Monday, May 14, 2007

رب الزمان - القمنى(2)ا

مـعــارك فكريـة



هل بنى الفراعنة الكعبة؟! * تصحيح مغالطات
دأب د. سيد كريم على مطالعتنا بمجلة الهلال، بنظريته حول علاقة الديانة المصرية القديمة بديانات البدو الساميين، وبخاصة عقائد أهل جزيرة العرب، وهو رأي بحد ذاته يتسم بكثير من الصحة والوجاهة. وقد ذهبت كثير من المدارس العلمية إلى القول بتأثير مصر القديمة في عقائد جيرانها، وألف أصحابها في ذلك مؤلفات شتى، ولنا في ذلك مؤلف خاص حول عقيدة الخلود المصرية، بحسبانها النبع الأصيل لعقيدة الخلود، التي ظهرت بعد ذلك في ديانات حوض المتوسط الشرقي، بعنوان (رب الثورة: أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة).
لكن التحفظ الأساسي على كتابات د. كريم يتأسس من البداية، على طريقة المعالجة، ومدى التزامه بشروط البحث العلمي ومنهجه، وعلى مدى صدق مقدماته التي كثير ما أدت إلى نتائج أكثر بطلانا منها. ولما كانت معالجة كل موضوعات السيد الدكتور المنشورة، إطالة لا حاجة إليها، لأنه يدور باستمرار حول فكرة واحدة وهدف واحد، فقد تخيرنا أخطر هذه الموضوعات، وأكثرها شمولا لأفكاره المكررة في مختلف كتاباته، وهو المعنون بـ "قدماء المصريين وبناء الكعبة" (1).
والغريب إنه رغم خطورة هذا الموضوع فقد مر مرور الكرام، ولم نسمع أو نقرأ عليه تعقيباً، على حد ما نعلم، مما أعطى السيد الدكتور الضوء الأخضر للاستمرار والمثابرة.
وواضح من البداية أني لن أكون مجاملا، وفق حسابات بسيطة تماماً، أولها أن ميدان البحث العلمي، ميدان لا يصح فيه لفارس تجاوز شروط الفروسية، وقواعد اللعبة، لتحقيق قصب السبق. وأعتذر عن استخدام تعبير (اللعبة)، في حديثي عن العلم وشروطه، لأن الموضوع برمته كان عند د. كريم مجرد لعبة. وثاني هذه الحسابات هو أن القارئ أمانة، والكلمة أمانة، وأول شروط

* نشر بالعدد 81 من مجلة القاهرة الصادرة في 15/3/1988.
(ومن صـ 65- 77 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
(1) د. سيد كريم: قدماء المصريين وبناء الكعبة، مجلة الهلال، فبراير 1982.
البحث العلمي هي الأمانة. ورغم بساطة الحسابات، فإنها لم تترك لنا بصرامة حقوقها (وهي لوجه الحق، حق، وأحق أن تتبع) أي فرصة للمحابات أو المجاملة.
موجــز الأمــر
ويقوم مقال د. كريم على فكرة أساسية تسلطت عليه، مفادها: أن المصريين القدماء، قد اكتشفوا مبدأ التوحيـد في العقيدة الإلهية، منذ بداية الأسرات الفرعونية الحاكمة، وربما قبلها، ومن ثم قام يبني على فكرته قصه ملخصها: أنه عندما قامت الثورة الكبرى في مصر القديمة ضد الملك، وضد الكهنة ورجال الدين، في نهاية الأسرة السادسة الفرعونية (2)، هرب كهان مدينة (منف) – ويزعم الكاتب أنهم قوم موحدون – إلى الجزيرة العربية، حيث اكتنوا هناك بالكنية (بني مناف)، وأهل منف، بينما أطلق عليهم الفراعنة اسم (جرهم) أي مهاجري مصر، وأن النبي إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) عندما ترك سريته (هاجر)، مع رضيعها (إسماعيل) في جزيرة العرب، ووجدت نفسها وسط أعراب لا تعرف لغاهم، لجأت إلى قبائل (جرهم) المصرية، الذي آووها، وأمكنها التفاهم معهم. وكان (بنو مناف أو الجراهمة) قد أقاموا في هذا المكان بيتاً للرب هو (الكعبة)، على غرار كعبتهم المصرية التي تركوها في منف وتعرف حالياً بـ (هرم ميدوم)، ثم يلقي القول بذكاء: "وليس هناك من شك في أن زيارة جميع الأنبياء إلى الكعبة، ابتداء من سيدنا إبراهيم إلى إسماعيل وشعيب وموسى، قد بدأت جميعها بعد زيارتهم لمصر، وتَفَهُم عقيدة التوحيد وإيمان المصريين بالبعث والحساب والآخرة وخلود الروح" ثم يزيد فيقول: إن إشارة النبي (محمد صلى الله عليه وسلم) أنه خيار من خيار، من خيار قريش، وأن قريشاً من كنانة، فإن كنانة لم تكن قبيلة في جزيرة العرب كما كنا نتصور، إنما هي (مصر الكنانة)، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يشير بذلك إلى أن أسلافه إنما كانو مصريين.
والعجيب في أمري مع د. كريم، أني ألتقي تماما معه في القول بهجرة مصرية إلى جزيرة العرب، كانت سبباً في نشوء اتجاه ديني هناك. وقد عالجت هذا الأمر في بحث خاص، كنت أود
(2) يفترض د. كريم أن الثورة المصرية الأولى في العصور القديمة قد حدثت إثر انهيار الدولة القديمة أي بعد سقوط الأسرة السادسة، سيراً مع الافتراضات الشائعة، ولنا في ذلك اجتهاد يعود بزمن الثورة إلى ما قبل ذلك، بل ونعتبر أن هذه الثورة كانت سبباً في سقوط الدولة القديمة، وليست نتيجة لها، أرجع إلى كتابنا (أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة) صادر عن دار مدبولي الصغير للنشر، وقد ناقشنا فيه مسألة التوحيد باستفاضة وبخاصة في الفصلين الأولين.
إرفاقه بهذا التعقيب لولا أنه سيضيف مساحة يضيق بها المتاح في عدد واحد، إلا أن أول ما يزعج أي عارف بتاريخ مصر هنا، هو قول د. كريم: أن الثورة المصرية ضد الملك والكهنة في نهاية الأسرة السادسة، هي التي أدت إلى هجرة أصحاب (منف) إلى جزيرة العرب. وقوله بصريح العبارة أنهم أصحاب عباد الإله (رع). ومصدر الإزعاج هنا هو أن منف كانت مقرا لعبادة الإله (فتاح) وليس (رع)، وإن الإله (فتاح) قد توارى في الظل مع مدينته (منف) بعد أن قام كهنة الإله (رع) بانقلاب ديني وسياسي في الوقت ذاته، واستولوا على الحكم في نهاية الأسرة الرابعة، وأسسوا الأسرة الخامسة الحاكمة، واستمروا في الحكم في الأسرة السادسة. وكانت مدينة الإله (رع) المقدسة، هي مدينة (أون) عين شمس الحالية، وليس مدينة (منف).
وبذلك تكون الثورة الشعبية التي قامت ضد الملوك والكهنة، قامت ضد ملوك وكهنة الإله (رع) في (أون) وليس في (منف)، ويكون الإله (رع) إله مدينة (أون) وليس إله مدينة (منف)، مما يشير إلى خلل خطير فيما قدمه السيد الدكتور لقارئه، أما إن أراد صدق المراد، فإن هجرة أهل (منف) تكون قد سبقت الثورة الشعبية بحوالي ثلاث قرون أو أكثر، عندما حدث الصدام بين (منف) و(أون)، أو بين أتباع (فتاح) وأتباع (رع)، الذي انتهى باستيلاء (رع) وأتباعه على سدة الحكم.
ومن هنا، فإذا كنا نلتقي مع السيد الدكتور في أمور، فإنا نخالفه في أخرى، وهي ليست مخالفة لمجرد المخالفة، إنما سيراً مع صحيح الأمور وتاريخيتها. أما أشد تحفظاتنا فهي تتعلق بمدى التزام الكاتب – أي كاتب – بالحياد والموضوعية وتحري الحقيقة، بحيث لا يميل مع هواه كل الميل، فيفسر النصوص على الرأي الخاص ليؤكد فكرته. ومن هنا، وتأسيساً على ذلك، سنناقش ما كتبه د. كريم بمعيار واحد، هو مدى التزام الصدق العلمي وشروط تحقيقه.
الآلهة المصرية
لقد كان جميلا من د. كريم أن يحاول اكتشاف جديد، يضيفه إلى مجموعة إبداعات وكشوف المصريين القدماء، فقام يختار (مبدأ التوحيد) ليضعه من بين أول الكشوف التي وصل إليها المصريون في (منف)، منذ بداية الأسرات وقام الدولة المركزية، أي منذ حوالي خمسة آلاف عام مضت، وبذلك يؤكد في موضوعه أنهم كانوا أساتذة عرب الجزيرة في ذلك، عبر الأنبياء الذين زاروا مصر وتعلموا فيها التوحيد، ثم عادوا يعلمونه في جزيرتهم، وعبر الهجرة الكبرى لكهان (منف) بعد الثورة إلى الجزيرة.
والسيد الدكتور لا شك – بمقصده – يريد أن يرفع أكثر من شأن قدامى المصريين وينزع عنهم شبهة التعدد في العبادة. وهو في ذلك يبرهن على وفاء لمصر، وحب نادر المثال مشكور، لكن البحث العلمي شيء، ومعاني الحب والكره والوفاء أو وعدمه، شيء آخر، لا مكان لها في قاموس البحث العلمي، ولعله لم يغب عن بال السيد الدكتور أن مصر العظيمة بأفضالها على الإنسانية، وبكشوفها في مجال الفكر والتحضر، ليست بحاجة إلى محاولات جديدة، كأن تكون أصل التوحيد الإبراهيمي، خصوصاً أن المصدر الأقدم عن رواية النبي إبراهيم ورحلاته وعبادته (أقصد التوراة، وكانت المصدر الوحيد في ذلك حتى مجيء الإسلام) ليس فيها ما يشير إلى عبادة واحدة، ولا تشير التوراة في قصتها عن النبي إبراهيم وعهده إلى إله واحد، بل إلى (إلوّهيم) أي مجموعة الآلهة. ولم نعرف عن النبي إبراهيم أنه كان موحداً إلا عندما جاء القرآن الكريم، وأوضح أن النبي إبراهيم هو أصل التوحيد الحنفي.
نعم ولا شك أن القول بكشف المصريين لهذا المبدأ الديني الذي يمركز العبادة في ذات واحدة، ينسب لهم قصب السبق في أمر هو من الفتوح المبينة. لكن المشكلة أن ذلك لم يحدث، وإن كان قد حدث فلم يحدث إلا بعد ذلك بقرون في عهد إخناتون على ما يزعم البعض. هذا إضافة إلى أن د. كريم لم يكن موفقاً كل التوفيق وهو ويحاول ذلك.
ولعل أول ما يعترض مقولة د. كريم، القائلة: إن أهل (منف) في الأسرة القديمة أول الموحدين، هو أن المصريين القدماء لم يعرفوا التوحيد بالمعنى المطلق الذي عرفناه في الإسلام، (الذي يقصده د. كريم) طوال تاريخهم الديني الطويل، فكانت الآلهة تربو على المئات، (آلهة أقاليم، وآلهة مدن، وآلهة عواصم، وآلهة للدولة، وآلهة لقوى الطبيعة، وآلهة للملوك، وآلهة الشعب) تنطبع بوجه عام بالشكل الطوطمي الممثل في رأس الحيوان على الجسد الآدمي. وكان واضحا أن المصريين قد توقفوا عن تطوير شئون الآلهة، ولم تشكل المسألة بالنسبة لهم قضية شاغلة، بعد أن انصرفوا إلى أمرين: الأول هو البناء السياسي والحضاري وتأمين الحدود عسكريا والتقدم العلمي الدنيوي والثاني: هو التجهيز لعالم آخر مقبل يجازي فيه الإنسان على ما أتاه من أعمال في دنياه. وكان هذا المبدأ الثاني بدوره مسألة حضارية ملحة، حيث يقوم التعامل الاجتماعي بمقتضاها على أسس خلقية تضمن للمجتمع سلامته وتماسكه وأمنه، كي ينصرف أكثر إلى شئون الارتقاء بدولته وبحياته الأرضية، هذا إضافة إلى العامل البيئي الذي ارتبط به التعدد وسنناقشه بعد قليل.
ولعل د. كريم لم يقصد بالتوحيد ما عرفه المصريون بإله الدولة، فهو لم يكن بالمرة توحيداً إنما اعتراف بسيادة (إله الدولة) على بقية الآلهة الاقليمية. تدعيما لمركزية الحكم ليس إلا، وحتى هذا الإله السيد كان يتغير مع تغير الدولة الحاكمة، فهو بداية كان (حور)، ثم في الدولة القديمة (فتاح)، ثم (اتوم رع)، ثم في الدولة الوسطى الإله آمين أو (آمون) والمندمج برع، بل وكان هذا الإله السيد يدخل باستمرار كضلع أكبر في أسرة ثالوثية (أب وأم وأبن). وهو أمر طبيعي يتسق وفكر الإنسان في المراحل الأولى من تطوره، عندما كان يتصور الإله على شبهه ومثاله، ويسك مثل سلوكه، ويتزوج، وينجب، ثم يدخل هذا التثليث في تتسيع، حتى كان لكل مدينة تثلثها وتتسيعها الخاص، ولم يكن الإنسان في باقي أنحاء المعمورة أكثر توفيقاً من ذلك. فرغم استفادة اليونان والرومان من علوم الشرق وبخاصة مصر، وكان يفترض فيهم ارتقاء أكثر سيراً مع سنة التطور، ولما ورثوه من تراث ثقافي عن مصر، فإنهم فعلا تقدموا وكونوا إمبراطوريات عظمى، وأضافوا للإنسانية رصيداً جديداً، ومع ذلك كانت ألهة الأولمب بالمئات إضافة إلى كم هائل من مغامرات الآلهة، كان يتلى هناك بكرة وأصيلا.
لكن يبدوا أن د. كريم رأى في التعدد لدى المصريين مثلبة ونقيصة، تعيب بقية علومهم وفنونهم، فأراد أن ينزههم عنها، وغاب عنه أن ذلك كان أمر طبيعياً سواء كان آلهة بالمئات، أم تثليثا أم تتسيعاً. أم تسبيعا كما حدث لدى الرافديين من قدامى الساميين، ولم يكن له أي أثر مباشر في تخلف اجتماعي أو حضاري بل كانت مصر رائدة في كافة الميادين العلمية، بينما كان الآخرون في بداءة بداوتهم ينعمون (من الأنعام) أو على الأصح يتمرغون، أيا كانت ادعاءاتهم، ولعله يعلم أن العالم المتقدم اليوم – سواء في الغرب الذي يعتقد بالتثليث، أو في الشرق الذي يدين بالاشتراكية العلمية – يسمي العالم المتقدم، لإنجازاته في العلوم الدنيوية، ولو قسناه بمنطق د. كريم، لكان أشد العوالم تخلفاً. أو يصبح واجباً عليه إثبات أن الأمريكان والسوفيت موحدين!! وهو أمر لا شك عسير.
التوحيد والتعددية
وكانت فكرة التوحيد في مصر فكرة طارئة، وحالة واحدة ونادرة، حدثت فيما يزعم بعض الباحثين، إبان حكم الفرعون الشاب (إخناتون)، وانطفأت سريعاً ولم يمضي عليه في الحكم سبعة عشر عاماً، وانقضى أمرها وانتهى، بعد ثورة قضت على حكمه، ولم يعرف مصيره بعدها. ويذهب د. كريم وراء هذا المذهب – وهو في ذلك معذور – لأن ذهابه كان وراء الرأي السائد والاتجاه الغالب بين الجمهرة ثم هو يضيف إلى حديثه عن التوحيد (الإخناتوني) لوحه جميلة للفرعون يسجد إمام وخلفه صفوف الساجدين. ولكن الذي لم يلحظه د. كريم وهو يدلل باللوحة على معنى التوحيد، أن السجود معروف في غالبية الأديان، لدى عبّاد مظاهر الطبيعة والوثنيين، وليس سمة خاصة بطقس الصلاة لدى الموحدين وحدهم، والعجب في أمر إخناتون (وليس بعجيب) أن تفرغه لعقيدته لم يجن على دولته الإمبراطورية سوى الانهيار، بعد أن انصرف عن شئون دولته الدنيوية، وما تحتاجه من فنون سياسية وعسكرية وإدارية إلى تصوفه وغيابه عن واقع دولته في غيبوبة غيبية، وبعد أن ترك له أجداده إمبراطورية تمتد من الجندل الرابع جنوباً في العمق الأفريقي، إلى تركيا وأرمينيا شمالاً، إلى إيران شرقاً. فقد حلّت بركات الفرعون الشاب بعد أن تفرغ لشئون الدين، وصم أذنيه عن نداءات الاستغاثة التي كانت تصله من الحاميات المصرية في بقاع الإمبراطورية تباعاً، والتي حفظتها لنا رسائل تل العمارنة. تجأر بطلب العون، ضد الثورات الإقليمية التي أخذت تنهش جسد الإمبراطورية وتقتطعه جزءاً فجزء، وصاحبنا لاه في دروشته الغيبية عن غرور الدنيا، حتى عادت مصر من بعده تنكمش داخل حدودها الدولية مرة أخرى (3).
لكن الأعجب من كل هذا هو والإصرار على أن (إخناتون) كان موحداً توحيداً مطلقاً، وهو أمر يثير الشك، فمن يذهبون هذا المذهب، من أصحاب الرأي الذين تابعهم د. كريم، لأن التدقيق في منمنمات هذه العقيدة وفسيفسائها، يكشف أن كل أشعار إخناتون وأناشيده، تشير إلى اعتقاده

(3) لا يخلو مصدر تناول مصر القديمة إلا وأسهب في الحديث عن دور إخناتون في ضياع الإمبراطورية، ومثالاً لذلك مصر الفراعنة لجاردنر، والحضارة المصرية لجون ولسون، وفجر الضمير لبرستد، ومصر والشرق الأدنى القديم للدكتور نجيب ميخائيل وغيره كثير.

الجازم أنه هو شخصيا ابن الإله (آتون)، وأن فيه قد حلت قدرات هذا الإله وبركاته (4)، كما أن هناك شواهد قاطعة على تقديس الثور المنفي في مدينة إخناتون، التي أطلق عليها اسم (أخت آتون) (5). أما الشك فمدعاته عندنا هو أن إخناتون قد تربى في طفولته خارج بلاده مصر عند أخواله الساميين في بلاد ميتاني (6) (كانت أمه سامية، ترجم اسمها عن المصرية تاي، ونرى صدق الترجمة ضي أوضياء)، وأنه عاد إلى مصر عند موت أبيه ليتولى الحكم. ومن هنا كانت جنسيته مصرية، أما ثقافته فسامية. ويبدو أن ذلك هو الدافع الخفي الذي دفع الباحثين للتغاضي عن عبادة الثور في أخت أتون وتأليه إخناتون لنفسه، وإغفالهم المتعمد لذلك، بحسبانهم الساميين أصحاب الاكتشاف التوحيدي، بينما كل ما فعله (إخناتون) في رأينا هو محاولته تسييد إله سامي غريب على مصر، اعتاد عبادته في ميتاني هو المعروف باسم (أدونيس) (7)، أو باللسان المصري الأرق (أتونيس)، وأصله (آدون) أو (آتون).

