى ان يكون قارئا وتاليا للمكتوب فى القرآن ،ويبذل قصارى جهده فى تأويل هذه الآيات البينات حتى يخضع القرآن لروايات البشر ، وكان يكفيه قوله تعالى للنبى : " وما كنت تتلو قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " ، اى ما كنت تقرأ كتابا سماويا قبل القرآن ، وما كنت تكتب بخطك كتابا سماويا قبل القرآن، ولكن بعد نزول القرآن عليك اصبحت تقرأ القرآن المكتوب ، وتكتتبه بيدك. وكان يكفيه ـ اى العميد لو اراد ـ ان يرجع الى سياق الآيات فى سورة العنكبوت ليتأكد ان المقصود بالكتاب هنا ليس اى كتاب ، وأنما الكتاب السماوى ، اى انه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتبا سماوية قبل القرآن ولم يكتبها ولم يكن لديه علم بها ، وإن كان يعرف القراءة والكتابة ، فلما نزل عليه القرآن كتبه وقرأه.
اخيرا..ومن خلال منهجنا فى فهم الفاظ القرآن العظيم من القرآن العزيز نفسه ،اثبتنا بالآيات القرآنية ان كلمة "أمى " تعنى غير اهل الكتاب من سكان الجزيرة العربية ، وكان منهم النبى ، ولا تعنى الجهل بالقراءة والكتابة ،واثبتنا ان النبى كان يقرأ ويكتب ، وانه الذى كتب القرآن بيده تلك الكتابة الفريدة التى يحفظ الله تعالى بها كتابه حتى الان ، فوق كل تحريف ، وقلنا ان فى هذه الكتابة سرا عدديا ورقميا بدأت الابحاث تتجه اليه ،وسيكون الاعجاز القرآنى للعصر القادم ، وقلنا ان ما فعله ابو بكر وعثمان هو جمع المصحف ،وليس القرآن ، وذلك من خلال النسخة الاصلية المكتوبة بخط النبى ،والتزم عثمان بهذا الرسم العثمانى . وان كلمة المصحف مصطلح جاء بعد النبى .
وما دفعنا الى هذا الاجتهاد هو ذلك الطعن فى القرآن اعتمادا على روايات التراث التى تتهم النبى (ص) بالجهل بالقراءة والكتابة ، والتى تجعل كتابة القرآن عملية بدائية فوضوية ،وكلها تناقض ما جاء فى القرآن من ان جمعه وكتابته كانت بوحى تماما ، كما تكفل رب العزة بان يكون بيان القرآن فى داخل القرآن (إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم ان علينا بيانه ).."القيامة 17" .
ولكن يبدو ان بعض الناس لا يؤرقه الطعن فى القرآن ،ولكن يؤرقه الطعن فى بعض الروايات التى يتخذها المستشرقون وسيلة للنيل من القرآن ،ولا بأس فى ذلك فكل منا قد أختار طريقه.)
انتهى المقال، ونعيد التذكير به بعد حوالى عشر سنوات للتأكيد على حقيقتين:
ألأول : لا يزال أغلبية الفكر الدينى لدى المتطرفين محصورا ومحاصرا بأئمة العصور الوسطى دون تجديد ، فلا ينظرون للقرآن الكريم الا من خلال ما قاله أعداؤه الحقيقيون من أئمة التراث فى العصور الوسطى ، ولذا فلا يزالون ضد أى تجديد أو تفكير مستقل..
الثانى : انهم ينشرون القرآن مكتوبا على الاترنت بطريقة كتابة حديثة مخالفة للرسم العثمانى المعتمد مما يفقد القرآن الكريم اعجازه العددى وسر كتابته الفريدة التى تحوى سرا لم نكتشفه بعد.وهذا يدخل أيضا فى دائرة العداء للقرآن الكريم الذى بدأه أئمتهم التراثيون..
نقول ذلك للتوضيح ، والله تعالى المستعان.
اضطهاد الأقباط فى مصر بعد الفتح الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
اضطهاد الأقباط فى مصر بعد الفتح الإسلامى
قصة هذا البحث
1-فيما بين 1977-1980 كنت فى صراع مع شيوخ الأزهر، كانوا يصممون على تغيير ما كتبت فى رسالتى للدكتوراة لأنها تنشر حقائق لا يريدون اظهارها،وأنا مصمم على مناقشة كل المسكوت عنه طلبا لأصلاحه. كان من بين ما أثار حفيظتهم فصل فى الرسالة عن التعصب الدينى ضد الأقباط فى مصر المملوكية بتأثير شيوخ التصوف. أخيرا وصلنا الى حل وسط فى صيف 1980 وبمقتضاه حذفت ثلثى الرسالة، وهما بابان كبيران عن أثر التصوف الدينى والأخلاقى. واكتفيت ببحث آثاره السيئة فى النواحى السياسية والاجتماعية والعلمية والعمرانية..الخ. بمقتضى الاتفاق كنت ملزما بحذف فصل التعصب الدينى لأنه يقع فى الباب الدينى، لكننى احتلت على ابقائه بأن أعدت ترتيب الباب السياسى وأضفت اليه الفصل الخاص باضطهاد الأقباط كأحدى ثمار العلاقة السياسية بين الشيوخ والمماليك. ونجحت فى فرض رأيى على الشيوخ الذين لا يقرأون واذا قرأوا لا يفهمون .
2- فى أول كتاب لى " السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة" سنة 1982نشرت بعض أجزاء رسالتى التى نوقشت ومنها مؤامرة الشيوخ الأحمدية واحراقهم الكنائس المصرية فى وقت واحد. وكنت أول من أماط اللثام على هذه الفاجعة وحققها تاريخيا وأنا الوحيد الذى عرف شخصية المدبر لهذه الحادثة والذى عجزت السلطة المملوكية عن الوصول اليه، اذ كان الرئيس السرى لتنظيم شيعى فشل من قبل زعيمه- السيد البدوى –الولى المشهور حتى الآن - فى قلب نظام الحكم المملوكى فانتقم الاتباع فيما بعد باحراق الكنائس ليوقع الخلل فى الدولة المصرية ليسقطها من الداخل وكاد أن ينجح.
3- فى سنة 1984 قررت على الطلبة فى الجامعة عدة كتب من تأليفى كان منها كتابى " شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى" وعقدت فيه فصلا عن اضطهاد الأقباط بعد الفتح الاسلامى ، كان أول وآخر كتاب مقرر فى جامعة الأزهر يقدم للطلبة هذه الحقائق وينبه على مخالفتها للاسلام.
4- كل هذا ولم أكن قد قابلت فى حياتى مصريا قبطيا ولم أكن قد تعاملت مع أى منهم بحكم بيئتى الأزهرية. وظللت هكذا بعيدا عن الأقباط أدافع عنهم دون معرفة حتى بعد تركى الأزهر الى أن تعرفت بصديقى طيب الذكر الدكتور فرج فودة ، فتعرفت من خلاله على كثير من الأقباط ،منهم من أفخر بمعرفته حتى الآن ومنهم من أعتذر عنه لنفسى امام نفسى معللا تعصبهم بقسوة الاضطهاد الذى تحملوه.
5- حين انطلق شيطان التطرف يقتل الأقباط فى الصعيد وغيرها فى أوائل التسعينيات كونت مع مجموعة من المصريين النبلاء ( الجبهة الشعبية لمواجهة الارهاب ) وكنت مقررها الفكرى ومستشارها الدينى، وكان لها نفوذ تبرعت به الدولة وقت ضعفها أمام سطوة الجماعات الشيطانية فى الصعيد والأحياء الشعبية بالقاهرة فكنا نذهب الى معاقل التطرف نزور الضحايا ونهاجم الجناة ونندد بهم فى لقاءات مفتوحة فى وقت قبع فيه كتبة الحكومة وخدمها داخل مكاتبهم مذعورين وبعضهم أخذ يغازل المتطرفين بين سطور كتاباته يحجز لنفسه مكاتا فى الاتوبيس القادم. بعد أن استعاد الحكم المستبد سيطرته اتبع معنا سياسة " الاستدعاء والاستغناء " أى يستدعينا اذا احتاج ويستغنى عنا اذا لم يعد محتاجا لخدماتنا التطوعية . طالبنا بتفعيل دورنا الفكرى لنقطع دابر التطرف الفكرى بعد كسر حدة الهجمة الارهابية العسكرية ولكن الحكم الاستبدادى كشر لنا عن أنيابه فتوارينا عن الانظار خوف الاعتقال – ومعظمنا ذاق مرارته. الا اننى واصلت الطريق من خلال الجمعية المصرية للتنوير ثم مركز ابن خلدون وندوة ابن خلدون الاسبوعية والمقالات الاسبوعية والشهرية فى الصحف المصرية.
6- جاءتنى فكرة عقد مؤتمراسلامى مصرى خالص يناقش قضية أضطهاد الأقباط من منظور اسلامى فى مركز ابن خلدون أو المنظمة المصرية لحقوق الانسان. كتبت هذا البحث وعرضت الأمر على صديق قبطى صحفى مشهور فاقتنص الفكرة لنفسه ، وبدلا من دعوة المفكرين المسلمين المستنيرين دعا أثرياء الأقباط للحديث وكانت الورقة الوحيدة هى ورقتى التى قرءوها وتحدثوا فى موضوعات شتى غيرها، وانتهى الأمر بتجاهلهم لطبع ورقتى ونشرها ، وهى أساس المؤتمر الذى لم يسمع به أحد ، والفائز الوحيد هو الصديق القبطى الذى جمع الأموال ممن دعاهم وتحول المؤتمرالاصلاحى الذى كنت اتمناه الى جلسة "مصاطب" للتسلية.
7- رجعت احلل الموقف طيلة ليلة بأكملها.كان أملى هو الاصلاح من داخل الاسلام لان المشكلة فى داخل الفكر السلفى الذى يرفع لواء الاسلام زورا. وورقتى البحثية تثبت ذلك وتعطى اساسا للنقاش بين المفكرين المسلمين الذين تغيب عنهم الكثير من الحقائق، ولو كسبنا بعضهم لكان فى ذلك نصر كبير لمصر والأقباط. وسألت نفسى : لماذا هذا التجاهل ؟ قد أكون الوحيد الذى يدافع عن الأقباط بدون أن يحول دفاعه عنهم الى استرزاق، فقد دافعت عنهم دون أن تكون لى أدنى معرفة بأى منهم ، ودافعت عنهم داخل الأزهر ذاته وكسبت عداءات داخل جامعتى وأصحابى من أجل من لم أعرفهم.
8- فى النهاية عرفت السبب وبطل العجب. اننى دون أن أدرى – أدافع عن دينى أولا وأخيرا. اهاجم المتطرفين لأدافع عن الاسلام وليس الاقباط. ومعظمهم لا يريد ذلك . المتعصبون منهم لا يرانى مختلفا عن بقية الشيوخ طالما أتحدث مثلهم من داخل القرآن وبالتراث. ولأنه يكره الاسلام أصلا فانه يحلو له أن يظل الاسلام متهما بالارهاب أفضل من ان آتى أنا وأضع الحقائق الفاصلة بين الاسلام والمسلمين، بل بين المسلمين المستنيرين والمتطرفين. ولهذا يكره ما أعمل ويتمنى ألا أفعل. هو بذلك يلتقى مع المتطرفين الوهابيين، فتلك طبيعة الأشياء فى تلك الدائرة حيث يتلامس أقصى اليمين المتعصب مع أقصى اليسار المتشدد. الا أن طبيعة الأشياء نفسها تؤكد أن الطرفين المتطرفين – بسكون الياء – ليسا كل الدائرة انما مجرد طرفين متباعدين. الذى يصنع الحقائق على أرض الواقع وفى صفحات التاريخ هم غير المتعصبين . وفى عصرنا لم يعد كثير متسع للتعصب.
فى مقابل التعصب القبطى - الذى اتفهمه وأعذره - هناك رفاق من نبلاء الأقباط تحلو بهم الدنيا مهما اكفهر وجهها. لكثرة اسمائهم لا يتسع المقال لذكرهم . وهم دائما فى القلب . حتى اذا كان القلب .. فى المنفى ..!!
آسف عزيزى القارىء لهذه المقدمة الطويلة لهذا البحث الذى كتبته منذ أكثر من عشرة أعوام ولا يزال صالحا "للاستهلاك الآدمى "..
أحمد صبحى منصور
الاسكندرية - فرجينيا - مايو 2005
اضطهاد الأقباط فى مصر بعد الفتح الإسلامى
"المقدمة"
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾
(غافر 44)
وبعد..
هذه ورقة بحثية عن.
وتضم العناصر الاتية:
1- موقف الإسلام من اضطهاد غير المسلمين.
2- بداية اضطهاد الأقباط فى عصر الخلفاء الراشدين.
3- اضطهاد الأمويين للأقباط عنصرياً.
4- الاضطهاد الدينى للأقباط بعد الأمويين.
والواضح أن التركيز ههنا على الاضطهاد الذى لاقاه الأقباط بعد الفتح الإسلامى وجذوره الدينية والتاريخية، والورقة تركز على ذلك لتبرئ الإسلام منه، ولتحذر بعض المنتسبين للإسلام من استعادة بعض مظاهر التعصب التى سادت فى العصور الوسطى والتى تخالف سماحة الإسلام وشريعته.
وأكثر ما فى هذه الورقة جاء تلخيصاً لمؤلفات سابقة بعضها تم نشره مثل (السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة)، (شخصية مصر بعد الفتح الإسلامى).وبعضها لم يحظ بعد بالنشر مثل رسالتى للدكتوراه فى جامعة الأزهر، وأبحاث أخرى مثل "حقوق الأقليات فى الإسلام"، "الحياة اليومية لأجدادنا المصريين منذ خمسمائة عام.."، "الشورى الإسلامية: أصولها، تطبيقها.." بالإضافة إلى عشرات المقالات المنشورة التى ناقشت بعض الموضوعات السابقة، ونشرتها (القاهرة)، (الأهالى)، (الأحرار)، (الأخبار) وإصدارات المنظمة المصرية لحقوق الإنسان..
ونأمل أن تتلو هذه الورقة البحثية دراسات وأبحاث لمثقفين آخرين تتصدى بشجاعة لإنصاف المظلومين وتبرئة الإسلام مما يرتكبه بعض المسلمين..
والله تعالى المستعان..
د. أحمد صبحى منصور
أكتوبر1994
أولاً: موقف الإسلام من اضطهاد غير المسلمين
ليس من المألوف أن نتحدث عن اضطهاد معين دون إثباته أولاً ثم يأتى بعد ذلك توضيح موقف الإسلام منه.إلا أن انتماء المؤلف الإسلامى وحرصه على تبرئة دينه ومعايشته للتاريخ الإسلامى والتراث كل ذلك جعله يبدأ بتوضيح موقف الإسلام وتبرئته من أعمال بعض المسلمين، ثم يسير مع وقائع الاضطهاد والمسئولين عنها.
ويرى المؤلف أن السياق التاريخى يتفق مع وجهة نظره..
فقد ظهر الإسلام بدعوته الإصلاحية التحررية أولاً.. ثم ما لبس أن تحول على يد المسلمين إلى إمبراطورية فاتحة تراعى مقتضيات الحكم والسياسة والسيادة على حساب تعاليم الإسلام نفسه، بل إن أعوانها من علماء الدين كانوا يصوغون لها من الأحاديث المزورة والفتاوى ما يبرر لهم تصرفاتهم التى تخالف القرآن الكريم، ثم يزعمون أن تلك الأحاديث والفتاوى أبطلت أحكام القرآن الكريم تحت مصطلح النسخ.
ثم إننا نشهد الآن بعثاً للاضطهاد الذى كان سمة العصور الوسطى، وذلك الاضطهاد يقوم على رعايته والدعاية له تيار التطرف الذى يرفع لواء الإسلام.. لذا كان لابد من توضيح موقف الإسلام منذ البداية.
ولن نكرر الكلام المعتاد المعروف عن سماحة الإسلام الذى يكرره نجوم التيار المدنى للتطرف بعد حوادث العنف ضد الأقباط، إذ من المعتاد أن يشحنوا النفوس بالبغضاء والتعصب، فإذا وقعت حوادث العنف وسالت دماء أسرعوا يتوضأون بدماء القتلى ثم يتحدثون عن سماحة الإسلام ويستنكرون ويشجبون. ومع أن حديثهم عن سماحة الإسلام صحيح لأنه مستمد من نصوص قرآنية، ولكن كان يلزمهم لإبراء الذمة أن يوضحوا عبث وتزوير الأحاديث المنسوبة كذباً للنبى (عليه الصلاة والسلام) والتى يقوم عليها أسس التطرف والإرهاب ويعلنوا تبرئة الرسول والإسلام منها ومن إساءة الاستخدام للتفسير القرآنى الذى وضعه علماء الدين فى العصور الوسطى، عصور التعصب والظلام.
والمهم أننا وفى توضيحنا لموقف الإسلام سنعتمد منهجاً جديداً.. يجيب على أسئلة محددة وبحقائق قرآنية مؤكدة وحقائق تاريخية متواترة..
من الحقائق التاريخية المتواترة أن الشعب المصرى- والأقباط بالذات- شعب مسالم يكره العنف ويستريح للصبر على ظلم الحاكم وقلما يثور عليه وهذا الشعب المسالم المأمون الجانب ما هو التوصيف القرآنى له؟. والإجابة من نص القرآن الكريم تؤكد أنه شعب مسلم مؤمن، لأن الإسلام فى معناه الظاهرى فى التعامل مع البشر هو السلام والسلم، ولأن الإيمان فى معناه الظاهرى هو الأمن والأمان.
ونأتى إلى حقائق القرآن الكريم:
إن كلمة الإيمان فى معناها اللغوى والقرآن لها استعمالان: (آمن ب..)، (آمن ل..)
1- "آمن ب" أى اعتقد، مثل قوله تعالى ﴿آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ﴾ (البقرة 285).
و"آمن ب" بمعنى اعتقد تعنى الإيمان القلبى الباطنى، أو التعامل مع الله تعالى. والبشر فى ذلك يختلفون حتى فى خلال الدين الواحد والمذهب الواحد. والقرآن الكريم يؤكد على تأجيل الحكم على الناس فى اختلافاتهم العقيدية إلى يوم القيامة. "البقرة 113، آل عمران 55، يونس 93، النحل 124، المائدة 48، الزمر 3، 46".
2- الاستعمال الآخر هو "آمن ل" أى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب مأموناً من الناس وتكرر هذا المعنى فى القرآن الكريم خصوصاً فى القصص القرآنى، ففى قصة نوح قال له المستكبرون ﴿قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ (الشعراء 111) أى كيف نثق فيك ونطمئن إليك وقد اتبعك الرعاع.. وتكرر ذلك المعنى عن "آمن ل" فى قصة إبراهيم (العنكبوت 26) وقصة يوسف (يوسف 17) وقصة موسى (الدخان 21، المؤمنون 47) وفى حديث القرآن عن أحوال النبى الخاتم فى المدينة (آل عمران 73، البقرة 75) ومواضع أخرى كثيرة.
والإيمان بمعنى الأمن والأمان هو بالطبع حسب التعامل الظاهرى، فكل من تأمنه ويكون مأمون الجانب هو إنسان مؤمن، أما عقيدته فهذا شأن خاص بعلاقته بالله، والله تعالى يحكم عليه وعليك يوم القيامة.
وقد جاء الاستعمالان معاً لكلمة الإيمان فى قوله تعالى عن النبى محمد "صلى الله عليه وسلم" ﴿يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة 61) أى أنه (يؤمن بالله) أى يعتقد فيه وحده إلهاً و(يؤمن للمؤمنين) أى يثق فيهم ويطمئن لهم.
وبتطبيق هذه الحقائق القرآنية على الشعب المصرى فهو شعب مؤمن لأنه شعب ينحاز دائماً للأمن والأمان، بل إنه قد يصبر على ظلم الحاكم إيثاراً منه للدعة والسكون. أما العقائد فمرجعها لله تعالى يوم القيامة وليس لنا، والتطبيق لنا حسب الظاهر فى التعامل، والظاهر هو إيثار الأمن والأمان، والله تعالى لم يعط أحداً الحق فى أن يتحدث بإسمه أو أن يقيم يوماً للحساب قبل يوم الحساب، ومن يفعل ذلك فقد تقمص دور الله وأصبح مدعياً للألوهية ومنبوذاً من الانتماء لتعاليم القرآن الكريم.
وبتطبيق هذه الحقائق القرآنية عن معنى الإيمان الظاهرى- على الأقباط بالذات- نراهم من خلال تاريخهم الطويل أكثر الناس تعرضاً للاضطهاد والصبر عليه، منذ اضطهاد الرومان فى حكم دقلديانوس وكراكلا، إلى الاضطهاد فى فترات مختلفة فى العصور الأموية والعباسية والمملوكية، ولا نقول العصور الإسلامية لأن الإسلام يرفض الظلم. كان الأقباط- ولا يزالون- يتحملون الاضطهاد ما استطاعوا، وورثوا حتى الآن صبراً على المكاره يدفعهم إلى المزيد من السلبية والسكون والمغالاة فى الحذر وتوقع الخطر وطلب الأمن والأمان بأى وسيلة. وذلك يجعلهم أكثر من غيرهم من المسلمين المصريين استحقاقاً لمعنى الإيمان الظاهرى، أى الأمن والأمان، وبالتالى فإن المعتدى عليهم يكون بنفس القدر أبعد الناس عن الإيمان بمعناه الظاهرى ومعناه الاعتقادى أيضاً حيث يخالف تعاليم القرآن الكريم التى سنتعرض لها فى حينها..
هذا فيما يخص معنى الإيمان..
فما هو نصيب الأقباط من معنى الإسلام؟
الإسلام كالإيمان له معنى ظاهرى، ومعنى باطنى قلبى اعتقادى، معناه الباطنى الاعتقادى الخاص بعلاقة الإنسان بربه هو الانقياد لله وحده. أى أن يسلم الإنسان نفسه طاعة لله وحده، والإسلام بهذا المعنى نزل فى جميع رسالات السماء على جميع الأنبياء وبكل اللغات، إلى أن نزل باللغة العربية وصار ينطق بكلام "الإسلام" التى تعنى فى الاعتقاد إسلام الوجه والقلب والجوارح لله تعالى، أو كقوله تعالى لخاتم الأنبياء ﴿قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام 161: 163) أى أن الله تعالى يأمر النبى بأن يقول أن الله هداه إلى دين إبراهيم الصراط المستقيم وهو أن تكون لله وحده صلاته ونسكه وحياته ومماته، وبذلك يكون أول المسلمين عند الله..
وهذا هو معنى الإسلام الاعتقادى القلبى الذى سيحكم الله تعالى عليه يوم القيامة، والله تعالى لن يقبل يوم القيامة ديناً آخر غير الخضوع أو الاستسلام له وطاعته وحده، وذلك معنى قوله تعالى ﴿إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران 19،85)، فالإسلام هو الخضوع لله تعالى بكل اللغات وفى كل زمان ومكان وفى كل الرسالات، إلا أنه عندنا مع الأسف قد تحول إلى مجرد وصف وإسم فى خانة البطاقة والهوية مهما كان صاحبه ظالماً أو فاسقاً.
والله تعالى لا يأبه لما يطلقه البشر على أنفسهم من ألقاب وتقسيمات مثل الذين آمنوا والذين هادوا- اليهود- والنصارى والصابئين (أى الخارجين على دين أقوامهم) والقرآن الكريم يؤكد فى آيتين أن الذين يؤمنون إيماناً باطنياً وظاهرياً- (بالأمن والأمان مع البشر والاعتقاد فى الله وحده) ويعملون الصالحات ويؤمنون باليوم الآخر ويعملون له، فهم من أولياء الله تعالى سواء كانوا من المؤمنين (أتباع القرآن الكريم) أو من اليهود أو من النصارى أو من الصابئين، يقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة 62). ويقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة 69). أى أن من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً فهو عند الله تعالى قد ارتضى الإسلام ديناً، أى استسلم لله طاعة وخضع له تعالى انقياداً. سواء كان من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو الصابئين، وذلك بغض النظر عن الطوائف والمسميات. وذلك ما سنعرفه يوم الفصل أو يوم القيامة أو يوم الدين، وليس لأحد من البشر أن يحكم على إنسان بشأنه وإلا كان مدعياً للألوهية.وهذا هو معنى الإسلام الباطنى القلبى الاعتقادى عند الله تعالى. استسلام لله تعالى وحده بلغة القلوب، وهى لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعاً مهما اختلف الزمان والمكان واللسان..
أما الإسلام فى التعامل الظاهرى فهو السلام والسلم فى التعامل بين البشر.
يقول تعالى ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً﴾ (البقرة 208) أى أمر لهم بإيثار السلم. وتحية الإسلام هى السلام.. واسم الله تعالى هو السلام.. وكل ذلك مما يعبر عن تأكيد الإسلام على وجهه السلمى. ويؤكد المعنى السابق للإيمان بمعنى الإيمان والأمان..
والإنسان الذى يحقق الإيمان فى تعامله مع الناس فيكون مأمون الجانب لا يعتدى على أحد.. ويحقق الإيمان الباطنى فى قلبه فلا يؤمن إلا بالله تعالى إلهاً يكون عند الله مستحقاً للأمن فى الآخرة.والإنسان الذى يحقق الإسلام فى تعامله مع الناس فيكون مسالماً لا يعتدى على أحد، ويحقق الإسلام القلبى فلا يسلم قلبه وجوارحه إلا لله تعالى يكون عند الله تعالى مستحقاً للسلام فى الآخرة.
يقول تعالى ﴿الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ﴾ (الأنعام 82). أى أن الذين آمنوا بالله فى عقيدتهم وأمنهم الناس فلم يظلموا أحداً لهم الأمن فى الآخرة، لأن الجزاء من نفس العمل.
ويقول الله تعالى عنهم وهم آمنون فى الجنة ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ (سبأ 37).
ويقول تعالى عن الذين سلم الناس من أذاهم لأنهم كانوا مسالمين، وكانوا فى عقيدتهم مسلمين لله تعالى وحده: ﴿لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ﴾ (الأنعام 127). أى لهم السلام فى الآخرة.. لأنهم أعطوا السلام للبشر.. لذا تقول لهم الملائكة وهم على أبواب الجنة ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ (الحجر 46) أى سلام وأمن. أى إسلام وإيمان فى الدنيا كان جزاؤه السلام والأمن فى الآخرة، فأصحاب الجنة هم الذين كانوا مسلمين مسالمين مؤمنين آمنين مأمونين.
ولكن ما هى صلة ذلك بوطننا مصر؟
إن مصر هى البلد الوحيد- بعد البيت الحرام- الذى ذكره القرآن مقروناً بالأمن، فالنبى يوسف عليه السلام حين استقبل أباه يعقوب عليه السلام وأخوته قال لهم ﴿ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ﴾ (يوسف 99) ومصر ليست مجرد أرض وجغرافيا طبيعية.إنها قبل ذلك وبعد ذلك بشر يعيشون عليها فى أمن وأمان، أو هكذا تلون تاريخنا المصرى طيلة سبعين قرناً من الزمان استضاف فيها الغرباء والوافدين فتمتعوا بكرم الضيافة والأمن، وكان منهم يوسف الذى مكن الله له فى الأرض بمجرد دخوله مصر (يوسف 21) والمصريون أحق شعب فى شعوب العالم بأن يوصف بأنه شعب مسلم مؤمن حسب طبيعته التى تؤثر السلام.