(4) من النماذج التي يزهو فيها إخناتون ببنوته للإله آتون (على سبيل المثال):
لقد خلقت الناس
ليعيشوا من أجل ابنك
الذي خلق من أطرافك
ذلك الملك الذي يعيش في الحقيقة
أو
طالما أبي آتن يعيش
فإني سأقيم اخت آتن
لأبي آتن
أو وصف وزير خارجيته له بقوله:
أنت الذي يشكل الإنسانية
ويهب للأجيال حياتها
ثابت ثبات السماء
التي يعيش فيها آتن
ارجع إلى فليكوفسكي: أوديب وإخناتون، ترجمة فاروق فريد، وزارة الثقافة، دار الكتاب العربي، ص 58 : 60.
(5) يقول جاردنر: "وهناك إشارة غريبة جاء فيها أن عجل منف في هليوبوليس يجب أن يدفن هو كذلك في أخت آتون، وهي دلالة أخرى على اعتماد الآتونية الجديدة على واحدة من أقدم العبادات في مصر، وكان وضع خراطيشه بجوار خراطيش آتون تدل على أنه كان لا ينفر إطلاقاً من ادعاء نصيب من ألوهية أبيه المقدس". ارجع إلى سير ألن جاردنر في كتابه مصر الفراعنة، ترجمة د. نجيب ميخائيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1987، القاهرة، صـ 248 و 255.
(6) عن تربية إخناتون في ميتاني، ارجع إلى فليكوفسكي في المصدر المشار إليه أنفاً.
(7) عن الإله أدونيس، ارجع إلى موضوعنا (إلهه الجنس والزهرة – آفاق عربية، عدد9 – 1989 بغداد) وإلى موضوعنا (البعد الأسطوري للشيطان في التراث الشرقي) مجلة فكر للدراسات والأبحاث، العدد10، القاهرة.
ويبدو أن المصريين قد رأوا في ذلك خيانة لآلهة البلاد الوطنية التي عادة ما كانت ترتبط بمعنى المواطنة وبالوطن ذاته، ومن ثم كانت عبادة آتون خيانة عظمى، استوجبت الثورة على البدعة الوافدة، التي لم تكن ثورة من وثنيين مصريين متخلفين، على ديانة راقية بدوية سامية موحدة، كما حاولوا تصوير الأمر، واستحق إخناتون بعد ذلك أن يلقبه مواطنوه (مجرم آخت آتون) ، أما تلاميذ المدارس فقد ظلوا زمانا يتدربون على كتابة مواضيع إنشاء عن (الخائن من أخت آتون)(8).
ولعلي أكون مخطئا، وربما أكون مصيباً، عندما أطرح تصوري لمسألة التوحيد والتعدد في التاريخ الديني، مرتبطة بالظرف البيئي، لكنه اجتهاد شخي يصح قبوله أو رفضه، ويقوم هذا التصور على الفصل والتفريق بين البيئة الزراعية النهرية، والبيئة البدوية الصحراوية، ففي البيئة الزراعية تتعد أشكال الطبيعة ومظاهر الحاية تعدداً ثريا هائلا، (أنهار دافقة، شلالات، أحجار جامدة، شجر، طيور، حيوان نافع، حيوان ضاري، كائن ضخم قوي، حشرة ضعيفة، موسم خصب، موسم جفاف، أصوات وضجيج من كل نوع، سيمفونية نعرفها نحن أهل الوديان الخصبة، تضج بالنقيق والعواء والثغاء والتغريد والهدير).
وفي المقابل نجد البيئة الصحراوية ضنية بالشكل واللون والصوت، مظاهر الحياة محدودة جداً وتكاد تنعدم، فالصحراء تترامى أطرافها دون طارئ جديد، فهي رتيبة الوقع متشابهة دائما، مشهد واحد باستمرار، ولون واحد باستمرار، أصفر مسترخي يتمطى في كثبان ملتوية، وزمن هادئ التوقيع، نادر المفاجآت، والإيقاع الدائم تثاؤب وقيلولة في صمت ممتد أبدا. ومن هنا نزعم أن العامل البيئي أدى دائما بالبدو إلى نظرة مصبوغة بالتوحيد والوحدانية، مقابل أثر التعدد الهائل للحياة وصخبها في الحياة النهرية الزراعية، مما دعى إلى اقتراب البدوي من معنى الواحد مقابل المتعدد عند المزارع.ومع ذلك عندما كانت تتعد المظاهر، كان البدوي يعدد فهو مرة يعبد التيس، ومرة يسجد للصخر، ومرة يثور البركان فيسجد للبركان مرتعداً، لكنه كان التعدد البسيط السهل، بما لا يقارن بمظاهر بيئة المزارع الضجوج الخجوج المتغيرة المتلونة دوما، وما كان أسهل أن يكشف البدوي قيمة خروفه، وأهمية القمر في ليل الصحراء الصامت المفزع، فيقرن بيـن قـرنــي
(8) "ظل جيلان بعد إخناتون يشيران إليه: العود من أخت آتون"، جاردنر، المصدر السابق، صـ 262.
الخروف وقرني الهلال، فيسجد عباداً، ويهتف الباحثون: مهللين لقد تم التوحيد، وأصبح الخروف قمراً، في أقنوم واحداً!!
مغالطـــات
ويبدو أن د. كريم لم تتقبل نفسه أن تكون هاجر مجرد جارية، منحها فرعون مصر للنبي إبراهيم ليتسرى بها، على ما جاء في التوراة. ولا نعلم هل كان ذلك ترفعا بها عن ذلك، أم ترفعا بالنبي عن معاشرة الجواري؟ وكليهما كان واقعا في العهود الخوالي. فلم يكن هناك حرج على الأنبياء والمؤمنين من إتيان ملك اليمين والتسري بالجواري والإماء. لكن د. كريم يعامل الماضي بذوق الحاضر، فيؤكد أن هاجر كانت إحدى أميرات البيت المصري المالك، في الأسرة الثانية عشر الفرعونية، حوالي عام 1890 ق.م.، بالتحديد والتدقيق والتمحيص والتفحيص المبين. ثم لا يعطينا أي أفادة بالمرة عن مصدر هذا اليقين، ولا من أي مصدر آثاري أو آركيولوجي استقاه! ونؤكد له، ولقارئنا الذي نحترمه ونحترم وقفته لمطالعتنا، أنه ليس هناك مصدر آثاري واحد يقول ذلك. ولم يعثر حتى الآن على وثيقة مصرية واحدة تشير إلى النبي إبراهيم وإلى زيارته لمصر، لا من قريب ولا من بعيد، ولا بالرمز، ولا بالإشارة، ولا حتى بنص يحتمل التأويل، كما لم تشر النصوص المصرية إلى دخول اليهود مصر زمن النبي يعقوب، مع ولده النبي يوسف ولا حتى لموسى، ولا لرحلة الخروج الشهيرة في التوراة، وهو أمر أثار حيرة الباحثين طويلا حتى اليوم، وكتب في ذلك مصنفات شتى لعلماء أجلاء. لم يستطع واحد منهم أن يعطي مثل جزم د. كريم الواثق القطعي هذا. ونحن بالطبع لا ننكر أن ما جاء في قصص الأنبياء وزيارتهم لمصر قد حدث، لأن ذلك أمر يعد لدينا بدهية تتأسس على إيمان راسخ بالكتب السماوية، لكن ما ننكره هو الادعاء بما لم تكشف عنه آثار مصر حتى الآن، وما نستنكره هو أن يقدم لنا د. كريم ذلك في صيغة التقرير، في حين كان يجب عليه تقديمه في صيغة التقدير، كراي وتقدير شخصي، وحتى الرأي الشخصي لا يلقى على عواهنه دون توثيق أو مبررات كافية.
ثم يجازف الدكتور مجازفة مفزعة حقا، تصيب الباحث بهلع شديد، فيرفق بموضوعه لوحة فرعونية تصور شخصيات توضح سيماهم أنهم من البدو الساميين، وسبق لي أن لاحقت هذه اللوحة في المصادر، فلم أجد عليها تعليقا أكثر من كونها شخصيات بدوية سامية في مصر. لكن الأخ الدكتور يعلق بالقول الجهير: "سيدنا إبراهيم عليه السلام، لوحة اكتشفت في حفريات مدينة منف حيث زار معابدها، وتزوج الأميرة المصرية هاجر عام 1980 ق.م.". وهكذا وببساطة يتصورها هينة، هان معها عقل القارئ، عندما يلقمه الأقصوصة وهو يطالع بحسن نية وثقة، ليؤكد فكرة، هي لوجه الحق جميلة، لكنها لوجه الحق أيضاً قد صيغت بأسلوب أقل ما يوصف به أنه نوع من الـ (فهلوة) وغير جميل.
ولا يقنع د. كريم بذلك، إنما يتمادى، فيعرض لنا صورة لهرم (ميدوم) الواقع غربي مدينة الواسطى (تبعد عن القاهرة 90 كم جنوباً)، المعروف بالهرم الكاذب لضآلة الكشوف فيه، مقارنا بلوحة للكعبة المكية، مع التعليق على صورة هرم (ميدوم) بالقول: "كعبة منف، هرم ميدوم الكاذب، بناه الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة، بنى قبل الهرم الأكبر كرمز لإله التوحيد رع، كان ثالوث معبوداته أليت وعيزت ومنى". ولا ندري كيف ساغ له أن يتحدث عن توحيد وتثليث في آن معا بل وتربيع بإضافة كبيرهم (رع). ثم يضيف معقبا: "عندما وصل بنو مناف أو جرهم إلى أرض مكة، أقاموا بيتا للرب مماثلا لمعبدهم الجنائزي بمنف، الذي يطلق عليه حالياً هرم اللاهون، الذي بناه الملك (سنفرو) مؤسس الأسرة الرابعة ليكون كعبة التوحيد".
والآن خلط د. كريم الأوراق جميعاً: فاصطلاح (المعبد الجنائزي) شيء، و(الهرم) شيء آخر. و(هرم منف) شيء، و(هرم اللاهون) شيء ثان. و(هرم ميدوم) شيء ثالث فهرم اللاهون يقع قرب هوارة من أعمال مدينة الفيوم الحالية، وهرم ميدوم علمنا أنه يقع قرب مدينة الواسطى، وكليهما غير هرم منف المعروف بهرم سقارة المدرج الذي بناه الملك (زوسر)، مؤسس الأسرة الثالثة حوالي عام 2800 ق. م. (9).
وما يبدو لنا الآن هو أن د. كريم عمد إلى خلط الأوراق كلها بسرعة خاطفة. وهو عالم بما يفعل تحقيقاً لهدف مقصود، هو أن ينقل هرم (ميدوم) إلى منف ليصبح هو الهرم (المنفي) بدلا من هرم سقارة، وذلك عبر ورقة ثالثة هي هرم (اللاهون)، بحيث يصبح هرم اللاهون هو (الجوكر)، الذي يصرف انتباه المشاهد (آسف: أقصد القارئ) عن الورقتين الأخريين في الثلاث ورقات

(9) أنظر الموسوعة الأثرية العالمية، الهيئة العامة للكتاب، صـ 449.
(هرم ميدوم بالواسطى وهو المقصود وعليه العين، هرم سقارة وهو هرم منف الحقيقي وهو المطلوب نسيانه، وهرم اللاهون بالفيوم وهو الجوكر المستخدم لإرباك الصيد: أسف: أقصد القارئ) وقبل أن يفيق القارئ لما حدث، يمد يده يريد ورقة الهرم المنفي، فيطالعه هرم ميدوم بدلا من سقارة، فيسلم القارئ بعد أن تحول الأمر إلى (فزورة) محيرة، فينسى سقارة ولا يذكر سوى ميدوم، وبقدرة قادر ينتقل هرم ميدوم إلى منف، وينتهي دور هرم اللاهون عند هذا الحد بعد انتفاء الحاجة إليه ويدور عقل القارئ في الطريق المرسوم له بعد أن أصابه الدوار (ويقنع بأن الذي عدى البحر ولم يبتل، العجل في بطن أمه)!! ويحقق الدكتور ما يريده. وما يريده هو ميدوم بدلا من سقارة هرما لمنف، لا لشيء إلا لأن صورة هرم ميدوم تشبه الكعبة، وهو شبه لا يمكن لمسه في الواقع، إنما يمكن تمريره عبر صور مطبوعة غير واضحة وملتقطة عن بعد، تزيد في ضبابيتها عوامل الطبع أو الطبخ، ومع الطبخ لا يأكل القارئ ملبن إنما يأكل مقلب.
وهرم (ميدوم) مصاطب تهدم أعلاها، إضافة إلى أنه أقرب إلى التكعيب، وكان للعوامل الجوية وللتعرية أثرها في تآكل الطبقة الملساء من صفائح الجير الأبيض التي تشكل كسوة للأحجار، وقد حدث التآكل على شكل شريط عند الثلث الأعلى من الهرم، فبدا لعيون د. كريم شبيها بالشريط الذي يحيط بالثلث الأعلى من الكعبة، وهو عمل فني حديث جدا قام به المصريون المحدثون المسلمون، عندما كانت مصر ترسل للكعبة كسوتها، وكان الغرض من هذا الشريـط غرضاً جمالياً فنياً بحتاً، كتبت عليه آيات من القرآن الكريم ليس أكثر، ولم يكن أصيلاً في بناء الكعبة ذاتها. ومن هنا قام د. كريم بمجازفته الهائلة ليقول: إن الكعبة أنشأها أهل منف المهاجرين في الحجاز على غرار كعبتهم المنفية (هرم ميدوم) الذي ليس أصلا في منف، إنما في الواسطى، ولا هو بكعبة، إنما مثوى لجسد الملك (والمصادفة الطريفة هنا أني من مواطنى مدينة الواسطى أصلاً، وحلي لي أن أزور غرفة المدفن الملكي مجددا، عند معالجة الموضوع، وكتبت هذا الجزء وأنا جالس في استراحة هرم ميدوم أطالعه عن كثب، أقلب أمره وأتساءل: هل ظلمه د. كريم أم أنصفه؟ لكني على أية حال لم أجازف بقراءة الفاتحة على روح الملك).
رمسيس يؤمن أخيراً
وطوال موضوعه يقدم د. كريم الفكرة الجميلة، ثم لا يلقيها في صيغة الاحتمال أو الظن، إنمــــا
يؤكدها! وحتى يكسب ثقة القارئ، يقدم لها الدعم من نصوص آثارية، لكنه للأسف يتدخل في النصوص، ويردف بها ما ليس فيها، ويقّولها ما لم تقل، ليكتسب رأيه ثقة القارئ المسلم، وهو ما فعله مع الحكمي (آيبوور) ذلك الحكيم المصري العظيم، الذي بلغت حكمته وشهرته حدا دفع (برستد) إلى وصفه بالنبي (10)، وهو إذ يختار رجلا محل ثقة واحترام مثل (آيبوور)، يقول: "ويضيف آيبوور كيف هرب أهل منف إلى الصحراء الشرقية وجنوب الوادي"، ثم يردف مستمرا كما أن الحديث لم يزل لأيبوور "وعبروا البحر إلى الجزيرة العربية، حيث أطلق عليهم هناك اسم بنى مناف أو منف"؟! وهكذا رغم جمال فكرته واحتمال صدقها، يدمر الأمر كله بنسبه كلام للرجل الحكيم، هو منه برئ.
وحتى يزيدنا السيد الدكتور تحسراً على جمال أفكاره، وإمكان إثبات صدقها بالأسلوب العلمي، يضيف من عندياته القول: إن فرعون موسى المعروف بأنه رمسيس الثاني (وبالمناسبة هذا فرض مررته الكتابات الصهيونية ولم يتأكد صدقه العلمي)، كانت له زوجة مؤمنة موحدة، فأرسلت مع قائد الجيش المصري الذي كان بدوره مؤمنا موحداً، كسوة إلى الكعبة، صنعت خصيصاً لهذا الغرض، وقد حدث هذا الأمر سراً بالطبع، لأن زوجها رمسيس الثاني كان كافراً أثيما (ولا يغيب عن القارئ أنه هو الفرعون الذي ترك لمصر أهم الأعمال المعمارية والفنية العظيمة وصاحب غزوات وفتوحات تحسب لمصر كلها)، وهكذا يكون المصريون قد بدأوا صناعة كسوة الكعبة وإرسال المحمل للحجاز من ألوف السنين، ولا مانع أن نتخيل هنا (ليل مراد) تلبس تاج القطرين، وتغني على صوت الدفوف وهي تودع قائد الجند: (يا رايحين للنبل الغالي، هينالكم وعقبالي)؟، وندخل مع د. كريم إلى تمثيلية رمضانية، يتسلط فيها فرعون الجبار، وتلتقي فيها الزوجة الملكية سراً بأخيها في الإيمان، قائد الجند المغوار، ويتعاهدان عند أستار الكعبة في حب الله، وحتى تأتي النهاية السعيدة، فإن حبكة الدكتور كريم الدراماتيكية استلزمت أن يخالف حتى النص الديني، ويؤكد أن رمسيس الجبار قد أكرمه الله بالإيمان بعد أ، رأى معجزة فلق البحر بالعصا، فنجا من الغرق والحمد الله.

(10) جيمس هنري برستد: فجر الضمير، ترجمة سليم حسن، ص 207.
ثم وفي نهاية موضوعة، يقول بذكاء أريب: " .... وبعد، فهذه مجرد أراء تاريخية قد يصح بعضها، ويخطئ بعضها، ولكن في قراءتها فائدة" وبذلك يعتذر مقدما لمن يكتشف أمرا فيؤكد أنها (مجرد آراء)، والرأي يحتمل الصواب والخطأ، لكنه ينثني للقارئ العادي المستسلم ليكمل عملية الحقن قائلاً: إنها مجرد آراء، ولكنها (تاريخية)، حتى يثبت الأمر عنده، ثم يصيب هدفا ثالثاً (سيرا على سنة الثلاث ورقات) فيحقق لنفسه أهم صفات العالم وهي التواضه، متصوراً ذلك يعفيه من المآخذ.
ولوجه الحق فلا شيء خاص بيننا وبين الرجل إلا الحرص على القارئ الذي يتلقى المعلومة بحسن نية وثقة في الكاتب، والحرص على سيادة المنهج العلمي وشروط البحث العلمي دون الأشخاص، خاصة في ظروفنا الحالية، ومحاسبة من يتخطاه حتى ولو كان الغرض نبيلاً وجميلاً، فالغاية لا يمكن أن تبرر الوسيلة خاصة في مجال البحث العلمي. ونحن أشد ما نكون حاجة إلى الصدق العلمي، فإن ذهب بدوره، فكل إذن إلى ضياع.
ومرة أخرى أكرر للسيد الدكتور أنه ليس من الضروري أن يكون التوحيد هو المجد الذي يجب أن تكون مصر قد اكتشفته، فمجد مصر لا ينكره إلا حاقد أو متجاهل أو كليهما، وهو إنكار لا يشكل أية قيمة، لأننا نعلمه اعترافا بدواخلهم، وعجزا في طوايا ضمائرهم، وقصورا في هممهم، وشللا قعيدا في تاريخهم، هذا إن كان لهم تاريخ.

عفاريت التراث .. وتراث العفاريت *
في يوم 6/8/94، احتفلت في غرفتي رقم 437 بالجناح التاسع بمستشفى الهرم، برفع أهم الممنوعات: القراءة، واستعدت نظارتي العزيزة –بسعادة غامرة، وفتحت صحيفة أهرام ذلك اليوم، بعد انقطاع دام حوالي الشهر عن القراءة لتستوقفني مرثية الصديق (عزت السعدني) على أيام زمان وحضارة زمان، عندما كنا جوهرة التاريخ ودرة الزمان والمكان، وإمعاناً في الاحتفال المقام على شرف النظارة والسماح بالقراءة رأيت مشاكسة الرجل، بمناقشة سريعة لما قال في مقاله "زنوبيا .. امرأة بألف رجل،" لكن طبيعة العلم غالبة، فانجرف مني المقال من المشاكسة إلى مرثية كاملة على حال الأمة، رفع الله عنها الغمة.
امرأة بألف رجل
لفت نظري العنوان بداية، وأدهشني تخصيص (زنوبيا) بتلك المقارنة أو المفارقة، وهي لا شك تستحق أن توصف بكونها تساوي ألف رجل، لكن صياغة العنوان، التي تبدي الدهشة من أمر (زنوبيا)، جعلتها تبدو كما لو كانت حالة نادرة في التاريخ، وخارجة على القاعدة وعلى المألوف. بينما تاريخنا، بل تاريخ الإنسانية جميعاً، يمتلئ بإناث تعادل الواحدة منهن آلاف الرجال، رغم سيادة المنظومة الذكورية، والتفوق السيادي للذكر. بل أنك ستجد اليوم كثيرات تعادل الواحدة منهن آلاف الرجال، عالمات متخصصات، يضفن إلى رصيد البشرية العلمي كل يوم، بينما هناك رجال لا يستحق أحدهم أن تضعه في رتبة بني الإنسان.
ومع ذلك، فإن شهادة واحد من هؤلاء النكرات، تعدل شهادة اثنتين من عالمات الذرة، وما زالت المهندسة أو الطبيبة أو المحامية، تساوي نصف بائع الملوخية أو أحد صبيان بائعي الباطنية (؟!) ولا نفهم عن عالمة الانثروبولوجيا أو البيولوجيا، سوى أنها عورة يجب أن تستتر وأنها للسيد الذكر مجرد متاع، ثم نقف نتساءل لماذا نحن في ضياع؟ إنه السؤال الزائف زيف الوهم الذكوري، والخيانة الذكورية للمرأة (كـــأم وكزوجة وكشقيقة وكابنة وكصديقة وككاتبة وكعالمـــة

*نشر 14 سبتمبر 1994 بصحيفة الأهالي، القاهرة.
(ومن صـ 79-84 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
وكمناضلة وكحبيبة، وكجمال خصيب تتصحر بدونه الأرض الخضراء)، إنه السؤال الملتوي الملتف الهارب من السؤال الحقيقي حول حجم الخيانة الذكورية للتاريخ نفسه، ولا ريب أننا بحاجة إلى صدق كاف لنمتلك جرأة طرح السؤال الحقيقي دون خجل.
والمسألة بالأساس مسألة منهج، فالعنوان المندهش يدلل بوضوح على مدى تكريس منهج الثبات المسبق في عقولنا، الذي كرس في داخلنا نظرة دونية تبخيسية للمرأة، حتى لو أظهرنا التقدمية، إنه منهج الذكورة البدوي.
زنوبيـــــا والجــــــن
يحكي الأستاذ عزت السعدني، أنه ذهب إلى مدينة زنوبيا (تدمر) فأبهرته عظمة البناء وفنون الهندسة وروعة التخطيط حتى ردد قول أهالي المنطقة، "إن الجن من أعوان سيدنا سليمان عليه السلام، هم الذين بنوا وشيدوا تدمر العظمية، ومعابدها وأسواقها وحماماتها ومسارحها. وهذه آفة أخرى من آفات منهجنا في التفكير، أودت بنا إلى ما نحن فيه، في قاع العالم مع الجن والشياطين، فالحديث نموذج أمثل لمنهج تفكير جماهير أمتنا العريضة الغليظة (والعدد في الليمون كمما تعلمون)، لكن المصيبة أعظم، حيث أن ذلك ليس حديث العامة، بل أصبح حديث الخاصة، والأنكى أنه حديث كتبنا التراثية، التي تملأ أرفف المكتبة العربية، ويوصف أصحابها بأنهم علماء الأمة (؟!)، وستجد في كل صفحة من تلك المصنفات شتى أنواع العفاريت، ورتبهم، ودياناتهم، وصفاتهم، ودورهم في بناء كل ألوان المعمار العظيم في الحضارات القديمة. وهو ما يحمل دلالات واضحة على تهافت منهج عاجز عن التفسير يلجأ إلى منطق المعجزة، ويكشف عن عدم تصور أي بدائل، وعن مدى كسل ذلك العقل لإيجاد تفسير سليم، فأي نموذج معماري عظيم الشأن، يستدعي على الفور مقاولين ومهندسين مهرة من السعالي والغيلان وشمهورش وجمهورش وطرطيش (؟!) فالبدوي في تفرقه القبلي، لم يكن يتصور أبداً، إمكان قيام الإنسان بمثل تلك الأعمال الهائلة، وهو ما قيل في بناء سور الصين الذي بناه ذو القرنين والجن من أتباع سليمان، كما قيل في قصور بابل وحدائقها المعلقة، وإن ثبت عدم وصول جن سليمان إلى وادي النيل، فلا شك إذن أن بناة الكرنك والأهرام، كانوا عمالقة الأجسام، حتى يتمكنوا من ذلك الإنشاء الهائل. إنها عقلية الدونية والقزمية والكسل والاسترخاء، بل والتكاسل عن مجرد تصور بشر يقومون بتلك الأعمال العظيمة، فالعظمة ليست للإنسان الغر المفتون إنها دوما لذلك القابع وراء الطبيعة، للجن والعفاريت! ثم إن الأمر على المستوى الاجتماعي، يعبر عن فرقة أصلية، وقبلية متجذرة، وعقلية لا تعرف التوحد في وحدات سياسية كبرى تقوم بالمشاريع الضخمة، وتكاتف البشر في توحد منتظم متين.
لماذا دائماً سليمان؟
أما الملحوظة التي يجب ألا تفوتنا، فهي حديث المقال الموقن بما قال، فابناء لجن سليمان، وتكسير الإله البابلي مردوك على يد النبي إبراهيم و .... الخ. وهو ترديد لحديث مأثورنا التراثي المفرط المبالغ كثير التهاويل، لكن كان لسليمان وجنه دوما الدور الأعظم، سليمان بالتحديد وبالذات.
والمعلوم أن (سليمان) هو المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل في فلسطين، حوالي عام ألف قبل الميلاد، والغريب هو ذلك الإيمان الثابت في العقل بصدق ما جاء عنه في المأثور، والأعجب هو استمرار ذلك الإيمان حتى الآن، لينسب للإسرائيليين كل الأمجاد رغم تحولات الزمان، ودخول بلاد الحضارات القديمة إلى الدائرة العروبية، ثم مزيد من التبدلات وما يحدث اليوم بقيام دولة إسرائيل في فلسطين مرة أخرى، بعد أن دمرها لنا الرومان، في سالف الأزمان.
إننا لا نقرأ التاريخ، بل فقدنا الذاكرة التاريخية، بل والحس الوطني والقومي وبقى المأثور وحده يرفع يده بعلامة النصر فوق رؤوسنا (؟!) فلم نر المتغيرات، لأن الثبات هو المبدأ، والمبدأ هو الثبات، الحركة تخيفنا، والتغيير يرعبنا، والسؤال يبهتنا، والجديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، إذن فليحيا الثبات على المبدأ، وليكن الإسرائيليون هم بناة حضارتنا القديمة جميعا كما يزعمون، أقصد كما نزعم نحن، ما دمنا نومن بعفاريت التراث، ونحمل على أكتافنا تراث العفاريت (؟!) وإذا كان جن سليمان قد قاموا بكل تلك الإنجازات، فهل يهون عليهم شفاء مرضى هذا الزمان؟ ثم نتساءل لماذا تنتشر كتب العفاريت على أرصفة الشوارع وفي المكتبات؟
ويبدو أن صديقنا أراد تأكيد ما سمعه عن الإنجازات الجنية للعفاريت لسليمانية، فأورد ما جاء في كتاب (روبرت وود) –وللحقيقة أنا لا أعلم من هذا الوود– حيث قال: "أنه قد جاء في التوراة ما يـــفيد أن سيدنا سليمان هو الذي بنى تدمر، وأطلق عليها اسم بالميرا"، هذا رغم الفارق الزمنــي
الكبير بين زمن زنوبيا وزمن سليمان.
بهذا المنطق يجب علينا أن نؤمن إيمان العجائز بفضل الإسرائيليين الذين فضلهم الله على العالمين، وأن نؤمن بهم كتاريخ لنا، وهو الحادث وفق تلك المنظومة المأسورة (آسف أقصد المأثورة)، بحيث تربعوا داخلنا منذ سنين طويلة مضت، منذ حفظنا قصص إسرائيل وبني إسرائيل المؤمنين، وقصص الكافرين من أجدادنا الفراعين، لننقلب نحن على تاريخنا الحقيقي، ثم نتحدث اليوم بوجل عن الغزو الثقافي الإسرائيلي؟ ألا يستحق الأمر أن نقول: عجبي!!
تاريخ العجول
ويقول الأستاذ السعدني، أنه قد رافقه في رحلته إلى تدمر، السيد (خالد الأسعد)، الذي وصفه بأنه "حجة في الآثار التدمرية"، وأن هذا الحجة قد أفاد صديقنا علماً نافعاً بقوله: إن العبد هناك كان لعبادة إله باسم (بل)، وكان من الأوفق لو قال له اسمه بالعربية أو الحقيقي بالسامية القديمة، فأسمه العربي هو (بعل)، لكن المرافق الحجة قرأه في كتب الأفرنج، ومعلوم عدم احتواء الأحرف اللاتينية على حرف العين، مما أسقطها في لسان رجل الآثار. ومعلوم أن (بعل) كان إله المطر والخصب والصواعق، ولم يزل الفلاح المصري يطلق على النبات الذي سقته السماء بمطرها لقب (البعلي). وهو ذات الإله الذي انتقلت عبادته إلى جزيرة العرب، على يد (عمرو بن لحي الخزاعي) فيما تزعم كتب السيرة ليعرف هناك باسم (هبل) بعد إضافة (هـ) أداة التعريف في العربية الشمالية القديمة، ومع إضافة الهاء سقط حرف العين بقوانين اللسانيات نتيجه وجود الهاء المفخمة فنطق (هبل) بدلا من (هبعل).
أما ما جاء بالموضوع عن عبادة إلهين آخرين في تدمر هما (يرحبول) و(عجلبول)، وتفسير الأستاذ السعدني بأنهما إلها الشمس والقمر، فهو ما يحتاج إلى تقويم، فكلا الإلهين بعلي، فالمذكور باسم (يرحبول) مركب من ملصقين هما (يرح) و(بعل)، وكان القمر يمسى (يرح وأرح) ومنه أخذ اسم (أريحا) أي القمرية، كما كان ينطق (يرخ وأرخ) ومنه أخذت كلمة (التاريخ) باعتبار القمر رمزاً لدورات الزمان، وبعل المرأة ربها وسيدها, وعليه فمعنى (يرحبول) هو السيد أو الإله القمر، وعلية يقاس أيضاً (عجلبول)، فهو الإله العجل، ولا عجب، فقد قدس الأقدمون العجل أو الثور، حتى لقب الملوك أنفسهم بلقب (ثور) تشبها بالآلهة القوية، الآلهة الثيران، وقد قرن الثور أو العجل بعبادة القمر، بالمقارنة بين شكل الهلال وشكل قرني الثور، وما بينهما من تشابه، فكان الهلال هو ثور السماء الإلهي، ومن ثم فإن (يرحبول) إنما يرمز للقمر عندما يكون بدراً، أما عجلبول فيرمز للقمر عندما يكون هلالاً، لقد كانت عبادة قمرية، ذات دلالة عروبية. ولم تزل للهلال قدسيته، فالشهور قمرية، والتاريخ قمري، والصيام قمري، والزمن العربي كله قمري، كله يرحبول، كله عجلبول، بمنهج الثبات على المبدأ.
حكاية المنهج
ما الذي دفعني وأنا على سرير المرض إلى كتابة ما كتبت الآن؟ لقد بدأ الأمر بمشاكسة صديق من باب المداعبة التي لا تفسد قضية الود، لكن يبدوا أن موضوعه قد نكأ الجراح واستدعى استنفاراً داخلياً إزاء كل النماذج التي تملأ أرفف المكتبة العربية، وأرفف العقل العربي، وبالطبع صحفنا الغراء، تكرر وتردد بثبات ويقين، تزيد وتضيف، من ذات الرصيد إلى ذات الرصيد، ولا تضيف إلى مزيداً من المعلومات المتحفية إلى معلومات حجرية، وتتنافس في ذلك مع التلفاز الميمون، لينافسوا جميعاً الرصيد الأصيل في "دوجمته" وثباته عند الأصول، وإن أرادت المعاصرة والتحدث بحداثة، رددت معلومات مغلوطة، مغلفة بأسلوب حكائي مزوق، دون النظر إلى ما تفعله في عقول الناس، ثم نسأل أنفسنا: لماذا الأصولية؟ لماذا الإرهاب؟ إنها النتيجة الأخرى لذات المنهج! أسئلة يكمن وراءها الثبات على المنهج الأوحد، فكل شيء واضح لكنا نريد أن نرى، فقط هذه المسألة!
لذلك كله انتهزت فرصة ذلك المقال، لأملأ فراغ الوقت لحين استكمال المشوار العلاجي الطويل، لأنه فتح كل الجراح دفعة واحدة، وتحدث في صميم همومي، وبقدر ما كان (روتين) وزارة الصحة مزعجاً بل وبشعاً، بقدر ما كان (روتين) التاريخ ثابتاً ساكناً مترهلاً نائماً يرنّم تشخيرة واحدة رتيبة. وبقدر ما شعرت بطعن ألم المرض في قلبي، بقدر ما لم يعد بالإمكان تحمل مزيد من الطعن في رأسي وآمالي وأحلامي في مستقبل هذا البلد وتلك الأمة .. إنهم يقتلون أحلامنا يا سادة!!
المنهج يا سادة، "الدوجمة" المسبقة، واليقين القطعي، وغياب العقل النقدي، والتكاسل المخيف عن بذل الجهد، يفرض ظله السحري على حياتنا ليفسد علينا كل شيء، الـرؤية الاستاتيكية للتراث،
التي لا تربطه بواقع، بقدر ما تعتبره شيئاً فضائياً جاء من فراغ، رغم تزلزل كل البنى التحتية التي قام فوقها، حقاً نحن أغرب أمة أجرجت للناس. نخلط التراث، بمسلمات ما أنزل الله بها من سلطان، بالحكي الشعبي، بالتاريخ الحقيقي مع تزييف نموذجي ليلتقي بالمأثور الديني، كما نفعل في حكاية العلم والإيمان التليفزيوني لنرضي في النهاية الإيمان التليفزيوني، ونرضي أنفسنا التي تركن للسكون والترهل، ويرضى المتاجرون بمصير الأمة بما ربحوا.
وأثناء ذلك نسقط دون وعي في شباك التاريخ الإسرائيلي، لنكتب لهم، نيابة عنهم، أمجد التاريخ، ونَسُب أسلافنا وبناة حضاراتنا الكبرى بأقذع سباب اخترعه الإنسان، وهو النموذج الذي مثله هنا بناء جن سليمان لمدنية تدمر! وهو نموذج بسيط إزاء الكم الهائل المتراكم على أرففنا من زاد لا تنفد خزائنه، وهو التراكم الذي يجعلنا نتخذ من المأثور مرجعية ومقياساً ومعياراً لك شيء، ونزنقه حشراً في كل أمر، ومثله ما جاء في المقال المذكور أن (بعل) هو الإله البابلي (مردوك) وأن (مردوك) قد تم تكسيره على يد النبي إبراهيم.
هكذا ببساطة نلقي القول، فقط لأن إبراهيم كسر أصناماً كما جاء بالقرآن الكريم، ولأن بعض المؤرخين قالوا أنه عراقي الأصل، ولأن مردوك كان أحد آلهة العراق، فلابد إذن أنه لم يسلم من فأس إبراهيم (؟!) بالله ماذا يمكن أن يفعل مثل ذلك الكلام بقلبي المريض؟ إن قولاً كهذا كي تثبته أو تنفيه، عليك أن تكرس له من عمرك سنوات، وعندا تكون أي دراسة من دراساتي قد استغرقت من عمري زمناً، وأعملت المرض في قلبي، فإن إلقاء القول هكذا على الناس، وفي ظروفنا، ومع حالتي، يصبح قتلاً حقيقياً.
مرة أخرى إنه منهج الترديد، وأقول لصديقي الذي لا أشك في نواياه: إن البحث عن المعرفة الصادقة هدف إنساني وعظيم، والبحث الذي يسعى لتحقيق مطامحنا الوطنية والقومية لا شكل أعظم، لكن كي يكون الأمر بحثاً، وكي يثمر نتائج لا تدفعنا إلى مزيد مما نحن فيه، فحاجتنا أكبر للتخلص من أوهام المنهج الثابت الأوحد، حتى لا نتصور أننا ندافع بإخلاص عن قوميتنا، ونقع في التعصب القبلي، لنصوا يوماً ونكتشف أننا داخل القبيلة الإسرائيلية، وسبط من أسباطها، خاصة في هذه الأيام، التي بدأ فيها التاريخ يردد صداه، ويعكسه على رؤوسنا ... سلام ... سلام. وعليكم السلام.

الرد اليسير على توراة عسير *
(كمال الصليبي)، أصبح اسما مطروحا في المنتديات الثقافية، ومتواتراً في هوامش البحوث التي تتناول تاريخ القبائل الإسرائيلية ، أو ما تعلق بها من أبحاث في المجتمع أو الدين أو الاقتصاد أو السياسة. وعلى مستوى الانتشار أخذ اسم (الصليبي) موقعه من غرابة النظرية التي يطرحها في مؤلفاته. وعلى مستوى البحوث العلمية أخذ مكانه من باب تثمين مضطر للنظرية ، سواء بالاتفاق أو الاختلاف، لما قدمه الرجل من جهد وقرائن على نظريته، الأمر الذي يجعل من فساد الرأي التغاضي عنها، عند بحث شأن من شئون الجماعة الإسرائيلية.
ونظرية (الصليبي) تذهب –عموماً وبإيجاز– إلى احتساب القبائل الإسرائيلية، قبائل عربية قحة، سبق أن عاشت في جزيرة العرب في الأزمة التوراتية القديمة وبالتحديد في منطقة عسير غربي الجزيرة، وأن جميع الأحداث التي قدمتها التوراة كمادة تاريخية وثائقية عن بني إسرائيل من فجر تاريخهم ، إنما حدثت جميعا في بلاد عسير العربية، وكانت أهم براهين الباحث وقرائنه، ومكمن قوة نظريته قد جمعت تقريباً وحشدت في كتابه الأول The Bible Come From Arabia، المترجم عن الأصل الألماني Die Bible Kam aus dem Lande ASIR، وقد ترجمت النسخة الإنجليزية إلى العربية تحت عنوان: "التوراة جاءت من جزيرة العرب".
وقد أتبع الباحث ذلك الكتاب بكتابين آخرين وإن كانا أقل تماسكاً وأدني في الدرجة وفي قدرة الإقناع عن كتابه الأول، قدمها للتخديم على نظريته الأساس التي ضمنها كتابه الأول، ومن ثم جاء على قدر واضح من الهزال والضعف والتعسف، أولهما بعنوان (خفايا التوراة) والثاني بعنوان (حروب داود)، لذل سيكون مناط حديثنا هنا مادته الأساس وملاطة الخرساني من كتابه الأول (التوراة جاءت من جزيرة العرب).
والدكتور (كمال الصليبي) يعمل رئيساً لدائرة التاريخ بالجامعة اللبنانية، فهو أستاذ دَرّس مادة التاريخ –فيما علمنا– لأكثر من ثلاثة عقود متصلة، ويبدو لنا أنه قد ركن إلى قناعة ينضح بهــــا
* نشر بالعدد 127 من مجلة القاهرة في يونيو 1993، القاهرة.
(ومن صـ 85 -104في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
سطور العهد القديم من الكتاب المقدس، عند حديثها عن الرب التوراتي (يهوه) وهي القناعة التي لا تهتز أمام الصفات التوراتية ليهوه، بأنه لم يكن أكثر من بركان، أو على الأقل أن البركان كان أبرز رمز تجلي فيه، وهو البركان الذي توجه إليه الخارجون من مصر بقيادة موسى النبي، في جبل باسم (حوريب)، ويذكر مرات باسم جبل (سيناء). فإن المتوقع تماماً أمام التفاصيل التي تحدثت عن صفات (يهوه)، أن نجد ذلك الجبل البركاني في شبه جزيرة سيناء، لكن المشكلة التي واجهت الجميع، هي تأكيدات جاءت تؤكد أن سيناء لم تعرف البراكين أطلاقاً طوال تاريخها.
وربما كان من الأوفق الرجوع إلى بعض نماذج صفات الرب (يهوه) في التوراة، والتي كونت القناعة بالرب البركاني
لدي (صليبي) –ومن أن يذكرها–ولدى كثير من الباحثين، ولدى كاتب هذه السطور، ومن تلك النماذج:
* وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب .. وليلاً في عمود نار (خروج 13/21).
* وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح، أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل .. وأخرج موسى الشعب لملاقاة الله .. وكان جبل سيناء كله يدخن، من أجل أن الرب قد نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الآتون، وارتجف كل الجبل جداً .. ونزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل (خروج 19/16-20).
* الرب إلهاك هو نار آكلة (تثنية 4/24).
* على الأرض أراك ناره العظيمة، وسمعت كلامه من وسط النار (تثنية 4/36).
* يمطر على الأشرار فخاخاً، ناراً وكبريتاً وريح السموم (مزمور 11/6).
* فارتجت الأرض وارتعشت أسس الجبال، ارتعدت لأنه غضب، صعد دخان من أنفه ونار من فمه (مزمور 18/6-12).
* صوت الرب يقدح لهب نار، صوت الرب يزلزل البريه (مزمور 29/7).
* وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل، أمام عيون بني إسرائيل (خروج 24/17).