والأقباط المصريون بالذات أكثر المصريين إيثاراً للسلام والمسالمة والأمن والأمان وهم بذلك أحق البشر جميعاً بوصف الإسلام بمعنى السلام والمسالمة وبوصف الإيمان بمعنى الأمن والأمان. أما عقائدنا- جميعاً- فى الله تعالى فالله تعالى هو وحده صاحب الحكم فيها ولم يعط ذلك الحق لأحد.. وقد جعل للفصل فى ذلك يوماً هو يوم الدين، وبذلك لم يعد لأحدنا الحق فى أن يتصدى بالتسفيه لعقائد الآخرين، بل أنه من أدب الحوار فى الإسلام أن نرتضى تأجيل الحكم إلى الله تعالى يوم القيامة، أما آيات القرآن الكريم التى تتحدث عن عقائد الآخرين فهى الحق الذى يقوله رب العزة فى شأن يخص ذاته ويرد به على ما يقوله البشر عنه، ومع تكرار تلك الآيات القرآنية فإن القرآن الكريم يؤكد للنبى نفسه- بعد توضيح الحق القرآنى فى حقيقة المسيح عليه السلام- أنه إذا جاءه أحد بعد ذلك التوضيح يجادله فى الموضوع فما عليه الا أن يبتهل بأن يجعل لعنة الله على الكاذبين، أى لم يأمره باتهامهم بالكفر أو المروق عن الحق، وإنما مجرد المباهلة لأن تكون لعنة الله على الكاذبين من الفريقين المتخاصمين.. (آل عمران 33: 57، 58: 61) .
وإذا لم يكن من حق النبى محمد (عليه السلام) نفسه أن يتهم من يجادله فى ذلك الموضوع بالكفر فليس من حق أحد بعده أن يتهم غيره من البشر والطوائف بالكفر بل عليه أن يحاور بالحكمة والموعظة الحسنة، فبذلك أمر القرآن الكريم (النحل 125، الإسراء 53، فصلت 34، سبأ 24) بل عليه أن يصفح عن المختلفين معه ويصبر وينتظر الحكم عليه وعليهم يوم القيامة، فذلك ما أمر به الله تعالى فى القرآن الكريم (الحجر 85، الزخرف 88، الجاثية 14).
وإذا كان هذا عاماً فى التعامل مع المشركين الكافرين الذين يمدون أيديهم بالأذى للمؤمنين فإن لأهل الكتاب من النصارى واليهود تعاملاً خاصاً فى الجدال والحوار، وقد أوضح الله تعالى ذلك بالنهى عن الجدال معهم إلا بالتى هى أحسن، لأن أغلبهم يميل إلى السلم والسلام، أما الظالمون منهم فلا جدال معهم بل يكتفى المسلم بأن يقول لهم بأنه يؤمن بما أنزل إليه فى القرآن ما أنزل إليهم فى التوراة والإنجيل والكتب السماوية الأخرى، وأنه يؤمن بالإله الواحد الذى هو إله الجميع من المسلمين وأهل الكتاب، وهو يسلم وجهه لذلك الإله جل وعلا.. وذلك معنى قوله تعالى ﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت 46). أى يقول ذلك ولا يتعداه اذا جاءه ظالمون من اليهود والنصارى ليجادلوه ويخاصموه.
ولكن نجوم التطرف فى عصرنا يحلو لهم تكفير النصارى ويفتحون الطريق لتكفير المجتمع كله وتكفير بعضهم البعض، ويترتب على التفكير استحلال الدماء والأموال.
وعلى سبيل المثال فإن آيات الموالاة فى القرآن قد تم توظيفها ضد الأبرياء من المصريين الأقباط، ويصرخ خطباء المساجد فى التحريض ضد الأقباط مستشهدين بقوله تعالى ﴿يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ﴾ (المائدة 51). وهم فى ذلك الاستشهاد الخاطئ ويتناسون تشريعات الموالاة ومعناها، كما يتناسون تشريعات القتال وأنه للدفاع عن النفس وليس للاعتداء على الأبرياء. ان هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بالأقباط مطلقا وليست لها علاقة بأى يهود ونصارى مسالمين أو بيننا وبينهم عهد وميثاق. تنطبق الآية فقط حين يقع اعتداء اجنبى حينئذ تحرم موالاة ذلك العدو الغازى ضد ابناء الوطن والأهل والعشيرة.
وحتى نفهم الخلفية التاريخية فى تشريعات الموالاة والقتال علينا أن نسترجع تاريخ المسلمين فى مكة وتعرضهم للاضطهاد والأذى فيها لمجرد أنهم اتبعوا ديناً جديداً مخالفاً لدين الأغلبية. ثم وصل بهم الاضطهاد إلى إرغامهم على ترك الوطن والأهل، وكان من أولئك الأهل من تطرف فى إيذائهم ومنهم من اعتدل، ومنهم من سكت عن الظلم. ولكنهم جميعاً لم يتركوا المسلمين فى حالهم بعد أن استولوا على ديارهم وأموالهم فى الإيلاف أو رحلة قريش التجارية فى الشتاء والصيف. فواصل المشركون اعتداءاتهم وقتالهم للمسلمين وتحمل المسلمون ذلك حيث لم ينزل لهم الإذن بالقتال. فنزل الإذن بالقتال للرد على قتال قائم يعتدى به المشركون على المسلمين فعلاً. وهذا معنى قوله تعالى ﴿أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ أى أن المؤمنين كانوا يواجهون قتالاً واعتداءاً ظالماً فجاءهم الإذن برد ذلك الاعتداء الظالم بمثله، ثم تقول الآية التالية توضح خلفية أخرى لذلك الاضطهاد الذى واجهه المؤمنون فى مكة قبل أن يقاتلهم المشركون فى المدينة ﴿الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ﴾ (الحج 39،40) ثم توالت بعدها تشريعات القتال تربط الأوامر بالقواعد بالمقاصد، ونزلت تشريعات الموالاة فى إطار ذلك الصراح الحربى، ومنها نفهم أن الموالاة أن تكون (مع) فريق (ضد) فريق آخر فى إطار الحرب مع/ضد، أى تعنى التحالف مع طرف ضد آخر. وبالتالى فإنه من المحرم والممنوع أن يتحالف بعض المؤمنين أى أن يوالوا المشركين المعتدين على قومهم المسلمين، وبهذا نزلت تفصيلات سورة الممتحنة.
وفيها الآية الثامنة- وهى آية محكمة فى تشريع الموالاة- تؤكد أن الله تعالى لا ينهى عن البر والقسط مع المخالفين فى الدين – ولم يصفهم الله تعالى بالمشركين لأنهم حسب التعامل الظاهرى مسلمون مسالمون لم يقاتلوا المسلمين بسبب دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم- فقال تعالى عنهم ﴿لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ والآية التاسعة تحصر النهى عن الموالاة فى أولئك الذين قاتلوا المسلمين بسبب دينهم وأخرجوهم من ديارهم أو ساعدوا على إخراجهم من ديارهم، والنهى هنا عن موالاتهم والتحالف معهم ضد المؤمنين طبعاً ﴿إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىَ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾.
أولئك المتاجرون بالإسلام هم أحوج الناس لفهم تشريعات القرآن وحرصها على حقن الدماء، خصوصاً دماء المؤمنين الآمنين المسلمين المسالمين – ومنهم الأقباط المصريون حسب التوصيف القرآنى - وهم الذين لا يعتدون على أحد ولا يمكن أن يكون أحدهم قاتلاً إلا فى حالة واحدة هى القتل الخطأ.. وفى ذلك يقول تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً﴾ (النساء 92)، أى ما كان يصح ولا يمكن أن يتصور أن يقتل مؤمن مؤمناً إلا على سبيل الخطأ وعدم التعمد.
المؤمن الآمن المسلم المسالم قد يقتل مجرماً إذا حاول الاعتداء عليه لأن له حق الدفاع عن نفسه، وإذا قتل المعتدى فهو لم يرتكب جريمة قتل مؤمن مسالم وإنما قتل مجرماً معتدياً، فالمجرم المعتدى على الأبرياء المسالمين لا يمكن أن يكون مسلما مهما زعم.
ولكن المؤمن المسالم قد يقع فى الخطأ فيقتل إنساناً بريئاً مسلماً مأمون الجانب مؤمناً دون قصد، وحينئذ فعليه أن يدفع الدية كما فصلته الآية (92) من سورة النساء.
ولكن ذلك المؤمن الآمن المأمون الجانب المسلم المسالم إذا قتله مجرمً عمداً فما جزاء ذلك القاتل عند الله تعالى؟
تقول الآية التالية ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ (النساء 93) وهى الآية الوحيدة فى القرآن التى حلفت بكل أنواع العذاب والغضب واللعنات.. وذلك يدلنا على فداحة قتل الإنسان المسالم البرىء..
وتقول الآية التالية تحدد لنا معنى المؤمن الذى يحرص القرآن الكريم على سلامته وحقن دمه ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ (النساء 94) فالآية تتحدث عن الاشتباك الحربى بين المسلمين وأعدائهم المعتدين، اذ لا يجوز للمسلمين أن يحاربوا الا فى حالة واحدة هى الفاع عن النفس ضد المعتدين فقط. لذا تحذرهم الآية من قتل المسالمين حتى اثناء تلك الحرب الدفاعية، وتؤكد على ضرورة أن يتبينوا عدوهم عند الاشتباك، فكل من ألقى إليهم السلام أو ألقى عليهم تحية الإسلام فهو مؤمن.. أى أن تحديد الإيمان أو المؤمن ليس بما فى القلب ولكن فيما يخص تعاملنا الظاهرى، فالإيمان هو مجرد إلقاء تحية الإسلام وعدم الاعتداء، ومن ألقى السلام فقد أصبح مؤمناً مسلماً بغض النظر عن دينه وملته وعقيدته ، وحتى لو كان موجودا فى صف الأعداء عند الاشتباك الحربى ولكن رفع صوته بالسلام يكون بذلك مؤمنا لا بد من حمايته، ومن يقع فى جريمة قتله يكون مستحقاً للعذاب الخالد واللعنة والغضب ونار جهنم.
لقد نزلت الآيات الكريمة- أول ما نزلت- على مجتمع عربى وبدوى أسرع ما يكونون إلى الحرب، وقد وصف القرآن البدو الأعراب الذين كانوا يحاصرون دولة النبى محمد عليه السلام بأنهم أشد الناس كفراً ونفاقاً، ومع ذلك فإن الله تعالى أوصى بحقن دمائهم بمجرد أن يلقى أحدهم السلام أو يبدى رغبة فى السلام واعتبره مؤمناً حسب الظاهر أو بمعنى الأمن والأمان. بل أنه فى حالة الاشتباك الحربى فإن العدو المقاتل إذا كف يده وأعلن رغبته فى السلم من الواجب حقن دمه وتوصيله إلى بيته آمناً سالماً بعد أن يسمع القرآن الكريم حتى يعلم الحق ويكون ذلك حجة عليه يوم القيامة ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة 6).
هذه تشريعات فى حقن دماء المحاربين ساعة الاشتباك.. وصيانة حياة المدنيين فى الحرب حتى لو كانوا مشتبهاً فى اشتراكهم فى الاعتداء كالأعراب الذين هم أشد الناس كفراً ونفاقاً والذين كانوا يتربصون بالمسلمين وينافقونهم ويكيدون لهم .
فما هو حكم الأقباط المسلمين الذين لم يعرفوا منذ عشرين قرناً إلا الصبر على الأذى والاضطهاد؟ ثم هل يجوز أن يتعرضوا لاضطهاد أولئك الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن ويتمسكون بالإسلام؟ ثم ما هو حكم الإسلام فى أولئك الذين يتمسحون باسمه ويرتكبون تحت شعاره أفظع الجرائم؟! نرجو من كل من يهمه الأمر بأن يقرأ بقلب مفتوح وبتمعن الآيات الثلاث (92، 93، 94) من سورة النساء، ويتدبر حرص القرآن الكريم على حرمة النفس المسالمة حتى لو كانت من الأعراب المشهور عنهم السلب والنهب والكفر والنفاق والغدر والاعتداء على المسافرين والمسالمين.. ولكن القرآن يعطى الواحد منهم حصانة ضد القتل أثناء الاشتباك الحربى بمجرد أن يلقى بلسانه كلمة السلام. فما بالنا بالذين عاشوا فى أرضهم عشرات القرون فى سلم وسلام وإكرام للضيف ورعاية للغريب؟ الذين عاشوا مؤمنين آمنين مسلمين مسالمين يجد الغريب عندهم الأمن والسلام. أليس من يعتدى عليهم يكون مستحقاً لما جاء فى قوله تعالى ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾.
ونخلص مما سبق إلى أن أقباط مصر بالمفهوم القرآنى للإسلام والإيمان (الظاهرى) مؤمنون مسلمون، أى مأمونون مسالمون، والذى يقتل واحداً منهم يستحق اللعنة والغضب الإلهى والخلود فى جهنم مع عذاب عظيم، وتزداد جريمته حين يعتقد أنه بذلك يقوم بجهاد فى سبيل الله.. ويشاركه فى جريمته أولئك الذين يغررون به أو يتقاعسون عن تطهير الدعوة الإسلامية من الأحاديث المفتراه والفتاوى السامة التى تجعل دين الإسلام والسلام متهماً بالإرهاب والتطرف..