وهـنا، لن يجد أي مهتم بدراسة التاريخ الإسرائيلي سوى التسليم ببركانية الإله، ثم التسليم أيضـاً بالمأزق الشديد المحير، إزاء ما أفادنا به الباحثون أن شبه جزيرة سناء لم تعرف البراكين طوال تاريخها. ويبدوا أن المأزق ظل علامة استفهام مؤرقة لصليبي، حتى تصادف وطالع كتباً تفصيلية، لجغرافية شبة جزيرة العرب، أشعلت لديه فكرة جديدة تماماً، يمكن أن يكون فيها الخروج من المأزق الذهني الملحاح، وأسئلته الحائرة المؤرقة. حيث وجد تطابقاً مدهشاً بين مواضع أسماء كثيرة بجبال عسير –وهي جبال بركانية عموماً– وبين الأسماء التي وردت في التوراة، للمواضع الجغرافية القديمة في تاريخ إسرائيل التوراتي. وعندما قام بعملية تدقيق لإحداثيات تلك المواضع، انتهى إلى يقينه الذي وضعه في شكل كشف خطير بحق، يؤكد أن كل الأحداث التوراتية إنما جرت في جبال عسير، وأن الإسرائيليين عرب أقحاح، وأنهم لم يدخلوا إطلاقاً مصر الفرعونية، ولم يخرجوا منها قط، وأن هناك مغالطة تاريخية هائلة، أدت إلى هذا الخطأ التاريخي العظيم في معارفنا، وأنه مما يدعم وجود تلك المغالطة، هو غياب أي دليل وثائقي مباشر في مدونات مصر القديمة، يشير إلى دخول الإسرائيليين إليها أو خروجهم منها، أو إقامتهم فيها. ومن هنا شمر الدكتور الصليبي عن همته بإعادة النظر في الجغرافيا التوراتية محاولاً إثبات أن جميع الأحداث التي جرت والمواقع التي حدثت بها تلك الأحداث، لم تقع لا في مصر، ولا في فلسطين، ولا فيما بينهما (سيناء)، بل وقعت جميعا بلا استثناء في مرتفعات عسير بجزيرة العرب، معتمداً على تحليل لغوي مقارن، طابق فيه بين المواضع الجغرافية التي أوردتها التوراة، وبين مقابلها في غربي جزيرة العرب.
أساس الكتاب
وكان أهم تبرير قدمه (صليبي) لمذهبه ونظريته، هو ما جاء في قوله: "ففي حين أن تاريخية عدد من الروايات التوراتية بقيت عرضة للنقاش الحاد، فإن جغرافية هذه الروايات استمرت معتبرة من المسلمات، والحقيقة الساطعة، هي أن الأراضي الشمالية للشرق الأدنى، قد مسحت وحفرت من قبل أجيال متوالية من علماء الآثار، ومن أقصاها إلى أقصاها، وأن بقايا العديد ن الحضارات المنسية قد نبشت من تحت الأرض ودرست وأرخّت، في حين أنه لم يعثر في أي مكان كان على أثر يتعلق مباشرة إلى أي حد بالتاريخ التوارتي. وأكثر من ذلك، فإن التوراة العبرية تذكر الآلاف من أسماء الأمكنة من قلة قليلة، تماثلت لغوياً مع أسماء أمكنة في فلسيطين، .. وحتى في الحالات القليلة التي تحمل فيها مواقع فلسطينية أسماء توراتية، فإن الإحداثيات المُعطاة في النصوص التوراتية للأماكن التي تحمل هذه الأسماء، في إطار الموقع، أو المسافة المطلقة، أو النسبية، لا تنطبق على المواقع الفلسطينية .. وسجلات مصر والعراق القديم، قد قرئت على ضوء النصوص التوراتية، والتي أجبرت على إعطاء مؤشرات جغرافية أو تاريخية، تتوافق مع الأحكام المسبقة لدي البحثين التوراتيين" (1)
ومن هنا أسس الباحث عمله بالركون إلى تلك السلبيات التي طرحها، حول التاريخ التوراتي وتاريخ المنطقة المدون، ميمماً شطر عسير، بادئاً بتحديد منهجه ومواد عمله في مقدمة كتابه بقوله: "وأساس هذا الكتاب هو المقابلة اللغوية بين أسماء الأماكن المضبوطة في التوراة بالحرف العبري، وأسماء أماكن تاريخية أو حالية في جنوب الحجاز وفي بلاد عسير". ثم يحدثنا عن الصدفة التي جعلته يعثر على عالم التوراة القديم (المفقود) في جزيرة العرب بقوله: "لقد كان الأمر عبارة عن اكتشاف تم بالصدفة، كنت أبحث عن أسماء الأمكنة ذات الأصول غير العربية في غرب شبه الجزيرة العربية، عندما فوجئت بوجود أرض التوراة كلها هناك، وذلك في منطقة بطول يصل إلى 600 كم، وبعرض يبلغ حوالي 200 كم، تشمل ما يسمى اليوم (عسير) والجزء الجنوبي من الحجاز، وكان أول ما تنبهت إليه أن في هذه المنطقة أسماء أمكنة كثيرة تشبه أسماء الأمكنة المذكورة في التوراة، وسرعان ما تبين لي أن جميع أسماء الأمكنة التوراتية العالقة في ذهني، أو جلها ما زال موجوداً فيها، وقد تبين لي أيضاً أن الخريطة التي تستخلص من نصوص التوراة في أصلها العبري، سواء من ناحية أسماء الأماكن، أو من ناحية القرائن أو الإحداثيات، تتطابق تماماً مع خريطة هذه الأرض الموصوفة في التوراة، مع خريطة الأرض –بين النيل والفرات– التي اعتبرت حتى اليوم أنها كانت بلاد التوراة .. وهنا قدم الاستنتاج المذهل بنفسه، فاليهودية لم تولد في فلسطين بل في غرب شبه الجزيرة العربية وليس في أي مكان آخر .. ويجب البحث عن الأصول الحقيقية لليهودية، في ثنايا الاتجاه في منحى التوحيد في عسير القديمة" (2)
(1) كمال الصليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العملية، ط 2، بيروت صـ 50:52.
(2) نفسه: صـ 27، 28.
مشكلة اللغة
وهنا كان على (الصليبي) أن يبدأ –بالطبع– من مشكلة اللغة، ليجد ما يشير إلى أن اللغة العبرية القديمة (وهي أيضاً اللغة الكنعانية بإقرار الكتاب المقدس) وكذلك اللغة الآرامية، وكلتاهما: العبرية والآرامية، كانتا لغة إبارم (إبراهيم). فاللغة الأصلية لآله. وأسلافه هي اللغة الآرامية، واللغة التي اكتسبها بهبوط (كنعان) أو أرض التوراة القديمة هي العبرية/الكنعانية.
لقد وجد صليبي –فيما يزعم– كلتا اللغتين، وبالطبع وبالتبعية كلا الشعبين، الآرامي والعبري (وبالضرورة الكنعاني)، في بلاد عسير العربية. ولأنه قرر أن يعمل على أساس المقابلة اللغوية لأسماء الأماكن، فقد جاء اكتشافه لوجود تلك الشعوب ولغاتها فيما جاء بسفر التكوين 31/47-49 عن الميثاق الذي تم بين يعقوب (العبري)، وخاله لابان (الآرامي)، وهو الميثاق الذي أقيم بموجبه شاهد تمثل في كوم من الأحجار، أطلق عليه لابان بلسانه الآرامي (يجر سهدوثا)، وأطلق عليه يعقوب بلسانه العبراني (جلعيد والمصفاة). وقد وجد صليبي أن تلك الأسماء ما زالت تطلق حتى اليوم على ثلاث قرى صغيرة متجاورة، في منحدرات عسير البحرية، في منطقة "رجال ألمع" غربي أبها، وهي: قرية الهضبة وهي في الآرامية (يجر)، وقرية (الجعد) وهي عند الصليبي المقابل، لاسم (جلعيد) ثم قرية (المضاف) التي هب بقلب الصاد (المضفاة) (3).
وعلية يذهب إلى نتيجة يؤكدها، وهي أن المملكة الإسرائيلية، قد تأسست في غرب شبه جزيرة العرب، بين آواخر القرن الحادي عشر، وبين مطلع القرن العاشر الميلادي، قياًساً على تاريخ هجرات الفلسطينيين والكنعانيين من عسير إلى فلسطين، بضغط افتراضه قد حدث من قبل الإسرائيليين عليهم في عسير، وهناك أطلق المهاجرون إلى فلسطين أسماء مواطنهم القديمة في عسير، على مقار استيطانهم الجديدة بفلسطين، وهو ما يفسر لنا التشابه بين أسماء المواضع الجغرافية الفلسطينية، وبين أسماء المواضع التوراتية، وهي الظاهرة المرتبطة بالهجرة في كل زمن وفي كل أنحاء العالم، فالمهاجرون يحنون دوماً إلى الوطن الأصلي، فيطلقون على مواضع مهجرهم الجديد أسماء البلدان والأقاليم والجبال والآنهار التي تركوها في مواطنهم الأولى (4).
(3) نفسه: صـ 31.
(4) نفسه: صـ 26، 38
وإعمالاً لنظريته، يرى الدكتور صليبي، أن جميع الهجرات المصرية التي تم تجريدها على فلسطين، كانت في حقيقتها موجهة ضد بلاد عسير غربي جزيرة العرب، وبخاصة حملة (شيشانق الأول) الفرعون المصري ضد مملكة يهوذا، في آواخر القرن العشر قبل الميلاد. كذلك الحملة الثانية التي قد قادها الفرعون (نخاو الثاني) في آواخر القرن السابع قبل الميلاد، حيث كان البابليون قد حولوا السيطرة على عسير، مما أدي إلى صدام حتمي بين المصريين والبابليين في عسير، ومن ثم فإن وقعة (كركميش) التي وردت في العهد القديم (أخبار الأيام الثاني 35/20، إشعيا 10/9، إرميا 46/2)، لم تجر في داخل الأراضي التركية، وأن موقع الأمبراطوريتين: المصرية والبابلية قرب مدينة (الطائف) جنوبي الحجاز، حيث الدليل عند الصليبي يقوم في قريتين: الأولى تحمل أسم (القمر) والثانية تحمل اسم (قماشة) وبجمعهما يصبحان (قرقميش).
بل ويذهب السيد الدكتور إلى أن الحملات المصرية الأبكر، التي تعود بتاريخها إلى الآلف الثانية قبل الميلاد، والمفترض علمياً أنها كانت موجهة لاحتلال مواضع بعينها في فلسطين وبلاد الشام، إنما كانت في حقيقتها موجهة ضد (عسير) (5)، والدليل الدامغ على ذلك، هو أنه لو كان داود وسليمان وقتذاك هما السيدان الفعليان لدولة كبرى في فلسطين، تسيطر على الإقليم الاستراتيجي الذي يفصل مصر عن العراق، كما هو الافتراض الشائع، لأشارت إليهما السجلات المصرية والآشورية المتعاصرة. بينما لا نجد في تلك السجلات أياً كانت سياسية أو عسكرية، أية إشارة لهذين الاسمين، بخاصة في أخبار غزوات مصر وآشور على فلسطين.
ثم يقدم لنا تفسيره لوجود الإسرائيليين، والديانة اليهودية في فلسطين، بأنه أمر حدث متأخراً عن الأحداث الكبرى في التاريخ التوراتي القديم، وأن الأمر كان ناتجاً عن التدخلات المصرية المستمرة والدائبة في بلاد عسير، مما أدي إلى انقسام مملكة سليمان الكبرى في غربي جزيرة العرب، ونشوب الحرب بين شقيها المنفصلين: يهوذا وإسرائيل. وما تبع ذلك من غزوات الآشوريين والبابليين، التي انتهت بتصفية (سرجون الثاني) الآشوري لمملكة إسرائيل عام 771 ق.م. حيث احتل عاصمتها (السامرة) التي هي عند صليبي قرية (شمران) الحالية بعسير، ثم تبعه (نبوخذ نصر) الكلداني البابلي ليقضي على مملكة يهوذا سنه 586 ق.م.، حيث ساق الآلاف منها
(5) نفسه: صـ 36، 38.
إلى بابل أسرى، وعندما قامت مملكة فارس الإخمينية أفرج (قورش) عن الأسرى، فعادوا مع عائلاتهم إلى عسير، ولكن ليجدوا أن كل شيء هناك قد أصبح خراباً، فعاد أغلبهم إلى فارس والعراق، وتوجه التيار الرئيسي نحو فلسطين ليقيم هناك بينما دخلت –في زحمة الأحداث– الأصول العربية لبين إسرائيل في غيابات النسيان، وساعد على ذلك الغياب التحول الذي طرأ على اللغة بحلول القرن السادس قبل الميلاد، حيث ماتت اللغة العبرية/الكنعانية، وحلت محلها اللغة الآرامية في كل مكان، وظهرت اللغة العربية كمنافس للآرامية، فتغلبت في النهاية بحلول القرون الأولى من العصر المسيحي (6)، هذا بينما كان يهود الجزيرة العربية يتحولون نهائياً إلى اللغة العربية، وهي التحولات التي توافقت مع نسيان كامل للأصول العبرية القديمة في عسير العربية (7).
نماذج لغوية مقارنة
بطول كتابه لايني الدكتور صليبي ولا تفتر همته، عن دعم ما ذهب إليه بنماذج لأسماء الأماكن التوراتية، وما عثر عليه مقابلا لها في خريطة عسير العربية وفق تلك النماذج التي وضعها جميعا غربي الجزيرة، وحسب تخريجاته اللغوية المقارنة، يمكن تقديم النماذج الأساس الآتية:
– أرض جاسان التي سكنها بدو إسرائيل بمصر، هي قرية (غثن) بعسير.
– مدينة رعمسيس هي (مصاص).
– فيتوم هي (آل فطيمة) (8).
– سكوت هي (سيكة) بالطائف (9).
– مصر ليست مصر الفرعونية، إنما هي (مصر) في وادي بيشه، أو (المضروم) في مرتفعات غامد، أو هي (آل مصري) في منطقة الطائف. ولو احتججنا بأن مصر التوراتية كان يحكمها فرعون، فإنه يرد بأن كلمة فرعون تلك مأخوذة من اسم قبيلية (فرعا) الموجودة الآن في وادي بيشه (10) (وبالطبع منذ أكثر من ثلاثين قرنا دون أن تتحرك رغم أنها قبيلة بدوية). ونهر مصر الوارد في التوراة مصحوباً بأحداث عظيمة حول شأنه، ليس سوى واد جاف اسمه (وادي لــيه)،
(6) نفسه: صـ 39، 44. (7) نفسه: صـ 46. (8) نفسه: صـ 53.
(9) نفسه: صـ 202. (10) نفسه: صـ 148.
وأن التوراة لم تسمه وادي مصر، إلى لأن هناك تقع قريه في حوضه باسم (المصرمه) (11)، ثم لما يكن خروج بني إسرائيل من مصر، وعبورهم البحر المعروف في التوراة باسم (بحر سوف)، بالعصا المعجزة ثم عبورهم الأردن بالدوران حول دول آدوم وموآب وعمون، لفتح فلسطين، كل هذا لم يكن سوى عبور جبال السراة بمنطقة الطائف إلى الليث (12).
– الدول الكبرى التي وردت في المدونات المصرية كما وردت في التوراة تقع بدورها في جبال عسير، فمعلوم أن مملكة (دمشق) الآرامية كانت الحد الشمالي لدولة إسرائيل الفلسطينية، ومن هنا وجب نقلها بدورها إلى عسير، لتصبح قرية (مسقو) في ناحية العارضة شرقي أبو
عريش (13)، و (مجدو) الفلسطينية، أعظم فتوحات تحتمس الثالث الفرعون المظفر، إنما هي قرية (قصوى) في منطقة القنفذة (14)، أما بلاد لبنان بمدنها وقراها وجبالها وأرزها، لم تكن في الحقيقة سوى (لبينان) شمال اليمن بجوار نجران (15).
– ودولة (ميتاني) بجيوشها وملوكها وحضارتها وتاريخها، والتي حدثنا جدول الفرعون (شيشانق) عن هزميتها وإخضاعها لسلطان مصر، فهي لا تقع في أقصى الشمال السوري، إنما هي (وادي مثان) بالطائف. وأن كل ما فعله (شيشانق)، هو أنه استولى هناك على مجموعه قرى متناثرة بذلك الودي. ولما كانت النصوص المصرية تشير إلى (ميتاني) باسم ثان هو (نهارين)، لوقوعها بين نهري دجلة والفرات في أقصى اتساعهما، داخل الأراضي التركية، فقد رأي الدكتور صليبي أن ذلك خطأ فادح، حيث وجد في وادي مثان بطائف قرية باسم (النهارين)، بل أن حديث الفرعون (شيشانق) عن هزيمته لجيوش دولة آشور تفسير خاطىء من المؤرخين، لأنه إنما هزم جيوش قرية (يسير) الحالية (؟!) بمنطقة رابغ في تهامة الحجاز (16). أما الإشارات التورايتة لنهر (الفرات) فإنها كانت تعني واديا باسم (أضم) حيث توجد بجواره قريه باسم (الفرات) (17)، أو ربما كان واديا آخر باسم (خارف) بجوار تنوقة شمال أبها (18)، وللقارئ أن يختار ما يحلو له.