ثانياً: الاضطهاد للأقباط فى عصر الخلفاء الراشدين
الأعراب الذين هم أشد الناس كفراً ونفاقاً ما لبث أن أعلنوا الردة بعد وفاة الرسول عليه السلام وهاجم بعضهم المدينة، فقامت حروب الردة فى خلافة أبى بكر، وبعد إخمادها رأى أبو بكر أن يشغل الأعراب وأن يمتص طاقتهم الحربية فى الفتوحات خارج الجزيرة العربية، فأصبح المرتدون السابقون عماد الجيش الفاتح الذى قضى على الإمبراطورية الفارسية والذى قهر الإمبراطورية البيزنطية، وأصبحت مستعمرات الدولتين العظميين ضمن ولايات الإمبراطورية العربية الناهضة، وكانت مصر ضمن هذه الولايات، وقد دخل شعبها تحت ولاية العرب المسلمين أو فى ذمتهم ورعايتهم بتعبيرات القرون الوسطى.
وقد قاسى الأقباط من ظلم الدولة الأموية المشهورة بقسوتها وتعصبها للعرب ضد الشعوب الأخرى مثل موالى العراق وإيران وأقباط مصر. إلا أن الحقيقة المؤسفة التى يعزف عن بحثها الكثيرون ان اضطهاد الأقباط بدأ فى عصر الخلفاء الراشدين وأثناء ولاية عمرو بن العاص فاتح مصر والذى يشهد الكثيرون من الأقباط ومؤرخيهم بإنصافه وحبه للأقباط..
ويمكن أن نركز ملامح اضطهاد الأقباط فى تلك الفترة فى جانبين أساسيين هما فرض الجزية ومصطلح أهل الذمة..
فرض الجزية:
الآية القرآنية الوحيدة التى تحدثت عن الجزية تقول ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة 29).
وتشريعات القرآن لها درجات ثلاث، أوامر تشريعية تحكمها قواعد تشريعية تهدف إلى مقاصد تشريعية، فالأوامر التشريعية مثل (قاتلوا) أو (انفروا) تحكمها القواعد التشريعية التى تجعل أوامر القتال لا تكون إلا فى إطار الدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله دون زيادة أو نقصان (البقرة 190، 194). ثم يكون الهدف النهائى للقتال فى الإسلام أو فى سبيل الله هو منع الفتنة فى الدين، والفتنة هى الاضطهاد الدينى أو إكراه الناس على تغيير عقائدهم، فالمقصد التشريعى من القتال فى سبيل الله أن تختفى الفتنة والإكراه وأن يكون الناس أحراراً فى اعتناق ما يريدون حسبما شاء الله تعالى حين خلفهم أحراراً، وجعل مرجعهم إليهم يوم القيامة ليحاسبهم على ما اختاروه بمحض إرادتهم وذلك معنى قوله تعالى فى الأمر بقتال المشركين العرب الذين يضطهدون مخالفيهم فى الدين ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ﴾ (البقرة 193). واقرأ أيضاً آية 39 فى سورة الأنفال.
إذن لابد أن نفهم تشريعات القرآن الكريم فى الأوامر والقواعد والمقاصد حتى نعرف أن المقصودين بالقتال فى آية ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ﴾ هم أولئك المعتدون من أهل الكتاب و لا يمكن أن تمتد الى غيرهم من المسالمين الذين لم يعتدوا على دولة المسلمين ، لأنه لا مجال فى الإسلام لاعتداء على أحد وإنما لرد الاعتداء بمثله فقط..
والآية تتحدث عن دولة أو مجتمع عدوانى انعدم فيه الإيمان بمعنى الأمن وبمعنى الاعتقاد السليم، وهو يتجاوز حدوده إلى حدود المسلمين ليعتدى عليهم وحينئذ فلابد من القتال لرد الاعتداء بمثله، وبعد تحقيق النصر وطرده إلى دياره يجب إرغامه على دفع الجزية- وليس على دخول الإسلام- وهى غرامة حربية كالشأن فى عقوبة المعتدى، والذى يأخذ به المجتمع البشرى حتى الآن فى المعاهدات التى يعقدها المنتصر مع المهزوم خصوصاً إذا كان معتدياً مثل ما حدث مع ألمانيا بعد الحربين العالميتين وما حدث مع العراق بعد غزو الكويت.
وإذا طبقنا الآية الكريمة التى تتحدث عن فرض الجزية وجدناها تنطبق على الروم البيزنطيين، وقد ذكر التاريخ أنهم الذين بدءوا الاعتداء على الدولة الإسلامية فى عصر النبى (صلى الله عليه وسلام) وحرضوا ضدها القبائل العربية النصرانية مما أدى إلى غزوات مؤتة وتبوك...
والتاريخ يذكر أن البيزنطيين كانوا يدفعون الجزية للمسلمين بعد الهزيمة، وأنه كان يحدث العكس فيدفع المسلمون الجزية للبيزنطيين كما حدث مع معاوية حين دفع لهم جزية قدرها مائة ألف دينار سنوياً أثناء انشغاله بالحرب مع (على).. وكان الروم البيزنطيين يدفعون الجزية للمسلمين فى العصر العباسى الأول، فأصبح المسلمون فى العصر العباسى الثانى يدفعون الجزية للبيزنطيين.. وهكذا تبادل الفريقان المواقع كل حسب قوته.
وكان من المنتظر أن يدفع البيزنطيون الجزية لعمرو بن العاص بعد أن هزمهم وأجلاهم عن مصر.. ولكن حدث العكس. إذ دفعها المصريون الذين تحالفوا مع عمرو ضد البيزنطيين. ولذلك قصة نعرفها من المقريزى فى كتابه المشهور "الخطط".
فالمقريزى يشير بين السطور إلى مساعدة الأقباط المصريين للعرب الفاتحين ضد الروم. ومنذ أن دخل عمرو بجيشه إلى سيناء متوجهاً إلى مصر أرسل أسقف الأقباط فى الإسكندرية أمراً إلى الأقباط بأن يعاونوا العرب ويتنبأ بزوال دولة الروم، واستجاب الأقباط لتلك الأوامر. وحين نزل عمرو على أسوار مدينة الفرما كان الأقباط أعواناً له يمدونه بالمعلومات والمؤن. والأقباط هم الذين ساعدوا عمرو فى فتح الإسكندرية بعد حصارها الشديد. وظلوا شهرين يمدون العرب بالأطعمة والمؤن ويجمعون لهم الأخبار، والأقباط هم الذين استمالوا القائم على حراسة أبواب الإسكندرية- وكان قبطياً- ففتح أبوابها للعرب فاقتحموها، والمنتظر بعد هذا أن يحفظ عمرو الجميل للأقباط الذين ساعدوا جيشه الضئيل على فتح بلدهم كراهية منهم فى الروم البيزنطيين.
ولكن الذى حدث أن المقوقس- الوالى الرومى- هو الذى أقنع عمرو بأن يدفع الأقباط الجزية بدلاً من الروم المهزومين . وقد كان الأقباط يدفعون الجزية للروم حسب المعتاد فى العصور الوسطى ، فتعلم العرب المسلمون منهم هذا القانون الجائر وطبقوه على الأقباط الذين ساعدوهم على احتلال بلادهم !! فبعد حصار بابليون الذى استمر سبعة أشهر اقتحم العرب أبواب الحصن فاضطر المقوقس للتفاوض على أن يدفع الأقباط الجزية للعرب دينارين عن كل رجل. لأن الروم لن يقبلوا دفع الجزية ولن يقبل العرب إلا بالجزية أو الإسلام أو الحرب وهكذا نجا المقوقس من غرامة الجزية التى يرفض الروم دفعها، ودفعها الأقباط الذين ساعدوا عمرو فى الفتوح، بل أنه فرض عليهم إلى جانب الجزية القيام بضيافة العرب فى قراهم ثلاث أيام.
وبلغ عدد المصريين الذين دفعوا الجزية يومئذ ستة ملايين.. وشرهت نفس عمرو لهذه الملايين وبعد أن رضى بدفع المصرى دينارين طلب أكثر،والمقريزى يذكر أن والى (إخنا) سأل عمراً عن مقدار الجزية الواجبة على أهل مدينة (إخنا) فقال له عمرو يشير إلى ركن الكنيسة "لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم".
وكان ذلك سبباً فى خروج ذلك الرجل على الطاعة، فقد هرب إلى الروم وعاد بجيش بيزنطى استعاد الإسكندرية، وأعاد عمرو فتح الإسكندرية وتخليصها من الروم بصعوبة بالغة .
وعمرو بن العاص كان رائداً للدولة الأموية فى شراهتها فى جمع الجزية من الأقباط وغيرهم، وحتى من أسلم من الأقباط كانوا لا يعفونه من دفع الجزية، والاستثناء الوحيد من خلفاء بنى أمية كان الخليفة عمر بن عبد العزيز فى حكمه القصير ، فقد رفع الجزية عمن أسلم فكتب إليه والى مصر حيان بن شريح يخبره بتناقص الجزية بهذا القرار، فكتب إليه عمر ابن عبد العزيز يؤنبه ويقول له: ضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك فإن الله إنما بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً..!!
وظلت الجزية نقطة سوداء فى تاريخ الولاة الأمويين والعباسيين يدفعها من بقى على دينه من المصريين إلى نهاية العصر المملوكى سنة 921/1517، وجاء الفتح العثمانى ففرض جزية على المصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين، وظلت الخزانة المصرية تدفعها لتركيا بصورة عادية حتى تنبه لها عبد الناصر وألغاها..!!
ونعود إلى عمرو بن العاص وما كتبه المقريزى فى الخطط عن فتح مصر..
يقول أن عمراً أعلن لأهل مصر: أن من كتمنى كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته!!
وقيل له أن قبطياً من الصعيد اسمه بطرس لديه كنز فرعونى فحبسه عمرو واستجوبه فأصر على الإنكار، وعلم عمرو بذكائه مكان الكنز فاستولى عليه وقتل المصرى وعلق رأسه على باب المسجد، فارتعب الأقباط ومن كان عنده كنز أسرع بتسليمه إلى عمرو..
ويذكر المقريزى أن عمراً اعتقل قبطياً آخر اتهمه بممالاة الروم واستجوبه وحصل منه على أكثر من خمسين أردباً من الذهب..!!
ومن مجموع هذه المصادرات تضخمت ثروة عمروالشخصية وحين حضرته الوفاة استحضر أمواله فكانت (140) أردباً من الذهب، وقال لولديه: من يأخذ هذا المال؟ فأبى ولداه أخذه وقالا له: حتى ترد إلى كل ذى حق حقه..
ومات عمرو واستولى الخليفة معاويةعلى كل تلك الأموال التى خلفها عمرو فى ميراثه وقال: نحن نأخذه بما فيه .. أى بما فيه من ظلم وسحت..!!
ومع ذلك فإن عمرو بن العاص هو أفضل من حكم مصر وأكثرهم رفقاً بالمصريين بالمقارنة بغيره.. والثابت أنه لم يكن مسرفاً فى سفك الدماء كما فعل غيره من الولاة كما أنه كان حسن السياسة فى جباية الخراج والجزية، فلم يرهق المصريين، وكان يجمع الجزية 12 مليون دينار، فأصبح الوالى بعده عبد الله بن أبى سرح يجمعها 14 مليون دينار.
وأدى تطرف الولاة الأمويين فى جمع الأموال من المصريين إلى اضطرار المصريين للقيام بثورات متعاقبة، فأخمد الأمويين ثوراتهم بالحديد والنار.. وتطرفوا فى اضطهادهم والعسف بهم.. وسيأتى تفصيل ذلك..
مصطلح أهل الذمة:
لم يأت لفظ الذمة فى القرآن إلا فى موضعين فى الحديث عن طبيعة مشركى العرب البدوية العدوانية وكيف أنهم لا يراعون عهداً ولا ميثاقاً ولا ذمة إذا انتصروا ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً﴾، ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ (التوبة 8،10).
وظهر مصطلح أهل الذمة بعد الفتوحات العربية ضمن مصطلح آخر هو "الموالى" ليضع توصيفاً للشعوب التى دخلت فى حوزة العرب المسلمين.. والمعنى واحد لأهل الذمة والموالى فى أنهم أتباع ورعية العرب الحاكمين، وبالتالى هم مواطنون من الدرجة الثانية أو أقل.. والدليل العملى على ذلك هو ما عاناه الموالى من أبناء العراق وإيران وما عاناه أهل الذمة من الأقباط فى العصر الأموى تحت وطأة الاضطهاد والاستعلاء..
وبينما دخل مصطلح "الموالى" إلى متحف التاريخ بعد أن تمتع أبناء الفرس والعراق بحقوقهم فى الدولة العباسية التى أسهموا فى تأسيسها، فإن مصطلح أهل الذمة بقى مستعملاً ووصمة عار على كل من تمسك بدينه من أبناء الشعوب غير العربية، وكان المسيحيون العرب بمنجاة من هذا المصطلح وآثاره الجانبية لأنهم عرب، أما المسيحيون فى الشام والعراق ومصر فقد حملوا ذلك الوصف على كاهلهم، وقاسوا تحته أوزار الاضطهاد العنصرى فى العصر الأموى، ثم الاضطهاد الدينى بعده..
وتم تقنين تلك النظرة الاستعلائية المخالفة للقرآن الكريم فى كتب الفقه فيما يخص التعامل مع أهل الملل الأخرى غير الإسلامية، وأحدثوا لها كياناً تشريعياً من أحاديث مفتراه نسبوها للنبى عليه السلام تبيح اضطهاد أهل الكتاب والاستعلاء عليهم..