(11) نفسه: صـ 260 (12) نفسه: صـ 141.
(13) نفسه: صـ 116. (14) نفسه: صـ 119.
(15) نفسه: صـ 151. (16) نفسه: صـ219.
(17) نفسه: صـ 260. (18) نفسه: صـ 276.
– وللقارئ أيضاً أن يختار أو (يحتار) بين أثني عشر اسما لاثني عشر موقعا لقرى تقابل اسم (إسرائيل) الدولة، منها على سبيل المثال: السراة، آل يسير، يسير، أبو سرية .. الخ (19).
– كذلك المدن الواردة بالتوراة باعتبارها مدنا فلسطينية، إنما تقع بكاملها في جبال عسير.
فبئر سبع لا تقع جنوبي فلسطين، لأنها هي قرية (الشباعة) قرب خميس مشيط (20)، وكذلك (جرار) لا تقع على الساحل في أقصى جنوب فلسطين، لأنها هي قرية (القرارة) (21)، وقادش هي (الكدس), و(شور) المفترض أن تقع بسيناء، هي (آل أبوتور) في وادي بيشه (22)، وميناء (يافا) ليس على ساحل المتوسط، لأنه هو (الوافية) قرب خميس مشيط، والزرقا ليست شرق الأردن، لأنها هي (الزرقة) في جيزان (23) أما حصن صهيون بأورشليم، فليس سوى قرية (قعوة الصيان) في مرتفعات رجال ألمع غربي أبها (24). كذلك بقية المدن الفلسطينية المشهورة، التي يتم نقلها جميعا إلى عسير، فتصبح (بيت إيل) هي (البطيلة) في سراة زهران (25) وبيت لحم تصبح (أم لحم) في منطقة الليث (26)، وحبرون المصطلح على أنها الخليل الحالية جنوبي فلسطين، يتم وضعها في قرية (الخربان) في منطقة المجاردة (27).
– والمدن الفلسطينية الخمس على الساحل، المشار إليها في التوراة بالأقطاب الخمسة، تصبح عنده كالتالي:
* غزة = (عزة) في وادي أضم (28), وفي موضوع بعيد في كتابه تصبح (آل عزة) في بلحمر حنوبي النماص (29)، ثم في صفحات أخرى أكثر بعداً نجدها منسوبة إلى قبيلة (خزاعة) (30).
* أشدود = السدود في رجال المع.
* عسقلان أو أشقلون = شقلة بجوار القنفذة.
* جت = الغاط في جيزان.
* عقرون = عرقين في وادي عتود بين رجال ألمع وجيزان (31).
(19) نفسه: صـ 196. (24) نفسه: صـ 178. (29) نفسه: صـ 100.
(20) نفسه: صـ 96. (25) نفسه: صـ 200. (30) نفسه: صـ 116.
(21) نفسه: صـ 97. (26) نفسه: صـ 202. (31) نفسه: صـ 253.
(22) نفسه: صـ 98. (27) نفسه: صـ 203.
(23) نفسه: صـ 120. (28) نفسه: صـ 253.
– وسكان فلسطين القديمة، ومنهم العبرانيين، إنما كانوا في الحقيقة سكان قرية (آل غبراني) في ظهران الجنوب (32)، والكنعانيون كانوا سكان قرية (القنعة) القديمة، لكن ربما كانوا من قرية أخرى هي (قناع) (33)، وصيدا ليست على الساحل اللبناني لأنها هي قرية (آل زيدان) في مرتفعات شهدان في أراضي جيزان الداخلية (34)، وجبل حوريب المقدس بسيناء، يقع في الحقيقة قرب قرية (خارب) في وادي بقرة (35).
– وأسماء أسباط بني إسرائيل جميعاً تقد بدورها في جبل عسير، كالتالي:
* رأوبين نسبة لقرية (اعربينان) في سراة زهران مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* شمعون نسبة لقرية (الشعنون) جوب جيزان مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* يهوذا نسبة لقرية (الواهدة) في رجال ألمع مع مواقع محتملة نختار من بينها.
* دان نسبة لقرية (الدنانة) مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* نفتالي نسبة لقرية (آل مفتله) مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* جاد نسبة لقرية (الجادية) في سراة غامد مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* أشير نسبة لقرية (آل مفتله) مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* يساكر نسبة لقبية (يشكر) الحالية (؟!) مع قبائل أخرى محتملة نختار من بينها.
* زبولون نسبة لقبيلة (الزبالة) مع قبائل أخرى محتملة نختار من بينها.
* يوسف نسبة لقرية (أل يوسف) في بلسمر مع قرى أخرى محتملة نختار من بينها.
* بنيامين وهو الاسم الذي أطلقه الشاعر الجاهلي على أهل اليمن (36).
* (وربما كانت القرى والقبائل المذكورة –بالعكس– نسبة للأسباط)


(32) نفسه: صـ 238. (35) نفسه: صـ 70.
(33) نفسه: صـ 101. (36) نفسه: صـ301 : 304.
(34) نفسه: صـ 99.
المنهج والنظرية
هذه بإيجاز نظرة سريعة على أطروحة (كمال الصليبي)، لا تغني –بالقطع– عن قراءة الكتاب، كما لا تعبر –باليقين– عن الجهد المبذول بإخلاص في هذا العمل الثري، والذي أبهر مثقفينا إلى الحد الذي لم يلتفتوا فيه إلى مجرد إعادة التصنيف ونموذجاً له ما قدمناه، وكان كفيلاً وحده بهذا الترتيب وبالقراءة والدراسة المقارنة، أن يبدل أسباب الدهشة، بل وطبيعة الدهشة. وقد اختار الرجل مع براعته، منهجه المخلص بتواضع جم، رغم ما وضح من ممكناته العظيمة في مجال اللغة تحديداً، وإن ذهب في مواضع أخرى إلى الاعتداد الشديد. إلا أن المشكلة الحقيقية التي تواجه عمله بالكامل، وباعترافه هو نفسه في مقدمة كتابه، هي أنه لم يأخذ على الآثار باعتباره على الإطلاق، وحين تناول بعض المدونات التاريخية القديمة، كان ينزعها من سياقات عدة ترتبط بها، ليدعم بها رؤيته في شموليتها، محتجاً بأن المسح الآثاري لمناطق غربي الجزيرة لم يتم بعد بشكل تام، كما لو كانت نظريته قد ثبتت وانتهى القول بشأنها فعلاً، ولم يبقى سوى التنقيب وراءه، لنجد هناك تحت الرمال عالم التوراة القديم برمته، وهو التصريح الذي أكده دوما في أكثر من حديث صحفي. وفي المقابل أهمل الرجل تماماً أثاريات المنطقة، في مصر والرافدين والشام، ومدوناتها. وهو ما يمكن أن ينطق بالكثير كما سنرى. لذلك كانت خطورة عملة القاصمة لأساسه، هو أحاديثه التي أهملت تماماً جميع النظريات الأخرى حول التاريخ التوراتي، مع إهداره المطلق للجانب التاريخي والوثائقي، حتى داخل الكتاب المقدس ذاته باعتباره وثيقة تاريخية، وبخاصة المرتبط منه بمصر وفلسطين.
وكان اعتماده على المقارنات اللغوية وحدها، وفي حدود أسماء الأشخاص والمواضع ثم حذفه للحركات والضوابط، التي دخلت على المأثور التوراتي في القرن السادس الميلادي من قبل أهله، كناتج ملاحظته لبعض الأخطاء في التصويت والإعراب، وهو ما حور بعض المعاني، ونحن نثق في قدرته المتبحرة في هذا الجانب، لكن المأخذ هنا أنه أعاد النص التوراتي الهائل برمته إلى أصله غير المتحرك، لأنه اقتنص خطأ هنا وفلته هناك، في بضع كلمات أدى تصويتها إلى تبديل معناها –على ذمته– ضمن حوالي نصف مليون كلمة تشكل ذلك المأثور، لكنه استمر على دربه غير هياب, فقام تسكين كل الأحرف، ليعيد هو تحريكها بما يوافق حركته بين المواضع التي رآها آهلاً للتطابق معها في بلاد عسير.
ولو ألقينا نظرة سريعة فيما عرضناه هنا، سنجد (الدكتور الصليبي) يحل كل المشكلات الهائلة، التي حارت فيها أفهام العلماء لقرون، حلا نهائياً تاماً مانعاً، بمجرد إيجاد الصلة أو التطابق بين اسم موضع ورد بالتوراة، واسم موضوع عثر عليه في خرائط جزيرة العرب الغربية، مثلما فعل في تأكيده أن أهل عسير كانوا يتكلمون العبرية، وإلى جوارهم مباشرة كان هناك قوم آخرون يتكلمون لغة أخرى هي الآرامية (؟!)، فقط لأن كون الأحجار الشاهدة على ميثاق يعقوب العبري، وخاله لابان الأرامي، المسمى بالآرامية (يجر سهدوثا) وبالعبرية (جلعيد والمصفاة)، يتطابق كأسماء مواضع، مع قرينتين عثر عليهما على خريطة رجال ألمع باسم (مزرعة أل شهدا) و (الجعد).
ثم أنه لم تلتفت قط إلى أنه من الممكن افتراض العكس، وسيكون هو الافتراض الصحيح علمياً وتاريخياً، حول فرضه أن الأسماء التوراتية الموجودة بفلسطين أطلقها هناك المهاجرون من عسير كذكرى لموطنهم القديم. بمعنى أن العكس ممكن أيضاً وأكثر علمية، فتصبح الأسماء الواردة بجزيرة العرب ومشابهة لأسماء توراتية، ناتجة عن هجرة إسرائيلية من فلسطين إلى جزيرة العرب، وهو ما نعلمه نتيجة هجوم (آشور) و (كلديا) على فلسطين، ومن بعدهم هجوم (طيطس) الروماني عليها وتدمير الهيكل وتشتيت بني إسرائيل، الذين انحدر أغلبهم جنوباً ليشكلوا فيما بعد يهود شبه الجزيرة العربية الذين تناثروا في مواضع عدة أشهرها خيبر ويثرب واليمن هذا بالطبع إذا سلمنا له بصدق بعض، وليس كل، مقابلاته اللغوية لمواضع الأمكنة وأسمائها.
أما الأشد غرابة فهو اعتماده أسماء موجودة اليوم بالجزيرة لمواضع وقبائل، يراها هي ذات الأسماء التوراتية، بعد مرور أكثر من ثلاثين قرناً، كانت كافية لتبديل أسماء الموضع التي ذكرها عشرات المرات، ونسيان قديمها وهو أمر معلوم، ومعلوم أيضاً أن أسماء المواضع عادة ما تتغير بتغير سكان المنطقة. وهو أمر دائم التكرار في بلاد البداوة القبلية أكثر من المناطق المستقرة، وذلك للسعي وراء الكلا والتحرك للإغارة أو هرباً من الإغارة، هذا ناهيك أنه قال بنسيان العالم كله للأصل اعسيري العربي للإسرائيليين في عسير، بعد أسر في بابل لم يدم لأكثر من نصف قرن، فما باله يرى جزئيات وتفاصيل أجدر بالنسيان، خلال قرون طويلة، يراها باقية شاهدة على الأصل العسيري للتوراة القديمة وأهلها في بلاد العرب.
وفي موضع آخر من كتابه يلتفت إلى نقاط ضعف يحاول تبريرها، فهو يشير إلى النصوص الأسطورية التي وردت في التوراة، وضرب منها مثلاً بقصة (الطوفان)، التي تحتاج غمراً مائياً وبلاداً ممطرة ونهرية كأرضية للحادثة، وهو ما لا يتطابق مع حال جزيرة العرب ليؤكد لنا أنه لا يمكن التأكد أين ولدت مثل تلك الأساطير؟ من استعارها؟ ومن أصحابها الأصليين؟ ولكنه لا شكل يعلم أصولها المصرية والعراقية والشامية، وسر انتقالها إلى الكتاب المقدس وظروف ذلك! وسبق لنا أن قدمنا في ذلك بحوثاً نشرناها في كتابنا (ألأسطورة والتراث) (37) يمكن للقارئ الرجوع إليها، وهو ما لا يمكن أن يتطابق بحال، مع ما ذهب إليه الدكتور الصليبي.
ثم في موضع آخر يجد شاهداً أركيولوجياً لا يقبل دحضاً، يتمثل في (الحجر الموآبي)، الذي عثر عليه شرقي البحر الميت، بلاد موآب القديمة، ويتحدث فيه (ميشع) الملك الموآبي عن حروبه مع إسرائيل، فيتحايل على الأمر برمته، ويقول أن النصب قد أقامه (ميشع) في تلك المنطقة التي حددتها التوراة شرقي فلسطين بعد أن هاجر من عسير بعد حروبه مع إسرائيل في عسير (؟!).
ويتمادى فيبالغ ليرى أن حملات المصريين جميعاً، على البلاد التي كان مظنوناً أنها فلسطين وبلاد الشام وجنوب تركيا، إنما كانت جميعاً على شبه الجزيرة العربية، وتحديداً ضد عسير، بما فيها حملتا (شيشانق) و (نخاو) المدونتان في التوراة وفي النصوص المصرية القديمة، كذلك حملات البابليين والآشوريين اتجهت بدورها جميعاً إلى بلاد عسير، وترك العالم الإمبراطوري بقاع الثروة والخصب، والموقع الفلسطيني الشامي الاستراتيجي العالمي، ليتصارع جميعه في بلاد عسير، ولأجل عيون قرى عسير (؟!) وهو أمر نافر تماماً ومتكلف، ناهيك عن فقده لأي مصداقية أركيولوجية أو وثائقية إضافة لمخالفته للمدونات القديمة التي تحدثت عن تلك الحملات الإمبراطورية!
نعم لا يكابر أحداً أو يجادل في أن المصريين قد اخترقوا بلاد العرب، وأنشأوا هناك مستعمرات متقدمة، لضمان السيطرة على الطريق التجاري البري الذي ينقل بضائع الهند وأفريقيا الشرقية إلى عالم الشرق الأوسط القديم، وهو أمر سبق أن قدمنا عليه قرائن في أعمالنا المنشورة (أنظر مــثلاً: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول)، لكن أن تكون دولة إسرائيل القديمة قد قامت هناك، وأن

(37) سيد محمود القمني: الأسطورة والتراث، دار مدبولي الصغير، القاهرة، 1992.
كل الصراعات الإمبراطورية قد دارت هناك من أجل تلك الدويلة والتي سيقل شأنها أكثر في حال نقلها من موقعها الاستراتجي بفلسطين، إلى جبال عسير، فهو الأمر الذي يعصب قبوله تماماً.
وما يجعل أمر عسير هنا، (عسيراً) تماماً، هو قول (الصليبي) أن الحملات المصرية جميعا لم تكن متجهة من مصر إلى حوض المتوسط الشرقي (فلسطين، سوريا، تركيا، العراق) بل دوما إلى عسير، حيث أن هناك مراجعات شاملة قد جرت للروايات القديمة بهذا الشأن، خصوصاً المدون المصري منها. وهي إن لم تقطع بأمر موقع أو آخر، فهو أمر طبيعي تماماً في دراسة القديم لكن هناك من الشواهد ما يكفي لضمان سلامة تحديد خطوط سير تلك الحملات. فإن نجد –كمثال– نصباً لرمسيس الثاني على مصب نهر (الكلب) بمواجهة البحر المتوسط، بين بيروت وجبيل، يتحدث عن حملته الأولى على بلاد الشام سنة 1297 ق.م. فإنه سيكون دلالة لا تقبل جدلاً ودليلاً شاهداً يكمل أي نقص في المعلومات المدونة حول تلك الحملة، وخط سيرها (38).
ومثله عندما تتحدث النصوص عن استيلاء (رمسيس الثاني) على بيروت وجبيل، فنحن نصدقها، بهذا الشاهد الأثري، ولا نذهب مع (صليبي) إلى فيافي الجزيرة العربية البلقع لنبحث هناك عن (لبينان)، بل نصدق تماماً أن (رمسيس الثاني) قد غطى بحملته نصف الشاطئ الشرقي للمتوسط بتلك الحملة الصغيرة، ثم لابد أن نصدق مرة أخرى، لوجود عناصر أخرى ترتبط بالحادثة، لأن الحملة كانت إنذاراً للمك الحيثي (ماتتيوالي) سنة 1306– 1282 ق.م.، ليكف عن تدخلاته في سوريا، ودواعي التصديق، هي الحرب التي خاضها (رمسيس الثاني) بعد ذلك مع الملك الحيثي ملك تركيا القديمة، في موقعة قادش على نهر العصي السوري، والتي انتهت بتوقيع اتفاق سلام من نسختين، نسخة بالمصرية ونسخة بالحيثية، وقد تم العثور على كلتا النسختين واحدة في مصر، والثانية في (بوغازكوي) العاصمة الحيثية القديمة في داخل تركيا، وهو السلام الذي لجأ إليه الملك الحيثي، سعياً وراء مصلحة التفرغ لحماية بلاده، أمام جيرانه (الآشوريين) وقوتهم المتصاعدة، في بلاد الرافدين الشمالية، وليس في قرية (أبي ثور) في بلقع عسير.


(38) من باب التبسيط نحيل إلى كتاب صغير للدكتور سامي سعيد الأحمد: الرعامسة الثلاثة الأوائل، دار الشئون الثقافية، بغداد، 1988، صـ 33.
وشواهد أثرية أخرى
وإذا كانت قرية (النهارين) في وادي مثان بالطائف، هي (نهارينا) المذكورة في مدونات مصر، للإشارة إلى دولة الميتانيين، فماذا سنفعل في تلك الحال باللوحة التذكارية التي أقامها (تحتمس) في كركميش (جرابلس الحالية على حدود تركيا الجنوبية). والتي يحكي فيها عن انتصاراته هناك، وأخذه الأسرى بأعداد غفيرة، وعن احتفال الملك في رحلة العودة بنجاحه في المعركة، وكان احتفاله بصيد الأفيال، حيث اصطاد فيلا ضخماً من مستنقعات (ني) قرب (أباميا) السورية. ولو حتى غضضنا الطرف عن اللوحة التذكارية. التي ربما نقلها شخص ما، في زمان ما، من قريةالنهارين في وادي مثان بالطائف، ليضعها في نهارينا دولة الميتاني، كما حدث للحجر الموآبي (؟!)، فماذا عسانا نفعل بالفيل الذي اصطاده الملك في مستنقعات أباميا؟ وهو أمر معتاد في سوريا القديمة، لكنه لم يكن موجوداً إطلاقاً في تلك العصور بجزيرة العرب، ولا في العصور التالية، والفيل الوحيد اليتيم الذي عرفته جزيرة العرب، جاء بعد ذلك بقرون طوال قادماً من بلاد الحبش، في حملة الفيل المشهورة على مكة.
أما مدونات بلاد الرافدين، فلم تبخل بالتدوين، ولضرب المثل فقط نجد الملك (تجلاتبليزر الأول) الآشوري، يحكي في مدوناته، أنه غزا سوريا ووصل إلى الساحل الفينيقي، وأخذ الإتاوة من المدن الفينيقية (أوراد، وجبيل، وصيدا) وقد قتل في متاني عشرة أفيال ضخمة، وبالتحديد في منطقة حاران، كما اصطاد أفراس البحر من المياه قرب أرواد (39).
وبالطبع ما كان بالإمكان حدوث ذلك في بوداي العرب عند (آل زيدان التي يقابلها بصيدا) في أراضي جيزان، وعليه لا يمكنا بالطبع التسليم بأن حملة (تحتمس الأول) لتثبيت حدود الدولة المصرية على نهر الفرات، بواسطة نصب تذكاري أقامه على الضفة اليسرى للنهر، بعد ما تجاوزه قرب كركميش (40)، لا نستطيع أبداً أن نسلم أن تلك الحملة إنما قطعت كثبان جزيرة العرب الرملية، مئات الأميال لضرب قريتي (القمر) و (قماشة)، هذا إذا غضضنا الطرف عــــن

(39) أيضاً للتبسيط لغير المتخصص، نحيل إلى كتاب طه باقر: الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين (وهو ليس وجيزاً على أية حال)، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1986، 1، صـ 492.
(40) يوسف سامي اليوسف: تاريخ فلسطين عبر العصور، دار الأهالي دمشق، 1989، صـ 40.
النصب التذكاري، أو افتراضنا انتقاله هو الآخر من القمر وقماشة إلى الضفة اليسرى لنهر الفرات.
وسيادته عندما يؤكد لنا أن مصر كانت هي (المضروم)، في مرتفعات غامد، أو (آل مصري) في الطائف، وأن مدينة (رعمسيس) التي عاشوا فيها بمصر حسب نص التوراة، إنما هي قرية (مصاص)، وأن بحر (سوف) الذي عبروه إنما كان مرتفعات (السراة) نجدنا مشدوهين تماماً، إزاء النص المصري الذي جاءنا في شكل تقرير قدمه (بينيبس) كاتب البلاط الفرعوني، لرئيس قلم الكتاب بالقصر (آمنموبي)، ويحكي فيه عن مدينة (رعمسيس)، ونقتطع منه ما يعني الموضوع هنا، في قول (بينيبس) :
–إن الكاتب بينيبس يرحب بسيده الكاتب آمنموني.
في حياة وفلاح وصحة
لقد وصلت إلى مدينة بيت رعمسيس محبوب آمون
وجدتها في غاية الازدهار ..
لديها مؤن وذخيرة كل يوم
بركها تزخر بالسمك، وبحيراتها بالطيور، حقولها يانعة بالبقل
وشواطئها محملة بالبلح
ومخازنها مفعمة بالشعير والقمح
–...........................
وشيحور تنتج الملح ..
وسفنها تروح وتجيء إلى الميناء
...........................
إن مستنقعات زوف تنبت لها البردي
وشيحور تمدها باليراع ...........
وشباب عظمية الانتصارت يلبسون حلل العيد كل يوم ....
ويقفون بجوار أبوابهم وأيديهم مثقلة بالأزهار.
وبالنبات الأخضر من بيت حتحور (41).
والمثال هنا يوضح أن مدينة (رعمسيس) ميناء، مليء بالخيرات مما يشير إلى الأراضي الخصبة، وأنها القريبة من موضعين بحريين هما (شيحور) و (زوف)، إضافة لمنطقة خصيبة باسم (بيت حتحور). والتوراة تقول لنا: إن بني إسرائيل عاشوا بمصر في مدينة باسم (رعمسيس)، وأنهم عبروا بحرا باسم (سوف / زوف)، وأنهم عبروا البحر ف منطقة باسم (بي حيروت) وهي بالنص (بيت حتحور) أما (شيحور) فهو موضع يتردد في التوراة كمكان بمدينة رعمسيس، كانوا يشربون منه هم وبهائمهم، فهل نهمل كل ذلك، ونلقيه جانباً، لنذهب إلى عسير مع صليبي؟ وهل لم يطالع أستاذ التاريخ المتخصص مثل تلك النماذج التي نضرب منها مجرد أمثلة سريعة لقارئ غير متخصص لا نريد أن نثقل عليه؟.
ولا يفوتنا، أنه في حديثه عن حملة الفرعون (شيشانق) على مملكة (سليمان)، بعد وفاة سليمان بأربع سنوات فقط، والتي حدثتنا عنها التوراة، وذكرت أن شيشانق قد هاجم أورشليم بفلسطين ونهب كنوز الهيكل، فقد وقف (الصليبي) مع نقطة هامة، وضعها ضمن رصيده لرفض أن تكون فلسطين هي محل تلك الحملة، لتأكيد أن تلك الحملة كانت على عسير، وتلك النقطة –وهي جديرة بالاعتبار حقاً– أنه بمراجعة جداول (شيشانق) الذي ذكر فيها عدد وأسماء المدن التي استولى عليها، مع الدول التي أخضعها للسلطان المصري، لم يأت على ذكر أورشليم إطلاقاً بين تلك الأسماء التي ذكرها في جداوله! لكن الدكتور صليبي وهو يمسك تلك الفجوة لينقل الحملة بكاملها إلى عسير، بيد أنه قد تغافل تماماً عن دليل حـاسم يــؤكد دخــول شيشانق أورشليم، وهــو النصب


(41) سليم حسن: أدب المصري القديم، مطبوعات كتاب اليوم، مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، ديسمبر 1990، ج 1، صـ 384 : 389. (نص الرسالة كاملاً).
التذكاري الذي عثر عليه مؤخراً بمجدوا في فلسطين، ويتحدث بوضوح عن هجوم شيشانق على أورشليم (42)، وهو يملأ ذلك الفراغ الساقط في جدوله الذي اعتمده (صليبي).
التوحيد العسير
وإذا كان أستاذ التاريخ المتخصص، قد ترك الجانب التاريخي برمته، ليتعامل مع اللغة وحدها لإثبات نظريته، فهو الأمر الغريب، أما الأغرب فهو تأكيده أن التوحيد اليهودي في العبادة، قد نشأ في ذلك العصر الموغل في القدم (حوالي 1200 ق.م. فيما يذهب إليه)، بين تلك القبائل التي قطنت عسير، وهو أمر إضافة لعسر قبوله، فإنه يخالف منطق التطور التاريخي وشروطه المجتمعية والاقتصادية والسياسية، حسبما تعلمنا في فلسفة التاريخ، وقوانين الحراك الاجتماعي عبر بقية المنظومات على سلم الارتقاء التاريخي. فنحن نقبل مثلاً ما أخبرنا به علم التاريخ عن الفرعون (آمنحتب الرابع) أو (إخناتون)، كأول داعية لفكرة توحيد الآلهة في إلة واحد، في تاريخ الفكر الديني، (وبالمناسبة فإن الصليبي يؤخر اخناتون زمنياً عن موسى)، وقبولنا للتوحيد عند (إخناتون)، ناتج قراءة لظهور ذلك الطارئ وتلك الطفرة، فقد تحولت الدولة المصرية المركزية إلى إمبراطورية كبرى تضم تحت جناحيها دول شرقي المتوسط، وغذى نموها الاقتصادي ذلك التراكم الثروى الذي تدفق من بقاع الإمبراطورية على مصر، والنضوج التجاري، مما أدى لوضوح طبقي بين المعالم، أما الإتاوات والضرائب والجزى التي تراكمت مع اتساع الإمبراطورية، فقد أدت إلى إفراز فوقي ينزع نحو سيادة إله واحد يرعى مصالح الطبقات السائدة ودولتها الإمبراطورية.
ولما كانت تلك السيادة تتمثل في شخص الفرعون وتتماهى في سيادته، فإنه سيكون مقبولاً أن تظهر في مصر فكرة إله يرعى مصالح الطبقة السائدة، ويعبر عن سيادتها، سيكون مقبولاً أيضاً انتشار ذات الفكرة التوحيدية لدى الفئات المطحونة التي تريد إلها لا يفرق في توزيع الأرزاق. ومن ثم سيكون مقبولاً بالتالي أن تتأثر جماعة (موسى) في مصر بظروف مصر، رغم أن نظامها القبلي شوه الفكرة وفصرها على توحيد آله القبيلة الإسرائيلية، بمعنى الاعتراف بآلهة الشعـوب والقبائل الأخــرى. لكن مع عدم توقير أي إله آخر سوى إله بني إسرائيل، أما أن تــقفز
(42) سامي يوسف: سبق ذكره، صـ 69.
فكرة التوحيد فجأة دون بنية تحتية تسمح بها في جزيرة العرب، في ذلك الزمن العتيق، في وسط قبلي متشرذم لا يسمح، ولا تسمح معه قوانين التاريخ التي لا شكل يعلمها الأستاذ الصليبي جيداً، بظهور ذلك التوحيد، حتى لو كان توحيداً ابتدائياً، لأنه الأمر الذي يجافي منطق العلم بالكلية.
لكن الأستاذ هنا لا يرى الوسط قبلياً متشرذماً، بل دولة قامت هناك، أقامها شاؤول وداود وسليمان، ويرى في ذلك دليله الأقوى، الذي رفض بموجبه تفسير العلماء لسجلات التاريخ التقليدية في مصر وآشور، باعتبارها تتحدث عن فلسطين، حين قال أنه لو كانت دول الإمبراطورية تتعارك في فلسطين، لدونت أسماء هؤلاء الملوك (شاول، داود، سليمان) وهو ما لم يحدث، ونتيجته الحتمية أن هؤلاء الملوك لم يتواجدوا بفلسطين، دون أن يفطن سيادته أن الحجة مردودة علية. فإذا كانت تلك الحملات الإمراطورية موجهة ضد مملكة إسرائيل اليهودية في عسير، وكان (صليبي) صادقاً في مذهبه، فإن الطبيعي أن تذكر نصوص مصر والرافدين أسماء هؤلاء الملوك الذين حكموا في عسير، وهو أيضاً ما ل يحدث، ويتعادل الموقف، ثم يرجح لصالح فلسطين.
هذا ناهيك عن كوننا لو اعتمدنا أسلوب الأستاذ الباحث في المطابقة لأسماء المواضع والأماكن والأشخاص، مع نصوص التوراة. أو حتى نصوص لدولة ما، لأمكن أن نكتشف ببعض التعسف وليّ التفاسير، أن مصر كانت في فلسطين، وأن فلسطين كانت في سيناء، وأن الدول الفينيقية كانت في شمال أفريقيا وأسبانيا، دون مشاكل كثيرة، كما يمكننا ببساطة أن نضع جزيرة العرب في صعيد مصر حيث حلت هناك القبائل العربية مع الفتح الإسلامي وأعادت التسميات، والأمر كله يعود إلى حركة الهجرات القديمة وإعادة تسمية المواضع وهو الأمر الذي أشار إليه الصليبي نفسه، وهو الأساس الذي بنى عليه عمله بالكامل، وهو الأساس الذي لا يعول عليه إطلاقاً، لبناء مثل تلك النظرية التي طرحها، والتي تتسم بغرابة وخطورة هائلة، لا تتناسب وأدوات البحث المستخدمة في سبيل إثباتها.
أما الدافع الذي نظنه كان بداية الخيط في اندفاع الصليبي، هو اسم جبل (عسير) متقاطعاً بالميتاتيز (القلب اللغوي) مع جبال (سعير) التي ذكرت التوراة ونصوص مصر أنها كانت جبال ودولة تقع ما بين خليج العقبة، وبين البحر الميت، أي على حدود سيناء الشرقية مع بادية الشام. وقد تحدثت التوراة عن (سعير / بلاد أدوم)، باعتبارها دولة مستقلة عن فلسطين، وعن دولة إسرائيل عموماً، ودخلت في حروب مع دولة إسرائيل مرات، وفي تحالفات مرات أخرى، أي أنها لم تكن ذات دولة إسرائيل، لكن الدكتور (الصليبي) عمدا إلى نقل إسرائيل الدولة، وفلسطين الأرض بكاملها إلى جبال (سعير) في دولة (آدوم)، ثم نقل جبال (سعير) إلى بلاد العرب محتسباً إياها جبال (عسير)، وأن الأمر لا يعدو قلباً لسانياً كما في (زوج / جوز) وهو المثال الذي ضربه بكتابه للتدليل على نظريته، بينما تم إلغاء دولة (آدوم) التي قامت في جبال (سعير) على حدود مصر، والتي تحدثت بشأنها نصوص مصر في إبان حديثها عن حملات مصر التأديبية للدولة المشاغبة المجاورة، كما أفاضت في الحديث عنها نصوص التوراة حتى آخر سفر فيها.
هذه لمحات سريعة موجزة مقتضبة، لم نقصد بها النقد المفصل والتوثيق الكامل، فمثل ذلك الرد الناقد يحتاج إلى كتاب قد لا يقل حجماً عن كتاب الصليبي نفسه، وهو ما يخرج الآن عن دائرة همومنا، فقط رأينا في ضوء الحماس الغريب في أوساط مثقفينا للصليبي، إن هناك واجباً علينا للتوضيح والتبيان ليس إلا، ولعل قارئنا قد لاحظ أننا لم نحاول أن نسقط على الرجل أي اتهامات سياسية، لقوله بعروبة الإسرائيليين أو تكفيرات دينية لإنكاره عبور البحر بالعصا المعجزة أو نعوت بالخيانة القومية، كما حدث في بعض صحفنا العربية الغراء، فتصوروه بنظر لمطلب جديد لإسرائيل بالعربية السعودية، وهو نقد يعبر عن خصاء ذهني ونفسي وشل في القدرات، وعدم ثقة لا بالذات ولا بالوطن، إضافة إلى أننا نرفض أي تعامل من منطق الإدانة والتكفير، فهو المنطق الآعرج الذي انتهى بنا إلى مقلب نفايات الأمم.


حتى لا نفسد تاريخنا ..قليل من العقل وبعض من الضمير *
تحت عنوان رئيسي (بلاغ إلى شيخ الأزهر والمفتي وعلماء الإسلام)، وعنوان فرعي (وزارة التعليم تفتري على أمير المؤمنين عثمان بن عفان)، نشرت صحيفة إسلاموية ما أسمته تحقيقاً تقول: إنها تكشف فيه بالوثائق افتراءات الوزارة على عثمان، وتبرئتها لليهودي (ابن سبأ) من دم عثمان! وأن الوزارة في أحد كتبها المدرسية اتهمت الخليفة باللين وتقريب أهله من بني أمية واختصاصهم برعايته، فكان أن طالبت وفود الأمصار الإسلامية عثمان تعزل ولاته، وانتهى الأمر بمقتله، وهو ما أدى إلى الفتنة والانقسام في صفوف المسلمين، ولم تنس الصحيفة الهمز من الدكتور (بهاء الدين) والغمز من قناته، وبإشارتها إلى أن تلك الافتراءات جاءت مع مجيء الوزير الحالي. ثم ترد على ما أسمته افتراءات بما رأته حقيقة ثم إغماض العين عنها، والحقيقة هي أنه "في عهد سيدنا عثمان كانت الشريعة مطبقة والحدود مقامة والإسلام الذي يوجه حياة الأمة .. وصارت الدولة الإسلامية أعظم دول العالم .. وعم الرخاء وكثر المال على عهد عثمان حتى بيعت جارية بوزنها".
إذا كانت الدولة الإسلامية قد أصبحت أعظم دولة في العالم زمن الخليفة عثمان، وأن الرجل قد طبق الحدود وأقام الشرائع وحكم بالإسلام، ففيم قتل إن؟ ثم تساؤل أكثر براءة: هل عصمت المؤسسة الإسلامية البلاد من الفتن والتمزق وقتل رأسها وخليفة رسول الله صلى الله علية وسلم؟ وع منهج التقديس المفرط، الذي يتحول بالبشر غير المعصومين إلى قدسية العصمة، لا يوجد دعاته سوى البحث عن سبب خارج إطار الأحداث الموضوعية، فما دامت الشريعة مطبقة، والحدود مقامة، والدولة في أوج قوتها، وأهل ذلك الزمان هم من الصحابة الأجلاء، فليس هناك إذن من سبب واضح، وأن ضرب تلك القوة التي شرعت أسباب الأمان والتوحيد يحتاج إلى شيء أسطوري يمتلك قدرات خرافية، يتلبس لبوساً شيطانياً، ولا بأس هنا أن يتم اختياره من اليهود المبغضين، ليصبح هو المحرك الخفي وراء الأحداث الكبرى في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية بغرض إجهاض الإسلام، وحيث تمكن ذلك الشيطان اليهودي من إقناع الصحابة بالتحريض على