وتناسى أولئك حديث القرآن مع أهل الكتاب وأمره للمسلمين بمجادلتهم بالحسنى وكيف أن رب العزة جل وعلا أجرى حواراً معهم فى القرآن الكريم وكيف قال للنبى الخاتم عليه السلام ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ﴾ (يونس 94). ومعناها واضح يغنى عن الشرح.. وكيف وصف القرآن النصارى بالذات بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا لأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (المائدة 82). وكيف أمر القرآن الكريم بمعاملة المخالفين فى الدين بالقسط والبر طالما لم يعتدوا بالقتال ولم يطردوا المسلمين من ديارهم ولم يتحالفوا مع عدوهم المعتدى عليهم (الممتحنة 8، 9).
وكيف أمر القرآن الكريم بمعاملة أهل الكتاب على نفس المستوى مع المسلمين فى الطعام والمصاهرة، طالما يعيشون مع المسلمين فى أمن وأمان وسلم وسلام، (وقد سبق توضيح معنى الإيمان والإسلام) فقال تعالى ﴿الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلّ لّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتّخِذِيَ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة 5). والمصاهرة المشتركة والحياة المشتركة على أساس التساوى تعنى علاقات الدم والقرابة والحياة الاجتماعية المشتركة، حيث يتنفس أفراد المجتمع التسامح والتساوى فى الحقوق والواجبات ويصبح كل إنسان حراً فى عقيدته كيف يشاء بعد تدقيق وتحقيق أو بدون تدقيق وتحقيق، وهذا شأنه، وحسابه عند ربه يوم القيامة، والمهم أن يكون مسالماً آمناً مأمون الجانب أو مسلماً مؤمناً فى تعامله مع الناس لا يعتدى على أحد، وقد سلم الناس من لسانه ويده..
ضاع ذلك كله بسبب مصطلح أهل الذمة الذى أوجد التفرقة والاضطهاد..
وفرض الجزية فى عصر الخلفاء الراشدين كان هو التربة التى نبت فيها مصطلح أهل الذمة وما نتج عنه من آثار.
ولو لم يرض عمر بن الخطاب بفرض الجزية عليهم لكانوا على قدم المساواة مع العرب، ولكن أن يفرض عمر ثم عثمان الجزية على رؤوس الأفراد من الأمم الأخرى فالمعنى أنهم عنصر أقل شأناً ومواطنون من الدرجة الثانية، وكانت تلك البداية لمصطلح أهل الذمة واضطهادهم..
ثم سار الأمويين على طريق التصعيد فى الاضطهاد للأقباط فى مصر وللموالى فى العراق.
ثالثاً: اضطهاد الأقباط فى العصر الأموى
الأمويين عارضوا الإسلام وحاربوه حرصاً على مصالحهم التجارية، ثم انضموا إليه وآزروه حرصاً أيضاً على مصالحهم التجارية حيث كانوا قادة قريش فى رحلتى الشتاء والصيف، وعن طريقها وثقوا علاقاتهم بالقبائل العربية النصرانية على طريق الشام التجارى ثم بعد أن دخلوا الإسلام أثمر تعاونهم مع تلك القبائل فى إخضاع الشام فى الفتوحات الإسلامية، ثم ساعدتهم تلك القبائل على توطيد دولتهم الأموية.
لذلك لم يضطهد الأمويون نصارى العرب بل عاملوهم على قاعدة المساواة ، فالوالى فى العراق خالد القسرى أقام كنيسة لأمه النصرانية، والأخطل الشاعر العربى النصرانى كان نديم الخلفاء الأمويين يدخل عليهم وفى عنقه الصليب، والخليفة عمر بن عبد العزيز دفنوه فى دير سمعان بجوار دمشق..
إلا أن الأمويين- خلا عمر بن عبد العزيز- اشتهروا بالتعصب العنصرى ضد الأجناس غير العربية، فاضطهدوا الفرس والعراقيين، وألجأوهم للثورة المتكررة وتأييد كل ثائر شيعى أو علوى على الأمويين.. كما اضطهدوا المصريين لمجرد أنهم مصريون ومواطنون رعايا من الدرجة الثانية أو الثالثة، واعتبروهم بقرة حلوباً تدر لهم الخير، ولا بأس بأن يمتصوا لبنها ودمها إذا أمكن..
وأدى العسف فى جباية الجزية والخراج إلى ثورة المصريين، وهم أقدر شعوب الدنيا على احتمال الصبر، ولكن العسف الأموى كان فوق طاقة المصريون أنفسهم.!!
ونرجع للمقريزى فى الخطط..
يذكر أن الأقباط صاروا عوناً لعمرو على الروم حتى انتصر عليهم، وإن عمراً كتب أماناً لبطرك القبط سنة عشرين من الهجرة فأتى إلى عمرو وجلس على كرسى البطريركية بعد غياب ثلاثة عشر سنة. واحتمل المصريون جشع عمرو بسبب موقفه من البطرك بنيامين الذى كان له النفوذ الأكبر على قلوب المصريين. وتبدل الحال بعد تحكم الأمويين من أولاد مروان بن الحكم، ووصل الاضطهاد إلى البطاركة الأقباط والرهبان أنفسهم..
ففى ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر صودر البطرك مرتين، وأمر عبد العزيز- وهو بالمناسبة والد الخليفة عمر بن عبد العزيز- بإحصاء الرهبان وأخذ منهم الجزية، وهى أول جزية أخذت من الرهبان.
وتولى مصر عبد الله ابن الخليفة عبد الملك بن مروان فاشتد على النصارى، واقتدى به الوالى التالى قرة بن شريك فأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا بمثلها من قبل على حد قول المقريزى. وأقام الأمويون مذبحة للأقباط سنة 107 هجرية حين ثاروا فى شرق الدلتا بسبب جشع الوالى عبد الله بن الحبحاب..
وفى خلافة يزيد بن عبد الملك تطرف الوالى أسامة بن زيد التنوخى فى اضطهاد الأقباط، فصادر أموالهم ووسم أيدى الرهبان بحلقة من حديد، وكل من وجده منهم بغير وسم قطع يده، وفرض غرامات على الأقباط، وصادر الأموال من الأديرة، ومن وجده من الرهبان فى تلك الأديرة بلا وسم ضرب عنقه أو عذبه، وهدم الكنائس وكسر الصلبان.
وفى خلافة هشام بن عبد الملك تشدد الوالى حنطلة بن صفوان فى زيادة الخراج، وأحصى الأقباط وجعل على كل نصرانى وشماً فيه صورة أسد ومن وجده بلا وشم على يده قطع يده.
وثار العرب المسلمون سنة 117 بسبب قيام الأقباط ببناء كنيسة يوحنا، وكان ذلك فى ولاية الوليد بن رفاعة.
وأدت زيادة المظالم إلى قيام الأقباط بثورة عارمة فى الصعيد سنة 121 هجرية، وانتقلت الثورة إلى سمنود سنة 132 وإلى رشيد فى نفس العام وتولى الأمويون إخمادها بالعنف الشديد، وفى هذا العام انهزم مروان بن محمد آخر خليفة أموى أمام العباسيين فهرب إلى مصر فوجدها ثائرة على مظالم الأمويين، ومع ظروفه السيئة إلا أن الخليفة الأموى الهارب استنفذ ما بقى من قوته وعدته فى القضاء على ثورات الأقباط حتى قضى عليها، ثم واصل هروبه فى مصر أمام الجيش العباسى إلى أن لقى حتفه فى أبو صير، وكان يحتجز عنده البطرك القبطى ومجموعة من كبار الرهبان وزعماء الأقباط فأفرج عنهم الجيش العباسى .
ودخلت مصر فى العصر العباسى.. أو فى الاضطهاد العباسى..
رابعاً: اضطهاد الأقباط بعد العصر الأموى
انتهى العصر الأموى سنة 132 هجرية.
وتوالت على مصر دولة الخلافة العباسية والدول المستقلة فى إطار الخلافة العباسية كالطولونية والأخشيدية، ثم الدولة الفاطمية وبعدها الدولة الأيوبية التى انتهت بسيطرة المماليك، وبعدهم سنة 921 كان الفتح العثمانى والخلافة العثمانية التى سيطرت على مصر فعليا أواسميا حتى سقوطها .أى هى فترة تمتد إلى اثنى عشر قرناً من الزمان، وقد كان اضطهاد الأقباط فيها سمة بارزة تحتاج إلى مجلدات فى رصدها ولكننا نوضح الملامح الأساسية فى الموضوع على النحو التالى:
أولاً: من بداية الخلافة العباسية إلى سنة 235 هجرية فى خلافة المتوكل على الله العباسى:
وفى هذه الفترة واصل الأقباط ثوراتهم على ظلم الولاة العباسيين، وكان الاضطهاد فى أغلبه رسمياً من السلطة الحاكمة التى تريد اعتصار الضرائب بالقسوة، والعنف فلا يجد الأقباط طريقة إلا الثورة التى تنتهى بالهزيمة والمذابح.. ونعطى أمثلة سريعة:
• فى سنة 150 هجرية ثار الأقباط فى سخا وطردوا ولاة الضرائب فأرسل لهم العباسيون جيشاً يقوده يزيد بن حاتم، وهاجم الأقباط الجيش ليلاً وقتلوا بعض أفراده وهزموا بعض فصائله، إلا أن الإمدادات العباسية تلاحقت وحاصرت الأقباط وهزمتهم، وامتد الانتقام إلى حرق الكنائس. واضطر الأقباط إلى دفع غرامة قدرها خمسون ألف دينار للوالى العباسى سليمان بن على كى يكف عن حرق الكنائس إلا أنه أبى..
وتولى بعده الوالى موسى بن عيسى العباسى فاستمع إلى نصيحة الأئمة المستنيرين من الفقهاء المشهورين بمصر مثل الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، وقد أفتوا له بأن بناء الكنائس من عمارة البلد، فأذن الوالى بإعادة بناء الكنائس، ولكن ظلت المظالم على حالها..
• فى سنة 156 هجرية عاد الأقباط للثورة فى بلهيت، فأرسل لهم الوالى موسى بن عيسى جيشاً فهزمهم وحكم بقتل الرجال وسبى النساء والذرية . وجاء المأمون لزيارة مصر وأنب الولاة واعتبرهم سبب المظالم والثورات، وأمر ببعض الإصلاحات..
• وكانت ثورة 216 هجرية هى آخر ثورات الأقباط الحربية، وبعدها اتبعوا طريق المقاومة السرية، ونحن ننقل معاناة الأقباط عن المقريزى وهو الذى لا يخفى تعصبه ضد النصارى، يقول فى التعليق على ثورة 216 هجرية وآثارها "ومن حينئذ ذلت القبط فى جميع أرض مصر ولم يقدر أحد منهم على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكيدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين..
ثانياً: وشهد عصر الخليفة المتوكل ظاهرة جديدة هى انتصار الفكر الحنبلى المتشدد وهزيمة الفكر المعتزلى العقلانى، وقد استمال السلفيون من أصحاب ابن حنبل ورواة الأحاديث الخليفة المتوكل إليهم، وبتأثيرهم دخلت الدولة العباسية فى اضطهاد مخالفيها فى المذهب والدين، فحوكم شيوخ التصوف وطورد الشيعة وهدم ضريح الحسين فى كربلاء، وصدرت قرارات لاضطهاد اليهود والنصارى، وانتشرت الروايات والفتاوى التى تضع الإطار التشريعى لتلك الممارسات، ومنها الحديث المشهور "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..." ذلك الحديث الزائف الذى أثبتنا كذبه فى مقالة بجريدة الأحرار والذى يعتبر الدستور العملى للتطرف حتى الآن..
ويهنا أن هذه الفكرة كان لها ابلغ الأثر فى انتقال الاضطهاد للأقباط من دائرة الحكم والسياسة إلى الشارع والعوام، وساعدت الروايات والفتاوى وجهود الفقهاء والقصاصين وأهل الحديث فى شخن الأفراد العاديين بالكراهية ضد مخالفيهم فى المذهب سواء كانوا صوفية أو شيعة أو كانوا مخالفين لهم فى الدين أى من اليهود أو من النصارى.. وبالتالى تحول الاضطهاد الرسمى العنصرى للأقباط إلى اضطهاد دينى يشارك فيه المصرى المسلم ضد أخيه المصرى القبطى.. وبمرور الزمن تعاظم تأثير تلك الروايات والفتاوى وأصبحت ركائز دينية تفرق بين أبناء الشعب الواحد وتباعد بينهم وبين الدين الحق الذى نزل على خاتم الأنبياء عليهم السلام. والمؤسف أن المسلم اليوم - إذا أراد أن يتدين - يجد أمامه كتابات اولئك الأئمة فيما يعرف الآن بكتب الفقه والسنن وقد احتوت على تلك الروايات والفتاوى فيأخذها عنهم كأنها الدين الحق ويصدق نسبتها الكاذبة للنبى محمد ، مع انها – أى تلك الأحاديث – قد كتبوها ونسبوها للنبى بعد موته بأكثر من قرنين من الزمان عبر اسناد شفهى مضحك. الا أن المسلم اليوم يصدق هذه الأحاديث المفتراة ويعتقد أن النبى محمدا عليه السلام قد قالها فعلا ، وعلى أساسها يعتقد أن كراهية المخالفين فى المذهب والاعتقاد من معالم الدين حتى لو كانوا من المسالمين الصابرين. والدليل على ذلك ما نراه فى عصرنا الراهن من اضطهاد للأقباط مع علو لنفوذ التيار الحنبلى السلفى والذى استعادته الدولة السعودية عبر مذهبها الوهابى وأصبح من علاماته التطرف والتعصب والانغلاق واضطهاد المخالفين والحكم بتكفيرهم وما يترتب على التكفير من سفك للدماء واستحلال للأموال..
أعاد ذلك لعصرنا الراهن ما ساد فى عصر الخليفة المتوكل العباسى من سطوة الفقهاء المتزمتين الذين سموا أنفسهم بأهل السنة واستمرت سطوتهم فى عصر من جاء بعده من الخلفاء حتى أصبحت سياسة متبعة . ثم اعاد التطرف الوهابى والنفوذ السعودى هذا التراث حيا فى عصرنا.وليس غريباً بعدها أن نعرف أن أئمة الحديث المشهورين عاشوا تلك الفترة من ابن حنبل إلى البخارى ومسلم والحاكم وغيرهم ،وقد أصبحوا الآن فى عصرنا آلهة منزهة عن الخطأ ومن يناقشهم - معتبرا اياهم بشرا يخطئون ويصيبون – يكون مصيره الاتهام بالكفروإنكار السنة.!!
ونعود إلى التطور الجديد فى اضطهاد الأقباط فى هذه الفترة.
فى سنة 235 هجرية أصدر الخليفة المتوكل مرسوماً يهدف إلى تحقير (أهل الذمة)فى كل الامبراطورية العباسية، وذلك بإلزامهم بارتداء زى معين ومظهر معين، مع هدم الكنائس الجديدة وتحصيل الضرائب والعشور من منازلهم وأن يجعل على أبواب بيوتهم صوراً للشياطين، ونهى المرسوم عن توظيفهم وتعليمهم عند المسلمين، وتسوية قبورهم بالأرض وألا يحملوا الصليب فى أعيادهم وألا يشعلوا المصابيح فى احتفالاتهم وألا يركبوا الخيول.. وقد طبق الولاة ذلك على أقباط مصر وأصبحت سنة متبعة.
ومفهوم تلك القرارات أن يشارك الناس فى إلزام الأقباط بها، ومن هنا بدأ انغماس العوام فى اضطهاد الأقباط.. وتعلموا أن ذلك يعنى إظهار الإخلاص للإسلام، وانتقل ذلك الفهم الخاطىء لبعض الولاة المتدينين مثل أحمد بن طولون الذى استقل بمصر ذاتياً فى إطار الخلافة العباسية، وكان معروفاً بتدينه وجرأته على سفك الدماء لصالح سلطانه، ولم يكن الأقباط يشكلون خطراً على نفوذه، بل كان يستعين بهم فى دواوينه وأعماله ومع ذلك فقد قام بعمليات اضطهاد ضد الأقباط كأفراد ومنشآت دينية.. ولم تكن له فيها دوافع سياسية، مما يرجح أن دوافعه كانت دينية نتيجة تأثره بالفكر السلفى السنى السائد، وقد كان معروفاً بإخلاصه لذلك الفكر.
والمقريزى يذكر أن أحمد بن طولون ألزم البطرك ميخائيل بدفع غرامة قدرها عشرون ألف دينار واضطره لبيع أوقاف الكنيسة، وفرض ابن طولون ضرائب جديدة على الأقباط..
وحدث سنة 300 هجرية إحراق كنيسة القيامة فى الإسكندرية..
وبعد انتهاء الدولة الطولونية اشتد الوالى ابن الجراح على الأقباط وألزم الرهبان بدفع الجزية فاستغاثوا بالخليفة العباسى المقتدر فأمر برفع الجزية عنهم اكتفاء بما دفعه عامة الأقباط.
وأقام محمد بن طغج دولته الأخشيدية بمصر فأرسل فرقة من جيشه إلى مدينة تنيس على ساحل المتوسط فى سيناء فصادر ما فى الكنيسة الملكية بها.
وقامت الدولة الفاطمية بخلافة شيعية فى مصر تناوئ الخلافة السنية فى بغداد . وفى بداية الفاطميين فى مصر كانوا متسامحين مع الأقباط واليهود، خصوصاً الخليفة المعز لدين الله وابنه الخليفة العزيز بالله إلا أن الخليفة الحاكم ابن الخليفة العزيز بالله الفاطمى كان مشكلة مزمنة لكل المصريين وخصوصاً الأقباط بسبب قراراته الغريبة المتناقضة وجرأته على سفك الدماء..
ففى سنة 393 هجرية أمر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمى باعتقال البطرك زخريس لمدة ثلاثة شهور. وكان التسامح مع الأقباط فى عهد المعز والعزيز قد مكن لكثير منهم العمل فى الدواوين والحصول على كثير من النفوذ والأموال، وبالتالى تعاظمت الشكاوى منهم من المنافسين والعوام بعد أن تم شحن القلوب بالتعصب الدينى . وأثمرت السعاية بهم فى إغضاب الحاكم بأمر الله - وكان لا يملك نفسه إذا غضب - لذلك أمر بقتل عيسى بن نسطورس وفهد بن إبراهيم وهما من كبار النصارى فى الدواوين . ثم أعاد الخليفة الحاكم العمل بمرسوم الخليفة المتوكل العباسى فيما يخص ارتداء النصارى أزياء معينة للتحقير والتشهير ومنعهم من الاحتفال بأعيادهم، وصادر أوقاف الكنائس وأحرق الصلبان ومنع الأقباط من شراء العبيد والجوارى، وهدم الكنائس فى المقس وخارج القاهرة وأباح للعوام نهبها فساهم فى زيادة التعصب بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد.
وتطرف الحاكم بأمر الله الفاطمى فى تحقير الأقباط فألزمهم بتعليق صلبان خشبية ثقيلة (5 أرطال) فى أعناقهم ومنعهم ركوب الخيل، ومنع المسلمين من السماح لهم بالركوب على الحمير بالأجرة أو الركوب فى المراكب بأجرة..
ثم تطورت الحالة الجنونية بالخليفة الحاكم الفاطمى فأخذ فى هدم الكنائس كلها وأباح للناس ما فيها نهباً وإقطاعاً، فنهب العوام كل ما فى الكنائس واقتطعوا أرضها واقتسموها وبنوا مساجد مكانها وأقيمت الصلاة الإسلامية فى الكنائس المشهورة التى بقيت على حالها مثل كنيسة شنودة والكنيسة المعلقة.
وانتقلت الحمى للعوام فتكاثروا بالشكاوى على ديوان الخليفة يطالبون بمستحقات وهمية لهم على الكنائس وأمتعتها، وكانت السلطات الفاطمية توافقهم، فامتلأت الأسواق بالمنهوبات من أمتعة الكنائس والنصارى مثل أوانى الذهب والفضة والأيقونات والثياب الفاخرة وغير ذلك.
وانتقل الاضطهاد من القاهرة إلى الأقاليم فكتب الخليفة الحاكم إلى ولاته بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والأديرة فعم الهدم فيها منذ سنة 403 هجرية واستمر الهدم حتى وصل طبقاً لإحصاء المقريزى سنة 405 هجرية إلى أكثر من ثلاثين ألف منشأة دينية بين بيعة لليهود ودير وكنيسة للنصارى فى مصر والشام وتم نهب كل مقتنياتها وأوقافها.
ثم اشتدت الحالة العصبية بالخليفة فأصدر قراراً بنفى الأقباط وإخراجهم من مصر إلى بلاد الروم ومعهم اليهود، فاجتمع أعيانهم تحت قصر الخليفة يبكون ويصرخون حتى رحمهم الخليفة ورجع عن قرار النفى .!! واضطر كثيرون للدخول فى الإسلام.. وكان ذلك أفظع تجربة للاضطهاد الطائفى فى تاريخ مصر الوسيط..
وبعدها برزت بعض حركات الاضطهاد فى الدولة الأيوبية وفى بداية الدولة المملوكية.. إلا أن العصر المملوكى (الذى امتدت ملامحه الاجتماعية بعد سقوط الدولة المملوكية لتشكل ملامح العصر العثمانى) شهد ملامح خاصة فى التعامل مع الأقباط..
ثالثاً: فالدولة المملوكية
لم تر بأساً فى الاستعانة بالأقباط فى أعمالها الإدارية والمالية ، وفى نفس الوقت أوسعت للشيوخ نفوذاً فى إدارتها المدنية سواء ما كان خاصاً بالوظائف الديوانية كالوزارة أو كان خاصاً بالوظائف الدينية كالقضاء والحسبة ومشيخة الخوانق والمدارس والجوامع..
وفى هذا العصر- المملوكى- تسيد التصوف الحياة الدينية والعقلية ومن شأن التصوف السكون والتسامح والصبر على المكاره، أى كان منتظراً أن يعيش الأقباط أزهى عصور الوحدة الوطنية والتسامح فى العصر المملوكى .
إلا أن العكس هو الذى حدث.
ويرجع السبب إلى عامل أساسى نتجت عنه آثار جانبية زادت فى تأكيده وسيطرته . وقد أشرنا من قبل إلى خطورة ذلك العامل الأساسى وهو إدخال كراهية "أهل الذمة" فى الروايات والفتاوى الدينية التى أصبحت بالدراسة والتلقين والممارسة من أبرز طقوس التدين فى القرون الوسطى وهى عصر التعصب الدينى والحروب الصليبية والتطرف الشكلى فى التمسك بمظاهر التدين دون فهم حقيقى للدين.. وذلك ما ساد العالم وقتها، حيث تم تقسيم العالم إلى قسمين: موطن الكفار وموطن المؤمنين، وكل معسكر يتهم الآخر بالكفر وينعت نفسه بصحيح الإيمان. ثم لا ننسى الحروب الصليبية وأثرها فى تأزيم العلاقة بين المسلمين والنصارى على مستوى العوام والفقهاء .
جاء العصر المملوكى وقد تشبع المسلمون- من علماء وعوام- بأفكار التعصب التى نشرها الحنابلة والسلفيون منذ خلافة المتوكل وأصبحت كما يقال "من المعلوم من الدين بالضرورة". صحيح أن الحنابلة اضطهدوا الصوفية فى عصر المتوكل ومنذ القرن الثالث الهجرى حيث كان التصوف فى بدايته، وصحيح أن الصوفية منذ القرن السابع الهجرى ردوا التحية بأحسن منها فبدءوا فى اضطهاد ابن تيمية وفقهاء الحنابلة فى القرن الثامن الهجرى.. ولكن الصراع السياسى بين الحنابلة والصوفية فى العصر المملوكى وانتصار الصوفية - المشهورين بتسامحهم- على الفقهاء المتزمتين من تيار ابن تيمية لم ينعكس تسامحا سائدا على صعيد العلاقة بالأقباط ، بل ظل اضطهاد الفقهاء والصوفية للأقباط موجودا فى فترات مختلفةً لأن بعض الصوفية اتفق مع الفقهاء الحنابلة فى اعتبارالسنن المكتوبة فى العصر العباسى الثانى تراثاً دينياً يجب التمسك به . أى يتصارعون فيما بينهم ولكن يجتمعون على كراهية الأقباط.
وهذا التشبع بأفكار التعصب وممارسته ساعد على تسيده عوامل أخرى منها أن التصوف نفسه فى العصر المملوكى تحول من الفكر النظرى الملىء بالتسامح الذى كان يردده الحلاج وابن عربى وابن الفارض- وأحياناً أبو حامد الغزالى- إلى طرق صوفية عملية تسعى للسيطرة على الشارع المصرى وتجتذب لها الأعوان والمريدين وتسترزق بالتجارة بالدين فى الموالد الصوفية وحول الأضرحة.. ومن هنا لم يعد لأولئك الشيوخ الجدد متسع للتنظير أو مناقشة الأفكار السلفية التعصبية لخصومهم الحنابلة، بل أن التصوف فى تأثيره الشديد على الحياة العقلية لغير الصوفية قد هبط بها إلى حضيض الجمود وإغلاق باب الاجتهاد وتعقيم الحياة العقلية النقدية، مما أدى إلى ترسيخ المتوارث من الفكر السلفى وتحصينه ضد النقد والنقاش بل وتقديس أئمة الحديث والفقه وأسفارهم ومؤلفاتهم..
ومن ناحية أخرى فإن أشياخ التصوف فى سعيهم نحو السيطرة على المريدين وقعوا فى التنافس، وامتدت ساحات التنافس لتشمل صراعاً داخلياً بين أشياخ الطريق الصوفى الواحد، وبين أشياخ الطرق الصوفية ذات الأصل الواحد، والطرق الصوفية المختلفة، ثم بين الصوفية ومشاهير الفقهاء أصحاب الصيت والأتباع، ثم امتدت المنافسة لتشمل صراعاً بين الصوفية والرهبان وأصحاب النفوذ الدينى بين الأقباط مع غيرة أصحاب الموالد الصوفية من احتفال أو مولد دينى للأقباط.. وذلك التنافس أدى إلى تعصب فاضطهاد فحوادث مؤسفة.
وقريب من ذلك ما كان يجرى من تنافس سياسى على النفوذ إذ كان الحسد يلاحق بعض كبار الموظفين الأقباط فيلجأ بعض الشيوخ إلى إثارة الجماهير والفقهاء ضدهم وتثور حركات التعصب وتلجأ الدولة لترضية الشيوخ بالسماح باضطهاد الأقباط..
وبعض الأقباط كان يعلن إسلامه لينجو من دائرة الاضطهاد ويدعم مركزه الوظيفى فى الدولة المملوكية التى تقوم إدارتها على الظلم والعسف.. ويستخدم ذلك الذى أسلم نفوذه الجديد فى الانتقام ممن ساموه الذل والهوان وهو قبطى.. وهكذا كانت تدور طاحونة التعصب والاضطهاد فى العصر المملوكى فوق رؤوس الجميع.. وكم أحوجنا لدراسة التاريخ والاستفادة به..
ونعطى أمثلة تاريخية للتحليل السابق نراعى ترتيبها حسب السنين..
1- مأساة الراهب بولس الحبيس سنة 666 هجرية:
وقصته مع الظاهر بيبرس تشبه قصة عمرو بن العاص مع القبطى بطرس صاحب الكنز الذى قتله عمرو بعد أن استولى على كنزه بالحيلة..