* نشر في 15/3/1995 بصحيفة الأهالي، القاهرة.
(ومن صـ 105 -110 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
عثمان، ثم قتله تلك القتلة المهينة. ثم تحريضهم بعضهم على بعض، ليقتلوا بعضهم بعضاً، ويتقاذفوا التهم، ويتراموا بالكفر والفسوق، ويصبح ذلك الهلامي الغامض الشيطاني الهائل (ابن سبأ) تفسيراً سهلاً يريح نوازعنا التي تنزع إلى تنزيه الصحابة، والتي تدفعنا لتكوين رأي في الصحابة هو أحسن من رأي الصحابة في أنفسهم، ونستبعد –كدأبنا دوماً في كل نكساتنا– الأسباب الحقيقية للكوارث التي تحيق بنا، ونبحث دوماً عن مؤامرات تحاك هنا وهناك يقودها حزب الشيطان لأمة الإسلام، خير أمة أخرجت للناس.
ثم لا نسأل أنفسنا: كيف تمكن شخص متفرد من فعل كل ما حل لدولة الإسلام وهي في أوج قوتها؟ وهي تلتزم كافة الفروض والسنن مما يعني –حسب منهجهم– أنها تحت رعاية الله مباشرة وحمايته؟ وأمر (ابن سبأ) بهذا التصوريجعل الأمة هزيلة ضعيفة مترنحة، يستمع أهلها للوشايات، كلهم آذان، يسارعون إلى الفتنة مع أول همسة، وبينما (ابن سبأ) ينشر ما يخالف كل مفاهيم الإسلام، أي أنه بات معلوم الأمر مشهور الكفر، فإن الصحابة يستجيبون له من فورهم، فينقسمون شيعاً، ويقتلون بعضهم بعضا (؟!) وهو ذات المنهج الذي لا زال يمارس حتى اليوم، فلا نرى في كبواتنا أسبابها الحقيقة، ولا نعترف بهدوء بتلك الأسباب، إنما نبحث عن سبب خارجنا، وأن تلك الأسباب شياطين عظمية القدرة والشأن تبغي تخلفنا ودمارنا، غير مدركين أن انتصار الأعداء الدائم ليس إلا نتيجة لذلك التخلف أصلاً.
وعــــم الرخــــاء
يقول بلاغ الصحيفة الإسلاموية "عم الرخاء وكثر المال بشكل لم يسبق له مثيل .. وقال المؤرخ الشهير ابن سيرين: كثر المال في عهد عثمان حتى بيعت جارية بوزنها، دون أن يلتفت صاحب البلاغ أبداً إلى الظروف الاجتماعية زمن عثمان والتي أدت إلى نشوء طبقة ثرية عظمية الثراء من قريش، ومن البيت الأموي –بيت عثمان– تحديداً، وأن ذلك الثراء الذي أصابت حظوظه بعض أصحاب الحظوة والمحاسيب، هو ما قصده بالرخاء وكثرة المال، وهو الثراء الذي رافقه إسراف وصل حد السفه والتهتك، فبيعت جارية بوزنها، خاصة إذا ما وضعنا بالحسبان الوظيفة التي ستؤديها تلك الجارية (؟!) فمع كل المغازي والأموال والسبايا التي تدفقت على المدينة مع حركة الفتوح، ظل هناك نفر من الناس في حالة جشع وتهتك وصل بهم إلى المزايدة على الجارية المليحة لتباع بوزنها ذهباً، وهو الذهب الذي كان متفرقاً يوماً ما في بهيمة لفلاح مصري بسيط، وفي محصول حنطة لعراقي يعيش في الأهوار، وفي بعض الشياة لشامي يرعى في البوادي، ليجمع جميعه ويصب في كفه ميزان تقف على كفنته الأخرى جارية حسناء.
وكتب التاريخ الإسلامية والسير والأخبار ثرية بالأمثلة التوضيحية لأصحاب العقول، ومن تلك النماذج ما حدث عندما أطلق عثمان يد أخيه في الرضاع (ابن أبي سرح) في البلاد المصرية، وأرسل مما جمع في مصر إلى عثمان غنائم وأموالاً عظمية، وكان قبله عليها (عمرو بن العاص)، الذي سبق وجبى بدوره من مصر جباية مرهقة، لكن جباية (ابن أبي سرح) كانت أعظم وأكثر إرضاءً للخليفة، مما دعاه أن يأتي بعمرو بن العاص ويسأله معرضاً بأمانته: "هل تعلم يا عمرو أن تلك اللقاح قد درّتْ بعدك؟" فما كان من عمرو إلا أن أوضح ما آلت إليه أمور مصر بهذا الاستنزاف برده البليغ: "وقد هلكت فصالها!!".
فهل نعجب من كثرة المال في عاصمة الدولة وهكذا كان الحال؟ أم نعجب ممن ترك إرثاً –من الصحابة– يربو على الخمسين مليوناً، أو ممن ترك ثروته ذهباً يقطع بالفؤوس، أم نعجب وسط كل تلك الأموال من حال الرعية، خاصة في البلدان المفتوحة؟! أم من أرقاء الحال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عاصمة الدولة الثرية، حيث كان (أبو ذر الغفاري) يدور بها يندد بالأثرياء، متحدثاً بلسان الفقراء، ثم أخذ يحتج على عثمان ويندد بأعطياته الضخمة لأهله من بيت المال، وبأعطياته لمن أراد تألفه من المعارضين لسياسته، لينتهي أمره بالنفي إلى (الربذة) ليموت فيها غريباً معدماً، وأيضاً حيث كان (عمار بن ياسر) الذي أعلن احتجاجه على المنح التي يأخذها تجار مكة الطلقاء، ووقف إلى جوار أبا ذر يدافع عن قضية الفقراء، فأمر عثمان بنفيه بدوره إلى الربذة، فاعترض الإمام على، فأمر بنفيه بدوره، لولا احتجاج الصحابة على عثمان بقولهم: أكلما غضبت على رجل نفيته، ولم يتم نفي عمار. وفي موقف آخر اعترض عمار على أخذ عثمان للجواهر القادمة من الأمصار وتحليته بها لبناته ونسائه، فرد عثمان: لنأخذ حاجاتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام، فقال عمار بن ياسر: أشهد الله أن أنفي أول راغم، فرد عليه عثمان بسب قبيح قائلاً: أعلي يا ابن المتكاء تجتري؟ ثم أمر الجند بضربه حتى غاب عن الوعي، ولم يهدأ عمار بل حمل كتاباً من بعض الصحابة يلوم عثمان ويعظه، فشتمه عثمان وضربه برجليه وهما في نعل قاس، فأصاب الصحابي الجليل العجوز بالفتق.
بنوا أمية وعثمان
ولعله من العلوم أمر الصراع الذي كان يدور خفية حينا، وعلنا جهاراً أحياناً أخرى، بين أبناء العمومة من البيتين الهاشمي والأموي، قبل الإسلام وبعده، ويتولى عثمان الخلافة آثر قريشاً دون الأنصار، مما ترك في مدينته معارضة لا يستهان بها فهي مدينة الأنصار، ثم آثر الأمويين بشكل خاص، وهو الأمر الواضح بكتبنا الإخبارية، ودونه المسلمون الثقات دون انزعاج، لكنه أزعج صاحب البلاغ المذكور إزعاجاً شديداً، فهل علم صاحبنا أن عثمان قد رد عمه الحكم بن العاص وأهله للمدينة، رغم أن جميع المسلمين كانوا يعلمون أن النبي أمر بطرده منها، بعد أن كان يمشي وراء النبي يسخر منه ويقلد حركاته ويتجسس عليه في بيته، ترى ماذا يترك تصرف عثمان هذا في نفوس المسلمين؟ خاصة وهم يرونه يأوي عدو النبي ويسبغ عليه مالاً كثيراً، ثم يولي ابنه الحارث سوق المدينة ويسبغ عليه بدوره، ثم يجعل مروان بن الحكم وزيراً ومستشاراً. ثم يرونه يأوي عدواً آخر للنبي صلي الله عليه وسلم هو (ابن أبي سرح) أخى عثمان من الرضاعة أمر مصر، بينما المسلمون يقرأون قرآناً نزل بتكفير ابن أبي سرح وذمه، فكان ابن أبي سرح يقول: سأنزل مثلما أنزل الله، ولما اعتصر الرجل مصر أرسلوا وفداً لعثمان يشكون (ابن أبي سرح)، فعاقب الشاكين وضرب أحدهم فقتله، ثم يرونه يولي أخاه لأمه (الوليد بن عقبه) ولاية الكوفة، وهم يعلمون كيف غش النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كفر بعد إسلام؟ ويذهب الوليد إلى الكوفة ليصلى بالناس وهو سكران، ثم يقر معاوية بن أبي سفيان الأموي على دمشق والأردن، ثم يضم إليه ولاية فلسطين وحمص ليملك بعدها الشام جميعاً، ويوطئ لمملكة الأمويين الوراثية العضود من بعده!! هل كان الناس مع هذا كله بحاجة إلى (ابن سبأ) أم كان ابن سبأ وراء هذا كله؟ أم نعترف بهدوء ولو مرة واحدة بخطأ حساباتنا في قراءة التاريخ، أم نحن أكثر رؤية من (ابن الأشتر) الذي أرسل من الكوفة لعثمان بعد تولية الوليد ثم سعيد الأمويين يقول: "من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنه نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره .. احبس عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك والسلام".
المحرضون الحقيقيون
بعد تلك الأحداث التي تدافعت على صفحات الزمن العثماني، بكتب السير والأخبار، وما انتهت إليه من نتائج حتمية صبت الأمر كله بيد البيت الأموي المنتصر، يصر دعاة القداسة الغير المعصومين، على البحث عن أسباب خارج التاريخ، يهرولون وراء شيء اسمه (ابن سبأ) يمسكون بتلابيبه ليجعلوا منه شخصاً فريداً فذاً عبقرياً، تغلب قدراته حكمة الأمة جميعاً، وتدهم الصحابة ولم تزل آثار النبوة باقية بينهم، ليظهروا مسلوبي الإرادة والعقول، وهو الأمر يزري بتلك الأمة إن صدقناه، ويبعدنا عن بحث الأسباب الموضوعية لأحداث تاريخنا، مما يجعل ذلك المنهج في التفكير قائماً يفرش ضله السحري على حياتنا دون أن نلتفت إلى الأسباب الحقيقية لكبواتنا، ونطمئن إلى أوهامنا سادرين في السمادير ونحن نهوي إلى قاع الأمم، بينما نظرة ناقدة فاحصة لكتب الأخبار تكشف ببساطة أن رواة الأخبار المتقدمين، لا ذكر لابن سبأ عندهم، فلا تجده عند ابن سعد في طبقاته الكبرى، على كثرة ما بها من دقائق السرد وتفاصيل الأحداث والشخصيات، كما لا تجده أيضاً معلوماً من البلاذي، وهما أهم المصادر بشأن فتنه عثمان، وكان أول ما ذكره الطبري عن رواية لسيف بن عمرو (؟!) يأخذها عنه المؤرخون من بعد، ممن ذهبوا مذهب صاحب البلاغ، لإيجاد تفسير يرضى هواهم في تنزيه الصحابة وتقديسهم.
وبصدد قصة عثمان جمع أهل السير والأخبار تقريباً أهم الأسباب الموضوعية التي أدت للفتنه، والتي ذكرنا طرفا منها، وكانوا موضوعيين أكثر من أصحابنا هذه الأيام، ناهيك عن إشارتهم بالتلميح وبالتصريح أطواراً، للمحرضين الحقيقيين، ونماذج لذلك ما رأيناه فيما سبق، أضافه إلى كون عثمان قد استعدى ضده نفراً من الناس ذوي التأثير البالغ، فقد استعدى (عمرو بن العاص) عندما غمزه في ذمته وهو أحد دهاة العرب الكبار، ثم سار هو وولاته سيرة خشنة مع أهل الأمصار، وهو ما استنفرهم كما استنفر حاسة الحق والإنسان داخل الصحابة في المدينة، ومعلوم أن ثورة المصريين كانت بسبب اشتداد الولاة عليهم، مع عامل آخر، حيث نجد محرضين حقيقيين لا وهميين، مثل محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر الصديق، اللذين تركا المدينة وذهبا إلى مصر تحديداً، ليحرضوا الناس على الثورة، ثم انضم إليهما بعد ذلك عمار بن ياسر.
ثم جاءت قمة الأحداث عند جمع المصحف وإبقاء صحف وإحراق أخرى، مما أدى إلى معارضة الصحابي الجليل حبيب رسول الله (ابن مسعود)، وتنديده بما يفعل عثمان بآيات الله، حتى أمر عثمان بإخراجه من المسجد وضربه حتى كسرت أضلاعه، ثم حدد إقامته بالمدينة، حتى حصب عثمان مع الحاصبين من ثوار مصر أهل المدينة وهو على المنير.
وفي كتبنا الإخبارية لا تبدوا المدينة بمعزل عن التمرد والاحتجاج بل نجد المدينة ذاتها الصحابة أنفسهم هم أساس المعارضة المنكرين لسياسة عثمان، بل تجد صهر عثمان، (عبد الرحمن بن عوف) الذي سبق ورشح عثمان للخلافة، وقد أصبح من كبار المعارضين لعثمان، وكان يحرض على قتله، وهو أحد رجال تلك الهيئة كانوا على ذات الحال، ولهم مواقف مشابهة، فطلحة ابن عبد الله شارك بنفسه في حصار عثمان كذلك سعد بن أبي وقاص شارك في الثورة، أما الزبير بن العوام فقد اكتفى مع منح وأعطيات عثمان الجزيلة بالنصح له، أما على فكان معارضاً للخلفاء الثلاثة على سواء، وقاوم عثمان أكثر من مرة خصوصاً بشأن الأموال التي كان يأخذها من بيت المال، وسبق وعلمنا رأي أبي ذر وعمار بن ياسر.
فأين ابن سبأ من هذا؟.
ومن المفتري بالله عليكم؟.

محمد الغزالي وسقوط الأقنعة!! *
الشيخ محمد الغزالي منزعج هذه الأيام بشدة، ممن ناقشوا موضوع (الردة) بعدما افصح عنه الشيخ في محاكمة القتيل (وليس القاتل)، وبعدما ردوه عليه على المستوى الفقهي والتشريعي، خاصة وأن الشيخ كان رمز الهزيمة النكراء في المناظرة التي جرت أمام الدكتور فرج فوده، وأن الشيخ ذاته هو من جاء الآن ليحكم على ضمير رجل ميت، لإدانة القتيل وتبرئة القاتل، وما يمكن أن يلحق الموقف مما قد تهجس به النفس بين الأمرين، عن صاحب القرار الخفي وراء مقتل الدكتور فرج.
ويبدوا أن مزعجاً جديداً بدأ يقلق راحة الرجل، حتى دفعه إلى نسيان حذره وتقيته، التي أشاعت عنه حيناً شائعة الاعتدال، فخرج عن حذره ليقول في صحيفة الشعب (عدد 7 سبتمبر 93) : "إن من يناقشون حد الردة، يطلبون من علماء المسلمين فتوى تبيح الارتداد وتنسى عقوبته، لتقرير حرية الكفر والإيمان والسكر والنهب والسلب، وهم بذلك يحصيحون: افتحوا أبواب الحانات ودعونا نلتقي بالنساء كماء نشاء، وأن الآية التي يحتجون بها (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ليس لها سوى تفسير حقيقي أوحد، هو عرض الإسلام على الناس فإن قبلوه التزموا به ولا مكان بعد ذلك لحرية الاعتقاد، ومن يرى الآية تفسيراً آخر فهو كافر في دولة مؤمنة، وعليه أن يطوى نفسه على ما بها، أو ليرحل إلى مكان آخر، أما أن أصر على التصريح بما يرى، فقد أطلق صيحات كفور تقرب أجله".
ورغم قوله : أن الدولة مؤمنة، فإنه يعود إلى الغمز واللمز، بقوله: أن أصحاب هذه التصريحات عصابات قليلة تستعين بالاستبداد السياسي لتفرض ضلالها، مشيراً إلى تحالف الدولة مع هذه العصابات الكفور.
حريـــة الاعتقـــاد
والرجل إذ يقول : مطلوب من علماء الدين فتوى تبيح الارتداد وتنسى عقوبته، يغالـــط مغلطــة

* نشر في 22/9/1993 بصحيفة الأهالي، القاهرة.
(ومن صـ 85 -104في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
فاضحة، فهو يعلم يقيناً أنه ليس مطلوباً منهم ذلك على الإطلاق، أولاً: لأنه ليس في صحيح الإسلام شيء اسمه حد الردة، وثانياً: لأنه يعطي نفسه وجماعته سلطة موهومة، متصوراً أن أي أمر يمس مصير الناس يجب أن تصدر عنه فتوى من رجال الدين أولاً، وهو الأمر الذي تجاوزه الزمن، اللهم إلا إذا كان الرجل يعيش حلم سيادة مقبلة، يحتكر فيها الرأي الأوحد والتفسير الأوحد، حيث وضح في خطابه المذكور أنه ليس للآية سوى تفسير أوحد هو ما ساقه بشأنها.
وهو الأمر الذي يشير إلى ما يمكن أن يترتب على أي خلاف في التفسير (ناهيك مثلاً عن الخلاف المذهبي أو الديني)، في دولة يحكمها رجال الدين، فتهمة التكفير مشهرة، ولا مجال حتى للخلاف في الرأي أو الاجتهاد، ولنا أن نتصورحمامات الدم التي ستحدث حينذاك، لخلاف في مصالح الرجال وأهوائهم، حول تفسير آية، أو حديث يخدم تلك المصالح أو يتعارض معها.
وهكذا، فالرجل قبل أن يتملك على العباد ويحكم في الرقاب، يصدر قراراته بتكميم الأفواه أو النفي والتشريد أو القتل، كما لو كنا نعيش في العزبة التي ورثها عن آل غزالي.
الجمـــوح
والشيخ عندما برى للآية تفسيراً أوحداً، يعطي نفسه قدراً حاشا لإنسان أن يجمح به طموحه إليه، فهو بذلك إنما يعطي نفسه قدرة الإطلاع على المقصد الإلهي، بل ويفرض تفسيره على ذلك المقصد الرفيع فرضاً، فيسوق للآية تخريجاً يقول: إنها إنما تعني عرض الإسلام على الناس دون إكراه، فإن آمنوا وكونوا جماعتهم ودولتهم، التزموا بذلك العقد الإيماني.
ولوجه الحق، فإن هذا الرأي التفسيري سليم إلى حد بعيد، لكنه لا ينفي آراء أخرى وتفاسير أخرى، وليس هناك شيء اسمه التفسير الوحيد الصحيح، وكان أولى بالشيخ إن أراد صدق المقصد، أن يلجأ إلى حيثيات الناسخ والمنسوخ المرتبطة بواقعها وظرفها الموضوعي، وكيف نسخت آية السيف ما سلفها من آيات حرية الاعتقاد، وأصبح الكفر ملة واحدة، وأصبح الدين عند الله الإسلام، لكنه لم يرد أن يورط نفسه إزاء ما يزعمونه عن تمسكهم الإيماني بحرية الاعتقاد لأصحاب الديانات الأخرى في ظل دولة دينية يحكمون فيها.
هذا ناهيك عن كون ذلك التفسير للآية يسقط دعواه حول حد الردة، لأن الآية بذلك قد عرضت الإسلام على الجاهليين وغيرهم في جزيرة العرب زمن الدعوة، عرضته على أناس غير مسلمين عند تأسيس الجماعة (النواة) الأولى المؤسسة للدولة، وكان الخروج عليها حينذاك يعني فرط عقدها حيث حلت محل القبيلة، وأصبحت وطناً في وسط قبلي لا يعرف غير القبيلة وطناً، لكن مسلم اليوم، ولد مسلماً، ولم يعرض عليه الإسلام وهو راشد بالغ عاقل، ولم يدع إلى عقداً أو بيعة يقبل بشروطها أو يرفضها، ومن ثم فإن الظرف يختلف تماماً عن وضع من قبلوا الإسلام عند تكوين الجماعة الأولى، ويبقى سؤال لا يحتاج إلى إجابة: هل يطبق على مسلم اليوم إن أراد اتخاذ موقف جديد بإرادته الحرة حد الارتداد، الذي هو غير مقرر أصلاً؟ وهل نستحق أن نكون بشراً حقاً، عندما نهلل لمسيحي يخرج عن دينه ليدخل الإسلام، ونقتل مسلماً ليس لأنه خرج إلى دين آخر، بل فقط لأنه أراد أن ينتمي إلى بني الإنسان، فقرر لنفسه حرية الإرادة والتفكير، وناقش أمراً من أمور دينه ليطمئن إلى طوية فؤاده، أو لأنه ناهض أمراً يراه ضد مصلحة البلاد والعباد.
التهديد بالقتل
وإن يؤكد الهواجس ويدعمها، أن الرجل ساق حديثه هذه المرة في هيئة من يملك سلطاناً أو يتوقعه، بشكل يشبه بيانات المسئولين وتصريحاتهم، فهو يصدر الأوامر، وتحدث عن سيطرة الإسلام وسيطرة الدولة، ثم يلقي بما لم يكن متوقعاً، فيهدد المخالفين، (المؤمنين بأن الإسلام قرر حرية الاعتقاد)، بالقتل إن لم يصمتوا، لكنه في هذه الفقرة الأخيرة القاتلة تحديداً، تحول خطابه عن الجماعة إلى المفرد، كما لو كان يعني شخصاً بعينة وبالذات، يعلمه ويوجه له رسالته الموجزة: أصمت أو أرحل، أو تقتل، ويبدوا أن هذا الشخص ممن تصعب مناقشتهم واتهامهم بشيء من سيل الاتهامات المعتادة، والرجل بذلك يتصور أن بمقدوره أن يخيف، غير مدرك أن الموت دفاعاً عن قضية شريفة هو الخلود الحق، وأن من عرض نفسه على أمانة الكلمة ومصير الناس في هذا الوطن لا يخشى تهديدات الشيخ ولا قنابل صبيته، وأن كانت ثقة الرجل وهو يلقي بهذا الكلام الفلوت تعكس تخطيطاً بعينه يوقن بسلامة برمجته حتى النهاية، فمرحباً بموت يرحل بنا عن عالم أقنان تحت عرض عمائم وسيوف مشرعة، فموت صاحب المبدأ بشرف، يختلف تماماً عن موت جهول يطمع في الخمور والحور، فلسنا نحن أيها الشيخ من يطلب الحانات والنساء (؟!) فقط لتتذكر أن من قتل لا فوازيه لا يعرف أحد اسمه وبقى ذكر لافوازيه خالداً، ولتذكر أن من ذبح الحلاج ذهب إلى سلة مهملات التاريخ وبقى ذكر الحلاج، ونحن نؤمن تماماً أن ما نطمع إليه من حياة أفضل للأجيال المقبلة، لن يكون دون تضحيات نحن أهل لها، ولو كانت بقرارات قاتلة أنتم أهل لها.