كان الراهب بولس كاتباً نصرانياً ثم ترهب، وقد عثر على كنز فرعونى فأخفاه وأخذ يتصدق منه على فقراء المسلمين والأقباط وانتشر خبره فاعتقله السلطان الظاهر بيبرس وطلب منه ذلك الكنز فرفض وقال للسلطان أنه يساعد بذلك الكنز الفقراء والمحتاجين ومعظمهم ممن يصادر السلطان أموالهم أى أن الأموال تصل للسلطان فى نهاية الأمر، وكأن الراهب قد أعطى ضوءاً أخضر للسلطان الظاهر بيبرس فى مصادرة الأقباط بالذات، إذ تكاثر ضحايا السلطان من الذين أوقع بهم المصادرات وفرض عليهم الغرامات وقام ذلك الراهب بدفع الغرامات عنهم وإعانتهم، وانطلق الراهب بولس يسير فى المدن والقرى يعين المحتاجين ويطلق بأمواله سراح المعتقلين والمحبوسين بسبب عجزهم عن دفع الغرامات والإتاوات ويتصدق على المحرومين من النصارى والمسلمين وغيرهم من النصابين محترفى الفقر، ومن النوادر التى تحكى أن بعضهم كان يقوم أمامه بتمثيلية، يقوم اثنان بجر رجل وهو يستغيث وهما يضربانه يمثلان دور رجال الشرطة فيستغيث المضروب بالراهب يقول له "يا أبونا أقضى ما علىّ من الديون، فيسأله الراهب عما عليه من الديون، ويكتب له ورقة بالمبلغ الذى يدعيه، فيأخذونه ويصرفونه من الصيرفى كما هو..
ووصلت للسلطان ستمائة ألف دينار عن طريق ذلك الراهب فيما دفعه عن المحبوسين والمصادرين، ولم يكن ذلك الراهب يأكل من ذلك المال، بل كان طعامه ونفقاته من صدقات النصارى، ثم حدث حريق غامض فى حى الباطنية فى سنة 663 وانتشر فى أحياء أخرى بالقاهرة واتخذها السلطان بيبرس فرصة ليصادر كل أموال الراهب فاتهم اليهود والنصارى بإشعال ذلك الحريق، وأصدر أمراً بإحراق كل اليهود والأقباط، ولكى يتقن هذه التمثيلية فقد جمع كبار اليهود والنصارى تحت القلعة وأحضر الحطب والوقود، وكان عددهم ألوفاً وارتفعت استغاثاتهم بالسلطان، فعفا عنهم السلطان نظير غرامة قدرها خمسمائة ألف دينار.. وكما توقع السلطان بادر الراهب بولس بدفعها على أخرها. فاكتسب شهرة فى كل أنحاء مصر، وصارت تتبعه مظاهرات أينما سار تتبرك به وتطلب منه المساعدات والأموال..
وتكاثرت تلك المظاهرات فى مدينة الإسكندرية وأثارت غيظ العلماء والشيوخ فأرسلوا فتاويهم للسلطان تحتم قتل ذلك الراهب حتى لا يفتن المسلمين فى دينهم، ورآها السلطان فرصة شرعية ليتخلص من الراهب ويستولى على كنزه الخبيئ فاعتقله واستجوبه للمرة الثانية عن الكنز فرفض الراهب الاعتراف، فأمر السلطان بتعذيبه حتى يعترف.. واستمر الراهب تحت التعذيب إلى أن لفظ أنفساه الأخيرة ومات سنة 666 هجرية ومات معه سر الكنز .
2- الشيخ الصوفى خضر العدوى سنة 672 هجرية:
كان هذا الشيخ يتمتع باعتقاد السلطان الظاهر بيبرس.. ومشهوراً بانحلاله الخلقى وشذ1وذه الجنسى وتعصبه ضد النصارى فى الشام ومصر، وأفسح الظاهر بيبرس له المجال فهدم كثيراً من الكنائس فى الشام ومصر، ومن الكنائس التى هدمها بمصر كنيسة الروم بالإسكندرية التى يشاع أن فيها رأس النبى يحيى عليه السلام (يوحنا)، وقد تحولت على يد الشيخ خضر العدوى إلى مسجد وسماه (المدرسة الخضراء) وأنفق فى تعمير هذه المدرسة الأموال الكثيرة من بيت المال.
3- واقعة النصارى سنة 682 هجرية:
بسبب الحروب الصليبية كان النصارى مقهورين فى سلطنة الظاهر بيبرس والسلطان المنصور قلاوون وانتهى ذلك بتولى السلطان الأشرف خليل بن قلاوون الذى أنهى الوجود الصليبى فى الشام. الأشرف خليل بن قلاوون أتاح للأقباط النفوذ وعين منهم كبار الموظفين الأقباط الذين تولوا الكتابة فى الدواوين، فأتيح لهم التنفيس عما فى صدروهم من مشاعر الانتقام، فتسلطوا على أرباب الحوائج من المسلمين يذلونهم.. وأدى ذلك فى النهاية إلى ما يعرف بواقعة النصارى سنة 682 هجرية.
وبدأت الواقعة بالكاتب القبطى المعروف باسم "عين الغزال" وقد اتهم سمساراً مسلماً بتأخير ما عليه من أموال للأمير المملوكى الذى يعمل عنده الكاتب القبطى عين الغزال.
ورأى الناس فى الشارع السمسار المسلم يعتذر للكاتب القبطى ويقبل قدمه وهو راكب حصانه والكاتب لا يزداد إلا تجبراً وهو يصمم على اعتقال السمسار وأخذه إلى بيت الأمير المملوكى، وتدخل الناس فى الشوارع وتجمهروا يحاولون تخليص السمسار من الكاتب وهو يرفض، فما كان من الناس إلا أن تكاثروا على الكتاب وألقوه من على دابته وخلصوا السمسار من يده. فذهب الكاتب إلى الأمير وأحضر عدة من الجنود وشرعوا فى القبض على الناس.. وثارت العوام وصاروا فى مظاهرة غاضبة إلى القلعة يهتفون "الله أكبر" فخاف السلطان من ثورة العوام حين عرف بما حدث ، فأمر باعتقال الكاتب القبطى عين الغزال وأصدر مرسوماً بعزل الكتبة الأقباط إن لم يدخلوا فى الإسلام ومن رفض منهم الدخول فى الإسلام ضربت عنقه. فاختفى الأقباط من الشوارع.. ووقع النهب فى بيوتهم.. والسبى فى بعض نسائهم، وأصبح الشارع مشحوناً بالمزيد من التعطش للعنف وأصبح المماليك أسرى للشعور الشعبى المتعصب ، فأمر السلطان بحفر حفرة كبيرة فى سوق الخيل لإحراق الكتبة النصارى، وحضر السلطان والأمراء، وتشفع الأمير بيدرا فى الأقباط.. وفى النهاية ارتضى الكتبة الدخول فى الإسلام، وكتبوا إقراراً بذلك.
ويقول المقريزى يعلق على تلك الحادثة "فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزاً، يبدى من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان تمنعه نصرانيته من إظهاره .
أى بمجرد النطق بالشهادة- أو الشهادتين- أنقذ كل منهم حياته وأصبح من حقه الانتقام من خصومه بسيف السلطة المملوكية وفى حمايتها.. وتلك ضريبة التعصب الدينى حين يسود مجتمعاً وينشر الفرقة والكراهية بين أبنائه.
4- واقعة الوزير المغربى سنة 700 هجرية:
قدم ذلك الوزير المغربى للقاهرة فى طريقه للحج واحتفت به السلطات المملوكية، ونزل ذلك الوزير المغربى يتجول فى القاهرة فى سوق الخيل فرأى رجلاً راكباً فرسه فى ثياب فاخرة وجماعة يمشون فى ركابه وحوله أصحاب الحاجات يتضرعون إليه ويقبلون قدميه وركابه وهو يصيح بغلمانه أن يطردوهم وهم يزدادون له خضوعاً، فسأل الوزير المغربى عن ذلك الراكب صاحب السلطان فعرف أنه كاتب نصرانى، فغضب وصعد للسلطان فلم يجده ووجد كبار الأمراء فأخذ يعظهم ويبكى ويحذرهم من نقمة الله إذ تركوا أعوانهم من الكتبة الأقباط يذلون المسلمين، ونجح الوزير المغربى فى إثارة الأمراء وانتهى الأمر باستصدار قرارات استرجعت مراسيم الخليفة المتوكل العباسى فى إلزام الأقباط بزى معين ومنعهم من ركوب الخيل، وكالعادة تطور الأمر بالوزير المغربى فقام يدعو لهدم الكنائس فوقف ضده قاضى القضاة المصرى ابن دقيق العيد وأفتى بأنه لا يجوز أن يهدم من الكنائس إلا ما استجد بناؤه، ولكن اضطر الأقباط إلى غلق بعض كنائسهم خوفاً عليها من الهدم..
وانتقلت عدوى التخريب من الوزير المغربى إلى العوام فكثرت شكاويهم فى النصارى، وكالعادة استرضتهم السلطات المملوكية بالتضييق على الأقباط واليهود، ومنعهم من التوظف فى الدواوين.. ورآها العوام فرصة لفرض سيطرتهم على أغنياء الأقباط، فتتبعوهم بالضرب حتى اختفوا من الشوارع ولجأ بعضهم إلى إظهار الإسلام تكبراً من ارتداء الزى المفروض عليهم..
وأدى ذلك الاضطهاد إلى تدخل ملك برشلونة إذ أرسل هدية للسلطان المملوكى سنة 703 هجرية ويرجوه إرجاع الأقباط إلى وظائفهم وفتح كنائسهم.. فاستجاب له السلطان وفتح كنيسة فى حارة زويلة وأخرى بالبندقانيين..
5- حركة الشيخ البكرى سنة 714 هجرية:
والشيخ البكرى أحد الصوفية البارزين فى سلطنة الناصر محمد بن قلاوون، وأحد خصوم الشيخ ابن تيمية. وحدث أن عرف الشيخ البكرى أن النصارى استعاروا من قناديل جامع عمرو شيئاً فهجم الشيخ البكرى على الكنيسة ونكل بالنصارى فيها، ثم عاد إلى جامع عمرو وأهان الموظفين فيه، ووصل أمره للسلطان فعقد له مجلساً للتحقيق، فأخذت العزة الشيخ البكرى وأغلظ القول للسلطان وهو يتصور أن السلطان يخضع له ويتعظ، ولكن فوجئ بالسلطان يأمر بقطع لسانه عقاباً له على جرأته.. فانقلب الشيخ البكرى إلى حالة أخرى، وأخذ يستغيث بالأمراء يرجوهم التشفع له عند السلطان حتى لا يقطع لسانه، ورق له الأمراء فتشفعوا فيه عند السلطان.. فأمر السلطان بنفيه..
6- واقعة الإحراق العام للكنائس المصرية فى وقت واحد سنة 721 هجرية:
فى كتابنا "السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة" المأخوذ عن رسالة الدكتوراة حققنا هذه الحادثة المجهولة والغريبة فى التاريخ المصرى وأثبتنا أن المسئول عنه هى حركة "أحمد البدوى" السرية الشيعية المستترة بالتصوف، إذ أنه بعد فشل تلك الحركة السرية فى قلب نظام الحكم المملوكى - لاقامة دولة شيعية تعيد الحكم الفاطمى لمصر والمنطقة - قامت بتفجير عملية ارهابية سرية لإحراج الدولة المملوكية: وهى التدمير العام للكنائس المصرية من الإسكندرية لأسوان فى وقت واحد وبطريقة واحدة..
إذ أنه بعد صلاة الجمعة يوم التاسع من شهر ربيع الأول سنة 721 هجرية فوجئ المصلون فى كل المدن المصرية التى بها كنائس بمجذوب مجهول الشخصية يقف صائحاً مضطرباً داعياً لحرق الكنائس، وحين يخرج المسلمون من المسجد يفاجأون بتدمير الكنائس فى المدينة وحرقها وقد سويت بالأرض . وفى ضوء الاعتقاد فى بركات المجاذيب الذى تسيد العصر المملوكى يؤمن الناس بأنها إرادة إلهية وانكشفت أمام بصيرة ذلك المجذوب "المكشوف عنه الحجاب". وسرعان ما يدب الحماس إلى العوام ويشاركون فى الإجهاز على ما تبقى من بنيان للكنيسة..
ووصل إلى علم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما حدث ، جاءته الأنباء من ضواحى القاهرة بأن الكنائس فيها قد دمرت فى نفس الوقت وبنفس الكيفية.. وأن المجذوب المجهول قد صاح فى نفس الوقت وفى كل المساجد.. وفى اليوم التالى جاءت الأنباء من الإسكندرية والوجه البحرى والصعيد أن كل الكنائس- عدا الكنيسة المعلقة- قد أصابها الهدم والحريق فى نفس الوقت، أى فى ساعة الصفر. وبلغ عدد الكنائس ستين كنيسة.. وتعجب السلطان ووافق مقالة العلماء والقضاء على أنها إرادة الله، لأنه لا يستطيع بشر أن يفعل ذلك فى كل أنحاء مصر فى نفس الوقت، واقتنع السلطان برأى العلماء بألا يفعل شيئاً لأنها إرادة الله التى لا يقف فى وجهها إنسان.
إلا أن الأقباط لم يقتنعوا.. وصمموا على الانتقام..
فى الأيام التالية فوجئ سكان القاهرة باشتعال الحرائق فى المساجد فى نواح مختلفة، ولا يكادون يفرغون من إطفاء حريق حتى يفاجئهم حريق آخر، واستراح المسلمون إلى التفسير الغيبى القائل بأنها إرادة الله، لولا أنهم اكتشفوا فتيلة كبيرة ملوثة بالنفط قد ألقيت على بعض المساجد مع توالى الحرائق فى الجوامع والخوانق والمدارس.. فأشارت أصابع الاتهام للأقباط، وسرعان ما ضبطوا بعض الرهبان متلبسين واعترفوا فأحرقت السلطات أربعة منهم.. وانطلق العوام فى إيذاء الأقباط، واندلعت المظاهرات وكادت أن تتحول إلى مذابح، وأسرعت السلطات المملوكية بالسيطرة على الأمور وقبضت على بعض العوام ومثيرى الشغب وكان منهم بعض المتعممين والتجار، وأمرت السلطات بقطع بعضهم نصفين، أو ما يعرف بالتوسيط، وتدخل الكبار وتشفعوا فى كبار المتهمين وأفرج عنهم . إلا أن الحريق لم ينقطع، وضبط بعض النصارى متلبسين واعترفوا تحت التعذيب، وعندما علم العوام بما حدث حاصروا القلعة وواجهوا السلطان بصيحة رجل واحد تدعو لنصرة الدين فخشع لهم السلطان وسمح لهم بقتل كل من وجدوه من النصارى، ثم تعدل الأمر بقتل من يلبس العمامة البيضاء من النصارى ومن يركب دابة، وفرض عليهم ركوب الحمير بهيئة مقلوبة ولا يدخلون الحمامات إلا وفى رقابهم جرس ولا يرتدى أحدهم زى المسلمين، وألا يعملوا فى الوظائف، وعزل جميع الأقباط من الوظائف..
وكان ذلك أفظع اضطهاد واجهه الأقباط فى العصر المملوكى..
وكانت له آثاره الداخلية والخارجية..
فعلى الصعيد الداخلى احتدم العداء والحقد الطائفى بين المسلمين والأقباط فى السنوات التالية كما سنرى..
وعلى الصعيد الخارجى اشتد غضب ملك الحبشة الذى كان يعتبر نفسه مسئولاً عن حماية الأقباط المصريين فبعث باحتجاج شديد اللهجة إلى السلطان الناصر محمد ويهدد فيه باتخاذ إجراءات مماثلة ضد المسلمين عنده ويهدد بتحويل مجرى النيل، غير أن الناصر محمد لم يعبأ بهذا التهديد ولذلك بدأ سلطان الحبشة واسمه "عمد صيهون" الحرب ضد الإمارات الإسلامية المجاورة له، وتابع ابنه "سيف أرعد" أعماله ضد التجارة المصرية وممتلكات المسلمين المجاورة له..
وتمكن أحد ضحايا الاضطهاد لسنة 721 هجرية من الانتقام لقومه الأقباط من المسلمين.. وهو النشو الذى أظهر الإسلام لدى السلطان الناصر محمد وسماه السلطان عبد الوهاب شرف الدين، وأظهر للسلطان الورع والفقر والزهد فحاز على ثقته وتعاظم نفوذه حتى أصبح المسيطر على الدولة المملوكية كلها لمدة سبع سنين وسبعة أشهر حتى قتله السلطان بعد تعذيب شديد فى يوم الأربعاء ثانى ربيع الآخر سنة 740 هجرية.
وما فعله النشو بالمسلمين فى إطار السلطة المملوكية وتحت شعارها كان لا يمكن تفسيره إلا فى ضوء الانتقام لقومه بعد أن ضمن رضا السلطان الناصر محمد عنه.. وقد تنوعت مظالمه للمسلمين ما بين قتل ومصادرة ونفى وتقطيع أطراف وخصاء، وكانت مصادرته لوجوه الناس وأرباب المناصب والتجار والعوام لا تنقطع.. وكان يجتمع كل ليلة مع خواصه والمقربين منه يفكر فى طريقة جديدة للانتقام من المسلمين وفرض ضرائب جديدة عليهم أو الإيقاع بأصحاب المناصب أو سلب الأوقاف على المساجد وبيوت العبادة..
وبرغم تنوع أعدائه واختلافاتهم وتفرقهم وصراعاتهم إلا أنهم اتحدوا ضد النشو، وحاولوا الكيد له مراراً إلا أن ثقة السلطان فيه وقفت حائلاً يحميه . وفى عهده ضاع صوت الاضطهاد ضد الأقباط.. بل أن اضطهاده للمسلمين جعلهم جميعاً يجتمعون فى المساجد للدعاء عليه.. وعندما علم النشو بذلك ما زال بالسلطان حتى منع الوعاظ من الوعظ. وتحدى النشو كبار الصوفية- وهم أصحاب النفوذ الدينى والشعبى- فطرد من مصر أشهر صوفى فى عصره وهو الشيخ الكردى الذى نفاه للشام، كما اعتقل شيخ خانقاه بهاء الدين أرسلان بالإسكندرية واتهمه بتهم باطلة . وفى النهاية ظهر للسلطان خيانته وسرقاته فاعتقله واعتقل أخاه وصهره وأعوانه، واكتشف السلطان حجم ما سرقه من أموال ونفائس.. فعذبه وقتله.. وكان التخلص منه يوم عيد، ذاعت فيه أساطير الكرامات وشتى الادعاءات ومنها أن النيل زاد ورؤيت المنامات الصالحة على حد قولهم، وسارت المظاهرات تحمل المصاحف والأعلام..
وبعد النشو عادت حركات متفرقة ضد الأقباط..
منها سنة 838 هجرية : هدم الشيخ سليم لكنيسة جددها النصارى فى الجيزة.
وسنة 841 هجرية : هدم الشيخ ناصر الدين الطنطاوى لدير العطش الذى يقام عنده مولد سنوى يضاهى مولد السيد البدوى، فأحس الشيخ ناصر الدين الطنطاوى بالغيرة فما زال يسعى حتى هدم الدير..
وكان مثله الشيخ النعمانى سنة 852 هجرية الذى تخصص فى هدم الكنائس التى يجددها أصحابها..
وكانت عادة سيئة فى تلك العصور أنه إذا حدث أوبئة أو مجاعات ونقصان للنيل فمن السهل أن يعتبر ذلك غضباً من الله تعالى بسبب التهاون مع "أهل الذمة" والسماح لهم بممارسة شعائرهم، لذلك كانت ترتبط المجاعات والأوبئة أحياناً بحركات اضطهاد طائفية تستجلب رضى الله تعالى بظلم الأبرياء !!
وفى النهاية..
فمع وجود كل تلك الاضطهادات فإن النظرة المنهجية تحتم الاعتراف بأنها كانت جملاً اعتراضية فى التاريخ المصرى الطويل بعد الفتح الإسلامى. لم تكن ظاهرة عامة فى تاريخ مصر فى العصور الوسطى. بل أن الظاهرة العامة هى سيادة التسامح بين أفراد الشعب. إلا أن الاستثناء كان يأتى من الحكام أساسا وهم غير مصريين أو من العلماء الوافدين. وجاءت حركات متفرقة قليلة من العوام حين تأثروا بالظروف التى خلقها الآخرون وهذا ما ينطبق حاليا على تلك الحركة السلفية الوهابية السعودية الأصل والمنهج والمخالفة لطبيعة التدين المصرى المتسامح.
وعدا تلك الحالات التى رصدناها كانت هناك ملامح إيجابية كثيرة للتسامح من بعض الحكام ومن العلماء الا انها كانت أساسية فى التعامل الشعبى. وهى تعبر عن حقيقة التدين المصرى الذى اشتهر فى العصور الوسطى بالاعتدال وإيثار السلام وكان ذلك التدين المصرى يثير إعجاب الرحالة والمؤرخين القادمين لمصر. كما حدث مع ابن خلدون وابن ظهيرة وغيرهما, وذلك موضوع آخر شرحه يطول..
وبعــد..
الخاتمة:
(1) فهناك حقائق ينبغى التسليم بها:
وهى أن دين الله تعالى فى كل عصر ينزل بالحق والخير والصلاح والسلام والعدل ويستحيل أن يكون مسئولاً عما يقع فيه البشر من ظلم وتعصب باسم الدين..
أن الله تعالى يقول ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25).أى أن هدف الرسالات السماوية هو إرساء القسط والعدل.. فهل من العدل أن تتسلط طائفة على أخرى بالظلم والقهر..؟ وهل من العدل أن ينتسب ذلك لدين الله تعالى؟.
إن الله تعالى يقول عن ذاته ﴿وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران 108). ويقول ﴿وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ﴾ (غافر 31). أى أن رب العزة جل وعلا قد أدان الظلم وأوضح أن الظالمين هم أصحاب النار يوم الحساب ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾ (طه 111).فكيف يستسيغ من يدعى الإسلام أن يظلم من يختلف معه فى العقيدة، خصوصاً وأنه يعلم أن الله تعالى هو الذى شاء أن يجعل الناس مختلفين فى العقائد ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود 118،119).ولذلك فإن القرآن الكريم هو الذى يدعو لأدب الحوار بين المختلفين فى العقائد ويؤجل الحكم فى العقائد إلى يوم القيامة. ويؤكد على أهمية التسامح والسلام والمساواة.. حتى يعيش البشر فى تعايش سلمى مع ذلك الاختلاف الذى خلقهم الله تعالى على أساسه.
أن الله تعالى يقول عن رسالته الخاتمة التى أرسل بها محمداً عليه السلام ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء 107) أى أرسله الله تعالى رحمة للعالمين ولم يرسله لقتل واضطهاد الآخرين..فكيف يستسيغ بعضهم أن ينسب للنبى (عليه الصلاة والسلام) أحاديث لم يقلها فى اضطهاد البشر وإيذائهم؟..
(2) هناك حقائق تاريخية ظهرت بين العرض التاريخى الموجز.. وهى أن فاتورة الاضطهاد تتضخم حتى يدفعها الجناة بعد الضحايا، فالدولة الأموية سارت سياستها على أساس التعصب، بدأت التعصب للعرب ضد غير العرب، ثم تطرفت فى التعصب فتعصبت لقبائل ضد أخرى فى نطاق العروبة، ثم تطرفت أكثر فأصبح الخليفة يتعصب لابنه ضد أخيه، فيعزل أخاه من ولاية العهد ويولى ابنه مكانه.. وفى النهاية كانت العصبية هى السلاح الفتاك الذى قضى على الدولة الأموية فى شبابها.. وكانت أقوى دولة ووصلت فتوحاتها إلى أبعد مدى فى تاريخ المسلمين.. ولكن دمرتها العصبية من الداخل.. وهو درس- لو تعلمون- عظيم، فالتعصب حين يبدأ أو يستشرى لا ينتهى إلا بتدمير أصحابه والتعصب الدينى أيضاً يرتد سلاحه إلى أصحابه يتحول من تعصب دينى الى تعصب مذهبى داخل الدين الواحد ثم تضيق الحلقة تحمل معها اتهامات التكفير والتكفير المضاد لتصل الى تكفير المجتمع كله كما يحدث الآن. وتتحول اتهامات التكفير الى قتل وعمليات ارهابية. وقد شهدنا أمثلة تاريخية ونشهد الآن صحوة سلفية تنشر الارهاب وتسفك الدماء، ولكن هناك ما هو أخطر..
فمعظم التحريفات الدينية فى عقائد المسلمين وتراثهم أدخلها علماء الموالى الأعاجم الناقمون وقد عجزوا عن الانتقام لأنفسهم فدخلوا فى الإسلام ليكيدوا للإسلام..
ومن أسف أن كتبهم وأسفارهم المقدسة ورواياتهم وفتاويهم تناقض الإسلام وتطعن فى القرآن وفى خاتم النبيين.. ومع ذلك فهى تحظى بالتصديق والتقديس أى أن انتقامهم مستمر حتى الآن !!
وبسبب الاضطهاد الدينى والعنصرى كان اعتناق الإسلام طريقاً سياسياً للانتقام من المسلمين.. ولو كانت هناك عدالة ومساواة وحرية دينية لما لجأ أولئك إلى خندق المقاومة السرية..
أن الاضطهاد العنصرى قصير العمر.. فقد انتهى اضطهاد الأمويين لغير العرب بينما بقى الاضطهاد الدينى الذى أدخله الحنابلة ورواة الحديث فى صميم التدين، ثم ساعد الجمود العقلى على بقاء ذلك التراث دون مناقشة، بل أخذ طريقه للتطبيق باعتباره من ملامح التدين..
وفى عصرنا ظهرت "الصحوة الدينية" تهدف للرجوع بنا إلى السلفية وأفكار العصور الوسطى القائمة على التخلف والتعصب والجمود العقلى..
والخطورة محققة من هذه الصحوة الدينية المزعومة لأنها تدعم نفسها بالاستناد الدينى، مما يجعلها قنابل موقوتة انفجرت وتنفجر فى وجوهنا جميعاً، لأنها كعادة الحركات والدعوات المتطرفة تبدأ بتكفير أصحاب الديانات الأخرى وتنتهى إلى تكفير الناس جميعاً، وتبدأ باضطهاد الآخرين وقتلهم وتنتهى إلى قتل الأهل والأقارب والزملاء داخل الخلية السرية الواحدة وقد رأينا أن حركات التعصب تبدأ بسيطة ثم تنتشر كالسرطان المدمر..
وخطورتها أنها تستمد مشروعية زائفة من الدين وترفع لواء الجهاد.
فالمطلوب أن نثبت زيف تلك المشروعية التى تخالف الكتاب العزيز.
وذلك يحتاج إلى إصلاح دينى للمسلمين، إن لم تقم به الحكومى فلتبادر إليه دوائر الاستنارة فى مصر، فالإصلاح الدينى هو الذى ينقذ مصر من التطرف والإرهاب ولن يكون الإصلاح الدينى إلا بالاحتكام للقرآن الكريم وعرض ذلك التراث عليه حتى ننصف الإسلام من بعض المسلمين.
﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الّذِيَ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلاً وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ﴾ (الأنعام 114).
وصدق الله العظيم.. ودائماً صدق الله العظيم..
No comments:
Post a Comment