يا أبا العزائم نظرة! *
بعد عملنا الذي نشرناه بمصر الفتاة (الرد على الاضاليل في تنظيرة بني إسرائيل) والذي تم نشره على مدى عشرة أسابيع متصلة، كان مفترضا ومتوقعا أن تتم مهاجمتنا بشكل ما، وكان من الفطنة أن نترقب حملة قريبة علينا، ربما تأخذ أبعادا تتسم بالخطورة، وأن نتهيأ لما سيحدث، وبالفعل بدأت البوادر ولكن بسرعة وسفور مدهشين!! متمثلة في هجمة شرسة شنتها علينا مجلة تدعي الإسلام وطن (عدد 52). وعلى واحد من أعمالنا، هو كتاب (الحزب الهاشمي) بحيث لبس الهجوم زيا مألوفا ومعتادا في تأليب الجماهير وخداعها ضد مصالحها العالمية يجد تبريره في ذلك التزامن الغريب وفي طبيعة الجهة المهاجمة ومناهجها وهو الأمر الذي كان لابد يحمل ذلك المغزي الذي لا يخفى على لبيب.
ويزداد ذلك الترابط تبريرا إذا ما نظرنا إلى ذكاء الاختيار، وترتيب الأدوار، وطبيعة الخطاب الموجه ضدنا، واستفزازه للمشاعر الدينية، بأسلوب معلوم، استخدام ضد من سبقونا من باحثين مثلنا، كانوا يؤدون المقدمات لما نؤديه نحن الآن، وقد أدى ذلك الدور أحد كتاب المجلة المذكورة أعلاه، وهو أيضا أحد أصحابها ونائب رئيس مجلس إدارتها الذي هو وشقيقه. فهو سماحة صاحب الفضيلة القطب الصوفي العزمي حفيد الإمام المجدد وابن الخليفة الأول، وشقيق الخليفة القائم لمشيخة الطريقة العزمية الشيخ السيد اللواءء عصام الدين ماضي أبو العزائم، وهو فيما تزعم المجلة المذكورة سليل الحسن والحسين أي أنه من آل البيت أي أنه هاشمي في حساب الأنساب. ومن هنا حشد الشيخ اللواء ما ينوء به من ألقاب ضدنا ليتناول كتاب (الحزب الهاشمي) وصاحبه بالقذف والتشهير والسب والتفكير، لكن كل ذلك في رأينا ... رغم تجاوزه لآداب الخطاب وقواعد اللياقة لم يشكل سوى زوبعة كلامية لم تغنها تجاوزاتها وأغراضها عن أن تكون كالعهن المنفوش (؟!) بحيث كشفت عن سوء فهم متعمد، وأسقاط لسوء الغرض على نوايانا وما تخفي صدورنا، وهو الأمر الذي يكشف عنه وضع السيد اللواء الطبقي وانتماؤه الوظيفي، وظرفه السيادي، ومنظومته التي يحتل فيها مكانا ومكانة. وعليه فإن كل ما قدمه السيد اللواء ليس

* نشر بالعدد 38 في 12/8/1991 بصحيفة مصر الفتاة، القاهرة.
(من صـ 115 -121 في الكتاب الأصلي"رب الزمان ودراسات أخرى"، طبعة مدبولي الصغير،1996)
فيه رد موضوعي واحد يستحق المناقشة، بقدر ما هو لون من التحريض الواضح، لذلك رأيناها من جانبنا استفزازا وتهجما نعلم خلفياته، ومن هنا فقط وليس من قيمة الموضوع – يأتي اهتمامنا بالإستجابه له حتى يكون هناك تقييم دقيق للقدرات، وممكنات الطرفين في تلك المعمعة التي توشك على البدء والله المستعان.
منهج الخطاب
وقد اتبع الشيخ اللواء منهجا معتادا، ليس له غرض، سوى هزيمة الخصم بأي أسلوب ممكن، حتى لو كان تزييفا متعمدا على القارئ لتحقيق الغرض الأساسي وهو التحريض! ومن هنا قام السيد اللواء يقتطع من كلامنا على هواه،وينتزع عبارات كتابنا من سياقها على نمط (لا تقربوا الصلاة) بحيث شوه ما كتبنا، وقال غير ما قلناه، غير مدرك إلى أي منزلق ذهب، لكنه لم ينس تخويفنا، فوضع في صدر لعناته وسبابه صورة لسيادته بزي الشرطة الرسمي، تعمد فيها أن يلقي بكتفه الأيمن أمام عدسة المصور، ليظهر ما يحمله كاهله من أثقال ولبيان صورة النسر والسيفين لكل ذي عينين.
وهكذا يعلم القارئ من الصورة البهية، والألقاب السنية، أننا أمام مهاجم ذي شأن، يجمع بين قدرات العارفين الواصلين، وسلطان أهل السلاطين، إضافة إلى ما أبانه من إحاطة بالقول المأثور، والدر المكنون مثل أقوال (برنارد شو) و(كارلايل) والمؤرخ (ديورانت)، ومدائح السيد (ويلز) ومواجيد المستر (هارت)، فأبان عن علم وواضح بالأقوال الابتدائية التي كنا نحفظها من كتاب المطالعة الرشيدة، ليكسب بها ثقة من لا يفقهون القول فيتبعون اسوأه، وأول ما يسترعي العجب في هجوم السيد اللواء، أنه لم يصنع لموضوعه عنوانا، إنما صدره بلافته عريضة، تحمل الآية الكريمة: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا" وهكذا بدأ الرجل موضوعه بأحسن الكلام، لكن اختياره للآية وانتقاءه لها مع ربطها بما نسبه إلينا يكشف أنه بدأ بالغمز الصريح واللمز الواضح (ويل لكل همزة لمزة)، مستغلا كلام الحق تعالي في غير موضعه، موظفا كلمات القرآن الكريم لغرض السب والقذف! وبحيث تحول ضابط الأمن من الحفاظ على أمن المواطن والذي يتقاضى عليه راتبه ضرائب من جيوبنا، إلى محرض لشذاذ الآفاق، من تتر هذا الزمان الردئ ليستأصلوا شأفتنا وشأفة ولدنا من أطفال أبرياء، بعد أن ألصق بنا تهمة الكفر والضلال.
فلا تطالع أول كماته إلا وتجده يقول عن كتابنا: إن به آراء وأفكار ضد الإسلام ونبي الإسلام وضربات خفية وظاهرة للإسلام وكعبة الإسلام!! وأننا فعلنا ذلك بوضع السم في العسل؛ وهكذا ورض ذو السيفين نفسه بإصداره الأحكام، بزعمه القدرة على قراءة النوايا بغير بيان، لذلك بات من حقه علينا لوجه الأمانة أن نعلمه بحقيقة موقفه معنا، بقولنا يا ذا السيفين لقد تجاوزت حدود وظيفتك، بل وعكست الأدوار ووظفت قلمك بتسرعك غير المحمود، فأصبحت أهلا لما يمكن أن نقول.
ونتابع مع السيد اللواء القطب الصوفي مسيرته التكفيرية في تكفيرنا دون بيان، سوى فراءة النوايا ربما في المندل أو في الفنجان .... فيقول باجتراء غريب أننا لا نؤمن بالرسالة التي أرسلها الله دون أن يشق بأحد سيفيه عن قلبنا أو يقرأ ما فيه؛ بل ويذهب إلى حد الزعم أن كلامنا في الحزب الهاشمي لم ينطق به كافر يعادي الإسلام!! بل ونقف الآن مع أخطر انتقاءات السيد اللواء المختلة؛ حيث يقول "جاء في كتاب الحزب الهاشمي أن عبد المطلب بن هاشم كان من ذوي النظر الثاقب، والفكر المنهجي المخطط، استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة، وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة، هي إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة، تكون نواتها ومركزها مكة تحديداً، رغم واقع الجزيرة المتشرذم أنذاك، ويؤيد ذلك بقول عبد المطلب إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء، وهو يشير إلى أبنائه وحفدته، (ويقصد الكاتب؟!) أن عبد المطلب كان يسعى لإنشاء دولة هاشمية يكون هو ملكها ومن بعده أولاده". وصل إلى حد اتهامنا بالطعن في الرسالة والقرآن، وأننا قمنا نضرب آيات الكتاب الكريم بعضها ببعض.
ثم ينهال علينا سماحة الشيخ الذي لا يتسم بسماحة القول سبابا قائلا: "فإن لم يكن هناك رد لمن يسب الإسلام، فيكفينا رد غير المسلمين عليه وخاصة كارلايل"، وقد أتى بهذا الرد في نماذج منها "البُلّه، المجانين، السفهاء، نتاج جبل الكفر والجحود والإلحاد، دليل خبث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح) إلى آخر قائمة ما في جعبة القطب العزمي من بديع الألفاظ منسوبة إلى (كارلايل).
اللواء يلوي الكلام
ولأن انتقاءات الشيخ اللواء لكلامنا، حتى وهي مقطوعة من سياقها، لم يكن فيها ما يدين أو يشين، فقد كان يردف بعد كل مقطع تعليقاً من عنده يقول فيه (ويقصد الكاتب كذا وكذا، ويعني الكاتب كذا وكذا، وكأن الكاتب يريد كذا وكذا الخ) فيدس أنفه في عملنا، ويملي على القارئ البرئ الموقف المطلوب منا ويحمل نوايانا ما لا تحتمل من نواياه، ونموذج لذلك أمثلة منها: "ويقصد الكاتب أن عبد المطلب كان يسعى إنشاء دولة هاشمية يكون هو ملكها ومن بعده أولاده – ص 20 – وكأنه يقول أن الكعبة المشرفة هي من صنع العرب لأنها صنعت كعبات أخرى كثيرة – ص 21، وكأنه يريد أن يضرب الآيات بعضها ببعض ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله – ص23، ويعني الكاتب بقوله أن النبي – صلى الله عليه وسلم قد توعد القوم بالذبح، ونفذ هذه الرغبة في غزوة بدر الكبرى – ص 23".
ونقول للسيد اللواء، نعم لقد قلنا بالفعل ما نصه "عندما غمز أشراف قريش من قناة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو ويطوف بالكعبة، ألتفت إليهم هاتفاً: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح"، وكان طبيعيا عندما يقسم نبي أن يبر بقسمه، لذلك عقبنا بالقول: "وقد بر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقسمه في بدر الكبرى"، لكن القطب الصوفي يرفض ذلك الخبر برمته كما لو كنا قد افتريناه، أو ليجعل القارئ يعتقد ذلك، بينما الخبر متواتر في كتب السير والأخبار الإسلامية، فإذا كان في الأمر ملامة فهي على السيد اللواء لأنه لا يقرأ، وإذا كان مصرا فليتوجه بمعركته إلى التاريخ الإسلامي ولا نظنه بفارس لهذا الميدان.
ونعم قلنا أنه كان للعرب في زمان بعيد، عدد من بيوت الآلهة التي كانت تبني على هيئة المكعب، لذلك سميت كعبات وذكرنا منها بيت اللات وكعبة نجران، وكعبة شداد الأيادي، وكعبة غطفان، والكعبة اليمانية، وكعبة ذي الشرى وكعبة ذي غابة، وأرفقنا مصادرنا في الهوامش (الإكليل الهمداني، وتاج العروس للزبيدي، وأصنام ابن الكلبي، والمفصل لجواد على)، ومع كل معلومات النشر وأرقام الصفحات، فلم نفتر شيئا من عندنا، ثم ماذا في الأمر من مزعجات يريد بها فتنة القارئ؟ إنه يسرب للقارئ قوله: "إن الكاتب يقصد أن كعبة مكة بدورها من صنع العرب"، نعم إنها من صنع العرب، فقد تهدمت وبنيت عدة مرات، وكل مرة كانت تبنى من طين الأرض وحصبائها وخشبها، وكان بناتهم هم العرب أيها القارئ الكريم، ولاشك أن ذلك أمر معلوم والغرض عند السيد اللواء – مما يقول – أيضاً مفهوم.
وفي أقوال الشيخ اللواء متفرقات أخرى، مثل قوله: إننا تجرأنا في تفسير القرآن، كما في تفسير الزنيم بأنه أبن الزانية في الآية الكريمة "هماز مشاء بنميم، عتل بعد ذلك زنيم" والمضحك المبكي في أمر اللواء وهو يلوي الكلام ليحرض علينا، نفيه لذلك المعنى، وإتيانه بالمعاني التي يراها صادقة ومنها "الزنيم هو الذي لا أصل معروف له، وقيل هو والدعي الملحق بقوم وليس منهم" وهكذا يتوهم سيادته في القارئ عدم الفطنة، غير مدرك أن القارئ سيلمس بوضوح أن حضرة اللواء لم يأت بجديد، ومعلوم أن مكة قبل الإسلام كانت تغص بصاحبات الرايات الحمر (الزانيات بالأجر) لذلك كان طبيعياً أن يكثر أبناء الزنى والأدعياء ... وفي حادثة نسب لعمرو بن العاص إشارة واضحة لكيفية حل مثل تلك الإشكاليات في الجاهلية، فهل كان السيد اللواء يعلم، أم كان يلوي الكلام، أم هو بحاجة لأن يعلم؟ على أية حال كلنا دائما بحاجة لأن نعلم ونتعلم، فقط يجب أن يتسم بنزاهة الغرض وعلمية المقصد.
ويأتي الشيخ اللواء بقولنا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – "قام يؤلب العبيد على أسيادهم بندائه اتبعوني أجعلكم أنسابا"، ويحتج على قصرنا ذلك النداء على العبيد، ويزعم أنه كان موجها للعرب كافه، وأننا بذلك لا نعلم من التاريخ الإسلامي شيئا! لذلك، وفي حدود علمنا الضعيف نفهم أن ذلك النداء لو كان شاملا للعرب جميعا، لكان معنى ذلك أن جميعهم كانوا بلا نسب، حيث كان النسب له أهميته القصوى في البيئة القبلية، حيث لا شرطة، ولا أولوية لحفظ الأمن، فقط كانت قوة النسب هي الضامن القبلي لحماية الفرد، وحيث لا حماية لمن لا نسب له، وعليه لا يصح توجيه بالنداء (اتبعوني أجعلكم أنسابا) إلا لفاقد النسب، لذلك منح النبي – صلى الله عليه وسلم – نسبه لعبده زيد بن حارثة بعد أن أعتقه، وهو والمثال الذي ضربناه ولم يعجب السيد اللواء.
الظـروف الاجتماعية
ثم يستمر الشيخ اللواء متقبسا من كتابنا قراءة تاريخية، يوهم القارئ أنه على علم مسبق بها، فيقول: "وإذا رجعنا إلى تاريخ العرب، نجدها لا تقبل النظام الملكي وسيطرة الملك على القبائل العربية، لأن ذلك يجعل لعشيرة الملك سيادة على بقية العشائر، وهو ما تأباه أنفة الكبرياء القبلي وتنفر منه، وقد ذكر الكاتب هذا المعنى في ص10 من كتابه، فإذا كانت هذه صفات العرب، فكيف يحلم عبد المطلب بتأسيس دولة هو ملك لها؟".
ومرة أخرى نقول: نعم ولا نتراجع قيد أنملة عما قلنا، فالكملة أمانة، لكن اللواء رفيع المقامات نزع ما قلناه من سياقه، وأعاد ترتيب الفقرات بحيث تؤدي التأثير المطلوب لتحقيق التحريض وما يليه، لكن ذلك لا يعني أننا لم نقل بل وأيم الحق قلنا غير هيابين. فلم نقدم فرية مفتراة، ولا أضعنا العمر ندرس المنهج العملي، ونطبق أصوله في بحوثنا، لننسحب مع مثل ذلك تلك الزمجرات الأولية، وهنا نجدنا مضطرين إلى أعطاء ذي السيفين درسا في معنى قراءة الواقع قراءة علمية، والتي طبقناها على جزيرة العرب قبل الإسلام، والتي كانت هدف كتابنا وغرضه، وهو رأيناه بحاجة إليه، فأردنا به كسب الثواب.
ومن هنا نقول: إن كتابنا كتاب في التاريخ الاجتماعي وليس كتابا في الدين ولا أي من علومه، وضع بغرض قراءة وفرز أحداث المرحلة القبل إسلامية، وقد تعمد القطب العزمي عدم الإشارة لتلك القراءة الاجتماعية بالمرة، رغم أنها العماد الأساسي للكتاب. تلك القراءة التي تكشف أنه لم يكن عبد المطلب وحده هو الذي أدرك تهيؤ الواقع لقبول الحدة السياسية بل أدركه آخرون، وسعوا إلى تحقيقه، مثل أمية بن عبد الله الذي أراد لنفسه النبوة والملك، ومثل عبد الله بن أبي سلول، الذي كاد يلبس التاج الملوكي لولا مجيء الدعوة، ومثل زهير الجنابي وغيرهم كثير، لم تعننا أشخاصهم قدر ما عنانا الأدوار الهامة المؤثرة، أثناء تقديمنا لقراءة الواقع الذي أفرز توجهاتهم.
وهكذا فقد كانت مهمة الكتاب هي الكشف عن أوضاع الجزيرة، الاجتماعية والاقتصادية وبخاصة مكة، وبهذا الكشف علمنا أن تلك الأوضاع، قد دخلت مرحلة متسارعة من التغيرات الكيفية الناتجة عن تغييرات عديدة متراكمة، ومرتبطة بظروف أدت إليها، مما هيأ مكة للتحول من كونها مجرد استراحة ومنتدى وثني دنيوي على الطريق التجاري، للقيام بدور تاريخي حتمته مجموعه من الظروف التطورية في الواقع العربي والعالمي، وكان ذلك الدور هو توحيد عرب الجزيرة، في وحدة سياسية مركزية كبرى.
ومعلوم أن ذلك التطور ترافق معه صراع أولاد وأحفاد (قصي بن كلاب) على ألوية التشريف والسيادة في مكة، مما انتهى إلى انقسامهم إلى حزبين كبيرين متصارعين هما (الحزب الأموي) نسبة لأمية بن عبد شمس، و(الحزب الهاشمي) نسبة لهاشم بن عبد مناف، بينما كانت الساحة تتهيأ لفرز فكرة الوحدة، عبر سريان العقيدة الحنفية وانتشارها، بحيث ساهمت في تحطيم العصبية القبلية لسلف كل قبيلة، وأعادت صهر الجميع بإعادتهم معا لسلف واحد مشترك هو إسماعيل بن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – كما ساهمت في القضاء على التشرذم القبلي، الذي كان يتأسس على تعصب كل قبيلة لنسبها وسلفها الذي هو ربها دون أرباب القبائل الأخرى. وذلك بالعودة إلى إله واحد هو سيد الجميع ومن هنا تهيأت الجزيرة لقبول فكرة الوحدة السياسية، عندما تهيأت لقبول فكرة السلف المشترك والإله الواحد، ومن هنا يكون توحيد الأرباب في إله واحد قد جاء عند الرواد الحنفيين كناتج طبيعي لهدير الواقع بذات السبيل، لكنه يسبق الواقع، لأن الفكرة تسبق الحدوث والتحقيق. وعليه فقد كان قبول الأرباب القبلية الانضواء تحت سيادة إله واحد، مقدمة نظرية، تترك الباب مفتوحا للقبيلة التي يمكنها تحقيق الأمل، كما كان يعني التوطئة المنطقية لقبول ما حدث في عالم السماء (عالم الفكرة) ليحدث في عالم الأرض (عالم الواقع) وقد حتمت الظروف وتضافرت الأحداث بحيث صبت الأقدار في يد قريش، وفي البيت الهاشمي الذي أخذ على عاتقه تحقيق هذه الأمر العظيم، والذي ترافق وتزامن مع تواصل الأرض والسماء وتطابق الفكرة مع حاجة الواقع وضرورته، ومع هبوط الوحي الذي تهيأت له الأسباب فمهدت له أرض الواقع، بحكمة لا تخضع لمؤامرات في التاريخ، ولا لرغبة قبيلة، ولا لإرادة عبد المطلب أو غيره من أفراد، إنما تضافرت له الأسباب التي تراكمت عبر فترة زمنية حتى نضجت لفرز واستقبال الإسلام تحديدا. فهل شرحنا وأوفينا؟ ويا أبا العزائم لا بأس إن شددت من عزائمك بمزيد من المثابرة على الإطلاع والتحصيل، ففيهما فضل آخر إضافة لفضل الأذكار والمواجيد، ويا أبا العزائم نظرة، ولكن في الكتب!!

No comments: